عناصر الموضوع
الحذر
أولًا: المعنى اللغوي:
(حذر) الحاء والذال والراء أصل واحد، هو من التحرز والتيقظ، يقال: حذر يحذر حذرًا، ورجل حذرٌ وحذورٌ: أي: متيقظٌ متحرزٌ، وحذار بمعنى: احذر، قال ابن فارس: «حذار من رماحنا حذار... وحذرون» أي: خائفون»1.
قال ابن منظور: الحذر والحذر: الخيفة، ورجل حذرٌ وحذرٌ: متيقظ شديد الحذر والفزع ومتحرز، وحاذرٌ: متأهب معدٌّ، كأنه يحذر أن يفاجأ، والجمع: حذرون وحذارى، والتحذير: التخويف2.
ومن خلال ما سبق تبين أن الحذر يتمركز معناه اللغوي حول التحرز والتيقظ والاستعداد والتأهب.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
قال الكفوي: «اجتناب الشيء خوفًا منه»3.
وجاء في تفسير المنار أنه: الاحتراز والاستعداد؛ لاتقاء شر العدو، وذلك بمعرفة حاله ومبلغ استعداده وقوته، ومعرفة وسائل مقاومته، وأن يعمل بتلك الوسائل4.
وقد يأتي بمعنى: «الاحتراس من الضرر»5.
وخلاصة القول: إن المعنى اللغوي والاصطلاحي يتمثلان في التيقظ والتأهب، وأخذ الحيطة والاحتراس من الضرر.
ورد الجذر (ح ذ ر) في القرآن(٢١) مرة6.
والصيغ التي وردت هي:
الصيغة |
عدد المرات |
المثال |
الفعل المضارع |
٨ |
(ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [التوبة: ٦٤] |
الفعل الأمر |
٦ |
(ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [المائدة: ٤١] |
مصدر سماعي |
٥ |
(ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ) [البقرة: ١٩] |
اسم الفاعل |
١ |
(ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ) [الشعراء: ٥٦] |
اسم المفعول |
١ |
(ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [الإسراء:٥٧] |
وجاء الحذر في القرآن على ثلاثة أوجه7:
الأول: الخوف: ومنه قوله تعالى: (ﯳ ﯴ ﯵ) [آل عمران: ٢٨] يعني: يخوّفكم عقابه.
الثاني: الامتناع: ومنه قوله تعالى: (ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [المائدة: ٤١] يعني: فامتنعوا.
الثالث: الكتمان: ومنه قوله تعالى: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ) [التوبة: ٦٤] يعني: ما تكتمون.
الخوف:
الخوف لغةً:
الخاء والواو والفاء أصلٌ واحدٌ يدلّ على الذّعر والفزع8.
الخوف اصطلاحًا:
قال الرّاغب: «الخوف: توقّع مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة، ويضادّه الأمن، ويستعمل ذلك في الأمور الدّنيويّة والأخرويّة»9.
ويقول الجرجانيّ: «الخوف توقّع حلول مكروه أو فوات محبوب»10. وقيل: اضطراب القلب وحركته من تذكّر المخوف، وقيل: فزع القلب من مكروه يناله أو من محبوب يفوته11.
الصلة بين الحذر والخوف:
أن الخوف توقع الضرر المشكوك في وقوعه، ومن يتيقن الضرر؛ لم يكن خائفًا له، وكذلك الرجاء لا يكون إلا مع الشك، ومن تيقن النفع؛ لم يكن راجيًا له، والحذر: توقي الضرر، وسواء كان مظنونًا أو متيقنًا، والحذر يدفع الضرر، والخوف لا يدفعه، ولهذا يقال: خذ حذرك، ولا يقال خذ خوفك12.
الاحتراز:
الاحتراز لغة:
الحرز: الموضع الحصين، واحترزت من كذا وتحرّزت: توقيته، واحترز13، أي: تحفظ14.
الاحتراز اصطلاحًا:
التحفظ15.
الصلة بين الحذر والاحتراز:
أن الاحتراز هو التحفظ من الشيء الموجود، والحذر هو التحفظ مما لم يكن، إذا علم أنه يكون، أو ظن ذلك16.
الأمن:
الأمن لغة:
ضد الخوف، والفعل منه: أمن يأمن أمنًا17.
الأمن اصطلاحًا:
عدم توقع مكروه في الزمان الآتي18، وأصله: طمأنينة النفس وزوال الخوف19.
الصلة بين الحذر والأمن:
الحذر: توقي الضرر، سواء كان مظنونًا أو متيقنًا، وفيه التحفظ مما لم يكن، إذا علم أنه يكون، أو ظن ذلك، وأما الأمن فهو حالة من الاستقرار وطمأنينة النفس، وعدم توقع مكروه في الزمن الآتي.
أولًا: الحذر المحمود:
الحذر المحمود هو الذي يرضاه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وهو ما كان معتدلًا بين الإفراط والتفريط؛ لأنه الحذر الذي ترجى ثماره، ويسعد صاحبه في آخرته.
ومن الحذر المحمود:
١. الحذر من الله وعقابه.
قال تعالى: (ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [البقرة: ٢٣٥].
أي: اعلموا أيها الناس أن الله تعالى يعلم ما يجول في نفوسكم من خير أو شر، وما تهجس به خطرات قلوبكم من مقاصد واتجاهات؛ فاحذروا أن تقصدوا ما هو شر، أو تفعلوا ما هو منكر، واعلموا أنه تعالى غفور لمن تاب وعمل صالحًا، حليم لا يعاجل الناس بالعقوبة، ولا يؤاخذهم إلا بما كسبوا.
فالجملة الكريمة تحذير وتبشير، وترغيب وترهيب؛ لكي لا يتجاسر الناس على ارتكاب ما نهى الله عنه، ولا ييأسوا من رحمته متى تابوا وأنابوا20. أي: يحذركم عقوبته في ارتكابكم نهيه21.
وقال تعالى: (ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ) [آل عمران: ٢٨].
أي: يحذركم نقمته، أي: مخالفته وسطوته في عذابه لمن والى أعداءه، وعادى أولياءه22.
٢. المؤمن الحذر من عذابه ونقمته ممدوحا.
فقال: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ) [الزمر: ٩].
٣. الحذر من العدو.
قال تعالى: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [النساء: ٧١].
قال السعدي: «يأمر تعالى عباده المؤمنين بأخذ حذرهم من أعدائهم الكافرين. وهذا يشمل الأخذ بجميع الأسباب، التي بها يستعان على قتالهم، ويستدفع مكرهم وقوتهم، من استعمال الحصون والخنادق، وتعلم الرمي والركوب، وتعلم الصناعات التي تعين على ذلك، وما به يعرف مداخلهم، ومخارجهم، ومكرهم، والنفير في سبيل الله»23.
وقد كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على حذر من أعدائهم، فهذا موسى عليه السلام لما قتل قبطيًّا؛ أصبح خائفًا حذرًا من جنود فرعون، قال تعالى: (ﰈ ﰉ ﰊ ﰋﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ) [القصص: ٢١].
أي: فخرج موسى من مدينة فرعون خائفًا على نفسه يتلفّت، ويترقب متابعة أحد له24.
وهذا لوط عليه السلام استجاب لأمر الله، لما أمره الله بقوله: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ) [الحجر: ٦٥].
فكان الأمر للوط أن يسير بقومه في الليل قبل الصبح، وأن يكون هو في مؤخرتهم يتفقدهم، ولا يدع أحدًا منهم يتخلف، أو يتلكأ، أو يتلفت إلى الديار على عادة المهاجرين الذين يتنازعهم الشوق إلى ما خلفوا من ديارهم؛ فيتلفتون إليها ويتلكأون25.
وفعله النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم في حياتهم كثيرًا، فقد اختبأ النبي صلى الله عليه وسلم في غار ثور أثناء هجرته هو وصاحبه أبو بكر26، وأخذ بكل وسائل الحيطة والحذر؛ من أجل أن تنجح الهجرة سرًّا، مع كونه صلى الله عليه وسلم مستشعرًا لمعية الله تعالى ، إلا أنه كان حذرًا من إدراك المشركين.
وكان صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة يغزوها إلا ورّى بغيرها27.
والتورية: أن يذكر لفظًا يحتمل معنيين، أحدهما أقرب من الآخر؛ فيسأل عنه وعن طريقه؛ فيفهم السامع بسبب ذلك أنه يقصد المحل القريب، والمتكلم صادق، لكن لخلل وقع من فهم السامع خاصة؛ وذلك لئلا يتفطن العدو فيستعد للدفع والحرب28.
وفي ذلك تعليم لأمته وحثهم على الأخذ بوسائل الحذر الممكنة.
وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن المتيقظ الحذر فقال: (لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين)29.
ومعنى الحديث: أن المؤمن الممدوح هو الكيِّس الحازم الذي لا يؤتى من ناحية الغفلة مرة بعد أخرى وهو لا يشعر، وليكن متيقظًا حذرًا؛ حتى لا يقع في مكروه، وهو لا يشعر30.
والخلاصة: أن الحذر المحمود أمر يحبه الله ويرضاه، ويصب في مصلحة العبد الدينية والدنيوية؛ ولذلك أمر الله به وحض عليه.
ثانيًا: الحذر المذموم:
الحذر أمر محمود، لكن إذا خرج عن هدفه المشروع كان مذمومًا، وهذا النوع من الحذر لا يجوز؛ وذلك لأنه مدعاة لترك العمل.
فالحذر من قوة العدو، وانهزام المسلم من ساحة المعركة؛ خوفًا على نفسه من القتل، وحذرًا من جبروت الأعداء حذر مذموم؛ لأنه جبن وضعف وهوان؛ ولذلك ذم الله تعالى الذين خرجوا من ديارهم على كثرتهم حذرًا من الموت، ويقصدون بهذا الخروج السلامة من الموت، ولكن لا يغني حذر عن قدر، فقال تعالى: (ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [البقرة: ٢٤٣].
والمعنى: قد علمت أيها الرسول الكريم، أو أيها الإنسان العاقل- حال أولئك القوم الذين خرجوا من ديارهم التي ألفوها واستوطنوها، وهم ألوف مؤلفة، وكثرة كاثرة، وما كان خروجهم إلا فرارًا وخوفًا من الموت الذي سيلاقيهم- إن عاجلًا أو آجلًا-.
ومن لم يعلم حالهم فها نحن أولاء نعلمه بها، ونحيطه بما جرى لهم عن طريق هذا الكتاب، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
والمقصود من هذه الآية الكريمة: حض الناس جميعًا على الاعتبار والاتعاظ، وزجرهم عن الفرار من الموت هلعًا وجبنًا، وتحريضهم على القتال في سبيل الله، فقد قال تعالى بعد ذلك: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) وإفهامهم أن الفرار من الموت لن يؤدى إلا إلى الوقوع فيه31.
وهذه القصة عبرة وعظة يراد مغزاها، ولا تراد أحداثها وأماكنها وأزمانها، وتحديد الأماكن والأزمان لا يزيد هنا شيئًا على عبرة القصة ومغزاها، إنما يراد هنا تصحيح التصور عن الموت والحياة، وأسبابهما الظاهرة، وحقيقتهما المضمرة، ورد الأمر فيهما إلى القدرة المدبرة. والاطمئنان إلى قدر الله فيهما، والمضي في حمل التكاليف والواجبات دون هلع ولا جزع؛ فالمقدر كائن، والموت والحياة بيد الله في نهاية المطاف.
يراد أن يقال: إن الحذر من الموت لا يجدي، وإن الفزع والهلع لا يزيدان حياة، ولا يمدان أجلًا، ولا يردان قضاء، وإن الله هو واهب الحياة، وهو آخذ الحياة، وإنه متفضل في الحالتين: حين يهب، وحين يسترد، والحكمة الإلهية الكبرى كامنة خلف الهبة، وخلف الاسترداد، وإن مصلحة الناس متحققة في هذا وذاك، وإن فضل الله عليهم متحقق في الأخذ والمنح سواء32.
وقد كان المنافقون يحرصون كل الحرص على إخفاء مخططاتهم وأقوالهم الشنيعة، ويحذرون أن يسمع بها أحد غيرهم، فذم الله هذا الحذر المذموم فقال: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ) [التوبة: ٦٤].
أي: يخاف المنافقون ويتحرزون أن تنزل على المؤمنين سورة تكشف أحوالهم، وتفضح أسرارهم، وتبين نفاقهم، وتخبرهم بحقيقة وضعهم، فيفتضح أمرهم، وتنكشف أسرارهم33.
قال السدي: «قال بعض المنافقين: والله وددت لو أني قدمت؛ فجلدت مائة جلدة، ولا ينزل فينا شيء بفضحنا؛ فنزلت الآية»34.
قال القرطبي: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ) نزلت في شأن المنافقين تخبرهم بمخازيهم ومساوئهم ومثالبهم، ولهذا سميت بالفاضحة والمثيرة والمبعثرة، وقال الحسن: كانوا يسمون هذه السورة الحفّارة؛ لأنها حفرت ما في قلوب المنافقين؛ فأظهرتها35.
إن الكلام عن مجالات المحذور منه في القرآن الكريم يتطلب بيان الحذر من الله تعالى ونقمته، وعذابه، والحذر من مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، والحذر من فتنة الإعراض والصد عن الصراط المستقيم، والحذر من الموت، والحذر من كيد الشيطان والكافرين والمنافقين، والحذر من طاعة الأزواج والأولاد فيما يغضب الله سبحانه ، وتفصيل هذه الأمور فيما يأتي:
أولًا: الحذر من الله تعالى:
حذر الله عباده المؤمنين من عذابه ونقمته في مواضع من كتابه العزيز، وهدد المخالفين المتواطئين على مصلحة الأمة ومصيرها.
فقال تعالى: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [آل عمران: ٢٨-٣٠].
ومعنى ذلك: لا تتخذوا، أيها المؤمنون، الكفار ظهرًا وأنصارًا توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، وتدلّونهم على عوراتهم، فإنه من يفعل ذلك (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ)، يعني بذلك: فقد برئ من الله، وبرئ الله منه، بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر (ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) إلا أن تكونوا في سلطانهم؛ فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مسلم بفعل36.
قال ابن عباس: كان الحجاج بن عمرو وكهمس بن أبي الحقيق وقيس بن زيد -وهؤلاء كانوا من اليهود يباطنون37 نفرًا من الأنصار؛ ليفتنوهم عن دينهم- فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعيد بن خيثمة لأولئك النفر: اجتنبوا هؤلاء اليهود، واحذروا لزومهم ومباطنتهم؛ لا يفتنوكم عن دينكم، فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم وملازمتهم؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال الكلبي: نزلت في المنافقين: عبد الله بن أبي وأصحابه، كانوا يتولون اليهود والمشركين ويأتونهم بالأخبار ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية، ونهى المؤمنين عن مثل فعلهم.
وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: نزلت في عبادة بن الصامت الأنصاري، وكان بدريًّا نقيبًا، وكان له حلفاء من اليهود، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، قال عبادة: يا نبي الله إن معي خمسمائة رجل من اليهود، وقد رأيت أن يخرجوا معي فأستظهر بهم على العدو؛ فأنزل الله تعالى: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) الآية38.
وأتبع النهي بالتهديد والوعيد، فقال: (ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ)، يقول سيد قطب: «فقد تضمن التهديد تحذير المؤمنين من نقمة الله وغضبه في صورة عجيبة من التعبير حقًّا»39.
وبعد التحذير المفهوم من السياق يورد تحذيرًا صريحًا، وذلك بقوله: (ﯳ ﯴ ﯵ) وهذا تهديـد عظيم لمن تعرض لسخطه بموالاة أعدائه؛ لأن شدة العقاب بحسب قوة المعاقب وقدرته40.
وهذا التحذير فيه ما فيه من التهديد والتخويف من موالاة الكافرين؛ لأن التحذير من ذات الله، يقتضى الخوف ووقوع الرهبة في النفس من الذات العلية41.
وما يزال التحذير مستمرًّا متجددًا مع السياق القرآني حتى يصل قوله تعالى: (ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ) [آل عمران: ٢٩].
يخبر تبارك وتعالى عباده أنه يعلم السرائر والضمائر والظواهر، وأنه لا يخفى عليه منهم خافية، بل علمه محيط بهم في سائر الأحوال والآنات واللحظات وجميع الأوقات، وبجميع ما في السموات والأرض، لا يغيب عنه مثقال ذرة، ولا أصغر من ذلك في جميع أقطار الأرض والبحار والجبال42.
و«قوله: (ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ) إتمامًا للتحذير، وذلك لأنه لما بين أنه تعالى عالم بكل المعلومات كان عالمًا بما في قلبه، وكان عالمًا بمقادير استحقاقه من الثواب والعقاب، ثم بين أنه قادر على جميع المقدورات، فكان لا محالة قادرًا على إيصال حق كل أحد إليه، فيكون في هذا تمام الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب»43.
ثم يتابع السياق الحملة على القلب البشري، فيكـرر تحذيـر الله للنـاس من نفسه: (ﯳ ﯴ ﯵ) ويذكرهم برحمته في هذا التحذير، والفرصة متاحة قبل فوات الأوان (ﭪ ﭫ ﭬ) ومن رأفته هذا التحذير وهذا التذكير، وهو دليل على إرادة الخير والرحمة للعباد44.
والحكمة من تكرار قوله تعالى: (ﯳ ﯴ ﯵ) مرتين في ثلاث آيات، ذكرها ابن حيان في البحر المحيط، فقال: «كرر التحذير للتوكيد والتحريض على الخوف من الله بحيث يكونون ممتثلي أمره ونهيه، (ﭪ ﭫ ﭬ) لما ذكر صفة التخويف وكررها، كان ذلك مزعجًا للقلوب، ومنبها على إيقاع المحذور مع ما قرن بذلك من اطلاعه على خفايا الأعمال وإحضاره لها يوم الحساب، وهذا هو الاتصاف بالعلم والقدرة اللذين يجب أن يحذر لأجلهما، فذكر صفة الرحمة ليطمع في إحسانه، وليبسط الرجاء في أفضاله، فيكون ذلك من باب ما إذا ذكر ما يدل على شدة الأمر، ذكر ما يدل على سعة الرحمة، كقوله تعالى: (ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ) [ الأنعام: ١٦٥]»45.
والتحذير في قوله تعالى: (ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [آل عمران: ٣٠].
رحمة من الله سبحانه ؛ لئلا يغتروا به، فيعاملوه بما لا تحسن معاملته. قال غير واحد من السلف: من رأفته بالعباد: حذرهم من نفسه؛ لئلا يغتروا به46.
وفي هذه التحذير دليل على الابتعاد عن الكفار وعن معاشرتهم وصداقتهم، والميل إليهم والركون إليهم، وأنه لا يجوز أن يولى كافر ولاية من ولايات المسلمين، ولا يستعان به على الأمور التي هي مصالح لعموم المسلمين47.
ومن الآيات الدالة على الحذر من الله تعالى قوله سبحانه: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [البقرة: ٢٣٥].
فبعد أن بين الله سبحانه وتعالى جملة من الأحكام المتعلقة بقضايا الأسرة، حذر من مخالفتها ومخالفة أمره، وهذا رصد لما في النفوس من وساوس وخواطر، ونيات منعقدة على الخير أو الشر، ومبيتة للإخلاص أو الخداع، فالله سبحانه وتعالى مطلع على كل شيء، مجاز على كل شيء؛ فليحذره أولئك الذين يدبرون السوء، وينوون الغدر48.
قال الطبري: «واعلموا، أيها الناس، أن الله يعلم ما في أنفسكم من هواهن ونكاحهن وغير ذلك من أموركم، فاحذروه. يقول: فاحذروا الله واتقوه في أنفسكم أن تأتوا شيئًا مما نهاكم عنه، من عزم عقدة نكاحهن، أو مواعدتهن السر في عددهن، وغير ذلك مما نهاكم عنه في شأنهن في حال ما هن معتدات، وفي غير ذلك»49
وقد جاء هذا التحذير عقب ذكر الأحكام السابقة على سنن القرآن من القرن بين الأحكام بالمواعظ؛ ترغيبًا وترهيبًا، وتشجيعًا على التزام أوامر الله وترك نواهيه50.
قال الألوسي: «(ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) من العزم على ما لا يجوز أو من ذوات الصدور التي من جملتها ذلك (ﮙ) ولا تعزموا عليه أو- احذروه- بالاجتناب عن العزم ابتداء أو إقلاعًا عنه بعد تحققه»51.
وهذا الربط بين التشريع وخشية الله، المطلع على السرائر؛ نظرًا للمشاعر المكنونة والعلاقات الحساسة العالقة بالقلوب، الغائرة في الضمائر، فالقضية بين رجل وامرأة، وخشية الله والتحذير مما يجول ويحيك في الصدور هي الضمانة الأخيرة لتنفيذ التشريع.
فإذا هز الضمير البشري هزة الخوف والحذر؛ فصحا وارتعش رعشة التقوى عاد؛ ليملأ بالطمأنينة والثقة بعفو الله وحلمه ومغفرته52.
وبعد أن أمر الله تعالى بالحذر قال: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) أي: ولولا مغفرته وحلمه؛ لعنتّم غاية العنت؛ فإنه سبحانه مطلع عليكم، يعلم ما في قلوبكم، ويعلم ما تعملون، فإن وقعتم في شيء فما نهاكم عنه؛ فبادروا إليه بالتوبة والاستغفار. فإنه هو الغفور الحليم53.
وفي هذا التحذير قرن الأحكام بالموعظة ترغيبًا وترهيبًا؛ لتأكيد المحافظة عليها54، وهذا نهاية التحذير من الوقوع فيما نهى عنه؛ لأن الله توعدهم على ما يقع في ضمائرهم من أمور النساء، وأرشدهم إلى إضمار الخير دون الشر، ثم لم يؤيّسهم من رحمته، ولم يقنطهم من عائدته55. وفي الآية دليل على وجوب مراقبة الله تعالى في السر والعلن واتقاء الأسباب المفضية بالعبد إلى فعل محرم.
ثانيًا: الحذر من مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم:
أمر الله سبحانه أن يبجّـل نبيه صلى الله عليه وسلم ويعظّـم، فلا يدعى باسمه بأن يقال: يا محمد، ولكن يقال: يا نبي الله، يا رسول الله، ولا يقاس دعاؤه كدعاء بعضنا بعضًا في جواز الإعراض والتساهل في الإجابة، والانصراف من مجلسه بغير إذن، فإن المبادرة إلى إجابته صلى الله عليه وسلم واجبة، والرجوع عن مجلسه بغير إذن محرم، ثم حذر سبحانه وتوعد المخالفين لتلك الأوامر والآداب.
فقال تعالى: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) [النور: ٦٣].
أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان في قوله: (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ) قال: هم المنافقون كان يثقل عليهم الحديث في يوم الجمعة - ويعني بالحديث الخطبة - فيلوذون ببعض الصحابة حتى يخرجوا من المسجد، وكان لا يصلح للرجل أن يخرج من المسجد إلا بإذن من النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة بعدما يأخذ في الخطبة، وكان إذا أراد أحدهم الخروج أشار بأصبعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فيأذن له من غير أن يتكلم الرجل؛ لأن الرجل منهم كان إذا تكلم والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب بطلت جمعته56.
وذكر البغوي أنها نزلت في ظروف حفر الخندق ووقعة الأحزاب، حيث كان المنافقون ينسحبون تسللًا وخفية من المعسكر، ولا ينفذون أوامر النبي صلى الله عليه وسلم57.
وهذا الحكم يعم كل من خالف أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ، وليست خاصة بالمنافقين فقط58.
يقول الألوسي في معنى هذه الآية: «أي: لا تقيسوا دعاءه عليه الصلاة والسلام إياكم على دعاء بعضكم بعضًا في حال من الأحوال، وأمر من الأمور، التي من جملتها المساهلة فيه، والرجوع عن مجلسه عليه الصلاة والسلام بغير استئذان؛ فإن ذلك من المحرمات، وإلى نحو هذا ذهب أبو مسلم واختاره المبرد والقفال. وقيل: المعنى لا تحسبوا دعاءه عليكم كدعاء بعضكم على بعض؛ فتعرضوا لسخطه ودعائه عليكم عليه الصلاة والسلام بمخالفة أمره والرجوع عن مجلسه بغير استئذان ونحو ذلك، وهو مأخوذ مما جاء في بعض الروايات عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-، وروي عن الشعبي، وتعقبه ابن عطية بأن لفظ الآية يدفع هذا المعنى، وكأنه أراد أن الظاهر عليه على بعض. وقيل: إنه يأباه بينكم وهو في حيز المنع، وقيل: المعنى: لا تجعلوا دعاءه عليه الصلاة والسلام ربه عز وجل كدعاء صغيركم كبيركم وفقيركم وغنيكم، يسأله حاجته فربما أجابه وربما رده، فإن دعاءه صلى الله عليه وسلم مستجاب لا مرد له عند الله عز وجل، فتعرضوا لدعائه لكم بامتثال أمره، واستئذانه عند الانصراف عنه إذا كنتم معه على أمر جامع، وتحققوا قبول استغفاره لكم، ولا تتعرضوا لدعائه عليكم بضد ذلك»59.
يقول المراغي: «فليتق الله من يفعلون ذلك منكم، فينصرفون عن رسول الله بغير إذنه، أن تصيبهم محنة وبلاء في الدنيا، أو يصيبهم عذاب مؤلم موجع في الآخرة، بأن يطبع الله على قلوبهم؛ فيتمادوا في العصيان ومخالفة أمر الرسول، فيدخلهم النار وبئس القرار.
والآية تعم كل من خالف أمر الله، وأمر رسوله، وجمد على التقليد من بعد ما تبين له الهدى، وظهر له الصواب من الخطأ»60.
«فلا بد من امتلاء القلوب بالتوقير لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ حتى تستشعر توقير كل كلمة منه وكل توجيه، وهي لفتة ضرورية، فلا بد للمربي من وقار، ولابد للقائد من هيبة، وفرق بين أن يكون هو متواضعًا هينًا لينًا، وأن ينسوا هم أنه مربيهم؛ فيدعوه دعاء بعضهم لبعض.. يجب أن تبقى للمربي منزلة في نفوس من يربيهم يرتفع بها عليهم في قرارة شعورهم، ويستحيون هم أن يتجاوزوا معها حدود التبجيل والتوقير»61.
«وهذه الآية تحكم الصلة التي بين المؤمنين وبين النبي صلوات الله وسلامه عليه بعد أن جاءت الآية السابقة؛ لتحكم الصلة بين أفراد المجتمع الإسلامي، وأنها صلة وثيقة العرى، ملاكها السمع والطاعة لرسول الله من كل مؤمن ومؤمنة»62.
وفي هذه الآية تأديب للمؤمنين إزاء مجالس الرسول ودعائه، وتنويه بالذين يتصرفون في ذلك بما يليق بمركزه ومقامه، فلا يتركون مجالسه إلّا لعذر وبعد الاستئذان منه وإذنه. فهم المؤمنون حقًّا بالله ورسوله. وتنديد بالذين يتصرفون في ذلك تصرفًا غير لائق فيتسللون من مجالسه. وإنذار دنيوي وأخروي لهم63.
وبهذه الآية احتج الفقهاء على أن الأمر على الوجوب، ووجهها أن الله تبارك وتعالى قد حذر من مخالفة أمره، وتوعد بالعقاب عليها بقوله: (ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) فتحرم مخالفته، فيجب امتثال أمره64.
عن قتادة، في قوله: «(ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ) [النور: ٦٣].
قال: أمرهم الله أن يفخموه ويشرفوه صلى الله عليه وسلم»65.
وهذه الآيات تدل على أن من رد شيئًا من أوامر الله والرسول؛ فهو خارج عن الإسلام، سواء رده من جهة الشرك، أو من جهة التمرد، وذلك يوجب صحة ما ذهبت إليه الصحابة رضي الله عنهم من الحكم بارتداد مانعي الزكاة، وقتلهم، وسبي ذراريهم66.
ثالثًا: الحذر من العذاب:
من صفات المؤمن التقي: الحذر من عذاب الله وغضبه؛ فالله تعالى يعلم كل شيء، ولا تخفى عليه خافية، وقد أخبرنا ربنا سبحانه أن عذابه هو الذي يجب أن يحذر، فلا يبلغه أي عذاب، فقال: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [الإسراء: ٥٦-٥٧].
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لمشركي قومك الذين يعبدون من دون الله من خلقه، ادعوا أيها القوم الذين زعمتم أنهم أرباب وآلهة من دونه عند ضرّ ينزل بكم، فانظروا هل يقدرون على دفع ذلك عنكم، أو تحويله عنكم إلى غيركم، فتدعوهم آلهة؛ فإنهم لا يقدرون على ذلك، ولا يملكونه، وإنما يملكه ويقدر عليه خالقكم وخالقهم. وقيل: إن الذين أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم هذا القول، كانوا يعبدون الملائكة وعزيرًا والمسيح، وبعضهم كانوا يعبدون نفرًا من الجنّ.
وهؤلاء الذين يدعوهم هؤلاء المشركون أربابًا (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) أي: يبتغي المدعوّون أربابًا إلى ربهم القربة والزّلفة؛ لأنهم أهل إيمان به، والمشركون بالله يعبدونهم من دون الله (ﯬ ﯭ) أيهم بصالح عمله واجتهاده في عبادته أقرب عنده زلفة (ﯮ) بأفعالهم تلك (ﯯ) ويخافون أمره (ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) يا محمد (ﯶ ﯷ) متقى67.
وكان سبب نزول هاتين الآيتين ما أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قال: «كان ناس من الإنس يعبدون ناسًا من الجن، فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم، فأنزل الله عز وجل: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [الإسراء: ٥٦-٥٧]68.
وعلى الرغم من هذه الرواية؛ فقد اختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية على أقوال:
أحدها: أنها نزلت في نفر من الجن كان يعبدهم قوم من الإنس؛ فأسلم الجن ابتغاء الوسيلة عند ربهم، وبقي الإنس على كفرهم؛ قاله عبد الله بن مسعود.
الثاني: أنهم الملائكة، كانت تعبدهم قبائل من العرب، وهذا مروي عن ابن مسعود أيضًا .
الثالث: هم وعيسى وأمّه، قاله ابن عباس ومجاهد. وهم المعنيّون بقوله تعالى: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ)69.
وفي الجملة: هذه الآيات في عبادة غير الله عز وجل70.
وقوله تعالى: (ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) تذييل قصد به التعليل لما قبله وهو خوف العذاب71، الذي ينبغي أن يحذر منه، ويخاف من وقوعه وحصوله72.
قال أبو السعود: «حقيقًا بأن يحذره كلّ أحدٍ، حتى الملائكة والرسل عليهم الصلاة والسلام وهو تعليلٌ لقوله تعالى: (ﯰ ﯱﯲ) وتخصيصه بالتعليل؛ لما أن المقام مقام التحذير من العذاب، وأن بينهم وبين العذاب بونًا بعيدًا»73.
وتقديم الرجاء على الخوف؛ لما أن متعلقه أسبق من متعلقه، ففي الحديث القدسي: (سبقت رحمتي غضبي)74، وفي اتحاد أسلوبي الجملتين إيماء إلى تساوي رجاء أولئك الطالبين للوسيلة إليه تعالى بالطاعة والعبادة وخوفهم، وقد ذكر العلماء أنه ينبغي للمؤمن ذلك ما لم يحضره الموت فإذا حضره الموت ينبغي أن يغلّب رجاءه على خوفه75.
وفي الآيات بيان حقيقة عقلية، وهي: أن دعاء الأولياء والاستغاثة بهم، والتوسل إليهم بالذبح والنذر أمر باطل ومضحك في نفس الوقت؛ إذ الأولياء كانوا قبل موتهم يطلبون الوسيلة إلى ربهم بأنواع الطاعات والقربات، ومن كان يعبد لا يعبد. ومن كان يتقرب لا يتقرّب إليه، ومن كان يتوسّل لا يتوسل إليه، بل يعبد الذي كان يعبد، ويتوسل إلى الذي كان يتوسل إليه، ويتقرب إلى الذي كان يتقرب إليه، وهو الله سبحانه وتعالى76.
ومن الآيات الدالة على الحذر من العذاب: ما وصف الله به عبده المؤمن بأنه حذر من عذاب الآخرة.
قال تعالى: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ) [الزمر: ٨ - ٩].
هذه مقابلة بين العامل بطاعة الله وغيره، وبين العالم والجاهل، وأن هذا من الأمور التي تقرر في العقول تباينها، وعلم علمًا يقينًا تفاوتها، فليس المعرض عن طاعة ربه، المتبع لهواه، كمن هو قانت أي: مطيع لله بأفضل العبادات وهي الصلاة، وأفضل الأوقات وهو أوقات الليل، فوصفه بكثرة العمل وأفضله، ثم وصفه بالخوف والرجاء، وذكر أن متعلق الخوف عذاب الآخرة، على ما سلف من الذنوب، وأن متعلق الرجاء رحمة الله، فوصفه بالعمل الظاهر والباطن77.
يقول سيد قطب: الآية الأولى عرضت الصورة النكدة من الإنسان، مقابل صورة أخرى، صورة القلب الخائف الوجل، الذي يذكر الله، ولا ينساه في سراء ولا ضراء، والذي يعيش حياته على الأرض في حذر من الآخرة، وفي تطلع إلى رحمة ربه وفضله، وفي اتصال ينشأ عنه العلم الصحيح المدرك لحقائق الوجود.
هذه صورة مشرقة مرهفة؛ فالقنوت والطاعة والتوجه وهو ساجد وقائم، وهذه الحساسية المرهفة وهو يحذر الآخرة، ويرجو رحمة ربه، وهذا الصفاء وهذه الشفافية التي تفتح البصيرة، وتمنح القلب نعمة الرؤية والالتقاط والتلقي، هذه كلها ترسم صورة مشرقة مضيئة من البشر تقابل تلك الصورة النكدة المطموسة التي رسمتها الآية السابقة، فلا جرم يعقد هذه الموازنة78.
رابعًا: الحذر من الفتن:
أعظم فتنة قد تصيب العبد: فتنة الإعراض والصد عن الصراط المستقيم، ولقد حذر الله نبيه صلى الله عليه وسلم من هذه الفتنة، فقال تعالى: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) [المائدة: ٤٩].
وذكر الواحدي في سبب نزول هذه الآية عن ابن عباس قال: إن جماعة من اليهود منهم كعب بن أسيد وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس قال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى محمد عليه الصلاة والسلام ؛ لعلنا نفتنه عن دينه، فأتوه فقالوا: يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم، وأنا إن اتبعناك؛ اتبعنا اليهود ولن يخالفونا، وإن بيننا وبين قوم خصومة ونحاكمهم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونحن نؤمن بك ونصدقك، فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأنزل الله تعالى فيهم: (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) 79.
«والمعنى: وأنزلنا إليك الكتاب -يا محمد- فيه حكم الله، وأنزلنا إليك فيه أن أحكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواء هؤلاء اليهود الذين اتخذوا دينهم لهوًا ولعبًا، واحذرهم أن يضلوك أو يصدوك عن بعض ما أنزلناه إليك -ولو كان أقل قليل-؛ بأن يصوروا لك الباطل في صورة الحق، أو بأن يحاولوا حملك على الحكم الذي يناسب شهواتهم، وقد كرر سبحانه على نبيه صلى الله عليه وسلم وجوب التزامه في أحكامه بما أنزل الله؛ لتأكيد هذا الأمر في مقام يستدعى التأكيد؛ لأن اليهود كانوا لا يكفون عن محاولتهم فتنته صلى الله عليه وسلم وإغرائه بالميل إلى الأحكام التي تتفق مع أهوائهم، ولأنه قد جاء في الآية السابقة ما قد يوهم بأن لكل قوم شريعة خاصة بهم (ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) وأن حكم القرآن ليس له صفة العموم فأراد سبحانه أن ينفى هذا الوهم نفيًا واضحًا وأن يؤكد أن شريعة القرآن هي الشريعة العامة الخالدة، التي يجب أن يتحاكم إليها الناس في كل زمان ومكان؛ لأنها نسخت ما سبقها من شرائع»80.
وإنما حذره وهو رسول مأمون؛ لقطع أطماع القوم81.
وقد جاء هذا التحذير مسبوقًا بأمرين، سبق بمقدمةٍ له وهذه المقدمة جاءت بأسلوبين:
أحدهما أمر، وهو (ﯛ)، والآخر نهي وهو (ﯠ ﯡ). وهذا فيه تأكيد لأهمية المحذّر منه.
قال سيد قطب: فالتحذير هنا أشد وأدق، وهو تصوير للأمر على حقيقته، فهي فتنة يجب أن تحذر، والأمر في هذا المجال لا يعدو أن يكون حكمًا بما أنزل الله كاملًا، أو أن يكون اتباعًا للهوى وفتنة يحذر الله منها... فإن تولوا فلا عليك منهم، ولا يفتنك هذا عن الاستمساك الكامل بحكم الله وشريعته، ولا تجعل إعراضهم يفت في عضدك أو يحولك عن موقفك؛ فإنهم إنما يتولون ويعرضون؛ لأن الله يريد أن يخزيهـم على بعض ذنوبهم، فهم الذين سيصيبهم السوء بهذا الإعراض، لا أنت ولا شريعة الله ودينـه، ولا الصـف المسلم المستمسك بدينه، ثم إنها طبيعة البشر (ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) فهم يخرجـون وينحرفون؛ لأنهم هكذا، ولا حيلة لك في هذا الأمر، ولا ذنب للشريعة، ولا سبيل لاستقامتهم على الطريق82.
وفي الآية دليل على جواز النسيان على النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه قال: (ﯤ ﯥ) وإنما يكون ذلك عن نسيان لا عن تعمد83.
وفي هذه الآية تحذير شديد من اتباع أهواء الناس خشية الإضلال عن الحق، ووجوب الحكم في كل القضايا بما أنزل الله، ولا يجوز الاحتكام إلى أية شريعة، أو قانون غير الوحي الإلهي، المتمثل في الكتاب والسنة.
فليحذر المسلم من الانزلاق إلى متابعة الهوى، وترك الحق بحجة تكثير السواد، أو بحجة قبول الدعوة وانتشارها؛ فإنّ دعوة الله ليست بحاجة إلى تكثير سواد أتباعها من طريق الخيانة، وإرضائهم بالباطل وبما يسخط الله تعالى .
خامسًا: الحذر من الموت:
حذر الله سبحانه وخوف من الموت كثيرًا؛ لكي يبتعد الإنسان عن المعاصي، ويقترب من الطاعات، إلا أن لفظ الحذر من الموت لم يرد في القرآن الكريم بصورته الصريحة إلا في موضعين في القرآن الكريم:
١. حذر الموت من شدة الصواعق.
ذكر الله تعالى حال المنافقين ومن أي شيء يحذرون، فقال تعالى: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ) [البقرة: ١٩].
فمثّل الله تعالى بهذا المثل المائي؛ لبيان مدى الاضطراب والحيرة الذي يعيشه المنافقون، بسبب اختلاف المواقف، والخوف والحذر من تعرضهم للموت والهلاك؛ بانكشاف أمرهم وافتضاح حالهم.
المعنى: مثلهم كصاحب صيب من السماء، وهو المطر الذي يصوب، أي: ينزل بكثرة، (ﭮ ﭯ) ظلمة الليل، وظلمة السحاب، وظلمات المطر، (ﭰ) وهو الصوت الذي يسمع من السحاب، (ﭱ) وهو الضوء اللامع المشاهد مع السحاب، (ﮄ ﮅ ﮆ) البرق في تلك الظلمات (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ) أي: وقفوا.
فهكذا حال المنافقين، إذا سمعوا القرآن وأوامره ونواهيه، ووعده ووعيده؛ جعلوا أصابعهم في آذانهم، وأعرضوا عن أمره ونهيه ووعده ووعيده، فيروعهم وعيده وتزعجهم وعوده، فهم يعرضون عنها غاية ما يمكنهم، ويكرهونها كراهة صاحب الصيب الذي يسمع الرعد، ويجعل أصابعه في أذنيه خشية الموت، فهذا تمكن له السلامة. وأما المنافقون فأنى لهم السلامة، وهو تعالى محيط بهم، قدرة وعلمًا فلا يفوتونه ولا يعجزونه، بل يحفظ عليهم أعمالهم، ويجازيهم عليها أتم الجزاء.
ولما كانوا مبتلين بالصمم، والبكم، والعمى المعنوي، ومسدودة عليهم طرق الإيمان، قال تعالى: (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) أي: الحسيّة، ففيه تحذير لهم وتخويف بالعقوبة الدنيوية؛ ليحذروا، فيرتدعوا عن بعض شرهم ونفاقهم، (ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) فلا يعجزه شيء، ومن قدرته أنه إذا شاء شيئًا فعله من غير ممانع ولا معارض84.
وقال البقاعي في معنى الآية: أو مثلهم في سماع القرآن الذي فيه المتشابه والوعيد والوعد كأصحاب صيب، أي: مطر عظيم نازل من السماء، ومثّل القرآن بهذا؛ لمواترة نزوله وعلوه وإحيائه القلوب كما أن الصيّب يحيي الأرض، ثم أخبر عن حاله بقوله: فيه ظلمات؛ لكثافة السحاب واسوداده، ورعد، أي: صوت مرعب يرعد عند سماعه، وبرق، أي: نور مبهت، والظلمات مثل ما لم يفهموه، والرعد ما ينادي عليهم بالفضيحة والتهديد، والبرق ما يلوح لهم معناه، ويداخلهم رأي في استحسانه، ولما تم المثل القرآني استأنف الخبر عن حال الممثّل لهم، فقال: يجعلون أصابعهم، أي: بعضها، ولو قدروا لحشو الكل؛ لشدة خوفهم من الصواعق؛ لأن هولها يكاد أن يصم، ثم علل ذلك بقوله: (ﭸ ﭹ) والحال أنه لا يغنيهم من قدره حذر85.
فالحركة التي تغمر المشهد كله: من الصيب الهاطل، إلى الظلمات والرعد والبرق، إلى الحائرين المفزعين فيه، إلى الخطوات المروعة الوجلة، التي تقف عندما يخيم الظلام ترسم حركة التيه والاضطراب والقلق والأرجحة التي يعيش فيها أولئك المنافقون، بين لقائهم للمؤمنين، وعودتهم للشياطين، وبين ما يقولونه لحظة ثم ينكصون عنه فجأة، وبين ما يطلبونه من هدى ونور وما يفيئون إليه من ضلال وظلام، فهو مشهد حسي يرمز لحالة نفسية ويجسم صورة شعورية، وهو طرف من طريقة القرآن العجيبة في تجسيم أحوال النفوس كأنها مشهد محسوس86.
٢. حذر الموت لا يمنع قدر الله.
قال تعالى: (ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [البقرة: ٢٤٣].
أي: ألم تسمع بهذه القصة العجيبة الجارية على من قبلكم من بني إسرائيل، حيث حل الوباء بديارهم، فخرجوا بهذه الكثرة؛ فرارًا من الموت، فلم ينجهم الفرار، ولا أغنى عنهم من وقوع ما كانوا يحذرون؛ فعاملهم بنقيض مقصودهم، وأماتهم الله عن آخرهم، ثم تفضل عليهم، فأحياهم87.
قال ابن عاشور: وقد اختلف في المراد من هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم، والأظهر أنهم قوم خرجوا خائفين من أعدائهم فتركوا ديارهم جبنًا، وقرينة ذلك عندي قوله تعالى: (ﮡ ﮢ) فإنه الجملة حال، وهي محل التعجب، وإنما تكون كثرة العدد محلًّا للتعجب، إذا كان المقصود الخوف من العدو، فإن شأن القوم الكثيرين ألا يتركوا ديارهم خوفًا وهلعًا، والعرب تقول للجيش إذا بلغ الألوف: لا يغلب من قلة، فقيل: هم من بني إسرائيل خالفوا على نبي لهم في دعوته إياهم للجهاد، ففارقوا وطنهم؛ فرارًا من الجهاد، وهذا الأظهر، فتكون القصة تمثيلًا لحال أهل الجبن في القتال بحال الذين خرجوا من ديارهم بجامع الجبن88.
فهذا هو الخوف والحذر الذي يولده الجبن في أنفس الجبناء، فيخيل إليهم أن الفرار من القتال هو الواقي من الموت، وما هو إلا وسيلة تدنـي إليه، فهو يمكن العدو من الرقاب، ويحفزه إلى الفتك بهم، استهانة بأمرهم89.
وفي هذه الآية دليل على أن الأسباب لا تنفع مع القضاء والقدر، وخصوصًا الأسباب التي تترك بها أوامر الله. وفيها: آية عظيمة بإحياء الموتى عيانًا في هذه الدار90.
سادسًا: الحذر من العدو:
خاطب الله المؤمنين، وأمرهم بجهاد الكفار والخروج في سبيل الله وحماية الشرع، وأمرهم أن لا يقتحموا على عدوهم على جهالة؛ حتى يتحسسوا ما عندهم ويعلموا كيف يردون عليهم، فذلك أثبت لهم، فقال تعالى: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [النساء: ٧١-٧٣ ].
قال السعدي: «يأمر تعالى عباده المؤمنين بأخذ حذرهم من أعدائهم الكافرين، وهذا يشمل الأخذ بجميع الأسباب، التي بها يستعان على قتالهم، ويستدفع مكرهم وقوتهم، من استعمال الحصون والخنادق، وتعلم الرمي والركوب، وتعلم الصناعات التي تعين على ذلك، وما به يعرف مداخلهم، ومخارجهم، ومكرهم، والنفير في سبيل الله.
ولهذا قال: (ﮛ ﮜ) أي: متفرقين بأن تنفر سرية أو جيش، ويقيم غيرهم (ﮝ ﮞ ﮟ) وكل هذا تبع للمصلحة والنكاية، والراحة للمسلمين في دينهم، وهذه الآية نظير قوله تعالى: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ).
ثم أخبر عن ضعفاء الإيمان المتكاسلين عن الجهاد فقال: (ﮡ ﮢ) أي: أيها المؤمنون (ﮣ ﮤ) أي: يتثاقل عن الجهاد في سبيل الله ضعفًا وخورًا وجبنًا، هذا الصحيح.
وقيل معناه: ليبطئن غيره، أي: يزهده عن القتال، وهؤلاء هم المنافقون، ولكن الأول أولى لوجهين:
أحدهما: قوله (ﮢ) والخطاب للمؤمنين.
والثاني: قوله في آخر الآية: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ).
فإن الكفار من المشركين والمنافقين قد قطع الله بينهم وبين المؤمنين المودة، و أيضًا فإن هذا هو الواقع، فإن المؤمنين على قسمين:
وفي هذه الآية أمر من الله سبحانه للناس بالجهاد سرايا متفرقة أو مجتمعين على الأمير، فإن خرجت السرايا فلا تخرج إلا بإذن الإمام؛ ليكون متحسسًا إليهم وعضدًا من ورائهم، وربما احتاجوا إلى درئه92.
وقوله: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) تفريع عن أخذ الحذر؛ لأنهم إذا أخذوا حذرهم تخيروا أساليب القتال بحسب حال العدو93.
ومعنى الأمر بالحذر: ألا يخرج المجاهدون المؤمنون فرادى للسرايا أو المهام الجهادية، بل يخرجون سرايا وفصائل، أو يخرجون جميعًا في جيش متكامل؛ لأن الأرض حولهم ملغمة، والعداوات حولهم شتى، والكمين قد يكون كامنًا بينهم من المنافقين واليهود وغيرهم، فأخذ الحذر ليس من العدو الخارجي فحسب، ولكن أيضًا من المعوقين المبطئين المخذلين، الذين سقطت همتهم وغلب عليهم حب المنفعـة القريبة، والتلوّن من حال إلى حال، حسب اختلاف الأحوال، فقد كانوا يبطئون أنفسهم وغيرهم، وتصورهم للربح والخسارة هو التصور الذي يليق بالمنافقين الضعاف94.
والمتأمل لهذه الآيات يجد أنها قد حددت قواعد القتال، وأوجبت أن تكون الحرب لغرض شريف، وأول هذه القواعد: التزام الحذر، ومراقبة تحركات العدو، والإعداد اللازم لملاقاته في أي وقت، فقد يباغتنا العدو في أي لحظة، ويستغل بعض الظروف والأزمات، وعندها يكون الاستعداد السابق مفوتًا لأغراضه الدنيئة، وملحقًا به الهزيمة المنكرة95.
وأمر الله سبحانه بأخذ الحذر من غدر العدو في ميدان القتال، فقال: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ) [النساء: ١٠٢].
وهذه الآية الكريمة تدل دلالة صريحة قاطعة على وجوب أخذ الحذر، بل وتبين للمسلمين كيفية الحذر مما يدل على أهميته، فالأمر بأخذ الأسلحة، والأمر بأن يكون بعض المسلمين وراء المصلين يحمونهم من العدو، وتقسيم المسلمين إلى طائفتين، طائفة تصلي، وطائفة تحرس، والأمر بأخذ الحذر، وبيان أن الكفار يرغبون أن يترك المسلمون الحذر وأخذ أسبابه حتى يستأصلوا المسلمين مرة واحدة، كل ذلك دليل على وجوب الحيطة والتحرز، وأخذ الحذر من المكروه المتوقع.
وقد روى الواحدي سبب نزول هذه الآية بسنده عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقي المشركين بعسفان، فلما صلى رسول الله عليه الصلاة والسلام الظهر، فرأوه يركع ويسجد هو وأصحابه، قال بعضهم لبعض: كان هذا فرصة لكم، لو أغرتم عليهم، ما علموا بكم حتى تواقعوهم، فقال قائل منهم: فإن لهم صلاة أخرى، هي أحب إليهم من أهليهم وأموالهم، فاستعدوا حتى تغيروا عليهم فيها، فأنزل الله تبارك وتعالى على نبيه: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ) وأعلـم ما ائتمر به المشركون، وذكر صلاة الخوف96.
يقول ابن جزي الكلبي: شرعت صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع، حيث أخبر الله نبيه عمّا جرى من عزم الكفار على الإيقاع بالمسلمين إذا اشتغلوا بصلاتهم، ونزل جبريل بصلاة الخوف حذرًا من الكفار. واختلف في صلاة الخوف على عشرة أقوال؛ لاختلاف الأحاديث فيها، ولسنا مضطرين إلى ذكرها؛ لأن تفسيرها لا يتوقف على ذلك، حيث يقسم الإمام المسلمين على طائفتين، فيصلي بالأولى نصف الصلاة، وتقف الأخرى تحرس، ثم يصلي بالثانية نصف الصلاة، وتقف الأولى تحرس، واختلف هل تتم كل طائفة صلاتها وهو مذهب الجمهور، أم لا ؟ وعلى القول بالإتمام: اختلف هل يتمونها في إثر صلاتهم مع الإمام أو بعد ذلك97.
وجمع الله تعالى في هذه الآية بين الأمر بالحذر وتهديد الكافرين بالعذاب المهين؛ لأن الأمر بالحذر من العدو يوهم توقع غلبته واعتزازه، فنفى عنهم ذلك الإيهام بالإخبار أن الله يهين الكافرين ويخذلهم وينصر المؤمنين عليهم؛ لتقوى قلوبهم، وليعلموا أن الأمر بالحذر ليس لذلك، وإنما هو تعبد من الله98.
ولما رخص الله للمؤمنين بوضع السلاح حال المطر وحال المرض أمرهم مرة أخرى بالتيقظ والتحفظ والمبالغة في الحذر، لئلا يجترئ العدو عليهم احتيالًا في الميل عليهم واستغنامًا منهم لوضع المسلمين أسلحتهم99.
ويعدّ هذا النص من جملة التربية والتوجيه والتعليم والإعداد للصف المسلم وللجماعة المسلمة، وأول ما يلفت النظر هو الحرص على الصلاة في ساحة المعركة؛ لأن هذه الصلاة سلاح من أسلحة المعركة، فلا بد من تنظيم هذا السلاح بما يتناسب مع طبيعة المعركة، وهذه التعبئة الروحية، وهذا الحذر الذي يوصى به المؤمنون تجاه عدوهم الذي يتربص بهم لحظة غفلة عن أسلحتهم وأمتعتهم ليميلوا عليهم ميلة واحدة، ومع ذلك فهم يواجهون قومًا كتب الله عليهم الهوان والعذاب الأليم، وهذا التقابل بين التحذير والتطمين هو طابع منهج التربية الإلهية للصف المسلم في مواجهة عدوه الماكر اللئيم، بل لعل هذا الاحتياط، وهذه اليقظة، وهذا الحذر يكون إرادة ووسيلة لتحقيق العذاب الأليم الذي أعده الله للكافرين100.
والحكمة العامة في الأمر بأخذ الحذر والسلاح حتى في الصلاة، أن الكفار يودون من صميم قلوبهم أن تغفلوا عن أسلحتكم وأمتعتكم، ولو بانشغالكم في الصلاة؛ فينقضون عليكم، ويميلون عليكم ميلة واحدة بالقتل والنهب، ولكن اللّه يريد لكم النصر والغلبة، فيأمركم بالاستعداد والحذر101.
وفي قوله: (ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) وعد للمؤمنين بالنصر على الكفار بعد الأمر بالحزم؛ لتقوى قلوبهم، وليعلموا أن الأمر بالحزم ليس لضعفهم وغلبة عدوهم، بل لأن الواجب أن يحافظوا في الأمور على مراسم التيقظ والتدبر، فيتوكلوا على الله سبحانه وتعالى102.
وفي هذه الآية أدلّ دليل على تعاطي الأسباب، واتخاذ كل ما ينجي ذوي الألباب، ويوصل إلى السلامة ويبلغ دار الكرامة.
مع التنبيه على أن الأخذ بالحذر وأسباب الحيطة واليقظة والتحرز لا يعني عدم الثقة بالله، ولا ينافي التوكل عليه؛ لأن الحذر من الأسباب، ومباشرة الأسباب لا تنافي التوكل، ولكن لا يجوز أبدًا الاطمئنان والركون إليها والتعلق بها؛ لأن الأسباب والمسببات بيد الله وحده، فهو الذي يهيئ السبب، وهو الذي يوفق إليه ويدل عليه، ويجعله مفضيًا إلى نتيجته، ولو شاء لسلبه ما به صار سببًا، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، بل إن المسلم يباشر الأسباب؛ لأن الله أمر بها ودعا إليها، ولكن يبقى القلب معتمدًا على الله وحده، متلفتًا إليه متعلقًا به كأن صاحبه لم يباشر أي سبب أصلًا، وهذه كانت حالة سيد المتوكلين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فقد باشر الأسباب في هجرته إلى المدينة ودخل مع صاحبه أبي بكر إلى الغار أخذًا بالحيطة والحذر، ولكن اعتماده لم يكن على ما باشره من أسباب، وإنما كان اعتماده على الله وحده، ولهذا لما شعر أبو بكر بالقلق على حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وظهر عليه الحزن، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه، فقال له صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما)103، فكان نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتماده على معية الله لهما بالنصر والحفظ والتأييد لا على ما باشره من الأسباب.
سابعًا: الحذر من الشيطان:
بين الله عز وجل عداوة الشيطان وحذر منه فقال: (ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) [فاطر: ٦].
فهو أول عدو في طريق المؤمنين إلى دار السلام، عداوته قديمة قدم الحياة، منذ بدء الخليقة.
ونهانا ربنا عن اتباع خطوات الشيطان، وهي طرقه التي يدعو إليها من الفواحش والشهوات المحرمة، وترك الواجبات، وفعل المحرمات، وأخبرنا أن الشيطان لنا عدو، وأمرنا أن نتخذه عدوًّا وأنه يدعو أتباعه؛ ليكونوا من أهل النار فقال تعالى: (ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) [فاطر: ٦].
ومن أعظم مداخل الشيطان على العباد: إيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين، وصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [المائدة: ٩٠-٩٢].
إنها دعوة للمؤمنين للحذر من الشيطان وكيده والتمسك بطاعة الله ورسوله، «والحذر من هذا الرجس، الذي بين يدى الشيطان يدعوهم إليه، ويغريهم به، وليس للمؤمنين بعد هذا البلاغ بلاغ، فإن تولّوا، ولم يستجيبوا لأمر الله؛ فلهم ما اختاروا، وليس لأحد سلطان عليهم إلا وازع ضمائرهم»104.
وقد ذكر الواحدي في سبب نزول هذه الآية حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ، قال: أتيت على نفر من الأنصار والمهاجرين، فقالوا: تعال نطعمك ونسقك خمرًا، وذلك قبل أن تحرم الخمر، قال: فأتيتهم في حشّ -والحش: البستان- فإذا رأس جزور مشوي عندهم، وزقّ من خمر، قال: فأكلت وشربت معهم، قال: فذكرت الأنصار والمهاجرين عندهم، فقلت: المهاجرون خير من الأنصار، قال: فأخذ رجل أحد لحيي الرأس فضربني به،فجرح بأنفي، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبرته فأنزل الله عز وجل فيّ -يعني نفسه- شأن الخمر: (ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) [المائدة: ٩٠]105.
وأخرج النسائي عن عمر رضي الله عنه قال: لما نزل تحريم الخمر قال عمر: «اللهم بيّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا»، فنزلت الآية التي في البقرة، فدعي عمر فقرئت عليه، فقال عمر: «اللهم بيّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا»، فنزلت الآية التي في النساء: (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) [النساء: ٤٣].
فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة نادى: (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) [النساء: ٤٣].
فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: «اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا»، فنزلت الآية التي في المائدة، فدعي عمر فقرئت عليه، فلما بلغ (ﭳ ﭴ ﭵ) [المائدة: ٩١].
قال عمر رضي الله عنه: «انتهينا انتهينا»106.
ثم أكد الله تعالى التحريم وشدد في الوعيد فقال: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [المائدة: ٩٢].
تأكيد للتحريم، وتشديد في الوعيد، وامتثـال الأمر، وكفّ عن المنهي عنه، فإن خالفتم فما على الرسول إلا البلاغ في تحريم ما أمر بتحريمـه، وعلى المرسل أن يعاقب أو يثيب بحسب ما يعصى أو يطاع107. وهذا الأمر أعم الأوامر؛ فإنه يدخل فيه كل أمر ونهي، ظاهر وباطن108.
وأمر سبحانه بطاعته وبطاعة رسوله، مع أن طاعة رسوله طاعة له سبحانه ؛ لتأكيد الدعوة إلى هذه الطاعة، ولتكريم الرسول صلى الله عليه وسلم حيث جعلت طاعته مجاورة لطاعة الله تعالى109.
وعطفت جملة: (ﭷ) على جملة: (ﭳ ﭴ ﭵ)، وهي كالتذييل؛ لأن طاعة الله ورسوله تعم ترك الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، وتعم غير ذلك من وجوه الامتثال والاجتناب، وكرر (ﭷ) اهتمامًا بالأمر بالطاعة، وعطف (ﭻ) على (ﭷ) أي: وكونوا على حذر. وحذف مفعول (ﭻ)؛ لينزل الفعل منزلة اللازم؛ لأن القصد التلبس بالحذر في أمور الدين، أي: الحذر من الوقوع فيما يأباه الله ورسوله، وذلك أبلغ من أن يقال: واحذروهما؛ لأن الفعل اللازم يقرب معناه من معنى أفعال السجايا، ولذلك يجيء اسم الفاعل منه على زنة (فعل) كفرح ونهم110.
وقوله: (ﭳ ﭴ ﭵ) لفظة استفهام، ومعناه الأمر، أي: انتهوا، وهذا من أبلغ ما ينهى به؛ لأنه تعالى ذم الخمر والميسر وأظهر قبحهما للمخاطب، كأنه قيل: قد تدلى عليكم ما فيهما من أنواع الصوارف والموانع، فهل أنتم منتهون مع هذه الأمور، أم أنتم على ما كنتم عليه كأنكم لم توعظوا ولم تنزجروا؟111.
فليحذر المسلم من كيد الشيطان ومكره، وليعلم أنه يجب عليه طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فور وصول الأمر، وليكن لسان المؤمن عند سماعه النهي: انتهينا انتهيا.
ثامنًا: الحذر من المنافقين:
لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وكثر المسلمون في المدينة واعتز الإسلام، صار أناس يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر؛ ليبقى جاههم، وتحقن دماؤهم، وتسلم أموالهم، وكانوا يحضرون مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فيستندون فيه، ولهم جهارة المناظر وفصاحة الألسن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ومن حضر يعجبون بهياكلهم ويسمعون إلى كلامهم، فذكر الله من أوصافهم ما به يعرفون، لكي يحذر العباد منهم، ويكونوا منهم على بصيرة، قال تعالى: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ) [المنافقون: ٤].
أي: إذا نظرت إليهم تروقك هيئاتهم ومناظرهم لما فيها من النضارة والرونق، وجمال الصورة، واعتدال الخلقـة، وإن تكلموا حسن السماع لكلامهم، وظن أن قولهم حق وصدق؛ لفصاحتهم وحلاوة منطقهم، كأنهم أخشاب جوفاء منخورة مستندة إلى الحيطان، فهم مجرد كتل بشرية، لا تفهم ولا تعلم، وكانت لهم أجسام ومنظر تعجبك لحسنها وجمالها، وكان عبد الله بن أبيّ جسيمًا صبيحًا فصيحًا.
ومع ذلك كله فهم في غاية الضعف والخور والجبن، يحسبون كل صيحة يسمعونها أنها واقعة عليهم، نازلة بهم لإحساسهم بالهزيمة من الداخل، فهم الأعداء الألداء، فاحذر مؤامرتهم، ولا تطلعهم على شيء من أسرارك، لأنهم عيون لأعدائك من الكفار، لعنهم الله وطردهم من رحمته وأهلكهم، كيف يصرفون عن الحق والهدى إلى الكفر والضلال112.
(ﯲ ﯳ) على الحقيقة، لأن العدو البارز المتميز، أهون من العدو الذي لا يشعر به، وهو مخادع ماكر، يزعم أنه ولي، وهو العدو المبين113.(ﯴ) أي: احذر أن تأمنهم على سرك؛ لأنهم عيون لأعدائك من الكفار114.
قال سيد قطب: «يصف الله المنافقين في الآية بأنهم أجسام تعجب الناظرين إليها، لكنهم حين يتكلمون وينطقون تدرك أنهم فارغون من كل معنى وحس وإدراك، فهم أشكال متحركة لكن قلوبهم خاوية من الإيمان والثقة بأنفسهم، وهم يخشون في كل لحظـة أن يكون أمرهم قد ظهر وبان، وسترهم قد انكشف، يتوجسون من كل حركة، ومن كل صوت، يحسبونه يطلبهم وقد عرف حقيقتهم، وهم بهذا يمثلون العدو الأول في المجتمع المسلم، عداوتهم نابعة من كفرهم الذي يخفونه في صدورهم مع تظاهرهم بالإيمان المزعوم (ﯲ ﯳ ﯴ) عدوٌ كامن يتربص الدوائر بالمؤمنين، وينتظر لحظة يشفي فيها غليله من المؤمنين، وهو بذلك أشد خطرًا من العدو الخارجي المعروف، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بقتلهم، بل أخذهم بخطة أخرى فيها حكمة وسعة وثقة بالنجاة من كيدهم»115.
وفي قوله تعالى: (ﯲ ﯳ ﯴ) [المنافقون: ٤] وجهان:
أحدهما: فاحذر أن تثق بقولهم أو تميل إلى كلامهم.
الثاني: فاحذر ممايلتهم لأعدائك وتخذيلهم لأصحابك116.
وفي هذا الآية «ما يشعر بحصر العداوة في المنافقين مع وجودها في المشركين واليهود، ولكن إظهار المشركين شركهم، وإعلان اليهود كفرهم مدعاة للحذر طبعًا.
أما هؤلاء فادعاؤهم الإيمان وحلفهم عليه، قد يوحي بالركون إليهم -ولو رغبة في تأليفهم-، فكانوا أولى بالتحذير منهم لشدة عداوتهم ولقوة مداخلتهم مع المسلمين، مما يمكنهم من الاطلاع على جميع شؤونهم»117.
ووصفهم الله تعالى في هذه الآية بالعداوة؛ لأن التحذير منهم يقتضي وصفهم بالعداوة لا بالجبن118.
وفي هذه الآيات تحذير من الاغترار بالمظاهر كحسن الهندام وفصاحة اللسان، فالحكم على الناس لا يكون بالأشكال والهيئات والمناظر، وإنما يكون بالحقائق المدركة، والأفعال الواقعة، والأقوال الصادقة، وقد كان المنافقون حسان الهيئة، فصيحي اللسان، ولكنهم أشباح بلا أرواح، وصور بلا معان.
فهم أعداء المؤمنين، الكاملون في العداوة لله ورسوله، فينبغي الحذر من أقوالهم، والحرص من تآمرهم.
تاسعًا: الحذر من طاعة الأزواج والأولاد فيما يغضب الله:
حب المسلم لأهله وولده قد يقعد به عن الجهاد في سبيل الله، ويحبب إليه الامتناع عن البذل حيث يحب الله منه البذل، وقد يمنعونه فعلًا عن الجهاد وعن العمل؛ ليوفر لهم الراحة والطمأنينة في زعمهم، وقد يستجيب لهم فيكون فعلهم هذا فعل الأعداء، والعدو يستحق الحذر والإفلات من مكيدته.
قال تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ) [التغابن: ١٤-١٥].
فحذّر الله تعالى من فتنة الأزواج والأموال والأولاد، الذين يكونون سببًا في التقصير بالطاعة، والتورّط أحيانًا في المعصية، وناسب ذلك أن يأمر الله بالتقوى والإنفاق في سبيل الله؛ لأن ذلك هو رأس مال الإنسان، وسبيل إسعاده في الدنيا والآخرة، فلكل مرض علاج، وعلاج الانحراف المبادرة إلى الاستقامة، والتزام جادة الامتثال والطاعة119.
عن ابن عباس قال: كان الرجل يسلم، فإذا أراد أن يهاجر منعه أهله وولده وقالوا: ننشدك الله أن تذهب فتدع أهلك وعشيرتك، وتصير إلى المدينة بلا أهل ولا مال، فمنهم من يرق لهم، ويقيم ولا يهاجر، فأنزل الله تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) .
قال عكرمة وابن عباس: وهؤلاء الذين منعهم أهلهم عن الهجرة لما هاجروا، ورأوا الناس قد فقهوا في الدين هموا أن يعاقبوا أهليهم الذين منعوهم، فأنزل الله تعالى: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ)120.
وأخرج الطبري عن عطاء بن يسار قال: نزلت سورة التغابن كلها بمكة، إلا هؤلاء الآيات (ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) نزلت في عوف بن مالك الأشجعيّ، كان ذا أهل وولد، فكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورقّقوه، فقالوا: إلى من تدعنا؟ فيرقّ ويقيم، فنزلت: (ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ)121.
ووجه عدواتهم كما يقول ابن العربي المالكي: «إن العدو لم يكن عدوًّا لذاته، وإنما كان عدوًّا بفعله، فإذا فعل الزوج والولد فعل العدو؛ كان عدوًّا، ولا فعل أقبح من الحيلولة بين العبد والطاعة»122.
وهذا التنبيه والتحذير من الأزواج والأولاد يشير إلى حقيقة عميقة في الحياة البشرية، فالأزواج والأولاد قد يكونون مشغلة ملهاة عن ذكر الله، وقد يكونون دافعًا للتقصير في تبعات الإيمان، فيبخل ويجبن؛ ليوفر لهم الأمن والقرار، أو المتاع والمال، فيكونون بهذا عدوًّا له؛ لأنهم صدوه عن الخير، وهذا هو دافع التحذير من الله تعالى للمؤمنين؛ لإثارة اليقظة في قلوبهم، والحذر من تسلل هذه المشاعر، ثم كرر هذا التحذير في صورة أخرى من فتنة الأموال والأولاد.
وقد يراد بالفتنة الاختبار، فهذا يحتاج إلى تنبه وحذر ويقظة للنجاح في الابتلاء والامتحان، وقد يراد بها أنها توقعكم في المخالفة والمعصية، فلا بد من الحذر أيضًا حتى لا تجرفكم الفتنة وتبعدكم عن الله تعالى123.
وفي قوله تعالى: (ﮐ ﮑ) ثلاثة أقوال:
أحدها: بمنعهم من الهجرة، وهو قول ابن عباس.
والثاني: بكونهم سببًا للمعاصي، وهو قول مجاهد.
والثالث: بنهيهم عن الإسلام، وهو قول قتادة124.
قال السعدي: «هذا تحذير من الله للمؤمنين، من الاغترار بالأزواج والأولاد؛ فإن بعضهم عدو لكم، والعدو هو الذي يريد لك الشر، ووظيفتك الحذر ممن هذه وصفه، والنفس مجبولة على محبة الأزواج والأولاد؛ فنصح تعالى عباده أن توجب لهم هذه المحبة الانقياد لمطالب الأزواج والأولاد، ولو كان فيها ما فيها من المحذور الشرعي، ورغبهم في امتثال أوامره، وتقديم مرضاته بما عنده من الأجر العظيم المشتمل على المطالب العالية والمحاب الغالية، وأن يؤثروا الآخرة على الدنيا الفانية المنقضية، ولما كان النهي عن طاعة الأزواج والأولاد، فيما هو ضرر على العبد، والتحذير من ذلك، قد يوهم الغلظة عليهم وعقابهم، أمر تعالى بالحذر منهم، والصفح عنهم والعفو، فإن في ذلك، من المصالح ما لا يمكن حصره، فقال: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ)؛ لأن الجزاء من جنس العمل.
فمن عفا عفا الله عنه، ومن صفح صفح الله عنه، ومن غفر غفر الله له، ومن عامل الله فيما يحب، وعامل عباده كما يحبون وينفعهم؛ نال محبة الله ومحبة عباده، واستوثق له أمره»125.
أولًا: حذر المؤمنين:
غاية الدعوة إلى الله التبشير بهذا الدين، وتبليغ أحكامه، وتخويف الناس عن ارتكاب ما نهى الله عنه، بطريقة وأسلوب يورث الحذر منه سبحانه وتعالى ويحقق الخشية المطلوبة؛ فأمر الله المؤمنين بالتفقه في الدين؛ ليتم الإنذار من خلاله، ويتحقق الحذر من بطش الله وعذابه فقال: (ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ) [التوبة: ١٢٢].
قال ابن عباس في رواية الكلبي: لما أنزل الله تعالى عيوب المنافقين؛ لتخلفهم عن الجهاد، قال المؤمنون: والله لا نتخلف عن غزوة يغزوها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا سرية أبدًا، فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسرايا إلى العدو نفر المسلمون جميعًا، وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده بالمدينة، فأنزل الله تعالى هذه الآية126.
قال النحاس: (ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) لفظ خبر، ومعناه أمر127.
والمعنى: لا يجوز للمؤمنين أن ينفروا كلهم إلى الجهاد، بل يجب أن يصيروا طائفتين، طائفة تبقى في خدمة الرسول، وطائفة أخرى تنفر للجهاد؛ وذلك لأن الإسلام في ذلك الوقت كان محتاجًا إلى الجهاد، و أيضًا كانت التكاليف والشرائع تنزل، وكان بالمسلمين حاجة إلى من يكون مقيمًا بحضرة الرسول عليه الصلاة والسلام يتعلم تلك الشرائع والتكاليف، ويبلغها للغائبين، وبهذا الطريق يتم أمر الدين، وعلى هذا القول ففيه احتمالان:
أحدهما: أن تكون الطائفة المقيمة هم الذين يتفقهون في الدين لملازمتهم الرسول عليه الصلاة والسلام ، ومشاهدتهم التنزيل؛ فكلما نزل تكليف وشرع؛ عرفوه وحفظوه، فإذا رجعت الطائفة النافرة من الغزو؛ أنذرتهم المقيمة ما تعلموه من التكاليف والشرائع، وعلى هذا فلا بد من إضمار، والتقدير: فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة، وأقامت طائفة؛ لتفقه المسلمين في الدين، ولينذروا قومهم، يعني النافرين إلى الغزو إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون معاصي الله تعالى .
والاحتمال الثاني: أن التفقه صفة للطائفة النافرة... والمعنى: فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة؛ حتى تصير هذه الطائفة النافرة فقهاء في الدين، أي: أنهم إذا شاهدوا ظهور المسلمين على المشركين، وأن العدد القليل منهم يغلبون العالم من المشركين؛ فيتبصروا ويعلموا أن ذلك بسبب أن الله تعالى خصهم إلى قومهم من الكفار أنذروهم بما شاهدوا من دلائل النصر، والفتح، والظفر، لعلهم يحذرون؛ فيتركوا الكفر والنفاق128.
قال الإمام الطبري: «إن أولى الأقوال بالصواب من قال: ليتفقه الطائفة النافرة بما تعاين من نصر الله أهل دينه وأصحاب رسوله على أهل عداوته والكفر به؛ فيفقه بذلك من معاينته حقيقة علم أمر الإسلام وظهوره على الأديان من لم يكن فقهه، ولينذروا قومهم فيحذروهم أن ينزل بهم من بأس الله مثل الذي نزل بمن شاهدوا وعاينوا... لعل قومهم إذا هم حذروهم ما عاينوا من ذلك يحذرون، فيؤمنون بالله ورسوله، حذرًا أن ينزل بهم ما نزل بالذين أخبروا خبرهم»129.
قال سيد قطب: «إن هذا الدين منهج حركي، لا يفقهه إلا من يتحرك به، فالذين يخرجون للجهاد به هم أولى الناس بفقهه؛ بما يتكشف لهم من أسراره ومعانيه، وبما يتجلى لهم من آياته وتطبيقاته العملية في أثناء الحركة به. أما الذين يقعدون؛ فهم الذين يحتاجون أن يتلقوا ممن تحركوا؛ لأنهم لم يشاهدوا ما شاهد الذين خرجوا، ولا فقهوا فقههم، ولا وصلوا من أسرار هذا الدين إلى ما وصل إليه المتحركون، وبخاصة إذا كان الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والخروج بصفة عامة أدنى إلى الفهم والتفقه.
ولعل هذا عكس ما يتبادر إلى الذهن، من أن المتخلفين عن الغزو والجهاد والحركة، هم الذين يتفرغون للتفقه في الدين! ولكن هذا وهم، لا يتفق مع طبيعة هذا الدين.. إن الحركة هي قوام هذا الدين، ومن ثم لا يفقهه إلا الذين يتحركون به، ويجاهدون لتقريره في واقع الناس، وتغليبه على الجاهلية، بالحركة العملية130.
وللجمع بين القولين: لا بأس أن تنذر كل فئة الأخرى، فالذين تعلموا دين الله ولم يخرجوا للجهاد تعلم الفئة التي خرجت، وفي المقابل الذين خرجوا للجهاد تعلم الذين لم يخرجوا، حتى يتم الإنذار الكامل، ويتحقق الحذر من عذاب الله تعالى .
وفي قوله: (ﯼ ﯽ) الترجي لوقوع الحذر منهم عن التفريط فيما يجب فعله: فيترك، أو فيما يجب تركه: فيفعل131.
ولعل السبب في حذف مفعول يحذون؛ «للتعميم، أي: يحذرون ما يحذر، وهو فعل المحرمات وترك الواجبات. واقتصر على الحذر دون العمل؛ للإنذار؛ لأن مقتضى الإنذار التحذير، وقد علمت أنه يفيد الأمرين»132.
وقد جعل الله سبحانه الغرض من هذا هو التفقه في الدين، وإنذار من لم يتفقه، فجمع بين المقصدين الصالحين، والمطلبين الصحيحين، وهما تعلم العلم، وتعليمه، فمن كان غرضه بطلب العلم غير هذين، فهو طالب لغرض دنيوي، لا لغرض ديني133
وفي هذه الآية دليل بأنه يجب قبول قول العلماء، فقد أوجب سبحانه الحذر بإنذارهم، وألزم المنذرين قبول قولهم، فجاز لهذا المعنى إطلاق اسم أولي الأمر عليهم134.
وفى الآية دليل على أن التفقه والتذكير من فروض الكفاية، وأنه ينبغي أن يكون غرض المتعلم الاستقامة والإقامة، لا الترفع على الناس بالتصدر والترؤس135.
وفي الآية دليل على أن الجهاد فرض كفاية إذا قام به جماعة سقط عن الباقين، إلا عند النفير العام حتى يصير فرضًا على الأعيان136.
وفي هذه الآية أيضًا دليل وإرشاد وتنبيه لطيف؛ لفائدة مهمة، وهي: أن المسلمين ينبغي لهم أن يعدوا لكل مصلحة من مصالحهم العامة من يقوم بها، ويوفر وقته عليها، ويجتهد فيها، ولا يلتفت إلى غيرها؛ لتقوم مصالحهم، وتتم منافعهم، ولتكون وجهة جميعهم، ونهاية ما يقصدون قصدًا واحدًا، وهو قيام مصلحة دينهم ودنياهم، ولو تفرقت الطرق، وتعددت المشارب؛ فالأعمال متباينة، والقصد واحد، وهذه من الحكمة العامة النافعة في جميع الأمور137.
ثانيًا: حذر المنافقين واليهود:
إحساس المنافقين بنفاقهم جعلهم يحذرون من نزول آيات قرآنية تتلى في حقهم، وتكشف أمرهم، وتهتك سترهم، وتعلن للملأ حقيقة أمرهم، وقد وقع ما كانوا يتخوفون منه، فنزل قول الله تعالى: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ) [التوبة: ٦٤].
قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ) «في شأن المنافقين تخبرهم بمخازيهم ومساوئهم ومثالبهم، ولهذا سميت بالفاضحة والمثيرة والمبعثرة، وقال الحسن: كانوا يسمون هذه السورة الحفّارة؛ لأنها حفرت ما في قلوب المنافقين فأظهرتها»138.
وكان المنافقون إذا عابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكروا شيئًا من أمره وأمر المسلمين، قالوا: لعلّ الله لا يفشي سرّنا، فقال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهم: استهزئوا، متهددًا لهم ومتوعدًا: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ)139.
قال السدي: قال بعض المنافقين: والله لوددت أني قدمت؛ فجلدت مائة، ولا ينزل فينا شيء يفضحنا، فأنزل الله هذه الآية. وقال مجاهد: كانوا يقولون القول بينهم ثم يقولون: عسى الله أن لا يفشي علينا سرنا140.
وهذا أسلوب إعلامي قديم يستخدمه أعداء الإسلام بقصد قلب الحقائق أو تزييف الوعي، فقد كانوا يحرصون كل الحرص على إخفاء مخططاتهم واجتماعاتهم بل وحتى بعض عباراتهم.
والحقيقة أن المنافقين يعرفون حقيقة أمرهم، فهم غير مؤمنين بالله والرسول، وهم شاكون مرتابون في الوحي، قلقون مضطربون، والشك والقلق يدعوهم على الحذر والخوف؛ لذا وصفهم الله تعالى بقوله: (ﭰ ﭱ) أي: يخاف المنافقون، ويتحرزون أن تنزل على المؤمنين سورة تكشف أحوالهم، وتفضح أسرارهم، وتبين نفاقهم، كهذه التي سميت الكاشفة والفاضحة والمنبئة، التي تنبىء المؤمنين بما في قلوب المنافقين، وتخبرهم بحقيقة وضعهم، فيفتضح أمرهم، وتنكشف أسرارهم141.
والخلاصة أن هذه الآية كشفت عن مدى ما كان يعيش عليه المنافقون من الحذر والخوف.
وقد حذر المنافقين واليهود من الحكم بما أنزل الله.
شارك المنافقون اليهود في البعد من اللجوء إلى الأحكام بما أنزل الله، وكان همهم تخفيف العقوبة عن أنفسهم وليس إنزال القصاص على أنفسهم، قال تعالى في شأنهم: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ) [المائدة: ٤١].
وكان سبب نزول هذه الآيات ما أخرجه الإمام مسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (مُرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محممًا مجلودًا، فدعاهم صلى الله عليه وسلم ، فقال: (هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟)، قالوا: نعم، فدعا رجلًا من علمائهم، فقال: (أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم) قال: لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجده الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف؛ تركناه، وإذا أخذنا الضعيف؛ أقمنا عليه الحد، قلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم، والجلد مكان الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه)، فأمر به فرجم، فأنزل الله عز وجل: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) إلى قوله: (ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) يقول: ائتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم ، فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا)142.
والمعنى: أي: لا تهتم ولا تبال بمسارعة المنافقين في إظهار الكفر، والانحياز إلى جانب الأعداء، كلما سنحت لهم الفرصة؛ فإني ناصرك عليهم، وكافيك شرهم، وليس المراد النهي عن الحزن ذاته؛ لأنه أمر طبعي جبلّي، لا اختيار للإنسان فيه، ولا تكليف به، وإنما المراد النهي عن لوازمه من مقدمات ونتائج من تعظيم شأن الحزن، وتعاطي أسبابه143.
وقد تآمر اليهود مع المنافقين على أن يأخذوا من النبي صلى الله عليه وسلم عقابًا مخففًا عن حكم الله تعالى ، ولكن الله تعالى كشف كيدهم بقوله: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ).
أي: إن أجبتم بمثل ما تهوون؛ فاقبلوه، وإن لم تجابوه؛ فاحذروا قبوله. وإنما قالوا: فاحذروا؛ لأنه يفتح عليهم الطعن في أحكامهم التي مضوا عليها وفي حكامهم الحاكمين بها144.
وفي ترتيب الأمر بالحذر على مجرد عدم إيتاء المحرف، إشارة إلى تخوفهم الشديد من ميل أتباعهم إلى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم يحذرونهم بشدة من الاستماع إلى ما يقوله لهم، مما يخالف ما تواضعوا عليه من أباطيل145.
وهكذا بلغ منهم العبث، وبلغ منهم الاستهتار، وبلغ منهم الالتواء أيضًا في التعامل مع الله والتعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المبلغ.. وهي صورة تمثل أهل كل كتاب حين يطول عليهم الأمد، فتقسو قلوبهم وتبرد فيها حرارة العقيدة، وتنطفئ شعلتها، ويصبح التفصي من هذه العقيدة وشرائعها وتكاليفها هو الهدف الذي يبحث له عن الوسائل ويبحث له عن الفتاوى؛ لعلها تجد مخرجًا وحيلة، أليس الشأن كذلك اليوم بين الذين يقولون: إنهم مسلمون (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ)؟!
أليسوا يتلمسون الفتوى؛ للاحتيال على الدين، لا لتنفيذ الدين؟!
أليسوا يتمسحون بالدين أحيانًا؛ لكي يقر لهم أهواءهم ويوقع بالموافقة عليها؟! فأما إن قال الدين كلمة الحق وحكم الحق فلا حاجة بهم إليه.. (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ)! إنه الحال نفسه. ولعله لهذا كان الله سبحانه يقص قصة بني إسرائيل بهذا الإسهاب وهذا التفصيل؛ لتحذر منها أجيال المسلمين وينتبه الواعون منها لمزالق الطريق146.
ثالثًا: حذر فرعون وهامان وجنودهما:
كان فرعون وهامان قد أخبروا أن هلاكهم على يد رجل من بني إسرائيل، فكانوا من ذلك على وجل منهم؛ ولذلك كان فرعون يذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، فأرى الله فرعون وهامان وجنودهما، من بني إسرائيل على يد موسى بن عمران نبيه، ما كانوا يحذرونه منهم من هلاكهم وخراب منازلهم ودورهم147.
قال تعالى: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) [القصص: ٤- ٦].
قال ابن كثير رحمه الله: «أراد فرعون بحوله وقوته أن ينجو من موسى، فما نفعه ذلك مع قدر الملك العظيم الذي لا يخالف أمره القدري، بل نفذ حكمه، وجرى قلمه في القدم بأن يكون إهلاك فرعون على يديه، بل يكون هذا الغلام الذي احترزت من وجوده، وقتلت بسببه ألوفًا من الولدان، إنما منشؤه ومرباه على فراشك، وفي دارك، وغذاؤه من طعامك، وأنت تربيه وتدللـه وتتفداه، وحتفك، وهلاكك وهلاك جنودك على يديه؛ لتعلم أن رب السموات العلا هو القادر الغالب العظيم، العزيز القوي الشديد المحال، الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن»148.
وهذه قصة تعرض قوة الحكم، قوة فرعون الطاغية المتجبر اليقظ الحذر، وفي مواجهتها موسى طفلًا رضيعًا لا حول له ولا قوة، ولا ملجأ له ولا وقاية، وقد علا فرعون في الأرض، واتخذ أهلها شيعًا، واستضعف بني إسرائيل، يذبّح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، وهو على حذر منهم، وهو قابض على أعناقهم، ولكن قوة فرعون وجبروته، وحذره ويقظته لا تغني عنه شيئًا، بل لا تمكن له من موسى الطفل الصغير، المجرد من كل قوة وحيلة، وهو في حراسة القوة الحقيقية الوحيدة، ترعاه عين العناية، وتدفع عنه السوء، وتعمي عنه العيون، وتتحدى به فرعون وجنده تحديًا سافرًا، فتدفع به إلى جحره، ويقتحم به عليه قلب امرأته، وهو مكتوف اليدين إزاءه، مكفوف الأذى عنه، يصنع بنفسه لنفسه ما يحذره ويخشاه149.
ولما ظهر أمر موسى عليه السلام ، وانتشرت دعوته؛ زاد خوف فرعون وحذره من خروج بني إسرائيل مع موسى، وعدم سيطرته عليهم، ولما أوحى الله تعالى إلى موسى أن يسير ليلًا باتجاه البحر مع قومه، ففعل موسى، وخرج ببني إسرائيل، فلما أصبح فرعون وقومه، وعلم بما صنع بنو إسرائيل؛ غاظه ذلك، وأرسل في مدائن مصر من يجمعوا الجند لملاحقة بني إسرائيل، أعلن التعبئة الكاملة من أجل تدمير هذه القوة المتنامية وإرجاعهم عبيدًا له، وتعذيبهم أشد العذاب، قال تعالى: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ) [الشعراء: ٥٢ - ٥٦].
واستخدم فرعون أسلوب التعبئة المعنوية لتحريض قومه على الخروج معه، فوصف بني إسرائيل بثلاث صفات:
١. (ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ) إن بني إسرائيل لطائفة قليلة؛ فيسهل متابعتهم وأسرهم أو قتلهم أو إعادتهم إلى العبودية.
٢. (ﯸ ﯹ ﯺ) أي: إنهم في كل آونة يغيظوننا ويضايقوننا، بالفتنة والشغب، وقد ذهبوا بأموالنا، وخرجوا عن عبوديتنا، وخالفوا ديننا.
٣. (ﯼ ﯽ ﯾ) أي: وإن جميعنا قوم آخذون حذرنا وأهبتنا ومستعدون بالسلاح، وإني أريد إبادتهم واستئصالهم150.
قال سيد قطب: «نبأ الله موسى بأن فرعون سيتبعهم بجنده، وأمره أن يقود قومه إلى ساحل البحر، وعلم فرعون بخروج بني إسرائيل خلسة، فأمر بما يسمى (التعبئة العامة)، وأرسل في المدائن حاشـرين يجمعون له الجند؛ ليدرك موسى وقومه، ويفسد عليهم تدبيرهم، وهو لا يعلم أنه تدبير صاحب التدبير، وانطلق عملاء فرعون يجمعون الجند... زاعمين أنهم حاذرون، أي: مستيقظون لمكائدهم، ومحتاطون لأمرهم، ممسكون بزمام الأمور، إنها حيرة الباطل المتجبر دائمًا في مواجهة أصحاب العقيدة المؤمنين»151.
«وكلام فرعون هذا- الذي حكاه القرآن عنه- يوحى بهلعه وخوفه مما فعله موسى عليه السلام؛ إلا أنه أراد أن يستر هذا الهلع والجزع بالتهوين من شأنه، ومن شأن الذين خرجوا معه وبتحريض قومه على اللحاق بهم وتأديبهم، وبالظهور بمظهر المستعد هو وقومه؛ لمجابهة الأخطار والتمرد بكل قوة وحزم»152.
أولًا: النجاة من الفتن:
لقد أطلع الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم على الكثير من الفتن التي ستواجه هذه الأمة؛ ولهذا أطال الرسول بالحديث عن الفتن والتحذير منها، وبيان المخرج منها، ففي الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم عن عمرو بن أخطب رضي الله عنه قال (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر. وصعد المنبر؛ فخطبنا حتى حضرت الظهر، فنزل فصلى، ثم صعد المنبر؛ فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى. ثم صعد المنبر؛ فخطبنا حتى غربت الشمس، فأخبرنا بما كان وبما هو كائن، فأعلمنا أحفظنا)153.
ولا سبيل للتخلص من الفتن إلا بالحذر من مخالفة أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى: (ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) [النــور: ٦٣].
أي: عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سبيله هو ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته، فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله، فما وافق ذلك؛ قبل، وما خالفه؛ فهو مردود على قائله وفاعله، كائنًا ما كان، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد)154155.
وقال تعالى: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [المائدة: ٩٢].
إنها القاعدة التي يرجع إليها الأمر كله: طاعة الله وطاعة الرسول الذي لا تبقى معه إلا الطاعة المطلقة لله وللرسول، والحذر من المخالفة (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) وقد بلّغ وبيّن، فتحددت التبعة على المخالفين156.
وقال تعالى: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [آل عمران: ١٣٢].
فطاعة الله وطاعة رسوله، من أسباب حصول الرحمة.
وعندما يعرف الإنسان أهمية أمر النبي صلى الله عليه وسلم يحذر من التعرض للفتنة، ويتقي أسباب الوقوع فيها، قال صلى الله عليه وسلم: (من تشرّف لها تستشرفه)157. أي: من تطلع إليها وتعرض لها؛ أصابته ووقع فيها، ومن كان حذرًا منها؛ نجا من الوقوع فيها ولم تصبه.
ثانيًا: فعل الطاعات والابتعاد عن المنهيات:
الحذر من الله تعالى يحرك دواعي الخوف الكامنة في أعماق النفوس، ويجعل من نفس العبد رقيبًا على نفسه؛ فيمنعها من ارتكاب المحرمات، ويلتزم بأوامر الله تعالى ونهيه؛ فيكون ممن مدحهم الله تعالى بقوله: (ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ) [النجم: ٣٢].
فيلتزم بالواجبات وتقربه إلى الله بالنوافل، مما يجعله قريبًا من الله تعالى وينال محبته، قال تعالى في الحديث القدسي: (من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته)158.
فيعيش في سعادة ولذة لا تضاهيها لذة وهو يناجي ربه، قال تعالى في وصف عباده الحذرين الخائفين: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) [السجدة: ١٦].
والمعنى: أن هؤلاء المؤمنين الصادقين، تتنحى وترتفع أجسامهم، عن أماكن نومهم، وراحتهم، حالة كونهم يدعون ربهم بإخلاص وإنابة؛ خوفًا من سخطه عليهم، وطمعًا في رضاه عنهم159.
وقال تعالى مخبرًا عن حال المؤمن الحذر من عذاب الله: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ) [الزمر: ٩].
أي: أذلك الكافر أحسن حالًا ومآلًا، أم المؤمن بالله، الذي هو مطيع خاشع يصلي الله في ساعات الليل، وخشوعه مستمر حال سجوده وحال قيامه، يخاف الآخرة، ويرجو رحمة ربه، فيجمع بين الخوف والرجاء، وتلك هي العبادة الكاملة، التي يفوز بها صاحبها؟!160.
فإذا علم الإنسان أن الأنفاس تعد عليه، وأن الحفظة الكاتبين يراقبون أعماله، وأنه حيثما حلّ متابع، وأن طريق الهروب من الله مسدود، ولا حيلة له إلا الاستسلام والانقياد والإقبال على طاعة الله، والاستفادة من المهلة الممنوحة له، بادر إلى فعل الطاعات واجتناب المنهيات.
ثالثًا: الاستعداد لمواجهة العدو:
من أهم ثمار الحذر، وأوسعها تأثيرًا على المسلمين: الاستعداد لملاقاة الأعداء، وإعداد العدة من أجل ملاقاتهم، وكلما زادت التجهيزات، وأعداد الجنود؛ قلت خسائر المسلمين.
والحذر في المعركة يكون عن طريق اختيار الموقع المناسب للجيش، وإرسال العيون؛ لمتابعة أخبار العدو والتقصي عن أحوالهم، ويكون أيضًا عن طريق رفع الروح المعنوية لجنود المسلمين، وتشجيع الصناعات العسكرية التي تساعد على النصر، والآيات الدالة على ذلك كثيرة منها قوله تعالى: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [النساء: ٧١].
قال ابن كثير رحمه الله: «يأمر الله عباده المؤمنين بأخذ الحذر من عدوهم، وهذا يستلزم التأهب لهم بإعداد الأسلحة والعدد، وتكثير العدد بالنفير في سبيله»161.
وقال القرطبي: «أمر أهل الطاعة بالقيام بإحياء دينه، وإعلاء دعوته، وأمرهم ألا يقتحموا على عدوهم على جهالة حتى يتحسسوا إلى ما عندهم، ويعلموا كيف يردون عليهم، فذلك أثبت لهم»162.
ومن الآيات الدالة على أهمية الاستعداد ووجوبه قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [النساء: ١٠٢].
قال الشوكاني: «قوله تعالى: (ﭛ ﭜ) [النساء: ١٠٢] زيادة التوصية للطائفة الأخرى بأخذ الحذر مع أخذ السلاح»163.
قال الألوسي: «(ﭛ) أي: الطائفة الأخرى (ﭪ) أي: احترازهم، وشبهه بما يتحصن به من الآلات ولذا أثبت له الأخذ تخييلًا وإلا فهو أمر معنوي لا يتصف بالأخذ»164.
وحكمة الأمر بالحذر للطائفة الثانية: أن العدوّ قلّما يتنبه أول الصلاة؛ لبدء المسلمين فيها، إذ هو إذا رآهم صفًّا؛ ظن أنهم قد اصطفوا للقتال، واستعدوا للحرب والنزال، فإذا رآهم سجدوا علم أنهم في صلاة، فيخشى أن يميل على الطائفة الأخرى عند قيامها في الصلاة كما يتربص ذلك بهم عند كل غفلة.
وقد بين الله تعالى علة الأمر بأخذ الحذر والسلاح حتى في الصلاة بقوله: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ) أي: تمنى أعداؤكم الذين كفروا بالله وبما أنزل عليكم لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم، التي بها بلاغكم في سفركم؛ بأن تشغلكم صلاتكم عنها؛ فيميلون حينئذ عليكم، ويحملون حملة واحدة، وأنتم مشغولون بالصلاة، واضعون السلاح، تاركون حماية المتاع والزاد؛ فيصيبون منكم غرّة؛ فيقتلون من استطاعوا قتله، وينتهبون ما استطاعوا نهبه؛ فلا تغفلوا عنهم165.
وليس في الآية دليل على أن الحذر يتعارض مع القدر؛ لأن الأمر بالحذر داخل في القدر؛ فالأمر به؛ لندفع عنا شر الأعداء، لا لندفع ما قدره الله، إذ القدر: هو جريان الأمور بنظام تأتي فيه الأسباب بإذن الله على قدر المسببات التي أرادها الله، والحذر من جملة الأسباب، فهو عمل بمتقضى القدر لا بما يضاده.
رابعًا: تحقيق المغفرة والرحمة والفوز بالجنة:
من ثمار الحذر المحمود تحقيق المغفرة والرحمة، وذلك أن الأخذ بالأسباب والحذر من العواقب يحقق مغفرة الله ورحمته بالعباد، والله سبحانه وتعالى واسع المغفرة.
وبسبب الحذر تحصل المغفرة والرحمة، قال تعالى: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [البقرة: ٢٣٥].
قال الألوسي: «(ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) من العزم على ما لا يجوز، أو من ذوات الصدور التي من جملتها ذلك (ﮙ) ولا تعزموا عليه أو -احذروه- بالاجتناب عن العزم ابتداء، أو إقلاعًا عنه بعد تحققه (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) يغفر لمن يقلع عن عزمه أو ذنبه خشية منه (ﮟ) لا يعاجل بالعقوبة، فلا يتوهم من تأخيرها أن ما نهي عنه لا يستتبع المؤاخذة، وإعادة العامل اعتناء بشأن الحكم، ولا يخفى ما في الجملة مما يدل على سعة رحمته تبارك اسمه»166.
فهو سبحانه لا يعجل بالعقوبة على من خالف أمره ونهيه167.
قال ابن عطية: هذا تحذير من الوقوع فيما نهى عنه، وتوقيف على غفره وحلمه في هذه الأحكام التي بيّن ووسّع فيها من إباحة التعريض ونحوه168.
ومما يدل على تحقيق المغفرة والرحمة لمن اتقى وحذر من عذاب الله قوله سبحانه: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) [آل عمران: ٢٨-٣١].
وفي هذه الآيات يحذر الله الناس عقابه الصارم إن خالفوا، ويبين أنه رءوف بالعباد إن أطاعوا والتزموا الأوامر واجتنبوا النواهي.
وفي قوله: (ﭪ ﭫ ﭬ) دليل على أن هذا التحذير الشديد مقترن بالرأفة منه سبحانه بعباده لطفًا بهم169.
فليحذر الإنسان يوم القيامة الرهيب، ففيه يجد كل إنسان ما قدمه من عمل خير أو شر، قليل أو كثير، فإن كان العمل خيرًا؛ سرّ صاحبه، وإن كان شرًّا؛ ودّ صاحبه أن يكون بينه وبين عمله بعد ما بين المشرقين.
فالحذر من الله تعالى وخوفه طريق إلى الجنة، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة)170.
وهذا مثل ضربه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لسالك الآخرة؛ فإن الشيطان على طريقه، والنفس وأمانيه الكاذبة أعوانه، فإن تيقظ في مسيره، وأخلص النية في عمله؛ أمن من الشيطان وجنده171.
موضوعات ذات صلة: |
الأمن، التقوى، الجهاد، الحرب، القتال، النصر |
1 مقاييس اللغة، ابن فارس ٢/٣٧.
2 لسان العرب، ابن منظور ٤/١٧٦.
3 الكليات، الكفوي ص٤٠٩.
4 تفسير المنار، محمد رشيد رضا ٥/٢٠٤.
5 مرقاة المفاتيح، الملا على القاري ٨/٣١٦٢.
6 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، ص ١٩٦.
7 انظر: الوجوه والنظائر، الدامغاني، ص١٩١.
8 مقاييس اللغة، ابن فارس، ٢/٢٣٠.
9 المفردات، الراغب الأصفهاني ص ٣٠٣.
10 التعريفات، الجرجاني، ص ١٠١.
11 دليل الفالحين، البكري، ٤/٢٨٣.
12 الفروق اللغوية، العسكري ص ٢٤٠.
13 انظر: الصحاح، الجوهري ٣/٨٧٣، مختار الصحاح، الرازي، ص ٧٠.
14 مجمل اللغة، ابن فارس ص ٢٢٥.
15 التوقيف، المناوي، ص ٤٠.
16 الفروق اللغوية، العسكري ص ٢٤٠.
17 العين، الفراهيدي ٨/٣٨٨.
18 التعريفات، الجرجاني، ص ٣٧.
19 التوقيف، المناوي، ص ٦٣.
20 التفسير الوسيط، طنطاوي ١/٥٤٠.
21 التفسير المنير، الزحيلي ٥/٣٣٠.
22 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٢/٣١.
23 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ١٨٦.
24 التفسير المنير، الزحيلي ٢٠/ ٧٧.
25 في ظلال القرآن، سيد قطب ٤/٢١٤٩.
26 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، ٥/٥٨، رقم ٣٩٠٥.
27 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب من أراد غزوة فورى بغيرها، ومن أحب الخروج يوم الخميس، ٤/٤٨، رقم ٢٩٤٨، ومسلم في صحيحه، كتاب التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، ٤/٢١٢٨، رقم ٢٧٦٩.
28 فيض القدير، المناوي ٥/٩٧.
29 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، ٨/٣١، رقم ٦١٣٣، ومسلم في صحيحه، كتاب الزهد والرقائق، باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، ٤/٢٢٩٥، رقم ٢٩٩٨.
30 شرح السنة، البغوي، ١٣/ ٨٨.
31 التفسير الوسيط، طنطاوي ١/٥٥٥.
32 في ظلال القرآن، سيد قطب، ١/٢٦٤.
33 التفسير المنير، الزحيلي ١٠/٢٨٩.
34 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٨/١٩٥.
35 المصدر السابق ٨/١٩٦.
36 جامع البيان، الطبري ٦/٣١٣.
37 أي: يألفونهم ويوالونهم.
38 انظر: أسباب النزول، الواحدي ص ١٠٢.
39 في ظلال القرآن، سيد قطب، ١/٣٨٦.
40 تفسير المراغي ٣/١٣٨.
41 التفسير الوسيط، طنطاوي ٢/ ٧٦.
42 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٢/٣١.
43 مفاتيح الغيب، الرازي ٨/١٩٥.
44 في ظلال القرآن، سيد قطب، ١/٣٨٦.
45 البحر المحيط، أبو حيان، ٣/١٠٢.
46 إغاثة اللهفان، ابن القيم ٢/١٧٥.
47 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ١٢٧.
48 التفسير القرآني للقرآن، عبدالكريم الخطيب، ١/٢٨٣.
49 جامع البيان، الطبري ٥/١١٧.
50 تفسير المراغي، ٢/١٩٥.
51 روح المعاني، الألوسي ١/٥٤٥.
52 في ظلال القرآن، سيد قطب ١/٢٥٦.
53 التفسير القيم، ابن القيم ص ١٥٠.
54 التفسير المنير، الزحيلي ٢/٣٧٩.
55 المصدر السابق ٢/٣٨٢.
56 أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره، ٨/٢٦٥٦، رقم ١٤٩٣٤.
57 معالم التنزيل، البغوي، ٣/٤٣٣.
58 التفسير المنير، الزحيلي ١٨/٣١٦.
59 روح المعاني، الألوسي ٩/٤١٤.
60 تفسير المراغي ١٨/١٤١-١٤٢.
61 في ظلال القرآن، سيد قطب ٤/٢٥٣٥.
62 التفسير القرآني للقرآن، عبدالكريم الخطيب ٩/١٣٣٤.
63 التفسير الحديث، محمد عزت دروزة، ٨/٤٥٤.
64 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٢/٣٢٢.
65 أخرجه محمد بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة، ٢/٦٦٤، رقم ٧٢٠.
66 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل، ٦/٤٥٦.
67 جامع البيان، الطبري ١٧/٤٧١.
68 أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله تعالى: (قل ادعوا الذين زعمتهم من دونه)، ٦/٨٥، رقم ٤٧١٤.
69 النكت والعيون، الماوردي ٣/٢٥٠.
70 التفسير الوسيط، الزحيلي ٢/١٣٦١.
71 التفسير الوسيط، طنطاوي ٨/٣٧٧.
72 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٥/٨٩.
73 إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٥/١٧٩.
74 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: (في لوح محفوظ)، ٩/١٦٠، رقم ٧٥٥٣، ومسلم في صحيحه، كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه، ٤/٢١٠٨، رقم ٢٧٥١.
75 روح المعاني، الألوسي ٨/٩٥.
76 أيسر التفاسير، الجزائري ٣/ ٢٠٨.
77 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٧٢٠.
78 في ظلال القرآن، سيد قطب، ٥/٣٠٤٢.
79 أسباب النزول ص ١٩٨.
80 التفسير الوسيط، طنطاوي ٤/١٨٥.
81 مدارك التنزيل، النسفي ١/٤٥٢.
82 في ظلال القرآن، سيد قطب، ٢/٩٠٤.
83 التفسير المنير، الزحيلي ٦/٢٢١.
84 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٤٤.
85 نظم الدرر، البقاعي ١/١٢٢.
86 انظر: في ظلال القرآن ١/٤٦.
87 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٩٥١.
88 التحرير والتنوير، ٢/٤٧٧.
89 تفسير المراغي ٢/٢٠٧.
90 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ١٠٧.
91 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ١٨٦.
92 أحكام القرآن، ابن العربي، ١/٥٨١.
93 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٥/ ١١٧.
94 في ظلال القرآن ٢/٧٠٥.
95 التفسير الوسيط، الزحيلي ١/٣٤٤.
96 أسباب النزول ص ١٨٠.
97 التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي ١/ ٢٧٩.
98 الكشاف، الزمخشري ١/٥٦٠.
99 مفاتيح الغيب، الرازي ١١/٢٠٦.
100 في ظلال القرآن، سيد قطب، ٢/٧٤٨.
101 التفسير الواضح، الحجازي ١/٤٢٢.
102 أنوار التنزيل، البيضاوي ٢/٩٤.
103 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ٤/١٨٥٤، رقم ٢٣٨١.
104 التفسير القرآني للقرآن، عبدالكريم الخطيب، ٤/٢١- ٢٢.
105 أسباب النزول ص ٢٠٧.
والحديث أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب في فضل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، ٤/١٨٧٧، رقم ١٧٤٨.
106 أخرجه النسائي، كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر قال الله تبارك وتعالى: (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكما العداوة والبغضاء في الخمر والميسر)، ٨/٢٨٦، رقم ٥٥٤٠.
107 التفسير المنير، الزحيلي، ٧/٤٦
108 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٢٤٣.
109 التفسير الوسيط، طنطاوي ٤/٢٧٩.
110 التحرير والتنوير، ابن عاشور، ٧/٣٠.
111 لباب التأويل، الخازن ٢/٧٦.
112 التفسير المنير، الزحيلي ٢٨/ ٢١٧.
113 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٨٦٤.
114 التفسير الوسيط، الواحدي ٤/٣٠٣.
115 في ظلال القرآن، ٦/٣٥٧٤.
116 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٨/١٢٦.
117 أضواء البيان، الشنقيطي ٨/١٩٢.
118 روح المعاني، الألوسي ١٤/٣٠٦.
119 التفسير الوسيط، الزحيلي ٣/٢٦٧٥.
120 أسباب النزول ص ٤٣٤.
وأخرجه الترمذي، أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة التغابن ٥/٤١٩، رقم ٣٣١٧.
121 جامع البيان، الطبري ٢٣/٤٢٤.
122 أحكام القرآن، ابن العربي ٤/٢٦٤.
123 انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب، ٦/٣٥٨٩.
124 زاد المسير، ابن الجوزي ٤/٢٩٤.
125 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٨٦٨.
126 أسباب النزول، الواحدي، ص ٢٦٣.
127 إعراب القرآن، النحاس ٢/١٣٧.
128 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ١٠/ ٢٣٩.
129 جامع البيان، ١٤/٥٧٣.
130 في ظلال القرآن، ٣/١٧٣٤.
131 فتح القدير، الشوكاني ٢/٤٧٤.
132 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١١/٦٢.
133 فتح القدير، الشوكاني ٢/٤٧٤.
134 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٦/٥٢٢.
135 روح البيان، إسماعيل حقي ٣/٥٣٥.
136 التفسير المظهري ٤/٣٢٥.
137 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٣٥٥.
138 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٨/١٢٤.
139 جامع البيان، الطبري ١٤/٣٣١.
140 أسباب النزول ص ٢٥٠.
141 التفسير المنير، الزحيلي ١٠/٢٨٩.
142 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنى، ٣/١٣٢٧، رقم ١٧٠٠.
143 التفسير المنير، الزحيلي ٦/١٩٥.
144 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٦/٢٠٠.
145 التفسير الوسيط، طنطاوي ٤/١٥٧.
146 في ظلال القرآن، سيد قطب، ٢/٨٩٢.
147 جامع البيان، الطبري ١٩/٥١٨.
148 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٦/ ٢٢١.
149 في ظلال القرآن، سيد قطب، ٥/٢٦٧٤.
150 التفسير المنير، الزحيلي، ١٩/١٥٨.
151 في ظلال القرآن، سيد قطب، ٥/٢٥٩٨.
152 التفسير الوسيط، طنطاوي، ١٠/٢٥٠.
153 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب إخبار النبي صلى الله عليه وسلم فيما يكون إلى قيام الساعة، ٤/٢٢١٧، رقم ٢٨٩٢.
154 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور، ٣/١٣٤٣، رقم ١٧١٨.
155 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٦/٨٩-٩٠.
156 في ظلال القرآن، سيد قطب، ٢/٩٧٦.
157 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الفتن، باب تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم ٩/٥١، رقم ٧٠٨١، ومسلم في صحيحه، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب نزول الفتن كمواقع القطر، ٤/٢٢١١، رقم ٢٨٨٦.
158 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب التواضع، ٨/١٠٥، رقم ٦٥٠٢.
159 التفسير الوسيط، طنطاوي ١١/١٥١.
160 التفسير المنير، الزحيلي ٢٣/٢٥٨.
161 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٢/٣٥٧.
162 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٥/٢٧٣.
163 فتح القدير، الشوكاني ١/٥٨٧.
164 روح المعاني، الألوسي ٣/١٣١.
165 تفسير المراغي ٥/١٤١.
166 روح المعاني، الألوسي ١/٥٤٥.
167 معالم التنزيل، البغوي، ١/٣١٩.
168 المحرر الوجيز، ابن عطية ١/ ٣١٨.
169 فتح القدير، الشوكاني ١/٣٨١.
170 أخرجه الترمذي، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع، ٤/٦٣٣، رقم ٢٤٥٠.
171 مرقاة المفاتيح، الملا علي القاري ٨/٣٣٥١.