عناصر الموضوع

مفهوم الخشوع

الخشوع في الاستعمال القرآني

الألفاظ ذات الصلة

أسباب الخشوع

مواطن الخشوع

خشوع الجوارح

خشوع الكائنات

صفات الخاشعين

آثار الخشوع وثواب الخاشعين

الخشوع

مفهوم الخشوع

أولًا: المعنى اللغوي:

خشع: الخاء والشين والعين أصلٌ واحدٌ، يدل على التّطامن، يقال: خشع إذا تطامن وطأطأ رأسه، ويخشع خشوعًا، والخاشع: المستكين والراكع1.

وفي لسان العرب: خشع يخشع خشوعًا، واختشع وتخشّع: رمى ببصره نحو الأرض، وغضّه، وخفض صوته، وقيل: الخشوع قريب من الخضوع، إلا أن الخضوع في البدن. والخشوع: في البدن، والصوت، والبصر، كقوله تعالى:( ) [طه:١٠٨] أي: سكنت، وكل ساكن خاضع خاشع2.

وعند الراغب الأصفهاني: الخشوع الضراعة، وأكثر ما يستعمل الخشوع فيما يوجد على الجوارح، والضراعة أكثر ما تستعمل فيما يوجد في القلب 3.

وابن القيم رحمه الله حينما يعرف الخشوع في اللغة يجمع بين هذه الأقوال في إيجاز فيقول مستشهدًا على كلامه بآيات القرآن الكريم: الخشوع في أصل اللغة: الانخفاض، والذّل، والسكون، قال اللّه تعالى: ( ) [طه:١٠٨] أي: سكنت، وذلّت، وخضعت، ومنه وصف الأرض بالخشوع، وهو يبسها، وانخفاضها، وعدم ارتفاعها بالري والنبات، قال اللّه تعالى:( ) [فصلت:٣٩]4.

إذن فالخشوع في اللغة يدور حول غض البصر وخفض الصوت، والضراعة والسهولة واللين، والخضوع والانخفاض والذل والسكون.

ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:

ذكر العلماء للخشوع في الاصطلاح أكثر من تعريف، وهي متقاربة تدور حول خشوع القلب وخضوعه بين يدي الله عز وجل

قال الجرجاني: وفي اصطلاح أهل الحقيقة: الانقياد للحق، وقيل: هو الخوف الدائم في القلب 5.

وقيل هو: قيام القلب بين يدي الرب بالخضوع والذّلّ، وقيل: الخشوع تذلّل القلوب لعلاّم الغيوب6.

وقال ابن رجب الحنبلي: وأصل الخشوع: هو لين القلب ورقته، وسكونه، وخضوعه، وانكساره، وحرقته، فإذا خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح، والأعضاء؛ لأنها تابعة له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وإنّ في الجسد مضغةً، إذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه، ألا وهي القلب)78.

وقال السعدي: وأما الخشوع، فهو حضور القلب وقت تلبّسه بطاعة الله، وسكون ظاهره وباطنه.9.

ولعل أشمل التعاريف ما ذكره ابن حجر بأنه: معنى يقوم بالنفس يظهر عنه سكون في الأطراف يلائم مقصود العبادة10.

وقريب منه قول صاحب التفسير الوسيط إنه: خشية في القلب من الله تعالى تظهر آثارها على الجوارح فتجعلها ساكنة مستشعرة أنها واقفة بين يدي الله سبحانه. 11

ويلاحظ أن كلا المعنين: اللغوي والاصطلاحي يدوران حول الذل والانكسار، إلا أن المعنى الاصطلاحي خص بالذل والانكسار لله.

الخشوع في الاستعمال القرآني

وردت مادة (خشع) في القرآن الكريم (١٨) مرة12.

والصيغ التي جاءت هي:

الصيغة

عدد المرات

المثال

الفعل الماضي

١

( ) [طه:١٠٨]

الفعل المضارع

١

( ) [الحديد:١٦]

المصدر

٢

( ) [الإسراء:١٠٩]

اسم الفاعل

١٤

( ) [الحشر:٢١]

وجاء الخشوع في القرآن على أربعة أوجه 13:

أحدها: التواضع، ومنه قوله تعالى: ( ) [البقرة:٤٥]، يعني: المتواضعين.

الثاني: سكون الجوارح، ومنه قوله تعالى: ( ) [المؤمنون:٢].

الثالث: الخوف، ومنه قوله تعالى:( ) [الأنبياء:٩٠]، يعني:خائفين.

الرابع: الذل، ومنه قوله تعالى: ( ) [الغاشية:٢]، يعني:ذليلة.

الألفاظ ذات الصلة

الخضوع:

الخضوع لغة:

الانقياد والمطاوعة14.

الخضوع اصطلاحًا:

إظهار الانقياد والطاعة لذي سلطان.

الصلة بين الخضوع والخشوع:

قيل: هما بمعنى واحد، وقال ابن عاشور: والخشوع مثل الخضوع، إلاّ أن الخضوع لا يسند إلاّ إلى البدن فيقال: خضع فلان، ولا يقال: خضع بصره إلا على وجه الاستعارة، كما في قوله تعالى: ( ) [الأحزاب:٣٢].

وأما الخشوع فيسند إلى البدن؛ كقوله تعالى:( ) في آخر سورة آل عمران، ويسند إلى بعض أعضاء البدن؛ كقوله تعالى:( ) في سورة القمر، وقوله:( ) في سورة طه15.

وعلى هذا فالخضوع يحمل معنى الانقياد، والضعف، واللين، والتذلل، وظهور ذلك على الجوارح.

التضرع:

التضرع لغة:

أصل مادة (ض ر ع) اللّين والضعف، يقال: رجلٌ ضرعٌ أي ضعيف، وغلام ضارع: ضعيف نحيف، والتضرّع: التذلّل16.

التضرع اصطلاحًا:

يعني: التذلّل في وقت الشدّة والخوف، وظهور أثر ذلك في الصوت.

الصلة بين التضرع والخشوع:

وربما كان التضرع هو أساس الخشوع؛ لأنه هو التذلل الذي يوجد في القلب، والخشوع أثر هذا التذلل الذي يظهر على الجوارح.

ويفرق الراغب بين الخشوع والتضرع فيقول: وأكثر ما يستعمل -أي: الخشوع- فيما يوجد على الجوارح، والضراعة أكثر ما تستعمل فيما يوجد في القلب، ولذلك قيل فيما روي: إذا ضرع القلب خشعت الجوارح17.

فالخشوع يلتقي مع التضرع في أن كلًّا منهما يحمل معنى اللين والضعف والتذلل، كذلك يلتقيان في أن كلًّا منهما يوجد في القلب فيحدث التأثر على الجوارح.

الوجل:

الوجل لغة:

«الوجل خلاف الطّمأنينة، وجل الرجل يوجل وجلًا، إذا قلق ولم يطمئن»18.

الوجل اصطلاحًا:

«الوجل استشعار الخوف عن خاطر غير ظاهر وليس له أمارة»19، كذلك نجده في كتاب الله تعالى يستعمل في سياق أخص من الخوف، وهو حالة نفسية تعرض للنفس عند بداية شيء ما20.

الصلة بين الوجل والخشوع:

قال السعدي رحمه الله: «الخوف، والخشية، والخضوع، والإخبات، والوجل معانيها متقاربة، فالخوف يمنع العبد من محارم الله، وتشاركه الخشية في ذلك، وتزيد أن خوفه مقرون بمعرفة الله، وأما الخضوع، والإخبات، والوجل، فإنها تنشأ عن الخوف، والخشية، فيخضع العبد لله، ويخبت إلى ربه منيبًا إليه بقلبه، ويحدث له الوجل»21.

أسباب الخشوع

الخشوع الذي هو الخوف والخضوع والتذلل، الذي يظهر على الجوارح لا يتأتى من فراغ، وإنما يكون منشؤه عدة أسباب أشار إليها القرآن الكريم خلال الحديث عن ذلك، وهذه الأسباب هي: الخوف من الله عز وجل، وسماع مواعظ القرآن وتدبرها، وذل العذاب لأهل النار يوم القيامة، وهذا يدعونا لأن نفصل الحديث عن هذه الأسباب فننظمها في النقاط الآتية:

أولًا: الخوف من الله تعالى:

أول أسباب الخشوع هو الخوف من الله عز وجل، والخوف من الله لا يتوفر إلا لمن عرف ربه عز وجل بأسمائه وصفاته، حينها يتولد في النفس استحضار عظمة الله ودوام مراقبته ومعيته، واستحضار عظمة الخالق يثمر في القلب طاعة الله وتوقيره والذل والانكسار له في كل اللحظات، ويعلم المؤمن الحياء من الله لإيقانه بوجوده ومعيته وقربه وسمعه وبصره.

قال تعالى: ( ﭲﭳ ) [الحديد:٤].

ومن يتعود مراقبة الله في كل أقواله وأفعاله يوفقه الله إلى خشيته وخشوعه والخوف منه دائمًا أبدًا، حتى يصل في عبادته إلى درجة الإحسان، الذي قال عنه رسولنا صلى الله عليه وسلم: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، كما في حديث جبريل22.

وفي الصفحات السابقة نقلنا ما ذكره السعدي في العلاقة بين الخوف، والخشية، والخشوع، وقال: إن معانيها متقاربة، فالخوف يمنع العبد من محارم الله، وتشاركه الخشية في ذلك، وتزيد أن خوفه مقرون بمعرفة الله.

وأما الخشوع: فهو حضور القلب وقت تلبّسه بطاعة الله، وسكون ظاهره وباطنه، فهذا خشوع خاص، وأما الخشوع الدائم الذي هو وصف خوّاص المؤمنين، فينشأ من كمال معرفة العبد ربه، ومراقبته، فيستولي ذلك على القلب.

وقد وصف الله سبحانه من آمن من أحبار أهل الكتاب بالخشوع في موضعين من القرآن الكريم، وفي موضع ثالث يحض أهل الكتاب على الخشوع مبينًا لهم مزية ذلك، والخشوع في المواضع الثلاثة سببه الخوف من الله عز وجل

الموضع الأول الذي يحض فيه أهل الكتاب على الخشوع في سورة البقرة ورد في قول الله تعالى: ( ﯓﯔ ) [البقرة:٤٥-٤٦].

قال ابن عاشور: والمراد بالخاشع هنا: الذي ذلل نفسه وكسر سورتها، وعودها أن تطمئن إلى أمر الله، وتطلب حسن العواقب، وأن لا تغتر بما تزينه الشهوة الحاضرة؛ فهذا الذي كانت تلك صفته قد استعدت نفسه لقبول الخير، وكأن المراد بالخاشعين هنا: الخائفون الناظرون في العواقب، فتخف عليهم الاستعانة بالصبر والصلاة.

ثم يقول وقد وصف تعالى الخاشعين بأنهم ( ) وهي صلة لها مزيد اتصال بمعنى الخشوع ففيها معنى التفسير للخاشعين، ومعنى بيان منشأ خشوعهم، فدل على أن المراد من الظن هنا الاعتقاد الجازم، وإطلاق الظن في كلام العرب على معنى اليقين كثير جدًّا، والملاقاة مفاعلة من لقي، واللقاء الحضور، والمراد هنا: الحضور بين يدي الله للحساب، أي: الذين يؤمنون بالبعث23.

والمتأمل في هذا الكلام يدرك أن خوف هؤلاء من موقفهم بين يدي ربهم تبارك وتعالى كان سببًا في خشوعهم وتذللهم وانكسارهم له سبحانه في الدنيا؛ لأنهم آمنوا بالبعث وأيقنوا بالوقوف بين يديه عز وجل للحساب.

والموضع الثاني الذي هو من قبيل وصف القرآن لمن آمن من أحبار أهل الكتاب في قوله تعالى: ( ﯝﯞ ﯣﯤ ) [آل عمران:١٩٩]

والموضع الثالث في سورة الإسراء قوله تعالى: ( ) [الإسراء:١٠٩].

قال ابن عاشور: وإنما خروا خرورًا واحدًا ساجدين باكين، فذكر مرتين اهتمامًا بما صحبه من علامات الخشوع، وذكر () بصيغة المضارع لاستحضار الحالة، والبكاء بكاء فرح وبهجة، والبكاء يحصل من انفعال باطني ناشئ عن حزن أو عن خوف أو عن شوق24.

حتى من يخشعون في صلاتهم الذين كتبهم الله من المفلحين في سورة المؤمنون ( ) [الإسراء:١٠٩].

يفسر ابن عاشور خشوعهم هذا بالخوف فيقول: وهو خوف يوجب تعظيم المخوف منه، ولا شك أن الخشوع، أي: الخشوع لله، يقتضي التقوى فهو سبب فلاح25.
وفي سورة الأنبياء قال
تعالى: ( ﯭﯮ ) [الأنبياء:٩٠].

وقد ذكر ابن كثير أقوال المفسرين الأوائل فيها ما يوضح أن الخشوع فيها سببه الخوف فيقول: ( ) قال الثوري: رغبًا فيما عندنا ورهبًا مما عندنا ( ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أي: مصدقين بما أنزل الله، وقال أبو العالية: خائفين، وقال أبو سنان: الخشوع هو الخوف اللازم للقلب لا يفارقه أبدًا26.

وربما كان الخوف سببًا للخشوع الذي يدخل صاحبه فيمن يمتدحهم الله عز وجل، ويبين ثوابهم، وما أعده لهم في الآخرة من الأجر العظيم.

ففي سورة الأحزاب في قوله تعالى: ( ) [الأحزاب:٣٥].

قال ابن كثير: الخشوع السكون والطمأنينة، والتؤدة والوقار، والتواضع، والحامل عليه الخوف من الله تعالى ومراقبته27.

هذا الذي ذكرناه سابقًا يعبر عن الخشوع في الدنيا، وهو خشوع المؤمنين الناشئ عن تعظيمهم لربهم عز وجل وخوفهم منه في الدنيا، وفرق بينه وبين الخشوع الذي هو الذل الناشئ عن الخوف من الله في الآخرة، فالأول باختيار المؤمن في الدنيا، والثاني مجبر عليه الكفار؛ لأنهم لم يختاروه في الدنيا، أو أمنوا مكر الله حينما كانوا في دنياهم، فتهاونوا في أوامره ونواهيه، ويدخل في ذلك الآيات التي تتحدث عن خشوع الكفار في الآخرة، ومنها آية سورة الشورى، التي تتحدث عن وصف الظالمين المشركين يوم القيامة ( ) [الشورى:٤٥].

وجدير بالذكر أن نفرق بين خوف هؤلاء في الآخرة وبين خوف المؤمنين في الدنيا، وإن كان كلاهما خوف من الله، وكلاهما سبب للخشوع أيضًا، لكن خشوع المؤمنين في الدنيا كان باختيارهم وإرادتهم، صحيح أنه بتوفيق الله عز وجل لهم، لكن كان لهم حق الاختيار فاختاروا تعظيم الله الذي أنتج عنه خوفهم منه، فكان ذلك سببًا في خشوعهم له سبحانه في الدنيا.

وقبل أن ننتقل إلى السبب الثاني من أسباب الخشوع حري بنا أن نشير إلى كيفية تحصيل المسلم لهذا السبب وهو الخوف من الله عز وجل في الدنيا، فهذا الخوف لا يتأتى إلا إذا عظم الإنسان ربه عز وجل فيستحضر عظمة الله، ويتذكر وقوفه بين يديه للحساب، ويتذكر مروره على الصراط، وربما كان أقرب من ذلك أن يتذكر وضعه في القبر وترك المشيعين له وحيدًا لا أنيس ولا جليس، اللهم إلا عمله الذي قدمه، وتعظيم مقام الرب سبحانه لا يحصله الإنسان إلا إذا عظم أوامره ونواهيه، فيمتثل لتلك الأوامر ويسارع إلى الالتزام بها، ويمتثل للنواهي ويسارع في تجنبها، ويروض نفسه وقلبه وفكره شيئًا فشيئًا حتى يصل إلى الخوف من الله عز وجل في كل حركاته وسكناته، وكما يقال: العلم بالتعلم والحلم بالتحلم.

ثانيًا: سماع مواعظ القرآن وتدبرها:

من الأسباب التي تحمل المسلم على الخشوع سماع آيات القرآن بنية صادقة في قلب نقي خالص مخلص لله سبحانه وتدبر آياته للانتفاع بأحكامه وحكمه ومواعظه وعبره.

ففي وصف من آمن من أحبار أهل الكتاب في سورة الإسراء يقول الله تعالى: ( ﭿ ) [الإسراء:١٠٧-١٠٩].

قال ابن كثير:( )أي: من صالحي أهل الكتاب الذين تمسكوا بكتابهم ويقيمونه ولم يبدلوه ولا حرفوه ( ) هذا القرآن ( ) جمع ذقن وهو أسفل الوجه () أي: لله عز وجل شكرًا على ما أنعم به عليهم من جعله إياهم أهلًا أن أدركوا هذا الرسول الذي أنزل عليه هذا الكتاب، ولهذا يقولون ( )أي: تعظيمًا وتوقيرًا على قدرته التامة، وأنه لا يخلف الميعاد الذي وعدهم على ألسنة الأنبياء المتقدمين عن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ولهذا قالوا ( ﭿ ) وقوله:( ) أي: خضوعًا لله عز وجل وإيمانًا وتصديقًا بكتابه ورسوله ( ) أي: إيمانًا وتسليمًا28.

وقال ابن عاشور: والبكاء يحصل من انفعال باطني ناشئ عن حزن أو عن خوف أو عن شوق، ويزيدهم القرآن خشوعًا على خشوعهم الذي كان لهم من سماع كتابهم29.

ويبين الله عز وجل ما يجب أن يكون عليه القلب من خشوع بسبب ذكر الله وسماع آيات القرآن في سورة الحديد في قوله تعالى: ( ﯨﯩ ) [الحديد:١٦].

قال ابن كثير: يقول تعالى: أما آن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله، أي: تلين عند الذكر والموعظة وسماع القرآن، فتفهمه وتنقاد له وتسمع له وتطيعه30.

ومن ذلك ما رواه ابن قدامة المقدسي رحمه الله في توبة الفضيل بن عياض قال: «كان الفضيل قاطع طريق فخرج ذات يوم يقطع الطريق، فإذا هو بقافلة قد انتهت إليه ليلًا، فقال بعضهم لبعض: أعدلوا بنا إلى هذه القرية فإن أمامنا رجلًا يقطع الطريق يقال له: الفضيل، قال: فسمعه الفضيل فأرعد، فقال: يا قوم أنا الفضيل جوزوا، والله لأجتهدن أن لا أعصي الله أبدًا، فرجع عما كان عليه، وروي من طريق أخرى أنه أضافهم تلك الليلة، وقال: أنتم آمنون من الفضيل، وخرج يرتاد لهم علفًا، ثم رجع فسمع قارئًا يقرأ آية ( ) [الحديد:١٦].

قال: بلى، والله قد آن، فكان هذا مبتدأ توبته 31.

من هنا كان الخشوع مصدرًا لهداية المسلمين الوقافين عند أوامر ربهم وحدوده.

وتدبر القرآن من أعظم أسباب الخشوع، وذلك لما تشتمل عليه الآيات من وعد ووعيد، وذكر الموت والتذكير به، وأهوال القيامة، وأحوال أهل الجنة والنار، وقصص الأنبياء والرسل وما لاقوه من قومهم من صنوف الإيذاء، وأخبار المكذبين والمتكبرين ونهايتهم،... إلى آخر كل ذلك، وهذا كله حينما يتدبره المسلم في قراءته يمتلئ قلبه بنور الإيمان وصدق التوكل فيخشع لربه، بل ويعتاد الخشوع، وهنا ندرك موضعًا آخر يبرز خشوع الجبل لو أنزل عليه القرآن، وكأن الله يأمر الناس إذا نزل عليهم القرآن أن يأخذوه بالخشية الشديدة والتخشع، وهذا في سورة الحشر في قوله تعالى: ( ﮔﮕ ) [الحشر:٢١].

يقول تعالى معظمًا لأمر القرآن ومبينًا علو قدره، وأنه ينبغي أن تخشع له القلوب وتتصدع عند سماعه، لما فيه من الوعد الحق والوعيد الأكيد ( ) أي: فإذا كان الجبل في غلظته وقساوته لو فهم هذا القرآن فتدبر ما فيه لخشع وتصدع من خوف الله عز وجل، فكيف يليق بكم يا أيها البشر أن لا تلين قلوبكم وتخشع وتتصدع من خشية الله، وقد فهمتم عن الله أمره وتدبرتم كتابه32.

قال الشوكاني: ( )أي: من شأنه وعظمته وجودة ألفاظه وقوة مبانيه وبلاغته واشتماله على المواعظ التي تلين لها القلوب، أنه لو أنزل على جبل من الجبال الكائنة في الأرض لرأيته مع كونه في غاية القسوة وشدة الصلابة وضخامة الجرم ( ) أي: متشققًا من خشية الله سبحانه حذرًا من عقابه وخوفًا من أن لا يؤدي ما يجب عليه من تعظيم كلام الله، وفيه توبيخٌ وتقريعٌ للكفّار حيث لم يخشعوا للقرآن، ولا اتّعظوا بمواعظه، ولا انزجروا بزواجره، والخاشع: الذّليل المتواضع 33.

إذن فعلى من يريد أن يصل إلى درجة الخشوع أن يتدبر آيات القرآن الكريم، وكيفية التدبرأن يقرأ الآيات بتأمل وتفكر وعناية، حتى يصلح قلبه ويأتمر بأوامره وينتهي بنواهيه، وهناك وسائل للوصول إلى التدبر منها: إدراك القارئ بأنه مخاطب بالقرآن وآياته، والاهتمام بالتأني في التلاوة، والتعرف على أسباب النزول ومواضع الوقف والابتداء، والمكي والمدني، والناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، ومعرفة المعنى الإجمالي للآيات، والاهتمام بالقراءة الشمولية لآيات القرآن وقصصه وحواراته، والاهتمام بالمناسبات والروابط بين الآيات والسور.

ثالثًا: ذل العذاب.

من الأسباب الموجبة للخشوع ذل عذاب الكفار والمنافقين، وهذا الخشوع هو الذي يقع يوم القيامة، وهو الذي يكون لونًا من ألوان عذابهم، وحينها لا يقع منهم اختيارًا، وإنما يكون إجبارًا، وهذا اللون من الخشوع يختلف عن الخشوع الذي يقع من المؤمنين في الدنيا، وقد ورد هذا في أكثر من آية من الآيات التي تتحدث عن الخشوع.

ففي سورة الشورى يقول الله عز وجل: ( ) [الشورى:٤٥].

قال ابن كثير: ( ) أي: على النار ( ) أي: الذي قد اعتراهم بما أسلفوا من عصيان الله تعالى ( ) قال مجاهد: يعني: ذليل، أي: ينظرون إليها مسارقة خوفًا منها والذي يحذرون منه واقع بهم لا محالة، وما هو أعظم مما في نفوسهم، أجارنا الله من ذلك34.

وقال ابن عاشور في وصف الظالمين المشركين يوم القيامة: والمراد بالخشوع في هذه الآية: ما يبدو عليهم من أثر المذلة والمخافة، و«من» للتعليل، أي: خاشعين خشوعًا ناشئًا عن الذل، أي: ليس خشوعهم لتعظيم الله والاعتراف له بالعبودية؛ لأن ذلك الاعتقاد لم يكن من شأنهم في الدنيا35.

وقريب منه كلامه حينما يفسر آية القمر يقول:( ) أي: ذليلة ينظرون من طرف خفي لا تثبت أحداقهم في وجوه الناس، وهي نظرة الخائف المفتضح، وهو كناية؛ لأن ذلة الذليل وعزة العزيز تظهران في عيونهما36.

ومن هذا القبيل قوله تعالى: ( ﭔﭕ ) [القلم:٤٣].

وفي آية سورة المعارج( ) قال الشوكاني: والخشوع: الذّلّة والخضوع، أي: لا يرفعونها لما يتوقّعونه من العذاب ( ) أي: تغشاهم ذلّةٌ شديدةٌ37.

وفي أكثر من آية يفسر ابن كثير الخشوع بالذلة ففي آية ( ﯜﯝ )[النازعات:٨-٩].

أي: أبصار أصحابها ذليلة حقيرة مما عاينت من الأهوال.

وفي قوله: ( ) [الغاشية:٢-٣].

أي: ذليلة، قاله قتادة، وقال ابن عباس: تخشع ولا ينفعها عملها38.

أما المسلم فإذا أدرك ذلك حقًّا اجتهد في دنياه وفي وقت العبادة خاصة بالتذلل لله عز وجل فينحني بظهره وجبهته لله سبحانه، يحسن التفكر في عظمة الله وكبريائه وسلطانه وملكوته، ويتذكر ذنوبه وتقصيره في حق ربه، فيتذلل بفقره ويظهر احتياجه لله وحده قائلًا: (اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي)39.

والمسلم الذي يجتهد في دنياه ليحصل هذا الخشوع ويعتاده بين يدي ربه عز وجل يجنبه الله خشوع الذل في الآخرة، وخشوعه في الآخرة يكون خشوع تكريم، واستيضاحًا لذلك نقرأ قول ابن كثير:( ) أي: في الدار الآخرة بإجرامهم وتكبرهم في الدنيا، فعوقبوا بنقيض ما كانوا عليه، ولما دعوا إلى السجود في الدنيا فامتنعوا منه مع صحتهم وسلامتهم، عوقبوا بعدم قدرتهم عليه في الآخرة، إذا تجلى الرب عز وجل فيسجد له المؤمنون ولا يستطيع أحد من الكافرين ولا المنافقين أن يسجد، بل يعود ظهر أحدهم طبقًا واحدًا، كلما أراد أحدهم أن يسجد خرّ لقفاه عكس السجود، كما كانوا في الدنيا بخلاف ما عليه المؤمنون40.

إذن نستطيع أن نقول: إن معرفة ذل العذاب الذي يلحق المنافقين والكفار والمشركين في الآخرة، وتدبر ذلك سبب يدفع المسلم إلى بذل الجهد في الخشوع والتذلل لله في الدنيا، وتعظيمه حق قدره ومقداره، والخوف الدائم له سبحانه عله يجنبه خشوع الآخرة.

والتذلل في الصلاة واستحضار القرب من الله في السجود من الأسباب التي تدفع المسلم إلى الخشوع والاستكانة والتذلل لله، وخاصة حال السجود؛ لأنه أعلى درجات الاستكانة، وأبرز حالات الخضوع لله القوي القاهر.
وأشد أوقات القرب من
الله عند المسلم هي أوقات السجود، ففيه يستحضر القلب معنى القرب من خالق الخلق، وحين ينتاب المسلم في صلاته وسجوده هذا الشعور يخضع ويخشع.

والسجود أقرب وقت وموضعه أقرب موضع لإجابة الدعاء، ومغفرة الذنوب ورفع الدرجات. قال تعالى: ( ) [العلق:١٩].

إذن فالتذلل في الصلاة واستحضار القرب من الله في السجود سبب موصل إلى خشوع العبد لربه وخالقه، وجنبًا إياه ذل عذاب الآخرة، بل هو رافع بمشيئة الله درجاته فيها.

مواطن الخشوع

ورب سائل يسأل: هل خُصَّ الخشوع الذي ورد في آيات القرآن الكريم بمواطن معينة؟

والجواب: نعم، فمن يستقرئ الآيات بروية وتدبر يدرك أن الآيات خصت الخشوع بمواطن، ورد فيها أشد تأكيدًا في مواطن ثلاثة، نتحدث عنها في النقاط الآتية:

أولًا: الخشوع في الصلاة:

الخشوع في الصلاة من أهم الأسباب لحصول الفائدة المرجوة منها، وهو لب الصلاة وقلبها النابض، وبدونه ربما لا يحصل المصلي الأجر كاملًا.

والخشوع له أهمية كبرى في الصلاة، وتكمن هذه الأهمية في أنه عبادة جليلة تجعل في الصلاة روحًا تسري، وهو صفة من صفات المؤمنين التي يتوقف عليها فلاحهم، وفي ذلك ورد قول الله تعالى: ( ) [المؤمنون:١-٢].

يورد ابن كثير حينما يفسر هذه الآية قول محمد بن سيرين: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أبصارهم، إلى السماء في الصلاة، فلما نزلت هذه الآية: ( ) [المؤمنون:١-٢].

خفضوا أبصارهم إلى موضع سجودهم. قال محمد بن سيرين: وكانوا يقولون: لا يجاوز بصره مصلاه، فإن كان قد اعتاد النظر فليغمض، والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرغ قلبه لها واشتغل بها عما عداها وآثرها على غيرها، وحينئذ تكون راحة له وقرة عين41.

وقد عدّ الخشوع في الصّلاة هنا من صفات المؤمنين المفلحين الّذين يرثون الفردوس، وبيّن أنّ من لم يتّصف بهذا الخشوع تصعب عليه الصّلاة في قوله: ( ) [البقرة:٤٥] 42.

ويفصل ابن عاشور في ذلك فيقول: وتقييده هنا بكونه في الصلاة لقصد الجمع بين وصفهم بأداء الصلاة وبالخشوع، وخاصة إذا كان في حال الصلاة؛ لأنّ الخشوع لله يكون في حالة الصلاة وفي غيرها، إذ الخشوع محلّه القلب، فليس من أفعال الصلاة ولكنه يتلبس به المصلي في حالة صلاته، وذكر مع الصلاة لأن الصلاة أولى الحالات بإثارة الخشوع وقوّته؛ ولذلك قدمت، ولأنه بالصلاة أعلق، فإن الصلاة خشوع لله تعالى وخضوع له، ولأن الخشوع لما كان لله تعالى كان أولى الأحوال به حال الصلاة، لأن المصلي يناجي ربه فيشعر نفسه أنه بين يدي ربه فيخشع له43.

والمعنى: قد فاز وظفر بالمطلوب، أولئك المؤمنون الصادقون، الذين من صفاتهم أنهم في صلاتهم خاشعون، بحيث لا يشغلهم شيء وهم في الصلاة عن مناجاة ربهم. وعن أدائها بأسمى درجات التذلل والطاعة44.

مظاهر الخشوع في الصلاة:

ومن مظاهر الخشوع: أن ينظر المصلي وهو قائم إلى موضع سجوده، وأن يتحلى بالسكون والطمأنينة، وأن يترك كل ما يخل بخشوعها كالعبث بالثياب أو بشيء من جسده45.

ومن المظاهر: التذلل في الصلاة واستحضار القرب من الله في السجود؛ فالقيام والركوع والسجود في الصلاة من الأسباب التي تدفع المسلم إلى الخشوع والاستكانة والتذلل لله، وخاصة حال السجود؛ لأنه أعلى درجات الاستكانة، وأبرز حالات الخضوع لله القوي القاهر.

وأشد أوقات القرب من الله عند المسلم هي أوقات السجود، ففيه يستحضر القلب معنى القرب من خالق الخلق، وحين ينتاب المسلم في صلاته وسجوده هذا الشعور يخضع ويخشع.

والسجود أقرب وقت وأقر بموضع لإجابة الدعاء، ومغفرة الذنوب ورفع الدرجات. قال الله تعالى: ( ) [العلق:١٩].

وقال صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه هو ساجد، فأكثروا الدعاء فيه)46.

إذن فالتذلل في الصلاة واستحضار القرب من الله في السجود سبب موصل إلى خشوع العبد لربه وخالقه.

حكم الخشوع في الصلاة:

حري بنا ونحن نتحدث عن موطن الخشوع في الصلاة أن نشير ولو بإيجاز إلى حكم الخشوع في الصلاة، وآراء الفقهاء في ذلك، فنقول:

اختلف العلماء في حكم الخشوع؛ هل هو من فرائض الصلاة، أو من سننها، أو من شروط صحتها؟

فمن العلماء من قال بوجوب الخشوع في الصلاة، ومنهم من قال: بل هو من سننها.

فممن قال بوجوبه الإمام الغزالي في الإحياء، وتابعه فريق من العلماء، ومنهم ابن تيمية حين قال في الفتاوى:
دل كتاب الله
عز وجل على من كبر عليهما يحبه الله أنه مذموم بذلك في الدين، مسخوط منه ذلك، والذم أو السخط لا يكون إلا لترك واجب أو فعل محرم. وإذا كان غير الخاشعين مذمومين، دل ذلك على وجوب الخشوع.

ثم يقول في موضع آخر: فثبت أن الخشوع واجب في الصلاة47.

واعتبره القرطبي من فرائضها حين قال: اختلف الناس في الخشوع؛ هل هو من فرائض الصلاة أو مكملاتها على قولين، والصحيح الأول ومحله القلب، وهو أول عمل يرفع من الناس48.

وحكى النووي الإجماع على أن الخشوع ليس بواجب49.

وفي شرح أصول الفقه الشافعي: «ومن سنن الصلاة الخشوع، وترتيل القراءة وتدبرها، وتدبر الذكر، والدخول فيها بنشاط وفراغ القلب50.

وقال في المجموع: المسألة الثالثة: يستحب الخشوع في الصلاة، والخضوع، وتدبر قراءتها، وأذكارها، وما يتعلق بها، والإعراض عن الفكر فيما لا يتعلق بها، فإن فكر في غيرها، وأكثر من الفكر، لم تبطل صلاته لكن يكره51.

ولكن هل هذا الحكم من العلماء حكم للإجزاء أو حكم للقبول؟ الذي يظهر أن هذا الحكم منهم حكم الإجزاء وليس حكم القبول.

وجعله الرازي شرط صحة لا شرط قبول، حيث قال: إن الحضور عندنا ليس شرطًا للإجزاء، بل شرط للقبول، والمراد من الإجزاء أن لا يجب القضاء، والمراد من القبول حكم الثواب، والفقهاء إنما يبحثون عن حكم الإجزاء لا عن حكم الثواب، وغرضنا في هذا المقام هذا، أي: حكم الثواب52.

وفي حكم صلاة من عدم الخشوع قال ابن القيم: فإن قيل: ما تقولون في صلاة من عدم الخشوع، هل يعتد بها أم لا ؟

قيل: أما الاعتداد بها في الثواب: فلا يعتد بها، إلا بما عقل فيه منها، وخشع فيه لربه، ثم ينقل قول ابن عباس: (ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها)53.

وفي المسند مرفوعًا: (إن العبد ليصلي الصلاة، ولم يكتب له إلا نصفها، أو ثلثها، أو ربعها حتى بلغ عشرها)54.

فقد علق الله فلاح المصلين بالخشوع في صلاتهم، فدل على أن من لم يخشع فليس من أهل الفلاح55.

إذن فالخشوع في الصلاة اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبه يتحقق للمسلم الراحة والطمأنينة والتفكر والتدبر، فتسكن نفسه ويطمئن قلبه وينشرح صدره، وتتحقق الغاية المرجوة من صلاته.

والسؤال الذي يرد على فكر الكثير من المصلين والمسلمين: كيف يحصل المسلم الخشوع في الصلاة؟

الخشوع في الصلاة يحصل لمن فرغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها، وحينئذ تكون راحة له وقرة عين56.

وقال في الكشاف: وكان الرجل من العلماء إذا قام إلى الصلاة هاب الرحمن أن يشدّ بصره إلى شيء، أو يحدّث نفسه بشأن من شؤون الدنيا، وقيل: هو جمع الهمة لها، والإعراض عما سواها، ومن الخشوع أن يستعمل الآداب وذكر من ذلك توقي كف الثوب والتمطي والتثاؤب والتغميض وتغطية الفم والسدل والفرقعة والتشبيك وتقلب الحصى57.

وبالجملة فمن يعظم ربه عز وجل ويستحضر عظمته، ويتذكر وقوفه بين يديه للحساب، ويتذكر كذلك مروره على الصراط، ويتفكر حاله حينما يذهب إلى القبور وضعه في القبر وترك المشيعين له وحيدًا لا أنيس ولا جليس، اللهم إلا عمله الذي قدمه، ويتفكر في هذا كله وهو مقدم على الدخول في الصلاة، فيفرغ قلبه وفكره من شواغل الدنيا، ويعتبر نفسه كأنه ميت بين يدي مغسله، حينها ينعم الله عليه بالخشوع في صلاته فينتفع بها، ويحقق مطلوبه فيها.

والخشوع محله القلب وتظهر آثاره على الجوارح، قال ابن القيم: وأجمع العارفون على أن الخشوع محله القلب وثمرته على الجوارح وهي تظهره58.

وسيأتي تفصيل تلك المسألة إن شاء الله تعالى عند الحديث عن خشوع الجوارح، وبالتحديد عند حديثنا عن خشوع القلب.

ثانيًا: الخشوع عند ذكر الله:

كذلك من المواطن التي يتأكد فيها الخشوع عند ذكر الله وقراءة القرآن الكريم.

قال الله تعالى: ( ﯨﯩ ) [الحديد:١٦].

أي: تلين عند الذكر والموعظة وسماع القرآن فتفهمه وتنقاد له وتسمع له وتطيعه59.

والمقصود من قوله: ( ) إما بعض منهم ربما كانوا مقصرين عن جمهور المؤمنين يومئذٍ بمكة، فأراد الله إيقاظ قلوبهم بهذا الكلام المجمل على عادة القرآن، وإما أن يكون تحريضًا للمؤمنين على مراقبة ذلك والحذر من التقصير، والخشوع: الاستكانة والتذلل، و( ) ما يذكرهم به النبي صلى الله عليه وسلم، أو هو الصلاة، و( ) القرآن... ويجوز أن يكون الوصفان للقرآن تشريفًا له بأنه ذكر الله وتعريفًا لنفعه بأنه نزل من عند الله، وأنه الحق، ومعنى الخشوع لأجله: الخشوع المسبب على سماعه وهو الطاعة والامتثال60.

ولب الخشوع عند ذكر الله من يتيقن الرجوع إليه سبحانه.

قال الشيخ محمد عبده في هذا اليقين: ثمّ وصف الخاشعين وصفًا يناسب المقام، ويظهر وجه الاستعانة به فقال: ( )[البقرة:٤٦].

أي: الّذين يتوقّعون لقاء الله تعالى يوم الحساب والجزاء وأنّهم إليه راجعون، بعد البعث لا مرجع لهم إلى غيره61.

وفي النفس الخاشعة الإيمان بلقاء الله تعالى الذي يجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بجزاء مايعمل، ولذلك ذكر إيمان الخاشعين بلقاء الله تعالى، فقال تبارك وتعالى: ( ) والظن بمعنى العلم اليقيني، ولكن التعبير عن العلم بالظن يفيد مع اليقين توقع الأمر المعلوم، فمعنى ( ) أنهم يتوقعون هذا اللقاء وقتًا بعد آخر.

فهم يؤمنون إيمانًا صادقًا بلقاء الله، ويترقبون ذلك اللقاء، وينتظرونه متوقعين له، فيقينهم يقين المتوقع المترقب، فيكون في قلوبهم دائمًا، ويستعدون له بعمل صالح يقدمونه رجاء أن يغفر لهم، وأن يتغمدهم برحمته، ويكفر عنهم سيئاتهم62.

والحديث عن الخشوع عند ذكر الله يجعلنا نستحضر آيتين أخريين لهما أثر بالغ في معالجة هذا الجانب، الآية الأولى قوله تعالى: ( ) [الأنفال:٢].

وبالتأمل في الآية الكريمة نجد أن أول وصف من الأوصاف التي تحقق الإيمان الكامل هي وجل القلب عند ذكر الله؛ لأنه يستشعر عظمة الله وجلاله، ويتذكر وعده ووعيده، فيخاف قلبه وتضطرب روحه، والوصف الثاني هو ازدياد الإيمان عند تلاوة كتابه الكريم؛ لأنه حينئذ تزداد الأدلة لديه، وتقوى الحجة، فيزداد قوة في إيمانه، ورسوخًا في عقيدته.

قال صاحب الظلال: إنها الارتعاشة الوجدانية التي تنتاب القلب المؤمن حين يذكر باللّه في أمر أو نهي، فيغشاه جلاله، وتنتفض فيه مخافته، ويتمثل عظمة اللّه ومهابته، إلى جانب تقصيره هو وذنبه، فينبعث إلى العمل والطاعة... إنها حال ينال القلب منها أمر يحتاج إلى الدعاء ليستريح منها ويقر! وهي الحال التي يجدها القلب المؤمن حين يذكر بالله في صدد أمر أو نهي؛ فيأتمر معها وينتهي كما يريد الله، عز وجل ( )

فالقلب المؤمن يجد في آيات هذا القرآن ما يزيده إيمانًا، وما ينتهي به إلى الاطمئنان، إن هذا القرآن يتعامل مع القلب البشري بلا وساطة، كما أن إيقاعات القرآن على القلب المؤمن تزيده إيمانًا63.

والآية الثانية قوله تعالى: ( ) [الزمر:٢٣].

والمعنى: أنه كتاب متشابه الأعجاز والأطراف، متشابه في المعنى والغرض، والصحة ودقة الحكم، وتتبع منافع الناس، وهو كتاب يشبه بعضه بعضًا وتثنى فيه القصص والمواعظ والأحكام، أي: تعاد وتكرر بمنتهى البلاغة وروعة التصوير ودقة التعبير.

هذا وصفه في نفسه، فإذا سمعه المؤمنون اقشعرت منهم الجلود، واضطربت منهم القلوب، ووجلت منهم النفوس، إذا سمعوا وعيد اللّه، ورأوا بعيون البصيرة ما أعد للمكذبين الكفار دمعت عيونهم وخشعت أصواتهم، واقشعرت جلودهم، ثم تلين قلوبهم وتسكن حينما يسمعون ذكر رحمة اللّه بالمؤمنين، تفرح نفوسهم، وتنشرح صدورهم إلى ذكر فضله على المؤمنين يوم لقائه64.

وهكذا المؤمن كلما ذكر ربه عليه أن يزين ذكره بالخشوع له سبحانه يتفكر في الذكر بفكره، ويعيشه بقلبه، كل الذكر، فحينما يذكر إذا استيقظ من نومه «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور» يتفكر في الحمد وفي قدرة الله عليه في الإماتة والإحياء، وإذا سبح يعيش التسبيح بفكره وقلبه، وإذا هلل يفكر في وحدانية الله وأنه المستحق للعبادة وحده، وأنه الرزاق وحده، وإذا أقدم على فعل شيء تفكر وأيقن أن الله هو النافع الضار، وهو بيده مقاليد الأمور.

فذكره سبحانه يمنح النفس خشوعًا وخضوعًا، وتسليمًا لله عز وجل.

فلا يأبه بما يدور حوله، ولا تشغله الدنيا ولا مفاتنها؛ لأنه مشغول بما هو باقٍ فلا يأبه بالفاني، وهكذا كأنه يعيش وسط الجماعة بجسده لكنه قلبًا وفكرًا مع ربه عز وجل

ثالثًا: الخشوع عند مواقف القيامة:

وثالث المواطن التي يتأكد فيها الخشوع: الخشوع في يوم القيامة، وحقيقة يحوز هذا الموطن أكبر قدر من آيات الخشوع.

فقد ورد هذا في آيات عدة، منها ما يتحدث عن خشوع الأصوات بوجه عام يوم القيامة، ومنها ما يتحدث عن خشوع الكفار بسبب ذل العذاب الذي يلحقهم يوم القيامة، وكذلك ما يتحدث عن خشوع أبصار الكفار حين خروجهم من القبور خشيةً ورعبًا مما سيلاقونه، أو خشوع تلك الأبصار جراء مذلتهم وعذابهم، وآخر هذه الآيات الآية التي تتحدث عن خشوع الوجوه بسبب فزعها يوم القيامة، ولا عجب أن يطلق على هذا كله خشوع الكفار، وبدهي أن هذا اللون سيكون فقط في يوم القيامة.

فالآية الأولى التي تتحدث عن خشوع الأصوات وردت في سورة طه وتحديدًا في قوله تعالى: ( ) [طه:١٠٨].

أي: يوم يرون هذه الأحوال والأهوال يستجيبون مسارعين إلى الداعي حيثما أمروا بادروا إليه، ولو كان هذا في الدنيا لكان أنفع لهم ولكن حيث لا ينفعهم65.

( ) أي: خضعت لهيبته، وقيل: ذلت، وقيل: سكتت.

( ) الهمس: الصّوت الخفيّ. قال أكثر المفسّرين: هو صوت نقل الأقدام إلى المحشر66.

والآية الثانية تتحدث عن خشوع الكفار بسبب ذل العذاب الذي يلحقهم يوم القيامة تقول: ( ﰊﰋ ) [الشورى:٤٤-٤٥].

يبرز الشوكاني الخشوع في هذا الموطن فيقول: ( ) أي: المشركين المكذّبين بالبعث ( ) أي: حين نظروا النّار، وقيل: نظروا ما أعدّه اللّه لهم عند الموت ( ) أي: هل إلى الرّجعة إلى الدّنيا من طريقٍ ( ) أي: ساكنين متواضعين عند أن يعرضوا على النّار لما لحقهم من الذّلّ والهوان67.

والمراد بالخشوع في هذه الآية: ما يبدو عليهم من أثر المذلة والمخافة، و() للتعليل، أي: خاشعين خشوعًا ناشئًا عن الذل، أي: ليس خشوعهم لتعظيم الله والاعتراف له بالعبودية؛ لأن ذلك الاعتقاد لم يكن من شأنهم في الدنيا68.

والآية الثالثة تتحدث عن خشوع أبصار الكفار حين خروجهم من القبور خشية ورعبًا مما سيلاقونه، وهي قوله تعالى: ( ) [القمر:٧].

وقد ذكر ابن عاشور حينما فسر هذه الآية أنه قد عدّ سبعة من مظاهر الأهوال التي تؤثر فيهم، وتكون سببًا في ذلهم يوم القيامة، وعد منها خشوع أبصارهم فقال: ( ) أي: ذليلة ينظرون من طرف خفي لا تثبت أحداقهم في وجوه الناس، وهي نظرة الخائف المفتضح، وهو كناية لأن ذلة الذليل وعزة العزيز تظهران في عيونهما69.

والآية الرابعة تتحدث أيضًا عن خشوع أبصار الكفار من أثر ذل العذاب يوم القيامة قوله تعالى: ( ) [القلم:٤٣].

( ) أي: في الدار الآخرة بإجرامهم وتكبرهم في الدنيا، فعوقبوا بنقيض ما كانوا عليه، ولما دعوا إلى السجود في الدنيا فامتنعوا منه مع صحتهم وسلامتهم، عوقبوا بعدم قدرتهم عليه في الآخرة70.

والآية الخامسة في هذا المضمار كذلك قوله تعالى: ( ﭿ) [المعارج:٤٣-٤٤].

يؤكد ابن كثير ما ذكره في آية القلم هنا في آية المعارج فيقول: ( ) أي: خاضعة ( ) أي: في مقابلة ما استكبروا في الدنيا عن الطاعة ( )71.

والآية السادسة قوله تعالى: ( ) [النازعات:٨-٩].

والآية السابعة قوله تعالى: ( ) [الغاشية:١-٤].

فـ( ﭬﭭ )أخبار ثلاثة عن()، والمعنى: أناس خاشعون الخ، فالوجوه كناية عن أصحابها، إذ يكنى بالوجه عن الذات...وأوثرت الوجوه بالكناية عن أصحابها؛ لأن حالة الوجوه تنبىء عن حالة أصحابها، إذ الوجه عنوان عما يجده صاحبه من نعيم أو شقوة72.

وتتلخص مواطن الخشوع كما وردت في القرآن الكريم في ثلاثة مواطن، أولها: الخشوع في الصلاة الذي هو لبها، وله من الأهمية ما ذكرنا، ويحصله من اشتغل بالصلاة عما عداها، وآثرها على غيرها في الأداء وفي الاهتمام، وثانيها: الخشوع عند ذكر الله عز وجل الذي يجعل للذكر روحًا تسري وتبعث اليقين في الذاكر، وتحثه على إتقان العبادة والعمل، وتزيده ثقة في ربه عز وجل، وثالثها: الخشوع عند أهوال يوم القيامة، ومنه خشوع الأصوات الذي يعم كل الخلائق، ويظهر في سكونها وسكوتها، ومنه خشوع الوجوه والأبصار، الذي يظهر في ملامحها وانكسارها، وهو اللون الذي يخص الكفار، وكأن الله عز وجل في كتابه الكريم يحثنا بشدة على الخشوع في الصلاة، وعند ذكره سبحانه وتعالى، لأنه بذلك يحذرنا من خشوع المذلة في الآخرة، فمن يهتم بالخشوع في الصلاة وعند الذكر يجنب خشوع الذل في الآخرة.

خشوع الجوارح

إذا كان من معاني الخشوع في الاصطلاح: خشية في القلب من الله تعالى تظهر آثارها على الجوارح، فتجعلها ساكنة مستشعرة أنها بين يدي الله سبحانه73.

فالخشوع مركزه القلب، أو منشؤه القلب، أما ظهور آثاره فيكون على الجوارح، فالجوارح هي التي يظهر عليها ترجمة ما في القلب، والقرآن الكريم تحدث في غير آية عن خشوع تلك الجوارح، أو الأثر الظاهري للخشوع على الجوارح، فمن الآيات ما تحدث عن خشوع القلوب، ومنها ما تحدث عن خشوع الوجوه، ومنها ما تحدث عن خشوع الأبصار، ومنها ما تحدث عن خشوع الأصوات، ونستوضح ذلك بشيء من التفصيل في النقاط الآتية:

أولًا: خشوع القلوب:

الخشوع من أهم العبادات وأصعبها؛ لأنه يحتاج لتركيز كبير، وكلمة «الخشوع» تدل على أقصى درجات التأمل مع التفكير العميق، والقلوب هي مراكز الخشوع، وهي منشؤه والسبب في حدوثه، والقلوب وإن كانت غير ظاهرة وبالتالي غير ظاهر عليها شيء، لكنها هي مركز التحكم في جميع الجوارح، وفي القرآن الكريم والسنة النبوية كثير من الآيات والأحاديث الصحيحة التي تؤكد ذلك، والتي منها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي سورة الأنبياء قوله تعالى: ( ﯤﯥ ﯭﯮ ) [الأنبياء:٨٩-٩٠].

( ) قال الثوري: رغبًا فيما عندنا ورهبًا مما عندنا.

ثمّ وصفهم اللّه سبحانه بأنّهم كانوا يدعونه رغبًا ورهبًا، أي: يتضرّعون إليه في حال الرّخاء وحال الشّدّة، وقيل: الرّغبة: رفع بطون الأكفّ إلى السّماء، والرّهبة رفع ظهورها.74 ومما لا شك فيه أن الرغبة والرهبة تكونان في القلب.

( )الخشوع هو الخوف اللازم للقلب لا يفارقه أبدًا75.

قال تعالى: ( ) [المؤمنون:١-٢].

وابن كثير يورد في آية سورة المؤمنون أن خشوع المؤمنين في صلاتهم مكمنه خشوع قلوبهم، وينقل من كلام المفسرين من التابعين ما يدل على ذلك فيقول: وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : الخشوع خشوع القلب، وكذا قال إبراهيم النخعي. وقال الحسن البصري: كان خشوعهم في قلوبهم، فغضوا بذلك أبصارهم وخفضوا الجناح76.

ووفي خشوع القلوب يبين الله عز وجل ما يجب أن يكون عليه القلب من خشوع في سورة الحديد في قوله تعالى: ( ﯨﯩ ) [الحديد:١٦].

قال ابن كثير: يقول تعالى: أما آن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله، أي: تلين عند الذكر والموعظة وسماع القرآن فتفهمه وتنقاد له وتسمع له وتطيعه77.

والخشوع محله القلب وتظهر آثاره على الجوارح، كما قال ابن القيم: وأجمع العارفون على أن الخشوع محله القلب وثمرته على الجوارح وهي تظهره78.

وقال ابن رجب: وأصل الخشوع هو لين القلب ورقته، وسكونه، وخضوعه، وانكساره، وحرقته، فإذا خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح، والأعضاء؛ لأنها تابعة له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وإنّ في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه، ألا وهي القلب)79.

فإذا خشع القلب خشع السمع، والبصر، والرأس، والوجه، وسائر الأعضاء، وما ينشأ منها حتى الكلام؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه في الصلاة: (اللّهمّ لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي، وبصري، ومخّي، وعظمي، وعصبي) 80.

إذن فليس الخشوع بتنكيس الرأس أو الرقبة، لأنه حينما رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلًا مطأطئًا رقبته في الصلاة قال: يا صاحب الرقبة ارفع رقبتك ليس الخشوع في الرقاب، إنما الخشوع في القلوب81.

وقال سفيان الثّوريّ: سألت الأعمش عن الخشوع فقال: يا ثوريّ أنت تريد أن تكون إمامًا للناس ولا تعرف الخشوع؟ ليس الخشوع بأكل الخشن ولبس الخشن وتطأطئ الرّأس، لكنّ الخشوع أن ترى الشّريف والدّنيء في الحقّ سواءً، وتخشع للّه في كلّ فرضٍ افترض عليك82.

ومما يؤكد ذلك أن سعيد بن المسيب رضي الله عنه رأى رجلًا يعبث في صلاته بلحية، فقال: «لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه»83.

وهذا حذيفة رضي الله عنه يحذر من خشوع النفاق: إياكم وخشوع النفاق، فقيل له: وما خشوع النفاق؟ قال: أن ترى الجسد خاشعًا، والقلب ليس بخاشع84.

فمحل الخشوع القلب الذي هو محل نظر المولى جل وعلا وما الجوارح إلا تبع له فيهتم به، ومن هذا نعلم أن الخشوع من أهم أعمال القلوب، كالخوف والرهبة، ومن العلماء من جعله من أفعال الجوارح كالسكون وترك الالتفات والعبث85.

والصواب أنه من أعمال القلوب، وما يظهر على الجوارح من السكون وترك العبث إنما هو من آثاره.

لذلك يقول ابن رجب رحمه الله: فأصل الخشوع: هو خشوع القلب، وهو انكساره لله، وخضوعه وسكونه عن التفاته إلى غير من هو بين يديه، فإذا خشع القلب خشعت الجوارح كلها تبعًا لخشوعه86.

ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه: (خشع لك سمعي، وبصري، ومخي، وعظامي)87.

ومما يدل على أنه من عمل القلوب ما ورد من حديث على بن أبي طالب رضي الله عنه: «الخشوع في القلب، وأن تلين كتفك للمرء المسلم، وأن لا تلتفت في صلاتك»88.

أثر الخشوع في القلب:

أظهرت دراسة جديدة نشرتها مجلة جمعية القلب الأمريكية أن التأمل لفترات طويلة ومنتظمة يقي القلب من الاحتشاء أو الاضطراب. ويعمل التأمل على علاج ضغط الدم العالي وبالتالي تخفيف الإجهاد عن القلب. كما أظهرت هذه الدراسة أن للقلب عملًا مهمًّا وليس مجرد مضخة، وتؤكد الدراسات أهمية التأمل والخشوع في استقرار عمل القلب، ويقول الأطباء اليوم إن أمراض القلب هي السبب الأول للموت في العالم، وسبب هذه الأمراض هو وجود اضطراب في نظام عمل القلب، ومن هنا ندرك أهمية الخشوع في استقرار وتنظيم أداء القلب.

إن الدراسات تثبت اليوم أن التأمل يعالج الاكتئاب والقلق والإحباط، وهي أمراض العصر التي تنتشر بكثافة اليوم. ليس هذا فحسب، بل وجدوا أن التأمل المنتظم يعطي للإنسان ثقة أكثر بالنفس ويجعله أكثر صبرًا وتحملًا لمشاكل وهموم الحياة89.

ألوان أخرى للخشوع:

الخشوع الذي نحن بصدد الحديث عنه هو الخشوع القلبي والبدني، وربما كان هناك ألوانٌ أخرى من الخشوع، منها: الخشوع العقلي الجانب المعرفي.

قال تعالى: ( ) [فاطر:٢٨].

والعلماء هم الّذين علموه بصفاته وتوحيده وما يجوز عليه وما يجب له وما يستحيل عليه، فعظّموه وقدّروه حقّ قدره، وخشوه حقّ خشيته، ومن ازداد به علمًا ازداد منه خوفًا، ومن كان علمه به أقلّ كان آمن90.

وربما دخل في الخشوع العقلي أيضًا خشوع سحرة فرعون، الذين دخلوا في الإسلام في لحظات معدودات من اقتناع عقلهم بما رأوه من معجزة على يد نبي الله موسى عليه السلام، ومن هذا القبيل خشوع من يدخلون في الإسلام في العصر الحديث بسبب ما يشاهدونه من الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.

والخشوع النفسي، وهو إذعان النفس لقبول الحق، قال تعالى: ( ) [النساء:٦٥].

قال أبو حيان: وفيما شجر بينهم عامٌّ في كلّ أمرٍ وقع بينهم فيه نزاعٌ وتجاذبٌ. ومعنى (): يجعلوك حكمًا، وفي الكلام حذفٌ، التّقدير: فتقضي بينهم. ( ) أي: ضيقًا من حكمك.

والمعنى: لا يخطر ببالهم ما يأثمون به من عدم الرّضا، وقيل: همًّا وحزنًا، () أي: ينقادوا ويذعنوا لقضائك، لا يعارضون فيه بشيءٍ، قاله: ابن عبّاسٍ والجمهور. وقيل: معناه: ويسلّموا ما تنازعوا فيه لحكمك91.

وأخيرًا كيف يأطر المسلم قلبه على الخشوع؟

المسلم الذي يريد أن يسير في ركاب الخاشعين عليه أن يكبح جماح نفسه وشهوات قلبه، ويكثر من الذكر والخلوة والتواضع لله، والتفكر في عظمته ومخلوقاته، ويتفكر في نفسه وضعفها واحتياجها إلى خالقها ومدبر أمرها، ويكثر من التفكر في حكم مجريات الأحداث، والتفكر في الأذكار التي يذكر ربه بها في الصباح وفي المساء، وعند الخروج من الدار، وعند الركوب وعند الطعام والشراب والنوم... إلخ، كذلك يتلو آيات القرآن بتدبر وتفكر، واستشعار عظمة قائله، ويروض نفسه على ذلك كله شيئًا فشيئًا.

ثانيًا: خشوع الوجوه:

يأتي في المرتبة التالية من خشوع القلوب خشوع الوجوه، فالوجه أشرف الأعضاء الظاهرة للإنسان، ولذلك جعل السجود من أشرف العبادات لله عز وجل وفي سورة الإسراء يمتدح الله سبحانه الصالحين من أهل الكتاب؛ لأنهم يخرون سجدًا لربهم، تعظيمًا له سبحانه، واعترافًا بنعمه عليهم، ويبكون من شدة تأثر القلب، بل ويزدادون خشوعًا بالقرآن والسجود والبكاء.

يقول الله تعالى: ( ﭹﭺ ﭿ ) [الإسراء:١٠٧-١٠٩].

قال ابن كثير: ( ) أي: من صالحي أهل الكتاب الذين تمسكوا بكتابهم ويقيمونه ولم يبدلوه ولا حرفوه ( ) هذا القرآن ( ) جمع ذقن وهو أسفل الوجه () أي: لله عز وجل شكرًا على ما أنعم به عليهم من جعله إياهم أهلًا أن أدركوا هذا الرسول الذي أنزل عليه هذا الكتاب، ولهذا يقولون ( ) أي: تعظيمًا وتوقيرًا على قدرته التامة، وأنه لا يخلف الميعاد الذي وعدهم على ألسنة الأنبياء المتقدمين عن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا قالوا ( ﭿ ).

وقوله: ( ) أي: خضوعًا لله عز وجل، وإيمانًا وتصديقًا بكتابه ورسوله ( ) أي: إيمانًا وتسليمًا92.

وفرق بين خشوع هذه الوجوه وخشوع وجوه الكفار والمنافقين في الآخرة، فخشوع صالحي أهل الكتاب كان باختيارهم، ناشئًا عن تعظيمهم لربهم في الدنيا، ولذلك استحقوا أن يمدحهم الله تبارك وتعالى بسببه، أما خشوع المنافقين والكفار فسيكونون مجبرين عليه في الآخرة، وهو بسبب امتناعهم عن تعظيمهم لربهم في الدنيا، ولذلك ذمهم الله عز وجل به.

قال تعالى: ( ) [الغاشية:١-٤].

قال ابن كثير: وقوله تعالى ( ) أي: ذليلة، قاله قتادة، وقال ابن عباس: تخشع ولا ينفعها عملها93.

ثالثًا: خشوع الأبصار:

إذا كان أساس الخشوع في القلب، ثم تتبعه في ذلك جوارح الإنسان فإن الأبصار من الجوارح التي تتأثر تأثرًا مباشرًا بما في القلوب، وقد ورد خشوع الأبصار في القرآن في أكثر من آية، من هذه الآيات آية واحدة فقط، تتحدث عن خشوع المؤمنين في صلاتهم بوجه عام في الدنيا، أما بقية الآيات التي تتحدث عن خشوع الأبصار فحديثها عن خشوع أبصار الكفار في الآخرة، فالأولى آية سورة المؤمنون، وهي وإن كان ظاهرها مدح للخاشعين في صلاتهم بوجه عام إلا أن أبرز ما يظهر في خشوع المصلي خشوع بصره.

قال الله تعالى: ( ) [المؤمنون:١-٢].

يورد ابن كثير حينما يفسر هذه الآية قول محمد بن سيرين: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أبصارهم، إلى السماء في الصلاة، فلما نزلت هذه الاية خفضوا أبصارهم إلى موضع سجودهم. قال محمد بن سيرين: وكانوا يقولون: لا يجاوز بصره مصلاه، فإن كان قد اعتاد النظر فليغمض94.

والمعنى: قد فاز وظفر بالمطلوب، أولئك المؤمنون الصادقون، الذين من صفاتهم أنهم في صلاتهم خاشعون، بحيث لا يشغلهم شيء وهم في الصلاة عن مناجاة ربهم.

ومن مظاهر الخشوع: أن ينظر المصلى وهو قائم إلى موضع سجوده، وأن يتحلى بالسكون والطمأنينة، وأن يترك كل ما يخل بخشوعها كالعبث بالثياب أو بشيء من جسده95.

وشتان بين خشوع يمتدح أهله وخشوع يذم أهله، فالأول خشوع المؤمنين في صلاتهم، وهو من الأفعال التي تجلب لهم الفلاح، والثاني خشوع الكفار عند خروجهم من قبورهم، وهذا دليل مذلة لهم، وآيته التي تتحدث عن خشوع أبصار الكفار حين خروجهم من القبور خشيةً ورعبًا مما سيلاقونه، وهي قوله تعالى: ( ﯲﯳ ﭜﭝ ) [القمر:٦-٨].

والآية الثالثة من الآيات التي تتحدث عن خشوع الأبصار قوله تعالى: ( ) [القلم:٤٣].

( ) أي: في الدار الآخرة بإجرامهم وتكبرهم في الدنيا، فعوقبوا بنقيض ما كانوا عليه96.

والآية الرابعة في هذا المضمار كذلك قوله تعالى: ( ﭴﭵ ﭿ) [المعارج:٤٣-٤٤].

والآية الخامسة قوله تعالى: ( ) [النازعات:٨-٩].

وبقليل من التأمل في هذه الآيات السابقة ندرك أن جميع الآيات التي وردت في خشوع الأبصار تتحدث عن خشوع أبصار الكفار من أثر ذل العذاب يوم القيامة، هذا فيما عدا الآية الأولى آية سورة المؤمنون إذا اعتبرناها ضمن الآيات التي تتحدث عن خشوع الأبصار.

وهذا يجعلنا نروض أبصارنا على الخشوع، فلا نطلق لها العنان تنظر إلى ما يحلو لها، هنا وهناك دونما رقيب أو حساب، وإنما نعودها على النظر إلى الحلال، ونستعملها في طاعة الله، وأن يكون نظرنا عبرًا.

رابعًا: خشوع الأصوات:

صحيح أن الأصوات ليست من الجوارح؛ لكنها تصدر عن جارحة من الجوارح وهي اللسان، فكأن المقصود -والله أعلم- خشوع الجارحة التي تصدر الأصوات، ولولا أن الله سبب تلك الجارحة ما كان سيصدر هذا الصوت، إذن فحينما نتحدث عن خشوع الأصوات فمقصدنا خشوع الجوارح التي تصدر الأصوات فتسكن تلك الجوارح، أو سكون الأصوات وسكوتها.

يقول الله تعالى: ( ) [طه:١٠٨].

يقول السيد طنطاوي: وقوله: ( ) أى: وخفتت وسكنت الأصوات كلها هيبة وخوفًا من الرحمن عز وجل فلا تسمع -أيها المخاطب- في هذا اليوم الهائل الشديد إلّا همسًا، أي: إلا صوتًا خفيًّا خافتًا. يقال: همس الكلام يهمسه همسًا، إذا أخفاه، ويقال للأسد: الهموس، لخفاء وطئه97.

وخشوع الأصوات في الآخرة يكون من المخلوقات قاطبة، فحينها لا فرق بين إنس وجن، ولا فرق بين مؤمن وكافر، سكتت وسكنت جميع الأصوات هيبة وخوفًا من الله عز وجل.

والعاقل الكيس الذي يمسك بزمام لسانه الذي تصدر عنه الأصوات في الدنيا، فلا يطلقه إلا في الخير، وما يرضي ربه تبارك وتعالى ، فمن يفعل ذلك يأطر لسانه على الخشوع في الدنيا طواعية قبل الخشوع في الآخرة قسرًا، فيعود لسانه على الخشوع وصوته على السكون، وسيكون ذلك له إن شاء الله في الميزان.

خشوع الكائنات

الخشوع والتذلل لله تعالى ليس مقصورًا على الإنسان وأعضائه، وإنما يعم جميع مخلوقات الله عز وجل فالكل مخلوق لله، إذن فالكل عبيد له سبحانه متذلل له، لكن كل مخلوق له خشوعه الذي يليق به، والذي يتناسب معه، وربما خشع بعض المخلوقات خشوعًا لا يعلمه الإنسان.

قال تعالى: ( ) [الإسراء:٤٤].

ومن الآيات التي وردت في موضوع الخشوع: ما يخص خشوع الكائنات، فقد ورد من الآيات ما يتحدث عن خشوع الأرض، ومنها ما يتحدث عن خشوع الجبال، فحري بالبحث أن يتعرض لتلك الآيات ويفرد لكل منها إطلالة خاصة، كما أنه حري بالبحث أن ينظر في ورود هذه الكائنات في القرآن الكريم، فكان من اللائق أن يتعرض البحث للإعجاز العلمي ونحن في عصر العلم في خشوع الكائنات.

أولًا: خشوع الأرض:

عن خشوع الأرض ككائن من الكائنات ورد قول الله تعالى: ( ) [فصلت:٣٩].

( ) أي: الدالة على قدرته على إعادة الموتى ( ) أي: هامدة لا نبات فيها بل هي ميتة ( ) أي: أخرجت من جميع ألوان الزروع والثمار98.

ثانيًا: خشوع الجبال:

قال الله تعالى: ( ) [الحشر:٢١].

يقول تعالى معظمًا لأمر القرآن ومبينًا علو قدره، وأنه ينبغي أن تخشع له القلوب وتتصدع عند سماعه، لما فيه من الوعد الحق والوعيد الأكيد: ( ).

أي: فإذا كان الجبل في غلظته وقساوته لو فهم هذا القرآن فتدبر ما فيه لخشع وتصدع من خوف الله عز وجل، فكيف يليق بكم يا أيها البشر أن لا تلين قلوبكم وتخشع وتتصدع من خشية الله، وقد فهمتم عن الله أمره وتدبرتم كتابه، ولهذا قال تعالى: ( ).

ثم ينقل قول العوفي عن ابن عباس في هذه الآية فيقول: أي: لو أني أنزلت هذا القرآن على جبل حملته إياه لتصدع وخشع من ثقله ومن خشية الله، فأمر الله الناس إذا نزل عليهم القرآن أن يأخذوه بالخشية الشديدة والتخشع99.

فحري بنا بني الإنسان أن نتعظ بهذه الآيات، ونتدبر القرآن ونخشع له امتثالًا لأمر الله عز وجل نعظم القرآن ونأخذ أوامره ونواهيه على سبيل الجد، حتى يؤثر فينا ويغير مجرى حياتنا إلى ماهو أفضل وأمثل.

صفات الخاشعين

أولًا: اليقين بلقاء الله:

اليقين له أهمية كبرى في حياة المسلم، فهو الذي يدفعه إلى الاستقامة في كل أموره، وهو الذي يهون عليه مشقات الحياة والابتلاءات التي تتوارد عليه، وهو الذي يجعله يثق بالله عز وجل، وهو الذي يعلي درجات الإيمان بالغيب، وهو الذي يجعل نفسه تتوق إلى الجنة فتسارع للعمل لها، وتحذر من النار فتتجنب ما يقرب منها.

قال ابن القيم: لا يتم صلاح العبد في الدارين إلا باليقين والعافية، فاليقين يدفع عنه عقوبات الآخرة، والعافية تدفع عنه أمراض الدنيا من قلبه وبدنه، واليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، وبه تفاضل العارفون، وفيه تنافس المتنافسون، وإليه شمر العاملون، وهو مع المحبة ركنان للإيمان100.

وقال صاحب الظلال: والذي يجد راحة اليقين في قلبه يجد في الآيات مصداق يقينه، ويجد فيها طمأنينة ضميره، فالآيات لا تنشئ اليقين، إنما اليقين هو الذي يدرك دلالتها ويطمئن إلى حقيقتها، ويهيئ القلوب للتلقي الواصل الصحيح101.

ويأتي هذا الوصف للخاشعين، وهو يقينهم بلقاء ربهم ويقينهم بالرجوع إليه واضح وصريح في القرآن الكريم.

ففي سورة البقرة يقول الله تعالى: ( ﯓﯔ ) [البقرة:٤٥-٤٦].

والمتأمل في هذا الكلام يدرك أن يقين هؤلاء بلقاء ربهم وخوفهم من الوقوف بين يدي ربهم تبارك وتعالى كان سببًا في خشوعهم وتذللهم وانكسارهم له سبحانه في الدنيا؛ لأنهم آمنوا بالبعث وأيقنوا بالرجوع إليه عز وجل للحساب.

يقول السيد طنطاوي: ثم وصف سبحانه الخاشعين وصفًا يناسب المقام، ويظهر وجه الاستعانة، فقال تعالى: ( ).

(الظن) يرد في أكثر الكلام بمعنى الاعتقاد الراجح، وهو ما يتجاوز مرتبة الشك، وقد يقوى حتى يصل إلى مرتبة اليقين والقطع، وهو المراد هنا.

ومثل ذلك قوله تعالى: ( ﯫ ﯬ ) [المطففين:٤-٥] أي: ألا يعتقد أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم.

وقوله تعالى: ( ) [الحاقة:٢٠] أي: علمت أني ملاقٍ حسابيه، وملاقاة الخاشعين لربهم معناها الحشر إليه بعد الموت، ومجازاتهم على ما قدموا من عمل102.

قال ابن جرير -مرجحًا أن المراد بالظن هنا العلم واليقين-: إن قال لنا قائل: وكيف أخبر الله تعالى عمن قد وصفه بالخشوع له بالطاعة أنه يظن أنه ملاقيه، والظن شك، والشاك في لقاء الله كافر؟

قيل له: إن العرب قد تسمى اليقين ظنًّا: والشك ظنًّا نظير تسميتهم الظلمة سدفة. والضياء سدفة، والمغيث صارخا، والمستغيث صارخا، وما أشبه ذلك من الأسماء التي يسمى بها الشيء وضده103.

ثانيًا: المسارعة في الخيرات:

الخاشعون الذين يخافون ربهم، ويخضعون له ويتذللون بين يديه في طاعتهم له، الذين من صفاتهم أنهم يوقنون بلقاء ربهم، وأنهم لا بد واقفون بين يديه للحساب، لذا فهم يسارعون في التقرب إلى الله بالطاعات، يرجون رحمته ويطمعون في نعيمه ويخافون عذابه، وقد تفهم المسارعة في الخيرات، وخوف العذاب.

لكن الرجاء ربما يلتبس على البعض، فأي رجاء هو؟ وهل له أصل في كتاب ربنا تبارك وتعالى؟ وما صلة ذلك بموضوعنا؟

هذا ما نتعرف عليه في السطور التالية إن شاء الله:

ورد في القرآن الكريم أكثر من آية تبين أن الخاشعين من صفاتهم أنهم يرجون نعيم الله عز وجل ويخافون عذابه، فحينما يتذللون يدعون ربهم خوفًا وطمعًا، رغبًا ورهبًا.

قال تعالى: ( ﯜﯝ ) [الأنبياء ٨٩-٩٠].

وقد ذكر ابن كثير أقوال المفسرين الأوائل فيها مما يوضح أن الخشوع هنا سببه الخوف والرجاء في آن واحد فيقول: ( ) أي: في عمل القربات وفعل الطاعات ( ) قال الثوري: رغبًا فيما عندنا ورهبًا مما عندنا ( ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، أي: مصدقين بما أنزل الله،... وقال أبو العالية: خائفين. وقال أبو سنان: الخشوع هو الخوف اللازم للقلب لا يفارقه أبدًا، وقريبًا منه مانقله عن الحسن وقتادة والضحاك: () أي: متذللين لله عز وجل 104.

إذن فمن يخشع لربه عز وجل في الدنيا يخشع وهو متلبس بالخوف من عذاب ربه، طامعًا في رحمته وجنته، فمن صفاته أنه في حله وترحاله على حالة من الحالتين الخوف أو الرجاء.

وينبغي للعبد المسلم أن يجمع بين الخوف من الله عز وجل والرجاء في رحمته ونعيمه، وأن يكونا عند المسلم على درجة واحدة، فلا يغلب أحدهما على الآخر، قال أبو علي الروزباري: الخوف والرجاء كجناحي الطائر إذا استويا استوى الطير وتم طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص وإذا ذهبا صار الطائر في حد الموت105.

والجمع بين الخوف والرجاء كما ذكرنا آنفًا من صفات الخاشعين، وقد ورد في القرآن الكريم الكثير من الآيات التي تجمع بينهما، أو ما يبعث على أن يكون الإنسان بين الخوف والرجاء، فقال تعالى: ( ) [الأعراف:٥٦].

قال القرطبي: ( ) أمر بأن يكون الإنسان في حالة ترقب وتخوف وتأميل لله عز وجل حتى يكون الرجاء والخوف للإنسان كالجناحين للطائر، يحملانه في طريق استقامته، وإن انفرد أحدهما هلك الإنسان106.

وقال تعالى: ( ﯿ ) [الحجر:٤٩-٥٠].

قال الشوكاني: ثم إنه سبحانه لما أمر رسوله بأن يخبر عباده بهذه البشارة العظيمة أمره بأن يذكر لهم شيئًا مما يتضمن التخويف والتحذير حتى يجتمع الرجاء والخوف ويتقابل التبشير والتحذير ليكونوا راجين خائفين فقال: ( ﯿ)، أي: الكثير الإيلام، وعندما جمع الله لعباده بين هذين الأمرين من التبشير والتحذير صاروا في حالة وسطًا بين اليأس والرجاء، وخير الأمور أوساطها، وهي القيام على قدمي الرجاء والخوف وبين حالتي الأنس والهيبة. وقال تعالى: ( ﭴﭵ ﭹﭺ ) [غافر:٣]107.

ويبين الله لنا في هذه الآية الكريمة أنه مع مغفرته للذنوب لمن تاب ورجع إليه، فإنه شديد العقاب لمن تكبر وطغى.

قال ابن كثير: وقوله عز وجل: ( ) أي: يغفر ما سلف من الذنب، ويقبل التوبة في المستقبل لمن تاب إليه وخضع لديه، وقوله جل وعلا: ( ) أي: لمن تمرد وطغى وآثر الحياة الدنيا وعتا عن أوامر الله تعالى وبغى، وهذه كقوله: ( ﯿ ) يقرن هذين الوصفين كثيرًا في مواضع متعددة من القرآن ليبقى العبد بين الرجاء والخوف108.

وقال ابن عاشور: وتقديم: ()، على: قابل التوب، مع أنه مرتب عليه في الحصول؛ للاهتمام بتعجيل الإعلام به لمن استعد لتدارك أمره فوصف: ( )، تعريض بالترغيب وصفتا: ( )، تعريض بالترهيب، والتوب: مصدر تاب والتوب بالمثناة والثوب بالمثلثة والأوب كلها بمعنى الرجوع، أي: الرجوع إلى أمر الله وامتثاله بعد الابتعاد عنه109.

ويضم ربنا تبارك وتعالى الخاشعين والخاشعات مع المسلمين والمؤمنين والقانتين والصابرين والمتصدقين والصائمين والحافظين فروجهم والذاكرين له كثيرًا، ويؤكد لنا أن هؤلاء جميعًا أعد لهم مسبقًا مغفرة وأجرًا عظيمًا فقال: ( ) [الأحزاب:٣٥].

الخشوع: السكون والطمأنينة، والتؤدة والوقار، والتواضع، والحامل عليه الخوف من الله تعالى ومراقبته، كما في الحديث (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) 110.

ثالثًا: الاستعانة بالصبر والصلاة:

من صفات الخاشعين لله عز وجل استعانتهم بالصبر والصلاة بعد استعانتهم بالله، فالصبر يجعلهم يتحملون المشقات في فعل الطاعات، والمكاره في البعد عن السيئات، والصلاة تصلهم بخالقهم، فيتحركون ويسكنون مستشعرين مراقبة ربهم لهم.

وبَيَّنَ القرآن الكريم في سورة البقرة أن الاستعانة بالصبر والصلاة شاقة ثقيلة إلا على الخاشعين، فالخاشعون من أوصافهم أنهم يستعينون بالصبر والصلاة.

قال تعالى: ( ﯓﯔ ) [البقرة:٤٥].

والضمير في قوله: ( ) عائد إلى الصلاة، أي: مشقة ثقيلة إلا على الخاشعين. قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني: المصدقين بما أنزل الله. وقال مجاهد: المؤمنين حقًّا. وقال أبو العالية: ( ) الخائفين. وقال الضحاك: ( ) قال: إنها لثقيلة إلا على الخاضعين لطاعته الخائفين سطوته المصدقين بوعده ووعيده111.

والمراد بالخاشع هنا: الذي ذلل نفسه وكسر سورتها، وعودها أن تطمئن إلى أمر الله، وتطلب حسن العواقب، وأن لا تغتر بما تزينه الشهوة الحاضرة.

فهذا الذي كانت تلك صفته قد استعدت نفسه لقبول الخير. وكأن المراد بالخاشعين هنا: الخائفون الناظرون في العواقب فتخف عليهم الاستعانة بالصبر والصلاة مع ما في الصبر من القمع للنفس وما في الصلاة من التزام أوقات معينة وطهارة في أوقات قد يكون للعبد فيها اشتغال بما يهوى أو بما يحصّل منه مالًا أو لذة112.

والخشوع يجعل الإنسان يستحضر عظمة الله، ويعرف ضآلة قيمته أمام الحق سبحانه ومدى عجزه أمام خالق هذا الكون. ويعلم أن كل ما عنده يمكن أن يذهب به الله تعالى في لحظة، ذلك أننا نعيش في عالم الأغيار. ولذلك فنخضع للذي لا يتغير113.

قال السيد طنطاوي: واستعينوا على ترك ما تحبون من شهوات الدنيا، والدخول فيما تستثقله نفوسكم من قبول الإسلام، والتقيد بتكاليفه بفضيلة الصبر التي تحجز أنفسكم من غشيان الموبقات، وبفريضة الصلاة التي تنهاكم عن الفحشاء والمنكر114.

والظاهر أن الآية وإن كانت خطابًا في سياق إنذار بني إسرائيل، فإنهم لم يقصدوا على سبيل التخصيص، وإنما هي عامة لهم ولغيرهم، والله أعلم115.

قال الشعراوي: فإن المسألة ليست بخصوصية الموضوع ولكن بعموم السبب، فإنها موجهة للجميع، فكل مؤمن يدخل منهج الإيمان محتاج إلى الاستعانة بالصبر ليحمل نفسه على مشقة المنهج وتكاليفه، وليمنع نفسه عن الشهوات التي حرمها الله سبحانه وتعالى116.

ومما يؤيد عمومية الخطاب في الآية السابقة؛ خطابه للمؤمنين جميعًا في قوله تعالى: ( ﯵﯶ ) [البقرة:١٥٣].

فمن يدقق النظر في الأمر الأول في الآية يجد أن أصل التدين والإيمان راجع إلى الصبر؛ لأن فيه مخالفة النفس هواها ومألوفها في التصديق بما هو غيب عما يشاهده ويحسه، وفيه طاعة خالق لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار؛ فإذا صار الصبر خلقًا وسجية للمسلم هانت عليه الصعاب والمشقات؛ لأنه خاضع للحق، قابل له بسعة صدر.

والأمر الثاني في الآية هو الاستعانة بالصلاة،وهذا الطلب يعلمنا فيه ربنا تبارك وتعالى كيفية الشكر له على نعمه وآلائه، يعلمنا فيه كذلك الطريق الميسرة للخضوع الحقيقي لأوامره ونواهيه.

وفي الاستعانة بالصلاة أيضًا تعويد للنفس على الصبر من أكثر من جهة:
ففيها أولًا مخالفة الحال التي اعتادها المسلم، وفيها ثانيًا تجلية الأحزان وكشف الكربات؛ وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه (كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة)117.

وفي الصلاة أكبر عون، بعد الله على الثبات في الأمر، والعزيمة في الرشد. فأمرنا الله سبحانه إذا نزلت بنا بعض النوازل أن نفزع إلى الصبر والصلاة،إذ بهما العون والثبات وتفريج الهموم والراحة القلبية والنفسية.

وإذا كان المراد بالكبيرة هنا الصعبة التي تشق على النفوس؛ وإطلاق «الكبر» على الأمر الصعب والشاق أمر معهود في كلام العرب؛ لأن المشقة من لوازم الأمر الكبير، وقوله تعالى: ( ) الخاشع هنا هو من ذلل نفسه وضبط شهوتها بضوابط الشرع الحنيف، فتصبح النفس حينئذ مطاوعة لأمر الله،راغبة في أمره وراهبة من نهيه.

إذن فالقرآن الكريم يؤكد على الدور الكبير للخشوع في المحافظة على الصلاة، لأن كثيرًا من المسلمين لا يلتزمون بالصلاة على الرغم من محاولاتهم المتكررة إلا أنهم يفشلون في المحافظة عليها لأنهم فقدوا الخشوع، ولذلك يقول تعالى: ( ﯓﯔ ) [البقرة:٤٥].

وهكذا يتبين الدور الكبير للخشوع في الصلاة، ولذلك ربط القرآن بين الصلاة والخشوع، والعجيب أن القرآن في هذه الآية ربط بين الصبر والخشوع، وقد وجد العلماء بالفعل أن التأمل يزيد من قدرة الإنسان على التحمل والصبر ومواجهة الظروف الصعبة!118.

فخلاصة المقصود: أن الاستعانة بالصبر والصلاة ليس بالأمر اليسير على نفس كل إنسان، بل هو خاص بنفس المسلم الذي يعود نفسه الخشوع والخضوع لطاعة ربه، ويعودها الصدق بوعده، والخوف من وعيده، ويجد ويجتهد للعمل بذلك.

وصفات الخاشعين كما أوردها القرآن الكريم تتلخص في يقينهم بلقاء ربهم تبارك وتعالى واجتهادهم بتذلل أنفسهم في طاعته ومرضاته خوفًا ورهبة منه، كذلك يعرفون برجائهم لما عند ربهم من نعيم في الآخرة ويدركون يقينًا أنهم إن خشعوا لربهم وتفانوا في طاعته لن يحرمهم هذا النعيم بفضله ومنه، فيتفانوا في التذلل له سبحانه عسى أن يتقبلهم ويمن عليهم، وهذا كله لديهم يترجم إلى عمل؛ فيستعينون بالله عز وجل ثم بصبرهم على التفاني في الطاعة، وتجنب المعصية، وكذلك بالصلاة التي تصلهم بخالقهم، خاشعين متذللين أيضًا في أدائها.

فمن يريد أن يكون من جملة هؤلاء فعليه أن يتحلى بصفاتهم هذه، وأن يجتهد في تشبهه بهم ويجاهد نفسه في كل أحواله.

آثار الخشوع وثواب الخاشعين

الخشوع له أثر كبير في حياة المسلم إذ إنه يعوده الاستسلام لله تعالى بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة والخلوص له من الشرك.

فالخاشع حينما يخشع لا يعبد إلا الله تعالى وحده لا شريك له، ولا يرجو سواه ولا يخاف إلا منه، ولا يخضع إلا له، لأنه يدرك من خلال خشوعه أنه لا نافع إلا هو عز وجل، ولا ضار إلا هو وحده، فلا يتعلق بولي كائنًا من كان، ليجلب له نفعًا أو يدفع عنه ضرًّا فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى وحده.

ولو لم يكن للخشوع أثر إلا الانكسار لله والتذلل بين يدي الله، لكفى بذلك فضلًا، وذلك لأن الله عز وجل إنما خلقنا للعبادة ( ) [الذاريات:٥٦].

وأفضل عبادة تلك التي تزين بالذل والانكسار للمعبود سبحانه ولا يتحقق ذلك إلا بالخشوع، ولم لا؟ وقد امتدح الله عز وجل الخاشعين في آيات كثيرة.

قال تعالى: ( ) [الإسراء:١٠٩].

وقال سبحانه: ( ) [البقرة:٤٥].

وجعل سبحانه وتعالى الخشوع من صفة أهل الفلاح من المؤمنين فقال: ( ) [المؤمنون:١-٢].

وقال ( ﯭﯮ ) [الأنبياء:٩٠].

ولما كان الخشوع صفه يمتدح الله بها عباده المؤمنين، دل على فضله ومكانته عندالله، ودل على حب الله لأهل الخشوع والخضوع؛ لأن الله سبحانه لا يمدح أحدًا بشيء إلا وهو يحبه، ويحب من يتعبده به.

وآثار الخشوع كثيرة، نسلط الضوء على أبرزها فيما يلي:

١. الخشوع يوصل إلى الفوز والفلاح.

فأهل الخشوع هم أهل الفلاح والفوز في الدنيا والآخرة.

قال الله تعالى: ( ) [المؤمنون:١-٢].

فالخشوع في الصلاة من أسباب فلاح أهل الإيمان، الذين هم في صلاتهم إذا قاموا فيها خاشعون، وخشوعهم فيها تذللهم لله فيها بطاعته وقيامهم فيها بما أمرهم بالقيام به119.

والسؤال: هل الخشوع هو الذي يجعل المسلم يقوم بالأعمال خير قيام، لكي يصل إلى الفوز والفلاح أم العكس إتقان العمل هو الباعث على الخشوع أم أن ذلك من الأمور المستديرة؟

ولمناقشة هذا الموضوع نستحضر آيتي المؤمنون والإسراء: ( ) [المؤمنون:١-٢].

ونستحضر كذلك ما ذكره بعض المفسرين فيهما، قال ابن عاشور: ولا شك أن الخشوع لله، يقتضي التقوى فهو سبب فلاح، وذكر مع الصلاة؛ لأن الصلاة أولى الحالات بإثارة الخشوع وقوّته، ولذلك قدمت، ولأنه بالصلاة أعلق، فإن الصلاة خشوع لله تعالى وخضوع له، ولأن الخشوع لما كان لله تعالى كان أولى الأحوال به حال الصلاة؛ لأن المصلي يناجي ربه فيشعر نفسه أنه بين يدي ربه فيخشع له 120.

قال تعالى: ( ﭹﭺ ﭿ ﮂﮃ ) [الإسراء:١٠٧-١٠٩].

وفي تناول ابن عاشور لهذه الآية ما يقربنا من الإجابة أكثر فيقول: وذكر الذقن للدلالة على تمكينهم الوجوه كلها من الأرض من قوة الرغبة في السجود لما فيه من استحضار الخضوع لله تعالى، وإنما خروا خرورًا واحدًا ساجدين باكين، فذكر مرتين اهتمامًا بما صحبه من علامات الخشوع، والبكاء بكاء فرح وبهجة، والبكاء: يحصل من انفعال باطني ناشئ عن حزن أو عن خوف أو عن شوق، ويزيدهم القرآن خشوعًا على خشوعهم الذي كان لهم من سماع كتابهم121.

ومن هنا نستطيع القول: إن المسلم وهو يتلو القرآن أو حينما يكون في صلاته، أو في دعائه، أو على أي حال من أحوال الطاعة يعتريه الخوف فيعظم ربه سبحانه وتعالى فيتملكه الانفعال فيخشع لربه عز وجل، وهذا الخشوع يدفعه إلى إتقان صلاته، أو إتقان طاعته، ثم هذا الإتقان يزيده خشوعًا، فانفعاله وتأثره الأول الذي أوصله إلى الخشوع، وهذا الخشوع اقتضى التحسين للعمل وإتقانه وتقوى الله فيه، حينها يشعر المصلي أو الطائع أنه يناجي ربه فيشعر نفسه أنه بين يديه فيخشع له، فيكون الخشوع وإتقان العمل من الأمور المستديرة. والله أعلم.

٢. الخشوع يوصل إلى اليقين بلقاء الله.

الثاني من آثار الخشوع أنه يوصل لليقين بلقاء الله عز وجل، وهذا الأثر في حقيقته يحمل ضمنًا أكثر من أثر؛ فهو موصل للإيمان بالغيب، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالجنة والنار والثواب والعقاب، وكل مافي اليوم الآخر، وفي هذا الأثر نقرأ قول الله تعالى: ( ﯚﯛ ) [البقرة:٤٥-٤٦].

وقوله تعالى: ( ) أي: يعلمون أنهم محشورون إليه يوم القيامة معروضون عليه، وأنهم إليه راجعون، أي: أمورهم راجعة إلى مشيئته يحكم فيها ما يشاء بعدله، فلهذا لما أيقنوا بالمعاد والجزاء سهل عليهم فعل الطاعات وترك المنكرات122.

وسبق أن ذكرنا أن الظن هنا الاعتقاد الجازم، وأن إطلاق الظن في كلام العرب على معنى اليقين كثير جدًّا.

٣. الخشوع يوصل إلى مغفرة الذنوب وحصول الأجر منه.

ولو لم يكن للخشوع أثر إلا هذا الأثر، وهو أنه يوصل لمغفرة الذنوب، وحصول الأجر لكفى؛ لأن غاية ما ترجوه نفس المسلم وتطلبه هو مغفرة الذنوب، فيا له من أثر عظيم في تحصيله.

قال تعالى: ( ) [آل عمران:١٩٩].

وفي سورة الأحزاب يمتدح الله عز وجل فيه الخاشعين والخاشعات، ويبين ثوابهم، وما أعد لهم في الآخرة من الأجر العظيم في قوله تعالى: ( ) [الأحزاب:٣٥].

فالأجر العظيم حاصل لهم بما يقومون به من أعمال صالحات والتي من أهمها الخشوع.

وفي الصحيح عن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من توضّأ نحو وضوئي هذا، ثمّ صلّى ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه غفر له ما تقدّم من ذنبه) 123.

٤. الخشوع سبب لاستجابة الدعاء.

من آثار الخشوع أنه يكون سببًا لاستجابة الدعاء، وآيات سورة الأنبياء توضح ذلك فتقول: ( ﯜﯝ ) [الأنبياء:٨٩-٩٠]

٥. الخشوع يعرف المسلم بربه ويجعله مستقيمًا على أمره.

الخشوع يعرف المسلم بربه إلى أقصى ما يمكن أن تتحمله قدراته العقلية، ويصل به إلى أقرب ما يمكن أن يكون عليه بشر بعد الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه؛ لأن العبد الذي ديدنه كذلك يربط تلك المعرفة بمجريات الحياة، فلا يرى العبد الخاشع إلا حكمة الله وراء أفعاله ومشيئته سبحانه، فينعكس ذلك على تعامله معه حتى يصل إلى درجة الإحسان بأن يعبد الله كأنه يراه، فيناجيه من قريب، ويستشعر قربه منه، وقيوميته عليه، فيأنس به، ويزداد شوقه إليه.

فالخشوع يكشف للعبد حقيقة أصله، ومدى ضعفه وعجزه، وجهله وحجم احتياجاته المطلوبة للاستمرار في الحياة وأنه بالله لا بنفسه، ولو تخلت عنه العناية الإلهية طرفة عين لهلك.

ومع بيان هذه الحقيقة فإنه كذلك يعرفه بطبيعة نفسه المحبة للشهوات، المائلة للفجور والطغيان، الأمارة بالسوء؛ ليشتد حذره منها، فلا ينسب لها فضلًا، بل يجاهدها، ويروضها على الصدق والإخلاص.

فإذا ما ربط العبد بين هذه المعارف وبين ما يحدث له في حياته، تأكدت لديه حقيقة نفسه، وعاش عبدًا ذليلًا منكسرًا لله متحررًا مما سواه.

فهو يجنب صاحبه العجب والكبر والغرور، ويذكره بالنماذج التي استسلمت لهذه الأمراض فأهلكتها، كإبليس وقارون وفرعون وهامان وصاحب الجنتين.

فالخاشع يدرك تقديم خشوعه لوصفات العلاج لأهل الكبر والغرور والإعجاب بالنفس.

فالدور الهام للخشوع يتمثل في تأثيره على مشاعر صاحبه، وكسره لسورة نفسه وشهواتها، مما يزيد لديها منسوب الإيمان والخضوع والتذلل، وتوجيه الفكر والقلب إلى الحياة الأبدية، والثقة بموعود الله عز وجل، فالنفس التي تصل إلى هذا الحد تتذلل لربها طمعًا فيما عنده، فتتولد لديها الطاقة التي تدفعها إلى مسارعة التقرب، وزيادة الطاعة، وكثرة الذكر والشكر.

قال تعالى: ( ﭹﭺ ﭿ ﮂﮃ ) [الإسراء:١٠٧-١٠٩].

من هنا تتضح لنا أهمية الخشوع في استقامة العبد على أمر الله، وتجلببه الدائم بجلباب العبودية لمولاه.

فالخشوع باعث على خشية الله والفزع إلى ذكره، وهذا أثر إيماني مهم؛ لأنه يبعث على استقامة العبد في كل أموره وتصرفاته.

قال سبحانه: ( ﭿ ) [الزمر:٢٣].

٦. الخشوع من أسباب دخول الجنة.

والخشوع والسكينة والتذلل بين يدي الرب تبارك وتعالى من أسباب دخول الجنة، ففي الصحيح من أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله... وذكر منهم: (ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه)124.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (عينان لا تسمهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)125.

أضف إلى ذلك أن الخشوع له فوئد وثمار أخرى في الدنيا والآخرة، منها:


1 مقاييس اللغة، ابن فارس، ٢/١٨٢.

2 لسان العرب، ابن منظور ٨/٧١.

3 المفردات، الراغب الأصفهاني، ص ٢٨٣.

4 مدارج السالكين، ابن القيم ، ١/ ٥٢٠

5 التعريفات، الجرجاني، ص١٣٢.

6 مدارج السالكين، ١/ ٥٢١.

7 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، رقم ٥٢، ومسلم في صحيحه، كتاب المساقاة والمزارعة، عن النعمان بن بشير، رقم ١٥٩٩.

8 الخشوع، ابن رجب ص١٧.

9 تيسير اللطيف المنان، ص ٣٦١ -٣٦٢.

10 انظر: فتح الباري ٣/ ١٠١.

11 الوسيط، محمد سيد طنطاوي١٠/١٢

12 المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي ص٢٣٣.

13 انظر: نزهة الأعين، ابن الجوزي ص ٢٧٦- ٢٧٧، الوجوه والنظائر، الدامغاني ص ٢٠٦-٢٠٧.

14 لسان العرب، ابن منظور ٨/٧٣.

15 المصدر السابق ٢٥/١٢٦.

16 تهذيب اللغة، الأزهري ١/٢٩٨.

17 المفردات ص ٤١١.

18 المصدر السابق ص ٢٤٣.

19 الذريعة إلى مكارم الشريعة، الراغب الأصفهاني ص ٢٣٤.

20 انظر: المصدر السابق، بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي ٥/١٦٥.

21 تيسير اللطيف المنان ٢/٣٦٢.

22 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، سورة لقمان، باب قوله: (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ)، رقم ٤٤٩٩، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان، رقم ٩-١٠.

23 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١/٤٨٠.

24 المصدر السابق ١٥/٢٣٣.

25 المصدر السابق ١٨/٩.

26 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٥/٣٧٠.

27 المصدر السابق ٦/٤١٩.

28 المصدر السابق ٥/١٢٨.

29 التحرير والتنوير ١٥/٢٣٣.

30 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير٨/١٩.

31 انظر: التوابين، ابن قدامة المقدسي ١/٢٠٧.

32 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٨/٧٨.

33 فتح القدير، الشوكاني ٥/٢٤٦.

34 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٧/٢١٤.

35 التحرير والتنوير٢٥/١٢٦.

36 المصدر السابق ٢٧/١٧٧.

37 فتح القدير ٥/٣٥٤.

38 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير٨/٣١٢.

39 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، رقم ٧٧١.

40 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير٨/١٩٨.

41 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير٥/٤٥٩.

42 أضواء البيان ٥/ ٣٠٥.

43 التحرير والتنوير ١٨/٩.

44 الوسيط، طنطاوي ١٠/١٢.

45 المصدر السابق١٠/١٢.

46 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، ١/٣٥٠، رقم ٤٨٢.

47 مجموع فتاوى ابن تيمية ٧/ ٢٩.

48 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي١٢/ ٣٠٣، الوسيط ١٠/١٢.

49 فتح الباري ٢/٢٢٦.

وفي أدلة من قالوا: إن الخشوع سنة وليس بواجب. انظر مدارج السالكين ١/ ٥٢٠-٥٢٢.

50 المقدمة الحضرمية ١/ ٧٤ .

51 المجموع، النووي ٤ /١١٤.

52 مفاتيح الغيب، الرازي ٣٣/٢٦٠.

53 مجموع فتاوى ابن تيمية ٧/٣١.

54 أخرجه أحمد في مسنده، ٣١/١٧٩، رقم ١٨٨٩٤، وأبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب ما جاء في نقصان الصلاة، ١/٢١١، رقم ٦٧٦، عن عمار بن ياسر.

وحسنه الألباني في صحيح الجامع، ١/٣٣٥، رقم ١٦٢٣.

55 مدارج الساكين ١/ ٥٢٠-٥٢٢.

56 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٥/٤٥٩.

57 الكشاف، الزمخشري ٣/١٧٥.

58 مدارج السالكين ١/ ٥٢١.

59 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٨/١٩.

60 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٧/٣٩٠.

61 تفسير المنار، محمد عبده، ١/ ٢٥٠.

62 زهرة التفاسير ١/ ٢٢١.

63 في ظلال القرآن، سيد قطب، ٣/١٨٥.

64 التفسير الواضح، محمد حجازى، ٣/٢٦٦.

65 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٥/٣١٦.

66 فتح القدير، الشوكاني ٣/٤٥٧.

67 المصدر السابق ٤/٦٢٣.

68 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٥/١٢٦.

69 المصدر السابق ٢٧/١٧٧.

70 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٨/١٩٨.

71 المصدر السابق ٨/٢٢٨.

72 التحرير والتنوير ٣٠/٢٩٥.

73 الوسيط، طنطاوي ١٠/١٢.

74 فتح القدير، الشوكاني٣/٥٠٢.

75 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٥/٣٧٠.

76 المصدر السابق ٥/٤٥٩.

77 المصدر السابق ٨/١٩.

78 مدارج السالكين ١/ ٥٢١.

79 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، رقم ٥٢، ومسلم في صحيحه، كتاب المساقاة والمزارعة، رقم ١٥٩٩.

80 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، رقم ٧٧١.

81 الكبائر، الذهبي ص ٥٣.

82 فتح القدير ١/٩٣.

83 أخرجه عبدالرزاق الصنعاني في مصنفه، ٢/ ٢٦٦، رقم ٣٣٠٨، وابن أبي شيبة في مصنفه، ٢/ ٨٦ ، رقم ٦٧٨٧.

84 مدارج السالكين ١/ ٥٢١.

85 انظر: فتح القدير، الشوكاني ٣/ ٦٧٨.

86 فتح الباري، ابن رجب ٥/ ١٧٩.

87 سبق تخريجه قريبًا.

88 أخرجه الحاكم في المستدرك، ٢/٤٢٦، رقم٣٤٨٢.

قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد.

ولم يتعقبه الذهبي.

89 طاقة الخشوع، عبد الدايم الكحيل، في موقع الكحيل للإعجاز العلمي.

90 البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي،٩/٣١.

91 المصدر السابق ٣/٦٩٥.

92 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٥/١٢٨.

93 المصدر السابق ٨/٣٨٤.

94 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٥/٤٥٩.

95 الوسيط، طنطاوي ١٠/١٢.

96 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٨/١٩٨.

97 الوسيط ٩/١٥٣.

98 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٧/١٨٣.

99 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٨/٧٨.

100 مدارج السالكين ٢/٣٩٧.

101 في ظلال القرآن، سيد قطب ١/٨١.

102 الوسيط ١/١١٣.

103 جامع البيان ١/٢٦٢.

104 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٥/٣٧٠.

105 انظر: مدارج السالكين، ابن القيم ٢/ ٣٦.

106 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٧/ ٢٠٣.

107 فتح القدير ٣/ ١٩٢.

108 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٤/ ٩٠.

109 التحرير والتنوير، ٢٤/٨٠.

110 سبق تخريجه.

111 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ١/٢٥٣.

112 التحرير والتنوير، ابن عاشور، ١/٤٨٠.

113 تفسير الشعراوي ١/٨٥.

114 الوسيط ١/١١٣.

115 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ١/٢٥٣.

116 تفسير الشعراوي ١/٨٤.

117 أخرجه أحمد في مسنده، ٣٨/٣٣٠، رقم ٢٣٢٩٩، وأبو داود في سننه، أبواب قيام الليل، باب وقت قيام النبي صلى الله عليه وسلم من الليل، ٢/٣٥، رقم ١٣١٩.

وحسنه الألباني في صحيح الجامع، ٢/٨٥٨، رقم ٤٧٠٣.

118 طاقة الخشوع، عبد الدايم الكحيل، في موقع الكحيل للإعجاز العلمي.

119 جامع البيان، الطبري ٩/ ١٩٦.

120 التحرير والتنوير ١٨/٩.

121 المصدر السابق ١٥/٢٣٣-٢٣٥.

122 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ١/٢٥٣.

123 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الوضوء، باب المضمضة في الوضوء، رقم ١٦٢، ومسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب صفة الوضوء وكماله، رقم ٢٢٦.

124 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجماعة والإمامة، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة، رقم ٦٢٩ ، ومسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة، رقم ١٠٣١.

125 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل الحرس في سبيل اللّه، ٤/١٧٥، رقم ١٦٣٩.

قال الترمذي: حديث حسن غريب

وصححه الألباني في صحيحه الجامع، رقم ٤١١٢.

126 طاقة الخشوع، عبد الدايم الكحيل، في موقع الكحيل للإعجاز العلمي.