عناصر الموضوع

مفهوم الحضارة

الحضارة في الاستعمال القرآني

الألفاظ ذات الصلة

أهمية الحضارة للإنسان

محاور الحضارة في ضوء القرآن

أسس البناء الحضاري في ضوء القرآن

تأملات حضارية في القصص القرآني

الحضارة

مفهوم الحضارة

أولًا: المعنى اللغوي:

أصل مادة (حضر) تدل على إيراد الشّيء، ووروده ومشاهدته. وقد يجيء ما يبعد عن هذا وإن كان الأصل واحدًا1.

والحَضَر: خلاف البدو، والحَضَارة والحِضَارَة: سكون الحَضَر، كالبَداوة والبِداوة2.

والحاضرة: خلاف البادية وهي المدن والقرى والريف؛ سميت بذلك لأنّ أهلها حضروا الأمصار ومساكن الديار التي يكون لهم بها قرار3.

وفي المعجم الوسيط: الحضارة الإقامة في الحضر، والحضارة ضد البداوة وهي مرحلة سامية من مراحل التطور الإنساني ومظاهر الرقي العلمي والفني والأدبي والاجتماعي4.

ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:

هناك تعريفات كثيرة، نذكر منها ما يلي:

عرفها الأستاذ محمد محمد حسين بأنها: كل ما ينشئه الإنسان في كل ما يتصل بمختلف جوانب نشاطه ونواحيه: عقلًا وخلقًا ومادة وروحًا ودينًا ودنيا5، وهذا التعريف تعريف شامل لجوانب الحضارة المادية والروحية وأهدافها الدينية والدنيوية.

وعرفها أبو الأعلى المودودي بأنها: تصور سليم للحياة الدنيا وغايتها في نظام اجتماعي، يقود الإنسان إلى الرقي والإخاء والأمان، ويقول: «هي نظام متكامل يشمل كل ما للإنسان من أفكار وآراء وأخلاق وأعمال في حياته الفردية أو الأسرية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية»6.

والحضارة ليست مجرد تصورات أو مفاهيم ومبادئ وقيم ولكنها أيضًا تطبيق لهذه التصورات والقيم والمبادئ فهي تجمع بين النظرية والتطبيق والتخطيط والتنفيذ بين التصورات وبين الواقع.

والحضارة: عمارة الأرض بمقتضى المنهج الرباني، وعمارة الأرض تحتاج إلى قلوب طاهرة وأياد متوضئة ونفوس عامرة وعقولٍ زاخرة وهمم عالية.

ولا سبيل إلى إصلاح النفوس وعمارة القلوب وتوحيد العقول إلا بالمنهج الرباني الذي شرعه لنا رب العالمين.

وعرف مالك بن نبي الحضارة بأنها: «جملة العوامل المعنوية والمادية التي تتيح لمجتمع ما أن يوفر لكل فرد من أعضائه جميع الضمانات اللازمة لتقدمه»7.

ويعرفها في كتاب آخر بأنها هي: «البحث الفكري والبحث الروحي»8.

والتعريف الأول لمالك بن نبي لم يحدد مصدر هذه العوامل ولا نوعيتها، ولم يحدد نوع هذا التقدم المطلوب، وتعريفه الثاني تعريف غير مطابق للمفهوم الشامل للحضارة فالحضارة كما أسلفنا القول ليست مجرد بحوث ونظريات ولكنها إلى جانب ذلك تطبيق وتنفيذ عملي.

وعرفها الشيخ سعيد حوى رحمه الله: بأنها «اجتماع الثقافة مع المدنية ضمن شروط معينة وظروف معينة»9، فالحضارة شاملة للجانب الثقافي وللجانب المدني، أقول: والثقافة في ذاتها لا تشمل جميع الجوانب الروحية في الإنسان، بل تعد جانبًا منها.

ويعرفها د توفيق السبع: بأنها: «الحصيلة الشّاملة للمدنيّة والثّقافة وهي مجموع الحياة في صورتيها المادّيّة والمعنويّة»10.

ونلاحظ مما سبق: أن بعض العلماء عرف الحضارة تعريفًا عامًّا، والآخرين عرفوها من منظور إسلامي والذي يهمنا في هذا البحث هو تعريف الحضارة الإسلامية؛ لأنها هي موضع بحثنا، وتعريفها: «سعي الإنسان المتواصل إلى تحقيق غايته في هذا الوجود»، هذه الغاية التي تدور حول القيام بواجبات العبودية لله تعالى وعمارة هذا الكون في ضوء التشريعات الإلهية...

فالمعنى الاصطلاحي للحضارة لا يخرج عن معناه اللغوي الذي هو خلاف البداوة، ويتطور مفهومه في العصر الحديث؛ ليشمل مظاهر الرقي العلمي والفني والأدبي والاجتماعي، وهي أمور اقتضتها ظروف الحياة المعاصرة.

الحضارة في الاستعمال القرآني

لم يرد لفظ (الحضارة) في الاستعمال القرآني، ولكن جذر الكلمة وهي مادة (حضر) موجود في القرآن، والذي يعني: الحضور والشهود لمكان أو إنسان أو غيره11.

وصلة هذا المعنى بالحضارة أن الحضارة شاهدة على المنجزات والثمرات الناتجة عن العمل ، والحضور للعقل وللوعي الإنساني وللإبداع واضح فيها.

وأما (الحَضَر) أو (الحَضَارة) فإنها لم ترد في القرآن الكريم، بل وردت كلمة (القرية) مفردة ومجموعة، وكلمة (المدينة)، وأصل المدينة: قرية صغيرة امتد عمرانها حتى صارت مدينة.

وقد جاء لفظ (القرية) في مواضع كثيرة، في سياق الاعتبار والاتعاظ بمصير القرى الهالكة.

وقد ذكر القرآن الكريم كثيرًا من مظاهر الحضارة والرقي، وعوامل ازدهار الحضارات ونهوضها، ونقل لنا صورًا ومشاهد من تلك الحضارات، وكيف مكَّن الله تعالى لأمم بائدة، كما ذكر آفات الحضارات وعوامل سقوطها، وقدم منهجًا راشدًا، وميزانًا دقيقًا لتقييم أي حضارة كانت.

قال سبحانه وتعالى عن سبأ: ( ) [سبأ:١٥].

وقال عز وجل عن عاد: ( ﯩ ﯪ ﯮ ﯯ ) [الشعراء:١٢٨-١٣٠].

وتحدث عن ذي القرنين فقال: ( ) [الكهف:٨٤].

إلى غير ذلك مما اشتمل عليه القصص القرآني، من وصف حال الأمم السابقة، وما مَنَّ الله عليهم به من نعم.

الألفاظ ذات الصلة

القرية:

القرية لغة:

الْقَرْيَةُ: اسم للموضع الذي يجتمع فيه الناس12، وإنما سميت قرية لاجتماع الناس فيها13.

القرية اصطلاحًا:

لا يختلف عن معناها في اللغة، وتطلق على المدينة أيضًا14.

الصلة بين القرية والحضارة:

تدل القرية على اجتماع الناس واستقرارهم في أبنية ومنازل، والاجتماع والاستقرار هما أساس الحضارة، فلا تتحقق الحضارة بدونهما.

المدنية:

المدنية لغة:

مدن بالمكان: أقام به. ومنه سمّيت المدينة، وهي فعيلةٌ، وتجمع على مدائن بالهمز، وتجمع أيضًا على مدنٍ ومدنٍ. (ومدن) مدنًا: إذا (أتاها)15.

المدنية اصطلاحًا:

التطور المادي والتقني والفني وكل ما يتصل برفاه الإنسان وراحته ورقيه من خلال استعماره للطبيعة16.

الصلة بين المدنية والحضارة:

تتحقق المدنية بالرقي المادي فقط، أما الحضارة فتحتاج إلى الرقي المعنوي أيضًا.

كما تقاس درجة المدنية بموضوعات محددة ومحسوسة، أما الحضارة فيتعذر قياسها بسهولة لاشتمالها على قضايا معنوية17.

أهمية الحضارة للإنسان

للحضارة أهميتها البالغة للإنسان، فالإنسان كما قيل مدني بطبعه، يميل إلى العيش في المجتمعات، فإذا تهيَّأت له الأجواء الحضارية، وعاش حياة طيبة آمنة، بذل ما في وسعه للمشاركة في دورة التقدم والنهوض.

والحضارة الإنسانية الرائدة تحقق للإنسان إنسانيته، وتيسر له القيام بدوره المنشود، كما تيسر له غايته الكبرى وهي عبادة الله تعالى، وتعينه على تحقيق حاجياته وتلبية رغباته، وبلوغ طموحاته المشروعة.

فإصلاح الدنيا مما يعين على إصلاح الدين، وسهولة العيش ويسر الحياة، مما يفرغ القلب لعبادة الله وذكره.

قال تعالى: ( ﯤ ﯥ ) [الشرح:٧-٨].

فإن فراغ القلب من الأشغال والهموم أدعى لحضوره وصفائه، وإقباله على مناجاة ربه.

قال ابن كثير رحمه الله : «أي: إذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها وقطعت علائقها فانصب إلى العبادة وقم إليها نشيطاً فارغ البال وأخلص لربك النية والرغبة»18.

محاور الحضارة في ضوء القرآن

لا بدّ لكلّ بناء من محاور أساسية لا يقوم إلا بها، أولها: البنَّاء الذي يبني ويشيد، وثانيها: المنهج الذي يسير عليه أو التصميم الذي ينفّذه، وثالثها: الأرض التي يبني عليها، ورابعها: موادّ البناء الأساسية والمساعدة. والحضارة بناء، له محاوره الرئيسة ودعائمه الأساسية: الإنسان، والكون، والمنهج. الإنسان وهو اللبنة الأساسية والدعامة الرئيسية في البناء الحضاري والمحور الرئيسي لها بما حباه الله من كرامة وما وهبه من ملكات، وما سخّر له من نعمٍ، وما أودعه فيه من طاقات، والكون الذي سخره الله للإنسان بما فيه من كنوزٍ وذخائر وثروات وطاقات، والمنهج الذي يسلكه الإنسان ليبني حضارته ويحميها. والحضارة هي ثمرة التّفاعل بين هذه العناصر الثلاث: الإنسان، والكون، والحياة، وعمر أي بناء يتوقف على متانة أسسه ورسوخ دعائمه، وتماسك لبناته وتناسق أجزائه، فلا تنافر ولا شذوذ. ومن ثم فلزامًا على الإنسان الذي يسعى للنهوض أن يعرف إنسانيته ودوره وعلاقته بالكون والحياة.

أولًا: الإنسان:

من سمات المنهج القرآني في الحديث عن الإنسان: استيعاب حياته وتاريخه: منذ بداية الخليقة حتى نهاية العالم، فلقد جمع لنا القرآن تاريخ الإنسانية منذ آدم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ثم مصير الإنسان ومستقرّه الأخروي، استيعاب الإنسان: روحًا وجسدًا، عقلًا وقلبًا، فكرًا وعاطفة، استيعاب الإنسان: عقيدةً وشريعةً وسلوكًا. استيعاب الإنسان: على اختلاف مشاربه وأفكاره وتصوراته ومعتقداته وأوطانه وأجناسه، استيعاب الإنسان: من جهة مصالحه ومنافعه وهداياته، من جهة طبائعه ونزعاته ودوافعه، فالذي خلق الإنسان هو العليم به.

قال تعالى: ( ﯗﯘ ﯛﯜ ) [النجم: ٣٢].

وقال تعالى: ( ﯤﯥ ) [الإسراء: ٢٥].

وقال تعالى: ( ﭕﭖ ) [الملك: ١٣-١٤].

وقال تعالى: ( ﭣﭤ )[النساء: ٢٨].

وقال تعالى: ( ﯿ ) [الإنسان: ١ - ٥].

لقد صار الإنسان بشرًا سويًّا يفكر ويجادل، يقدّر ويناضل، يبني ويهدم، يعمر ويخرّب، يسبر الأغوار، ويمتطي صهوة البحار، ويغوص في الأعماق، ويحلّق في الأجواء، ويسبح في الفضاء، ويشقّ الجبال، ويقدّ الصخر، ويفلّ الحديد، فهلّا تذكر ماذا كان قبل أن يكون؟ هل استشعر قدره حين كان نطفةً من ماء مهين، ثم انتقل بقدرة الله وتقديره من طورٍ إلى طورٍ حتى استوت خلقته واكتملت صورته؟

لقد نقض القرآن نظرتين زائفتين للإنسان: النظرة الأولى: نظرة الاستعلاء التي تصل به إلى حدّ الغرور والإعجاب وازدراء ما حوله من مخلوقاتٍ مـتكئًا على ما منحه الله من مواهب وما أولاه من نعم. فبيّن له أصله ومادّته لا لازدرائه أو تحقيره ولكن ليعرف قدره وطبيعته، ويبرأ من داء الكبر.

قال تعالى: ( ) [الطارق: ٥ - ٧ ].

وقال تعالى: ( ﮨﮩ ﯟﯠ ﯥﯦ ) [السجدة: ٧-٩].

وقال تعالى: ( )[ القيامة: ٣٦ - ٣٩].

وهذه الآيات تبرز عناية الرحمن بهذا المخلوق ورعايته له.

النظرة الثانية: نظرة المذلّة والهوان والضّعف التي تصل إلى حدّ احتقار الذّات والخنوع لكلّ كائن، والشّعور بالذّنب والخطيئة، ولقد بين القرآن كرامة الإنسان ومكانته وتميزه عن سائر المخلوقات.

قال تعالى: ( )[ التين: ٤ ].

وقال تعالى: ( )[الانفطار: ٦ - ٧].

وقال تعالى: ( )[ الحجر: ٢٨ - ٣٠ ].

وقال تعالى: ( ) [الإسراء: ٧٠ ].

الوعي الإنساني: خلق الله آدم عليه السلام ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته بعد أن علّمه الأسماء كلها ودعاه لدخول الجنة وحذره من أن يقرب شجرة معينة، ثم أغواه الشيطان فأكل منها هو وزوجه حواء، ثم بدت آثار المعصية فتابا إلى الله تعالى، وكان هبوطهما إلى الأرض، كلّ هذا يدل على أن الإنسان الأول خلق سويًّا مكتملًا، وبدأ أول لحظات وجوده مكرَّمًا محفوفًا برعاية الله، عاقلًا واعيًا مكلَّفًا، ودرج في سلَّم العلم والمعرفة، هذه هي النظرة القرآنية للإنسان. أما النظريات الفلسفية المجرّدة من نور الوحي، المبنية على تصورات وتخمينات بشرية فترى الإنسان خلق مهينًا حقيرًا وانتقل من طور إلى طور حتى ارتقى إلى درجة القرود ثم إلى صورته البشرية، واعتمد على نفسه فتخبّط كثيرًا حتى اكتسب المعارف عن طريق المصادفة، وعن طريق الملاحظة والتجربة، وهكذا تحقّر هذه الفلسفات والتصورات الضالة من شأن الإنسان وتتجاهل الوحي والرسالات التي جاءت تعرف بنشأة الإنسان وغاية وجوده وكرامته، واتباعه للهداية الربانية وتوحيده لخالقه حتى انتكست بعض الأجيال ومالت إلى الشرك بوساوس الشيطان وتزيينه.

من شواهد عناية القرآن بالإنسان: ومن شواهد عناية القرآن بالإنسان ورود اسمه في القرآن في ثمانيةٍ وخمسين موضعًا، حيث جاءت كلمة (الإنسان)، وفي ستة مواضع كلمة (الإنس)، وفي سبعة مواضع كلمة (بني آدم)، في حين جاءت كلمة (الناس) في مائة واثنين وثمانين موضعًا وفي هذا دلالةٌ واضحةٌ على عناية القرآن بهذا الكائن.

وحديث القرآن عن الإنسان حديثٌ وافٍ، يشمل جميع مراحل حياته، ويبين له منهجه في الحياة، وعلاقته مع الكون.

مقاصد القرآن في أولى رسائله: تجلّت مقاصد كلام ربّ البرية، مع أول ما نزل على رسول الإنسانية وهو يتعبد في الغار.

قال تعالى: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮋﮌ )[العلق: ١ - ٥].

(ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ): أوّل رسالةٍ قرآنيةٍ يتودد الله فيها لعباده، ويعرّفهم بنفسه، فهو ربّنا ومليكنا، خالقنا ورازقنا، ومدبّر أمورنا، ومصرّف أحوالنا، على وجه العناية والحفظ.

أوّل رسالةٍ قرآنيةٍ تؤذن بأنه دعوةٌ عالميةٌ، تحمل مشاعل النور، وتفتّح روافد الخير، وتفجّر ينابيع الرحمة للإنسانية.

أوّل رسالةٍ قرآنيةٍ تضع اللبنات الأولى في صرح بناء حضارةٍ إنسانيةٍ رائدةٍ راشدة.

أوّل رسالةٍ قرآنيةٍ تضع لنا منهجًا لتلقي العلوم وتأصيلها، وتطبيقها.

(ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) أوّل توجيهٍ إلهيٍّ، أول تكليفٍ ربانيٍّ يحمل دعوةً عامةً إلى القراءة، وحثًّا على العلم؛ فالقراءة وسيلة الوعي والمعرفة، والعلم طريق المجد، ونبراس الرقيّ والحضارة.

(ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) فلتكن القراءة بالله ولله، فمنه تعالى العون والتوفيق، هو غايتنا ورجاؤنا، وسيّدنا ومليكنا؛ فينبغي أن نطلب العلم لله، ونجرّد العمل له وحده، ونبرأ من كلّ حولٍ وطولٍ، إلى حوله وقوته، ونطلب المزيد من العلم منه وحده، فهو معلّمنا وملهمنا.

(ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) والخالق عز وجل قد هيّأنا للقراءة بما أودعه فينا من العقل والفهم والاستيعاب.

ولأنه تعالى هو خالقنا فهو وحده الذي يأمرنا وينهانا، وينظّم دنيانا.

ولأنه تعالى هو خالقنا ومعلّمنا؛ فقد أنزل كتابه يضبط لنا أصول العلوم وقواعدها.

( ): تفصيلٌ بعد إجمالٍ، بيانًا لأصل هذا الإنسان ونشأته، وإشارةً لمادة خلقه، وطورٍ من أطوارها العجيبة، فمعرفة الإنسان بأصله وأطواره مما يضيء له طريقه وينير بصيرته، وإذا كانت علوم البيئة مبنيةً على علاقة الإنسان ووعيه بالكون والكائنات؛ فإن معرفته بذاته هي الركيزة والمنطلق لهذه المعرفة.

( ): التوجيه الأول والثاني في رسالة الإسلام (اقرأ) وما ذاك إلا لأهمية القراءة ودورها الحيوي في حياة هذا الكائن، وللمرة الأولى يعرفنا الله بصفةٍ من صفاته، صفة الكرم، فالله تعالى أكرم من كلّ كريمٍ، ومن العجيب أن يستهلّ بها آخر كتبه، بعد فترةٍ من الرّسل واندراسٍ للكتب، وفي هذا ما فيه من التودّد إلى الإنسان والإقبال عليه، والعناية به، وتقديم البشرى له، وحفزه على العلم والعمل؛ فإنّ الذي يثيبه ويجازيه هو أكرم الأكرمين، فليسارع إلى العلم النافع، وليتنافس في ميادينه؛ لخدمة الإنسانية وراحتها ورفاهيتها، فإنّ الأجر والثواب من أكرم الأكرمين، في الدنيا قد تفوته الجوائز وتحجب عنه المحفّزات، ويحرم من التقدير، أو يعيش مغمورًا، ويموت منسيًّا، ولكن هذا لا يضيره؛ لأنه يرتقب الأجر من أكرم الأكرمين، ممن لا يضيع عنده عمل العاملين، ولا يضيع أجر المحسنين ( ).

( ﮋﮌ) فالعلم منه تعالى وله تعالى، هو تعالى الذي علّم الإنسانية وأرشدها إلى وسائل التعلّم وأدواته، ونزول هذه الآية على النبي الأميّ لتطرق مسامع الأميين وتلفت أنظارهم إلى العلم ووسائله والقراءة وأدواتها، ولقد كان لذلك أثرٌ بالغٌ على أمّة الإجابة، والتي ارتقت إلى صدارة الأمم وتسلّمت دفّة قيادة موكب الإنسانية، وحملت لواء العلم ومشاعل النور، وشيّدت أرقى حضارةٍ عرفتها الإنسانية في مسيرتها.

( ) فالوحي هو المصدر الأول للتعلّم والتلقّي، والأنبياء إلى جانب دعوتهم لإصلاح الدين جاءوا بصلاح الدنيا، ونقلوا للإنسانية كثيرًا من العلوم والمعارف عن طريق الوحي، حتى تميّز الإنسان بالعلم والفهم، والتلقي والتلقين، والتحصيل والاستيعاب، والتجربة والملاحظة، والاستقراء والاستنباط، والتطوير والابتكار، من منطلق الوحي الإلهي.

تلك هي نظرة القرآن للإنسان، وبيانه لمعالم طريقه، وتوضيحه لعلاقته بخالقه جل وعلا، وفي الرسالة الأولى دعوةٌ للإنسانية أن تقرأ وترتقي سلّم العلم وتستضيء بأنواره، أن تقرأ مستعينةً بربها فهو الخالق الرازق المدبر المعلّم، وأن تجعل من العلم هاديًا ودليلًا لتحقيق عبوديتها لخالقها جل وعلا (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ)، فهو تعالى الذي امتنّ على الإنسانية بنعمة الوجود.

ثم يتكرر الأمر بالقراءة فهي مفتاح العلوم وطريق المعرفة وسبيل الهداية ( ) كما تكرر ذكر الربّ جل وعلا مرتين: مرةً في معرض الامتنان على الإنسان بنعمة الوجود، ومرةً في بيان نعمةٍ من أجل النعم، وهي نعمة العلم، غذاء الأرواح، وقوت القلوب، وروح الأمم والشّعوب.

ومن هذه الآيات نخلص إلى ما يلي:

عناية القرآن بالإنسان، فالإنسان هو محور هذا الكتاب العظيم.

أول ما نزل من القرآن دار حول بيان نعمة الله على الإنسان.

أول أمر للإنسان أن يقرأ ويتعلم فالقراءة طريقه للعلم، والعلم سبيل الهداية والرقي.

تكرر الأمر بالقراءة؛ لأهميتها ومزيتها فهي مفتاح العلوم وباب المعارف.

التعبير بصفة الربوبية لبيان عناية الخالق بالإنسان فهو تعالى الذي خلقه ورزقه وعلمه.

كرّم الله الإنسان بالعلم، فينبغي أن يحسن الانتفاع به فهو سبيل النجاة وطريق الفلاح في الدارين.

ثانيًا: الكون:

من دلائل تكريم الله تعالى للإنسان ومن تمام إنعامه عليه: أن جعل الكون كلَّه مسخَّرًا لمنفعته؛ السماء والأرض، والشمس والقمر والنجوم، والليل والنهار، والماء واليابس، والبحار والأنهار، والنبات والحيوان والجماد، كلّها مسخّرةٌ لمصلحة الإنسان، تكريمًا له وتفضّلًا عليه.

قال تعالى: ( ﭦﭧ ) [الحج: ٦٥ ].

وفي سورة لقمان: ( ﭡﭢ ) [ لقمان: ٢٠ ].

وفي سورة الجاثية: ( ﯿ ﰍﰎ ) [الجاثية: ١٢ - ١٣ ].

فالإنسان مع ضعفه وضآلة حجمه: سخّرت له هذه المخلوقات، وتلك العوالم مع عظمها وقوتها وامتدادها إلا أن الله عز وجل طوّعها له وهيّأها لخدمته وانتفاعه رحمةً منه ولطفًا.

لقد سلك بنا القرآن مسلكًا لطيفًا، فأرانا من هذا الكون مشاهد متعددة متنوعة، أوقفنا على عظمة خلقها وتكوينها وعلى نظامها ودقتها وانتقل بنا منها إلى خالقها ومنظمها ومدبّرها وآيات القرآن الكريم تجلّي لنا هذا الكون المشهود، وتبرز روائعه وتصف بدائعه، وتحكي اتساقه وتكشف حقائقه وتبرهن على عظمة خالقه، وعن شمول وعمق تلك النظرة القرآنية يقول د. المبارك رحمه الله: «إن هذه النظرة إلى الكون كما جاء بها القرآن تحتوي على نظرة الماديين إلى الكون، من حيث استخراج السنن والقوانين وارتباط الحوادث بعضها ببعض بروابط مطردة دائمة، ولكنها تزيد عليها، فالماديون يقفون هنا عند هذه المرحلة، والمؤمن بالله يتجاوزها إلى الإيمان بقوة أوجدتها من العدم وبعثت الحياة في أحيائها وقدرت لها نظمها ورسمت لها طريقها ( ) [طه: ٥٠ ].

أما المادي فلا يفكر في البداية ولا في النهاية، بل يبحث فيما بينهما ويشاركه المؤمن على طريقة القرآن في الإيمان بالله وفي نظرته فيما بينهما، ولكنه يتجاوز هذه النظرة ويصعد من الكون إلى خالقه، إن الماديّ ضيق الأفق محدوده، والمؤمن واسع الأفق، لا يقف عند حدوده، والمادي ينظر للكون نظرة جافة جامدة، والمؤمن ينظر إليه من خلال نظرته إلى عظمة الله ورحمته وفضله، فيتصل بالكون والطبيعة اتصالًا ربَّانيًّا يشعر خلاله بنبضة الحياة وخفقة الروح ويستشعر العظمة والرحمة في نظراته، إنه أوسع عقلًا وأيقظ قلبًا وأرهف ضميرًا وحِسًّا»19.

هناك حقائق كبرى يدركها الإنسان حين يتخلّص من قيود العقليّة المادّيّة الضّيّقة ويفتح قلبه وبصيرته لهذا الكون العريض فيتدبّره بنظرةٍ واسعة الأفق، وإيمان بكلّ القوى المذخورة فيه وسيجد حينئذٍ ظواهر عجيبة في حياة الإنسان، لا يمكن تفسيرها إلّا على فرض وجود الرّوح.

إن في الكون حقائق كبرى، لا يمكن للإنسان أن يدركها ومباهج لن يذوق حلاوتها ولن يتنسم عبيرها ما لم يتخلّص من القيود المادية التي أثقلته ويتجرّد من تلك النظرة الضيّقة إلى أن يفتح قلبه وبصيرته لهذا الكون الرحيب فيتأمله بعين بصيرته، ويستكشفه بنور إيمانه حينئذٍ ستنكشف له أسرار وتنجلي أمام ناظريه دقائق ولطائف.

قال تعالى: ( )[ يونس: ٦].

وقال تعالى: ( )[ الأنعام: ٧٥ ].

وقال تعالى: ( ﯜﯝ ) [الأعراف: ١٨٥ ].

إن تقدّم الإنسان وتحضّره مرتبطٌ بنظرته للكون وعلاقته به وعمق معرفته واعتدال سلوكه في هذا الكون، وبقدر معرفته بنواميس هذا الكون وسننه ودقائقه بقدر تقدّمه وتمكّنه وتحقيقه لواجبات الخلافة، لكنّ معرفة الإنسان بالكون لا تتناسب مع طموحاته وآماله، وهناك حجبٌ كثيفة وحواجز تحول دون انطلاق الإنسانية في عالم المعرفة منها بعده عن المنهج الرباني، وتشبّث كثير من البشر بالأساطير والأوهام التي ترسّبت في عقولهم، وانصرافهم عن العلم والمعرفة بإشباع الشهوات وتحقيق المكاسب المادية، «وقد صرح العالم إينشتاين أن كلّ ما جمعه من معلومات عن هذا الكون لم يقدّم له عنه إلا لغزًا مقفلًا يستعصي على الحل»20.

رسالة الإنسان في هذا الكون: خُلِق الإنسان لأسمى غاية وأسنى مقصد وهو إخلاص العبادة لله رب العالمين الذي خلقه ورزقه وأكرمه وفضله على كثير مـن المخلوقات، قال تعالى: ( ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ) [الذاريات: ٥٦ - ٥٨ ].

فمهمة الإنسان وغايته ومحور وجوده هو عبادة الله وحده، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (كنت ردف النّبيّ صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه إلا مؤخرة الرّحل. فقال: (يا معاذ بن جبلٍ) قلت: لبيك رسول اللّه وسعديك ثمّ سار ساعةً، ثمّ قال: (يا معاذ بن جبلٍ) قلت: لبّيك رسول اللّه وسعديك. ثمّ سار ساعةً، ثمّ قال: (يا معاذ!) قلت: لبّيك رسول اللّه وسعديك، قال: (هل تدري ما حقّ الله على العباد؟) قال قلت: الله ورسوله أعلم، قال: (فإنّ حقّ الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا) ثمّ سار ساعةً، ثمّ قال: (يا معاذ بن جبلٍ!) قلت: لبّيك رسول اللّه وسعديك، قال: (هل تدري ما حقّ العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟) قال قلت: الله ورسوله أعلم، قال: (أن لا يعذّبهم)21.

فمهمّة الإنسان: عبادة الله عز وجل، والقيام بحقّ الخلافة في الأرض، بتعميرها وإصلاحها وإقامة موازين العدل وأركان الرحمة في أرجائها، والمحافظة على مواردها وحسن استغلالها، ورعاية البيئة وحمايتها، وهذه المسئولية يتحمّلها كلّ إنسانٍ مكلفٍ.

قال تعالى: ( ﭙﭚ ﭧﭨ ) [البقرة: ٣٠ ].

وقال تعالى: ( ) [الأنعام: ١٦٥].

ومن مقتضيات مهمة الاستخلاف في الأرض: المحافظة على ثرواتها وكنوزها، وخيراتها، والسعي إلى إصلاحها والنهوض بها وبأهلها، وفق منهج الله تعالى، فهو تعالى خالق هذا الكون ومدبِّره. والاستخلاف يعني: أن الإنسان وصيٌّ على هذا الكون لا مالكًا له، إنه مستخلفٌ على إدارته واستثماره وإعماره أمينٌ عليه.

والإنسان موكّلٌ بعمارة الأرض مخوّلٌ بريادتها، فضلًا عن كونه جزءًا من هذه البيئة التي أمر بحمايتها ورعايتها؛ فهو مخلوقٌ من الأرض، قد اشتمل تركيبه على جميع عناصرها، فهو جزءٌ منها وصلاحه مقترنٌ بصلاحها وحاضره ومستقبله مرتهنٌ بحاضرها ومستقبلها، وحين يعي ذلك يسعى إلى التدابير الواقية من المفاسد الناتجة عن الإضرار بها.

قال تعالى: ( ﭴﭵ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ)[طه: ٥٣ - ٥٥ ].

وقال تعالى: ( ﯯﯰ ﯹﯺ ﯿ ) [هود: ٦١ ].

«استخلفكم فيها، وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة، ومكّنكم في الأرض، تبنون، وتغرسون، وتزرعون، وتحرثون ما شئتم، وتنتفعون بمنافعها، وتستغلون مصالحها»22.

إن للإنسان دوره المنشود في هذا الكون فهو قوةٌ إيجابيةٌ، خلقه الله تعالى ليعمّر ويطوّر، وليصلح وينمّي، والله سبحانه في عونه بتسخير كثيرٍ من المخلوقات له ومنحه كنوز هذه الأرض وخيراتها، وهو معانٌ من الله كذلك بما وهبه من القوى والاستعدادات الذاتية.

ورسالة الإنسان في الكون رسالة إصلاح وبهذا أنزل الله الكتب وأرسل الرسل.

قال تعالى: ( ﯔﯕ ﯧﯨ ﯰﯱ ﯷﯸ ﯼﯽ ﯿ ) [هود: ٨٧ - ٨٨ ].

وقال تعالى: ( ﯛﯜ ) [الأعراف: ٥٦].

وقال تعالى: ( ﯿ )[الأعراف: ١٧٠ ].

ولقد دعا الإسلام إلى معرفة قيمة ما حولنا من مخلوقاتٍ والبحث عن دورها وطبيعتها، فكم تعلّم الإنسان من الكائنات من حوله، وكم هداه الله بسببها إلى مخترعاتٍ أفادت الإنسانية، وكم كانت ولا تزال سببًا في هدايته إلى خفايا غابت عنه فلم يصل إليها علمه المحدود.

تأمل في قصة هابيل وأخيه قابيل: كيف كان الغراب معلّمًا للإنسانية - أول دروسٍ في حماية البيئة - كيف تدفن موتاها في أولّ حالة وفاةٍ إنسانية ( ﯵﯶ ﯿ ﰁﰂ ) [المائدة: ٣١ ].

من هنا كانت المخلوقات الأخرى مصدرًا من مصادر المعرفة الإنسانية فضلًا عن أهميتها البيئية، لذلك فإنه من الأخطاء التي نبّه الإسلام عليها محذّرًا من الوقوع فيها أن يحتقر الإنسان بجهلٍ منه بعض المخلوقات، أو يتطاول عليها بلسانه فيسبّها لأذًى أصابه منها، ويغفل عما تحمله من خيرٍ.

ثالثًا: الغاية:

الغاية من الحضارة الإنسانية الرائدة التي يسعى إليها الإسلام تنسجم مع الغاية من وجود الإنسان في هذا الكون، وهي غاية يسعى الإنسان لتحقيقها كفرد، وفي إطار المجتمع الذي يعيش فيه.

ولقد استخلف الله تعالى آدم وذريّته في الأرض، وأعلم بذلك ملائكته الكرام.

قال تعالى: ( ﭙﭚ ﭧﭨ ) [البقرة: ٣٠ ].

فمهمّة الإنسان: عبادة الله عز وجل، والقيام بحقّ الخلافة في الأرض، بتعميرها وإصلاحها وإقامة موازين العدل وأركان الرحمة في أرجائها، والمحافظة على مواردها وحسن استغلالها، ورعاية البيئة وحمايتها. وهذه المسئولية يتحمّلها كلّ إنسانٍ مكلفٍ، ومن مقتضيات مهمة الاستخلاف في الأرض: المحافظة على ثرواتها وكنوزها، وخيراتها، والسعي إلى إصلاحها والنهوض بها وبأهلها، وفق منهج الله تعالى، فهو تعالى خالق هذا الكون ومدبّره.

ورسالة الإنسان هي رسالة الإصلاح والتعمير، ولقد سخّر الله للإنسان كل ما يعينه ويذلل له الصعاب كي يقوم بواجبه ويؤدي رسالته.

ورضا الله عز وجل غاية وجود الإنسان لن يتحقق إلا باتباع منهجه وابتغاء وجهه الكريم في كل عمل يقوم به الإنسان، وهذا يدعوه إلى اختيار الأعمال الصالحة النافعة، وجودة العمل وإتقانه، ومراقبة خالقه جل وعلا، وسعيه إلى إرضائه بإخلاص النية وإتقان العمل.

تلك الغاية الكبرى هي التي توحّد بين المؤمنين وتجمع كلمتهم وتؤلف قلوبهم، بينما لو ترك للإنسان تحديد غايته لوجدنا أنفسنا أمام غايات متباينة وأهواء متفرقة ومصالح متناقضة، تؤدّي إلى التنافر والصّدام بين أفراد المجتمع مما يشيع الفوضى ويعطل الجهود ويبدد الطاقات ويعدد الوجهات، ولا يمكن لغاية ما أن تفرض على المجتمع فرضًا، ويؤطّر الناس عليها أطرًا؛ فإنه إن خنع لذلك فترة من الوقت فسرعان ما ينتفض على قاهريه ويثور على مغتصبي إرادته، كما حدث في الشيوعية التي فرضت أهدافها وأفكارها الخبيثة بالحديد والنيران، وإزهاق الأرواح، وحرب الأديان حتى تهاوت عروشها وخرّت سقوفها على رؤوس سدنتها وحماتها وقادتها، وكفرت بها الشعوب، وهذا هو الفرق بين الغاية في الإسلام والغاية في غيره من الملل والنحل والنظم، الغاية في الإسلام واضحةٌ محددةٌ، غايةٌ صادقةٌ عادلةٌ، غايةٌ تلبي نداء الفطرة الإنسانية وتحقق المصالح العليا للإنسانية، كما أنها تلبي المطالب الفردية العادلة، وتجمع شتات القلوب، وتوثّق عراها، تلك الغاية الأسمى هي التي تحمل المؤمن على الصدق والتجرّد والتفاني والتسامي على أعراض الدنيا. إن توحيد المنهج ينبثق عن توحيد الغاية، وتوحيد الغاية يترتب عليه توحيد الرؤى والتوجّهات والسلوك، ونبل الغاية يفضي إلى نبل الوسائل المحققة لتلك الغاية.

قال تعالى: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ) [الرعد: ٢٢ ].

وقال تعالى: ( ﮟﮠ ﮦﮧ ) [الروم: ٣٨ ].

وقال تعالى: ( ﯘﯙ ) [الروم: ٣٩].

فلا يراد وجه الله تعالى إلا بصالح الأعمال ومحاسن الآداب ومكارم الأخلاق ومحامد الخصال، وبهذا ترقى المجتمعات وتنهض الأمم وتتحد كلمتها حين تسمو غايتها.

ويرشدنا القرآن إلى أن كل الغايات ذاهبة أدراج الرياح، لكنّ غاية واحدة هي الباقية وهي النافعة، حين نقصد وجه الله تعالى.

قال تعالى: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) [الرحمن: ٢٦- ٢٧].

وقال تعالى: ( ﮋﮌ ﮏﮐ ﮔﮕ ﮚﮛ ) [القصص: ٨٨].

إن الصلة وثيقةٌ بين الغاية والمنهج والثمرة؛ فالغاية: وجه الله، والمنهج: التسليم القلبي والإحسان العملي، والثمرة: الأجر العظيم الذي ينتظره من ربه فضلًا عن الأمن والسعادة التي يحظى بها في الدارين.

وقال تعالى: ( ﯺﯻ ﯿ )[الأنعام: ٥٢].

وقال تعالى: ( ﭚﭛ ﭣﭤ )[الكهف: ٢٨].

إن المؤمن يجعل من ابتغائه لمرضاة ربه حافزًا ودافعًا للتسابق إلى الخيرات والتنافس في ميادين البر، مع ضبط عمله وسلوكه بهذه الغاية المنشودة.

قال تعالى: ( ﮧﮨ ) [البقرة: ٢٠٧].

وقال تعالى: ( ﭧﭨ ) [البقرة: ٢٦٥].

وقال تعالى: ( ﭡﭢ ) [النساء: ١١٤].

وقال تعالى: (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ) [آل عمران: ١٦٢].

إن وحدة الغاية تورث انسجامًا تامًّا وتجاوبًا بين طموح الإنسان ورغباته وأفكاره وأحواله، بين عقله وقلبه، بين ضميره ووجدانه، ووحدة الغاية تنتج تجاوبًا وانسجامًا وألفة بين أفراد المجتمع.

ومن أكبر مزايا تلك الغاية أنها إذا تحققت، تحقق بالتبع كل ما للإنسان في هذه الحياة الدنيا من الآمال والأماني، من الناحية الفردية، أو الاجتماعية دون أن يجعلها الإنسان غايات مقصودة لذاتها، والقرآن الكريم في كثير من آياته قد عدد الآمال والأماني، والنعم والمقاصد التي تتحقق بنفسها إذا نال الإنسان مرضاة ربه، إن أكبر ما يتمناه الإنسان ويرغب فيه في حياته الدنيوية هو الأمن والسلام، والسكينة والطمأنينة القلبية.

يقول تعالى: ( ﯿ )[ البقرة: ١١٢].

ولا شك أن وضوح الغاية سبب في وضوح الطريق ودفعةٌ لسلوكه وصولًا لتلك الغاية.

قال تعالى: ( ﮅﮆ ﮋﮌ ) [يوسف: ١٠٨].

إن تلك الغاية الأسمى للحضارة الإنسانية في الإسلام تجعل للحضارة سماتها التي تتميز بها عن غيرها من الحضارات، وإن اشتركت معها في مظاهر كثيرة، لكنها تتميز حين يتعلق الأمر بالعقيدة الإسلامية، والشريعة الربانية، والغاية الكبرى للحضارة، فالإسلام أباح الفنون الجميلة، وحثّ عليها لا لذاتها كما في غالب النظم الأخرى، ولكن لكونها رسالة سامية ترقى بمشاعر الإنسان وتهذب سلوكه مع ما فيها من مسرّة للناظرين، وبهجة للقلوب، ومتعة حلال طيبة، بينما غالبية النظم الأخرى تجعل الفن للفن والأدب للأدب كما يردّدون، ويروّجون، ومن ثمّ فلا رباط للفنون والآداب ولا ضوابط لها، حتى لو انحرفت عن مسارها الإنساني الراقي إلى مسار بهيميٍّ، فانحدرت وتردّت إلى العري والمجون والتبذل والخلاعة، تثير الغرائز، وتؤجّج الشهوات، وتلهب العواطف، وتعصف بالقيم، وتنحدر بالأخلاق، وتفسد الذوق، وتهبط بالروح كما هو الحال في الحضارة الغربية، وكما يروج وكلاؤها ودعاتها المنبهرون بها في بلاد العالم الإسلامي.

رابعًا: المنهج:

إذا اتضحت لنا الغاية من وجود الإنسان، فقد اتضحت لنا ملامح المنهج الرباني الذي يقيم تلك الغاية ويحققها في الواقع، هذا المنهج لا بد وأن يكون قدسيًّا علويًّا حتى يذعن له الإنسان ويقبل عليه، وأن يكون واقعيًّا حقيقيًّا حتى يكون صالحًا للتطبيق في دنيا الناس، لا يجافي الفطرة ولا يصادم العقل، ولا ينازع الوجدان، بل يكون جديرًا للرقي والتقدّم، والسعادة والرفاهية للإنسانية.

لا بدّ لأيّ بناء من مخطّطٍ يقام على أساسه، فالبساتين المورقة، والحدائق المونقة، والبنايات الشّاهقة، والقصور المتألّقة إنّما شيّدت على أسسٍ متينة وأساليب رصينة، والحضارة الإسلاميّة العالميّة تقوم على منهج قويم يرسم خطاها وينير دروبها ويضيء معالمها، ولا بدّ لهذا المنهج أن يتميّز بمزايا عديدة منها الشمول، والثّبات، والصّلاحية لكلّ زمانٍ ومكانٍ، والتّوازن، والوفاء بحاجات البشر، والعمق، والواقعيّة، والقداسة، ولا يمكن للعقول البشريّة مع ما اتّسمت به من القدرة على التّفكير والإبداع، والملاحظة والاستنباط، والتّجديد والابتكار أن تتفتّق عن مثل هذا المنهج الذي تسلم له العقول، وتطمئن به القلوب، وترضى به النّفوس، ويلاءم الفطرة، ويناسب طبيعة الإنسان، ويراعي طاقاته وملكاته، ويحقق المصلحة للجميع.

فالعقول قاصرة لها حدودها، التي لا تتعدّاها، كما أنّها متباينة تباين الثّقافات والبيئات والمشارب والأهواء، متباينة في اجتهاداتها، وتصوّراتها ونظراتها للمصالح وتقييمها للأمور، ومن ثمّ فما تتفتق عنه العقول من مناهج لا يمكن أن تبلغ حدّ الكمال والشمول، ولا يمكن إلا أن تكون متباينةً، لا تجتمع عليها الإنسانية.

ومن ثمّ فلا سبيل للبشريّة كي تنهض وترقى إلى ذرى العلا وقمم المجد إلّا بمنهجٍ ربّانيٍّ.

والقرآن الكريم لا يحتوي على المنهج فحسب بل يربي عليه ويرسّخه في الوجدان ويغرسه في النّفوس التي تزكو لتنشط وتجدّ في حمل هذا المنهج، ويحبّبه إلى القلوب التي تتهيأ وترتقي للتمثّل بهذا المنهج، فالقرآن ليس دستورًا يحكم النّاس وينظّم حياتهم وعلاقاتهم بل زادٌ روحيٌّ، وغذاءٌ ربّانيٌّ، وقبسٌ نورانيٌّ، ودواءٌ ناجحٌ لكلّ الأدواء تزكو به النّفوس، وتطمئن القلوب، وتسمو الأرواح، وتنشرح الصّدور، وتجلو الأفهام، وتتوقّد القرائح، يقدح زناد الفكر، ويوقظ الهمم، ويثير العقول، ويرقّق المشاعر، ويليّن القلوب.

قال تعالى: ( ) [آل عمران: ١٦٤].

وقال تعالى: ( )[ الجمعة: ٢ ].

فمن نعم الله على العباد أن أرسل فيهم رسولًا يبيّن لهم المنهج ويؤصّله، ويقيّمه، وينافح عنه، ويدعو إليه ويتمثّله، ويقيمه مسلكًا وأسلوبًا في الحياة، ويفنّد ما يثار حوله من غبار الشّبهات.

فهذا المنهج يثمر التّزكية والتّعليم، التّزكية للنّفوس والأرواح: الطّهر، والنّقاء، والسّموّ، والارتقاء. والتّعليم للعقول: تنويرها، وتبصيرها، وشحذ طاقاتها، وصقل مواهبها، وتحريرها من قيود الجهل وأغلال التّقليد الأعمى وأسر الأساطير والأوهام، وإطلاق سراحها من حبس الشّهوات والأهواء؛ لتنطلق في ميادين العلوم والمعارف وتقدّم للإنسانيّة خلاصة فكرها، ومبلغ علمها، وعصارة بحثها.

أمّة أمّيّة لا تقرأ ولا تكتب، ولا تحفظ علمًا ولا معرفةً، يأتيهم النّبيّ الأمّي المرسل من عند الله عز وجل بكتابٍ فيه عزّهم ومجدهم، وفيه نجاتهم وعصمتهم، وفيه تهذيب سلوكهم وتقويم اعوجاجهم والارتقاء بهم، بعد أن كانوا في ظلامٍ دامسٍ وتخبّطٍ حائرٍ وجاهليّةٍ جهلاء، وكانت حياتهم قاحلةً مجدبةً كتلك البيئات المقفرة الموحشة التي يكابدون العيش فيها، الغنيّ يأكل عرق الفقير، والقويّ يسطو على الضّعيف، فجاء القرآن ليحيي موات القلوب، ويصلح فسادها، ويجلّي صدأها، ويوقد سراجها، جاء بمنهجٍ وطريقٍ وركائز لبناء أسمى الحضارات وأنقاها، تلك الحضارة الإسلامية الرائدة التي لم تقم على أنقاض حضارةٍ أخرى، ولم تكن وريثةً أو ربيبة لحضارةٍ أخرى، بل قامت على رمال الصّحراء الشّاسعة وأوقدت شعلتها من بين رمادها، وأشرقت شمسها بعد ظلام ليلٍ طويلٍ حالكٍ، لتنثر ضياءها في ربوع الكون، حيث تبدأ البشريّة عهدًا جديدًا في ظلال الإسلام، الذي تولّى قيادة موكب الإنسانيّة قرونًا عديدة.

أسس البناء الحضاري في ضوء القرآن

لا بد لكل بناء من أسس ولا بد لكل أساس من عماد، والحضارة الإسلامية بناء مشيد على أسسٍ محكمة متينة، وأعمدة حصينة وسياج قويّ، فالإيمان والعمل الصالح، وتقوى الله تعالى والسعي لرضوانه، واغتنام الأوقات وتوظيف المال، مع التوكل على الله تعالى والأخذ بالأسباب من أهم عناصر هذا البناء الحضاري، وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تقرّر هذه الأصول، ويكفي أن نتأمل في سورة العصر كيف جمعت هذه الأصول: الوقت، والإنسان، والغاية، والإيمان والعمل الصالح، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، وما يقتضيه ذلك من واجبات، حتى قال الإمام الشافعي رحمه الله: «لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم»23.

قال تعالى: ( ) [العصر: ١-٣].

ولقد بصّرتنا هذه السورة بأساس الحضارة ونبراسها: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والصبر، سعيًا في إصلاح النفس وإصلاح الغير، وطلبًا لإكمال النفس وتكميل الغير.

وفي هذا الفصل نتحدث عن عناصر هذا البناء في ضوء آيات القرآن مع إبراز دورها في قيام الحضارة ونهوضها وحمايتها.

أولًا: الإيمان و العمل الصالح:

الإيمان غراس الحضارة ونبتتها وأصولها، الإيمان شجرة طيبة باسقة، مزهرة مونقة، مثمرة مغدقة، الإيمان روح الحضارة وركيزة الانطلاق إلى التقدم والرّقي، الإيمان إكسير الحياة، وزاد الإنسان، وشعلة الكون، ونفحة الوجود.

قال تعالى: ( ﮞﮟ ﮫﮬ ﮯﮰ ) [البقرة: ٢٨٥ ].

والإيمان هو التصديق بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند ربه، وهو شامل للإيمان بالله تعالى، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، حلوه ومرّه إيمانًا صادقًا واعتقادًا صحيحًا ويقينًا ثابتًا وعملًا صالحًا.

والإيمان هو الزاد والمنطلق، وهو مقياس أي تقدّم ونبراس التحضّر، وهو حصن الأمم وملاذها في السراء والضراء، ليست العبرة بكثرة المخترعات، ولا بوفرة الإنتاج، ولا بالتقدم التقني، فهذه كلها مظاهر مادية لا تكفل للحضارة بقاءها وازدهارها، بل العبرة بالزاد الإيماني الذي يقيم الحضارة، ويحفظها، ويوجهها ويرشّدها، ويعدّ روّادها وصفوتها.

والإيمان نبراس مبين يضيء لصاحبه شتى دروب الحياة.

قال تعالى في سورة الأنعام: ( ﮨﮩ ) [الأنعام: ١٢٢].

قال ابن كثير: «هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن الذي كان ميتًا، أي: في الضلالة هالكًا حائرًا، فأحياه الله، أي: أحيا قلبه بالإيمان، وهداه له ووفقه لاتباع رسله»24.

وقال تعالى: ( ﯤﯥ ) [الأنفال: ٢٤].

فبالإيمان حياة القلوب، ونور البصائر، وجلاء الأفهام، وبه تسمو الأرواح وتتآلف، وتتفتق الأذهان وتتوقد القرائح، وتنشط الجوارح، وتعلو الهمم وتنهض الأمم، فكلما ضعفت إرادة العبد، ووهنت قواه وكلّ جهده في السعي إلى المعالي، أمدّه هذا الإيمان الصادق بالزاد الروحيّ وأذكى في فؤاده روح المثابرة وأشعل في قلبه وقود الانطلاق، وكلما أحاطت به المخاوف كان هذا الإيمان ملاذًا آمنا، وحصنًا حصينًا، يفيء إليه المؤمن، فيطمئن قلبه، وتسكن نفسه، والإيمان سرّ التفوق وإكسير النجاح، بالإيمان يرقى وينهض، فهو زاد القلوب، وضياء العقول، ونور البصائر، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية واصفًا أهل الإيمان: «ينالون في المدة اليسيرة من حقائق العلوم والأعمال أضعاف ما يناله غيرهم في القرون والأجيال»25.

بصرت بالراحة الكبرى فلم أرها

تُـنال إلَّا على جسرٍ من التعب26

وهو السبيل إلى الحياة الآمنة المطمئنة، الراضية المرضية، الطيبة الكريمة، قال تعالى في سورة النحل: ( ﮋﮌ ﮔﮕ ) [النحل: ٩٧].

قال ابن القيم رحمه الله: «فضمن لأهل الإيمان والعمل الصالح الجزاء في الدنيا بالحياة الطيبة والحسنى يوم القيامة، فلهم أطيب الحياتين وهم أحياء في الدارين»27.

وقال تعالى في سورة الأنعام: ( )، فالإيمان مصدر الأمن والأمان، والسكينة والأنس والطمأنينة، وراحة البال وسلام الروح.

وقال سبحانه: ( ) أي: أفضل الخليقة؛ لأنهم بمعرفتهم الحق واتباعهم له، قد حققوا لأنفسهم معنى الإنسانية التي شرفهم الله بها، وبالعمل الصالح وتحصيل الفضائل نالوا معالي الرّتب، وتزيّنوا بالفضيلة وتمسّكوا بالقيم التي جعلها الله قوام الوجود الإنسانيّ، فضربوا أروع أمثلة للإنسانية.

فالإيمان هو منهج الحياة وعمل الصالحات؛ تشمل كل خير وبرٍّ وإحسان، وفق شريعة الله في الأرض، فمن كانوا كذلك فهم خير البرية.

ولا قيمة للحياة ولا وزن لها إن لم يحكمها الإيمان، فإذا ارتقت الأمم وتقدمت مادِّيًّا وتخلَّفت إيمانيًّا فإنها إلى الفناء تصير مهما طال بقاؤها.

قال تعالى: ( )[الأعراف: ٩٦].

وعمل الصالحات يكون بالامتثال لكل ما أمر الله به ودعا إليه، واجتناب كل ما نهى الله عنه وحذر منه.

ولقد ورد ذكر العمل الصالح في القرآن الكريم ما يقرب من (٥٥) مرة، وقد جاء دائمًا مقترنًا بالإيمان، وهذا يدل على ارتباطهما الوثيق وتلازمهما المستمر، فلا إيمان بدون عمل صالح يعبر عنه ويبرهن عليه، ولا قيمة للعمل الصالح بدون إيمان يقوم عليه ويركن إليه، فالإيمان بدون عمل كالشجر بلا ظل ولا ثمر.

والعمل الصالح بدون إيمان كالجسد بلا روح، فلا إيمان بدون عمل ولا عمل بدون إيمان.

وميادين العمل الصالح واسعة ومنتشرة فتشمل كلّ عمل صالح مثمر يلتمس منه صاحبه رضا الله تعالى.

والإيمان والعمل الصالح هما السبيل إلى إصلاح النفس وكمالها وسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة.

قال تعالى: ( ﭣﭤ ﭧﭨ ) [الجاثية: ١٥].

والإيمـان والعمـل الصالـح همـا السـبيل إلى النصر والتمكين.

قال تعالى: (ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) [النور:٥٥].

وقال عز وجل في سورة الأنبياء: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [الأنبياء: ١٠٥].

فالعمل الصالح مع الإيمان الخالص: هما أساسا السعادة والفلاح، والرقي والتقدّم، والنهوض والتحضر. وميادين العمل الصالح واسعة ومتنوعة، وتشمل كل عمل مفيد مثمر يلتمس منه الإنسان ويتحرّى فيه رضا الله تعالى.

والحياة الطيبة التي ينشدها الناس لا سبيل لها إلا بالإيمان والعمل الصالح.

قال سبحانه وتعالى: ( ﮋﮌ ﮔﮕ ) [ النحل: ٩٧].

فرسالة المؤمن هي رسالة الإصلاح والرعاية ورسالة الخير والعطاء؛ ذلك أن المؤمن كالنخلة لا يسقط ورقها، ولا ينقطع نفعها، فكل ما فيها نافعٌ مفيدٌ، فضلًا عن ثمرها الطيّب؛ وفي الصحيحين عن عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما قال: (قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (إنّ من الشّجر شجرةً لا يسقط ورقها، وإنّها مثل المسلم، فحدّثوني ما هي؟) فوقع النّاس في شجر البوادي، قال عبد اللّه: ووقع في نفسي أنّها النّخلة، فاستحييت، ثمّ قالوا: حدّثنا ما هي يا رسول اللّه؟ قال: فقال: (هي النّخلة)، قال: فذكرت ذلك لعمر، قال: لأن تكون قلت هي النّخلة، أحبّ إليّ من كذا وكذا)28.

فالمؤمن وحده هو الذي يعرف مهمتّه في الوجود، ويسعى إلى تحقيقها والقيام بها، يؤمن بأن وجوده لغاية سامية هي عبادة الله تعالى، ويستعين بإيمانه ويقينه على العمل الصالح الذي ينهض بمجتمعه وأمته وجميع بني جنسه.

فالإيمان هو الأساس الذي يقوم عليه صرح الصلاح والرّشد والتقوى في نظر القرآن، إن المؤمن تنمو وتتزكى أعماله في نظر القرآن، كما يخضر وينضر ويورق ويثمر ما يغرسه البستاني من أشجاره في أخصب أرض وأجود هواء.

والعمل الصالح هو الغراس الطيبة للحضارة الإسلامية، والثمرة المباركة للإيمان، هو جزء لا ينفك عنه وثمرة تتفتق منه، وكثيرًا ما يقترن العمل الصالح بالإيمان في القرآن؛ لبيان أنهما صنوان متلازمان، فالإيمان هو الشجرة، والعمل هو الثمرة، الإيمان غراس والعمل الصالح جنى وحصاد، والعمل الصالح كل عمل يعود بالخير على الفرد والمجتمع سواء كان في محراب العبادة أو في ميادين السعي والطلب، ويأتي الصلاح دائمًا صفة ملازمة للعمل، وتابعًا لا ينفك عنه؛ لأن العمل ليس على إطلاقه، وإنما هو مقترن بالصلاح، وميزان الصلاح هو الكتاب والسنة، وثمراته العاجلة والآجلة لا تحصى.

إن العامل لا يرجو الأجر الدنيوي وحده على ما قدم، بل تتوق نفسه إلى ما عند الله تعالى الذي لا يضيع عنده عمل عامل، فالمؤمن يغرس ويصنع ويبني ويرفع ويتقن العمل؛ طمعًا في الجزاء الأوفى، يراقب الله تعالى في عمله، مما يدفعه إلى الدقة والإتقان والتفنن والإحسان فينهض المجتمع وترقى الصناعات وتتقدم المجتمعات.

قال تعالى: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [التوبة: ١٢٠] فنصرة الأنبياء والصدق معهم وإيثارهم على النفس وتحمّل المشاقّ، وتجشّم الصّعاب في سبيل الله؛ نصرةً لدينه وذودًا عن حياضه، ونشرًا لدعوته، وقهرًا لأعدائه ونيلًا منهم كل هذا يعدّ من أجلّ الأعمال الصالحات التي تسطّر في الصحائف ويجازى عليها العبد أحسن جزاء.

فمقاومة الأعداء بالبطون الخاوية والأكباد الظمأى والأبدان المتعبة والأقدام الراسخة المغبرة من أفضل الأعمال الصالحة؛ لما فيها من مقاومة الشرّ ومحاصرة الفساد واقتلاع جذوره، وغرس الصالحات هي رأس العمل الصالح وعماده وذروة سنامه. وإنّ هذا البعث الذي أقام العرب من أنقاض الجاهليّة، وأشعل نبراس حضارتهم ووحّد صفوفهم ورايتهم وسما بنفوسهم إلى علياء الفضيلة وحلّق بأرواحهم في آفاق الأمجاد وأذكى فيهم روح التّنافس وعلوّ الهمّة ما هو إلا الإيمان الذي أحيا الله به قلوبًا، وشرح به صدورًا، وأنار دروبًا إلى التّقدّم والرّقيّ.

قال تعالى: ( ﮨﮩ )[ الأنعام: ١٢٢].

وقال تعالى: ( ﭚﭛ ﭡﭢ ) [الزمر: ٢٢ ].

وقال تعالى: ( ﭖﭗ ﭧﭨ )[ الشورى: ٥٢ ].

ثانيًا: العلم النافع:

جاء القرآن بالعلم الذي يحيي موات القلوب، ويصلح فسادها، ويجلّيها ويوقد سراجها، جاء بمنهجٍ وطريقٍ وركائز لبناء أسمى الحضارات وأنقاها، لم تقم تلك الحضارة على أنقاض حضارةٍ أخرى، ولم تكن وريثةً أو ربيبة لحضارةٍ أخرى، بل قامت على رمال الصّحراء الشّاسعة، وأوقدت شعلتها وأشرقت شمسها بعد ظلام ليلٍ طويلٍ حالكٍ؛ لتنثر ضياءها في ربوع الكون، ولتبدأ البشريّة عهدًا جديدًا في ظلال الإسلام، الذي تولّى قيادة موكب الإنسانيّة قرونًا عديدة، جاء بالرّوح التي تسري في الأمة، فإذا هي حيّةٌ نابضة بعد أن كانت راقدةً خامدة، فالإيمان هو القداح الذي أذكي شعلتها.

قال تعالى: ( )[ الجمعة: ٢ ].

بينما كانت الجزيرة العربية غارقةً في جاهليةٍ جهلاء، راقدة في سباتٍ عميق، عاطلةً عن لآلئ المعالي جاء الإسلام، وسرت روح الإيمان في جسدٍ هامدٍ سرعان ما دبّت فيه الحياة، وبسقت شجرة الحضارة التي تنبت جذورها في تلك الصّحراء المقفرة، وامتدّت أغصانها في كلّ النّواحي.

إن الحاجة إلى العلم ضروريّةٌ للإنسان، فهو أساس النهضة والتقدم، وعماد الحضارة، وقوام الحياة، وقد قام الإسلام على أساس متين من العلم، وحسبنا أن أول آيات نزلت من الوحي الإلهي إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم أشارت إلى فضل العلم، حيث أمر بالقراءة، وهي مفتاح العلم، ونوّهت بـ (القلم)، وهو رمز العلم وأداته التي يدوّن بها.

قال تعالى: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮋﮌ )[العلق: ١-٥].

فلا يعرف دين -مثل الإسلام- ولا كتاب -مثل القرآن- أشاد بالعلم، وحثّ عليه، ورغب في طلبه، ونوه بأهله ومكانتهم، وأعلى من قدرهم، وبيّن فضل العلم وأثره في الدنيا والآخرة، وحض على التعلّم والتعليم.

العلم نورٌ وضياءٌ، وهدايةٌ وعصمةٌ، وفضلٌ من الله ونعمةٌ، ومنحةٌ ورحمةٌ، به تنكشف الظلمات، وتنقشع غيوم الفتن، وينجلي غبار الشّبهات، وهو نبراس الحضارة وأساسها، وروحها وملهمها.

قال تعالى: ( ﭢﭣ )[ النمل: ١٥].

قال القرطبي رحمه الله: «وفي الآية دليلٌ على شرف العلم، وإنافة محلّه وتقدّم حملته وأهله، وأنّ نعمة العلم من أجلّ النّعم وأجزل القسم، وأنّ من أوتيه فقد أوتي فضلًا على كثير من عباد اللّه المؤمنين»29.

وقال سبحانه: ( ﰐﰑ) [المجادلة: ١١].

«أي: في الثّواب في الآخرة، وفي الكرامة في الدّنيا، فيرفع المؤمن على من ليس بمؤمنٍ والعالم على من ليس بعالمٍ. .. ويرفع العلماء منهم خاصة درجاتٍ بما جمعوا من العلم والعمل»30.

فالرفعة في الدنيا بسموّ المراتب وتبوّء المناصب، وتقلّد الأمور، وتصدّر المجالس، وفي الآخرة بعلوّ المراتب في الجنان.

وقال تعالى: ( ﭢﭣ ﭧﭨ ) [الأنعام: ٨٣ ].

قال السعدي رحمه الله: ﴿ ﭧﭨ «كما رفعنا درجات إبراهيم عليه السلام في الدنيا والآخرة، فإن العلم يرفع الله به صاحبه فوق العباد درجاتٍ، خصوصًا العالم العامل المعلّم، فإنه يجعله الله إمامًا للناس، بحسب حاله ترمق أفعاله، وتقتفى آثاره، ويستضاء بنوره، ويمشى بعلمه في ظلمة ديجوره»31.

ومن البراهين القاطعة والحجج الساطعة على فضل العلم وأدواته ووسائله: افتتاح الله عز وجل كتابه الكريم بصدر سورة العلق: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮋﮌ )[١ - ٥ ].

فكما أنعم الله سبحانه وتعالى على الإنسانية بنعمة الحياة كذلك أنعم عليهم بنعمة العلم الذي يخرج الناس به من ظلمات الجهل إلى نور المعرفة.

ومن شرف العلم وفضله: أن الله سبحانه وتعالى حثنا على الاستزادة منه وأمر بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: ( ) [طه: ١١٤].

وبيّن القرآن أن العالم وغير العالم لا يستويان.

قال تعالى: ( ﯺﯻ ﯿ) [الزمر: ٩].

فالعلم نورٌ وحياةٌ، وغرسٌ وبناءٌ، وسموٌّ وانطلاقٌ، وتقدّمٌ وابتكارٌ، وتحضّرٌ وازدهارٌ، أما الجهل فهدمٌ ودمارٌ، وحيرةٌ وانحدارٌ، وغبشٌ وظلامٌ، وخرافاتٌ وأوهامٌ، وتخبّطٌ وضلالٌ، فأظهرت لنا الآية الكريمة المفارقة العظيمة بين حال العالم، وحال الجاهل، بين بيئة العلم وبين بيئة باض فيها الجهل وأفرخ.

قال الرازي: «هذا التفاوت العظيم الحاصل بين العلماء والجهّال، لا يعرفه إلا أولو الألباب، قيل لبعض العلماء: إنكم تقولون العلم أفضل من المال، ثم نرى العلماء يجتمعون عند أبواب الملوك، ولا نرى الملوك مجتمعين عند أبواب العلماء؟ فأجاب العالم بأن هذا أيضًا يدل على فضيلة العلم؛ لأن العلماء علموا ما في المال من المنافع فطلبوه، والجهّال لم يعرفوا ما في العلم من المنافع فلا جرم تركوه»32.

وقال ابن القيم: «لو لم يكن من فوائد العلم إلا أنه يثمر اليقين الذي هو أعظم حياة القلب، وبه طمأنينته وقوته ونشاطه، وسائر لوازم الحياة»33.

وبالعلم تسمو الهمم وترقى الأخلاق والقيم، وتضبط المعايير، وتعتدل الموازين، وتتضح الرؤى قال تعالى: ( ﮋﮌ ) [القصص: ٨٠].

فدعا أهل العلم إلى تسامي الهمم، والتنافس في ميدان الخير والفضيلة، والتسابق إلى عمل الآخرة وثوابها، لا إلى أعراض الدنيا الفانية وملذاتها المنقضية.

والعلم الذي تنهض به أمتنا هو كل علم نافع، سواء كان من علوم الشريعة أم من علوم الطبيعة، أقصد كل العلوم التي يحتاجها الناس في حياتهم؛ كالطبّ والهندسة والزراعة والكيمياء وعلم الأحياء وعلم الفيزياء وعلم الإحصاء وسائر العلوم التي تعدّ من المقومات الأساسية للنهضة الحضارية، العلوم التي توجّه الإنسان وتأخذ بيده وتيسّر له القيام بمهمته في الوجود.

ولقد تحدث العلماء عن فروض الكفاية التي إذا قام بها البعض سقط الإثم عن الباقين، وإذا لم يقم بها أحد أثم كلّ قادر على القيام بها، ومن هذه الفروض تعلّم العلوم التي تستغني بها الأمة عن أعدائها، وتدافع بها عن كيانها، والله سبحانه وتعالى يقول في سورة الأنفال: ( ﯬﯭ )[الأنفال: ٦٠ ].

فكل قوة يستطيع المسلمون إعدادها ثم يقصّرون فإنهم آثمون، والعلوم الحديثة بكل جوانبها واجبة على الأمة؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وكل ما يحتاج إليه المسلمون من العلوم ليحقق لهم التفوق على غيرهم ولتكون لهم القوة على عدوهم، فهو فرض كفائي عليهم، تأثم الأمة إذا فرّطت فيه.

ثالثًا: التوكل على الله مع الأخذ بالأسباب:

من أهم الأسباب إلى التقدم والنهوض والحضارة والرقي: التوكل على الله تعالى، فبيده مقاليد كل شيء، وهو المدبر لهذا الكون المصرّف له، وبيده مفاتيح الرحمات والبركات والعطايا، مع الأخذ بالأسباب الموصلة للتقدم والنهوض، فالله تعالى جعل الأخذ بالأسباب وتأثيرها سنةً في هذا الكون لابد من أخذها بعين الاعتبار ومراعاتها من أجل إصلاح الكون وعمارته، فالتوكل على الله تعالى من عوامل النجاح ومفاتح التيسير والقبول.

قال تعالى: ( ﭵﭶ ) [آل عمران: ١٥٩].

ومن أحبه الله أيّده وسدّده.

قال تعالى: ( ﮚﮛ ) [هود: ١٢٣فاعبده حق العبادة، وتوكل عليه حقّ التوكّل، وما ربك بغافل عن أعمال العباد، بل مطّلعٌ عليها ومحصيها؛ ليجازيهم بها.

والتوكل من أسباب النصر والتمكين.

قال تعالى: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) [آل عمران: ١٦٠].

وقال تعالى: ( ﯻﯼ ﯿﰀ )[النحل: ٤١-٤٢].

فالتضحية والبذل والعطاء مع لزوم الصبر والتوكل من أسباب السعادة والهناء والاستقرار في الدنيا مع حسن المكانة والمنزلة.

والسبب في اللغة كل شيء يتوصل به إلى غيره34.

قال تعالى: ( ﰄﰅ ) [الكهف: ٨٣ - ٩٣].

فذو القرنين هيأ الله له الأسباب ومكّن له فارتقى بالأسباب وطوّر من ملكاته وإمكاناته، حتى ملك ما بين المشرق والمغرب، ونشر العدالة والرحمة بينهما بإيمانه وتوكله ومراعاته لسنَّة الأخذ بالأسباب، واجتهاده ومهارته في الأخذ بالأسباب وإتباع بعضها بعضًا، قال الزمخشري: السبب ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة35.

فقانون السببية، أي: ربط المسببات بأسبابها والنتائج بمقدماتها، هذا القانون عام شامل لكل ما في العالم، ولكل ما يحصل للإنسان في الدنيا والآخرة. وقد زعم البعض أن من تمام التوكل ترك الأسباب حتى التي جرت عادة الناس بها كحمل الزاد في السفر مثلًا حتى قيل: إن من تمام التوكل أن لا يحمل المتوكل الزاد في سفره للحج، بل وفي غيره من الأسفار، فيدخل إلى الصحراء بلا زاد ولا ماء.

قال ابن تيمية رحمه الله في ردّه على هذا القول: «وهذا القول وأمثاله من قلّة العلم بسنّة الله في خلقه وأمره، فإن الله تعالى خلق المخلوقات بأسباب، وشرع للعباد أسبابًا ينالون بها مغفرته ورحمته وثوابه في الدنيا والآخرة، فمن ظنّ أنه بمجرد توكله مع تركه ما أمره الله به من الأسباب يحصل مطلوبه، وأن المطالب لا تتوقف على الأسباب التي جعلها الله أسبابًا لها فهو غالط»36.

وقال ابن القيم: «والله أمر بالقيام بالأسباب، فمن رفض ما أمره الله أن يقوم به فقد ضادّ الله في أمره، وكيف يحلّ لمسلم أن يرفض الأسباب كلّها؟»37.

رابعًا: التقوى والاتباع:

تقوى الله تعالى من أهم أسس البناء الحضاري، وحصونه المنيعة، فتقوى الله زادٌ وسراجٌ وعصمةٌ ومنهاج، وتقوى الله تعالى دافعٌ لعمل الصالحات واجتناب المحرمات وإتقان الأعمال ومراقبة الله تعالى في جميع الأحوال، والمبادرة إلى البرّ، والحرص على الخير، والأتقياء هم الصادقون الناصحون، الأوفياء الصالحون، العاملون المتقنون، العابدون المحسنون، الرحماء المتسامحون.

وقد عرّف التقوى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في تفسيره لقول الله: ( )[آل عمران: ١٠٢].

فقال: أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر38.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وشكره يدخل فيه جميع فعل الطاعات، ومعنى ذكره فلا ينسى: ذكر العبد بقلبه أوامر الله في حركاته، وسكناته، وكلماته فيمتثلها، وذكره نواهيه في ذلك كله فيجتنبها39.

ومن صفات المتقين وأحوالهم كما بيّن القرآن: الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والإنفاق في وجوه البرّ الخير والإيمان بالقرآن وبما قبله واليقين بوعد الآخرة، والوفاء بالعهد والصبر في البأساء والضراء وفي القتال: ( ﭖﭗ ﭘﭙ ﭷﭸ )[البقرة: ١ - ٥].

وقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [البقرة: ١٧٧ ].

والمتأمل في هذه الصفات يجدها تجمع بين صلاح الدنيا وصلاح الآخرة، استقامة في الدين والحياة، كما يلمس التلازم بين هذه الصفات فلا تنفكّ عن صاحبها ولا تتحقق ثمارها إلا بمجموعها، وأن الإيمان والعبادة تبدو ثمارها ويظهر آثارها في معاملة الناس، وأن العقيدة والعبادة والشريعة والأخلاق منظومةٌ واحدةٌ وعقدٌ واحدٌ لا تنفرط حبّاته، وأن للتقوى ثمراتها التي تعود على النفس والمجتمع، وأنها السبيل إلى تزكية النفوس وطهارة القلوب وارتقاء الأخلاق وسموّ الأرواح وبناء المجتمعات.

ومن ثمرات التقوى:

تأملات حضارية في القصص القرآني


1 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٢/٧٥.

2 انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني ص ٢٤١.

3 انظر: لسان العرب، ابن منظور ٢/٩٠٨، القاموس المحيط، الفيروزآبادي ص٣٨٦.

4 المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية ١/١٨١.

5 الإسلام والحضارة الغربية، محمد محمد حسين ص ٤.

6 الحضارة الإسلامية، المودودي ص ٥.

7 مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، مالك بن نبي ص ٥٠.

8 شروط النهضة، مالك بن نبي ص ٣٣.

9 منطلقات إسلامية لحضارة عالمية، سعيد حوى ص ٢.

10 قيم حضاريّة، توفيق السبع ص٤١.

11 انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني ص ٢٤١.

12 المصدر السابق ص ٦٦٩.

13 مقاييس اللغة، ابن فارس ٥/٧٨.

14 انظر: المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية ٢/٧٣٢.

15 تاج العروس، الزبيدي ٣٦/١٥٧.

16 انظر: الثقافة والحضارة الإسلامية، إبراهيم علي محمد ص١٥.

17 انظر: المصدر السابق ص١٦.

18 انظر: تفسير القرآن العظيم ٤/٦٤٢.

19 نحو إنسانية سعيدة، محمد المبارك ص ٣٤.

20 منهج الحضارة الإنسانية في القرآن، محمد البوطي ص ١٣٧.

21 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاستئذان، باب من أجاب بلبيك وسعديك رقم ٥٩١٢، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة، ١/٥٨، رقم ٣٠.

22 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٣٨٤.

23 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٤/٦٧١.

24 المصدر السابق ٢/١١٠.

25 نقض المنطق، ابن تيمية ص ٨.

26 انظر: رياض الأنس في بيان أصول تزكية النفس، إبراهيم العلي ص ٦٢.

27 الجواب الكافي ص٨٤.

28 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العلم، باب الحياء في العلم الحديث، رقم ١٣١، ومسلم في صحيحه، كتاب صفة القيامة والجنّة والنّار، باب مثل المؤمن مثل النخلة رقم ٢٨١١.

29 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٣/١٤٨.

30 أنوار التنزيل، البيضاوي ٣/٣١٢.

31 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٢٦٣.

32 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٦/٢١٩.

33 انظر: مفتاح دار السعادة، ابن القيم ص ١٥٢.

34 لسان العرب، ابن منظور، ١/ ٤٣.

35 الكشاف، الزمخشري ٢/٧٤٣.

36 مجموع فتاوى ابن تيمية ٨/٥٢٩.

37 مدارج السالكين، ابن القيم ٣/٤٧٨.

38 أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، ٩/٩٢، رقم ٨٥٠٢، والحاكم في المستدرك، ٢/٢٩٤، والطبري في تفسيره ٧/٦٥.

39 جامع العلوم والحكم، ص٤٠١.

40 أخرجه أحمد في المسند، ٢٩/٢٢٩، رقم ١٧٠٩٦.

وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد، ص١٢٦.

41 فتح القدير، الشوكاني ٥/٢٣٣.

42 معالم التنزيل، البغوي ٢/١٦٤.

43 الكشاف، الزمخشري ١/٣٧٧.

44 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ١/٢٨٠.

45 المصدر السابق ٣/٤٣٣.

46 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب ما جاء في الصحة والفراغ، وأن لا عيش إلا عيش الآخرة، رقم ٦٠٤٩.

47 الجواب الكافي ص ٢٠٨.

48 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب المناسك، باب في حق المرأة على زوجها، ١/٦٥١، رقم ٢١٤٢.

وحسنه النووي في رياض الصالحين، ص ٣٤، رقم ٢٧٧.

49 زاد المسير، ابن الجوزي ٥/١٨٥.

50 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٤٨٦.

51 الكشاف ٣/٣٦٥.

52 جامع البيان، الطبري، ١٩/٣٧٥.

53 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/٤١٥.

54 التفسير القرآني للقرآن، ٣/٤١٣.

55 التفسير الحديث، دروزة ٣/٢٥٥.

56 الكشاف ٣/٣٣١.

57 أضواء البيان، الشنقيطي ٨/٢٥٩.

58 البحر المحيط، أبو حيان ٨/١٧٩.

59 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٧/٤٧٩.

60 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٦/١٥٩.

61 التحرير والتنوير، ١٩/١٨٢.

62 التفسير الوسيط للقرآن الكريم، ١٠/٢٧٠.

63 البحر المحيط ٧/٣٤.

64 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٧/١٤٢، فتح القدير، الشوكاني ٥/١٨٠.

65 أضواء البيان ٨/٥٢٥.

66 جامع البيان، الطبري ١٣/ ٤٥.

67 في ظلال القرآن، سيد قطب ٣/ ٣٢.

68 التحرير والتنوير ٢٠/٥٨.