عناصر الموضوع
الحج
أولًا: المعنى اللغوي:
الحجّ مصدر من الفعل: حجّ، بمعنى قصد، ويطلق الحجّ ويراد به القصد، قال ابن منظور: «الحجّ القصد، حجّ إلينا فلان، أي: قدم، وحجّه يحجّه حجًّا: قصده، وحججت فلانًا واعتمدته أي: قصدته، ورجلٌ محجوجٌ أي: مقصود»1. تقول: حججت البيت أحجّه حجًّا، فأنا حاجٌّ، وأحججت فلانًا إذا بعثته ليحجّ2.
والحجّ بفتح الحاء وكسرها، لغتان مشهورتان، ونقل الطبري: أنّ الكسر لغة أهل نجد، والفتح لغة أهل العالية، قال: «ولم نر أحدًا من أهل العربية ادّعى فرقًا بينهما في معنى ولا غيره، غير ما ذكرنا من اختلاف اللغتين، إلا ما قاله حسين الجعفي: إنّ الحج بالفتح اسمٌ، والحج بالكسر عملٌ»3.
فأصل الحج في اللغة: القصد مطلقًا -إلى كل شيء-، فكلّ قصدٍ حجٌّ، وقال جماعة: إنّه القصد لمعظّم4. وقال الخليل: «كثرة القصد إلى معظّم»5.
والفرق بين الحجّ ومجرد القصد: أنّ الحجّ: هو القصد على استقامة، ومن ثمّ سمي قصد البيت حجًّا؛ لأنّ من يقصد زيارة البيت لا يعدل عنه إلى غيره6.
ثانيًا: الحج في اصطلاحًَا
نقل القرآن الكريم لفظ الحجّ من معناه اللغوي العام إلى معنى اصطلاحي خاص؛ ليكون اسمًا وعنوانًا للعبادة الإسلامية المعروفة، وذلك كما خصّت الصلاة وغيرها من المعنى اللغوي العام إلى معنى اصطلاحي خاص.
ويعرّف الحج في الاصطلاح بأنّه: قصدٌ لبيت الله عز وجل بصفة مخصوصة، في وقت مخصوص، بشرائط مخصوصة؛ تقرّبًا إلى الله عز وجل7.
وردت مادة (حجّ) في القرآن الكريم (٣٣) مرة، أما ما يتعلق منها بلفظ (الحج) فقد بلغ(١٢) مرة8.
والصيغ التي وردت هي:
الصيغة |
عدد المرات |
المثال |
الفعل الماضي |
١ |
(ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) [البقرة: ١٥٨] |
اسم فاعل |
١ |
(ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ) [التوبة: ١٩] |
مصدر |
٩ |
(ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) [البقرة: ١٩٦] |
الاسم |
١ |
(ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) [آل عمران: ٩٧] |
وجاء الحجّ في الاستعمال القرآني بمعناه الشرعي، وهو قصد البيت لأداء النسك9، قال الله تعالى: (ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) [البقرة: ١٥٨]، أي: قصد البيت لأداء النسك.
العمرة:
العمرة لغة:
العمرة بالضّم: هي الزّيارة التي فيها عمارة الودّ10.
العمرة اصطلاحًا:
«زيارة البيت الحرام بشروط مخصوصة مذكورة في الفقه»11.
الصلة بين الحجّ والعمرة:
الحجّ والعمرة عبادتان يشتركان في أنّ كلًا منهما قصدٌ لبيت الله الحرام، بشروط مخصوصة، إلا أنّه يوجد فرق بين العبادتين، من ذلك: أنّ العمرة يمكن للإنسان أن يؤديها في السّنة كلها، أمّا الحج فله وقت واحد في السنة، لا يجوز أن يؤدى في غيره، ولا يجوز أن يحرم به إلا في أشهر الحج: شوّال وذي القعدة وعشر من ذي الحجة، وكذلك: فإنّ أركان العمرة تقتصر على الإحرام والطواف والسعي، ثم الحلق أو التقصير، أمّا الحج ففيه زيادة على ذلك كالوقوف بعرفة12.
الطّواف:
الطّواف لغة:
مشتق من الفعل طاف، وأصله طوف بمعنى دار حول الشيء، وطاف بالبيت: دار حوله13.
الطّواف اصطلاحًا:
لا يختلف عن المعنى اللغوي، فالطواف بالبيت يعنى: المشي والدوران حوله14.
الصلة بين الطّواف والحج:
الطّواف بالبيت الحرام (طواف الزيارة) ركن من أركان الحجّ، كالوقوف بعرفة15، لا يصح الحجّ بدونه، وقد يؤدى الطّواف كعبادة مستقلّة عن عبادة الحجّ.
الحج إلى الكعبة هو فرض إلهي قديم، يمارس منذ أن قام إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام ببناء الكعبة، أول بيت وضع للناس، وفي القرآن آيات تدل على أن الحج كان مفروضًا قبل الإسلام، وتشير إلى مناسكه ومنافعه، فالناس كانوا يأتون من كل فجٍّ عميق، مشاة وركبانًا، رجالًا ونساء؛ ليطوفوا بالبيت العتيق، كما قال تعالى: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) [الحج: ٢٧].
وهذه الآية تؤيد ما ذكرته الروايات من أن موسم الحج لم يكن قاصرًا على أهل مكة أو الحجاز، بل كان من الحجاج من يأتي من اليمن والشام والعراق وغيرها، منهم من كان يأتي للحج، ومنهم من كان يأتي للدعوة لدينه، ومنهم من كان يأتي للاتجار، ومنهم من كان يأتي للمفاخرة، والخطابة، وإنشاد الشعر.
حتى كان الحج لدى العرب قبل ظهور الإسلام مناسبة دينية، وثقافية، واجتماعية، واقتصادية، يلتقون فيها للعبادة، والمتاجرة، والتعارف.
وقد ظل المشركون يؤمّون المسجد الحرام، ويقومون بمناسك الحج إلى ما بعد فتح مكة، حتى حرّم الإسلام على المشركين بدءًا من العام التاسع الهجري أن يقربوا المسجد الحرام.
وعلى هذا فقد عرف العرب الحج قبل الإسلام، فكان الحج معلومًا عندهم، مشروعًا لديهم، فخوطبوا بما علموا، وألزموا ما عرفوا، فكان سائر العرب يحجون قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانوا على شريعة سيدنا إبراهيم عليه السلام في الحج، إلا أنهم غيّروا وحرّفوا فيه كثيرًا.
وقد حج النبي صلى الله عليه وسلم معهم قبل فرض الحج، فوقف بعرفة، ولم يغيّر من شرع إبراهيم ما غيّروا، حيث كانت قريش تقف بالمزدلفة، ويقولون: نحن أهل الحرم، فلا نخرج منه، ونحن الحمس، وكما أحدثوا من الطواف حول البيت عرايا، إلى أن جاء الإسلام، وفرض الحج، فتغيّر مفهوم الحج، وما كان عليه العرب قبل الإسلام، حيث نزل القرآن وألغى هذه العادات الجاهلية.
قالت عائشة رضي الله عنها: (كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحمس، وكان سائر العرب يقفون بعرفات، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات، ثم يقف بها، ثم يفيض منها، فذلك قول الله: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [البقرة: ١٩٩])16.
ويشهد لهذا الكلام قول الله تعالى: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) [آل عمران: ٩٧].
حيث نلحظ أن الخطاب في هذه الآية الكريمة جاء للناس كافة، أما باقي أركان الإسلام فقد توجه الخطاب فيها إلى المؤمنين، مثل قوله تعالى في سورة النساء: (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [النساء: ١٠٣].
وقوله تعالى في سورة التوبة: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [البقرة: ١٨٣].
وهذا دليل على عالمية الحج، وإلا فما معنى أن يتوجه الخطاب للناس عند الحديث عن الحج دون سائر الأركان؟ كما في قوله السابق في آل عمران: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ)، وقوله تعالى في سورة الحج: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) [الحج: ٢٧].
إلا أن يكون دلالةً على أن الحج كان معروفًا في الأمم السابقة.
ففي قوله تعالى في هذه الآية: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) يشير إلى أن فريضة الحج هي استحقاق رباني، ولنتأمل هذا التعبير: (ﮬ ﮭ) فهو إذن استحقاق، وهو دين على الناس، كل الناس، كيف لا والمسجد الحرام هو أول بيت وضع لعبادة الله؟! كيف لا ومكة هي أم القرى؟! من هنا كان الخطاب للناس كل الناس.
وهنا يبرز سؤال وهو: هل يطلب الحج من كل الناس بمن فيهم غير المؤمنين؟ والجواب: نعم، فكما خوطب الإنسان أن يعبد ربه وحده، وفق ما بيّنه الله تعالى في رسالاته، خوطب أيضًا بأن يقصد البيت الحرام الذي فيه عبد الآباء الأوائل ربهم، والذي منه انطلقوا ليكونوا خلفاء الأرض، ومن أراد أن يستجيب إلى هذا الأذان، فعليه أن يقبل شروط أداء هذا الاستحقاق، وهو الإيمان والإسلام.
ومما يدل على عالمية الحج أيضًا قوله تعالى: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [آل عمران: ٩٦].
فنلحظ في قوله: (ﮙ ﮚ) و(ﮞ ﮟ) وقوله في الآية السابقة: (ﮬ ﮭ ﮮ) و (ﯛ ﯜ ﯝ) وبالرجوع إلى الآية التي في سورة الحج، وهي قوله تعالى: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) وهي آخر آية ذكر فيها لفظ الحج في القرآن الكريم، نجد أن أذان إبراهيم عليه السلام بالحج كان أذانًا عالميًّا، بدلالة (ﮇ ﮈ ﮉ) و (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ).
فهي إذن العودة إلى حيث بدأ الإنسان، بل إن الحاج يتمثّل الحالة التي كانت أولًا من البساطة في المظهر واللباس.
إذن يمكن القول أن الحج إلى البيت العتيق كان في شريعة الأنبياء والرسل، فقد صحت آثار تشير إلى هذا المعنى، منها ما ورد في صحيح مسلم أن يونس وموسى عليهما السلام قد حجّا، فعن ابن عبّاس: (أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مرّ بوادي الأزرق فقال: (أيّ وادٍ هذا؟) فقالوا: هذا وادي الأزرق. قال: (كأنّي أنظر إلى موسى عليه السلام هابطًا من الثّنيّة، وله جؤارٌ إلى اللّه بالتّلبية) ثمّ أتى على ثنيّة هرشى فقال: (أيّ ثنيّةٍ هذه؟) قالوا ثنيّة هرشى. قال: (كأنّي أنظر إلى يونس بن متّى عليه السلام على ناقةٍ حمراء جعدةٍ، عليه جبّةٌ من صوفٍ، خطام ناقته خلبةٌ وهو يلبّي)17.
ومما يدل على أن الحج كان معروفًا ما جاء في سورة القصص من قوله تعالى: (ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ) [القصص: ٢٧].
فالمقصود هنا ثمانية أعوام، على اعتبار أن في كل عام حجة إلى بيت الله الحرام، وهذا أيضًا يدل على أنهم كانوا يحجون.
إلا أنه ليس بالضرورة أن يكون الحج عندهم كما في شريعة محمد تمامًا، في كيفيته، وأوقاته، وصفاته؛ لأننا قد وجدنا المغايرة في الصوم واضحة، فهكذا في غيرها، فالشرعة عامة للجميع، والمنهاج خاص.
يقول ابن عاشور: «والحج من أشهر العبادات عند العرب، وهو مما ورثوه عن شريعة إبراهيم عليه السلام ، كما حكى الله ذلك بقوله: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) [الحج: ٢٧] الآية، حتى قيل: إن العرب هم أقدم أمة عرفت عندها عادة الحج، وهم يعتقدون أن زيارة الكعبة سعي لله تعالى ، قال النابغة يصف الحجيج، ورواحلهم:
عليهن شعث عامدون لربهم
فهن كأطراف الحني خواشع
وكانوا يتجردون عند الإحرام من مخيط الثياب، ولا يمسّون الطيب، ولا يقربون النساء، ولا يصطادون، وكان الحج طوافًا بالبيت، وسعيًا بين الصفا والمروة، ووقوفًا بعرفة، ونحرًا بمنى، وربما كان بعض العرب لا يأكل مدة الحج أقطًا ولا سمنًا، أي: لأنه أكل المترفهين، ولا يستظل بسقف، ومنهم من يحج متجردًا من الثياب، ومنهم من لا يستظل من الشمس، ومنهم من يحج صامتًا، لا يتكلم، ولا يشربون الخمر في أشهر الحج، ولهم في الحج مناسك وأحكام»18.
إبراهيم عليه السلام والنداء بالحج:
أمر الله خليله إبراهيم عليه السلام بعد أن رفع قواعد البيت أن يؤذن في الناس للحج، فقال تعالى: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) [الحج: ٢٧].
وهذه الآية كقوله تعالى إخبارًا عن إبراهيم، حيث قال في دعائه: (ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) [إبراهيم: ٣٧].
فليس أحد من أهل الإسلام إلا وهو يهفو إلى رؤية الكعبة والطواف، فالناس يقصدونها من سائر الجهات والأقطار.
فقوله: (ﮇ) الأذان في اللغة: الإعلام، أي: ناد فيهم ليحجوا19.
وقد ذكر المفسرون: أنه لما أمره ربه أن يؤذّن في الناس بالحج، قال: يا رب كيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟ فقال: ناد وعلينا البلاغ، فقام على مقامه، وقيل: على الحجر، وقيل: على الصفا، وقيل: على أبي قبيس، وقال: يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتًا فحجّوه، فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة: لبيك اللهم لبيك20.
وقال ابن عباس: «فأول من أجابه أهل اليمن، فهم أكثر الناس حجًّا»، وقال مجاهد: «من أجاب مرة حج مرة، ومن أجاب مرتين أو أكثر فيحج مرتين أو أكثر، بذلك المقدار»21.
واختلف في المراد بالخطاب في قوله: (ﮇ) فقيل: إن الخطاب لإبراهيم، كما هو ظاهر من السياق، وهو قول الجمهور22.
وقوله تعالى: (ﮋ) أي: إن تؤذن في الناس بالحج يأتوك، وإنما قال: (ﮋ) لأن المدعو يتوجه نحو الداعي، وإن كان إتيانهم في الحقيقة للحج؛ لأن نداء إبراهيم للحج: أي: يأتوك ملبين دعوتك، حاجين بيت الله الحرام، كما ناديتهم لذلك.
وقيل: إن في تعليق فعل (ﮋ) بضمير خطاب إبراهيم دلالة على أنه كان يحضر موسم الحج كل عام، يبلّغ للناس التوحيد، وقواعد الحنيفية23.
وفي هذه الآية دليل على وجوب الحج، وعلى قول الجمهور فوجوب الحج بها على هذه الأمة مبني على أن شرع من قبلنا شرع لنا...، مع أنه دلت آيات أخر على أن الإيجاب المذكور على لسان إبراهيم وقع مثله أيضًا على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، كقوله تعالى: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) [آل عمران: ٩٧].
وقوله تعالى: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) [البقرة: ١٩٦].
وقوله تعالى: (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ) [البقرة: ١٥٨]24.
وقوله: (ﮌ) أي: مشاة، جمع راجل25. أي: يأتيك من لهم رواحل، ومن يمشون على أرجلهم، ولكون هذه الحال أغرب قدّم قوله: (ﮌ) ثم ذكر بعده (ﮍ ﮎ ﮏ) تكملة لتعميم الأحوال؛ إذ إتيان الناس لا يعدو أحد هذين26.
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: «وقوله: (ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ) قد يستدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الحج ماشيًا لمن قدر عليه أفضل من الحج راكبًا؛ لأنه قدّمهم في الذكر، فدل على الاهتمام بهم، وقوة هممهم...، وعن ابن عباس قال: ما آسى على شيء إلا أني وددت أني كنت حججت ماشيًا؛ لأن الله يقول: (ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ). والذي عليه الأكثرون: أن الحج راكبًا أفضل؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه حج راكبًا مع كمال قوته صلى الله عليه وسلم»27.
وقوله: (ﮐ) وإنما أسند الإتيان إلى الرواحل دون الناس فلم يقل: (يأتون) لأن الرواحل هي سبب إتيان الناس من بعد لمن لا يستطيع السفر على رجليه، ويجوز أن تجعل جملة (ﮐ) حالًا ثانية من ضمير الجمع في (ﮋ) لأن الحال الأولى تضمنت معنى التنويع والتصنيف، فصار المعنى: يأتوك جماعات، فلما تأول ذلك بمعنى الجماعات جرى عليهم الفعل بضمير التأنيث. هذا الوجه أظهر؛ لأنه يتضمن زيادة التعجيب من تيسير الحج حتى على المشاة، وقد تشاهد في طريق الحج جماعات بين مكة والمدينة يمشون رجالًا بأولادهم وأزواجهم، وكذلك يقطعون المسافات بين مكة وبلادهم28.
وقوله: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) وقرأ ابن مسعود: (معيق) يقال: بئر بعيدة العمق والمعق29. أي: بعيد، ومنه قول الشاعر30:
تلعب لديهن بالحريق
مدى نياط بارح عميق
والفج: الشق بين جبلين تسير فيه الركاب، فغلب الفج على الطريق؛ لأن أكثر الطرق المؤدية إلى مكة تسلك بين الجبال، والعميق: البعيد إلى أسفل؛ لأن العمق البعد في القعر، فأطلق على البعيد مطلقًا بطريقة المجاز المرسل، أو هو استعارة بتشبيه مكة بمكان مرتفع، والناس مصعدون إليه، وقد يطلق على السفر من موطن المسافر إلى مكان آخر إصعاد، كما يطلق على الرجوع انحدار وهبوط، فإسناد الإتيان إلى الرواحل تشريف لها بأن جعلها مشاركة للحجيج في الإتيان إلى البيت31.
أهم شعائر الحج في شريعة إبراهيم عليه السلام:
سبق الإشارة إلى أنه يرجع تاريخ الحج إلى عهد نبي الله إبراهيم الخليل عليه السلام، فهو أول من بنى البيت على التحقيق، وأول من طاف به مع ولده إسماعيل عليهما السلام، وهما اللذان سألا ربهما سبحانه وتعالى أن يريهما أعمال الحج ومناسكه، فقال تعالى حكاية لدعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [البقرة: ١٢٨].
ومن ثمّ نعلم أن الله تعالى قد تعبّد ذرية إسماعيل بهذه المناسك، وأنها بقيت في العرب إلى عهد الإسلام الحنيف، غير أن العرب لما نسوا التوحيد، وداخلهم الشرك تبع ذلك تحريف وتغيير في أعمال هذه العبادة.
إذن يمكن القول أن الكثير من أعمال الحج كان على عهد إبراهيم عليه السلام ، ولكن المشركين ابتدعوا بعض الأمور التي لم تكن مشروعة، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالفهم في ذلك، وبيّن المشروع من أعمال الحج.
ولنعد إلى الآية الأولى، وهي قوله تعالى: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) [البقرة: ١٢٨].
لنتبين منها بعض هذه المناسك في عهد إبراهيم، وأحكامها.
فقوله: (ﭪ ﭫ) أصل النسك بضمتين غاية العبادة، وشاع في الحج لما فيه من الكلفة غالبًا، والبعد عن العادة32. واختلفوا في تسميته منسكًا على وجهين:
أحدهما: لأنه معتاد، ويتردد الناس إليه في الحج والعمرة، من قولهم: إن لفلان منسكًا، إذا كان له موضع معتاد لخير أو شر، فسميت بذلك مناسك الحج لاعتيادها.
والثاني: أن النسك عبادة الله تعالى؛ ولذلك سمّي الزاهد ناسكًا لعبادة ربه، فسميت هذه مناسك لأنها عبادات33.
واختلف في المراد بالمناسك هنا -التي طلب إبراهيم ربه أن يريه إياها- فبعضهم حمل المناسك على شعائر الحج، وأعماله كالطواف والسعي والوقوف، وبعضهم حمله على المواقف والمواضع التي يقام فيها شرائع الحج، مثل: منى وعرفات والمزدلفة ونحوها، وبعضهم حمله على المجموع34. ولعله هو الصواب.
ومعنى: (ﭪ ﭫ) هذا دعاء وسؤال لإرشادهم لكيفية الحج الذي أمرا به من قبل أمرًا مجملًا35. والمعنى: أي: علمناها على وجه الرؤية والمشاهدة؛ ليكون أبلغ، ويحتمل أن يكون المراد بالمناسك: أعمال الحج كلها، كما يدل عليه السياق والمقام، ويحتمل أن يكون المراد ما هو أعم من ذلك، وهو الدين كله، والعبادات كلها، كما يدل عليه عموم اللفظ؛ لأن النسك: التعبد، ولكن غلب على متعبدات الحج تغليبًا عرفيًّا، فيكون حاصل دعائهما يرجع إلى التوفيق للعلم النافع، والعمل الصالح36.
قال ابن كثير في قوله: (ﭪ ﭫ): «وعن مجاهد قال: قال إبراهيم: (ﭪ ﭫ) فأتاه جبرائيل، فأتى به البيت، فقال: ارفع القواعد، فرفع القواعد، وأتم البنيان، ثم أخذ بيده، فأخرجه، فانطلق به إلى الصفا، قال: هذا من شعائر الله، ثم انطلق به إلى المروة، فقال: وهذا من شعائر الله، ثم انطلق به نحو منًى، فلما كان من العقبة إذا إبليس قائم عند الشجرة، فقال: كبّر وارمه، فكبّر ورماه، ثم انطلق إبليس، فقام عند الجمرة الوسطى، فلما جاز به جبريل وإبراهيم، قال له: كبّر وارمه، فكبّر ورماه، فذهب إبليس، وكان الخبيث أراد أن يدخل في الحج شيئًا، فلم يستطع، فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به المشعر الحرام، فقال: هذا المشعر الحرام، فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به عرفات، قال: قد عرفت ما أريتك؟ قالها: ثلاث مرار، قال: نعم»37.
قيل: فسميت بسبب ذلك: عرفات.
وفي طلب إبراهيم من الله أن يعلّمه مناسك الحج ظهور لشرف عمل الحج، حيث كان متلقّى عن الله بلا واسطة38.
وفي الآية: أن الأصل في العبادات أنها توقيفية، يعني: الإنسان لا يتعبد لله بشيء إلا بما شرع؛ لقوله تعالى: (ﭪ ﭫ). وفيها: تحريم التعبد لله بما لم يشرعه؛ لأنهما دعوا الله عز وجل أن يريهما مناسكهما، فلولا أن العبادة تتوقف على ذلك لتعبدا بدون هذا السؤال39.
وعن قتادة قوله: (ﭪ ﭫ) فأراهما الله مناسكهما: الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والإفاضة من عرفات، والإفاضة من جمع، ورمي الجمار، حتى أكمل الله الدين -أو دينه-40. وقد جاء الإشارة إلى بعض مناسك الحج في زمن إبراهيم كالطواف في قوله تعالى: (ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [الحج: ٢٦].
وسيأتي الكلام على الطواف لاحقًا -إن شاء الله-.
الحج ومشركو العرب:
كان المشركون يحجون، ويعتمرون، وقد اتفق العرب جميعًا على احترام البيت، وتعظيمه، وكان من دخله يصبح آمنًا مما يخيفه، إلا أنهم ابتدعوا في الحج بعض الأمور التي لم تكن مشروعة، ومنها:
وقد جاء أن سبب نزول قوله تعالى: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ) [الأعراف: ٣١] أن المشركين كانوا يطوفون بالبيت عراة.
قال أبو جعفر الطبري: «يقول تعالى ذكره لهؤلاء الذين يتعرّون عند طوافهم ببيته الحرام، ويبدون عوراتهم هنالك من مشركي العرب، والمحرّمين منهم أكل ما لم يحرّمه الله عليهم من حلال رزقه؛ تبرّرًا عند نفسه لربه: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ) من الكساء واللباس عند كل مسجد»41.
وقال الشنقيطي في تفسير هذه الآية: «فإذا علمت ذلك: فاعلم أن سبب نزول قوله تعالى: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ) أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة، فكانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة، فتقول: من يعيرني ثوبًا تجعله على فرجها»42.
ويؤيد هذا ماء جاء في البخاري عن عروة: «.... كان الناس يطوفون في الجاهلية عراة إلا الحمس، والحمس قريش، وما ولدت، وكانت الحمس يحتسبون على الناس يعطي الرجل الرجل الثياب يطوف فيها، وتعطي المرأة المرأة الثياب تطوف فيها، فمن لم يعطه الحمس طاف بالبيت عريانًا...»43. وفي مسلم: عن ابن عباس قال: «كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة، فتقول: من يعيرني تطوافًا تجعله على فرجها، وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله
فما بدا منه فلا أحله
فنزلت هذه الآية: (ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ) [الأعراف: ٣١]»44.
وقد روي: أن الحمس كانوا يقولون: نحن أهل الحرم فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلا في ثيابنا، ولا يأكل إذا دخل أرضنا إلا من طعامنا، فمن لم يكن له من العرب صديق بمكة يعيره ثوبًا، ولا يجد ما يستأجر به كان بين أحد أمرين: إما أن يطوف بالبيت عريانًا، وإما أن يطوف في ثيابه، فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه عنه، فلم يمسه أحد، وكان ذلك الثوب يسمى: (اللقى) بفتح اللام، قال شاعرهم45:
كفى حزنًا كري عليه كأنه
لقى بين أيدي الطائفين حرام
وفي الكشاف عن طاووس: «كان أحدهم يطوف عريانًا، ويدع ثيابه وراء المسجد، وإن طاف وهي عليه ضرب وانتزعت منه؛ لأنهم قالوا: لا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها، وقيل: تفاؤلًا ليتعرّوا من الذنوب كما تعرّوا من الثياب»46.
وقد أبطله النبي صلى الله عليه وسلم ؛ إذ أمر أبا بكر رضي الله عنه عام حجته سنة تسع أن ينادي في الموسم: (أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان)47.
كانت قريش لا تقف مع الناس ترفعًا، بل تقف بالمزدلفة، فأمرهم الله جل جلاله بالوقوف مع الناس، فقال لهم: (ﮐ ﮑ) [البقرة: ١٩٩]، يا معشر قريش (ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) بأن تقضوا معهم، وتفيضوا من حيث أفاضوا، (ﮖ ﮗ) في تغييركم مناسك إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام48.
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: «(ﮐ) هاهنا لعطف خبر على خبر، وترتيبه عليه، كأنه تعالى أمر الواقف بعرفات أن يدفع إلى المزدلفة ليذكر الله عند المشعر الحرام، وأمره أن يكون وقوفه مع جمهور الناس بعرفات، كما كان جمهور الناس يصنعون، يقفون بها إلا قريشًا، فإنهم لم يكونوا يخرجون من الحرم، فيقفون في طرف الحرم عند أدنى الحل، ويقولون: نحن أهل الله في بلدته، وقطّان بيته»49.
وقال الألوسي: «قوله: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [البقرة: ١٩٩].
أي: من عرفة لا من المزدلفة، والخطاب عام، والمقصود إبطال ما كان عليه الحمس من الوقوف بجمع، ومعناها: ثم أفيضوا أيها الحجاج من مكان أفاض جنس الناس منه قديمًا وحديثًا، وهو عرفة لا من مزدلفة»50.
حيث كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم بين مسجد منى وبين الجبل بعد فراغهم من الحج يذكرون فضائل آبائهم، فأنزل الله قوله تعالى: (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ) [البقرة: ٢٠٠].
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: «وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم فيقول الرجل منهم: كان أبي يطعم، ويحمل الحمالات (ويحمل الديات) ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم، فأنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ)51.
فقوله: (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ) أي: فإذا فرغتم من عباداتكم، وأديتم أعمال حجكم، فتوفروا على ذكر الله وطاعته كما كنتم تتوفرون على ذكر مفاخر آبائكم، بل عليكم أن تجعلوا ذكركم لله تعالى أشد وأكثر من ذكركم لمآثر آبائكم؛ لأن ذكر مفاخر الآباء إن كان كذبًا أدى إلى الخزي في الدنيا، والعقوبة في الآخرة، وإن كان صدقًا فإنه في الغالب يؤدي إلى العجب، وكثرة الغرور، أما ذكر الله بإخلاص وخشوع فثوابه عظيم، وأجره كبير، وفضلًا عن ذلك فإن المرء إذا كان لا ينسى أباه، فالأولى أن لا ينسى من ربّاه، وهو الله رب العالمين، فالمقصود من الآية الكريمة الحث على ذكر الله تعالى ، والنهي عن التفاخر بالأحساب والأنساب52.
يقول الله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) [التوبة: ٣٧].
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: «هذا مما ذم الله تعالى به المشركين من تصرفهم في شرع الله بآرائهم الفاسدة، وتغييرهم أحكام الله بأهوائهم الباردة، وتحليلهم ما حرم الله، وتحريمهم ما أحل الله، فإنهم كان فيهم من القوة الغضبية والشهامة والحمية ما استطالوا به مدة الأشهر الثلاثة في التحريم المانع لهم من قضاء أوطارهم من قتال أعدائهم، فكانوا قد أحدثوا قبل الإسلام بمدة تحليل المحرم، وتأخيره إلى صفر، فيحلّون الشهر الحرام، ويحرّمون الشهر الحلال؛ ليواطئوا عدة الأشهر الأربعة، كما قال شاعرهم -وهو عمير بن قيس المعروف- بجذل الطعان:
لقد علمت معد أنّ قومي
كرام النّاس أنّ لهم كراما
ألسنا الناسئين على معد
شهور الحل نجعلها حراما
فأيّ النّاس لم تدرك بوتر
وأيّ النّاس لم نعلك لجاما»53.
فقوله: (ﭑ ﭒ) النسيء عند العرب: تأخير يجعلونه لشهر حرام، فيصيّرونه حلالًا، ويحرّمون شهرًا آخر من الأشهر الحلال عوضًا عنه في عامه54.
قال الخازن: «ومعنى النسيء المذكور في الآية: هو تأخير شهر حرام إلى شهر آخر، وذلك أن العرب في الجاهلية كانت تعتقد حرمة الأشهر الحرم، وتعظيمها، وكان ذلك مما تمسكت به من ملة إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، وكانت عامة معايش العرب من الصيد والغارة، فكان يشق عليهم الكف عن ذلك ثلاثة أشهر متوالية، وربما وقعت حروب في بعض الأشهر الحرم، فكانوا يكرهون تأخير حروبهم إلى الأشهر الحلال، فنسؤوا، يعني: أخّروا تحريم شهر إلى شهر آخر، فكانوا يؤخّرون تحريم المحرم إلى صفر، فيستحلون المحرم، ويحرّمون صفر، فإذا احتاجوا إلى تأخير تحريم صفر أخّروه إلى ربيع الأول، فكانوا يصنعون هكذا يؤخّرون شهرًا بعد شهر، حتى استدار التحريم على السنة كلها، وكانوا يحجون في كل شهر عامين، فحجوا في الحجة عامين، ثم حجوا في المحرم عامين، ثم حجوا في صفر عامين، وكذا باقي شهور السنة»55.
وقوله: (ﭓ ﭔ ﭕ): قال ابن عاشور: «ووجه كونه كفرًا أنهم يعلمون أن الله شرع لهم الحج، ووقّته بشهر من الشهور القمرية المعدودة، المسماة بأسماء تميزها عن الاختلاط، فلما وضعوا النسيء قد علموا أنهم يجعلون بعض الشهور في غير موقعه، ويسمونه بغير اسمه، ويصادفون إيقاع الحج في غير الشهر المعين له، أعني شهر ذي الحجة؛ ولذلك سموه النسيء اسمًا مشتقًا من مادة النساء، وهو التأخير، فهم قد اعترفوا بأنه تأخير شيء عن وقته، وهم في ذلك مستخفّون بشرع الله تعالى، ومخالفون لما وقّت لهم عن تعمد، مثبتين الحل لشهر حرام، والحرمة لشهر غير حرام؛ وذلك جرأة على دين الله، واستخفاف به؛ فلذلك يشبه جعلهم لله شركاء، فكما جعلوا لله شركاء في الإلهية، جعلوا من أنفسهم شركاء لله في التشريع، يخالفونه فيما شرعه، فهو بهذا الاعتبار كالكفر»56.
وقوله تعالى: (ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ) أي: بالنسيء، يزدادون ضلالًا فوق ضلالهم، وقوله: (ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ) يعني: النسيء، وهو الشهر الذي أخّروه، أي: أخروا حرمته إلى الشهر الذي بعده؛ ليتمكنوا من القتال في الشهر الحرام، فعامًا يحلّون، وعامًا يحرّمون، حتى يوافقوا عدة الأشهر الحرم، بلا زيادة ولا نقصان، ظنًّا منهم أنهم ما عصوا مستترين بهذه الفتيا الإبليسية، كما قال تعالى: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) والمزين للباطل قطعًا هو الشيطان57.
وبهذا النسيء والتأخير: أوقعوا الحج في شهر آخر سوى الأشهر الحرم؛ فلهذا السبب عاب الله عليهم، وجعله سببًا لزيادة كفرهم، وإنما كان ذلك سببًا لزيادة الكفر؛ لأن الله تعالى أمرهم بإيقاع الحج في الأشهر الحرم58.
جاء في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك، قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ويلكم قد قد) فيقولون: إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك، يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت)59.
فكره النبي صلى الله عليه وسلم مخالطة المشركين في الحج، وسماع تلبيتهم التي تتضمن الإشراك، أي: قولهم في التلبية: لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك. وطوافهم عراة، وكان بينه وبين المشركين عهد لم يزل عاملًا لم ينقض، والمعنى أن مقام الرسالة يربأ عن أن يسمع منكرًا من الكفر ولا يغيره بيده؛ لأن ذلك أقوى الإيمان، فأمسك عن الحج تلك السنة، وأمر أبا بكر الصديق على أن يحج بالمسلمين، وأمره أن يخبر المشركين بأن لا يحج بعد عامه ذلك مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، وأكثر الأقوال على أن براءة نزلت قبل خروج أبي بكر من المدينة، فكان ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم صادرًا عن وحي؛ لقوله تعالى في هذه السورة: (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ) [التوبة: ١٧].
إلى قوله: (ﮯ ﮰ) [التوبة: ١٨].
وقوله: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [التوبة: ٢٨].
.. الآية60.
ورد أنهم في الجاهلية كانوا لا يطوفون بين الصفا والمروة؛ تعظيمًا لمناة. قال ابن عاشور: «... وضع -عبد المطلب- إسافًا على الصفا، ونائلة على المروة، وجعل المشركون بعد ذلك أصنامًا صغيرة، وتماثيل بين الجبلين في طريق المسعى، فتوهم العرب الذين جاءوا من بعد ذلك أن السعي بين الصفا والمروة طواف بالصنمين، وكانت الأوس والخزرج وغسان يعبدون مناة، وهو صنم بالمشلل، قرب قديد، فكانوا لا يسعون بين الصفا والمروة، تحرجًا من أن يطوفوا بغير صنمهم، ففي البخاري فيما علقه عن معمر إلى عائشة قالت: كان رجال من الأنصار ممن كان يهل لمناة قالوا: يا نبي الله، كنا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيمًا لمناة61، فلما فتحت مكة، وأزيلت الأصنام، وأبيح الطواف بالبيت، وحج المسلمون مع أبي بكر، وسعت قريش بين الصفا والمروة تحرج الأنصار من السعي بين الصفا والمرة، وسأل جمع منهم النبي صلى الله عليه وسلم: هل علينا من حرج أن نطوف بين الصفا والمروة؟ فأنزل الله هذه الآية»62.
وفي سبب نزولها: أن رجالًا من الأنصار ممن كان يهل لمناة في الجاهلية ومناة صنم كان بين مكة والمدينة، قالوا: يا رسول الله إنا كنا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيمًا لمناة، فهل علينا من حرج أن نطوف بهما؟ فنزلت هذه الآية63.
الصلة بين الحج في شريعة الإسلام وشريعة إبراهيم عليه السلام:
الحج نداء قديم جديد، قديم لأن أبا الأنبياء إبراهيم عليه السلام أول من أعلنه، وصدع بأمر الله، حين قال له: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) [الحج: ٢٧].
وجديد لأن خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم ندب إليه، وقاد قوافله، ووضع مناسكه، وبين ما رصد الله له من جوائز، وربط به من منافع، وكان آخر عهده بالجماهير الحاشدة، وهي تصيح إليه في حجة الوداع، يزودهم بآخر وصاياه، وأحفلها بالخير والبر.
وقد سبق بيان أن الحج كان مفروضًا قبل الإسلام، أي من عهد إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام ، وأقره الإسلام في الجملة، ونزل في إيجابه وتأكيد فرضيته قول الله تبارك وتعالى: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) [آل عمران: ٩٧].
ثم إن هذه الآية المصرحة بفرضية الحج وليس لدينا غيرها هي إحدى آيات سورة آل عمران التي نزلت عقب غزوة أحد مباشرة، ومن المعروف أن غزوة أحد وقعت في السنة الرابعة من الهجرة، وعلى هذا يمكن القول بأن الحج فرض قبل سنة تسع، ولم ينفذ إلا فيها لما كان من عجز المسلمين عن ذلك؛ لأن مكة كانت في تلك الفترة من الزمن خاضعة لسلطان قريش، فلم يسمح للمسلمين بأداء هذه العبادة العظيمة، وقد أرادوا العمرة فعلًا، فصدوهم عن المسجد الحرام، كما أخبر تعالى بقوله: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [الفتح: ٢٥].
فعجز المسلمين أسقط عنهم هذه الفريضة، كما أن العجز مسقط لفريضة الحج عن كل مسلم، ولما فتح الله سبحانه وتعالى على رسوله مكة سنة ثمانٍ من الهجرة لم يتوان الرسول صلى الله عليه وسلم ، فأمر الناس بأداء فريضة الحج، وأمر أبا بكر أن يحج بالناس، فحج بهم في السنة التاسعة المباشرة لعام الفتح تمامًا.
أولًا: فرض الحج وتوقيته:
اختلف أهل العلم في السنة التي فرض فيها الحج، وقد ذكر القرطبي في وقت فرضية الحج ثلاثة أقوال:
فقيل: سنة خمس.
وقيل: سنة سبع.
وقيل: سنة تسع.
ولم يعز الأقوال إلى أصحابها، سوى أنه ذكر عن ابن هشام عن أبي عبيد الواقدي أنه فرض عام الخندق، بعد انصراف الأحزاب، وكان انصرافهم آخر سنة خمس64.
قال ابن عاشور: «وأظهر من هذه الأقوال قول رابع تمالأ عليه الفقهاء، وهو أن دليل وجوب الحج قوله تعالى: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) [آل عمران: ٩٧].
وقد استدل الشافعي بها على أن وجوبه على التراخي، فيكون وجوبه على المسلمين قد تقرر سنة ثلاث، وأصبح المسلمون منذ يومئذٍ محصرين عن أداء هذه الفريضة، إلى أن فتح الله مكة، ووقعت حجة سنة تسع»65.
إلا أن ما رجحه الشنقيطي في أضواء البيان هو أن الحج إنما فرض عام تسع، كما أوضحه ابن القيم.
يقول الشنقيطي: «لأن آية: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) هي الآية التي فرض بها الحج، وهي من صدر سورة آل عمران، وقد نزل عام الوفود، وفيه قدم وفد نجران، وصالحهم النبي صلى الله عليه وسلم على أداء الجزية، والجزية إنما نزلت عام تبوك سنة تسع. قال رحمه الله: «وعلى كون الحج إنما فرض عام تسع غير واحد من العلماء، وهو الصواب -إن شاء الله تعالى- وبه تعلم أنه لا حجة في تأخير النبي صلى الله عليه وسلم الحج عام فتح مكة؛ لأنه انصرف من مكة والحج قريب، ولم يحج؛ لأنه لم يفرض»66.
وكما اختلف العلماء في وقت فرض الحج، اختلفوا كذلك في الآية التي فرض فيها الحج.
والمتجه أن تكون هي قوله تعالى: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) فهذه الآية هي التي فرض بها الحج على المسلمين. قال ابن عاشور: «وقد استدل بها علماؤنا على فرضية الحج، فما كان يقع من حج النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين قبل نزولها، فإنما كان تقربًا إلى الله، واستصحابًا للحنفية، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم حج مرتين بمكة قبل الهجرة، ووقف مع الناس، فأما أيجاب الحج في الشريعة الإسلامية فلا دليل على وقوعه إلا هذه الآية، وقد تمالأ علماء الإسلام على الاستدلال بها على وجوب الحج، فلا يعدّ ما وقع من الحج قبل نزولها وبعد البعثة إلا تحنثًا وتقربًا، وقد صح أنها نزلت سنة ثلاث من الهجرة، عقب غزوة أحد، فيكون الحج فرض يومئذٍ»67.
«ونلحظ أن في هذه الآية من صيغ الوجوب صيغتين: لام الاستحقاق، وحرف (على) الدال على تقرر حق في ذمة المجرور بها. وقد تعسر أو تعذر قيام المسلمين بأداء الحج عقب نزولها؛ لأن المشركين كانوا لا يسمحون لهم بذلك، فلعل حكمة إيجاب الحج يومئذٍ أن يكون المسلمون على استعداد لأداء الحج مهما تمكنوا من ذلك، ولتقوم الحجة على المشركين بأنهم يمنعون هذه العبادة، ويصدون عن المسجد الحرام، ويمنعون مساجد الله أن يذكر فيها اسمه»68.
ولهذا نجد أنه لما فتح الله مكة وجاءت الوفود مسلمين، وغلب الإسلام على بلاد العرب، تمكّن الدين، وخدمته القوة، فأصبح مرهوبًا بأسه منع المشركون من الحج، فحج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام عشرة، وليس معه غير المسلمين، فكان ذلك أجلى مظاهر كمال الدين.
وفي قوله: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) [آل عمران: ٩٧].
بدل من (ﮮ) لتقييد حال الوجوب.
وللعلماء في تفسير السبيل أقوال اختلفت ألفاظها، واتحدت أغراضها، فلا ينبغي بقاء الخلاف بينهم لأجلها مثبتًا في كتب التفسير وغيرها، فسبيل القريب من البيت الحرام سهل جدًّا، وسبيل البعيد الراحلة والزاد؛ ولذلك قال مالك: السبيل القدرة، والناس على قدر طاقتهم، وسيرهم، وجلدهم. واختلف فيمن لا زاد له، ويستطيع الاحتراف في طريقه: فقال مالك: إذا كان ذلك لا يزري فليسافر، ويكتسب في طريقه، وقال بمثله ابن الزبير والشعبي وعكرمة69.
ثانيًا: أشهر الحج وميقات أدائه:
الحج له ميقات زماني: وهو المذكور في قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ) [البقرة: ١٩٧].
قال في اللباب: «أجمع المفسّرون على أن شوالًا وذا القعدة من أشهر الحج، واختلفوا في ذي الحجة. فقيل: إنها بكليتها من أشهر الحج، وقيل: بل العشر الأول من ذي الحجة فقط هي من أشهر الحج، وقيل: التسعة الأول مع ليلة النحر من أشهر الحج»70.
ومن قال بالقول الأول حجته: أن الأشهر جمعٌ، وأقلّه ثلاثةٌ، وأيضًا فإن أيام النحر يفعل فيها بعض ما يتصل بالحج: من رمي الجمار، والذبح والحلق، وطواف الزيارة، والبيتوتة، يعني ليالي منى، وإذا حاضت المرأة، فقد تؤخّر الطواف الذي لابد منه إلى انقضاء أيامٍ بعد العشرة، ومذهب عروة تأخير طواف الزيارة إلى آخر الشهر.
وأجيب على حجتهم هذه: أن لفظ الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد؛ بدليل قوله: (ﮔ ﮕ ﮖ) [التحريم: ٤].
وأيضًا فإنه نزّل بعض الشهر منزلة كلّه، فإن العرب تسمّي الوقت تامًّا بقليله وكثيره، يقال: زرتك سنة كذا، وأتيتك يوم الخميس، وإنما زاره، وأتاه في بعضه، وأيضًا فإن الجمع ضمّ شيءٍ إلى شيءٍ، فإذا جاز أن يسمى الاثنان جماعةً جاز أن يسمى الاثنان وبعض الثالث جماعةً، وأما رمي الجمار فإنما يفعله الإنسان وقد حلّ بالحلق والطواف والنحر، فكأنه ليس من أعمال الحج، والحائض إذا طافت بعده فكأنه في حكم القضاء لا في حكم الأداء. والأشهر: جمع، وأقلّه ثلاثة، وقد حملناه على شهرين وبعض الثالث، وذلك شوال، وذو القعدة، وبعض ذي الحجة»71.
وإذا علم أن أشهر الحج هي شوال وذو القعدة وبعض ذي الحجة أو كلها، فلا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج، فإن من سنة الحج أن يحرم بالحج في أشهر الحج، فمن أحرم بالحج قبل أشهر الحج لم يجزه ذلك عن حجه، ويكون ذلك عمرة، كمن دخل في صلاة قبل وقتها، فتكون نافلة، والدليل على هذا قوله: (ﭑ ﭒ ﭓ) فخصّ هذه الأشهر بفرض الحج فيها، فلو كان الإحرام بالحج في غير هذه الأشهر منعقدًا جائزًا لما كان لهذا التخصيص فائدة، مثل الصلوات علّقها بمواقيت لم يجز تقديمها عليها72.
وقوله تعالى: (ﭑ ﭒ) أي: في أشهر؛ لقوله بعده: (ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ). و(الحج) مبتدأ، و(أشهر) خبره، والمبتدأ والخبر لابد أن يصدقا على ذاتٍ واحدٍ، و(الحج) فعل من الأفعال، و(أشهر) زمانٌ، فهما غيران، فلابد من تأويل، وهو القول أن في الكلام حذفًا تقديره: أشهر الحج أشهر، أي: لا حج إلا في هذه الأشهر، ولا يجوز في غيرها، كما كان يفعله أهل الجاهلية في غيرها، كقوله: البرد شهران، أي: وقت البرد شهران، أو: وقت الحج أشهر، أو: وقت عمل الحج أشهر، والغرض إنما هو أن يكون الخبر عن الابتداء هو الابتداء نفسه، والحج ليس بالأشهر، فاحتيج إلى هذه التقديرات، ومن قدّر الكلام: الحج في أشهر، فيلزمه مع سقوط حرف الجر نصب الأشهر، ولم يقرأ بنصبها أحد73.
وقوله: (ﭓ) أي: عند المخاطبين مشهورات، بحيث لا تحتاج إلى تخصيص، كما احتاج الصيام إلى تعيين شهره، وكما بيّن تعالى أوقات الصلوات الخمس، وأما الحج فقد كان من ملة إبراهيم التي لم تزل مستمرة في ذريته معروفة بينهم. قال ابن عاشور: «ووصف الأشهر بمعلومات حوالة على ما هو معلوم للعرب من قبل، فهي من الموروثة عندهم عن شريعة إبراهيم، وهي من مبدأ شوال إلى نهاية أيام المحرم، وبعضها بعض الأشهر الحرم؛ لأنهم حرّموا قبل يوم الحج شهرًا وأيامًا، وحرّموا بعده بقية ذي الحجة والحرام كله؛ لتكون الأشهر الحرم مدة كافية لرجوع الحجيج إلى آفاقهم، وأما رجب فإنما حرّمته مضر؛ لأنه شهر العمرة»74.
والمراد بالأشهر المعلومات عند جمهور العلماء: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، فهي التي يقع فيها الإحرام بالحج غالبًا. قال الزجاج: معناه أشهر الحج أشهر معلومات، وهو شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة، قال ابن عباس: جعلهن الله للحج وسائر الشهور للعمرة، فلا يصلح لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج، وأما العمرة فإنه يحرم بها في كل شهر، فآخر هذه الأشهر يوم عرفة، وقد جاء في بعض الأخبار في تفسير أشهر الحج: وعشر من ذي الحجة، وفي بعضها: تسع من ذي الحجة، فمن قال: تسع فإنما عبّر به عن الأيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحج عرفة)75 فمن وقف بعرفة في يوم عرفة من ليل أو نهار فقد تم حجه، ومن قال: عشرة عبّر به عن الليالي، فمن لم يدركه إلى طلوع الفجر من يوم النحر فقد فاته الحج، والشهور إنما يؤرخ بالليالي76.
ثالثًا: الأهلة مواقيت الحج:
قال تعالى: (ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [البقرة: ١٨٩].
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: «قال العوفي عن ابن عباس: سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأهلة، فنزلت هذه الآية: (ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) يعلمون بها حلّ دينهم، وعدّة نسائهم، ووقت حجّهم»77.
وفي البخاري عن البراء قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره، فأنزل الله: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ)78.
والمعنى: يسألك أصحابك -أيها النبي-: عن الأهلة وتغيّر أحوالها، قل لهم: جعل الله الأهلة علامات يعرف بها الناس أوقات عباداتهم المحددة بوقت، مثل الصيام، والحج، ومعاملاتهم، وليس الخير ما تعودتم عليه في الجاهلية، وأول الإسلام من دخول البيوت من ظهورها حين تحرمون بالحج، أو العمرة، ظانين أن ذلك قربة إلى الله، ولكن الخير هو فعل من اتقى الله، واجتنب المعاصي، وادخلوا البيوت من أبوابها عند إحرامكم بالحج أو العمرة، واخشوا الله تعالى في كل أموركم، لتفوزوا بكل ما تحبون من خيري الدنيا والآخرة.
وفي قوله: (ﯕ ﯖ) يدخل فيه مواقيت الصلوات والصيام والزكاة والعقود وغيرها، وإنما خص الحج بالذكر لكثرة ما يترتب عليه من الأوقات العامة والخاصة، وكذلك هي مواقيت للعدد والديون والإجارات وغيرها، قال تعالى لما ذكر العدة: (ﭘ ﭙ) [الطلاق: ١].
وقوله في الصيام: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) [البقرة: ١٨٤].
وقال تعالى: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [البقرة: ٢٢٦].
(ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [النساء: ١٠٣].
وقال تعالى: (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [الكهف: ١٢].
وذلك لمعرفة كمال قدرة الله في إفاقتهم، فلو استمروا على نومهم لم يحصل الاطلاع على شيء من ذلك من قصتهم، فمتى ترتب على ضبط الحساب وإحصاء المدة مصلحة في الدين والدنيا كان مما حث وأرشد إليه القرآن79.
قال ابن عاشور: «وذكر فوائد خلق الأهلة في هذا المقام للإيماء إلى أن الله جعل للحج وقتًا من الأشهر، لا يقبل التبديل ؛ وذلك تمهيدًا لإبطال ما كان في الجاهلية من النسيء في أشهر الحج في بعض السنين»80. ونلحظ هنا أنهم سألوا عن الأهلة فأجابهم الحق تبارك وتعالى بغير ما ينتظرون؛ إشارة إلى أن السؤال عن سر الاختلاف ليس فيه منفعة شرعية، وإنما ينبغي الاهتمام بما فيه منفعة دينية.
ومما سبق كله نجد أن سياق النص وسبب نزوله يشير إلى أن ذكر الحج هنا قد جاء في معرض إبطال الشرك، وتصحيح الفهم الجاهلي، فكأنه يقول: إن الأهلة مواقيت للناس والحج، وما يفعلونه في الحج من التمنع من دخول البيوت من تحت السقوف إنما هو محض افتراء على الله عز وجل ، ولا علاقة له بالبر أبدًا.
رابعًا: أماكن ومشاعر للحج ورد ذكرها في القرآن:
ورد ذكر أماكن ومشاعر للحج في القرآن، منها: الصفا والمروة، وعرفات، والمشعر الحرام.
أما ذكر الصفا والمروة، وكونهما من شعائر الله، فقد قال تعالى: (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) [البقرة: ١٥٨].
ومعنى الآية: إن الصفا والمروة من معالم دين الله الظاهرة التي تعبّد الله عباده بالسعي بينهما، فمن قصد الكعبة حاجًّا أو معتمرًا، فلا إثم عليه ولا حرج في أن يسعى بينهما، بل يجب عليه ذلك، ومن فعل الطاعات طواعية من نفسه مخلصًا بها لله تعالى ، فإن الله تعالى شاكر يثيب على القليل بالكثير، عليم بأعمال عباده فلا يضيعها، ولا يبخس أحدًا مثقال ذرة.
وقوله: (ﮅ ﮆ ﮇ) الصفا: جمع الصّفاة، وهي الصخرة الصلبة الملساء، قال امرؤ القيس:
لها كفل كصفا المسيل
أبرز عنها جحاف مضر
والمروة: من الحجارة ما لان وصغر، قال أبو ذؤيب الهذلي:
حتى كأني للحوادث مروة
بصفا المشرق كل يوم تقرع
أي: صخرة رخوة صغيرة، وإنما عنى الله تعالى بهما الجبلين المعروفين بمكة، دون سائر الصفا والمروة؛ فلذلك أدخل فيهما الألف واللام81. فالألف واللام فيهما للتعريف لا للجنس، ومع توسعة المسجد الحرام صارا متصلين به.
واختلف في اشتقاق الصفا، فقيل: من قولهم: صفا يصفو: إذا خلص. وحكي عن جعفر بن محمد قال: نزل آدم على الصفا وحواء على المروة فسمّي الصفا باسم آدم المصطفى، وسميت المروة باسم المرأة، وقيل: إن اسم الصفا ذكّر بإساف، وهو صنم كان عليه مذكر الاسم، وأنّثت المروة بنائلة، وهو صنم كان عليه مؤنث الاسم82.
وقوله: (ﮈ ﮉ ﮊ) الشعائر: جمع شعيرة، من الإشعار بمعنى الإعلام، ومنه قولك: شعرت بكذا، أي: علمت به، وقد كانت الشعائر كلها معروفة لديهم، وهي أمكنة وأزمنة وذوات؛ فالصفا والمروة والمشعر الحرام من الأمكنة، والشهر الحرام من الشعائر الزمانية، والهدي والقلائد من الشعائر الذوات.
وكون الصفا والمروة من شعائر الله أي: أعلام دينه ومتعبداته، تعبدنا الله بالسعي بينهما في الحج والعمرة.
وشعائر الحج: معالمه الظاهرة للحواس، التي جعلها الله أعلامًا لطاعته، ومواضع نسكه وعباداته، كالمطاف والمسعى والموقف والمرمى والمنحر.
وتطلق الشعائر أيضًا على العبادات التي تعبدنا الله بها في هذه المواضع؛ لكونها علامات على الخضوع والطاعة والتسليم لله تعالى83. فكل ما كان معلمًا لقربان يتقرب به إلى الله عز وجل من دعاء، وصلاة، ومن ذبيحة، وأداء فرض وغير ذلك فهو شعيرة.
والصفا والمروة داخلة في الشعائر التي أمرنا بتعظيمها، كما قال تعالى: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ) [الحج: ٣٢].
وأن تعظيمها المنصوص في هذه الآية: يدل على عدم التهاون بالسعي بين الصفا والمروة. وإنما جعلها كذلك لأنها من أثار هاجر وإسماعيل وما جرى عليهما من البلوى، ويستدل بذلك على أن من صبر على البلوى، لابد وأن يصل إلى أعظم الدرجات84.
وسيأتي تفصيل الكلام على هذا الركن -السعي بين الصفا والمروة- في أركان الحج التي ذكرت في القرآن.
ومن مناسك الحج التي ذكرت في القرآن، عرفات والمشعر الحرام:
فقال تعالى: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [البقرة: ١٩٨].
وسبب نزولها: أن قريشًا كانوا يقفون يوم عرفة بالمزدلفة، ويقولون: نحن قطّان بيت الله، ولا ينبغي لنا أن نخرج من الحرم؛ لأن عرفات خارج عن الحرم، وعامة الناس يقفون بعرفات، فأمر الله النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن يفيضوا من حيث أفاض الناس، وهو عرفات، لا من المزدلفة كفعل قريش، وهذا هو مذهب جماهير العلماء، وحكى ابن جرير عليه الإجماع. حيث قال: «والذي نراه صوابًا من تأويل هذه الآية: أنه عنى بهذه الآية قريشًا، ومن كان متحمسًا معها من سائر العرب؛ لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن ذلك تأويله»85.
وفي قوله: (ﭼ ﭽ) أي: دفعتم، والتعبير بـ (ﭽ) يصوّر لك هذا المشهد، كأن الناس أودية تندفع؛ وأصل الإفاضة: الدفع بقوة، من فاض الماء إذا نبع بقوة، ثم استعمل في مطلق الاندفاع على سبيل المبالغة86. والعرب كانوا يسمون الخروج من عرفة الدفع، ويسمون الخروج من مزدلفة إفاضة، وكلا الإطلاقين مجاز؛ لأن الدفع هو إبعاد الجسم بقوة، ومن بلاغة القرآن إطلاق الإفاضة على الخروجين لما في (أفاض) من قرب المشابهة من حيث معنى الكثرة دون الشدة؛ ولأن في تجنب (دفعتم) تجنبًا لتوهم السامعين أن السير مشتمل على دفع بعض الناس بعضًا؛ لأنهم كانوا يجعلون في دفعهم ضوضاء وجلبة وسرعة سير، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك في حجة الوداع، وقال: (يا أيها الناس عليكم بالسكينة، فإن البر ليس في الإيضاع)8788.
وقوله: (ﭾ ﭿ) (من) ابتدائية، والتصريح باسم (عرفات) في هذه الآية للرد على قريش؛ إذ كانوا في الجاهلية يقفون في (جمع) وهو المزدلفة؛ لأنهم حمس، فيرون أن الوقوف لا يكون خارج الحرم، ولما كانت مزدلفة من الحرم كانوا يقفون بها، ولا يرضون بالوقوف بعرفة؛ لأن عرفة من الحل...؛ ولهذا لم يذكر الله تعالى المزدلفة في الإفاضة الثانية باسمها، وقال: (ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) لأن المزدلفة هو المكان الذي يفيض منه الناس بعد إفاضة عرفات؛ فذلك حوالة على ما يعلمونه89.
وعرفات: فيه الصرف وعدمه كأذرعات، وسمي عرفات لقول إبراهيم الخليل عليه السلام لجبريل حين علّمه المناسك: قد عرفت، أو لمعرفة آدم حواء فيها90. أو لأن جبريل عرّف فيه الأنبياء مناسكهم، أو أنه سمّي بذلك لعلو الناس فيه، والعرب تسمي ما علا (عرفة) و(عرفات) ومنه سمّي عرف الديك لعلوه91. لأنه مرتفع؛ وكل شيء مرتفع يسمى بهذا الاسم. ومنه: أهل الأعراف، كما قال تعالى: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ) [الأعراف: ٤٨].
وقيل في اشتقاق عرفة: أنه من الاعتراف؛ لأن الحجاج إذا وقفوا في عرفة اعترفوا للحق بالربوبية والجلال والصمدية والاستغناء، ولأنفسهم بالفقر والذلة والمسكنة والحاجة، ويقال: إن آدم وحواء عليهما السلام لما وقفا بعرفات قالا: ربنا ظلمنا أنفسنا، فقال الله سبحانه وتعالى: الآن عرفتما أنفسكما.
وقيل: إنه من العرف وهو الرائحة الطيبة، قال تعالى: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ) [محمد: ٦].
أي: طيّبها لهم، ومعنى ذلك أن المذنبين لما تابوا في عرفات، فقد تخلصوا عن نجاسات الذنوب، ويكتسبون به عند الله تعالى رائحة طيبة92. وقيل: لأن الناس يتعارفون بينهم؛ إذ إنه مكان واحد يجتمعون فيه في النهار، فيعرف بعضهم بعضًا. وقيل: لأنه أعرف الأماكن التي حوله93.
وتسمى عرفات المشعر الحلال، والمشعر الأقصى، وإلال -على وزن هلال-، ويقال للجبل في وسطها: جبل الرحمة، قال أبو طالب في قصيدته المشهورة:
وبالمشعر الأقصى إذا قصدوا له
إلال إلى تلك الشّراج القوابل94.
وبقي ليوم عرفة خمسة أسماء أخرى فأحدها: يوم الحج الأكبر.
قال الله تعالى: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ)[التوبة: ٣].
وثانيها: الشفع، وثالثها: الوتر، ورابعها: الشاهد، وخامسها: المشهود في قوله: (ﭘ ﭙ) [البروج: ٣]95.
وذكر (عرفات) باسمه تنويهًا به، ويدل على أن الوقوف به ركن، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة)96، فلم يذكر من المناسك باسمه غير عرفة، والصفا والمروة، وفي ذلك دلالة على أنهما من الأركان، خلافًا لأبي حنيفة في الصفا والمروة97. كما سيأتي.
وقوله: (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) يقول الحق جل جلاله: فإذا وقفتم بعرفة، وأفضتم منها، فانزلوا المزدلفة وبيتوا بها، فإذا صليتم الصبح بغلس فقفوا عند (المشعر الحرام) وهو جبل في آخر المزدلفة، واذكروا الله عنده بالتهليل والتكبير والتلبية إلى الإسفار، هكذا فعل الرسول عليه الصلاة والسلام .
واختلف في الذّكر المأمور به عند المشعر الحرام ما هو؟ فقال بعضهم: هو الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء، والصلاة تسمّى ذكرًا؛ قال تعالى: (ﭟ ﭠ ﭡ) [طـه: ١٤].
وأيضًا فإنه أمر بالذكر هناك، والأمر للوجوب، ولا ذكر هناك يجب إلا هذا. وعن سفيان بن عيينة قوله: (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) وهي الصلاتين جميعًا98.
وقال الجمهور: هو ذكر الله بالتسبيح والتحميد والتهليل، قال ابن عباس رضي الله عنهما: «كان الناس إذا أدركوا هذه الليلة لا ينامون»99. قال ابن عثيمين: «وقوله: (ﮀ ﮁ) أي: باللسان والقلب والجوارح، فيشمل كل ما فعل عند المشعر من عبادة، ومن ذلك صلاة المغرب والعشاء والفجر»100.
و(المشعر) هو المعلم، وسمي بذلك لأن الدعاء عنده، والمقام فيه من معالم الحج، فهو (مفعل) اسم مكان، وهو المكان الذي تؤدى فيه شعيرة من شعائر الله عز وجل ، وهو اسم مشتق من الشعور، أي: العلم، أو من الشعار، أي: العلامة؛ لأنه أقيمت فيه علامة كالمنار من عهد الجاهلية، ولعلهم فعلوا ذلك لأنهم يدفعون من عرفات آخر المساء، فيدركهم غُبْس ما بعد الغروب، وهم جماعات كثيرة، فخشوا أن يضلوا الطريق، فيضيق عليهم الوقت101.
وحدّ المشعر: ما بين منى ومزدلفة، من حد مفضي مأزمي عرفة إلى محسر، وليس مأزما عرفة من المشعر. قال في المحرر: «و(المشعر الحرام) هو جمعٌ كله، فهي كلها مشعر إلى بطن محسر، كما أن عرفة كلها موقف إلا بطن عرنة، بفتح الراء وضمها، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عرفة كلها موقف إلا بطن عرنة، والمزدلفة كلها مشعر، وارتفعوا عن بطن محسر)102 وذكر هذا عبد الله بن الزبير في خطبته، وفي المزدلفة قرن قزح الذي كانت قريش تقف عليه، وذكر الله تعالى عند المشعر الحرام ندبٌ عند أهل العلم»103.
ووصف المشعر بـ(الحرام) أي: ذي الحرمة؛ لأنه داخل حدود الحرم، وقال العلماء: إن هذا الوصف وصف قيدي؛ ليخرج المشعر الحلال، وهو عرفة، وقالوا: إن المشعر مشعران: حلال وهو عرفة، وحرام وهو مزدلفة. فعرفة مشعر حلال؛ لأنها من الحل؛ ولهذا يجوز للمحرم أن يقطع الأشجار بعرفة. وفيها: دلالة على أن مزدلفة في الحرم، كما قيده بالحرام، وأن عرفة في الحل، كما هو مفهوم التقييد بـ(مزدلفة).
والمشعر الحرام: مزدلفة، سميت مزدلفة؛ لأنها ازدلفت من منى، أي: اقتربت؛ لأنهم يبيتون بها قاصدين التصبيح في منى، ويقال للمزدلفة أيضًا (جمع) لأن جميع الحجيج يجتمعون في الوقوف بها الحمس وغيرهم من عهد الجاهلية، قال أبو ذؤيب:
فبات بجمع ثم راح إلى منى
فأصبح رادًا يبتغي المزح بالسحل104.
أو: لأنه يجمع فيها بين صلاة العشاء والمغرب، وقيل: إن آدم عليه السلام اجتمع فيها مع حواء، وازدلف إليها، أي: دنا منها. قال الرازي: «وفي تسمية المزدلفة أقوال: أحدها: أنهم يقربون فيها من منى، والازدلاف: القرب، والثاني: أن الناس يجتمعون فيها، والاجتماع: الازدلاف، والثالث: أنهم يزدلفون إلى الله تعالى ، أي: يتقربون بالوقوف»105. قال ابن عاشور: «ومن قال: إن تسميتها جمعًا لأنها يجمع فيها بين المغرب والعشاء فقد غفل عن كونه اسمًا من عهد ما قبل الإسلام، وتسمى المزدلفة أيضًا (قزح) بقاف مضمومة، وزاي مفتوحة ممنوعًا من الصرف، باسم قرن جبل بين جبال من طرف مزدلفة، ويقال له: الميقدة؛ لأن العرب في الجاهلية كانوا يوقدون عليه النيران، وهو موقف قريش في الجاهلية، وموقف الإمام في المزدلفة على قزح»106.
واختلف في المبيت في مزدلفة هل هو ركن أم واجب؟
قال ابن كثير: «وإنما سميت المزدلفة المشعر الحرام لأنها داخل الحرم، وهل الوقوف بها ركن في الحج لا يصح إلا به؟ كما ذهب إليه طائفة من السلف، وبعض أصحاب الشافعي، منهم: القفال، وابن خزيمة؛ لحديث عروة بن مضرس، أو واجب، كما هو أحد قولي الشافعي يجبر بدم؟ أو مستحب لا يجب بتركه شيء، كما هو القول الآخر؟ في ذلك ثلاثة أقوال للعلماء»107.
وقال الشيخ ابن عثيمين: «ومزدلفة مشعر من المشاعر، فيكون فيه ردٌّ على من قال: إن الوقوف بها سنة، والقول الثاني: أنه ركن لا يصح الحج إلا به كالوقوف بعرفة، والقول الثالث: أنه واجب يصح الحج بدونه، ولكن يجبر بدم، وأنا أتوقف بين كونها ركنًا، وواجبًا، أما أنها سنة فهو ضعيف، لا يصح»108.
خامسًا: أنواع النسك:
حج بيت الله الحرام يكون بأنساك ثلاثة:
فالأول: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، ويأتي بمناسكها، ثم يحرم بالحج من جوف مكة، ويأتي بأعماله.
ويقابله القران: وهو أن يحرم بهما معًا، ويأتي بمناسك الحج، فيدخل فيها مناسك العمرة (أي: يحج ويعتمر في إحرام واحد).
والإفراد: بأن يأتي بالحج وحده بدون أن يكون معه عمرة (أو أن يحرم بالحج وبعد الفراغ منه بالعمرة).
فالحاصل أن المحرمين أربعة: مفرد بالحج، ومفرد بالعمرة، والمتمتع، والقارن، فأما المفرد بالحج: أن يحج ويعتمر، والمفرد بالعمرة: أن يعتمر ولا يحج، وأما المتمتع: أن يعتمر في أشهر الحج، ويمكث بمكة حتى يحج بعدما فرغ من عمرته، وأما القارن: فهو الذي يحرم بالحج والعمرة جميعًا، فمن كان مفردًا بالحج أو بالعمرة، فلا يجب عليه الهدي، ومن كان متمتعًا، أو قارنًا فعليه الهدي.
وهذه الأنساك الثلاثة مشروعة، وقد حكى جماعات من أهل العلم الإجماع على صحتها جميعًا، قال الخطابي: «لم تختلف الأمة في أن الإفراد والقران والتمتع بالعمرة إلى الحج كلها جائزة»109.
وقال القرطبي: «لا خلاف بين العلماء في أن التمتع جائز، وأن الإفراد جائز، وأن القران جائز؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي كلًّا، ولم ينكره في حجته على أحد من أصحابه، بل أجازه لهم ورضيه منهم»110. وكذا نقل الإجماع على ذلك البغوي111 وابن قدامة112.
وقد ورد النص في القرآن على نسك التمتع، في قوله تعالى: (ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ) [البقرة: ١٩٦].
فقوله: (ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ) أي: فمن انتفع بالتقرب إلى الله تعالى بالعمرة قبل الانتفاع بتقربه بالحج في أشهره، وقيل: من استمتع بعد التحلل من عمرته باستباحة محظورات الإحرام إلى أن يحرم بالحج، فما استيسر من الهدى أي: فعليه دم استيسر عليه بسبب التمتع، وهو دم جبران، يذبحه إذا أحرم بالحج، ولا يأكل منه عند الشافعي113. قال أبو حيان: «وفسّر التمتع هنا بإسقاط أحد السفرين؛ لأن حق العمرة أن تفرد بسفر غير سفر الحج، وقيل: لتمتعه بكل ما لا يجوز فعله من وقت حلّه من العمرة إلى وقت إنشاء الحج»114.
وقد أشار القرآن كذلك إلى نسكي (القران والإفراد):
فالإفراد دل على مشروعيته عموم قوله تعالى: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) [البقرة: ١٩٦].
فإنه يشمل بعمومه نسك الإفراد، قال الرازي: «قوله: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) يقتضي الإفراد؛ بدليل أنه تعالى قال: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) والقارن يلزمه هديان عند الحصر، وأيضًا أنه تعالى أوجب على الخلق عند الأداء فدية واحدة، والقارن يلزمه فديتان عند الحصر...، فثبت أن الإفراد أقرب إلى التمام، فكان الإفراد إن لم يكن واجبًا عليكم بحكم هذه الآية، فلا أقل من كونه أفضل»115. وقال ابن نجيم في البحر الرائق: «دليل الإفراد قوله تعالى: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ)116.
وأيضًا فالآية اقتضت عطف العمرة على الحج، والعطف يستدعي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، والمغايرة لا تحصل إلا عند الإفراد، فأما عند القران فالموجود شيء واحد، وهو حج وعمرة، وذلك مانع من صحة العطف117.
ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: (ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ) [البقرة: ١٩٦].
حيث ذكر الله أن من حجاج بيت الله من يكون متمتعًا، واسم التمتع هنا يشمل القران، مما يدل على أن من الحجاج من ليس متمتعًا، ولم يبق من الأنساك إلا الإفراد، فيدل ذلك على جواز حج الفرد وصحته.
ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: (ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) [البقرة: ١٩٧].
حيث ذكر الله تعالى أن بعض المسلمين يفرض الحج في أشهره، ومما يدخل في ذلك دخولًا أوليًّا حج الإفراد؛ إذ لم يذكر تعالى في الآية عمرة مع الحج، مما يدل على جواز عقد إحرام الحج وحده.
ودليل القران: قال في البحر الرائق: «أما الأول: فقوله تعالى: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) [آل عمران: ٩٧].
دليل الإفراد، قوله: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) [البقرة: ١٩٦].
دليل القران، قوله: (ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ) [البقرة: ١٩٦].
دليل التمتع»118.
واختلف الناس في الأفضل من هذه الثلاثة الأنساك: فقيل: الإفراد أفضل...، وقيل: القران أفضل، وقيل: التمتع أفضل، وقيل: التمتع والقران أفضل من الإفراد، وقيل: أن الأنواع الثلاثة سواء في الفضيلة، لا أفضلية لبعضها على بعض119.
أعمال الحج هي: أركان وواجبات وسنن، فالركن: ما لا يحصل التحلّل إلا بالإتيان به، والواجب: هو الذي إذا تركه يجبر بالدم، والسّنن: ما لا يجب بتركها شيءٌ.
قال النيسابوري في تفسيره: «وأركان الحج -عند الثلاثة- خمسة: الإحرام، والوقوف بعرفة، وطواف الزيارة، والسعي بين الصفا والمروة، وحلق الرأس أو التقصير، وخالف أبو حنيفة وأصحابه في السعي، فقالوا: هو واجب، يجزي عنه الدم»120.
وأركان الحج كلها قد ذكرت في القرآن الكريم، إما نصًّا، أو إشارة.
أولًا: الإحرام:
أشار الله تعالى إلى هذا الركن في قوله: (ﭑ ﭒ ﭓﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ) [البقرة: ١٩٧].
ومعنى فرض: نوى وعزم، فنية الحج هي العزم عليه، وهو الإحرام، ويشترط في النية عند بعضهم مقارنتها لقول من أقوال الحج، وهو التلبية، أو عمل من أعماله، كسوق الهدي، وعند البعض: يدخل الحج بنية ولو لم يصاحب قولًا أو عملًا. قال ابن عاشور: «وهو أرجح؛ لأن النية في العبادات لم يشترط فيها مقارنتها لجزء من أعمال العبادة، ولا خلاف أن السنة مقارنة الإهلال للاغتسال والتلبية واستواء الراحلة براكبها»121.
وقال ابن كثير: «وقوله: (ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ) أي: أوجب بإحرامه حجًّا، وفيه دلالة على لزوم الإحرام بالحج، والمضي فيه، قال ابن جرير: أجمعوا على أن المراد من الفرض هاهنا الإيجاب والإلزام»122.
وقال الرازي: «وفرض الحج لا يمكن أن يكون عبارة عن التلبية أو سوق الهدي فإنه لا إشعار البتة في التلبية بكونه محرمًا، لا بحقيقة ولا بمجاز، فلم يبق إلا أن يكون فرض الحج عبارة عن النية، وفرض الحج موجب لانعقاد الحج»123.
واستدل بهذه الآية الشافعي ومن تابعه على أنه لا يجوز الإحرام بالحج قبل أشهره.
قال ابن عاشور: «قلت: لو قيل: إن فيها دلالة لقول الجمهور بصحة الإحرام بالحج قبل أشهره لكان قريبًا، فإن قوله: (ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ) دليل على أن الفرض قد يقع في الأشهر المذكورة، وقد لا يقع فيها، وإلا لم يقيده»124.
ثانيًا: الطواف:
ومن أركان الحج التي ذكرت في القرآن طواف الإفاضة، وقد نص الله عز وجل على الأمر به في كتابه، في قوله: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ) [الحج: ٢٩].
فقوله: (ﮱ) المراد: الطواف الركن، وهو طواف الإفاضة والزيارة، هكذا قال جمع كبير من المفسرين، حتى قال الطبري أنه لا خلاف بين المفسرين في ذلك، حيث قال: «وعني بالطواف الذي أمر جل ثناؤه حاج بيته العتيق به في هذه الآية، طواف الإفاضة، الذي يطاف به بعد التعريف، إما يوم النحر، وإما بعده، لا خلاف بين أهل التأويل في ذلك»125.
وقال الشنقيطي: «وبهذا تعلم أن الله تعالى أوجب طواف الركن، بقوله: (ﮱ ﯓ ﯔ) وقد بيّنه صلى الله عليه وسلم بفعله»126.
وقال: «وحجة يوم النحر أعظم أركانها طواف الإفاضة، فبدونه لا تسمى حجة؛ لأنه ركنها الأكبر المنصوص على الأمر به في كتاب الله في قوله تعالى: (ﮱ ﯓ ﯔ)»127.
وقوله: (ﯓ ﯔ) الباء للإلصاق. فيجب الطواف بجميع البيت، فمن سلك الحجر، أو على شاذروان الكعبة، وهي من البيت فلم يطف جميع البيت فلا يجوز128.
ففي قوله: (ﯓ ﯔ) دليل «لمن ذهب إلى أنه يجب الطواف من وراء الحجر؛ لأنه من أصل البيت الذي بناه إبراهيم، وإن كانت قريش قد أخرجوه من البيت، حين قصرت بهم النفقة؛ ولهذا طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجر، وأخبر أن الحجر من البيت، ولم يستلم الركنين الشاميين؛ لأنهما لم يتمما على قواعد إبراهيم العتيقة؛ ولهذا قال ابن أبي حاتم...، عن ابن عباس، قال: لما نزلت هذه الآية: (ﮱ ﯓ ﯔ) طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائه»129.
ثالثًا: الوقوف بعرفة:
الوقوف بعرفة هو ركن الحج الأعظم، وقد ورد الإشارة إليه في قوله تعالى: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [البقرة: ١٩٨].
قال السعدي: «وفي قوله: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) دلالة على أمور:
أحدها: الوقوف بعرفة، وأنه كان معروفًا أنه ركن من أركان الحج، فالإفاضة من عرفات لا تكون إلا بعد الوقوف، وذكر الإفاضة من (عرفات) يقتضي سبق الوقوف به؛ لأنه لا إفاضة إلا بعد الحلول بها»130.
وقال في اللباب: «وروي عن علقمة والنّخعي أنهما قالا: الوقوف بالمزدلفة ركنٌ بمنزلة الوقوف بعرفة؛ لقوله تعالى: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) فإذا قلنا: بأن الوقوف بعرفة ركن، وليس ذكره صريحًا في الكتاب، وإنما وجب بإشارة الآية الكريمة أو بالسنة»131.
وقال الشيخ ابن عثيمين: «لو قال قائل: إن قوله تعالى: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) ليس أمرًا بالوقوف بها، فالجواب: أنه لم يكن أمرًا بها؛ لأنها قضية مسلمة؛ ولهذا قال تعالى: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ)132.
رابعًا: السعي بين الصفا والمروة:
سبق الكلام عن الصفا والمروة، وأنهما من شعائر الله، كما قال تعالى: (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ) [البقرة: ١٥٨].
وفي هذه الآية مشروعية الطواف بين الصفا والمروة، ويؤخذ ذلك من كونه من شعائر الله، والظاهر أن السعي بينهما ركن من أركان الحج، لا يتم الحج إلا به، وقال بعضهم: إنه واجب من واجبات الحج، يجبر بدم، ويصح الحج بدونه، وقال آخرون: إنه سنة وليس بواجب، والقول بأنه سنة ضعيف جدًّا؛ لأن قوله تعالى: (ﮈ ﮉ ﮊ) يدل على أنه أمر مهم؛ لأن الشعيرة ليست هي السنة فقط، الشعيرة هي طاعة عظيمة لها شأن كبير في الدين، بقي أن يكون مترددًا بين الركن والواجب، والأظهر أنه ركن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اسعوا، فإن الله كتب عليكم السعي)133134. فالأقرب: أنه ركن، وليس بواجب.
وفي قوله: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ) هذا تفريع على كونهما من شعائر الله، وأن السعي بينهما في الحج والعمرة من المناسك، وهو خبر يقتضي الأمر بما عهد من الطواف بهما.
وليس المقصد منه إباحة الطواف لمن شاء؛ لأن ذلك بعد الأمر لا يستقيم، وإنما المقصد منه رفع ما وقع في نفوس قوم من العرب من أن الطواف بينهما فيه حرج، وإعلامهم أن ما وقع في نفوسهم غير صواب135.
وقال القاضي أبو محمد عبد الحق: وأيضًا فإن ما في مصحف ابن مسعود يرجع إلى معنى أن يطوف، وتكون (لا) زائدة صلة في الكلام؛ كقوله: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ) [الأعراف: ١٢].
وكقول الشاعر:
ما كان يرضى رسول اللّه فعلهم
والطّيبان أبو بكرٍ ولا عمر136.
ولهذا أكّدت الجملة الكريمة بـ(أن) لأن بعض المسلمين كانوا مترددين في كون السعي بين الصفا والمروة من شعائر الله، وكانوا يظنون أن السعي بينهما من أحوال الجاهلية، كما سبق بيانه.
وفي قوله: (ﮑ ﮒ ﮓ) الجناح الإثم، وأصله من جنح إذا مال عن القصد، يقال: جنح الليل إذا مال بظلمته، وجنحت السفينة: إذا مالت إلى الأرض.
قال الله تعالى: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [الأنفال: ٦١].
ومنه: جناح الطائر137.
وقوله: (ﮔ ﮕ) أي: يدور، واختلفوا في وجه الآية، وتأويلها، وسبب تنزيلها.
وقد جاء في سبب نزول الآية: أن الأنصار كانوا يحجون لمناة، وكانت مناة خزفًا وحديدًا، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا، فأنزلت138.
خامسًا: حلق الرأس أو التقصير:
ومن واجبات الحج الحلق أو التقصير، وقد أشار الله تعالى إليه في قوله: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) [البقرة: ١٩٦].
وفي قوله: (ﯟ ﯠ ﯡ) [الفتح: ٢٧].
وفي قوله: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) [الحج: ٢٩].
فدلت الآيات السابقة على أن من النسك في الحج حلق الرأس. قال القرطبي: «لا خلاف أن حلق الرأس في الحج نسك مندوب إليه»139.
وفي قوله: (ﯟ ﯠ ﯡ) دلالة أن الحلق نسك، وأنه أفضل من التقصير؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (رحم الله المحلّقين) قالوا: يا رسول الله: والمقصّرين؟ قال: (رحم الله المحلّقين) قالوا: والمقصّرين؟ فقال: (والمقصّرين)140 في الرابعة أو الثالثة...، فدل دعاؤه للمحلّقين بالرحمة مرارًا: على أن الحلق نسك؛ لأنه لو لم يكن قربة لله تعالى لما استحق فاعله دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بالرحمة، ودل تأخير الدعاء للمقصّرين إلى الثالثة أو الرابعة: أن التقصير مفضول، وأن الحلق أفضل منه، والتقصير مع كونه مفضولًا: يجزئ بدلالة الكتاب والسنة والإجماع؛ لأن الله تعالى يقول: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) [الفتح: ٢٧].
وقد روى الشيخان وغيرهما التقصير عن جماعة من الصحابة -رضي الله عنهم-.
وقد أجمع جميع علماء الأمة على أن التقصير مجزئ.
وفي قوله: (ﮬ ﮭ ﮮ) قضاء التفث يدخل فيه بلا نزاع إزالة الشعر بالحلق. قال الجوهري في صحاحه: «التفث في المناسك: ما كان من نحو قص الأظفار، والشارب وحلق الرأس، والعانة، ورمي الجمار، ونحر البدن، وأشباه ذلك»141.
محظورات الحج هي: ما يحرم على المحرم بسبب إحرامه، وهي: حلق الشعر، وتقليم الأظافر -قياسًا على حلق الشعر بجامع الترفه-، ولبس المخيط، والمقصود به ما يفصل على الجسد، مما صنع على قدر العضو، وتغطية الرأس، والطيب، وقتل الصيد، وعقد النكاح، والمباشرة لشهوة، فيما دون الفرج، والجماع.
وقد ذكر الله تعالى في القرآن بعض محظورات الحج، ومنها:
١. الرفث والفسوق والجدال.
قال تعالى: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) [البقرة: ١٩٧].
فقوله: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) أي: لا ترفثوا، ولا تفسقوا، ولا تجادلوا في الحج، وإيراد الإنشاء بصيغة الخبر أبلغ من إيراده بصيغة الإنشاء، كما هو مقرر في المعاني142.
فنلحظ أنه سبحانه بعد أن قال: (ﭑ ﭒ ﭓ) قال: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) فيكون ذلك تمهيدًا له، وتهوينًا لمدة ترك الرفث والفسوق والجدال لصعوبة ترك ذلك على الناس؛ ولذلك قللت بجمع القلة.
قوله: (ﭙ ﭚ) وقرأ عبدالله: (رفوث) وهو مصدر بمعنى: الرفث143. واختلف في المراد بـ(الرفث) فقيل: الرفث: اللغو من الكلام، والفحش منه، قاله أبو عبيدة، واحتج بقول العجاج:
ورب أسراب حجيج كظّم
عن اللغا ورفث التّكلم
والمراد به هنا الكناية عن قربان النساء، والكناية بهذا اللفظ دون غيره لقصد جمع المعنيين الصريح والكناية، وكانوا في الجاهلية يتوقون ذلك.
قال النابغة:
حياك ربي فإنا لا يحل لنا
لهو النساء وإن الدين قد عزما
يريد من الدين: الحج، وقد فسروا قوله: لهو النساء بالغزل144.
وقال قوم: الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من أهله، وقيل: هو التعرض بمعانقة ومواعدة أو مداعبة أو غمز145. فيكون الرفث في الأصل: الإفحاش في القول، وبالفرج الجماع، وباليد الغمز للجماع، هذا أصل اللغة. وملخص هذه الأقوال في معنى الرفث: أنها دائرة بين شيء يفسد الحج وهو الجماع، أو شيء لا يليق لمن كان ملتبسًا بالحج لحرمة الحج. فدلت الآية على النهي عن الرفث في هذه الوجوه كلها، ومن أجله حرّم العلماء ما دون الجماع في الإحرام، وأوجبوا في القبلة الدم، ومثله قوله: (وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث)146147.
وأما مغازلة النساء والحديث في شأن الجماع (المباح) فذريعة ينبغي سدها؛ لأنه يصرف القلب عن الانقطاع إلى ذكر الله في الحج.
حكم الرفث في الحج:
قال الشنقيطي: «لا خلاف بين أهل العلم: أن المحرم إذا جامع امرأته قبل الوقوف بعرفات: أن حجه يفسد بذلك، ولا خلاف بينهم أنه لا يفسد الحج من محظورات الإحرام إلا الجماع خاصة، وإذا فسد حجه بجماعه قبل الوقوف بعرفات: فعليه إتمام حجه هذا الذي أفسده، وعليه قضاء الحج، وعليه الهدي...، وإن كان جماعه بعد رمي جمرة العقبة، وقبل طواف الإفاضة: فحجه صحيح عند الجميع...، وتلزمه فدية»148.
قال أبو حيان: «وأجمع العلماء على أن الجماع يفسد الحج، وأن مقدماته توجب الدم»149.
وقال ابن عاشور: «فإن حصل نسيان، فقال مالك: هو مفسد، ويعيد حجه إذا لم يمض وقوف عرفة، وإلا قضاه في القابل نظرًا إلى أن حصول الالتذاذ قد نافى تجرد الحج والزهد المطلوب فيه، بقطع النظر عن تعمد أو نسيان، وقال الشافعي في أحد قوليه وداود الظاهري: لا يفسد الحج، وعليه هدي»150.
وقوله: (ﭛ ﭜ) الفسوق هو الخروج عن الطاعة، واختلف المفسرون في المراد فيه، فكثير من المحققين حملوه على كل المعاصي، قالوا: لأن اللفظ صالح للكل، ومتناول له، والنهي عن الشيء يوجب الانتهاء عن جميع أنواعه، فحمل اللفظ على بعض أنواع الفسوق تحكم من غير دليل، وهذا متأكد بقوله تعالى: (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) [الكهف: ٥٠].
وبقوله: (ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) [الحجرات: ٧].
وذهب بعضهم إلى أن المراد منه بعض الأنواع، ثم ذكروا وجوهًا مختلفة، وهي من باب التفسير بالمثال، واختلاف التنوع، لا اختلاف التضاد.
فقيل: أراد به هنا النهي عن الذبح للأصنام؛ لأنه يتعلق بإبطال ما كانوا عليه في الجاهلية، ومنه: (ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ) [الأنعام: ١٤٥].
وفسر أيضًا بفعل ما نهي عنه في الإحرام من قتل صيد، وحلق شعر وغيره.
غير أن الظاهر شمول الفسوق لسائر الفسق، والمعاصي كلها لا يختص منها شيء دون شيء، ويدخل فيه ما سبق وغيره، كالتنابز بالألقاب.
قال تعالى: (ﰆ ﰇ ﰈ) [الحجرات: ١١].
والسباب، كما قال: (سباب المسلم فسوق)151152.
قال ابن كثير: «والذين قالوا: الفسوق هاهنا هو جميع المعاصي معهم الصواب، كما نهى تعالى عن الظلم في الأشهر الحرم، وإن كان في جميع السنة منهيًّا عنه، إلا أنه في الأشهر الحرم آكد»153.
وقوله: (ﭝ ﭞ) الجدال: مصدر جادله إذا خاصمه خصامًا شديدًا، والجدل: هو المماراة والمنازعة والمخاصمة، وحرّمت هذه لكونها تثير الشر، وتوقع العداوة، والمقصود من الحج الذل والانكسار لله، والتقرب إليه بما أمكن من القربات، والتنزه عن مقارفة السيئات، فإنه بذلك يكون مبرورًا، والمبرور ليس له جزاء إلا الجنة، وهذه الأشياء وإن كانت ممنوعة في كل مكان وزمان، فإنها يتغلظ المنع عنها في الحج154.
واختلف في المراد بالجدال هنا: فقيل: السباب والمغاضبة، والمقصود هنا: الجدال المنهي عنه، وهو الذي يخاف معه الخروج إلى السباب والتكذيب والتجهيل155.
واتفق العلماء على أن مدارسة العلم والمناظرة فيه ليست من الجدال المنهي عنه، واتفقوا على أن المجادلة في إنكار المنكر، وإقامة حدود الدين ليست من المنهي عنه، فالمنهي عنه هو ما يجر إلى المغاضبة والمشاتمة، وينافي حرمة الحج156.
قال الشيخ ابن عثيمين: «والجدال إن كان لإثبات الحق، أو لإبطال الباطل، فإنه واجب، وعلى هذا فيكون مستثنى من هذا العموم؛ لقوله تعالى: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [النحل: ١٢٥]»157.
وخص الفسوق والجدال بالذكر في الحج تعظيمًا لحرمة الحج، ولأن التلبس بالمعاصي في مثل هذه الحال من التشهير لفعل هذه العبادة أفحش وأعظم منه في غيرها، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم في حق الصائم: (فلا يرفث ولا يجهل، فإن جهل عليه فليقل: إني صائم؟)158... ومعلوم خطر ذلك في غير ذلك اليوم، ولكنه خصه بالذكر تعظيمًا لحرمته.
٢. الصيد.
قال تعالى: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ) [المائدة: ٩٥].
ونظيره: (ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) [المائدة: ٩٦].
ونظيره: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [المائدة: ١].
ونظيره: (ﯝ ﯞ ﯟ) [المائدة: ٢].
والمعنى الإجمالي للآية الكريمة: يأيها الذين آمنوا بالله إيمانًا حقًّا لا تقتلوا الصيد وأنتم محرمون، ومن قتل منكم الصيد وهو بهذه الصفة فعلية جزاء من النعم مماثل الصيد المقتول، ومقارب له في الخلقة والمنظر، أو في القيمة، وهذا الجزاء المماثل للصيد المقتول يحكم به رجلان منكم، تتوافر فيهما العدالة والخبرة، حتى يكون حكمهما أقرب إلى الحق والصواب، ويكون هذا الجزاء الواجب على قاتل الصيد: (ﯲ ﯳ ﯴ) أي: يصل إلى الحرم، فيذبح فيه، ويتصدق به على مساكينه، أو يكون على قاتل الصيد: (ﯶ) هي (ﯷ ﯸ) بأن يطعمهم من غالب قوت البلد، ما يساوي قيمة هذا الجزاء المماثل للصيد المقتول، بحيث يعطي لكل مسكين نصف صاغ من بر، أو صاعًا من غيره، أو يكون عليه ما يعادل هذا الطعام صيامًا، بأن يصوم عن طعام كل مسكين يومًا، وما قل عن طعام المسكين يصوم عنه يومًا كاملًا159.
وفي قوله: (ﯝ ﯞ ﯟ) يتناول القتل عن طريق المباشرة أو التسبب، كما يتناول أي عمل يؤدي إلى صيد الحيوان، وإنما كان النهي في الآية منصبًّا على القتل؛ لأنه هو المقصود الأعظم من وراء مباشرة عملية الصيد؛ إذ الصائد يريد قتل المصيد؛ لكي يأكله في الغالب160. قال السعدي: «والنهي عن قتله يشمل النهي عن مقدمات القتل، وعن المشاركة في القتل، والدلالة عليه، والإعانة على قتله، حتى إن من تمام ذلك أنه ينهى المحرم عن أكل ما قتل، أو صيد لأجله، وهذا كله تعظيم لهذا النسك العظيم، أنه يحرم على المحرم قتل وصيد ما كان حلالًا له قبل الإحرام»161.
وقال في اللباب: «واتفق المسلمون على تحريم الصيد على المحرم...، أما إذا صيد للمحرم بغير إعانته وإشارته حل له؛ لأن أبا قتادة اصطاد حمارًا وحشيًّا وهو حلال في أصحاب محرمين، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: (فيكم أحد أمر أن يحمل عليها أو أشار إليها؟) قالوا: لا، قال: (فكلوا ما بقي من لحمها)162 وفي رواية: (هل بقي معكم منه شيء؟) قالوا: نعم، فناولته العضد فأكلها163. قال: وهذا يدل على تخصيص القرآن بخبر الواحد»164.
وفي قوله: (ﯟ): قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: «هذا تحريم منه تعالى لقتل الصيد في حال الإحرام، ونهي عن تعاطيه فيه، وهذا إنما يتناول من حيث المعنى المأكول ولو ما تولد منه ومن غيره»165.
وقال ابن عاشور: «والصيد عام في كل ما شأنه أن يصاد ويقتل، من الدواب والطير لأكله، أو الانتفاع ببعضه، ويلحق بالصيد الوحوش كلها، قال ابن الفرس: والوحوش تسمى صيدًا وإن لم تصد بعد، كما يقال: بئس الرمية الأرنب، وإن لم ترم بعد، وخص من عمومه ما هو مضر، وهي السباع المؤذية، وذوات السموم، والفأر وسباع الطير، ودليل التخصيص السنة»166.
وقوله: (ﮛ ﮜ) حرم: جمع حرام، بمعنى محرم، والمحرم أصله: المتلبس بالإحرام بحج أو عمرة، ويطلق المحرم على الكائن في الحرم، قال الراعي:
قتلوا ابن عفان الخليفة محرمًا
أي: كائنًا في حرم المدينة، فأما الإحرام بالحج والعمرة فهو معلوم، وأما الحصول في الحرم فهو الحلول في مكان الحرم من مكة أو المدينة، وزاد الشافعي: الطائف في حرمة صيده، لا في وجوب الجزاء على صائده، فأما حرم مكة فيحرم صيده بالاتفاق، وفي صيده الجزاء، وأما حرم المدينة فيحرم صيده، ولا جزاء فيه، ومثله الطائف عند الشافعي167.
والمعنيان مرادان بالآية، فلا يجوز قتل الصيد للمحرم، ولا في الحرم، فقد نزلت هذه الآية في أبي اليسر حين شدّ على حمار وحش فقتله، وهو محرم168 ثم صار هذا الحكم عامًّا، فلا يجوز قتل الصيد ولا التعرض له ما دام محرمًا، ولا في الحرم. قال الماوردي: «اسم المحرم يتناول الأمرين معًا على وجه الحقيقة دون المجاز، من أحرم بحج أو عمرة، أو دخل الحرم، وحكم قتل الصيد فيهما على السواء بظاهر الآية»169.
والحكمة من تحريم الصيد في الحرم أن الله تعالى عظّم شأن الكعبة من عهد إبراهيم عليه السلام ، وأمره بأن يتخذ لها حرمًا كما كان الملوك يتخذون الحمى، فكانت بيت الله وحماه، وهو حرم البيت محترمًا بأقصى ما يعدّ حرمة وتعظيمًا؛ فلذلك شرع الله حرمًا للبيت واسعًا، وجعل الله البيت أمنًا للناس، ووسّع ذلك الأمن حتى شمل الحيوان العائش في حرمه، بحيث لا يرى الناس للبيت إلا أمنًا للعائذ به وبحرمه، قال النابغة:
والمؤمن العائذات الطير يمسحها
ركبان مكة بين الغيل فالسند170.
والتحريم لصيد حيوان البر ولم يحرّم صيد البحر؛ إذ ليس في شيء من مساحة الحرم بحر ولا نهر، ثم حرّم الصيد على المحرم بحج أو عمرة؛ لأن الصيد إثارة لبعض الموجودات الآمنة، وقد كان الإحرام يمنع المحرمين القتال، ومنعوا التقاتل في الأشهر الحرم؛ لأنها زمن الحج والعمرة، فألحق مثل الحيوان في الحرمة بقتل الإنسان، أو لأن الغالب أن المحرم لا ينوي الإحرام إلا عند الوصول إلى الحرم، فالغالب أنه لا يصيد إلا حيوان الحرم171.
ويؤخذ من قوله: (ﮛ ﮜ) ونظيره: (ﭞ ﭟ ﭠ) بيان أن مدة التحريم مدة كونهم حرمًا، أي: محرمين، أو مارين بحرم مكة، وهذا إيماء لتقليل مدة التحريم استئناسًا للمكلفين بتخفيف، وإيماء إلى نعمة اقتصار تحريمه على تلك المدة، ولو شاء الله لحرّمه أبدًا. وفي الموطأ: «أن عائشة قالت لعروة بن الزبير: يا ابن أختي إنما هي عشر ليال -أي مدة الإحرام- فإن تخلج في نفسك شيء فدعه، تعني: أكل لحم الصيد»172.
وأيضًا من الحكم في تحريم الصيد على المحرم: الاختبار والابتلاء، وليعلم الله من يخافه بالغيب، كما قال تعالى: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [المائدة: ٩٤].
يقول الشيخ العثيمين: «وفي صدر هذه الأمة حرّم الله على المحرمين الصيد: (ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) فبعث الله الصيد عليهم وهم محرمون، تناله أيديهم ورماحهم، يعني: أن الذي يمشي على الأرض يمسكونه باليد، مثل: الأرنب والغزال يمسكه الواحد باليد، والطائر الذي كان لا ينال إلا بالسهم لأنه بعيد، صار يطير وكأنه على الأرض، الرمح يدركه فتنة، فهنا يسّر الله لهم أسباب المعصية، لكن الصحابة -رضي الله عنهم-، وهم خير الناس لم يأخذ أحد منهم صيدة واحدة، بينما بنو إسرائيل تحيلوا وخادعوا الله، أما سلف هذه الأمة -وفقنا الله لموافقتهم في الدنيا في أعمالهم، وفي الآخرة في مساكنهم- فإنهم لم يأخذوا»173.
وتعليق حكم الجزاء على وقوع القتل يدل على أن الجزاء لا يجب إلا إذا قتل الصيد، فأما لو جرحه، أو قطع منه عضوًا ولم يقتله، فليس فيه جزاء، ويدل على أن الحكم سواء أكل القاتل الصيد أو لم يأكله؛ لأن مناط الحكم هو القتل174.
وقوله: (ﯦ) يحتمل أمرين: أحدهما: متعمدًا لقتله، ناسيًا لإحرامه، والثاني: متعمدًا لقتله، ذاكرًا لإحرامه175.
و (ﯦ) قيد أخرج المخطئ، أي: في صيده، ولم تبين له الآية حكمًا، لكنها تدل على أن حكمه لا يكون أشد من المتعمد، فيحتمل أن يكون فيه جزاء آخر أخف، ويحتمل أن يكون لا جزاء عليه، وقد بيّنته السنة، قال الزهري: نزل القرآن بالعمد، وجرت السنة في الناسي والمخطئ أنهما يكفّران، ولعله أراد بالسنة العمل من عهد النبوة والخلفاء، ومضى عليه عمل الصحابة، وليس في ذلك أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
إلا أن جمهور فقهاء الأمصار قالوا: إن العمد والخطأ في ذلك سواء176. واختلف الجمهور القائلون بأن المتعمد والمخطئ في ذلك سواء في حكمة ذكر المتعمد في الآية، قال البيضاوي: «والأكثر على أن ذكره ليس لتقييد وجوب الجزاء، فإن إتلاف العامد والمخطئ واحد في إيجاب الضمان، بل لقوله: (ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ) ولأن الآية نزلت فيمن تعمد»177. وقد جمع صاحب التفسير الوسيط الكلام في هذه المسألة أحسن جمع، حيث قال: «وذكر سبحانه المتعمد ولم يذكر المخطئ ولا الناسي، والمتعمد هنا هو القاصد للشيء مع العلم بالإحرام، والمخطئ هو الذي يقصد شيئًا فيصيب صيدًا، والناسي هو الذي يتعمد الصيد، ولا يذكر إحرامه، واختلف العلماء في ذلك على خمسة أقوال:
الأول: ما أسنده الدارقطني عن ابن عباس قال: إنما التكفير في العمد، وإنما غلظوا في الخطأ؛ لئلا يعودوا.
الثاني: أن قوله: (ﯦ) خرج على الغالب، فألحق به النادر كأصول الشريعة.
الثالث: أنه لا شيء على المخطئ والناسي.
الرابع: أنه يحكم عليه في العمد والخطأ والنسيان.
الخامس: أن يقتله متعمدًا لقتله ناسيًا لإحرامه؛ لقوله تعالى بعد ذلك: (ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ) قال: ولو كان ذاكرًا لإحرامه لوجبت عليه العقوبة من أول مرة، قال: فدل على أنه أراد متعمدًا لقتله، ناسيًا لإحرامه.
قال: ويبدو لنا أن القول الرابع الذي قال به الأئمة، أقرب إلى الصواب؛ لأن تخصيص العمد بالذكر في الآية؛ لأجل أن يرتب عليه الانتقام عند العود؛ لأن العمد هو الذي يترتب عليه ذلك دون الخطأ؛ ولأن جزاء الخطأ معروف من الأدلة التي قررت التسوية في ضمان المتلفات؛ إذ من المعروف أن من قتل صيد إنسان عمدًا أو خطأ في غير الحرم فعليه جزاؤه، فهذا حكم عام في جميع المتلفات، وما دام الأمر كذلك كان الجزاء ثابتًا على المحرم متى قتل الصيد سواء أكان قتله له عمدًا أم خطأ»178.
والراجح -والله أعلم-: أن قيد: (ﯦ) قيد معتبر، وإلا لما ذكره الله.
قال ابن عاشور: «وقصد القتل تبع لتذكر الصائد أنه في حال إحرام، وهذا مورد الآية، فلو نسي أنه محرم فهو غير متعمد، ولو لم يقصد قتله فأصابه فهو غير متعمد، ولا وجه ولا دليل لمن تأول التعمد في الآية بأنه تعمد القتل مع نسيان أنه محرم»179.
وقال أبو حيان في البحر: «الظاهر تقييد القتل بالعمد، فمن لم يتعمد فقتل خطأ بأن كان ناسيًا لإحرامه، أو رماه ظانًّا أنه ليس بصيد فإذا هو صيد، أو عدل سهمه الذي رماه لغير صيد فأصاب صيدًا، فلا جزاء عليه»180.
قوله: (ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ) أي: فالمجزي به المقتول مثل ما قتله الصائد181.
والجزاء: العوض عن عمل، فسمى الله ذلك جزاء؛ لأنه تأديب وعقوبة، إلا أنه شرع على صفة الكفارات مثل كفارة القتل وكفارة الظهار، وليس القصد منه الغرم؛ إذ ليس الصيد بمنتفع به أحد من الناس حتى يغرم قاتله ليجبر ما أفاته عليه، وإنما الصيد ملك الله تعالى أباحه في الحل، ولم يبحه للناس في حال الإحرام، فمن تعدى عليه في تلك الحالة فقد فرض الله على المتعدي جزاء، وجعله جزاء ينتفع به ضعاف عبيده.
وقد دلنا على أن مقصد التشريع في ذلك هو العقوبة قوله عقبه: (ﯽ ﯾ ﯿ) وإنما سمي جزاء ولم يسمّ بكفارة لأنه روعي فيه المماثلة، فهو مقدّر بمثل العمل، فسمي جزاء، والجزاء مأخوذ فيه المماثلة والموافقة، قال تعالى: (ﯡ ﯢ) [النبأ: ٢٦]182.
واختلفوا في هذه المماثلة أهي بالخلقة أم بالقيمة؟ والذي عليه جمهور العلماء من الصحابة فمن بعدهم أن المماثلة في الخلقة معتبرة -في الصورة والخلقة والصغر والعظم-؛ لأن ظاهر الآية يدل على ذلك، وما لا مثل له فالقيمة183.
وقوله: (ﯫ ﯬ) النعم لفظ يقع على الإبل والبقر والغنم إذا اجتمعت هذه الأصناف، فإن انفرد كل صنف لم يقل: نعم إلا للإبل وحدها184.
وقد أخبر أن الجزاء مثل ما قتل الصائد، وذلك المثل من النعم، وذلك أن الصيد إما من الدواب، وإما من الطير، وأكثر صيد العرب من الدواب، وهي الحمر الوحشية، وبقر الوحش والأروى والظباء، ومن ذوات الجناح النعام والإوز، وأما الطير الذي يطير في الجو فنادر صيده؛ لأنه لا يصاد إلا بالمعراض، وقلما أصابه المعراض سوى الحمام الذي بمكة وما يقرب منها، فمماثلة الدواب للأنعام هينة، وأما مماثلة الطير للأنعام فهي مقاربة، وليست مماثلة؛ فالنعامة تقارب البقرة أو البدنة، والإوز يقارب السخلة وهكذا185.
وقوله: (ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) أي: يحكم بالجزاء أي بتعيينه، والمقصد من ذلك أنه لا يبلغ كل أحد معرفة صفة المماثلة بين الصيد والنعم، فوكل الله أمر ذلك إلى الحكمين، وعلى الصائد أن يبحث عمن تحققت فيه صفة العدالة والمعرفة، فيرفع الأمر إليهما، ويتعين عليهما أن يجيباه إلى ما سأل منهما، وهما يعينان المثل ويخيرانه بين أن يعطي المثل أو الطعام أو الصيام، ويقدران له ما هو قدر الطعام إن اختاره186.
قال ابن جزى: «وهذه الآية تقتضي أن التحكيم شرط في إخراج الجزاء، ولا خلاف في ذلك، فإن أخرج أحد الجزاء قبل الحكم عليه فعليه إعادته بالحكم، إلا حمام مكة، فإنه لا يحتاج إلى حكمين، قاله مالك، ويجب عند مالك التحكيم فيما حكمت فيه الصحابة، وفيما لم يحكموا فيه؛ لعموم الآية، وقال الشافعي: يكتفى في ذلك بما حكمت به الصحابة»187.
ووصف (ﯯ ﯰ) بقوله: (ﯱ) أي: من المسلمين للتحذير من متابعة ما كان لأهل الجاهلية من عمل في صيد الحرم، فلعلهم يدعون معرفة خاصة بالجزاء188. والمعنى: يعني: يحكم بالجزاء في قتل الصيد رجلان صالحان عدلان، من أهل ملتكم ودينكم، وينبغي أن يكونا فقيهين، فينظران إلى أشبه الأشياء به من النعم فيحكمان به.
قال ميمون بن مهران: «جاء أعرابي إلى أبي بكر الصديق، فقال: إني أصبت من الصيد كذا وكذا، فسأل أبو بكر أبي بن كعب، فقال الأعرابي: إني أتيتك أسألك وأنت تسأل غيرك! فقال أبو بكر: وما أنكرت من ذلك؟ قال الله تعالى: (ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) فشاورت صاحبي، فإذا اتفقنا على شيء أمرناك به»189.
وقوله: (ﯲ) حال من جزاء، أو منصوب على المصدرية، أي: يهديه هديًا، والهدي: اسم لما يذبح في الحج لإهدائه إلى فقراء مكة. قال ابن جزى: «ويقتضي ظاهره أن ما يخرج من النعم جزاء عن الصيد يجب أن يكون مما يجوز أن يهدى، وهو الجذع من الضأن، والثني مما سواه»، وقال الشافعي: «يخرج المثل في اللحم، ولا يشترط السن»190.
قال ابن عاشور: «والهدي ما يذبح أو ينحر في منحر مكة، والمنحر: منى والمروة؛ ولما سماه الله تعالى: (ﯲ) فله سائر أحكام الهدي المعروفة»191.
وقوله: (ﯳ ﯴ): قال ابن عاشور: «ومعنى: (ﯳ ﯴ) أنه يذبح أو ينحر في حرم الكعبة، وليس المراد أنه ينحر أو يذبح حول الكعبة»192. وإنما أريد الكعبة كل الحرم؛ لأن الذبح لا يقع في الكعبة وعندها ملاقيًا لها، إنما يقع في الحرم، وهو المراد بالبلوغ، فيذبح الهدي بمكة، ويتصدق به على مساكين الحرم، هذا مذهب الشافعي، وقال أبو حنيفة: له أن يتصدق به حيث شاء، إذا وصل الهدي إلى الكعبة193.
وقوله: (ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ) يعدّد الله تعالى هنا ما يجب في قتل المحرم للصيد، فذكر أولًا الجزاء من النعم، ثم الطعام، ثم الصيام، ومذهب الجمهور: أنها على التخيير، وهو الذي يقتضيه العطف بـ(أو) وقيل: إنها على الترتيب. قال ابن عاشور: «و(أو) في قوله: (ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ) وقوله: (ﯹ ﯺ ﯻ) تقتضي تخيير قاتل الصيد في أحد الثلاثة المذكورة، وكذلك كل أمر وقع بـ(أو) في القرآن فهو من الواجب المخير، والقول بالتخيير هو قول الجمهور، ثم قيل: الخيار للمحكوم عليه لا للحكمين، وهو قول الجمهور من القائلين بالتخيير، وقيل: الخيار للحكمين، وقال به الثوري وابن أبي ليلى والحسن.
ومن العلماء من قال: إنه لا ينتقل من الجزاء إلى كفارة الطعام إلا عند العجز عن الجزاء، ولا ينتقل عن الكفارة إلى الصوم إلا عند العجز عن الإطعام، فهي عندهم على الترتيب، ونسب لابن عباس»194.
فعلى قول الجمهور: فالمحرم إذا قتل صيدًا كان مخيرًّا: إن شاء جزاه بمثله من النعم، وإن شاء قوّم المثل دراهم، ثم الدراهم طعامًا، ثم يتصدق به، وإن شاء صام عن كل مدّ يومًا195. قال في الوسيط: «ولا شك أن التخيير هنا ليس على حقيقته، إنما هو ترتيب مراتب على حسب القدرة على كل رتبة، فالأصل بلا ريب شراء هدي وذبحه في الحرام، فإن تعذر ذلك كان الطعام، فإن تعذر كان الصيام196. قال: وعندي أن الترتيب حسب القدرة أوضح»197.
قوله: (ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) العدل -بالفتح- ما عادل الشيء من غير جنسه، وأما بالكسر فما عادله من جنسه، وقيل: هما سيان، ومعناهما: المثل مطلقًا198. وتحتمل الإشارة بذلك أن تكون إلى الطعام وهو أحسن؛ لأنه أقرب، أو إلى الصيد، واختلف في تعديل الصيام بالطعام، فقيل: يكون مكان كل مدٍّ يومًا، وقيل: مكان كل مدّين يوم، وقيل: مكان كل صاع يومًا، ولا يحب الجزاء ولا الإطعام ولا الصيام إلا بقتل الصيد، لا بأخذه دون قتل؛ لقوله: (ﯣ ﯤ) وفي كل وجه يشترط حكم الحكمين، وإنما لم يذكر الله في الصيام والطعام استغناء بذكره في الجزاء199.
قوله: (ﯽ ﯾ ﯿ) أي: جزاء ما صنع، فهو تعليل لإيجاب الجزاء السابق على المحرم القاتل للصيد عن تعمد. والذوق هنا مستعار؛ لأن حقيقته بحاسة اللسان، والوبال: سوء العاقبة، وهو هنا ما لزمه من التكفير200.
٣. الأخذ من الشعر.
فيحرم حلق الرأس على المحرم؛ لقوله تعالى: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [البقرة: ١٩٦].
وهو خطاب لجميع الأمة من غير فرق بين محصر وغير محصر، وإليه ذهب جمع من أهل العلم، وذهبت طائفة إلى أنه خطاب للمحصرين خاصة: أي: لا تحلوا من الإحرام حتى تعلموا أن الهدي الذي بعثتموه إلى الحرم قد بلغ محله.
وقوله: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) أي: مكانه الذي يجب أن يذبح فيه، واختلفوا في تعيينه:
فقيل: هو موضع الحصر؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ، حيث أحصر في عام الحديبية، وأجيب عن نحره صلى الله عليه وسلم في الحديبية بأن طرف الحديبية الذي إلى أسفل مكة هو من الحرم، وردّ بأن المكان الذي وقع فيه النحر ليس هو من الحرم.
وقيل: هو الحرم؛ لقوله تعالى: (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) [الحج: ٣٣].
وأجيب عن ذلك بأن المخاطب به هو الآمن الذي يمكنه الوصول إلى البيت201.
قوله: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ)... الآية، معناه: ولا تحلقوا رءوسكم في حال الإحرام إلا أن تضطروا إلى حلقه لمرض أو أذى. والمراد بالمرض هنا: ما يصدق عليه مسمى المرض لغة، والمراد بالأذى من الرأس: ما فيه من قمل أو جراح ونحو ذلك، ومعنى الآية: إن من كان مريضًا، أو به أذى من رأسه، فحلق، فعليه فدية202.
ومما يؤخذ من الآية: أن النهي عام لكل الرأس ولبعضه؛ إذ لو حلق بعضه وقع في الإثم؛ لأن النهي يتناول جميع أجزاء المنهي عنه؛ فإذا قيل: «لا تأكل هذه الخبزة» وأكلت منها فإنك لم تمتثل203.
ومما يؤخذ من الآية: أن المحرّم ما يسمى حلقًا، فأما أخذ شعرة أو شعرتين أو ثلاث شعرات من رأسه فلا يقال: إنه حلق، وهذه المسألة مما تنازع فيها أهل العلم، فقال بعضهم: إذا أخذ شعرة واحدة من رأسه فقد حلق؛ فعليه فدية إطعام مسكين، وإن أخذ شعرتين فإطعام مسكينين، وإذا أخذ ثلاث شعرات فدم، أو إطعام ستة مساكين: لكل مسكين نصف صاع، أو صيام ثلاثة أيام.
وقال بعض العلماء: إن الحكم يتعلق بربع الرأس، فإن حلق دون الربع فلا شيء عليه، وهذا لا شك أنه تحكّمٌ لا دليل عليه؛ فلا يكون صحيحًا، بل هو ضعيف.
وقال آخرون: تتعلق الفدية بما يماط به الأذى، ومعنى يماط: يزال، أي بما يحصل به إزالة الأذى، وهذا لا يكون إلا بجزء كبير من الرأس.
قالوا: لأن الله تعالى قال: (ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ) فدل هذا على أن المحرّم الذي تتعلق به الفدية هو ما يماط به الأذى، وهذا مذهب مالك، وهو صحيح من حيث أن الفدية لا تجب إلا بما يماط به الأذى فقط، لكنه غير صحيح من كون التحريم يتعلق بما يماط به الأذى فقط، فالتحريم يتعلق بما يسمّى حلقًا، والفدية تتعلق بما يماط به الأذى204.
قال الشيخ ابن عثيمين: «فإن قال قائل: ما هو دليلكم على هذا التقسيم، فالعلماء لم يقولوا هذا الكلام؟
فالجواب: أن نقول: دليلنا على هذا التقسيم الآية الكريمة، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فقوله تعالى: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) هذا عام لكل حلق، فكل ما يسمى حلقًا فإنه منهي عنه لهذه الآية.
ثم قال تعالى: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ) فأوجب الفدية فيما إذا حلق حلقًا يزول به الأذى؛ لقوله تعالى: (ﯪ ﯫ ﯬ) فلو قدّرنا محرمًا رأسه تؤذيه الهوام، فحلق منه شيئًا يسيرًا لا يزول به الأذى فلا فدية عليه؛ لأن الله تعالى إنما أوجب الفدية بحلق ما يزول به الأذى.
ويدل لذلك فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد احتجم وهو محرم في يافوخه في أعلى رأسه، ومعلوم أن الحجامة تحتاج إلى حلق الشعر الذي يكون في موضع الحجامة، ولم ينقل أن الرسول صلى الله عليه وسلم افتدى، فدل ذلك على أن ما تتعلق به الفدية هو ما يماط به الأذى، دون الشيء اليسير»205.
ومما يؤخذ من الآية: التيسير على العباد؛ وذلك بوقوع الفدية على التخيير.
ومنها: أن محل الإطعام والنسك في مكان فعل المحظور؛ لأن الفورية تقتضي ذلك، أما الصيام فالظاهر ما قاله العلماء رحمهم الله من كونه يصح في كل مكان، لكن الفورية فيه أفضل.
ومنها: أن كفّارات المعاصي فدًى للإنسان من العقوبة؛ لقوله تعالى: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ).
ومنها: أن محظورات الإحرام لا تفسده؛ لأن الله لم يوجب في حلق الرأس مع أنه من محظورات الإحرام إلا الفدية، ومقتضى ذلك أن النسك صحيح.
وهذا مما يخالف الحجّ والعمرة فيه غيرهما من العبادات؛ فإن المحظورات في العبادات تبطلها. وألحق العلماء بفدية حلق الرأس فدية جميع محظورات الإحرام، ما عدا شيئين، وهما: الجماع في الحج قبل التحلل الأول، وجزاء الصيد.
فالجماع في الحج قبل التحلل الأول يجب فيه بدنة، وجزاء الصيد يجب فيه مثله، أو إطعام مساكين، أو عدل ذلك صيامًا، وما عدا ذلك من المحظورات ففديتها كفدية حلق الرأس عند الفقهاء، أو كثير منهم206.
آداب الحج تنقسم إلى قسمين:
فأما الآداب الواجبة: فهي أن يقوم الإنسان بواجبات الحج وأركانه، وأن يتجنب محظورات الإحرام الخاصة، والمحظورات العامة، الممنوعة في الإحرام وفي غير الإحرام؛ لقوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) [البقرة: ١٩٧].
وقد سبق بيان الآداب الواجبة في الحج.
وأما الآداب المستحبة في سفر الحج: فأن يقوم الإنسان بكل ما ينبغي له أن يقوم به، من الكرم بالنفس والمال والجاه، وخدمة إخوانه، وتحمّل أذاهم، والكف عن مساوئهم، والإحسان إليهم، سواء كان ذلك بعد تلبّسه بالإحرام، أو قبل تلبّسه بالإحرام؛ لأن هذه آداب عالية فاضلة تطلب من كل مؤمن في كل زمان ومكان، وكذلك الآداب المستحبة في نفس فعل العبادة، كأن يأتي الإنسان بالحج على الوجه الأكمل، فيحرص على تكميله بفعل مستحباته القولية والفعلية.
لأنه لا ينال فضل الحج ولا تنال منفعته الروحية والقلبية إلا من خلال التمسك بهذه الآداب، فهي الخلال الكفيلة بجعل الحج حجًّا بالقلب إلى الله، قبل أن يكون حجًّا بالجسد إلى البيت والأماكن المقدسة.
والآيات التي تناولت الحج، وما يتعلق به تشتمل على كثير من الآداب التي دلت عليها الآيات أحيانًا بمنطوقها، وأحيانًا أخرى بمفهومها، وأحيانًا أخرى بالإشارة والإيماء.
والمتأمل في سورة البقرة وسورة الحج يجد أنهما قد سبحتا سبحًا طويلًا في حديثهما عن البيت الحرام، وعن آداب الحج، ومناسكه، وأحكامه، ومن هذه الآداب التي ذكرت في هاتين السورتين:
١. إخلاص النية لله في الحج والعمرة.
والآية التي تشير إلى هذا هي قوله تعالى: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) [البقرة: ١٩٦].
فإن الآية تحث على أن يكون الحج والعمرة تامّين لله، وهذا يعني أنه لابد من أن يكون القصد بالحج وجه الله تعالى ، وأن تكون الغاية رضاه، وأن لا يقصد بذلك مراءاة الناس، أو الكسب الدنيوي، أو أي غرض غير طلب مرضاة الله ورجاء عفوه، ولا شك أن هذا الأدب من الأهمية بمكان، يدل على ذلك كونه أول أمر تعرضت له الآيات بعد طلب الإتيان بالحج والعمرة تامّين، ويدل على تلك الأهمية أيضًا صيغة الطلب التي وردت في آل عمران بقوله تعالى: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) [آل عمران: ٩٧].
فلقد وردت هنا صيغة الطلب والإلزام مغايرة لما عهد من صيغ الطلب المعروفة الواردة في غير الحج، وفي مجيء الطلب بهذه الصيغة عدة إشارات، منها: تقديم القصد من الحج على الإلزام به، فقبل أن يوجبه بيّن أنه لابد من كونه لله، فقال: (ﮬ) وهذا يشير إلى أن القصد من الحج مقدم على الفعل له، وأنه لابد من تقديم النية على الامتثال.
٢. الحرص على الإتيان بالحج والعمرة تامّين.
وهذا ما يرشد إليه قوله تعالى: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) فهنا نلحظ أنه سبحانه وتعالى لم يأمر عباده بفعل الحج والعمرة ولا بالقيام بهما فحسب، وإنما ورد الأمر بفعلهما تامّتين، وهذا يشير إلى أن من آداب الحج أن يسعى الحاج جاهدًا إلى أن يأتي بأفعال الحج والعمرة على الوجه الكامل، لا أن يأتي بالأفعال ناقصة، وكون الإتمام بحد ذاته مطلوبًا، والنص على إتمام الحج يشعر بأهميته، ويشير إلى مشقته التي قد تدفع البعض للإتيان به ناقصًا، أو على أي وجه كان، فكان لابد من التأكيد على فعله تامًّا.
٣. ترك الرفث والفسوق والجدال.
وقد سبق الكلام على قوله تعالى: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) [البقرة: ١٩٧].
ومما يلفت النظر في هذه الآية مجيء النهي فيها عن الرفث والفسوق والجدال بأسلوب عجيب، حيث لم تأت العبارة بصيغة النهي، فلم يقل الله: فلا يرفث ولا يفسق ولا يجادل، وإنما قال: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ)، فجاء النهي عن هذه الخصال الثلاثة بالنفي باللام النافية للجنس، وهذا أبلغ أشكال النهي، وأقواها، فهو ليس نهيًا فحسب، إنما هو بيان بأن هذه الخصال الثلاثة مما ينبغي أن لا تكون موجودة أصلًا، بل ينبغي أن تنعدم، وأن لا تقوم لها قائمة، وهذا أمر معلوم، فحين يأتي النهي بصيغة النفي يكون أبلغ في النهي عنه، فإذا كان النفي بلام الجنس كان أشد وأقوى؛ لأنه نهي يطالب فيه بأن لا يكون لهذه الأمور وجود.
والنهي عن هذه الأمور يقتضي الأمر بأضدادها، فالنهي عن الرفث هو أمر بحفظ اللسان، والنهي عن الفسوق هو أمر بحفظ الأفعال، والنهي عن الجدال هو أمر بحفظ العقل أو القلب، فاللسان ينبغي أن ينشغل بذكر الله، وأن يحفظ عما يشغله عن مبدعه وخالقه.
٤. الإكثار من فعل الخير في الحج.
وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [البقرة: ١٩٧].
فقد جاء الحث على فعل الخير وسط الحديث عن آداب الحج؛ إشارة إلى أن هذا الأمر من آداب الحج، فالحاج ينبغي أن ينشغل بفعل الخير؛ لأنه الفعل الذي يتناسب مع ما هو فيه من أماكن مقدسة وساعات تجلٍّ إلهي؛ ولأن فعل الخير مفتاح لتلك التجليات والمعاني العظيمة حتى تنفذ إلى قلبه.
ونلحظ أن الحث على فعل الخير في الحج جاء بأسلوب الشرط، وذلك أبلغ في الحث؛ لأن الشرط يفيد الإلهاب والتهييج بما فيه من ربط الجزاء بالشرط، ولقد ربط الشرط هنا بجزاء عظيم، فلقد ربطه بعلم الله، وكون الله يعلم أن الإنسان يفعل الخير أمر مسلم فيه؛ ولذا فالمراد هنا أنه لا يمكن أن يعلم الله عبده يفعل الخير إلا وسيكافئه عليه أوفى المكافأة، ونلحظ أيضًا أن الشرط جاء بـ(ما) التي تفيد العموم؛ ليشير بذلك إلى أن المطلوب كل أعمال الخير، أو عموم أفعال الخير، أو كل ما يصدق عليه أنه عمل صالح.
٥. إعداد الحاج الزاد من مال يكفيه في حجه.
يقول الله تعالى: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [البقرة: ١٩٧].
ولعل بعضنا يتساءل ما علاقة إعداد الزاد الكافي بآداب الحج؟ وهل يجني الحاج بذلك نفعًا أخرويًّا أو روحيًّا؟ نقول: أجل، فإن إعداد الزاد الكافي أمر ذو صلة بالنفع الروحي والقلبي؛ وذلك لأن الحاج حين يجد ما يكفيه من زاد في حجه لا ينشغل قلبه عن الله في البحث عن الزاد، أو القوت أو المال، فالمحتاج قد تشغله حاجته عن الله، وعن الخشوع وعن الإقبال على الله، أو قد تدفعه إلى سؤال الناس، وهذا مما يشوّش عليه صفاءه ونقاء قلبه، كيف لا والإسلام نهى عن سؤال الناس، فسؤال الناس أمر لا يرضاه الله ولا رسوله، وهو من ثمّ يبعد السائل عن أن يكون في رحمة الله، فكيف ينال رحمة الله وتجلياته من تلبّس فيما لا يرضاه؟!
٦. التقوى والتوبة قبل الحج.
وفي قوله تعالى: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [البقرة: ١٩٧].
قضية مهمة، وهي أن التقوى صفة ينبغي على الحاج أن يلجها قبل مغادرته؛ وذلك لأن الله جعلها خير زاد، فهو يشير هنا إلى أن التقوى هي الصفة التي ينبغي على الحاج أن يتزود منها قبل خروجه إلى الحج، وإنما استنبطنا تلك الإشارة من كون الآية هنا جعلت التقوى زادًا، وجعلته خير زاد، والزاد في العادة يعدّ قبل الخروج لا بعده، إذن فالحاج مطالب قبل خروجه إلى الحج أن يتسلح بالتقوى، فيترك ما نهى الله عنه، ويمتثل ما أمر الله به، حتى يصل إلى تلك الأماكن طاهر القلب نقيًّا، فالتسلح بالتقوى يجعل القلب متهيئًا لعطايا الله وهباته في تلك الأماكن المقدسة، ولا شك أن الأمر بالتقوى قبل الحج يستلزم توبة العبد عما كان عليه؛ حتى تتحقق فيه صفة التقوى.
٧. انشغال الحاج بالذكر والاستغفار.
نجد أن الله تعالى أمر الحاج بالانشغال في الذكر في عدة مواطن، ففي سورة الحج يبين أن الغاية من إقبال الناس على الحج من كل فج عميق أمران، هما: شهود المنافع، وذكر الله في أيام معلومات.
يقول سبحانه: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) [الحج: ٢٧].
وفي سورة البقرة حين الحديث عن آداب الحج تكرر طلب ذكر الله من الحاج في عدة مواطن، فعند الإفاضة من عرفات إلى المشعر الحرام يأمرهم بالذكر، فيقول: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ) [البقرة: ١٩٨].
ونلحظ أنه سبحانه يلهب مشاعر المؤمنين بالإقبال على الذكر عند المشعر الحرام بصيغة الأمر، وبتذكيرهم أنه من قبيل شكرهم لله على هدايته لهم؛ حثًّا لهم على الإقبال على ذكر الله تعالى.
ثم يأمرهم بالاستغفار عند الإفاضة، فيقول: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [البقرة: ١٩٩].
وكذلك يأمرهم بالذكر عند انقضاء المناسك، فيقول: (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ) [البقرة: ٢٠٠].
ونلحظ هنا أنه أمرهم بذكر الله ذكرًا أشد من ذكر آبائهم الذي كانوا يفعلونه عند انقضاء النسك، وهذا يعني أن الحاج مطالب بالإكثار من الذكر عند انقضاء المناسك، وإنما استنبطنا أنه مطالب بكثرة الذكر؛ لأنه جرت عادة الناس بعد الفراغ من النسك أن تتحرك أشواقهم إلى أهليهم وآبائهم؛ لقرب العودة وعدم وجود ما يشغلهم من النسك، وعندئذ يكثر ذكراهم لأهلهم، فالله يأمرهم أن يكون ذكرهم لله أكثر من ذكر الآباء والأهل الذي هو كثير في تلك الآونة، والغرض من طلب الذكر بعد انقضاء المناسك هو أن يحافظ العبد على نورانية الحج، وأن لا يضيعها بأحاديث تذهب ببهاء حجته.
ثم نجده أيضًا يأمر بالذكر في أيام منى، فيقول: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [البقرة: ٢٠٣].
ونلحظ أنه قد تكرر طلب الذكر في آيات الحج، وهذا يعني التأكيد على طلب الذكر من الحاج، ويشير بنفس الوقت إلى أهمية الذكر في الحج؛ لأن التكرار وسيلة من وسائل التوكيد، ويشير بنفس الآونة إلى الاهتمام بالأمر المكرر.
٨. التواضع في الحج.
فالحاج مأمور بالتواضع في الحج في أخلاقه وفي لباسه وفي مأكله وفي مشربه، وذلك حتى يكون محط نظر الله ورحمته؛ لأن الله يمقت الكبر وأهله، فالكبر يخرج الحاج من دائرة رحمة الله، ونجد الإشارة إلى طلب التواضع في قوله تعالى: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [البقرة: ١٩٩].
فالحاج مأمور بأن يكون كسائر إخوانه من الحجيج؛ حتى لا يكسر قلب الفقير منهم، فكسر قلب الفقير أمر خطير يبعد فاعله عن أن يكون في نظر الله، ومن هنا فالحاج مأمور بعدم التكبر أو التفاخر سواء في المركب أم في الملبس أم في المقام، فعن أنس رضي الله عنه قال: حج رسول الله على رحل رث، وقطيفة تساوي أربعة دراهم، أو لا تساوي، ثم قال: (اللهم حجًّا لا رياء فيه ولا سمعة)207.
وقد يقال: لا دليل في الآية على التواضع، إنما هي تتعلق بأقوام كانوا لا يفيضون من حيث أفاض الناس كما هو معروف في سبب نزول هذه الآية، والجواب: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
٩. إكثار الحاج من الدعاء وأن يطلب لدنياه وآخرته معًا.
وإنما كان من أدب الحج إكثاره من الدعاء لأن تلك الأماكن مظنة لإجابة الدعاء فيها، فلله تجليات في الأمكنة وفي الأزمنة وفي الأشخاص، ولقد حثنا القرآن على الإكثار من الدعاء في تلك الأماكن.
وبيّن أن الناس على صنفين:
أما الصنف الأول فيعطى الدنيا وليس له نصيب من الآخرة، وأما الصنف الثاني فيطلب الدنيا والآخرة، فيعطى خيري الدنيا والآخرة، ولا شك أن ذكر هذين الصنفين فيه إشارة أن العاقل هو من يطلب الاثنين معًا؛ لأن طالب الأولى يعطاها فقط دون الأخرى، أما طالب الاثنتين فيعطاهما معًا، فالصنف الأول محروم من الأخرى.
أما الصنف الثاني فيغنم الأولى والأخرى.
يقول سبحانه وتعالى: (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [البقرة: ٢٠٠-٢٠٢].
فقد بيّنت الآية أن بعض الناس يطلب الدنيا فيعطاها، لكن لا خلاق له ولا نصيب في الآخرة، وأن بعضهم يطلب في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ويستجير بالله من عذاب النار، وهؤلاء هم الذين يعطون نصيبهم من كل أمر سألوه، والحق أن بيان هذه الآية للصنفين، وبيان ما يلقاه كل صنف وما يحصده من دعوته، هو عبارة عن وضع نماذج للناس؛ تشويقًا لهم إلى اختيار ما هو الأعظم ترتيبًا في الجزاء، وهم الصنف الثاني، فالآية تحث على انتهاج سلوكهم من خلال ما ذكره من ثمرات دعواتهم، ومن خلال الإشارة إليهم بإشارة البعد إيذانًا بعلو مرتبتهم، وحثًّا للسامعين على سلوك طريقهم، ومن خلال ما بيّنه من نيلهم نصيبًا من كل أمر كسبوه، فهنا إذن نيل للنصيب وكسب، يقابله في الفئة الأولى نفي للخلاق والنصيب، وفي هذا حث للناس على سلوك منهج الفئة الثانية؛ لأن العاقل دائمًا يفضّل ما له فيه مغنم، لا ما فيه نقص ومغرم.
١٠. الأكل من الهدي.
أمر الله تعالى بالأكل من الهدي، فقال: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) [الحج: ٢٧].
والأمر هنا مجمل، يحتمل الوجوب، ويحتمل الإباحة، ويحتمل الندب، وقرينة عدم الوجوب ظاهرة؛ لأن المكلّف لا يفرض عليه ما الداعي إلى فعله من طبعه، وإنما أراد الله إبطال ما كان عند أهل الجاهلية من تحريم أكل المهدي من لحوم هديه، فبقي النظر في أنه مباح بحت، أو هو مندوب208.
فمذهب الجمهور أن الأكل مستحب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يؤخذ من كل جزور بضعة، فطبخت، وأكل لحمها، وحسي من مرقها209.
قال الشنقيطي: «فجمهور أهل العلم على أن الأمر بالأكل في الآيتين: للاستحباب والندب، لا للوجوب، والقرينة الصارفة عن الوجوب في صيغة الأمر هي ما زعموا من أن المشركين كانوا لا يأكلون هداياهم، فرخّص للمسلمين في ذلك»210.
وقال ابن كثير في تفسيره: «استدل بهذه الآية من ذهب إلى وجوب الأكل من الأضاحي، وهو قول غريب، والذي عليه الأكثرون أنه من باب الرخصة أو الاستحباب»211.
وقال القرطبي: «(ﮦ ﮧ) أمر معناه الندب عند الجمهور، ويستحب للرجل أن يأكل من هديه وأضحيته، وأن يتصدق بالأكثر، مع تجويزهم الصدقة بالكل، وأكل الكل، وشذت طائفة، فأوجبت الأكل والإطعام، بظاهر الآية، ولقوله عليه السلام: (فكلوا وادّخروا وتصدّقوا)»212213.
قال إلكيا: «قوله تعالى: (ﮦ ﮧ ﮨ) يدل على أنه لا يجوز بيع جميعه، ولا التصدق بجميعه»214.
واستدل بعضهم لعدم وجوب الأكل بقوله: (ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) [الحج: ٣٦].
قالوا: فجعلها لنا، وما هو للإنسان فهو مخير بين تركه وأكله، ولا يخفي ما في هذا الاستدلال.
إلا أن الشنقيطي رجّح وجوب الأكل، حيث قال: «أقوى القولين دليلًا: وجوب الأكل والإطعام من الهدايا والضحايا؛ لأن الله تعالى قال: (ﮦ ﮧ) في موضعين، ومما يؤيد أن الأمر في الآية يدل على وجوب الأكل وتأكيده: أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر مائة من الإبل، فأمر بقطعة لحم من كل واحدة منها، فأكل منها وشرب من مرقها، وهو دليل واضح على أنه أراد ألا تبقى واحدة من تلك الإبل الكثيرة إلا وقد أكل منها أو شرب من مرقها، وهذا يدل على أن الأمر في قوله: (ﮦ ﮧ) ليس لمجرد الاستحباب والتخيير؛ إذ لو كان كذلك لاكتفى بالأكل من بعضها، وشرب مرقه دون بعض، وكذلك الإطعام، فالأظهر فيه الوجوب»215.
والأظهر أنه: لا تحديد للقدر الذي يأكله، والقدر الذي يتصدق به، فيأكل ما شاء، ويتصدق بما شاء.
قال الرازي: «ثم قال العلماء: من أهدى أو ضحّى فحسن أن يأكل النصف، ويتصدق بالنصف؛ لقوله تعالى: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) ومنهم من قال: يأكل الثلث، ويدّخر الثلث، ويتصدق بالثلث، ومذهب الشافعي: أن الأكل مستحب، والإطعام واجب، فإن أطعم جميعها أجزأه، وإن أكل جميعها لم يجزه، هذا فيما كان تطوعًا، فأما الواجبات كالنذور، والكفارات والجبرانات لنقصان مثل دم القران ودم التمتع ودم الإساءة ودماء القلم والحلق، فلا يؤكل منها»216.
١١. إطعام الفقراء من الهدي.
أمر الله تعالى بالإطعام من الهدي، فقال: (ﮨ ﮩ ﮪ) ونطيره: (ﯛ ﯜ ﯝ) [الحج: ٣٦].
فقوله: (ﮨ) هذا الأمر قيل: هو للندب كالأول، وقيل: هو للوجوب.
قال القرطبي: «واختلف في الأكل والإطعام، فقيل: واجبان، وقيل: مستحبان، وقيل: بالفرق بين الأكل والإطعام، فالأكل مستحب، والإطعام واجب، وهو قول الشافعي»217.
وقال الرازي في قوله: «(ﮨ): فلا شبهة في أنه أمر إيجاب، والبائس: الذي أصابه بؤس أي شدة، والفقير: الذي أضعفه الإعسار، وهو مأخوذ من فقار الظهر»218.
الحج طاعة مطلقة، وانقياد تام لله تعالى، ومع أنه كذلك فليس معنى ذلك: أن العقل ليس له مدخل في شعائره ومناسكه، يتذوقها ويقف على الحكم المستفادة منها، فكثير من الناس يظن أن أفعال الحج ومناسكه كلها مبهمة وغامضة، والصواب: كما أن الله -جل شأنه- اختبر الناس بما يعقلون فسمعوا وأطاعوا، اختبرهم كذلك بما لا يعقلون حتى يتبين له كيف يسمعون وكيف يطيعون، وهكذا في شعيرة الحج ففيها حكم معقولة، وفيها حكم غير معقولة، فمثلًا من مناسك الحج الطواف بالبيت، وله حكم عديدة، توضح معقوليته، والحكمة منه، ومنها:
أن هذا البيت هو أول بيت وضع للناس، وزاده الله تشريفًا، فمن حق أول بيت أقيم ليكون قلعة التوحيد، ومثابة للموحدين، وملتقى للمؤمنين المخلصين، من حقه أن تكون له مكانة خاصة؛ ولهذا يجيئه الرواد من كل أفق، والحجاج من كل فج، يطيرون إليه كما تطير الحمائم إلى أوكارها، في أفئدتهم حنين، وفي قلوبهم مشاعر ملتاعة، وقس على ذلك باقي المناسك.
فالحج إذن عبادة رقيقة محبوبة، ظاهرة الحكمة، أساسها الوقوف بعرفة، والطواف حول البيت، وبعض شعائر أخرى يمكن استيعابها بيسر، دون قلق أو حرج، وعند التأمل في أصل المنسك، وما يتركه في القلب من مشاعر، وما يستودعه العقل من دلالات، يقف المرء على الحكم المتعددة، التي تستفاد من كل منسك.
ومن حكم الحج الظاهرة (المنافع المتنوعة) التي يحصل عليها المسلم في الحج، كما قال تعالى: (ﮖ ﮗ ﮘ) [الحج: ٢٨].
ومما ينبغي التنبه إليه أن المنافع المذكورة في الآية ليست محصورة في المنافع الدنيوية، وكيف تحصر فيها وقد وردت مجموعة منكرة؟! فجمعها يفيد تعددها، وتنكيرها يفيد عمومها، فبناء على الجمع تكون المنافع متعددة، وبناء على التنكير تكون المنافع عامة، فجمع (منافع) وتنكيرها دلا على أنها منافع متعددة وعامة، وهذا يعني أنها أكثر من أن تكون منافع دنيوية، فهي أيضًا منافع إيمانية روحية؛ لأن الحج أعمال تقرّب العبد من ربه، وهذا غذاء الروح، وهي أيضًا منافع أخروية؛ لأن الحج امتثال لأمر الله فيما تعبدنا به، وهي أيضًا منافع نفسية؛ لأن الحج ترويض للنفس على أعمال تشق عليها، وهي أيضًا منافع جسدية؛ لأن الحج رياضة للبدن، ودربة له على النشاط والحركة.
وفيما يلي سيتم الكلام -باختصار- على هذه الحكم والمنافع للحج.
أولًا: الثمرات الدنيوية:
١. المنافع التجارية.
سبق الإشارة إلى أن الله تعالى وعد عباده المستجيبين لندائه شهود منافع مطلقة -مادية ومعنوية-، لا حصر لها، ولا حدّ، فقال تعالى: (ﮖ ﮗ ﮘ) [الحج: ٢٨].
ومعنى الآية: لينالوا بوصولهم لبيت الله في الأنساك منافع متنوعة دينية، ومنافع دنيوية، كالتكسب وحصول الأرباح، وهذا أمر مشاهد يعرفه كل أحد، فجميع العلوم والعبادات الدينية التي تفعل في تلك البقاع الفاضلة، وما جعل الله لها من التضعيف داخل في هذه المنافع، وجميع المنافع الدنيوية التي لا تعدّ ولا تحصى داخلة في ذلك، فصدق الله وعده، وأنجز ما قاله، وكان ذلك آية وبرهانًا على توحيده، وصدق رسله219.
ونظيره: قوله تعالى: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [البقرة: ١٩٨].
فقوله: (ﮖ) أي: يأتوك ليحضروا. واللام في قوله: (ﮖ) هي لام التعليل: وهي متعلقة بقوله تعالى: (ﮇ) أي: إن تؤذن فيهم يأتوك مشاة وركبانًا؛ لأجل أن يشهدوا: أي: يحضروا منافع لهم، والمراد بحضورهم المنافع: حصولها لهم220.
قال ابن عادل: «ويجوز في هذه اللام وجهان:
أحدهما: أن تتعلق بـ(أذّن) أي: أذّن ليشهدوا.
والثاني: أنها متعلقة بـ(يأتوك) وهو الأظهر»221.
وقوله: (ﮗ) جمع منفعة، واختلف في تلك المنافع، فبعضهم حملها على منافع الدنيا، وهي أن يتجروا في أيام الحج، وبعضهم حملها على منافع الآخرة، وهي العفو والمغفرة، وبعضهم حملها على الأمرين جميعًا، وهو كما قال الرازي أولى222.
قال الشنقيطي: «ولم يبين هنا هذه المنافع ما هي؟ وقد جاء بيان بعضها في بعض الآيات القرآنية، وأن منها ما هو دنيوي، وما هو أخروي، أما الدنيوي فكأرباح التجارة -بيع وشراء وعرض سلع وأنواع صناعات-، فإذا خرج الحاج بمال تجارة معه، فإنه يحصل له الربح غالبًا، وذلك نفع دنيوي»223.
ومن المنافع كذلك ما يحصل من الأجر بالكراء في الحج.
قال ابن عثيمين: «من فوائد الآية: جواز الاتجار أثناء الحج بالبيع والشراء والتأجير، كالذي يؤجر سيارته التي يحج عليها في الحج؛ لقوله تعالى: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) [البقرة: ١٩٨]»224.
وهذه المنافع تشمل المنافع الدينيّة: كمغفرة ذنوبهم، واستجابة دعائهم، والفوز برضا ربهم، وتعلم دينهم من علمائهم.
ومن أهم المنافع أيضًا ما وعدهم الله على لسان إبراهيم عليه السلام من الثواب، فكنى بشهود المنافع عن نيلها...، وأعظم ذلك اجتماع أهل التوحيد في صعيد واحد؛ ليتلقى بعضهم عن بعض ما به كمال إيمانهم.
وتنكير (منافع) للتعظيم، والمراد منه الكثرة، وهي المصالح الدينية والدنيوية؛ لأن في مجمع الحج فوائد جمة للناس: لأفرادهم من الثواب، والمغفرة لكل حاج، ولمجتمعهم؛ لأن في الاجتماع صلاحًا في الدنيا بالتعارف والتعامل.
قال الطبري بعد أن ذكر عدة أقوال في المراد بالمنافع: «وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: عنى بذلك: ليشهدوا منافع لهم من العمل الذي يرضي الله والتجارة، وذلك أن الله عمّ لهم منافع جميع ما يشهد له الموسم، ويأتي له مكة أيام الموسم من منافع الدنيا والآخرة، ولم يخصص من ذلك شيئًا من منافعهم بخبر ولا عقل، فذلك على العموم في المنافع التي وصفت»225.
ومن المنافع الدنيوية أيضًا ما يصيبونه من لحوم البدن في ذلك اليوم، كقوله في البدن: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ) [الحج: ٣٣]. على أحد التفسيرين.
وقوله: (ﮦ ﮧ) في الموضعين، وكل ذلك نفع دنيوي.
قال ابن عاشور: «وخص من المنافع أن يذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، وذلك هو النحر والذبح للهدايا، وهو مجمل في الواجبة والمتطوع بها، وقد بيّنته شريعة إبراهيم من قبل بما لم يبلغ إلينا، وبيّنه الإسلام بما فيه شفاء»226.
وقوله في الآية الثانية: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [البقرة: ١٩٨].
فقوله: (ﭳ ﭴ ﭵ) قال ابن عطية: «الجناح أعم من الإثم؛ لأنه فيما يقتضي العقاب، وفيما يقتضي العقاب والزجر. وقال ابن عرفة: والنفي بـ(ليس) لما يتوهم وقوعه، والإثم كان متوهمًا وقوعه في سفر الحج للتجارة، بخلاف النفي بـ(لا) حسبما ذكره المنطقيون في السالبة والمعدومة، مثل: الحائط لا يبصر، وزيد ليس يبصر، أو غير بصير»227.
وقيل في سبب نزول هذه الآية: أنهم كانوا يتوهمون أن سفر الحاج إذا خالطته نية التجارة ينقص من ثوابه، أو يوقع في الإثم، فنزلت الآية228.
وقد كان أهل الجاهلية إذا خرجوا من سوق ذي المجاز إلى مكة حرم عندهم البيع والشراء، قال النابغة:
كادت تساقطني رحلي وميثرتي
بذي المجاز ولم تحسس به نغما
من صوت حرمية قالت وقد ظعنوا
هل في مخفيكم من يشتري أدما
قلت لها وهي تسعى تحت لبتها
لا تحطمنك إن البيع قد زرما
أي: انقطع البيع، وحرم.
وعن ابن عباس: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقًا في الجاهلية، فتأثموا أن يتجروا في المواسم، فنزلت: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلًا من ربكم في موسم الحج) أي: قرأها ابن عباس بزيادة: (في مواسم الحج)»229.
ونفي الجناح في التجارة في الحج يدل على أن شبهة قامت عندهم في تحريم التجارة من وجوه:
أحدها: أنه تبارك وتعالى منع الجدال في الحج، والتجارة كثيرة الإفضاء إلى المنازعة في قلة القيمة وكثرتها؛ فوجب أن تكون التجارة محرمة.
ثانيها: أن التجارة كانت محرمة في وقت الحج في الجاهلية، وذلك شيء حسن؛ لأن المشتغل بالحج مشتغل بخدمة الله تعالى، فوجب ألا يشوب هذا العمل بالأطماع الدنيوية.
وثالثها: أن المسلمين علموا أن كثيرًا من المباحات صارت محرمة عليهم في الحج: كاللبس والاصطياد والطيب والمباشرة، فغلب على ظنهم أن الحج لما صار سببًا لحرمة اللبس مع الحاجة إليه، فأولى منه تحريم التجارة؛ لقلة الاحتياج إليها.
ورابعها: عند الاشتغال بالصلاة يحرم الاشتغال بالتجارة.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [الجمعة: ٩].
فلهذا السبب بيّن الله تعالى هاهنا أن التجارة جائزة غير محرمة230.
قال في اللباب: «وكان العرب يسمون التاجر في الحج الداج، ويقولون: هؤلاء الداج، وليسوا بالحاج، ومعنى الداج: المكتسب الملتقط، وهو مشتق من الدجاجة، وبلغوا في الاحتراز عن الأعمال إلى أن امتنعوا من إغاثة الملهوف والضعيف وإطعام الجائع، فأزال الله هذا الوهم، وبيّن أنه لا جناح في التجارة، ولما كان ما قبل هذه الآية في أحكام الحج، وما بعدها في الحج، وهو قوله تعالى: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) [البقرة: ١٩٨].
دل ذلك على أن هذا الحكم واقع في زمان الحج؛ فلهذا السبب استغني عن ذكره»231.
وحمل أكثر المفسرين هذه الآية على التجارة في أيام الحج232.
قال في اللباب: «واتفقوا على أن التجارة إن أوقعت نقصًا في الطاعة لم تكن مباحة، وإن لم توقع نقصًا في الطاعة كانت مباحة، وتركها أولى؛ بقوله تعالى: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [البينة: ٥].
والإخلاص هو ألا يكون له حامل على الفعل سوى كونه عبادة، والحاصل أن الإذن في هذه التجارة جارٍ مجرى الرّخص»233.
وقوله: (ﭶ ﭷ ﭸ) الفضل هنا هو المال، وابتغاء الفضل التجارة لأجل الربح، والابتغاء من فضل الله: كناية عن العمل والطلب لتحصيل الرزق، والرزق: فضل من الله.
فالآية الكريمة صريحة في إباحة طلب الرزق لمن هو في حاجة إلى ذلك في موسم الحج، بشرط ألا يشغله عن أداء فرائض الله. قال ابن عاشور: «فهي جملة معترضة بين المتعاطفين بمناسبة النهي عن أعمال في الحج تنافي المقصد منه، فنقل الكلام إلى إباحة ما كانوا يتحرجون منه في الحج، وهو التجارة ببيان أنها لا تنافي المقصد الشرعي، إبطالًا لما كان عليه المشركون؛ إذ كانوا يرون التجارة للمحرم بالحج حرامًا»234.
وقال الشنقيطي: «لم يبين هنا ما هذا الفضل الذي لا جناح في ابتغائه أثناء الحج، وأشار في آيات أخر إلى أنه ربح التجارة، كقوله: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ) [المزمل: ٢٠].
الضرب في الأرض عبارة عن السفر للتجارة، فمعنى الآية: يسافرون يطلبون ربح التجارة.
وقوله تعالى: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [الجمعة: ١٠]، أي: بالبيع والتجارة، بدليل قوله قبله: (ﭞ ﭟ) [الجمعة: ٩].
أي: فإذا انقضت صلاة الجمعة فاطلبوا الربح الذي كان محرمًا عليكم عند النداء لها، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب أن غلبة إرادة المعنى المعين في القرآن تدل على أنه المراد؛ لأن الحمل على الغالب أولى، ولا خلاف بين العلماء في أن المراد بالفضل المذكور في الآية ربح التجارة»235.
وقال في البحر: «وقد انعقد الإجماع على جواز التجارة والاكتساب بالكل، والاتجار إذا أتى بالحج على وجهه»236.
قال ابن عجيبة: «وهاهنا قاعدةٌ ذكرها الغزالي في الإحياء، وحاصلها: أن العمل إذا تمحّض لغير الله فهو سبب المقت والعقاب، وإذا تمحض لله خالصًا فهو سبب القرب والثواب، وإذا امتزج بشوب من الرياء، أو حظوظ النفس فينظر إلى الغالب، وقوة الباعث، فإن كان باعث الحظ أغلب سقط، وكان إلى العقوبة أقرب، لكن عقوبته أخف ممن تجرد لغير الله، وإن كان باعث التقرب أغلب حط منه بقدر ما فيه من باعث الحظ، وإن تساويا تقاوما وتساقطا، وصار العمل لا له ولا عليه.
ثم قال: ويشهد لهذا إجماع الأمة على أن من خرج حاجًّا، ومعه تجارة صحّ حجه، وأثيب عليه، ثم قال: والصواب أن يقال: مهما كان الحج هو المحرّك الأصلي، وكان غرض التجارة كالتابع، فلا ينفك نفس السفر عن ثواب، ثم طرّد هذا الاعتبار في الجهاد باعتبار الغنيمة، يعني: ينظر لغالب الباعث وخلوص القصد، وكذلك الصوم للحمية والثواب، ينظر لغالب الباعث.
قلت: وتطّرد هذه القاعدة في المعاملات كلها، وجميع الحركات والسكنات والحرف وسائر الأسباب، فالخالص من الحظوظ مقبول، والمتمحض للحظوظ مردود، والمشوب ينظر للغالب كما تقدم»237.
وقوله: (ﭹ ﭺ) دليل على أن المراد التجارة بالمال الحلال، أما الحرام فلا238.
ومن فوائد هذا القيد: (ﭹ ﭺ) أنه ينبغي للإنسان في حال بيعه وشرائه أن يكون مترقبًا لفضل الله، لا معتمدًا على قوته وكسبه، ومنها: ظهور منّة الله على عباده، بما أباح لهم من المكاسب، وأن ذلك من مقتضى ربوبيته سبحانه وتعالى .
المنافع السياسة في الحج:
الحج بالنسبة للأمة الإسلامية مؤتمر سنوي، وظاهرة عالمية، ليس لها نظير، تنصهر في رحابه مختلف الأعراق واللغات والبلدان والطبقات، في وحدة إيمانية، ولحمة أخوية، ومناسك مشتركة، تدهش الناظرين، وتدل على حكمة أحكم الحاكمين.
وقد أشار صاحب (الظلال) إلى بعض منافع الحج السياسية، حيث قال: «والحج بعد ذلك كله مؤتمر جامع للمسلمين قاطبة، مؤتمر يجدون فيه أصلهم العريق الضارب في أعماق الزمن، منذ أبيهم إبراهيم الخليل: (ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) [الحج: ٧٨].
ويجدون محورهم الذي يشدّهم جميعًا إليه: هذه القبلة التي يتوجهون إليها جميعًا، ويلتقون عليها جميعًا...، ويجدون رايتهم التي يفيئون إليها، راية العقيدة الواحدة التي تتوارى في ظلها فوارق الأجناس والألوان والأوطان، ويجدون قوتهم التي قد ينسونها حينًا، قوة التجمع والتوحد والترابط الذي يضم الملايين، الملايين التي لا يقف لها أحد، لو فاءت إلى رايتها الواحدة، التي لا تتعدد، راية العقيدة والتوحيد.
وهو مؤتمر للتعارف والتشاور، وتنسيق الخطط، وتوحيد القوى، وتبادل المنافع، والسلع، والمعارف، والتجارب، وتنظيم ذلك العالم الإسلامي الواحد الكامل المتكامل مرة كل عام، في ظل الله، بالقرب من بيت الله، وفي ظلال الطاعات البعيدة والقريبة، والذكريات الغائبة والحاضرة، في أنسب مكان، وأنسب جو، وأنسب زمان، فذلك إذ يقول الله سبحانه: (ﮖ ﮗ ﮘ) [الحج: ٢٧].
كل جيل بحسب ظروفه وحاجاته وتجاربه ومقتضياته»239.
ففي موسم الحج تلتقي مكة بالوفود المقبلة من كل فج عميق، تلتقي بأفراد الإنسانية الموحدة المهتدية المحبة لله وللمسجد الأول أبي المساجد في القارات كلها، تتصافح الوجوه، وتتعارف النفوس على تلبية النداء الصادر بحج البيت، النداء الذي صدر من قديم، وزاده الإسلام قوة ووحدة.
ويمكن الوقوف في السيرة النبوية على موقفين يستشّف منهما استفادة الرسول صلى الله عليه وسلم من موسم الحج في جوانب سياسية وإعلامية:
الأول: قبل الهجرة، وهو عرض الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه على العرب في مواسمهم، ليس للدعوة إلى الله ونشر الإسلام فحسب، بل طلبًا للحماية والنصرة، وهو معنى سياسي خالص، وقد تكلل هذا الجهاد السياسي بالنجاح، وقطف الرسول صلى الله عليه وسلم ثمرته بعقد بيعتي العقبة الأولى والثانية، والبيعة -كما هو معروف- عمل سياسي محض، وخاصة البيعة الثانية التي تضمنت اشتراط النصرة والحماية، روى الحاكم في المستدرك عن جابر بن عبد الله الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم لبث عشر سنين يتبع الناس في منازلهم في الموسم، ومجنة وعكاظ ومنازلهم من منى، يسألهم: (من يؤويني؟ من ينصرني حتى أبلّغ رسالة ربي، فله الجنة؟)240.
أما الموقف الآخر: فهو بعد الهجرة، وقيام الدولة الإسلامية، إذ أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم في موسم الحج، مبادئ الإسلام وتعاليمه، من خلال خطبة يوم عرفة، وخطبة يوم الحج الأكبر، إضافة إلى قرارات سياسية مهمة تمس علاقات الدولة الإسلامية بغيرها، ولا تزال هذه الخطبة منبرًا دينيًّا ذا طابع سياسي حتى أيامنا هذه.
ففي صحيح البخاري أن أبا هريرة قال: (بعثني أبو بكر في تلك الحجة -أي التي كان أمير الحج فيها أبو بكر، وذلك في السنة التاسعة للهجرة- في مؤذنين -يوم النحر- نؤذّن بمنى: ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ثم أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا، فأمره أن يؤذّن بـ(براءة) فأذّن معنا علي في أهل منى يوم النحر: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان)241.
وزاد الترمذي: (ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا، ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته، ومن لا مدة له فأربعة أشهر)242.
وفي حجة الوداع في يوم الحج الأكبر، وقد اجتمع حوله مئة ألف من الناس، قام فيهم خطيبًا، وألقى خطبة جامعة، تضمنت أول إعلان عام لحقوق الإنسان عرفته البشرية، أعلن فيه المساواة والعدل، وحرمة الدماء والأموال، وحقوق النساء، ووضع دماء الجاهلية، وأموالها الربوية.
ففي صحيح البخاري عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه في حديث طويل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ليبلغ الشاهد الغائب، فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه)243.
فهذان مثالان أو موقفان يظهران منافع الحج السياسية، والسياسة في الإسلام لا تنفصل عن الدين بل هي جزء أصيل منه؛ وذلك لأن الإسلام دين ودولة في آن واحد.
ومن فوائد الحج التي تتجلى فيها المنافع السياسية: كونه مؤتمر اجتماع وتعارف، وتنسيق وتعاون بين المسلمين، ولاسيما مع جعل ذلك واقعًا عمليًّا منظّمًا في عدد من صوره، في مثل المؤتمرات الإسلامية المصاحبة للحج التي تجمع قيادات المسلمين في العالم الإسلامي، وفي مواطن الأقليات الإسلامية، ويتدارسون فيها جملة من قضايا العالم الإسلامي، تحت رعاية الجهات الرسمية والمؤسسات الشرعية العامة.
وتتجلى السياسة أيضًا في مخاطبة الكافة ممن يحضرون الحج، وممن لا يحضرونه بما ينقل لهم عن طريق الأشخاص، ليعلموه ويبلّغوا من وراءهم (فرب مبلّغ أوعى من سامع)244.
أو بما يستجدّ من وسائل كما في عصرنا الحاضر، من النقل المباشر وغير المباشر للحج، وما يعلن فيه من بيان للقضايا التي تهم الأمة كلها، وهو ما يتضح في خطبة عرفة، تلك الخطبة التي كانت السياسة من أهم موضوعاتها في خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تلك الخطبة التي شملت الحديث عن جملٍ من السياسة الداخلية والخارجية، وبيانٍ للحقوق والواجبات للفرد في الإسلام.
وتتجلى ناحية سياسية أخرى وذلك في: تحديد حرمة المكان، وبيان عمقه الاستراتيجي الذي يشرع لمن يدين بالدين أن تطأ قدمه المدينة المحرمة المقدسة، فيأتي الحاج المسلم مبتهجًا مسرورًا، يأوي إلى البيت الحرام، بشعور الانتماء العظيم للأمة، كما لو كان البيت بيته، بينما تتمنع قداستها وحرمتها عن قبول من لا يدين بدين أهلها، ولا ينتمي لولائها الديني زمانًا ومكانًا وأمةً أن يطأها بقدمه، ولمّا يؤمن بقدسيتها وحرمتها واجبًا من واجبات إسلامه، لا وسيلة لتحقيق أغراضه، ومن هنا تتجلى خطورة أهمية بقاء هذه الولاية في أيادي سنيّة أمينة، كما تتجلى خطورة أي دعوة تسعى إلى تدويل الحرمين مهما كانت حججها.
ومن فوائد الحج السياسية اليوم: إثبات صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، فكم من زائر للبيت الحرام قد شوّهت عنده صورة بلاد الإسلام، ومنطلق العقيدة والشريعة قبل وصوله، فلما دخل بلاد الحرمين، وزار البيت الحرام رأى عدم تعارض الشريعة مع الأخذ بالوسائل العصرية، والتفوق في الأمور الدنيوية، وتوظيف الدنيا للدين، وقد رأينا وسمعنا شهادات كثيرة وتعبيرات عن المشاعر تغيّرت فيها النظرة التي أوجدها التشويه الإعلامي للإسلام وأهله، حتى ظن بعض الناس من أبناء المسلمين البعيدين أن الدين لا يتوافق مع العلم.
فيجب على المسلمين أن يستغلوا هذا المؤتمر العالمي غير المسبوق ولا الملحوق في معالجة ما أهمهم من أمر دينهم ودنياهم، فلا يجوز أن تترك هذه الحشود الهائلة يوم الحج الأكبر دون توجيه جامع، تلقى به خصومها، صحيح أنهم في محاريب ذكر، وساحات تسبيح وتحميد، وأوقات تبتّل إلى الله ونشدان لرضاه، لكن من قال: إن كسر العدو ليس عبادة؟ والسهر على هزيمتهم ليس تهجدًا؟ إن صيحة (الله أكبر) تفتتح بها الصلاة لينأى بها المؤمنون عن مشاغل الدنيا، ويفتتح بها الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا، ولتجف دموع البائسين وآلام المستضعفين، ومن هنا نفهم قول الله سبحانه للمحتشدين في عرفات، ولمن وراءهم من جماهير المؤمنين في كل مكان: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [التوبة: ١٤-١٥]245.
وبهذه الإطلالة يتبين أن منافع الحج السياسية باب واسع من أبواب حكمه، يمكن العمل لتحقيق أكبر قدر منها بتوظيف هذه الشعيرة توظيفًا شرعيًّا، يتفق مع أهداف الحج، ويحقق منافعه، من خلال ضبط إداري وسياسي وتراتيب دعوية راقية، تعمل من أجل وحدة الأمة على منهاج النبوة، فيعود منها المسلم وقد ارتوى من معين العبادة، وتشبّع بروح الوحدة، وآب مستشعرًا وظيفته الدعوية في كل فج أتى منه.
المنافع العلمية الدعوية في الحج:
الحج مؤتمر يمكن استغلاله لتبادل المعارف، والتجارب، والعلوم المختلفة، عن طريق إقامة الندوات، والمحاضرات، والمشاورات والمؤتمرات الإسلامية المصاحبة للحج، التي تجمع علماء المسلمين في العالم الإسلامي، وفي مواطن الأقليات الإسلامية.
ويمكن مخاطبة الكافة، ممن يحضرون الحج، وممن لا يحضرونه، بما ينقل لهم عن طريق الأشخاص، ليعلموه، ويبلّغوا من وراءهم، أو بما يستجد من وسائل، كما في عصرنا الحاضر، من النقل المباشر، وغير المباشر للحج، وما يعلن فيه من بيان للقضايا التي تهم الأمة كلها، وما يبثّ في الحج من خطب ودروس وندوات.
المنافع التربوية في الحج:
ومن منافع الحج أنه يعوّدنا على بعض السلوكيات التربوية، والأخلاق والعادات الحسنة، ومنها:
وإن أبرز شيء في الحج نأخذ منه هذا الدرس هي قصة هاجر زوج إبراهيم وأم إسماعيل حيث قالت لزوجها: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، فقالت: إذن لا يضيعنا247.
والحج يجمع بين العقل والعاطفة: وهذه ليس صفة خاصة بالحج فقط، إنما يستمدها الحج من المنهج الشامل للإسلام ذاته، الذي يجمع بين الجسم والروح في نظام الإنسان، وبين السماء والأرض في نظام الكون، وبين الدنيا والآخرة في نظام الدين، ويسلك بها جميعًا طريقًا واحدًا، ويصبغها صبغة واحدة: (ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) [البقرة: ١٣٨].
فكما أن الإسلام منهج عقلاني عاطفي، فهو نظام مثالي واقعي ونظري تطبيقي سواء بسواء.
إن مناسك الحج تنمية لعواطف المسلمين نحو ربهم ودينهم، وماضيهم وحاضرهم، ويكفي أنها تجمعهم من أطراف الأرض شعثًا غبرًا، لا تفريق بين ملك وسوقة، ولا بين جنس وجنس، ليقفوا في ساحة عرفة في تظاهرة هائلةٍ، الهتاف فيها لله وحده، والرجاء في ذاته، والتكبير لاسمه، والضراعة بين يديه، فقر العبودية ظاهر، وغنى الربوبية باهر، ومن قبل الشروق إلى ما بعد الغروب، لا ذكر إلا لله، ولا طلب إلا منه سبحانه248.
والمقصود من هذه الرحلة أمور عقلية وعاطفية معًا، فإن الإنسان لا يعيش بالفكر النظري وحده، ولكن مشاعره وعواطفه شديدة السيطرة عليه، والإسلام يجتهد في تحويل الإيمان من صورة عقلية تسكن الرأس إلى معانٍ عاطفية، تغمر القلب، وتتشبث بالفؤاد، وينفعل الإنسان بها، ويحيا طول عمره وفقها.
وإذا كان القرآن قد بيّن العلة من فريضة الحج، فقال: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [الحج: ٢٧].
وقد جاءت كلمة (منافع) منكرة لتفيد العموم والشمول، سواء كانت منافع مادية أو معنوية، فإن الجانب الروحي في الحج ظاهر كل الظهور في شعائر كثيرة من شعائره؛ ولهذا فإن إثراء الجانب الروحي هدف ظاهر من أعمال الحج وأقواله حتى تعود وفود الرحمن جياشة العواطف بحب الله وخشيته، متواصية على تنفيذ وصاياه وإعظام حقوقه.
فالحج ليس رحلة ميتة، إن ناسًا يذهبون إلى الحج الآن ثم يعودون مكتفين بأن حملوا لقبًا، هل درست قضاياهم؟ لا، هل عادوا من موسم الحج بتحالف على محاربة الفساد الداخلي والغزو الخارجي؟ لا، إن الحج ليس عبادة فردية، لا في ديننا ولا في تاريخنا، فيجب أن نعلم ديننا، وكفانا جهلًا حتى لا نستيقظ على الويل والثبور، وعظائم الأمور249.
ثانيًا :الثمرات الأخروية للحج:
١. ذكر الله وشكره.
ذكر الله تعالى مقصد مؤكد في كل مناسك الحج؛ وذلك أن أي منسك في المناسك لا يخلو من ذكر، ولم لا والحج كله تلبية لأمر الله، وترك لكل شيء فرارًا إلى الله تعالى ؟!
حتى جعل الله الذكر من علل الحج، فقال: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [الحج: ٢٧-٢٨].
وإذا تأملنا بعض آيات القرآن التي تتحدث عن الحج أدركنا هذه الحقيقة، وعلمنا أن ذكر الله هو أساس شعائر الحج.
قال تعالى: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [البقرة: ١٩٨-٢٠٢].
ومن الملاحظ أن التعبير عن مناسك الحج في الآيات السابقة أخذ كلمة (الذكر) دائمًا، حتى رمي الجمرات أسماه القرآن ذكرًا: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ) [البقرة: ٢٠٣].
وهي أيام التشريق، ورمي جمرة العقبة في العيد، فكأن المقصود من الموضوع هو الذكر الجهير لله تعالى ، وما رمي الجمرات إلا رمز.
ثم قال جل ذكره: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ) [الحج: ٣٤-٣٦].
والحق أن الحج كله هو هذا الهدير الموصول بذكر الله من أمواج بشرية متصلة، لا شغل لها إلا الجؤار بالتلبية والهتاف بالتسبيح.
وهناك العديد من أعمال الآخرة في الحج غير الذكر، ومنها: التفقه في الدين، والاهتمام بشؤون المسلمين عمومًا، والتعاون على البر والتقوى، والدعوة إلى الله سبحانه ، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والاستكثار من الصلاة، والطواف، والصلاة والسلام على نبيه صلى الله عليه وسلم .
٢. الفوز بما وعد الله به الحجاج من تكفير السيئات والفوز بالجنة.
من المنافع الأخروية للحج الحصول على الأجر والثواب والرضوان من الله عز وجل ، وتكفير الذنوب والمعاصي، فيرجع الحاج من حجه كيوم ولدته أمه.
كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من حج لله فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه)250.
قال في المنتقى: «يريد -والله أعلم- أنه لا ذنب له؛ لأن ما أتى به من العمل قد كفّر سائر ذنوبه، فصار كيوم ولدته أمه، لا ذنب له»251. وقال السندي: «وعلى هذا فهذا الحديث من أدلة أن الحج يغفر به الكبائر أيضًا ، بل هذا الحديث يفيد مغفرة ما تقدم من الذنوب وما تأخر»252. وقال القرطبي: «وهذا يتضمن غفران الصغائر والكبائر والتبعات»253. وهذا الأجر العظيم للحج بسبب أنه من أفضل الأعمال عند الله، فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: (إيمان بالله ورسوله). قيل: ثم ماذا؟ قال: (جهاد في سبيل الله). قيل: ثم ماذا؟ قال: (حج مبرور)254 والمبرور: المقبول، وهو الذي لا خلل فيه.
والمبرور أيضًا الذي لا يخالطه شيء من المأثم، وهو من البر، وهو اسم جامع للخير255.
قال الحسن البصري: «هو أن يرجع زاهدًا في الدنيا، راغبًا في العقبى»256.
ويرى بعض العلماء: أن بر الحج إنما هو: إيفاء أركانه وواجباته، أي: الإتيان به على الوجه الأكمل. ويرى البعض أن الحج المبرور ما قام فيه الحاج بإطعام الطعام، وإفشاء السلام، ولين الكلام مع رفقائه، وهو راجع إلى الوجه الأول أيضًا ؛ لأن من تمام الحج الرفق بالمسلمين، وكما جاء عنه صلى الله عليه وسلم قوله: (وتعين الرجل على دابته تحمله عليها، أو ترفع له متاعه عليها صدقة)257.
وهكذا في الحج، ولما كان هذا الجمع من كل قطر على اختلاف العادات والبيئات، فتختلف طبائع المجتمعات عن بعضها، جاءت آداب الحج في كتاب الله لتقضي على كل تلك الفوارق، وتمنع كل أسباب النزاع؛ ليظل الحجيج متآلفين متآخين، فقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) [البقرة: ١٩٧].
لأن هذه الثلاثة تؤدي إلى الفرقة، وإلى النزاع والشقاق، وهم إنما جاءوا ليشهدوا منافع لهم، ولا يتم شهود المنافع مع وجود النزاع والخصومات، ومع وجود الرفث.
وبعضهم قال: هناك ميزان للحج المبرور، وهو أن ننظر إلى الحاج حينما خرج من بلده وجاء إلى الأراضي المقدسة، وأدى المناسك... الخ، ثم عاد إلى بلده كيف صارت حالته؟! نزن الحالة الأولى مع الحالة الثانية، هل هو أحسن حالًا في سلوكه، ومنهجه، وأمانته، ومعاملاته، ومحافظته على العبادات، وفي وفائه للحقوق أهو خير مما ذهب، أو هو كما ذهب رجع؟ فإذا كان خيرًا مما ذهب فيكون قد استفاد من رحلة الحج؛ لأن رحلة الحج فيها تهذيب للنفس.
يقول الشيخ ابن عثيمين: «فالحج المبرور هو الذي اجتمعت فيه أمور:
الأمر الأول: أن يكون خالصًا لله، بأن لا يحمل الإنسان على الحج إلا ابتغاء رضوان الله، والتقرب إليه سبحانه وتعالى ، لا يريد رياءً ولا سمعة، ولا أن يقول الناس: فلان حج، وإنما يريد وجه الله.
الثاني: أن يكون الحج على صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم ، يعني: أن يتبع الإنسان فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ما استطاع.
الثالث: أن يكون من مال مباح ليس حرامًا، بأن لا يكون ربا، ولا من غش، ولا من ميسر، ولا غير ذلك من أنواع المفاسد المحرمة، بل يكون من مال حلال.
الرابع: أن يجتنب فيه الرفث والفسوق والجدال؛ لقول الله تعالى: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) [البقرة: ١٩٧]»258.
وقوله: (ليس له جزاء إلا الجنة) أعظم بهذا الجزاء! يخرج المسلم في رحلة أيامًا وأسابيع أو أشهرًا فيعود بهذا الجزاء، وهو الجنة، ومعنى ذلك: أنه يستحق عند الله -عطاءً منه- أن يدخله الجنة، إذن: عليه أن يحافظ على تلك النعمة وعلى هذا العطاء، وأن لا يحرم نفسه منه، أي: بما يضاد موجباتها. قال في فيض القدير: «وقوله: (ليس له جزاء إلا الجنة) أي: إلا الحكم له بدخول الجنة، فلا يقتصر لصاحبه من الجزاء على تكفير بعض ذنوبه، بل لابد أن يدخلها، أي: مع السابقين، أو بغير عذاب، وإلا فكل مؤمن يدخلها وإن لم يحج»259.
ويالها من جائزة! غفران الذنوب جميعها، فيرجع المسلم بعد أداء حجه على الوجه الذي يحبه الله ورسوله وما عليه خطيئة، ويرجع إلى داره بعدما هاجر وجاهد وتبرأ من المشركين، وعطف على الفقير والمسكين، وحاله من البعد عن الذنوب والآثام كحاله يوم ولدته أمه، صفحة بيضاء نقية، لم تكدّرها أو تشبها شائبة.
٣. تزكية النفوس وتطهيرها بالإحسان إلى الفقراء.
حضّت الشريعة المسلم على تزكية نفسه، وتطهيرها، وتحريرها من شحّ النفس وبخلها، فأمرت بإعطاء الفقراء والمساكين حقهم من الزكوات، وحثّت على الإنفاق عليهم والإحسان إليهم، ووعدت على ذلك الأجر الجزيل، وفي الحج يحتاج الناس إلى الزاد الذي به قيام النفوس، وفي هذا الموقف يأمر الله الحجاج أن يخرجوا من أموالهم وأزوادهم ما يطعمون به الفقير من النّسك الذي ذبحوه تقربًا إلى الله تعالى، فقال تعالى: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) [الحج: ٢٨].
فيفعل الحاج من ذلك ما يفعل طعمةً للفقراء والمساكين، وتقوى لله عز وجل.
قال تعالى: (ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ) [الحج: ٣٧].
وقد أكد الرسول صلى الله عليه وسلم أمر النفقة في الحج، فقال صلى الله عليه وسلم: (النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف)260.
وهذا الدرس لم يفهمه من يبخل على قريبه، أو جاره الفقير من المسلمين، فيمنع عنهم ما ينفعهم أخذه، ولا يضره عطاؤه، ولم يفهمه أيضًا من يقدّم في نسكه العجفاء أو العرجاء أو ذات العيب، فإنما ذلك شيء يقرّبه الإنسان لربه، والإنسان عندما يقرّب لحبيب أو يهدي لصديق فإنه يختار من الأشياء الجيد النفيس. والله أعلم.
موضوعات ذات صلة: |
الزكاة، الصلاة، الصيام، العبادة، مكة |
1 لسان العرب، ٢/٧٧٨.
2 انظر: الصحاح، الجوهري ١/ ٣٠٣.
3 جامع البيان ٦/٤٦.
4 انظر: تاج العروس، الزبيدي ٥/٤٥٩.
5 المطلع على ألفاظ المقنع، البعلي ص١٩٦.
6 انظر: الفروق اللغوية، العسكري ص ١٢٦.
7 انظر: التعريفات، الجرجاني ص٨٢، القاموس الفقهي، سعدي أبو جيب ص٧٦.
8 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي ص١٩٣- ١٩٤.
9 انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني ص٢١٨.
10 تاج العروس، الزبيدي ١٣/١٣٠.
11 النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير ٣/٢٩٧.
12 انظر: معاني القرآن، الزجاج ١/٢٦٧.
13 انظر: لسان العرب، ابن منظور ٤/٢٧٢٢.
14 انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني ص٣١١.
15 انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية، وزارة الأوقاف الكويتية ١٧/٤٩.
16 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، سورة البقرة، باب(ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس)، ٦/٢٧، رقم ٤٥٢٠.
17 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب مررت ليلة أسري بي على موسى بن عمران، عليه السلام، رقم ٢٤١.
18 التحرير والتنوير ١/٥٤٧.
19 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٧/٢٤٣.
20 أضواء البيان، الشنقيطي ٤/٢٩٩.
21 انظر: النكت والعيون، الماوردي ٣/١١٢، اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ١١/٤٠٩.
22 معالم التنزيل، البغوي ٥/٣٧٩.
23 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٧/٢٤٣.
24 انظر: أضواء البيان ٤/٣٠٠.
25 انظر: الكشاف، الزمخشري ٤/٢٨٥.
26 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٧/٢٤٣.
27 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٥/٤١٤.
28 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٧/٢٤٤.
29 الكشاف، الزمخشري ٤/٢٨٥.
30 النكت والعيون، الماوردي ٣/١١٢.
31 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٧/٢٤٤.
32 روح المعاني، الألوسي ٢/٩.
33 النكت والعيون، الماوردي ١/٩٤.
34 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٢/١٠٩.
35 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ١/٤١٣.
36 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٦٦.
37 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ١/٤٤٣.
38 انظر: نظم الدرر، البقاعي ١/١٨٣.
39 انظر: تفسير القرآن الكريم، الفاتحة والبقرة، ابن عثيمين ٣/٥٢.
40 أخرجه الطبري في تفسيره ٣/٧٦.
41 جامع البيان، الطبري ١٢/٣٨٩.
42 أضواء البيان ٤/٤٠١.
43 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحجّ، باب الوقوف بعرفة، ٢/١٦٣، رقم ١٦٦٥، ومسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب في الوقوف، رقم ١٢١٩.
44 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب التّفسير، باب في قوله تعالى: (خذوا زينتكم عند كل مسجد)، ٤/٢٣٢٠، رقم ٣٠٢٨.
45 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٨/٩٣.
46 الكشاف، الزمخشري ٢/٢٢٤.
47 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحج، باب لا يطوف بالبيت عريان، ٢/١٥٣، رقم ١٦٢٢، ومسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب لا يحج بالبيت مشرك، رقم ١٣٤٧.
48 البحر المديد، ابن عجيبة ١/١٦١.
49 تفسير القرآن العظيم، ١/٥٥٥.
50 روح المعاني ٢/٨٩.
51 تفسير القرآن العظيم، ١/٥٥٧.
52 انظر: الوسيط، سيد طنطاوي ١/٣٤٤.
53 تفسير القرآن العظيم، ٤/١٥٠.
54 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ١/١٨٤٨.
55 لباب التأويل، ٣/٢٦٦.
56 التحرير والتنوير ١٠/١٩١.
57 أيسر التفاسير، الجزائري ٢/٣٦٦.
58 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٨/٢١.
59 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحجّ، باب التلبية وصفتها، ٢/٨٤٣، رقم ١١٨٥.
60 انظر: التحرير والتنوير ١٠/٩٨.
61 أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب (ومناة الثالثة الأخرى)، ٦/١٤١، رقم ٤٨٦١.
62 التحرير والتنوير ٢/٦٠.
63 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ١/١٦٤.
64 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٤/١٤٤.
65 التحرير والتنوير ٤/٢٢.
66 أضواء البيان ٤/٣٤١.
67 التحرير والتنوير ٤/٢١.
68 المصدر السابق.
69 انظر: المصدر السابق ٤/٢٣.
70 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٢/٤٢٤.
71 انظر: المصدر السابق.
72 انظر: الكشف والبيان، الثعلبي ١/٣٨٢.
73 انظر: المحرر الوجيز، ابن عطية ١/٢١٩، اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٢/٤٢٤.
74 التحرير والتنوير ٢/٢٣١.
75 أخرجه أحمد في مسنده، ٣١/٦٤، رقم ١٨٧٧٤، والترمذي في سننه، أبواب الحج، باب فيمن أدرك الإمام بجمع، ٣/٢٢٨، رقم ٨٨٩، والنسائي في سننه، كتاب مناسك الحج، باب فرض الوقوف بعرفة، ٥/٢٥٦، رقم ٣٠١٦، وابن ماجه في سننه، كتاب المناسك، باب من أتى عرفة قبل الفجر، ٢/١٠٠٣، رقم ٣٠١٥.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم ٣١٧٢.
76 الكشف والبيان، الثعلبي ١/٣٨٢.
77 تفسير القرآن العظيم، ١/٥٢٢.
78 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، سورة البقرة، باب قوله: (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها)، ٦/٢٦، رقم ٤٥١٢.
79 انظر: القواعد الحسان، السعدي ص١٣٨.
80 التحرير والتنوير ٢/١٩٤.
81 الكشف والبيان، الثعلبي ١/٢٧٩.
82 انظر: النكت والعيون، الماوردي ١/١١١.
83 انظر: الوسيط، سيد طنطاوي ١/٢٤٨.
84 انظر: اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٢/٢١٦.
85 جامع البيان، الطبري ٤/١٩٠.
86 البحر المديد، ابن عجيبة ١/١٦١.
87 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحجّ، باب أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالسّكينة عند الإفاضة وإشارته إليهم بالسّوط، رقم ١٥٨٧.
88 التحرير والتنوير ٢/٢٣٨.
89 المصدر السابق ٢/٢٣٩.
90 البحر المديد، ابن عجيبة ١/١٦١.
91 النكت والعيون، الماوردي ١/١٤٣.
92 مفاتيح الغيب، الرازي ٣/١٩٠.
93 تفسير القرآن الكريم، ابن عثيمين ٣/٣٣٨.
94 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ١/٥٥٢.
95 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٣/١٩١.
96 سبق تخريجه قريبًا.
97 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١/٥٥٩.
98 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ١/٥٥٤.
99 انظر: اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٢/٤٤٥.
100 تفسير القرآن الكريم، ٣/٣٣٩.
101 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١/٥٥٩.
102 أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب المناسك، باب الموقف بعرفات، ٢/١٠٠٢، رقم ٣٠١٢.
وصححه الألباني في صحيح الجامع ٢/٨٣٤.
103 المحرر الوجيز، ابن عاشور ١/٢٢٢.
104 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢/٢٤٠.
105 مفاتيح الغيب، الرازي ٣/١٩٣.
106 التحرير والتنوير ٢/٢٤٠.
107 تفسير القرآن العظيم، ١/٥٥٤.
108 تفسير القرآن الكريم، ابن عثيمين ٤/٣٤١.
109 انظر: عون المعبود، المباركفوري ٥/١٣٤.
110 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٢/٣٨٧.
111 معالم التنزيل، ١/١٦٦.
112 المغني ٣/١٢٢.
113 إرشاد العقل السليم، أبو السعود ١/٢٠٦.
114 البحر المحيط ٢/٢٤٠.
115 مفاتيح الغيب، الرازي ٣/١٥٨.
116 البحر الرائق ٢/٣٨٤
117 مفاتيح الغيب، الرازي ٣/١٥٨.
118 البحر الرائق، ابن نجيم ٧/٦٠.
119 انظر: المجموع، النووي ٧/١٥٢.
120 غرائب القرآن، النيسابوري ١/٤٦٥.
121 التحرير والتنوير ٢/٢٣٣.
122 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ١/٥٤٣.
123 مفاتيح الغيب، الرازي ٣/١٧٩.
124 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٩١.
125 جامع البيان، ١٨/ ٦١٦.
126 أضواء البيان ٤/٣٩٧.
127 المصدر السابق ٤/٣٧٧.
128 انظر: أحكام القرآن، الكيا الهراسي ١/١٣.
129 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٥/٤١٨.
130 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٩٢.
131 اللباب في علوم الكتاب ٢/٤٤٥.
132 تفسير القرآن الكريم، ابن عثيمين ٣/٣٤١.
133 أخرجه أحمد في مسنده، ٤٥/٣٦٣، رقم ٢٧٣٦٧.
وصححه الألباني في إرواء الغليل، رقم ١٠٨٨.
134 تفسير القرآن الكريم، ابن عثيمين ٣/١٤٩.
135 المحرر الوجيز، ابن عطية ١/١٧٥.
136 المصدر السابق.
137 الكشف والبيان، الثعلبي ١/٢٨١.
138 البحر المحيط، أبو حيان ٢/ ٦٥.
139 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٢/٣٨٢.
140 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحجّ، باب الحلق والتقصير عند الإحلال، ٢/١٧٤، رقم ١٠٧٢٧.
141 الصحاح ١/٦٤.
142 أضواء البيان ٥/٢٠.
143 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٢/٤٢٩.
144 انظر: التحرير والتنوير ٢/٢٣٤.
145 انظر: البحر المحيط، أبو حيان ٢/٢٥٣.
146 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصّوم، باب هل يقول إنّي صائمٌ إذا شتم، رقم ١٨٠٥.
147 انظر: أحكام القرآن، الكيا الهراسي ١/٨٧.
148 أضواء البيان ٥/٢٩.
149 البحر المحيط ٢/٢٦٠.
150 التحرير والتنوير ٢/٢٣٤.
151 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب سباب المسلم فسوق وقتاله كفر، رقم ٤٩.
152 البحر المحيط، أبو حيان ٢/٢٥٣.
153 تفسير القرآن العظيم، ١/٥٤٥.
154 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٩١.
155 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٢/٤٣١.
156 التحرير والتنوير ١/٥٥٧.
157 تفسير القرآن الكريم، ابن عثيمين ٤/٣٣٦.
158 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصّوم، باب فضل الصّوم، رقم ١٨٩٤.
159 انظر: الوسيط، سيد طنطاوي ٣/١٣٧٦.
160 المصدر السابق ٣/١٣٧٤.
161 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٢٤٣.
162 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب جزاء الصّيد، باب لا يشير المحرم إلى الصّيد لكي يصطاده الحلال، رقم ١٨٢٤.
163 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الهبة، باب من استوهب من أصحابه شيئًا، رقم ٢٥٧٠.
164 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٦/٢٤٤.
165 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/١٩١.
166 التحرير والتنوير ٧/٤٣.
167 المصدر السابق.
168 انظر: تفسير القرآن، السمعاني ٢/٦٦، لباب التأويل، الخازن، ٢/٧٨.
169 النكت والعيون ١/٣٧٩.
170 التحرير والتنوير ٧/٤٢.
171 المصدر السابق.
172 أخرجه مالك في الموطأ، رواية يحيى الليثي، رقم ٧٨٧.
173 تفسير القرآن الكريم، ابن عثيمين ١٢/١٧.
174 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٧/٤٤.
175 النكت والعيون، الماوردي ١/٣٧٩.
176 التحرير والتنوير ٧/٤٤.
177 أنوار التنزيل، البيضاوي ١/٣٦٥.
178 الوسيط، سيد طنطاوي ٣/١٣٧٦.
179 التحرير والتنوير ٧/٤٤.
180 البحر المحيط ٥/١٤.
181 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٧/٤٦.
182 انظر: المصدر السابق ٧/٤٤.
183 لباب التأويل، الخازن ٢/٣٣٤.
184 الجواهر الحسان، الثعالبي ١/٤٨٨.
185 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٧/٤٥.
186 المصدر السابق.
187 التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي ١/٣٣٠.
188 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٧/٤٦.
189 لباب التأويل، الخازن ٢/٣٣٥.
190 التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي ١/٣٣٠.
191 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٧/٤٦.
192 التحرير والتنوير ٧/٤٦.
193 لباب التأويل، الخازن ٢/٣٣٥.
194 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٧/٤٧.
195 الوجيز، الواحدي ص٣٣٥.
196 الوسيط، سيد طنطاوي ١/١٣٧٧.
197 المصدر السابق.
198 المصدر السابق.
199 انظر: التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي ١/٣٣١.
200 المصدر السابق.
201 انظر: فتح القدير، الشوكاني١/٢٩٩.
202 المصدر السابق.
203 تفسير القرآن الكريم، ابن عثيمين ٤/٣٢٧.
204 المصدر السابق.
205 المصدر السابق.
206 المصدر السابق.
207 أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب المناسك: ، باب الحج على الراحلة، ٢/٩٦٥، رقم٢٨٩٠.
وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم ٢٦١٧.
208 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٧/٢٦٤.
209 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٧/ ٣٧١٤.
210 أضواء البيان، ٥/١٩٣.
211 تفسير القرآن العظيم، ٥/٤١٦.
212 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الأضاحيّ، باب بيان ما كان النهي عن أكل لحوم الأضاحي، ٣/١٥٦١، رقم ١٩٧١.
213 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٢/٤٤.
214 أحكام القرآن، إلكيا الهراسي ٤/١٠.
215 أضواء البيان ٥/١٩٤.
216 مفاتيح الغيب، الرازي ١١/١١٥.
217 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٢/٤٩.
218 مفاتيح الغيب، الرازي ١١/١١٥.
219 تيسير اللطيف المنان، السعدي ص١٩١.
220 أضواء البيان ٥/١١٠.
221 اللباب في علوم الكتاب ١١/٤١١.
222 مفاتيح الغيب، الرازي ١١/١١٤.
223 أضواء البيان ٥/١١١.
224 تفسير القرآن الكريم، ابن عثيمين ٤/٣٤٠.
225 جامع البيان، الطبري ١٨/ ٦١٠.
226 التحرير والتنوير ١٧/٢٤٦.
227 أحكام القرآن، إلكيا الهراسي ١/٨٨.
228 تفسير ابن عرفة ١/٢٥٣.
229 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢/٢٣٧.
230 انظر: اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٢/٤٣٦.
231 المصدر السابق.
232 المصدر السابق ٢/٤٣٧.
233 اللباب في علوم الكتاب ٢/٤٣٨.
234 التحرير والتنوير ٢/٢٣٧.
235 أضواء البيان ١/٨٩.
236 البحر المحيط، أبو حيان ٢/٢٦٣.
237 البحر المديد ١/٢٢٩.
238 تفسير ابن عرفة ١/٢٥٣.
239 في ظلال القرآن ٥/١٩٣.
240 أخرجه أحمد في مسنده، ٢٢/٣٤٦، رقم ١٤٤٥٦.
وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ١/١٣٣، رقم ٦٣.
241 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحج، باب لا يطوف بالبيت عريان، ٢/١٥٣، رقم ١٦٢٢.
242 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب الحج، باب ما جاء في كراهية الطواف عريانًا، ٣/٢١٣، رقم ٨٧١.
وصححه الألباني في الإرواء، رقم ١١٠١.
243 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العلم، باب قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: ربّ مبلّغٍ أوعى من سامعٍ، رقم ٦٧.
244 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحجّ، باب الخطبة أيام منى، ٢/١٧٦، رقم ١٧٤١.
245 انظر: علل وأدوية، الغزالي ص١٥٨.
246 فن الذكر والدعاء، الغزالي ص١٠٩.
247 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أحاديث الأنبياء، ٤/١٤٢، رقم ٣٣٦٤.
248 انظر: مائة سؤال عن الإسلام، محمد الغزالي ص٨٥.
249 انظر: الخطب، الغزالي ٣/١٢٨.
250 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحجّ، باب قول الله: (ولا فسوق ولا جدال في الحج)، ٣/١١، رقم ١٨٢٠.
251 المنتقى شرح الموطأ، الباجي ٣/١٥.
252 حاشية السندي على النسائي ٥/١١٢.
253 المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم ٥/١٨٠.
254 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحج، باب فضل الحج المبرور، ٢/١٣٣، رقم ١٥١٩.
255 عمدة القاري، العيني ١٤/٢٠٠.
256 مرقاة المفاتيح، الملا علي القاري ١١/٤٨٠.
257 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، ٢/٦٩٩، رقم ١٠٠٩، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
258 شرح رياض الصالحين ٣/١٤٧٣.
259 فيض القدير، المناوي ٣/٥٣٨.
260 أخرجه أحمد في مسنده، ٣٨/١٠٦، ٢٣٠٠٠.
وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، ١/٨٦٤، رقم ٥٩٩٣.