عناصر الموضوع
الحشرات
أولًا: المعنى اللغوي:
هي هوام الأرض وصغار دوابها، وقيل: الصيد كله حشرة، ما تعاظم منه وتصاغر؛ والحشرة أيضًا: كل ما أكل من بقل الأرض1.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
لا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغوي، فهي صغار دواب الأرض وهوامها2.
والحشرات عند علماء الحيوان: كل كائن من شعبة المفصليات، له ثلاثة أزواج من الأرجل، ويقطع في تحوله ثلاثة أطوار، بيضة الحشرة، حورية الحشرة (صرصور)، خادرة الحشرة فراشة، والجمع حشرات3.
لم يرد لفظ الحشرات في الاستعمال القرآني، ولكن جذر الكلمة وهي مادة (حشر) موجودة في القرآن، والتي تعني: الجمع مع السّوق والانبعاث، وبذلك سميت حشرات الأرض لكثرتها وانسياقها وانبعاثها4.
وقد ذكر القرآن بعض الحشرات، وهي:
الحيوان:
الحيوان لغة:
اسم يقع على كل شيء حي، ووصف الله عز وجل الدار الآخرة بأنها الحيوان، والمعنى أن من صار إلى الآخرة لم يمت ودام حيًّا فيها5.
الحيوان اصطلاحًا:
كل ذي روح من المخلوقات غير العاقلة6.
الصلة بين الحشرات والحيوان:
أن الحشرات من أنواع الحيوانات.
الكائنات الحية:
الكائنات الحية:
هي مجموعة المتعضيات الحية التي تشكل الكتلة الحية على سطح الأرض، وتقسم عادة لعدة ممالك حسب التصنيف المعتمد أهمها: الحيوانات والنباتات والفطريات والأوليات والجراثيم.
والكائن الحي: هو أي خلية أو مجموعة خلايا متمايزة أو غير متمايزة تتصف بقيامها بالوظائف الحيوية التي تجعلنا نصفها بالحياة مثل التنفس والهضم والحركة.
الصلة بين الحشرات والكائنات الحية:
أن الحشرات من أنواع الكائنات الحية.
الدابة:
الدابة لغة:
كل ما دب على وجه الأرض، وقد غلب على ما يركب من الحيوان، وفي العرف يطلق على الخيل والحمار والبغل7.
الدابة اصطلاحًا:
الحي الذي من شأنه الدبيب، وقيل: كل حيوان في الأرض، وإخراج البعض الطير من الدواب رد بالسماع، ولا يخرج المعنى اللغوي عن المعنى الاصطلاحي له8.
الصلة بين الحشرات والدابة:
أن الحشرات من الأنواع التي تدب على الأرض.
خلق الله تعالى الحشرات لحكمة، ولها منافع ومضار، وفي خلقتها الإبداع الرباني، وسنبين ذلك في النقاط الآتية:
أولًا: حكمة خلق الحشرات:
إن عالم الحشرات فيه من العجائب والحكم الإلهية ما يستحق الوقوف والتأمل طويلًا، وذلك أنه عالم مستقل بل هو عوالم تحار فيها العقول والأفكار، فيه تنوع في الخلق؛ فمنه ما يطير ومنه ما يمشي على رجلين وعلى أربع وعلى أكثر، ومنه ما يرى بالعين المجردة ومنه ما لا يرى، وهناك اختلاف في الأشكال والألوان، وفي الأصوات، وفي طريقة الحياة وتناول الطعام، وفي الأسماع والأبصار وآلات البطش، وأشياء يعجز العلم عن تسطيرها. وعن عوالم الحشرات والحيوانات والطيور، يتحدث القرآن الكريم، فيقول تبارك وتعالى: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ) [الأنعام:٣٨].
(ﭽ ﭾ)، مكتوبة أرزاقها وآجالها وأعمالها كما كتبت أرزاقكم وآجالكم وأعمالكم، ويقول تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [هود:٦].
يعنى: تساوت المخلوقات، وتماثلت المصنوعات في الحاجة إلى المنشئ: في حال الإبداع ثم في حال البقاء، وكذلك جميع الصفات النفسية والنعوت الذاتية توقفت عن الإيجاد والاختيار، فما من شيء من عين وأثر، ورسم وطلل إلا وهو على وحدانيته شاهد، وعلى كون أنه مخلوق دليل ظاهر.
يقول تعالى عن إخراج العسل الذي فيه شفاء للناس من النحل، تلك الحشرة الضعيفة: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [النحل:٦٨-٦٩].
وعن فطانة النملة، حكى الله تعالى قولها وقد رأت سليمان عليه السلام وجنوده: (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) [النمل:١٨-١٩].
وعن القمل والجراد أخبر تعالى أنها آية من آياته يعذب بها من يشاء، وقد سماها الله تعالى في كتابه العزيز آيات مفصلات، فقال تعالى: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [الأعراف:١٣٣].
فقد عذب الله تعالى قوم فرعون بحشرة صغيرة لم يكونوا يتوقعون ذلك ولم يخطر لهم على بال.
وعن الذباب وما فيها من الإعجاز الدال على عظمة الله وقدرته الباهرة في هذه الحشرة الصغيرة التي تحدى الله تعالى بها العالم، قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ) [الحج:٧٣].
وفي خلق الحشرات كثير من الحكم، فقد جعل الله لها غرائز يعرف بها بعضها إشارة بعض، وهدى الذكر منها لإتيان الأنثى، وفي ذلك دليل على نفاذ قدرة المركب ذلك فيها، وفيها من الحكم الدالة على عظم قدرته ولطف علمه وسعة سلطانه وتدبيره تلك الخلائق المتفاوتة الأجناس المتكاثرة الأصناف، وهو لما لها وما عليها مهيمن على أحوالها لا يشغله شأن عن شأن، وأن المكلفين ليسوا مخصوصين بذلك دون من عداهم من سائر الحيوان9.
ثانيًا: منافع الحشرات ومضارها:
فأما منافع الحشرات:
فمن الحشرات النافعة التي ذكرها القرآن الكريم: النحل.
قال تعالى: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [النحل:٦٨-٦٩].
بينت الآية أن العسل فيه شفاء للناس؛ لأنه من جملة الأشفية والأدوية المشهورة النافعة، وقلّ معجون من المعاجين لم يذكر الأطباء فيه العسل، وليس الغرض أنه شفاء لكل مريض، كما أن كل دواء كذلك، وتنكيره إمّا لتعظيم الشفاء الذي فيه، أو لأن فيه بعض الشفاء، وكلاهما محتمل، وعن أبي سعيد رضي الله عنه: (أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أخي يشتكي بطنه، فقال: (اسقه عسلًا) ثم أتى الثانية، فقال: (اسقه عسلًا) ثم أتاه الثالثة فقال: (اسقه عسلًا) ثم أتاه فقال: قد فعلت؟ فقال: (صدق الله، وكذب بطن أخيك، اسقه عسلًا) فسقاه فبرأ1011.
قال المراغي: «وقد أثبت الطب الحديث ما للعسل من فوائد، أدع الكلام فيها ليتولى شرحها النطاسي الكبير المرحوم عبد العزيز إسماعيل باشا قال في كتابه: الإسلام والطب الحديث: ما أصدق الآية الكريمة! (ﮥ ﮦ ﮧ) [النحل:٦٩].
إن التركيب الكيماوي للعسل كما يلى:
من «٢٥- ٤٠ دكستروز (جلوكوز)»، من «٣٠- ٤٥ ليفيلوز»، من «١٥- ٢٥ ماء».
والجلوكوز الموجود فيه بنسبة أكثر من أي غذاء آخر، وهو سلاح الطبيب في أغلب الأمراض، واستعماله في ازدياد مستمر بتقدم الطب، فيعطى بالفم وبالحقن الشرجية وتحت الجلد وفى الوريد، ويعطى بصفته مقويًا ومغذيًا، وضد التسمم الناشئ من مواد خارجية كالزرنيخ والزئبق والذهب والكلوفرم والمورفين إلخ، وضد التسمم الناشئ من أمراض أعضاء الجسم مثل: التسمم البولي والناشئ من أمراض الكبد، والاضطرابات المعدية والمعوية، وضد التسمم في الحميات، مثل: التيفويد والالتهاب الرئوي والسحائي المخي والحصبة، وفى حالات ضعف القلب، وحالات الذبحة الصدرية، وبصفة خاصة في الارتشاحات العمومية الناشئة من التهابات الكلى الحادة وفي احتقان المخ وفى الأورام المخية إلخ، وقد يقال: وما أهمية هذه الآية مع أن كل أنواع الغذاء لها فوائد، وقد ذكر العسل؛ لأنه غذاء لذيذ الطعم وبطريق المصادفة.
فالحقيقة هي أن أنواع الغذاء الأخرى لا تستعمل كعلاج إلا فيما نذر من الأمراض ناشئة عن نقصها فى الغذاء فقط، وهذه الفواكه التي تشبه العسل في الطعم فإن السكر الذي فيها هو سكر القصب أو أنواع أخرى، وليس فيها إلا نسبة ضئيلة من (الجلوكوز) الذي هو أهم عناصر العسل.
وإذا علمنا أن الجلوكوز يستعمل مع الأنسولين حتى في حالة التسمم الناشئ عن مرض البول السكري علمنا مقدار فوائده، وأن القرآن الكريم لم يذكره بطريق المصادفة، ولكنه تنزيل ممن خلق الإنسان والنحل، وعلم كلا منهما علاقته بالآخر»12.
وأما أضرار الحشرات:
فمن الحشرات الضارة التي ذكرها القرآن الكريم: الجراد والقمل.
قال تعالى: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [الأعراف:١٣٣].
بينت الآية أن الله تعالى أرسل على بني إسرائيل الجراد، وتعتبر الجراد من الحشرات المؤذية والمخربة، والتي تسبب الكوارث وإتلاف المحاصيل الزراعية، وإذا طلعت أسرابه على الزرع أتت عليه، فلم تبق منه ثمرًا ولا ورقًا، وقد سلطه الله تعالى على بني إسرائيل فأكل زرعهم وثمارهم وثيابهم وسقوف دورهم، وابتلاهم الله بالقمل وهو: حشرة صغيرة، تسكن الأجساد القذرة، وتعيش على ما تمتصه من الدم، وقيل: هي صغار الجراد، وهي أشدّ فتكًا وأكثر بلاء من كباره، وقيل: هو السوس الذي يصيب الحبوب، ومفردها قمّلة، وقيل: هو ما نسميه بالقراد، وقيل: هو الحشرات التي تهلك النبات والحرث، وحين نراه نفزع ونبحث عن تخليص الزرع منه باليد والمبيدات، وكل ذلك من تنبيهات الحق للخلق، وهي مجرد تنبيه وإرشاد ولفتٌ للالتفات إلى الحق، وقد جاء في التوراة: إن البعوض والذباب كان من الضربات العشر التي ضرب الرب بها فرعون وقومه ليرسلوا بني إسرائيل مع موسى. ففي الفصل الثامن من سفر الخروج: إن موسى أنذر فرعون أن الذباب سيدخل بيوته وبيوت عبيده وسائر قومه فيفسدها، ولا يدخل بيوت بني إسرائيل المقيمين في أرض جاسان، وأن ذلك وقع وفسدت الأرض من تأثير الذباب 13.
ثالثًا: الإبداع الإلهي في خلق الحشرات:
لقد ذكر القرآن الكريم الإبداع الإلهي في خلق الكائنات.
قال تعالى: (ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) [النور:٤٥].
يخبر القرآن الكريم عن الإبداع الإلهي في خلق الكائنات ومنها الحشرات، ويتجلى الإبداع الإلهي في خلق الحشرات؛ وذلك أن الحشرات مع صغر حجمها ودقتها فيها كل مقومات الحياة.
قال تعالى: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ) [البقرة:٢٦].
فالمشركون نظروا إلى حجم هذه الحشرة فرأوها شيئًا تافهًا، فكيف يجعله الله مثلًا؟ ولم يلتفت المشركون إلى الإبداع الإلهي وعظمة الصانع وقدرته وبديع خلقه سبحانه، ولو نظروا إلى ذلك لوجدوا أن هذه البعوضة مع ضعفها وصغرها ودقة حجمها خلق من خلق الله، فيها من العجائب والأسرار ما يدعو للتأمل والنظر، وليست شيئًا تافهًا.
فإن هذه البعوضة بحجمها المتناهي في الصغر تحمل معها كل أجهزة الحياة، من عيون ترى، وأجنحة تطير، وأجهزة جنسية لحفظ النوع، وجهاز هضمي للطعام وإخراج الفضلات، وإن البعوضة تمتلك حوالي (١٠٠) عين، وهذه العيون كلها موجودة في الرأس على شكل يشبه قرص العسل، تقوم عين البعوض باستلام الإشارات وترسلها إلى الرأس.
وللحشرات عيون تختلف في تركيبها عن عين الإنسان أو القرد أو البقرة أو السلحفاة أو السمكة، ولكن على الرغم من هذا الاختلاف إلا أن الحشرات ترى بها الأشياء التي تنظر إليها، فالذبابة المنزلية مثلًا بحاجة إلى عين ترى بها الغذاء، وتدرك أيّ حركة يقصد بها الاعتداء على حياتها؛ ولذا فقد زودها الخالق كما هي الحال في معظم الحشرات بزوج من العيون المركبة؛ إذ إنّ كلّ عين من هذه العيون مكونة من مئات الوحدات المتشابهة المتراصة بعضها بجوار بعض، كلّ وحدة من هذه الوحدات المتشابهة المتراصة بعضها بجوار بعض.
وإن الحشرات ليست لها رئتان كما للإنسان، ولكنها تتنفس عن طريق أنابيب، وحين تنمو الحشرات وتكبر، لا تقدر تلك الأنابيب أن تجاريها في نسبة تزايد حجمها، ومن ثم لم توجد قط حشرة أطول من بضع بوصات، ولم يطل جناح حشرة إلا قليلًا.
وبفضل جهاز تكوين الحشرات وطريقة تنفسها لم يكن في الإمكان وجود حشرة ضخمة، وهذا الحد من نمو الحشرات قد كبح جماحها كلها، ومنعها من السيطرة على العالم، ولولا وجود هذا الضابط الطبيعي لما أمكن وجود الإنسان على ظهر الأرض، وتصور إنسانًا فطريًّا يلاقي دبورًا يضاهي الأسد في ضخامته، أو عنكبوتًا في مثل هذا الحجم!
ولم يذكر إلا القليل عن التنظيمات الأخرى المدهشة في فيزيولوجيا الحيوانات، والتي بدونها ما كان أي حيوان- بل كذلك أي نبات- يمكن أن يبقى في الوجود.
فهذا التنوع والتمايز في عالم الحشرات المليء بالعبر والأسرار، لم يكن عبثًا أو مصادفة عمياء، ولم يكن من صنع وثن أو صنم، كما لم يبق مجال لأحد أن يدع أو يظن بأن لله شريكًا في ملكه14.
قال الغزالي: «ثم في كل حيوان ونبات أعجوبة وأعاجيب تخصه لا يشاركه فيها غيره، فانظر إلى النحل وعجائبها، وكيف أوحى الله تعالى إليها حتى اتخذت من الجبال بيوتًا ومن الشجر ومما يعرشون، وكيف استخرج من لعابها الشمع والعسل، وجعل أحدهما ضياءً، وجعل الآخر شفاءً، ثم لو تأملت عجائب أمرها في تناولها الأزهار والأنوار واحترازها عن النجاسات والأقذار، وطاعتها لواحد من جملتها هو أكبرها شخصًا وهو أميرها، ثم ما سخر الله تعالى له أميرها من العدل والإنصاف بينها حتى إنه ليقتل على باب المنفذ كل ما وقع منها على نجاسة.
ثم دع عنك جميع ذلك وانظر إلى بنائها بيوتها من الشمع، واختيارها من جملة الأشكال الشكل المسدس، فلا تبني بيتًا مستديرًا ولا مربعًا ولا مخمسًا بل مسدسًا؛ لخاصِّية في الشكل المسدس يقصر فهم المهندسين عن دركها، وهو أن أوسع الأشكال وأحواها المستديرة وما يقرب منها، فإن المربع يخرج منه زوايا ضائعة، وشكل النحل مستدير مستطيل فترك المربع حتى لا تضيع الزوايا فتبقى فارغة، ثم لو بناها مستديرة لبقيت خارج البيوت فرج ضائعة؛ فإن الأشكال المستديرة إذا جمعت لم تجتمع متراصة، ولا شكل في الأشكال ذوات الزوايا يقرب في الاحتواء من المستدير، ثم تتراص الجملة منه بحيث لا يبقى بعد اجتماعها فرجة إلا المسدس، وهذه خاصية هذه الشكل.
فانظر كيف ألهم الله تعالى النحل على صغر جرمه ولطافة قده لطفًا به وعناية بوجوده وما هو محتاج إليه ليتهنأ بعيشه فسبحانه ما أعظم شأنه وأوسع لطفه وامتنانه»15.
إن القرآن الكريم قد اهتم بأمر الحشرات وسمى بعض سوره بأسماء حشرات منها، مثل: سورة النمل، وسورة النحل، وسورة العنكبوت، ومن الحشرات التي ذكرها القرآن الكريم ما يأتي:
أولًا: النمل:
النمل: اسم جنس لحشرات صغيرة، ذات ست أرجل، تسكن في شقوق من الأرض.
وهي أصناف متفاوتة في الحجم، والواحد منه نملةٌ، وسميت النملة نملة لتنملها، وهو كثرة حركتها وقلة قرارها.
وقيل: إن النمل أكثر جنسه حِسًّا؛ لأنه إذا التقط الحبّة من الحنطة والشعير للادخار قطعها اثنين لئلا تُنْبِت، وإن كانت كزبرة قطعها أربع قطع16.
ومن عجائب مخلوقات الله تعالى والتي ذكرها القرآن الكريم النمل، قال تعالى: (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) [النمل:١٨].
لما ذكر القرآن الكريم ملك سليمان عليه السلام وجنوده من الجن والإنس والطير أراد الله تعالى أن يطلع سليمان عليه السلام على مملكة من خلقه، وهي مملكة النمل، فقد ذكرت الآية أن سليمان عليه السلام حين مرّ على وادي النمل تنبهت نملة للخطر الذي سوف يصيب جماعتها، فتكلمت النملة مخاطبة جماعتها: ادخلوا مساكنكم، حتى لا يقتلكم سليمان وجنوده.
وكانت هذه النملة فزعةً فزعًا شديدًا، وحريصةً أشد الحرص على سلامة جماعتها، وعبرت عن ذلك بقولها: (ﮚ ﮛ).
والحطم: حقيقته الكسر لشيء صلب، واستعير هنا للرفس بجامع الإهلاك.
و(ﮚ ﮛ) (لا) ناهية، والجملة مستأنفة تكريرًا للتحذير ودلالة على الفزع؛ لأن المحذر من شيء مفزع يأتي بجمل متعددة للتحذير من فرط المخافة، والنهي عن حطم سليمان إياهن كناية عن نهيهن عن التسبب فيه وإهمال الحذر منه، والنون توكيد للنهي.
ولم يكن سليمان عليه السلام مستبدًا ولا غليظًا ولا ظالمًا، وإنما كان نبيًّا وملكًا عادلًا، ينظر إلى مخلوقات الله، ويقدر لها رأيها، ويسمع قولها، وقد أدركت النملة ذلك فقالت: (ﮞ ﮟ ﮠ) بجريمتهم، لكثرة غلبتهم ومراعاتهم نظام المشي، وذلك أن الجند إذا سيرهم قائدهم على جهة كان مشيهم بانتظام نحوها حتى إذا كان أمامهم شيء يدوسونه ولم يحيدوا عنه، ولهذا تقدمت النملة بالعذر لسليمان عليه السّلام ووصفته وجنوده بالعدل والرحمة والتباعد عن الجور، إذ علمت بإلهام الله إياها أنه نبي لا يجور ولا يتيه ولا يظلم، فسمع سليمان عليه السلام حديث النملة، ولم يغضب، ولم يعاتب، ولم يغير أمرها لإخوانها، وإنما استحسن صنيعها، وتوجه بالشكر لله الذي علمه منطق النمل17.
قال أهل التفسير: في كلام هذه النملة أنواع من البلاغة: نادت، ونبّهت، وسمت، وأمرت، ونصت، وحذرت، وخصت، وعمت، وأشارت، وأعذرت.
ووجهه: نادت: «يا»، نبهت: «ها»، سمت: «النمل»، أمرت: «ادخلوا»، نصت: «مساكنكم»، حذرت: «لا يحطمنكم»، خصت: «سليمان»، عمت: «وجنوده»، أشارت: «وهم»، أعذرت: «لا يشعرون»18.
وفي هذه الآية: نجد أن النمل مملكة من مخلوقات الله العجيبة، وأنها تتخاطب بلغة خاصة فيما بينها، وفيها أن النملة حريصة على سلامة مجتمعها وحرصها على أمنه، وفي هذا العبرة لكل إنسان أن يحرص على سلامة المجتمع الذي يعيش فيه، ويعمل بكل الوسائل الممكنة لصالح الأمن والاستقرار، وفيها دعوة للملوك والرؤساء والمسؤولين للاهتمام بشؤون المملكة، وعدم الغفلة عنها حتى في شؤون الحيوان والطير والحشرات؛ ليسود العدل وينتشر الأمن والأمان في المجتمعات.
ثانيًا: الذباب:
الذباب: اسم يطلق على كثير من الحشرات المجنحة، منها: الذبابة المنزلية، وذبابة الخيل، وذبابة الفاكهة، وذبابة اللحم، والجمع أذبّة، وذُبّان19.
وضرب الله تعالى مثلًا في بيان عجز معبودات المشركين وتفاهتها بالذباب، فقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ) [الحج:٧٣].
لما ذكر الله تعالى في الآيات السابقة آلهة الكفار التي يعبدونها من دون الله تعالى بلا حجة لهم في ذلك ولا علم، ذكر في هذه الآية ما يدل على إبطال قولهم، فبدأت الآية بأداة النداء (ﭑ)، والتي تدعو إلى الانتباه، وأكد ذلك بقوله: (ﭕ ﭖ)، أي: تدبروه حق تدبره؛ لأن نفس السماع لا ينفع، وإنما ينفع التدبر، ثم بَيَّن الله تعالى أن هذه الآلهة التي يعبدونها من دون الله الواحد الأحد هي أحقر وأذل وأهون من أن تعبد وتتخذ إلهًا.
وبَيَّن الله تعالى وجه حقارتها وذلك بقوله تعالى: (ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [الحج:٧٣].
فقوله تعالى: (ﭞ ﭟ ﭠ)، جاءت بنفي المستقبل فلم يقل مثلًا: لم يخلقوا، فالنفي هنا للتأبيد، فهم ما استطاعوا في الماضي، ولن يستطيعوا أيضًا فيما بعد حتى لا يظن أحد أنهم ربما تمكّنوا من ذلك في مستقبل الأيام، ونفي الفعل هكذا على وجه التأبيد؛ لأنك قد تترك الفعل مع قدرتك عليه، إنما حين تتحدّى به تفعل لتردّ على هذا التحدّي، فأوضح لهم الحق سبحانه أنهم لم يستطيعوا قبل التحدي، ولن يستطيعوا بعد التحدي، فكأنه سبحانه قال: إن هذه الأصنام وإن اجتمعت لن تقدر على خلق ذبابة على ضعفها، فكيف يليق بالعاقل جعلها معبودًا، وقوله تعالى: (ﭡ ﭢ ﭣ) [الحج:٧٣].
نصب على الحال كأنه قال: يستحيل أن يخلقوا الذباب حال اجتماعهم فكيف حال انفرادهم، ثم بين تعالى أنهم أحقر من ذلك وأذل وأهون فليس عجزهم فقط عن خلق ذبابة، فقال تعالى: (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [الحج:٧٣].
كأنه سبحانه قال: أترك أمر الخلق والإيجاد وأتكلم فيما هو أسهل منه، فإن الذباب إن سلب منها شيئًا، فهي لا تقدر على استنقاذ ذلك الشيء من الذباب، ثم سوى الله تعالى بين الآلهة وبين من يعبدها في الحقارة والذل والضعف، فقال تعالى: (ﭭ ﭮ ﭯ) [الحج:٧٣].
وفيه قولان:
أحدهما: المراد منه الصنم والذباب، فالصنم كالطالب من حيث إنه لو طلب أن يخلقه ويستنقذ منه ما استلبه لعجز عنه والذباب بمنزلة المطلوب.
والثاني: أن الطالب من عبد الصنم، والمطلوب نفس الصنم أو عبادتها.
وهذا أقرب؛ لأن كون الصنم طالبًا ليس حقيقة، بل هو على سبيل التقدير، أما هاهنا فعلى سبيل التحقيق، لكن المجاز فيه حاصل؛ لأن الوثن لا يصح أن يكون ضعيفًا؛ لأن الضعف لا يجوز إلا على من يصح أن يقوى.
وهاهنا وجه ثالث: وهو أن يكون معنى قوله: (ضعف) لا من حيث القوة، ولكن لظهور قبح هذا المذهب، كما يقال للمرء عند المناظرة: ما أضعف هذا المذهب، وما أضعف هذا الوجه.
وقوله تعالى: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ) [الحج:٧٤].
أي: ما عظموه حق تعظيمه، حيث جعلوا هذه الأصنام على نهاية خساستها شريكة له في المعبودية، وهو قوي لا يتعذر عليه فعل شيء وعزيز لا يقدر أحد على مغالبته، فأي حاجة إلى القول بالشريك20.
وفي هذه الآية: يخبر الله تعالى أن العبادة إنما تكون للواحد الأحد الخالق المصور وليست للمخلوق، الذي يعجز عن خلق ذبابة، وإن أخذ منه الذباب شيئًا لم يقدر أن ينتصر منه، وخص الذباب لأربعة أمور تخصه: لمهانته وضعفه واستقذاره وكثرته، وسمّي ذبابًا؛ لأنه يذبّ احتقارًا واستقذارًا، والذباب أنواع كثيرة، منه الذباب المعروف، ومنه ذباب الفاكهة، ومنه الزنابير وغيرها، فإذا كان هذا الذي هو أضعف الحيوان وأحقره لا يقدر من عبدوه من دون الله على خلق مثله ودفع أذيته فكيف يكونون آلهة معبودين وأربابًا مطاعين؟!
وهذا من أقوى الحج وأوضح البراهين والأدلة القاطعة التي تثبت بطلان الوثنية، وتقيم الدليل على الوحدانية، فإن الأوثان ومن يتبعونها ولو تضافرت كل القوى معها لا يمكن أن يخلقوا ذبابًا، وفيها إبطال كل أنواع الشرك من الأصنام والقبور والأولياء وغير ذلك من أنواع الشرك 21.
ثالثًا: النحل:
النحل: اسم جنس جمعي، واحده نحلة، وهو ذباب له جرم بقدر ضعفي جرم الذباب المتعارف، وأربعة أجنحة، ولون بطنه أسمر إلى الحمرة، وفي خرطومه شوكة دقيقة كالشوكة التي في ثمرة التين البربري (المسمى بالهندي) مختفية تحت خرطومه يلسع بها ما يخافه من الحيوان، فتسم الموضع سمًّا غير قوي، ولكن الذبابة إذا انفصلت شوكتها تموت، وهو ثلاثة أصناف: ذكر وأنثى وخنثى، فالذكور هي التي تحرس بيوتها، ولذلك تكون محومة بالطيران والدوي أمام البيت، وهي تلقح الإناث لقاحًا به تلد الإناث إناثًا، والإناث هي المسماة اليعاسيب، وهي أضخم جرمًا من الذكور، ولا تكون التي تلد في البيوت إلا أنثى واحدة، وهي قد تلد بدون لقاح ذكر، ولكنها في هذه الحالة لا تلد إلا ذكورًا، فليس في أفراخها فائدة لإنتاج الوالدات، وأما الخنثى فهي التي تفرز العسل، وهي العواسل، وهي أصغر جرمًا من الذكور، وهي معظم سكان بيت النحل22.
ذكر القرآن الكريم أن الله تعالى أوحى إلى النحل، قال تعالى: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [النحل:٦٨-٦٩].
لما بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أن من آياته العظيمة الدالة على قدرته وعظمته ووحدانيته إخراج الألبان من النعم، وإخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب، بين في هذه الآية أن من آياته الباهرة والدلائل القاطعة الدالة على قدرته وحكمته وخلقه هي إخراج العسل من النحل، فعطف عبرة على عبرة ومنة على منة، وغير أسلوب الاعتبار لما في هذه العبرة من تنبيه على عظيم حكمة الله تعالى، إذ أودع في خلقة الحشرة الضعيفة هذه الصنعة العظيمة وجعل فيها هذه المنفعة، كما أودع في الأنعام ألبانها وأودع في ثمرات النخيل والأعناب شرابًا، وكان ما في بطون النحل وسطًا بين ما في بطون الأنعام وما في قلب الثمار، فإن النحل يمتص ما في الثمرات والأنوار من المواد السكرية العسلية ثم يخرجه عسلًا كما يخرج اللبن من خلاصة المرعى، وفيه عبرة أخرى وهي أن أودع الله في ذبابة النحل إدراكًا لصنع محكم مضبوط منتج شرابًا نافعًا لا يحتاج إلى حلب الحالب، وافتتحت الآية بفعل أوحى، وذلك لما في أوحى من الإيماء إلى إلهام تلك الحشرة الضعيفة تدبيرًا عجيبًا وعملًا متقنًا وهندسة في الجبلة، فكان ذلك الإلهام في ذاته دليلًا على عظيم حكمة الله تعالى؛ فضلًا على ما بعده من دلالة على قدرة الله تعالى ومنة منه.
والوحي: الكلام الخفي والإشارة الدالة على معنى كلامي، ومنه سمي ما يلقيه الملك إلى الرسول وحيًا لأنه خفي عن أسماع الناس، وأطلق الوحي هنا على التكوين الخفي الذي أودعه الله في طبيعة النحل، بحيث تنساق إلى عمل منظم مرتب بعضه على بعض لا يختلف فيه آحادها تشبيهًا للإلهام بكلام خفي يتضمن ذلك الترتيب الشبيه بعمل المتعلم بتعليم المعلم، أو المؤتمر بإرشاد الآمر، الذي تلقاه سرًّا، فإطلاق الوحي استعارة تمثيلية.
ثم فسر سبحانه ما أوحى به إليها بقوله تعالى: (ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) [النحل:٦٨].
أي: اجعلي لك بيوتًا تأوين إليها في أحسن البقاع في الجبال، أو في الشجر أو فيما يعرش الناس ويبنون من البيوت والسقف والكروم ونحوها.
وأشير إلى أنها تتخذ البيوت في أحسن البقاع وذلك لشرفها بما تحتويه من المنافع، وبما تشتمل عليه من دقائق الصنعة، واتخاذ البيوت هو أول مراتب الصنع الدقيق الذي أودعه الله في طبائع النحل، فإنها تبني بيوتًا بنظام دقيق، ثم تقسم أجزاءها أقسامًا متساوية بأشكال مسدسة الأضلاع بحيث لا يتخلل بينها فراغ تنساب منه الحشرات، لأن خصائص الأشكال المسدسة إذا ضم بعضها إلى بعض أن تتصل فتصير كقطعة واحدة، وما عداها من الأشكال من المثلث إلى المعشر إذا جمع كل واحد منها إلى أمثاله لم تتصل وحصلت بينها فرج، ثم تغشي على سطوح المسدسات بمادة الشمع، وهو مادة دهنية متميعة أقرب إلى الجمود، تتكون في كيس دقيق جدًّا تحت حلقة بطن النحلة العاملة فترفعه النحلة بأرجلها إلى فمها وتمضغه وتضع بعضه لصق بعض لبناء المسدس المسمى بالشهد لتمنع تسرب العسل منها، ولما كانت بيوت النحل معروفة للمخاطبين اكتفي في الاعتبار بها بالتنبيه عليها والتذكير بها، وقوله سبحانه: (ﮒ ﮓ) [النحل:٦٨].
أي: ما يجعلونه عروشًا، جمع عرش، وهو مجلس مرتفع على الأرض في الحائط أو الحقل يتخذ من أعواد ويسقف أعلاه بورق ونحوه ليكون له ظل فيجلس فيه صاحبه مشرفًا على ما حوله، وقوله تعالى: (ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ) [النحل:٦٩].
ثم كلي أيتها النحل من كل ثمرة تشتهيها، حلوة أو مزّة أو بين ذلك، وقوله جلّ وعلا: (ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ) [النحل:٦٩].
فاسلكي الطرق التي ألهمك الله أن تسلكيها، وتدخلي فيها لطلب الثمار، ولا تعسر عليك وإن توعّرت، ولا تضلّي عن العودة منها وإن بعدت، وعطفت جملة فاسلكي بفاء التفريع للإشارة إلى أن الله أودع في طبع النحل عند الرعي التنقل من زهرة إلى زهرة ومن روضة إلى روضة، وإذا لم تجد زهرة أبعدت الانتجاع ثم إذا شبعت قصدت المبادرة بالطيران عقب الشبع لترجع إلى بيوتها فتقذف من بطونها العسل الذي يفضل عن قوتها، فذلك السلوك مفرع على طبيعة أكلها.
ثم أخبر الله تعالى الناس بفوائدها؛ لأن النعمة لأجلهم، فقال تعالى: (ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [النحل:٦٩].
أي: يخرج من بطونها عسل مختلف الألوان، فتارة يكون أبيض وأخرى أصفر، وحينًا أحمر بحسب اختلاف المرعى.
وجيء بالفعل المضارع للدلالة على تجدد الخروج وتكرره، وعبر عن العسل باسم الشراب دون العسل لما يومئ إليه اسم الجنس من معنى الانتفاع به وهو محل المنة، وليرتب عليه جملة فيه شفاء للناس، وسمي شرابًا؛ لأنه مائع يشرب شربًا ولا يمضغ.
وقوله جلّ جلاله: (ﮥ ﮦ ﮧ) [النحل:٦٩]؛ لأنه نافع لكثير من الأمراض، وكثيرًا ما يدخل في تركيب العقاقير والأدوية، وتنكيره إمّا لتعظيم الشفاء الذي فيه، أو لأن فيه بعض الشفاء، وكلاهما محتمل.
وقوله جلّ شأنه: (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ) [النحل:٦٩].
أي: إن في إخراج الله من بطون النحل الشراب المختلف الألوان الذي فيه شفاء للناس؛ لدلالة واضحة على أن من سخر النحل، وهداها لأكل الثمرات التي تأكلها، واتخاذها البيوت في الجبال والشجر والعروش، وأخرج من بطونها ما أخرج مما فيه شفاء للناس، هو الواحد القهار الذي ليس كمثله شيء، وأنه لا ينبغي أن يكون له شريك، ولا تصح الألوهة إلا له23.
وفي هذه الآية: تجد قدرة الله تعالى وحكمته وحسن تدبيره لأحوال العالم العلوي والسفلي، فكأنه تعالى لما خاطب النحل بما سبق ذكره خاطب الإنسان وقال: إنا ألهمنا هذا النحل لهذه العجائب، لأجل أن يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه.
رابعًا: الفراش:
الفراش: فرخ الجراد حين يخرج من بيضه من الأرض يركب بعضه بعضًا، وقد يطلق الفراش على ما يطير من الحشرات ويتساقط على النار ليلًا، وسمي فراشًا لتفرشه وانتشاره24.
شبه القرآن الكريم الناس في وقت البعث بالفراش المبثوث؛ لأنهم إذا بعثوا يموج بعضهم في بعض، فقال تعالى: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [القارعة:٤].
بينت الآية شدة الأهوال يوم القيامة، وأن الناس من هول ذلك اليوم يكونون منتشرين حيارى هائمين على وجوههم لا يدرون ماذا يفعلون، ولا ماذا يراد بهم كالفراش الذي يتجه إلى غير جهة واحدة، بل تذهب كل فراشة إلى جهة غير ما تذهب إليها الأخرى، وشبههم بالفراش في الكثرة والانتشار والضعف والذلة، والتطاير إلى الداعي من كل جانب، كما يتطاير الفراش إلى النار، وجاء تشبيههم في آية أخرى بالجراد المنتشر في كثرتهم وتتابعهم، فقال تعالى: (ﭖ ﭗ ﭘ) [القمر:٧].
فأول حالهم كالفراش لا وجه له، يتحير في كل وجه، ثم يكونون كالجراد، لأن لها وجهًا تقصده، ويقال: شبههم بالفراش؛ لأنهم يلقون أنفسهم في النار كما يلقي الفراش نفسه في النار، في كثرتهم وذلتهم وانتشارهم، فقال: كالفراش، لأنهم يكونون في ذلك اليوم أذل من الفراش؛ لأن الفراش لا يعذب وهؤلاء يعذبون، ونظيره قوله تعالى: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) [الأعراف:١٧٩].
وفي أمثالهم: أضعف من فراشة وأذل وأجهل، أما وجه التشبيه بالفراش، فلأن الفراش إذا ثار لم يتجه لجهة واحدة، بل كل واحدة منها تذهب إلى غير جهة الأخرى، يدل هذا على أنهم إذا بعثوا فزعوا، واختلفوا في المقاصد على جهات مختلفة غير معلومة، والمبثوث المفرق، يقال: بثه إذا فرقه، وأما وجه التشبيه بالجراد فهو في الكثرة، قال الفراء: كغوغاء «الجراد يركب بعضه بعضًا»، وبالجملة فالله سبحانه وتعالى شبه الناس في وقت البعث بالجراد المنتشر، وبالفراش المبثوث؛ لأنهم لما بعثوا يموج بعضهم في بعض كالجراد والفراش، ويؤكد ذلك قوله تعالى: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) [النبأ:١٨].
وقوله في قصة يأجوج ومأجوج: (ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ) [الكهف:٩٩]25.
وجاء من حديث جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارًا، فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها، وهو يذبهن عنها، وأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تفلتون من يدي)26.
قال الغزالي: «ولعلك تظنّ أنّ ذلك لنقصانها وجهلها، فاعلم أن جهل الإنسان أعظم من جهلها، بل صورة الآدمي في الإكباب على الشهوات الدنيا صورة الفراش في التهافت على النار؛ إذ تلوح للآدمي أنوار الشهوات من حيث ظاهر صورتها ولا يدري أن تحتها السم الناقع القاتل، فلا يزال يرمي نفسه عليها إلى أن ينغمس فيها ويتقيد بها ويهلك هلاكًا مؤبدًا، فليت كان جهل الآدمي كجهل الفراش؛ فإنها باغترارها بظاهر الضوء إن احترقت تخلصت في الحال والآدمي يبقى في النار أبد الآباد أو مدة مديدة؛ ولذلك كان ينادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: «إني ممسك بحجزكم عن النار وأنتم تتهافتون فيها تهافت الفراش»27، فهذه لمحة عجيبة من عجائب صنع الله تعالى في أصغر الحيوانات، وفيها من العجائب ما لو اجتمع الأولون والآخرون على الإحاطة بكنهه عجزوا عن حقيقته ولم يطلعوا على أمور جلية من ظاهر صورته، فأما خفايا معاني ذلك فلا يطلع عليها إلا الله تعالى»28.
قال فاضل السامرائي: «إنه لما ذكر القارعة في أول السورة، والقارعة من القرع، وهو الضرب بالعصا، ناسب ذلك ذكر النفش؛ لأن من طرائق نفش الصوف أن يقرع بالمقرعة، كما ناسب ذلك من ناحية أخرى وهي أن الجبال تهشّم بالمقراع (وهو من القرع) وهو فأسٌ عظيم تحطّم به الحجارة، فناسب ذلك ذكر النفش أيضًا، فلفظ القارعة أنسب شيء لهذا التعبير، كما ناسب ذكر القارعة ذكر (الفراش المبثوث) في قوله تعالى: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [القارعة:٤].
أيضًا؛ لأنك إذا قرعت طار الفراش وانتشر، ولم يحسن ذكر (الفراش) وحده كما لم يحسن ذكر (العهن) وحده»29.
خامسًا: البعوض:
البعوضة: واحدة البعوض وهي حشرة صغيرة طائرة ذات خرطوم دقيق تحوم على الإنسان لتمتص بخرطومها من دمه غذاءً لها30.
لما ضرب الله تعالى المثل بالعنكبوت في سورة العنكبوت، وبالذباب في سورة الحج، قالت اليهود: ما هذه الأمثال التي لا تليق بالله عز وجل؟!31، فأنزل الله تعالى: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ) [البقرة:٢٦].
إن الآيات السابقة اشتملت على تحدي البلغاء بأن يأتوا بسورة مثل القرآن، فلما عجزوا عن معارضة النظم سلكوا في المعارضة طريقة الطعن في المعاني فلبسوا على الناس بأن في القرآن من سخيف المعنى ما ينزه عنه كلام الله؛ ليصلوا بذلك إلى إبطال أن يكون القرآن من عند الله بإلقاء الشك في نفوس المؤمنين، وبذر الخصيب في تنفير المشركين والمنافقين.
فَبَيَّنَ الله تعالى في هذه الآية أنه (ﭼ ﭽ)، أي: لا يمتنع من ضرب المثل وبيان الحق بذكر البعوضة وبما فوقها، ويقال: لا يمنعه الحياء أن يضرب المثل ويبيّن ويصف للحق شبهًا (ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) يعني: بالكبر كالذباب والعنكبوت.
وقال بعضهم: (ﮃ ﮄ) أي: بما دونها في الصغر، أي: يضرب المثل بالبعوضة وبما دونها، ففوق في مثله يستعمل في معنى التغلب والزيادة في صفة، سواء كانت من المحامد أو من المذام.
يقال: فلان خسيس وفوق الخسيس وفلان شجاع وفوق الشجاع، وتقول: أعطي فلان فوق حقه، أي: زائدًا على حقه، وهو في هذه الآية صالح للمعنيين، أي: ما هو أشد من البعوضة في الحقارة وما هو أكبر حجمًا.
ثم ذكر تعالى أن الناس في ذلك فريقان: فالذين آمنوا يعلمون أنه الحق من ربهم، ذلك أن إيمانهم بالله يجعلهم يتلقون كل ما يصدر عنه بما يليق بجلاله وبما يعرفون من حكمته، وقد وهبهم الإيمان نورًا في قلوبهم، وحساسية في أرواحهم، وتفتحًا في مداركهم، واتصالًا بالحكمة الإلهية في كل أمر وفي كل قول يجيئهم من عند الله، (ﮗ)[البقرة:٢٦].
وهو سؤال المحجوب عن نور الله وحكمته، المقطوع الصلة بسنة الله وتدبيره، ثم هو سؤال من لا يرجو الله، فيجعلونه شبهة على الإنكار والريب، ثم أخبر تعالى عن حكمته وعدله في ضرب تلك الأمثال وهي إضلال من شاء وهداية من شاء، وأنه إنما يضل به الفاسقين، فكانت أعمالهم هذه القبيحة التي ارتكبوها سببًا لأن أضلهم وأعماهم عن الهدى، فكيف يمتنع من ضرب المثل بالبعوضة، ولو اجتمعت الإنس والجن على أن يخلقوا بعوضة لا يقدرون عليه.
ويقال: إنما ذكر المثل بالبعوضة؛ لأن خلقة البعوضة أعجب؛ لأن خلقتها خلقة الفيل، ويقال: لأن البعوضة ما دامت جائعة عاشت فإذا شبعت ماتت، فكذلك الآدمي إذا استغنى، فإنه يطغى، فضرب الله المثل للآدمي، والبعوضة واحدة البعوض وهي: حشرة صغيرة طائرة ذات خرطوم دقيق تحوم على الإنسان لتمتص بخرطومها من دمه غذاء لها32.
وفي هذه الآية: دحض شبهة الذين أنكروا ذكر الله تعالى لهذه المخلوقات الحقيرة وأنه تعالى لا يليق به ذلك، وأن القرآن ليس من كلام الله، بحجة أن ضرب الأمثال هكذا بما فيها من تصغير لهم وسخرية منهم لا تصدر عن الله، وأن الله لا يذكر هذه الأشياء الصغيرة كالذباب والعنكبوت في كلامه! وكان هذا طرفًا من حملة التشكيك والبلبلة التي يقوم بها المنافقون واليهود في المدينة، كما كان يقوم بها المشركون في مكة33.
قال محمد رشيد: «وأما وجه تقديم الإضلال على الهداية، فلأن سببه ومنشأه من الكفر متقدم في الوجود، وإنما جاءت الآيات المبينة بالأمثال لإخراجهم مما كانوا فيه من ظلمات الباطل إلى نور الحق، فزادت الفاسقين رجسًا على رجسهم؛ لأن نور الفطرة قد انطفأ من أنفسهم بتماديهم في نقض العهد، وقطع الوصل والإفساد في الأرض، كما في الآية التالية لهذه، وقد علم بما ذكر أن في الآية لفًّا ونشرًا غير مرتب فإن الضلال ذكر أولًا، وهو للفريق الثاني، والهدى ذكر آخرًا، وهو للفريق الأول»34.
سادسًا: العنكبوت:
العنكبوت: صنف من الحشرات ذات بطون وأرجل وهي ثلاثة أصناف، منها صنف يسمى ليث العناكب وهو الذي يفترس الذباب، وكلها تتخذ لأنفسها نسيجًا تنسجه من لعابها يكون خيوطًا مشدودة بين طرفين من الشجر أو الجدران، وتتخذ في وسط تلك الخيوط جانبًا أغلظ وأكثر اتصال خيوط تحتجب فيه وتفرخ فيه، وسمي بيتًا لشبهه بالخيمة في أنه منسوج ومشدود من أطرافه فهو كبيت الشعر35.
شبه القرآن الكريم معبودات المشركين، وأولياءهم ببيت العنكبوت، قال تعالى: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) [العنكبوت:٤١].
لما بينت الآيات السابقة الأشباه والأمثال من الأمم التي اتخذت الأصنام من دون الله فما أغنت عنهم أصنامهم لما جاءهم عذاب الله، ثم بين الله تعالى في هذه الآية أن من اتخذ معبودًا من دون الله ويعتقد أنها تنصره في الدنيا وتشفع له في الآخرة، وهي أضعف من أن تدفع عن نفسها، مثله كمثل العنكبوت، وقد اتخذت لها بيتًا لا يريحها إذا هي أوت، ولا يجيرها من حر أو برد إذا هي ثوت، فالمشركون أشبهوا العنكبوت في الغرور بما أعدوه، وأولياؤهم أشبهوا بيت العنكبوت في عدم الغناء عمن اتخذوها وقت الحاجة إليها وتزول بأقل تحريك، وأقصى ما ينتفعون به منها نفع ضعيف وهو السكنى فيها وتوهم أن تدفع عنهم كما ينتفع المشركون بأوهامهم في أصنامهم، وجملة: (ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ) [العنكبوت:٤١]، معترضة مبينة وجه الشبه، وهذه الجملة تجري مجرى المثل، فيضرب لقلة جدوى شيء، فاقتضى ذلك أن الأديان التي يعبد أهلها غير الله هي أحقر الديانات وأبعدها عن الخير والرشد وإن كانت متفاوتة فيما يعرض لتلك العبادات من الضلالات كما تتفاوت بيوت العنكبوت في غلظها بحسب تفاوت الدويبات التي تنسجها في القوة والضعف، ثم زاد الإنكار توكيدًا فذكر أن ما يدعونه ليس بشيء، فكيف يتسنى للعاقل أن يترك القادر الحكيم، ويشتغل بعبادة من ليس بشيء؟ ثم أردف هذا ببيان فائدة ضرب الأمثال للناس، وأنه لا يدرك مغزاها إلا ذوو الألباب، الذين يفهمون خبيىء الكلام وظاهره، وسره وعلانيته36.
قال ابن القيم: «فذكر سبحانه أنهم ضعفاء، وأن الذين اتخذوهم أولياءهم أضعف منهم، فهم في ضعفهم وما قصدوه من اتخاذ الأولياء كالعنكبوت اتخذت بيتًا، وهو أوهن البيوت وأضعفها؛ وتحت هذا المثل أن هؤلاء المشركين أضعف ما كانوا حين اتخذوا من دون الله أولياء فلم يستفيدوا بمن اتخذوهم أولياء إلا ضعفًا، كما قال تعالى: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) [مريم:٨١-٨٢].
وقال تعالى: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) [يس:٧٤-٧٥].
وقال بعد أن ذكر إهلاك الأمم المشركين: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ) [هود:١٠١].
فهذه أربعة مواضع في القرآن تدل على أن من اتخذ من دون الله وليًّا يتعزز به ويتكبر به ويستنصر به لم يحصل له به إلا ضد مقصوده، وفي القرآن أكثر من ذلك، وهذا من أحسن الأمثال وأدلها على بطلان الشرك وخسارة صاحبه وحصوله على ضد مقصوده»37.
وقال الألوسي: «وفي الآية إشارة إلى أن من اعتمد على غير الله عزّ وجلّ في أسباب الدنيا والآخرة فهو منقطع عن مراده غير واصل إليه، قال ابن عطاء: من اعتمد شيئًا سوى الله تعالى كان هلاكه في نفس ما اعتمد عليه، ومن اتخذ سواه عزّ وجلّ ظهيرًا قطع عن نفسه سبيل العصمة ورد إلى حوله وقوته»38.
سابعًا: دابة الأرض (الأرضة):
ودابة الأرض: الأرضة، وهي الدويبة التي يقال لها السرفة والأرض فعلها، فأضيفت إليه، يقال: أرضت الخشبة أرضًا، إذا أكلتها الأرضة، وهي السوس؛ أي: سوس الخشب، من رتبة الحشرات، وعددها كثير جدًّا؛ لأنه يدخل تحتها أكثر من خمسين ألف نوع، وحياة الإنسان لا تكفي لدراستها جيدًا بمفردها، وهي إحدى الرتب المهمة بسبب تنوع أشكالها ولطافة ألوانها، خصوصًا الخصال والقوى الإلهامية الخاصة بكل نوع، وتقسميها إلى أقسام ثانوية مؤسسة خصوصًا على صفات متخذة من جهازها الفمي وأجنحتها وأربطتها وقرونها وانقلاباتها؛ منها الحشرات ذات الأجنحة الشبكية، والنمل الأبيض ينسب لهذا القسم، ومنها الحشرات ذات المنقار وذات المنقاب؛ أي: الآلة التي تنقب بها هذه الحشرات النباتات لإحداث العفص، ومنها الحشرات ذات الأجنحة القشرية، وأبدان هذه الحشرات لها ستة أرجل، وتقرض أوراق الأشجار والأزهار والجذور والأزرار والحبوب وتحدث إتلافًا، ومنها ما يقرض الجوخ والأقمشة التي من الصوف والفراء، ومنها دودة القز، ومنها الحشرات الجناحية النصف، وهذه الحشرات دودة الصبغ ودودة البلوط والبق وحشرة الملك وسوس الخشب المسمى بالدابة وسوس القمح وجنس القمل والحشرات الماصة كالبرغوث ونحوه، ومنها ما سبق الكلام عليه؛ مثل: النمل والدراريح والنحل وغير ذلك39.
ذكر القرآن الكريم دابة الأرض في سورة سبأ، قال تعالى: (ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ) [سبأ:١٤].
لما بين الله تعالى في الآيات السابقة عظمة ملك سليمان عليه السلام وتسخير الريح والرواح له، بين في هذه الآية أنه لم ينج من الموت، وأنه قضى عليه الموت، تنبيهًا للخلق على أن الموت لا بد منه، ولو نجا منه أحد لكان سليمان أولى بالنجاة منه، يقول المفسرون: «إن سليمان عليه السلام كان في محرابه، فأدركه الموت، وهو متكئ على عصاه، واستمر على ذلك، كما قال ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وقتادة وغير واحد - مدة طويلة نحوًا من سنة، حتى جاءت الأرضة، وأكلت طرف العصا (المنساة)، فاختل توازنه، فسقط على الأرض، وتبينت الجن والإنس أيضًا أن الجن لا يعلمون الغيب، كما كانوا يتوهمون ويوهمون الناس ذلك40.
ذكرت الآية دابة الأرض لإثبات حقيقة أنه لا يعلم الغيب إلا الله.
ثامنًا: الجراد والقمل:
الجراد: هو الحشرة الطائرة من فصيلة الصرصر والخنافس له أجنحة ستة ذات ألوان صفر وحمر تنتشر عند طيرانه، يكون جنودًا كثيرة يسمى الجند منها رجلًا، سمي به لجرده ما على الأرض41.
القمل: قيل: هو الدبى وهو الصغار من الجراد ولا يسمى جرادًا إلا بعد نبات أجنحته، وقيل: هو القردان جمع القراد المعروف، وقيل: صغار الذر، وقيل: هي الجعلان، وقيل: هي البراغيث، وقيل: هي السوس، وهي الدابة التي تكون في الحنطة وغيرها42.
من الآيات التي أيد الله تعالى بها موسى عليه السلام: الجراد والقمل.
قال تعالى: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [الأعراف:١٣٣].
لما بينت الآيات السابقة تمرد قوم فرعون وعتوهم، وعنادهم للحق وإصرارهم على الباطل، بينت هذه الآية أن الله تعالى أرسل عليهم صنوفًا من العذاب، منها الطوفان: وهو ما طاف بهم وغشى أماكنهم وحروثهم من مطر أو سيل فهو اسم جنس من الطواف.
وقيل: إنه في الأصل مصدر، وهو اسم لكل شيء حادث يحيط بالجهات ويعم؛ كالماء الكثير والقتل الذريع والموت الجارف.
وقد اشتهر في طوفان الماء، وقيل: الموت، وقيل: هو الطاعون.
ثم أرسل عليهم الجراد، وهو جند من جنود الله تعالى يسلطه على من يشاء من عباده، فأكل زرعهم وثمارهم وثيابهم وسقوف دورهم، ولم يدخل دور بني إسرائيل، فضجوا إلى موسى وفزعوا لشدة ما حل بهم وأعطوه العهود والمواثيق بأنه إذا كشف عنهم هذا الضر يؤمنون به ويرسلون معه بني إسرائيل، فدعا ربه فكشفه بعد أن دام سبعة أيام، وقبل أن يقضي على البقية الباقية من مواشيهم.
فلما كشف عنهم، قالوا: بقي لدينا ما يكفينا، ما نحن بتاركي ديننا من أجلك، ونكثوا عهودهم، فدعا عليهم فأرسل الله عذابًا سابعًا ذكره بقوله: (ﭻ).
فملأ طعامهم وشرابهم وآلمهم بقرحة وأكل منهم شعور رؤسهم وأهدابهم وحواجبهم، ولم يصب بني إسرائيل شيء منه، فاشتد عليهم البلاء أكثر من ذي قبل، فعجوا إلى موسى واستغاثوا به ووثقوا إليه العهود وعظموا له الأيمان بأنه إذا كشف عنهم هذه المرة يؤمنون ولا يعودون إلى الكفر ويرسلون معه بني إسرائيل، وذلك بعد أن دام عليهم سبعة أيام أيضًا، فرق لهم موسى ورحمهم ودعا ربه، فكشف عنهم، فلم يبق منه واحدة، فقالوا: ما كنا نوقن أنه ساحر مثل اليوم! كيف ذهب ما كنا نراه بكلمة واحدة، ونكثوا عهدهم، ونقضوا أيمانهم.
فدعا عليهم، فأرسل عذابًا ثامنًا بينه بقوله: (ﭼ).
وهكذا توالت الآيات حتى بلغت تسعًا، وكلما كشف عنهم عادوا إلى سابق عهدهم من الكفر والضلال.
وسمى الله تعالى هذا العذاب الذي أرسله على بني إسرائيل آيات؛ لأنها دلائل على صدق موسى.
وهي دلائل على غضب الله عليهم؛ لتظافرها عليهم حين صمموا على الكفر والعناد.
و(ﭿ) وصف لـ(ﭾ)، فيكون مرادًا منه معنى الفصل المجازي وهو إزالة اللبس؛ لأن ذلك هو الأنسب بالآيات والدلائل.
أي: هي آيات لا شبهة في كونها كذلك لمن نظر نظر اعتبار.
وقيل: المراد أنها مفصول بعضها عن بعض في الزمان، أي: لم تحدث كلها في وقت واحد، بل حدث بعضها بعد بعض، وعلى هذا فصيغة التفعيل للدلالة على تراخي المدة بين الواحدة والأخرى، ويجيء على هذا أن العذاب كان أشد وأطول زمنًا، كما دل عليه قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [الزخرف:٤٨].
قيل: كان بين الآية منها والأخرى مدة شهر أو مدة ثمانية أيام، وكانت تدوم الواحدة منها مدة ثمانية أيام وأكثر، وعلى هذا الوجه فالأنسب أن يجعل (ﭿ) حالًا ثانية من الطوفان والجراد، وأن لا يجعل صفة لـ(ﭾ)، ثم أخبر الله تعالى أن هذه الآيات لم تنفع فيهم وأنها لم تزدهم إلا كبرًا وعتوًّا وبعدًا عن الحق، والفاء في قوله تعالى: (ﮀ)، للتفريع والترتيب، أي: فتفرع على إرسال الطوفان وما بعده استكبارهم، كما تفرع على أخذهم بالسنين غرورهم بأن ذلك من شؤم موسى ومن معه.
فعلم أن من طبع تفكيرهم فساد الوضع، وهو انتزاع المدلولات من أضداد أدلتها، وذلك دليل على انغماسهم في الضلالة والخذلان، وبعدهم عن السعادة والتوفيق، فلا يزالون مورطين في وحل الشقاوة.
فالاستكبار: شدة التكبر كما دلت عليه السين والتاء، أي: عد أنفسهم كبراء، أي تعاظمهم عن التصديق بموسى وإبطال دينهم إذ أعرضوا عن التصديق بتلك الآيات المفصلات، وقوله تعالى: (ﮁ ﮂ ﮃ) [الأعراف:١٣٣].
معطوفة على جملة فاستكبروا، فالمعنى: فاستكبروا عن الاعتراف بدلالة تلك الآيات وأجرموا، وإنما صيغ الخبر عن إجرامهم بصيغة الجملة الاسمية للدلالة على ثبات وصف الإجرام فيهم، وتمكنه منهم، ورسوخه فيهم من قبل حدوث الاستكبار، وفي ذلك تنبيه على أن وصف الإجرام الراسخ فيهم هو علة للاستكبار الصادر منهم، فـ(كان) دالة على استمرار الخبر وهو وصف الإجرام، وهذه الآيات التي أرسلها الله تعالى على فرعون وقومه كانت متعلقة بالزرع وآفاته، وهم أهل زرع وضرع من أقدم العصور43.
من الأمثال القرآنية التي ذكرت فيها الحشرات ما يأتي:
أولًا: الذباب:
ضرب الله تعالى مثلًا في بيان عجز معبودات المشركين وتفاهتها بالذباب الحقير، فقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ) [الحج:٧٣].
ضرب الله تعالى المثل في أحقر المخلوقات وأضعفها وأهونها وذلك يناسب من يعبد غير الله في حقارته وسفاهة عقله وذله ومهانته حين رضيت نفسه أن يعبد مخلوقًا مثله، ولم تكن حقارة الذباب مانعة من ضرب المثل، فالحقير يشبه بمثله، وفي هذا المثل الدليل القاطع الذي يثبت بطلان الوثنية، ويقيم الدليل على الوحدانية، فإن الأوثان ومن يتبعونها ولو تضافرت كل القوى معها لا يمكن أن يخلقوا ذبابًا، وهذا المثل وإن لم يأت على طريق التشبيه في الظاهر، فهو متضمن له في المعنى، يقول صاحب الكشاف: «قد سميت الصفة أو القصة الرائعة المتلقاة بالاستحسان والاستغراب مثلًا، تشبيهًا لها ببعض الأمثال المسيرة لكونها مستحسنة مستغربة عندهم»44.
وفي هذا المثل بيان عجز الأصنام ومن يعبدونها العجز المطلق وقدرته تعالى على كل شيء، ثم يقول تعالى: (ﭭ ﭮ ﭯ) [الحج:٧٣].
أي: أن ما طلبته منكم هو ضعيف جدًّا، وتحتقرونه بأعينكم، ومع ذلك فإنكم لا تستطيعون مقابلة هذا التحدي مع ضعفه45.
والحكمة من ضرب هذا المثل هي: أن الحجة بضرب الأمثال أقرب إلى الأفهام، وبيان ضعف كل ما يعبد من دون الله، وإقامة الحجة على ذلك.
قال ابن القيم: «وهذا المثل من أبلغ ما أنزله الله سبحانه في بطلان الشرك، وتجهيل أهله، وتقبيح عقولهم، والشهادة على أن الشيطان قد تلاعب بهم أعظم من تلاعب الصبيان بالكرة، حيث أعطوا الإلهية التي من بعض لوازمها القدرة على جميع المقدورات والإحاطة بجميع المعلومات والغنى عن جميع المخلوقات، وأن يصعد إلى الرب في جميع الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وإجابة الدعوات، فأعطوها صورًا وتماثيل يمتنع عليها القدرة على أقل مخلوقات لآلهة الحق وأذلها وأصغرها وأحقرها، ولو اجتمعوا لذلك وتعاونوا عليه»46.
وقال ابن القيم أيضًا: «فتأمل هذا المثل الذي أمر الناس كلهم باستماعه فمن لم يستمعه فقد عصى أمره كيف تضمن إبطال الشرك وأسبابه بأصح برهان في أوجز عبارة وأحسنها وأحلاها، وأسجل على جميع آلهة المشركين أنهم لو اجتمعوا كلهم في صعيد واحد وساعد بعضهم بعضًا وعاونه بأبلغ المعاونة لعجزوا عن خلق ذباب واحد، ثم بين ضعفهم وعجزهم عن استنقاذ ما يسلبهم الذباب إياه حين يسقط عليهم، فأي إله أضعف من هذا الإله المطلوب ومن عابده الطالب نفعه وخيره، فهل قدر القوي العزيز حق قدره من أشرك معه آلهة هذا شأنها، فأقام سبحانه حجة التوحيد وبين إفك أهل الشرك والإلحاد بأعذب ألفاظ وأحسنها لم يستكرهها غموض ولم يشنها تطويل ولم يعبها تقصير ولم تزر بها زيادة ولا نقص، بل بلغت في الحسن والفصاحة والبيان والإيجاز مالا يتوهم متوهم ولا يظن ظان أن يكون أبلغ في معناها منها وتحتها من المعنى الجليل القدر العظيم الشرف البالغ في النفع ما هو أجل من الألفاظ»47.
ثانيًا: البعوض:
ومن الأمثال التي ذكرها الله تعالى في القرآن قوله تعالى: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ) [البقرة:٢٦].
بَيَّنَ الله تعالى في هذه الآية أنّ ما استنكره الجهلة والسفهاء وأهل العناد والمراء من الكفار، واستغربوه من أن تكون المحقرات من الأشياء مضروبًا بها المثل، ليس بموضع للاستنكار والاستغراب، من قبل أنّ التمثيل إنما يصار إليه لما فيه من كشف المعنى ورفع الحجاب عن الغرض المطلوب، وإدناء المتوهم من المشاهد.
فإن كان المتمثل له عظيمًا كان المتمثل به مثله، وإن كان حقيرًا كان المتمثل به كذلك، فليس العظم والحقارة في المضروب به المثل إذًا إلا أمرًا تستدعيه حال المتمثل له وتستجرّه إلى نفسها، فيعمل الضارب للمثل على حسب تلك القضية، ألا ترى إلى الحق لما كان واضحًا جليًّا أبلج، كيف تمثل له بالضياء والنور؟ وإلى الباطل لما كان بضد صفته، كيف تمثل له بالظلمة؟48.
قال ابن القيم: عند تفسير قوله تعالى: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [البقرة:٢٦]، قال: «وهذا جواب اعتراض اعترض به الكفار على القرآن، وقالوا: إن الرب أعظم من أن يذكر الذباب والعنكبوت ونحوها من الحيوانات الخسيسة، فلو كان ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كلام الله لم يذكر فيه الحيوانات الخسيسة، فأجابهم الله تعالى بأن قال: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [البقرة:٢٦].
فإن ضرب الأمثال بالبعوضة فما فوقها إذا تضمن تحقيق الحق وإيضاحه وإبطال الباطل وإدحاضه كان من أحسن الأشياء والحسن لا يستحيا منه، فهذا جواب الاعتراض، فكأن معترضًا اعترض على هذا الجواب أو طلب حكمة ذلك.
فأخبر تعالى عما له في ضرب تلك الأمثال من الحكمة، وهي إضلال من شاء وهداية من شاء، ثم كأن سائلًا سأل عن حكمة الإضلال لمن يضله بذلك، فأخبر تعالى عن حكمته وعدله وأنه إنما يضل به الفاسقين: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [البقرة:٢٧].
فكانت أعمالهم هذه القبيحة التي ارتكبوها سببًا لأن أضلهم وأعماهم عن الهدى»49.
والحكمة في هذه الآية: دحض شبهة الذين أنكروا ذكر الله تعالى لهذه المخلوقات الحقيرة وأنه تعالى لا يليق به ذلك، وأن القرآن ليس من كلام الله، بحجة أن ضرب الأمثال هكذا بما فيها من تصغير لهم وسخرية منهم لا تصدر عن الله، وأن الله لا يذكر هذه الأشياء الصغيرة كالذباب والعنكبوت في كلامه! وكان هذا طرفًا من حملة التشكيك والبلبلة التي يقوم بها المنافقون واليهود في المدينة، كما كان يقوم بها المشركون في مكة50.
ومن الحكمة في ضرب المثل بالبعوضة: أنه خلق من مخلوقاته، ولو اجتمعت الإنس والجن على أن يخلقوا بعوضة لا يقدرون عليه، ويقال: إنما ذكر المثل بالبعوضة؛ لأن خلقة البعوضة أعجب؛ لأن خلقتها خلقة الفيل، ويقال: لأن البعوضة ما دامت جائعة عاشت فإذا شبعت ماتت، فكذلك الآدمي إذا استغنى، فإنه يطغى، فضرب الله المثل للآدمي51.
قال سيد قطب: «إن هذه الآيات تشي بأن المنافقين- وربما كان اليهود والمشركون- قد وجدوا في هذه المناسبة منفذًا للتشكيك في صدق الوحي بهذا القرآن، فجاءت هذه الآيات دفعًا لهذا الدس، وبيانًا لحكمة الله في ضرب الأمثال، وتحذيرًا لغير المؤمنين من عاقبة الاستدراج بها، وتطمينًا للمؤمنين أن ستزيدهم إيمانًا، فالله رب الصغير والكبير، وخالق البعوضة والفيل، والمعجزة في البعوضة هي ذاتها المعجزة في الفيل، إنها معجزة الحياة، معجزة السر المغلق الذي لا يعلمه إلا الله، على أن العبرة في المثل ليست في الحجم والشكل، إنما الأمثال أدوات للتنوير والتبصير، وليس في ضرب الأمثال ما يعاب وما من شأنه الاستحياء من ذكره»52.
ثالثًا: العنكبوت:
ومن الأمثال التي ضربها الله تعالى للمشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله تعالى يعبدونها، ويرجون نفعها العنكبوت اتخذت بيتًا لا يغني عنها في حر ولا برد، ولا مطر ولا أذى.
قال تعالى: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) [العنكبوت:٤١].
هذا المثل ضربه الله تعالى للمشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله، يرجون نصرهم ورزقهم، ويتمسكون بهم في الشدائد، فهم في ذلك كبيت العنكبوت في ضعفه ووهنه فليس في أيدي هؤلاء من آلهتهم إلا كمن يتمسك ببيت العنكبوت، فإنه لا يجدي عنه شيئُا، فلو علموا هذا الحال لما اتخذوا من دون الله أولياء، وهذا بخلاف المسلم المؤمن قلبه لله، وهو مع ذلك يحسن العمل في اتباع الشرع فإنه مستمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها، لقوتها وثباتها53.
والحكمة من هذا المثل هي: قطع الأسباب التي يتعلق بها المشركون جميعُا ليعلم من تأمل هذا المثل وعرفه أن من اتخذ من دون الله وليًّا أو شفيعًا فهو كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون، والغرض تشبيه ما اتخذوه متكلًا ومعتمدًا في دينهم وتولوه من دون الله، بما هو مثل عند الناس في الوهن والضعف والذلة والمهانة، حتى تكون الصورة واضحة والحجة قوية، فلا تدع مجالًا للشك بعد ذلك54.
قال ابن القيم: «وقد قطع الله تعالى كل الأسباب التي تعلق بها المشركون جميعًا، قطعًا يعلم من تأمله وعرفه أن من اتخذ من دون الله وليًّا أو شفيعًا، فهو كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت، فقال تعالى: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ) [سبأ:٢٢-٢٣].
فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يعتقد أنه يحصل له به من النفع، والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريده عباده منه، فإن لم يكن مالكًا كان شريكًا للمالك، فإن لم يكن شريكًا له كان معينًا له وظهيرًا، فإن لم يكن معينًا ولا ظهيرًا كان شفيعًا عنده، فنفى سبحانه المراتب الأربع نفيًا مترتبًا، متنقلًا من الأعلى إلى ما دونه، فنفى الملك، والشركة، والمظاهرة، والشفاعة، التي يظنها المشرك.
وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك، وهي الشفاعة بإذنه، فكفى بهذه الآية نورًا وبرهانًا ونجاةً وتجريدًا للتوحيد، وقطعًا لأصول الشرك ومواده لمن عقلها، والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها، ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته، وتضمنه له، ويظنونه في نوع وفي قوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثًا، وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن»55.
رابعًا: الفراش:
شَبَّه القرآن الكريم الناس في وقت البعث بالفراش المبثوث؛ لأنهم إذا بعثوا يموج بعضهم في بعض، فقال تعالى: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [القارعة:٤].
شَبَّهَ الله تعالى في هذه الآية الناس في وقت البعث بالجراد المنتشر، وبالفراش المبثوث؛ لأنهم لما بعثوا يموج بعضهم في بعض كالجراد والفراش، ويؤكد ذلك قوله تعالى: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) [النبأ:١٨].
وقوله في قصة يأجوج ومأجوج: (ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ) [الكهف:٩٩].
والفراش: فرخ الجراد حين يخرج من بيضه من الأرض يركب بعضه بعضًا، وقد يطلق الفراش على ما يطير من الحشرات ويتساقط على النار، ليلًا، وسمي فراشًا لتفرشه وانتشاره 56.
والحكمة من هذا المثل: التنبيه على شدة أهوال يوم القيامة، وتبيين حال الناس في ذلك وضعفهم بما يشبه ضعف الفراشة وحالها.
من اللمسات الإعجازية في خلق الحشرات ما يأتي:
أولًا: النمل:
ذكر القرآن الكريم أن النمل له لغة يتخاطب بها، قال تعالى: (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) [النمل:١٨].
صرحت الآية الكريمة على أن النمل له لغة يتخاطب ويتحدث بها، وهذا ما أثبتته الأبحاث الحديثة بوسائلها العلمية الدقيقة عن حياة النمل الاجتماعية القائمة على التفاهم فيما بينها، وأن مجتمع النمل له كما لسائر الكائنات الحية لغة وأنها تتجاذب بها أطراف الحديث بكلام خاص أو بإشارات مسموعة أو غير ذلك مما علمه الله لنبيه سليمان عليه السلام، ويتفاهم النمل بعضه مع بعض في كل ما يتصل بشئونها المختلفة، والنمل كما شوهد في مختلف بيئاته يقوم بمشروعات جماعية، مثل: مد الطرق وإقامة الجسور وبناء مستعمراته، ولا يمكن أن يتم التعاون على إنجاز هذه الأعمال إلا بالتفاهم بلغة متداولة بينها، وكل الذين درسوا حياة النمل وشاهدوا ما عليه حياة النمل من النظام الدقيق في بناء مساكنها وما عليه أفرادها من الذكاء والدهاء وسعة الحيلة وحب العمل والدأب الذى لا يعرف الكلل، ثم إن النمل يتلاقى في مجتمعات للتعارف وتبادل المنافع، كما أنه هو الوحيد من بين سائر الحشرات الذي يهتم بدفن موتاه وغير ذلك مما يدل على حياة منتظمة حية نشطة لها كيان ودستور يحكمها في كل سلوكها57.
والنمل من أذكى الحشرات وهي ترى بموجات ضوئية يراها الإنسان، ولغة النمل كيمياوية، لها وظيفتان: التواصل والإنذار، فلو سحقت نملة فإن رائحة تصدر عنها تستغيث بها النملات، أو تحذرها من الاقتراب من المجزرة، ولا تستطيع نملة دخول مسكنها إلا إذا بينت كلمة السر، وللنمل جهاز هضم مدهش فيه فم ومريء ومعدة وأمعاء وجهاز مص وضخ، فسبحان من زود هذا المخلوق الصغير بكل وسائل الحياة58.
ثانيًا: العنكبوت:
ذكر القرآن الكريم البناء لبيت العنكبوت بصيغة المؤنث اتخذت، قال تعالى: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) [العنكبوت:٤١].
إن الاعجاز العلمي في هذه الآية الكريمة يتجلى بأجلى معانيه في لفظة: (ﮈ)، بصيغة الفعل المؤنث، وهي إشارة علمية في غاية الروعة والدقة للدلالة على أن ما يقوم ببناء بيوت العناكب هي الأنثى منه، وأن الذكر من العناكب لا شأن له بذلك، وهذه حقيقة ما كان أحد مطلقًا يفطن إليها وقت نزول القرآن، ولكن لما اشتغل علماء الأحياء حديثًا بدراسة الحشرات ووضعوا في دراستها علمًا قائمًا بذاته تبينت لهم حقائق مذهلة عن حياة الحشرات التي تبلغ مئات الآلاف في أنواعها، وأن كل نوع منها يتميز بأشكاله وأحجامه وألوانه وطبائعه وغرائزه المميزة لكل نوع منها عما سواه، وقد دلت الدراسة المستفيضة للحشرات أن بعضها له حياة اجتماعية ذات نظم ومبادئ وقوانين تلتزم بها في إعداد مساكنها والحصول على أقواتها والدفاع عن نفسها والتعاون فيما بينها بصورة تدهش العقول؛ وذلك بإلهام من خالقها الذي يجعلها تبدو وكأنها أمم لها كيان ونظام وعمران59.
ومن الدراسات لحياة العناكب لاحظ العلماء: أن لها قدرات في العمليات الإنشائية حين تشيد بيوتها وتنسج غزلها، وكشف العلماء عن ثلاثة أزواج من المغازل توجد في مؤخرة بطن العنكبوت، تأتيها المادة الخام عن طريق سبع غدد في الأقل، وأحيانًا يصل عدد هذه الغدد في بعض أنواع العناكب إلى (٦٠٠)، وخيوط العنكبوت حريرية جدًّا، وسمك شعرة واحدة من رأس الإنسان يزيد عن سمك خيط نسيج العنكبوت بحوالي (٤٠٠) مرة، ولقد اكتشف عالم ألماني أن كل خيط من خيوط العنكبوت مؤلف من (٤٠٠٠) خيط، وكل خيط يخرج من ثقب خاص بجسم العنكبوت، وإن شعرة واحدة من شعر الإنسان لهي أغلظ من (٤) مليار خيط من خيوط العنكبوت.
إن كلمة (ﮌ) في الآية هي خاصة ببيت العنكبوت وليس بخيطه، إذًا فهذا البيت غير مأمون.
ثم يضيف في هذه الآية: (ﮑ ﮒ ﮓ)، ذلك أن هذه الآية لم تكن معلومة في ذلك العصر، إلا أن العلم الحديث استطاع أن يكتشف أن هذا الوهن يعود سببه إلى الأنثى التي تقتل الذكر وتأكل أولادها والأولاد يأكل بعضهم بعضًا، ومما يزيد من الإعجاز هذه الصورة المتشابهة مع الذين يتخذون من دون الله أولياء يبتغون عندهم العزة والمنفعة فينقلب أولياؤهم أعداء لهم ويتبرؤون منهم.
وأما الآية: (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) [العنكبوت:٤٣].
فيبين الله تعالى أن إدراك هذا المثل يحتاج إلى علم في عالم الحيوان، وهذه الأسرار في هذا العالم لم تظهر إلا مؤخرًا60.
ثالثًا: الذباب:
وضرب الله تعالى مثلًا في بيان عجز معبودات المشركين وتفاهتها بالذباب الحقير، فقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ) [الحج:٧٣].
خاطب الله تعالى في هذه الآية الكفار أن أصنامهم التي يعبدونها من دون الله لن تستطيع أبدًا خلق شيء مهما يكن تافهًا حقيرًا كالذباب وإن تضافروا جميعًا على خلقه، بل إن هذا المخلوق التافه لو سلب من الأصنام شيئًا من القرابين التي تقدم إليها فإنها لا تستطيع بحال من الأحوال أن تمنعه عنه أو تسترده منه، وما أضعف الذي يهزم أمام الذباب عن استرداد ما سلبه منه، وما أضعف نفس الذباب، كلاهما شديد الضعف، بل الأصنام أشد ضعفًا، فكيف يليق بإنسان عاقل أن يعبدها ويلتمس النفع منها؟
وإن القرآن الكريم في هذه الآية تحدى الناس جميعًا تحديًا ماديًّا أن يخلقوا ذبابة وهي حشرة ضئيلة فلم يقدروا، واستمر هذا التحدي قائمًا إلى عصرنا هذا، أي: بعد أكثر من ألف سنة من نزول القرآن وبعد أن تقدم العلم تقدمًا هائلًا وبلغت التكنولوجيا ذروتها في التطور والاختراع، فهل تستطيع دولة من الدول بعد ما بلغت ما بلغت من التفوق أن يقف الناس أمام هذا التحدي المادي ويصنع ذبابة واحدة؟
ثم يسألهم هل لو يسلبهم الذباب حياتهم بمرض فتاك ينقل جراثيمه إليهم هل يمكنهم استرداد حياتهم؟
إن القرآن الكريم هو كلام الله المعجز حقًّا قديمًا وحديثًا، وكتابه الذى لا ريب فيه، ولقد اكتشف العلم الحديث أن للذباب غددًا لعابية طويلة وبمجرد أن يأخذ الذباب شيئًا من الطعام فإنه يفرز عليه كمية كبيرة من اللعاب تحوله فورًا إلى مادة أخرى؛ لذلك فالإنسان لا يستطيع أن يسترد من الذباب ما أخذ منه (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [الحج:٧٣].
إن هذه الدقة في التفاصيل لم تكتشف إلا حديثًا، إن الذبابة الواحدة تنقل أكثر من (٣٠) نوعًا من الجراثيم، وتحمل معها حوالي (٥) ملايين جرثومة، كما أن الذبابة الواحدة تبيض أكثر من (١٠٠) بيضة في اليوم دفعة واحدة، وتبيض مثلها كل (١٠) أيام، قلو قدر للذباب أن تعيش عدة أعوام بدلًا من أسابيع لانتشر الذباب في الأرض وأفنى الحياة عليها61.
رابعًا: البعوض:
قال تعالى: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ) [البقرة:٢٦].
قال الشعراوي: «نظر المشركون في هذه الحشرة على قلة حجمها، والإعجاز العلمي اليوم يسير نحو هذه الدقة، والله سبحانه وتعالى يقول للكفار في هذه الآية: أنتم التفتم إلى صغر حجم البعوضة بالنسبة لحجم الإنسان فاحتقرتموها، ولكنكم لم تلتفتوا إلى دقة الخلق، فإن هذه البعوضة بحجمها المتناهي في الصغر تحمل معها كل أجهزة الحياة، من عيون ترى، وأجنحة تطير، وأجهزة جنسية لحفظ النوع، وجهاز هضمي للطعام وإخراج الفضلات، وكل مقومات الحياة، لم يلتفتوا إلى دقة الصنع وعظمة الخالق الذي وضع كل سبل الحياة في هذه المساحة.
ولو أنكم التفتم إلى هذا لعرفتم الحكمة من المثل، ولأدركتم أن هذه البعوضة الصغيرة التي تستهينون بها في مثل حي وضعه الله تعالى أمامكم على دقة الخلق وقدرة الخالق، في أن يجمع كل تلك الأجهزة اللازمة لحياة هذا الكائن الحي في هذا الحجم الصغير، ولكنها سطحية التفكير، وعدم القدرة على التمييز في عقول الكافرين، ثم يقول تعالى: (ﮃ ﮄ) [البقرة:٢٦].
أي: أن الله لا يضرب مثلًا بالبعوضة فقط المتناهية في الصغر في الحجم، بل إنه سبحانه وتعالى لم تقف قدرته عن خلق البعوضة في هذا الحجم الصغير، بل هناك ما هو أصغر من ذلك بكثير خلقه الله، ولذلك فليس هناك نهاية قدرة بل القدرة ممتدة إلى ما هو أصغر وأصغر، وقد تقدم بنا العلم فاستطعنا أن نرى أشياء لم نكن نراها لدقة حجمها، ووجدنا أن هذه الأشياء كلما صغر حجمها زادت قوتها وقدرتها، فالجراثيم -مثلًا- على دقة حجمها تستطيع أن تقتل أقوى الكائنات الحية، وتهلكه دون أن يستطيع النجاة منها»62.
ثم يقول: «إذن الدقة في الخلق هي إعجاز من الله سبحانه وتعالى، لا بد أن ننتبه له، وكلما زادت الدقة زادت معرفتنا لقدرة الخالق الذي استطاع أن يخلق في هذا الحيز الصغير الذي لا يرى بالعين المجردة! استطاع أن يخلق فيه حياة تتكاثر، واستطاع أن يخلق فيه قوة تستطيع أن تفني ما هو أكبر منها بملايين المرات، وما هو أقدر منها ظاهريًّا، ولو أن الكفار كان لديهم شيء من العلم، أو حتى من الفهم لتنبهوا لهذه الحقيقة، ولعرفوا أن الله سبحانه وتعالى حين يضرب هذا المثل ببعوضة فما فوقها، فإنه يلفتنا إلى القدرة الإلهية في دقة الخلق، ويلفتنا إلى أن ما قد لا نراه بأعيننا قد يكون أشد قوة وأخطر مما نرى.
فالكفار عاجزون أمام هذه البعوضة الصغيرة التي يحتقرونها، فهي تستطيع أن تأخذ جزءًا من دمائهم دون أن يستطيعوا أن يردوها، أو يعيدوها مرة أخرى إلى أجسادهم، وهي تستطيع أن تنقل إليهم الأمراض التي قد تقتلهم، ولا يستطيعون منها النجاة، ولذلك فإن ضرب المثل بالبعوضة فيه حكمة بالغة»63.
خامسًا: النحل:
إن مملكة النحل عالم واسع فيه الكثير من العبر الدالة على بديع صنع الله وعظيم قدرته، قال تعالى: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [النحل:٦٨-٦٩].
إن مملكة النحل قائمة على أعلى مستويات التعاون والتكافل والتنظيم والعمل الدؤوب، وهو مجتمع موحد، ونظامه نظام ملكي عادل، واكتشف العلم الحديث أن النحل يملك وسيلة للتخاطب، وهي الرقص كوسيلة لإرشاد زملائه إلى مكان الزهور، وتقدر المسافة بدقة، وأن أفراد خلية النحل تعيش معيشة جماعية قريبة إلى معيشة الإنسان، حيث تخصصت كل جماعة في عمل معين، فمنها الشغالات والمحاربات والآباء والأمهات، ويتراوح عدد أفراد الخلية التي تضمها الخلية من (٣٠٠٠٠) إلى (٦٠٠٠٠) نحلة، وينقسم النحل إلى (٣) أقسام، (الملكة): وهي تضع البيض، ثم (ذكور النحل) الذين يعيشون عيشة رفاهية، ولا عمل لهم سوى تلقيح الملكة حتى ينتج جيل جديد من النحل، والنوع الثالث: هن (الشغالات)، وهن إناث مثل الملكة لكن غير مخصبات.
وتقوم الشغالات ببناء العش الذي يوضع فيه البيض ويربي فيه صغار النحل ويخزن فيه العسل، كما تقوم الشغالات بجمع الرحيق من الأزهار وتحويله إلى عسل، كما أنها تستطيع أن تحول العسل إلى شمع بواسطة غدد خاصة، وعندما تصبح كمية الشمع كافية يبنيها النحل مبتدئًا من السقف متجهًا إلى أسفل، أي: عكس ما يعمله الإنسان، ثم يتم تفريغه على هيئة سداسية متجاورة.
وقد ثبت أن الخلايا السداسية هي أكبر متانة وأكثر اقتصاد؛ إذ لا تترك بينها فجوات كما هي الحال في الخلايا الدائرية مثلًا، وتقطع الشغالة حوالي (٧) كم حتى تجد الأزهار المناسبة، ولكنها ما تلبث أن تعود إلى خليتها بواسطة الشم في خط مستقيم حاملة معها الرحيق، والرحيق عبارة عن سائل تفرزه الأزهار ويحتوي على الجلوكوز، فعندما تحط النحلة على الزهرة وتمتص الرحيق، يصعد الرحيق على طول اللسان ومنها إلى كيس العسل، ويتكرر ذلك إلى أن يمتلئ كيس العسل.
وأثناء رحلة العودة يتحول الرحيق إلى عسل بواسطة غدد خاصة في جسم النحلة الشغالة، وعندما تصل النحلة إلى الخلية تفرغ العسل في إحدى العيون الفارغة في الخلية، وقد تنتج الخلية الواحدة حوالي (١٨) كغ من العسل في الموسم الواحد.
إن ملكة النحل تبيض أيام الموسم حوالي (٢٠٠٠) بيضة في اليوم، لكن عندما تفقد منصبها كملكة فإن العاملات يجدن ملكة جديدة، وبذلك تختار العاملات بيضة واحدة من مئات، ثم تولي هذه البيضة عناية خاصة، وعندما تفقس البيضة تولي العاملات اليرقة عناية شديدة فتطعمها كميات من الغذاء الملكي حتى تكبر وتصبح ملكة.
لاحظ بعض العلماء وجود أزهار تنفتح ثم تنغلق في أوقات محددة من اليوم، وإذا بالنحل يصل إلى أماكن تلك الأزهار في الوقت الذي تنفتح فيه.
إن نحل الخلية يختص كل يوم بنوع معين من الزهر، لذلك عندما تأتي نحلة إلى غير خليتها سرعان ما ينكشف أمرها ويدرك جميع نحل الخلية أنها غريبة، ويعود فضل هذا الكشف إلى رائحة نوع الزهرة المقررة في ذلك اليوم، وكأن الزهرة التي تختارها الخلية كل صباح تصبح كلمة سر خاصة بالخلية64.
موضوعات ذات صلة: |
الحيوان، الخلق، الطير، النبات |
1 انظر: مختار الصحاح، الرازي ص ٧٣، لسان العرب، ابن منظور ٤/ ١٩١، تاج العروس، الزبيدي ١١/ ٢١.
2 انظر: التوقيف ص ١٤١.
3 انظر: المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية ١/١٧٥.
4 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس، ٢/٦٧.
5 انظر: لسان العرب، ابن منظور ١٤/ ٢١٤.
6 انظر: معجم لغة الفقهاء، قلعجي قنيبي ص ١٩٠.
7 انظر: لسان العرب، ابن منظور ١/ ٣٦٩-٣٧٠، تاج العروس، الزبيدي ٢/٣٩٢.
8 انظر: التوقيف، المناوي ص ١٦٣.
9 انظر: لطائف الإشارات القشيري ١/٤٧٠، الكشاف، الزمخشري ٢/٢١، البحر المحيط لأبي حيان ٤/٥٠٠، منهج القرآن الكريم في دعوة المشركين إلى الإسلام للدكتور حمود بن أحمد الرحيلي ١/٣٧٩.
10 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الطب، باب الدواء بالعسل، ٧/١٢٣، رقم ٥٦٨٤، ومسلم في صحيحه، كتاب الآداب، باب التداوي بسقي العسل، ٤/١٧٣٦، رقم ٢٢١٧.
11 انظر: الكشاف، الزمخشري ٢/٦١٩، مدارك التنزيل، النسفي ٢/٢٢٢.
12 تفسير المراغي ١٤/١٠٦.
13 انظر: تفسير المراغي ٩/٤٣، التحرير والتنوير، ابن عاشور ٩/٦٩، تفسير الشعراوي ٧/٤٣١٩.
14 انظر: المنار، محمد رشيد ١٢/١٣، تفسير الشعراوي ١٨/١١١٧٧.
15 إحياء علوم الدين ٤/٣١٩.
16 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٩/٢٤١.
17 انظر: النكت والعيون، الماوردي ٤/٢٠٠، التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٩/٢٤١.
18 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ٣/٣٥٦، اللباب في علوم، ابن عادل ١٥/١٣٣.
19 انظر: موسوعة الطير والحيوان في الحديث النبوي ص ١٩٥.
20 انظر: الكشاف، الزمخشري ٣/١٧١، مفاتيح الغيب، الرازي ٢٣/٢٥١.
21 انظر: النكت والعيون، الماوردي ٤/٤٠، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٢/٩٧.
22 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٤/٢٠٤.
23 انظر: النكت والعيون، الماوردي ٣/١٩٩، الكشاف، الزمخشري ٢/٦١٨.
24 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٣٠/٥١٢.
25 انظر: جامع البيان، الطبري ٢٤/٥٧٤، معاني القرآن وإعرابه، الزجاج ٥/٣٥٥.
26 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ومبالغته في تحذيرهم مما يضرهم، ٤/١٧٩٠، رقم ٢٢٨٥.
27 سبق تخريجه.
28 إحياء علوم الدين ٤/٣١٨.
29 لمسات بيانية في نصوص من التنزيل، فاضل السامرائي ص ١٩٨.
30 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ١/٣٥٧.
31 انظر: العجاب في بيان الأسباب، ابن حجر ١/٢٤٥.
32 انظر: جامع البيان، الطبري ١/٤٠١، تفسير السمرقندي ١/٣٦.
33 انظر: في ظلال القرآن ١/٥٠.
34 تفسير المنار ١/٢٠٠.
35 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور٢٠/٢٥٢.
36 انظر: المحرر الوجيز، ابن عطية ٤/٣١٨، التحرير والتنوير، ابن عاشور٢٠/٢٥٢.
37 إعلام الموقعين ١/١١٩.
38 روح المعاني ١١/١٦.
39 انظر: الكشاف، الزمخشري ٣/٥٧٣.
40 انظر: جامع البيان، الطبري ٢٠/٣٦٩، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٦/٥٠١.
41 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٩/٦٩.
42 انظر: روح المعاني، الألوسي ٥/٣٤.
43 انظر: روح المعاني، الألوسي ٥/٣٣، التحرير والتنوير، ابن عاشور ٩/٦٩.
44 الكشاف، الزمخشري ٣/١٧١.
45 انظر: تفسير المراغي ١/٧١.
46 إعلام الموقعين ١/١٣٩.
47 الصواعق المرسلة ٢/٤٦٦.
48 انظر: الكشاف، الزمخشري ١/١١١.
49 بدائع الفوائد ٤/١٣٦.
50 في ظلال القرآن، سيد قطب ١/٥٠.
51 انظر: جامع البيان، الطبري ١/٤٠١، تفسير السمرقندي ١/٣٦.
52 في ظلال القرآن ١/٥٠.
53 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٦/٢٧٩.
54 انظر: الكشاف، الزمخشري ٣/٤٥٤.
55 مدارج السالكين ١/٣٥١.
56 انظر: جامع البيان، الطبري ٢٤/٥٧٤، معاني القرآن وإعرابه، الزجاج ٥/٣٥٥.
57 انظر: القرآن وإعجازه العلمي، محمد إسماعيل ص ١٠٦.
58 انظر: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة المطهرة، يوسف الحاج ص ٤٩٦.
59 انظر: القرآن وإعجازه العلمي، محمد إسماعيل ص ١٢٨، موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة المطهرة، يوسف الحاج ص ٥٠١.
60 انظر: الموسوعة العلمية في الإعجاز القرآني، سمير عبد الحليم ص ١٢٣، موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة المطهرة، يوسف الحاج ص ٥٠١.
61 انظر: القرآن وإعجازه العلمي، محمد إسماعيل ص ١٢٨، الموسوعة العلمية في الإعجاز القرآني، سمير عبد الحليم ص ١٢٣.
62 معجزة القرآن ٦/١٠٠.
63 المصدر السابق ٦/١٠١.
64 الموسوعة العلمية في الإعجاز القرآني، يوسف الحاج ص ١١٩.