عناصر الموضوع

مفهوم الجن

الجن في الاستعمال القرآني

الألفاظ ذات الصلة

خلق الجان وقدراتهم وأصنافهم

الإيمان بالجن

إيمان الجن

الجن

مفهوم الجن

أولًا: المعنى اللغوي:

الجنّ بالكسر: اسم جنس جمعي، واحده جنّيّ، وهو مأخوذ من الاجتنان، وهو التستر والاستخفاء. وقد سمّوا بذلك لاجتنانهم من الناس فلا يرون، والجمع جنان، وهم الجنة.

ومنه المجن بالكسر: وهو الترس؛ لأن المقاتل يستتر به من الرامي والطاعن وغير ذلك. وكل شيء وقيت به نفسك واستترت به، فهو جنّة. ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (والصيام جنّة)1. أي: وقاية؛ لأنه يقي صاحبه من المعاصي.

وعلى هذا فهم ضد الإنس؛ لأن الإنس سمي بذلك؛ لظهوره، وإدراك البصر إياه، فيقال: آنست الشيء: إذا أبصرته.

ويقال: لا جنّ بهذا الأمر: أي: لا خفاء به، ولا ستر.

قال الجوهري: الجنّ: خلاف الإنس، والواحد جنّيٌّ. يقال: سمّيت بذلك لأنّها تتّقى ولا ترى. وجنّ الرجل جنونًا، وأجّنّه الله، فهو مجنونٌ2.

ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:

عرّف مصطلح الجنّ خلق كثيرون، ومما ينبغي ذكره في هذا المقام هو ما ينسجم مع طبيعة الدراسة القرآنية، ومن هذه التعريفات:

ما ذكره البيضاوي بأنه: «أجسام عاقلة خفية، تغلب عليهم النارية أو الهوائية»3.

وعرّفه الكفوي بأنه: «حيوانات هوائية تتشكل بأشكال مختلفة»4.

وبالنظر إلى هذين التعريفين وغيرهما يمكن القول: إن مصطلح الجن هو: نوع من الأرواح العاقلة المريدة، المكلّفة على نحو ما عليه الإنسان، مجرّدون عن المادة، مستترون عن الحواس، لا يرون على طبيعتهم، ولا بصورتهم الحقيقية، ولهم قدرة على التشكل، يأكلون، ويشربون، ويتناكحون، ولهم ذرية، محاسبون على أعمالهم في الآخرة.

وهذا التعريف يعطي الصفات البارزة لهذا العالم الذي نجهل الكثير عن طبيعة حياته؛ لأنه غائب عن حواسنا، ومن ثمّ فإن الجن خلقٌ يغاير طبيعة البشر من حيث الشكل، وأصل المادة التي خلقوا منها؛ إذ إنهم مخلوقون من النار، بعكس الإنسان الذي خلق من الطين، قال تعالى: ( ) [الرحمن: ١٤-١٥].

وكذلك فإن هذا المخلوق له حياته الخاصة من حيث الطعام والشراب، يختلف فيها عن الإنسان، وغير ذلك مما يختص به من الصفات5.

والمعنى الاصطلاحي مأخوذ من المعنى اللغوي إلا أن فيه زيادة تفصيل.

الجن في الاستعمال القرآني

ورد الجذر (ج ن ن) في القرآن (٢٠١) مرة، والذي يخص موضوع (الجن) منها (٣٤) مرة6.

والصيغ التي وردت هي:

الصيغة

عدد المرات

المثال

الاسم الجنس

٢٢

( ) [الأعراف: ١٧٩]

الجمع

٥

( ) [الصافات: ١٥٨]

اسم الفاعل

٧

( ) [الرحمن: ١٥]

وجاء الجن في الاستعمال القرآني بمعنى الأرواح المستترة عن الحواس7.

الألفاظ ذات الصلة

الشيطان:

الشيطان لغةً:

اختلف في اشتقاقه، قيل: إن النون في لفظ الشيطان أصلية، وهو من شطن، الشين والطاء والنون أصل مطرد صحيح يدل على البعد8، وسمي الشيطان بذلك؛ لبعده عن أمر ربه.

وذهب آخرون من أهل اللّغة: إلى النون في لفظ الشيطان زائدة، واشتقاقه من شاط يشيط وتشيّط، وشاط الشيء شيطًا وشياطة وشيطوطة: احترق9، وهذا المعنى كذلك يتناسب مع الشيطان، فالشيطان يحترق ويهلك إذا سمع صوت الحق.

الشيطان اصطلاحًا:

هو الشديد البعد عن محل الخير من إنس، أو جن، أو دابّة10.

الصلة بين الشيطان والجن:

من خلال التعريفين اللغوي والاصطلاحي للشيطان تبين أن الجن أعم وأشمل منه باعتبار جنسه؛ فالشيطان هو ما تمرّد وبعد عن أيّ محل للخير منه ومن غيره، وإن كانت الأذهان تصرف من الوهلة الأولى إلى الجن إذا ذكرت الشياطين.

الغاسق:

الغاسق لغةً:

الأسود من الحيّات، وهو إبليس11.

الغاسق اصطلاحًا:

هو رأس الشياطين إبليس، أو هو صنف من أصناف الجن، وهو الأسود من الحيّات.

الصلة بين الغاسق والجن:

من خلال التعريفين اللغوي والاصطلاحي للغاسق تبين أن الجن أعم وأشمل من الغاسق؛ إذ إنه يدل على رأس الشياطين الذين هم جزء من الجن أصلًا، وفي المعنى الآخر فإنه يدل على نوع من الأنواع وهو الأسود من الحيّات.

الملائكة:

الملائكة لغةً:

«الملك: واحد الملائكة، قال ابن فارس: «الهمزة واللام والكاف أصل واحد، وهو تحمّل الرسالة»12، ومنه الألوكة والمألكة والألوك13.

الملائكة اصطلاحًا:

هي أجسام نورانية خلقت من النور، لا يأكلون، ولا يشربون، ولا يتزوجون، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون.

الصلة بين الملائكة والجن:

الملائكة معصومون عن الزلل، والجن كالإنس من حيث الشهوة وأصنافهم؛ ومن ثمّ فإن الملائكة -وإن كانت مثل الجن من حيث الخفاء-، إلا أنهم أرقى المخلوقات، من حيث فضلهم وطاعتهم.

الإنس:

الإنس لغةً:

مادة (أ ن س) تدور في اللّغة حول معنيين رئيسين هما: الظّهور والنّسيان14.

الإنس اصطلاحًا:

هم كل حيوان ناطق يرى شكله، ولا يستطيع أن يرى الجن ولا الملائكة.

وقال الجرجانيّ: الإنسان هو الحيوان النّاطق15. فالحي والحيوان لوجود الرّوح فيه، والنّطق بكلامٍ مرتّبٍ لا بدّ له من آلة العقل، وهو من البدن وله تعلق بالروح.

الصلة بين الإنس والجن:

الإنس يراهم الجن، والجن لا يراه الإنس، وكلاهما عالم مختلف، في طبعه وشهواته، وطريقة أكله وشربه.

خلق الجان وقدراتهم وأصنافهم

تحدث القرآن الكريم عن خلق الجن، وقدراتهم التي وهبهم الله إياها، وعن أصنافهم، وهذا ما سنبيّنه فيما يأتي:

أولًا: خلق الجان وصفاتهم:

فلقد أخبرنا القرآن الكريم والسنة النبوية بذكر المادة التي خلق منها الجن، فقد ورد في القرآن قوله تعالى: ( ) [الحجر: ٢٧]؛ فعطف جملة: ( ) فيه إدماج وتمهيد إلى بيان نشأة العداوة بين آدم وجند إبليس، وأكّدت جملة: ( ) بصيغة الاشتغال، التي هي تقوية للفعل بتقدير نظير المحذوف، ولما فيها من الاهتمام بالإجمال، ثم التفصيل لمثل الغرض الذي أكّدت به جملة: ( ).. إلخ.

وفائدة قوله: ( ) تعليم أن خلق الجان أسبق؛ لأنه مخلوق من عنصر الحرارة أسبق من الرطوبة و () بفتح السين: الريح الحارة. فالجن مخلوق من النارية والهوائية؛ ليحصل الاعتدال في الحرارة؛ فيقبل الحياة الخاصة اللائقة بخلقة الجن، فكما كوّن الله الحمأة الصلصال المسنون لخلق الإنسان، كوّن ريحًا حارة، وجعل منها الجن، فهو مكوّن من حرارة زائدة على مقدار حرارة الإنسان، ومن تهوية قوية، والحكمة كلها في إتقان المزج والتركيب16.

هذا وقد ورد أيضًا ذكر المادة التي خلق منها الجان في مقابل الحديث عن خلق الإنسان من الطين، في قوله: ( ) [الرحمن: ١٤- ١٥].

وغير ذلك من الآيات التي تتحدث عن إباء إبليس عن السجود لآدم عليه السلام ، كقوله تعالى: ( ﭗﭘ ) [الأعراف: ١٢]17.

ثانيًا: قدرات الجن:

قد أخبر القرآن الكريم بأن الله عز وجل منح الجنّ قدرات خاصة، لم يمنحها للإنس جميعًا.

ويمكن تقسيم قدرات الجن إلى:

١. قدرات خاصة قد منحها الله عز وجل لهم.

ومن هذه القدرات سرعة التنقل الفائق، والقوة العظيمة التي تدل على عظمة الخالق سبحانه ، كما جاء في قصة سليمان عليه السلام ، عندما أراد أن يثبت لملكة سبأ عظم ما أعطاه الله عز وجل من نعم عظيمة، وآلاء جليلة، قال تعالى: ( ﭿ ﮆﮇ ﮋﮌ ﮚﮛ ﮨﮩ ﮮﮯ ) [النمل: ٣٨ - ٤٠].

قال سليمان عليه السلام مخاطبًا من سخّرهم الله له من الجن والإنس: أيّكم يأتيني بسرير ملكها العظيم قبل أن يأتوني منقادين طائعين؟

قال مارد قويٌّ شديد من الجن: أنا آتيك به قبل أن تقوم من مجلسك هذا، وإني لقويٌّ على حمله، أمين على ما فيه، آتي به كما هو لا أنقص منه شيئًا ولا أبدله.

قال الذي عنده علم من الكتاب: أنا آتيك بهذا العرش قبل ارتداد أجفانك إذا تحرّكت للنظر في شيء، فأذن له سليمان فدعا الله، فأتى بالعرش18.

ومن تلك القدرات أن الجن يستطيعون التحليق في الفضاء الخارجي.

وكانوا يستمعون إلى السماء، وينقلون أخبارها إلى الكهنة بعد إضافة كثير من الأكاذيب إليها، فلما بعث الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم حرست السماء بالشهب والملائكة، يقول الله عز وجل على لسان أحد الجن: ( ﮫﮬ ) [الجن: ٨-٩].

وأنّا -معشر الجن- طلبنا بلوغ السماء؛ لاستماع كلام أهلها، فوجدناها ملئت بالملائكة الكثيرين الذين يحرسونها، وبالشهب المحرقة التي يرمى بها من يقترب منها.

وأنّا كنا قبل ذلك نتخذ من السماء مواضع؛ لنستمع إلى أخبارها، فمن يحاول الآن استراق السمع، يجد له شهابًا بالمرصاد يحرقه ويهلكه.

وعن عائشة رضي الله عنها زوج النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنّ الملائكة تنزل في العنان -وهو السّحاب- فتذكر الأمر قضي في السّماء، فتسترق الشّياطين السّمع فتسمعه، فتوحيه إلى الكهّان، فيكذبون معها مائة كذبةٍ من عند أنفسهم)19.

ومن تلك القدرات أن الجن قد سخّرهم الله تعالى لسليمان عليه السلام يغوصون في البحر، ويستخرجون له من خيراته، ويبنون له القصور الشامخات، وقد جعلهم الله عز وجل من جنود سليمان عليه السلام ، قال تعالى: ( ﮋﮌ) [النمل: ١٧].

وجمع لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير في مسيرة لهم، فهم على كثرتهم لم يكونوا مهملين، بل كان على كل جنس من يردّ أولهم على آخرهم؛ كي يقفوا جميعًا منتظمين20.

وقال تعالى: ( ﯖﯗ ﯬﯭ) [سبأ: ١٢-١٣].

وسخّرنا لسليمان الريح تجري من أول النهار إلى انتصافه مسيرة شهر، ومن منتصف النهار إلى الليل مسيرة شهر بالسير المعتاد، وأسلنا له النحاس كما يسيل الماء، يعمل به ما يشاء، وسخّرنا له من الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه، ومن يعدل منهم عن أمرنا الذي أمرناه به من طاعة سليمان نذقه من عذاب النار المستعرة.

يعمل الجن لسليمان ما يشاء من مساجد للعبادة، وصور من نحاس وزجاج، وقصاع كبيرة كالأحواض التي يجتمع فيها الماء، وقدور ثابتات لا تتحرك من أماكنها لعظمهن21.

وقال تعالى: ( ﭙﭚ ) [الأنبياء: ٨٢].

وسخّرنا لسليمان من الشياطين شياطين يستخدمهم فيما يعجز عنه غيرهم، فكانوا يغوصون في البحر يستخرجون له اللآلئ والجواهر، وكانوا يعملون كذلك في صناعة ما يريده منهم، لا يقدرون على الامتناع مما يريده منهم، حفظهم الله له بقوته وعزه سبحانه وتعالى .

٢. قدرات على التشكيل.

وقد اختلف، هل الجن يتشكّلون بالصور المختلفة؟

فذهب قوم إلى أنه ليس للجن قدرة على تغيير خلقهم، وهو مروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وبه قال القاضي أبو يعلى.

وروي عن عمر أنه قال: إن أحدًا لا يستطيع أن يتغير عن صورته التي خلقه الله تعالى عليها، ولكن لهم سحرة كسحرتكم، فإذا رأيتم ذلك فأذّنوا22.

هذا ومن خصائص الجن، أنهم يرون الإنس ولا يراهم الإنس، قال الله تعالى: ( ﮡﮢ) [الأعراف: ٢٧].

وقال القاضي أبو يعلى: لا قدرة للشياطين على تغيير خلقهم والانتقال في الصور، وإنما يجوز أن يعلّمهم الله تعالى كلمات وضروبًا من الأفعال، إذا فعله وتكلم به، نقله الله تعالى من صورة إلى صورة.

والقول الثاني: وهو قول الجمهور، وهو الصحيح أن للجن قدرة على التشكيل، وتغيير خلقتهم.

قال ابن تيمية: «والجن يتصوّرون في صور الإنس والبهائم، فيتصوّرون في صور الحيات والعقارب وغيرها، وفي صور الإبل والبقر والغنم والخيل والبغال والحمير، وفي صور الطير، وفي صور بني آدم»23.

ولا يمنع خلقهم من النار تشكّلهم في الصور المختلفة، وقد حكى ابن حجر الهيتمي عن الباقلاني أنه قال: «لسنا ننكر -مع كون أصلهم النار- أن الله تعالى يكثّف أجسامهم ويغلّظها، ويخلق لهم أغراضًا تزيد على ما في النار؛ فيخرجون عن كونهم نارًا، ويخلق لهم صورًا وأشكالًا مختلفة»24.

قال بدر الدين الشبلي: «للجن القدرة على التطور والتشكل في صور الإنس والبهائم، فيتصوّرون في صور الحيات والعقارب، وفي صور الإبل والبقر والغنم والخيل والبغال والحمير، وفي صور الطير، وفي صور بني آدم، كما أتى الشيطان قريشًا في صورة سراقة بن مالك بن جعشم؛ لما أرادوا الخروج إلى بدر»25.

قال الله تعالى: ( ﭿ ﮂﮃ ﮕﮖ ) [الأنفال: ٤٨].

وكما روي أنه تصوّر في صورة شيخ نجدي لما اجتمعوا بدار الندوة للتشاور في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم هل يقتلونه، أو يحبسونه، أو يخرجونه؟26، وورد عن أبي سعيد الخدري يرفعه (أن بالمدينة نفرًا من الجن قد أسلموا، فمن رأى شيئًا من هذه العوامر، فليؤذنه ثلاثًا، فإن بدا له بعد فليقتله، فإنه شيطان)27.

الأدلة على تشكّل الجن ورؤيتهم:

أما من القرآن فقوله تعالى: ( ﭿ ﮂﮃ ﮕﮖ ) [الأنفال: ٤٨].

عن ابن عباس قال: «جاء إبليس يوم بدر في جند من الشيطان، معه رايته، في صورة رجل من بني مدلج، في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، فقال الشيطان للمشركين: ( ﭿ ﮂﮃ) [الأنفال: ٤٨].

فلما اصطف الناس، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب، فرمى بها في وجوه المشركين، فولوا مدبرين، وأقبل جبريل إلى إبليس، فلما رآه -وكانت يده في يد رجل من المشركين- انتزع إبليس يده، فولى مدبرًا هو وشيعته، فقال الرجل: يا سراقة: تزعم أنك جار لنا؟ قال: ( ﮕﮖ ) [الأنفال: ٤٨].

وذلك حين رأى الملائكة»28.

وقد ورد من السنة ما يدل على ذلك:

  1. عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن عفريتًا من الجن جعل يفتك عليّ البارحة؛ ليقطع عليّ الصلاة، وأن الله أمكنني منه فذعته29، فلقد هممت أن أربطه إلى جنب سارية من سواري المسجد؛ حتى تنظرون إليه أجمعون -أوكلكم- ثم ذكرت قول أخي سليمان: ( ﯗﯘ) [ص: ٣٥فردّه الله خاسئًا)30.
  2. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (وكّلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آتٍ، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني محتاج، وعلي عيال، ولي حاجة شديدة، قال: فخلّيت عنه، فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟) قال: قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالًا فرحمته، فخلّيت سبيله، فقال: (أما إنه قد كذبك، وسيعود) فعرفت أنه سيعود؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه سيعود)، فرصدته؛ فجاء يحثو من الطعام؛ فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: دعني فإني محتاج، وعلي عيال، لا أعود، فرحمته، فخلّيت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا هريرة ما فعل أسيرك؟) قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالًا، فرحمته، فخليت سبيله، قال: (أما إنه قد كذبك وسيعود)، فرصدته الثالثة؛ فجاء يحثو من الطعام؛ فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله، وهذا آخر ثلاث مرات، أنك تزعم لا تعود، ثم تعود قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما هو؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي ( ﮩﮪ) [البقرة: ٢٥٥]. حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح، فخلّيت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما فعل أسيرك البارحة؟) قلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها، فخلّيت سبيله، قال: (ما هي؟) قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية ( ﮩﮪ) [البقرة: ٢٥٥]. وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح -وكانوا أحرص شيء على الخير-، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟) قال: لا، قال: (ذاك شيطان)31.

    وقد يظهر الشيطان لبعض الناس في صورة بعض الأموات، وأكبر ما يقع ذلك من المشركين، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «وقد وقع هذا كثيرًا، حتى إنه يتصور لمن يعظّم شخصًا في صورته، فإذا استغاث به فيظن ذلك الشخص أنه شيخه الميت».

    ويقول أيضًا: «وكذلك يأتي كثيرًا من الناس في مواضع ويقول إنه الخضر، وإنما كان جنيًّا من الجن»32.

    ثالثًا: تكليف الجن:

    قد وردت آيات كثيرة في القرآن تدل على تكليف الجن، منها:

    • قوله تعالى: ( ﭿ ) [الذاريات: ٥٦ - ٥٧].

      فالآية صريحة في أن الله قد خلق الجن والإنس للعبادة، وعلى هذا وردت أقوال العلماء:

      قال ابن عباس: «( ) أي: إلا ليقرّوا بعبادتي طوعًا أوكرهًا»، وهذا اختيار ابن جرير الطبري33.

      وورد عن علي بن أبي طالب، وابن جريج، والربيع بن أنس أن معنى قوله تعالى: ( ) أي: إلا لآمرهم بالعبادة، وهو اختيار الزجاج34.

    • قال تعالى: ( ﭗﭘ ﭧﭨ ﭭﭮ ) [الأعراف: ١٧٩].

      أي: ولقد خلقنا للنار -التي يعذّب الله فيها من يستحق العذاب في الآخرة- كثيرًا من الجن والإنس، لهم قلوب لا يعقلون بها، فلا يرجون ثوابًا ولا يخافون عقابًا، ولهم أعين لا ينظرون بها إلى آيات الله وأدلته، ولهم آذان لا يسمعون بها آيات كتاب الله فيتفكروا فيها، هؤلاء كالبهائم التي لا تفقه ما يقال لها، ولا تفهم ما تبصره، ولا تعقل بقلوبها الخير والشر؛ فتميز بينهما، بل هم أضل منها؛ لأن البهائم تبصر منافعها ومضارها، وتتبع راعيها، وهم بخلاف ذلك، أولئك هم الغافلون عن الإيمان بالله وطاعته35.

    • قال تعالى: ( ﭜﭝ ﭿ ) [الأحقاف: ٢٩ - ٣١].

      فقد أخبر القرآن الكريم أن الله قد صرف الجن إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ؛ من أجل استماع القرآن منه.

      قال ابن القيم: «وقوله تعالى: ( ) [الأحقاف: ٢٩الآية تدل على تكليف الجن من وجوه كثيرة:

      أحدها: أن الله سبحانه وتعالى صرفهم إلى رسوله؛ يستمعون القرآن؛ ليؤمنوا به، ويأتمروا بأوامره، وينتهوا عن نواهيه.

      الثاني: أنهم ولّوا إلى قومهم منذرين، والإنذار: هو الإعلام بالخوف بعد انعقاد أسبابه، فعلم أنهم منذرون لهم بالنار إن عصوا الرسول.

      الثالث: أنهم أخبروا أنهم سمعوا القرآن، وعقلوه، وفهموه، وأنه يهدي إلى الحق، وهذا القول منهم يدل على أنهم عالمون بموسى، وبالكتاب المنزل عليه، وأن القرآن مصدّق له، وأنه هادٍ إلى صراط مستقيم، وهذا يدل على تمكينهم من العلم الذي تقوم به الحجة، وهم قادرون على امتثال ما فيه، والتكليف إنما يستلزم العقل والقدرة.

      الرابع: إنهم قالوا لقومهم: ( ) [الأحقاف: ٣١].

      وهذا صريح في أنهم مكلفون مأمورون بإجابة الرسول، وهي تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر36.

    • قوله تعالى في سورة الجن: ( ﭣﭤ ﭿ ﮫﮬ ﯩﯪ ﯿ ﰀﰁ ﭕﭖ ) [الجن: ١- ١٥].

      وقد جاءت هذه الآيات إخبارًا للرسول عليه الصلاة والسلام باستماع نفر من الجن إليه وهو يقرأ القرآن بأصحابه، وذلك بعد أن منع الجن من استراق أخبار السماء، فعرفوا أن هذا المنع ما حصل إلا لشيء قد حدث في الأرض، فجابوا الأرض، فكان النفر الذين أخذوا نحو تهامة في بلاد الحجاز قد مروا على الرسول عليه السلام وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن، استمعوا له وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فرجعوا إلى قومهم منذرين، فأنزل الله تعالى إلى نبيه: ( ) [الجن: ١]37 الآية، ولم يكن يعلم باستماعهم إليه على الراجح من الروايات في ذلك، وظاهر القرآن يدل عليه.

      وقد دلت هذه الآيات على إيمانهم بالقرآن، وأخذهم عهدًا على أنفسهم أن لا يشركوا بالله، وذلك في قوله تعالى عنهم: ( ﭣﭤ ) [الجن: ١ - ٢ ]

      وقوله عنهم: ( ﯿ ) [الجن: ١٣].

      ففي إيمانهم بالقرآن، ووصفهم له بأنه يهدي إلى الرشد، وعدم إشراكهم بالله دلالة على أنهم مكلفون، وكذلك مسارعتهم لاستماعه، وذلك في قوله تعالى: ( ) [الجن: ١٩].

      أي: لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ربه ويقرأ القرآن اجتمع الجن عليه متلبدين متراكمين؛ حرصًا على ما جاء به من الهدى38.

      فقد كانوا فرحين حريصين متأملين عند سماعهم للقرآن، وفي هذا دلالة على كمال عقولهم، وهو يقتضي التكليف، وقد وردت آيات كثيرة تخاطب العقل كقوله تعالى: ( )، وقوله: ( )، وقوله: ( ) [الحشر: ٢].

      وفي هذا دلالة على توجه الخطاب للعاقل، وقد تقدم أن الجن مخلوقات عاقلة مريدة مختارة، عندها القدرة على التمييز بين الحق والباطل.

    • قوله تعالى: ( ﯦﯧ)[الأنعام: ١٣٠].

      ففي تلك الآية ما يتضمن بالتصريح بإرسال رسل إليهم، وفي الآية خطاب للجن والإنس يوم القيامة، وهذا الخطاب فيه تقرير من الله في أنه قد بعث رسلًا إلى الجن والإنس حيث يسألهم وهو أعلم: هل بلغتهم الرسل رسالاته؟39.

      وبذلك يزول العذر، وتنقطع الحجة لأي واحد من الجن والإنس؛ إذ بعث الله رسلًا يوضّحون الطريق، ويأمرون بعبادة الله، وينهون عن معصيته، ولا شك أن أمر الرسل ونهيهم للجن والإنس هو محض التكليف.

      قال ابن القيم: «وهذه الآية تدل على أن الجن كانوا متعبدين بشرائع الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم ، لكن دعوة أولئك الرسل كانت مقصورة على بعض الإنس والجن، أما رسالة نبينا عليه الصلاة والسلام فهي عامة لجميع الجن والإنس» 40.

      وغير ذلك من الآيات التي تدل على تكليف الجن.

      هل في الجن أنبياء ورسل؟

      ومما يتبع مسألة تكليف الجن هي مسألة هل بعث إلى الجن رسل منهم، أم أن الرسل المبعوثين إليهم من الإنس فقط؟

      اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين، وسبب الخلاف بين أهل العلم في تلك المسألة هو راجع إلى اختلافهم في فهم بعض نصوص القرآن.

      القول الأول: أن رسل الجن هم من البشر، ولم يبعث إلى الجن رسول منهم، وهو رأي الجمهور من العلماء41.

      واستدل الجمهور بقوله تعالى: ( ﯦﯧ ﯫﯬ) [الأنعام: ١٣٠].

      قال القرطبي في تفسير هذه الآية: «ولما كانت الجن ممن يخاطب ويعقل قال: () وإن كانت الرسل من الإنس، وغلب الإنس في الخطاب، كما يغلب المذكر على المؤنث، وفي التنزيل: ( ) [الرحمن: ٢٢].

      أي من أحدهما، وإنما يخرج من الملح دون العذاب، فكذلك الرسل من الإنس دون الجن، فمعنى: () أي: من أحدكم، وكان هذا جائزًا؛ لأن ذكرها سبق. وقيل: إنما صير الرسل في مخرج اللفظ من الجميع؛ لأن الثقلين قد ضمتهما عرصة القيامة، والحساب عليهم دون الخلق، فلما صاروا في تلك العرصة في حساب واحد، في شأن الثواب والعقاب؛ خوطبوا يومئذٍ بمخاطبة واحدة، كأنهم جماعة واحدة؛ لأن بدء خلقهم للعبودية، والثواب والعقاب على العبودية، ولأن الجن أصلهم من مارج من نار، وأصلنا من تراب، وخلقهم غير خلقنا، فمنهم مؤمن وكافر، وعدونا إبليس عدو لهم، يعادي مؤمنهم، ويوالي كافرهم، وفيهم أهواء: شيعة، وقدرية، ومرجئة»42.

      واستدل أيضًا الجمهور بقوله تعالى: ( ﮞﮟ) [يوسف: ١٠٩]

      «فهذا يدل على أنه لم يرسل جنيًّا ولا امرأة ولا بدويًّا، وأما تسميته تعالى الجن رجالًا في قوله: ( ) [الجن: ٦].

      فلم يطلق عليهم الرجال، بل هي تسمية مقيدة بقوله: ( ) فهم رجال من الجن، ولا يستلزم دخولهم في الرجال عند الإطلاق، كما تقول: رجال من حجارة، ورجال من خشب ونحوه»43.

      وقوله تعالى: ( ﭛﭜ ﭨﭩ ) [النساء: ١٦٣].

      وقوله تعالى: ( ﮠﮡ ) [العنكبوت: ٢٧].

      فهذه الآيات قد أخبرت أن الله قد جعل النبوة في الرجال من البشر، ولو كان في الجن رسل وأنبياء، لأخبر القرآن بذلك، والآيات السالفة إخبار من الله عن إبراهيم عليه السلام أن الله قد جعل النبوة في ذريته من بعده.

      «فلم يبعث الله نبيًّا بعد إبراهيم إلا من صلبه»44.

      وقوله تعالى: ( ) [الفرقان: ٢٠].

      فقد أخبر الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن الرسل الذين بعثهم قبله كانوا يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، والمقصود بذلك أنهم بشر، وليس في الآية ما يدل على بعث الرسل من خلاف الإنس.

      وقوله تعالى: ( ) [آل عمران: ٣٣].

      «وأجمعوا على أن المراد بهذا الاصطفاء إنما هو النبوة، فوجب كون النبوة مخصوصة بهؤلاء فقط»45.

      فليس في الجن رسل، ولكن منهم نذر عن الرسل46.

      القول الثاني: أنه قد بعث إلى الجن رسل منهم، وهو رأي مقاتل والضحاك، وابن حزم الأندلسي47.

      استدل هذا الفريق على ما ذهب إليه بقوله تعالى: ( ) [الأنعام: ١٣٠].

      قال الشوكاني: «وظاهره أن الله بعث في الدنيا إلى الجن رسلًا منهم، كما بعث إلى الإنس رسلًا منهم»48.

      وقال ابن حجر الهيتمي: «وظاهر القرآن يشهد للضحاك، والأكثرون في خلافه»49.

      ووجه استدلال الضحاك بهذه الآية: أن الله خاطب الجن والإنس بأنه قد بعث إليهم رسلًا منهما؛ بدليل قوله تعالى: () وهو يقتضي بعث الرسل إلى الجن منهم، وبعث الرسل إلى الإنس منهم كذلك.

      ويتبين مما تقدم من أدلة الفريقين أن قول الجمهور هو القول الراجح إن شاء الله تعالى؛ وذلك للأدلة التي اعتمدوا عليها50.

      رابعًا: أصناف الجن:

      إن الجن أصحاب ملل ونحل متباينة، وفيهم المؤمن والكافر، والعادل والظالم، فمنهم الكامل في الاستقامة وعمل الخير، ومنهم من هو دون ذلك، ومنهم البله المغفلون، ومنهم الكفرة، وهم الكثرة الكاثرة.

      قال تعالى: ( ﭕﭖ ) [الجن: ١٤].

      يقول ابن القيم تعليقًا على هذه الآية التي تبين أحوال الجن وأصنافهم، وأنهم كأحوال الإنس في الإيمان والكفر، والصلاح والفساد: «وقد تضمنت هذه الآيات انقسامهم إلى ثلاث طبقات: صالحين، ودون الصالحين، وكفار، وهذه الطبقات بإزاء طبقات بني آدم، فإنها ثلاثة: أبرار، ومقتصدون، وكفار، فالصالحون بإزاء الأبرار، ومن دونهم بإزاء المقتصدين، والقاسطون بإزاء الكفار، وهذا كما قسم سبحانه بني إسرائيل إلى هذه الأقسام الثلاثة في قوله: ( ﮟﮠ ﮥﮦ ) [الأعراف: ١٦٨].

      فهؤلاء الناجون منهم، ثم ذكر الظالمين وهم خلف السوء الذين خلفوا بعدهم، ولما كان الإنس أكمل من الجن، وأتم عقولًا، ازدادوا عليهم بثلاثة أصناف أخر، ليس شيء منها للجن، وهم: الرسل، والأنبياء، والمقربون، فليس في الجن صنف من هؤلاء بل حيلتهم الصلاح»51.

      ويقول القرطبي في تفسير تلك الآية السابقة: «هذا من قول الجن، أي قال بعضهم لبعض لما دعوا إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم: وأنّا كنا قبل استماع القرآن منا الصالحون، ومنا الكافرون، وقيل: ومنا دون ذلك، أي ومن دون الصالحين في الصلاح»52.

      وقوله تعالى: ( ) [الجن: ١١أي: فرقًا شتى، قاله السدي.

      وقال الضحاك: أديانًا مختلفة.

      وقال قتادة: أهواء متباينة.

      والمعنى: لم يكن كل الجن كفارًا، بل كانوا مختلفين، منهم كفار، ومنهم مؤمنون صلحاء، ومنهم مؤمنون غير صلحاء، وقال مجاهد: يعنون: مسلمين وكافرين، وقال الحسن والسدي: في الجن أمثالكم، فمنهم قدرية، ومرجئة، ورافضة، وخوارج، وشيعة، وسنة، وقال سعيد بن جبير: ألوانًا شتى. وقال ابن كيسان: شيعًا وفرقًا، ومعنى الكلام: أصنافًا مختلفة، ومذاهب متفرقة، وقال سعيد بن المسيب: كنا مسلمين، ويهودًا، ونصارى، ومجوسًا53.

      وذهب بعض أهل العلم كالقرطبي إلى أن هذه المذاهب المختلفة في الجن إنما هي بعد مبعث الرسول عليه الصلاة والسلام واستماعهم للقرآن منه.

      يقول القرطبي: «وقال قوم: أي: وإنا بعد استماع القرآن مختلفون، منا المؤمنون، ومنا الكافرون، والأول أحسن، يقصد أنهم كانوا مؤمنين وكافرين قبل استماعهم للقرآن، بعد مبعث الرسول عليه الصلاة والسلام ؛ لأنه كان في الجن من آمن بموسى وعيسى، وقد أخبر عنهم أنهم قالوا: ( ) [الأحقاف: ٣٠].

      وهذا يدل على إيمان قوم منهم بالتوراة، وكان هذا مبالغة منهم في دعاء من دعوهم إلى الإيمان.

      وقال السبكي: لا شك أنهم مكلّفون في الأمم الماضية كهذه الملة، إما بسماعهم من الرسول، أو من صادقٍ عنه، وكونه إنسيًّا، أو جنيًّا لا قاطع به»54.

      والشاهد لكلام القرطبي أنهم قد عبروا عن حالتهم السابقة قبل استماع القرآن بلفظ الماضي.

      ولكن قد أخبر القرآن عن أحوالهم أيضًا بقوله: ( ﭕﭖ ) [الجن: ١٤].

      فقوله تعالى: ( ) توحي أيضًا أنه ليس كل الجن على الاستقامة والصلاح.

      قال ابن القيم: «فالمسلمون: الذين آمنوا بالله ورسوله منهم، والقاسطون: الجائرون العادلون عن الحق، قال ابن عباس: هم الذين جعلوا لله أندادًا، يقال: أقسط الرجل: إذا عدل فهو مقسطٌ، ومنه: (ﯕﯖ ) [الحجرات: ٩].

      وقسط: إذا جار؛ فهو قاسط، قال تعالى: ( ) [الجن: ١٥]»55.

    الإيمان بالجن

    • تحدث القرآن الكريم على أن الإيمان بالجن من صور الإيمان بالغيب؛ لأنهم يروننا ولا نراهم، وسوف نتناول ذلك بالبيان فيما يأتي:

      أولًا: الإيمان بالجن من الإيمان بالغيب:

      ١. الإيمان بالجن.

      أفاض القرآن الكريم والسنة النبوية في الحديث عن الجن وأحوالهم في مواضع كثيرة، فقد ورد ذكرهم في القرآن في مواضع متعددة، تقرب من أربعين موضعًا، عدا الآيات التي تحدثت عن الشيطان،-وهي كثيرة-، وانفردت سورة كاملة للحديث عن أحوال النفر الذين استمعوا للقرآن من الرسول عليه الصلاة والسلام وهو بمكة، هي سورة الجن، إذ ورد في مطلعها إخبار الله لنبيه باستماع هذا النفر للقرآن.

      قال تعالى: ( ﭣﭤ ) [الجن: ١ - ٢].

      وقال في معرض الحديث عن نعيم الجنة: ( ) [الرحمن: ٥٦].

      وتحدى الله الجن والإنس أن يأتوا بمثل هذا القرآن، فقال: ( ) [الإسراء: ٨٨].

      واستنكر القرآن المزاعم التي تقول بأن الجن يعلمون الغيب، فقال في معرض الحديث عن موت سليمان عليه السلام: ( ﯿ ﰄﰅ ) [سبأ: ١٤].

      وغير ذلك من الآيات التي تحدثت عن أحوال هذا المخلوق.

      ومعلوم أن القرآن الكريم قد ثبتت صحته؛ لأنه منقول إلينا بالتواتر، فعلى هذا الأساس لا مجال لإنكار هذا النوع من المخلوقات -متى كان الخبر صادقًا-، وإنكارهم يكون تكذيبًا لخبر الله عنهم دون حجة أو برهان، وذلك لا يكون إلا من سمات الجاهلين أو الكافرين، ووجودهم بشكل قاطع لا يحتمل التأويل بأي شكل من الأشكال56.

      قال ابن حزم رحمه الله: «وأن الجن حق، وهم خلق من خلق الله عز وجل ، فيهم الكافر والمؤمن، يروننا ولا نراهم، يأكلون، وينسلون، ويموتون.

      قال الله تعالى: ( ) [الأنعام: ١٣٠].

      وقال تعالى: ( ) [الحجر: ٢٧].

      وقال تعالى حاكيًا عنهم أنهم قالوا: ( ﭕﭖ ) [الجن: ١٤-١٥].

      وقال تعالى: ( ﮡﮢ) [الأعراف: ٢٧].

      وقال تعالى: ( ) [الكهف: ٥٠].

      وقال تعالى: (ﭿ ) [الرحمن: ٢٦].

      وقال تعالى: ( ﮡﮢ) [آل عمران: ١٨٥]57.

      ٢. المنكرون لوجود الجن.

      انقسم الناس قديمًا وحديثًا في أمر الجن إلى مذاهب شتى، فما بين مثبت لوجودهم، أو منكر، أو مؤوّل لهم بشتى التأويلات الفاسدة، أو مغالٍ في قدرتهم وسلطانهم في الأرض، إلى غير ذلك من المذاهب والتصريفات المختلفة في شأن هذا المخلوق.

      ويمكن إجمال هذه المذاهب في ما يلي:

      أولًا: المثبتون لوجود الجن:

      ١. أهل السنة والجماعة.

      الذي عليه أهل السنة والجماعة من المسلمين هو إثبات وجود مخلوقات غائبة عن حواسنا، تسمى الجن، وأنها لا تظهر إلا إذا تشكّلت في صور غير صورها في بعض الأحوال ولبعض الناس، وأنها مخلوقات عاقلة مكلفة بالتكاليف الشرعية على نحو ما عليه البشر، وأنهم يأكلون، ويشربون، ويتناكحون، ولهم ذرية، قال ابن حزم: «لكن لما أخبرت الرسل الذين شهد الله عز وجل بصدقهم بما أبدى على أيديهم من المعجزات المحيلة للطبائع بنص الله عز وجل ، وعلى وجود الجن في العالم؛ وجب ضرورة العلم بخلقهم ووجودهم، وقد جاء النص بذلك وبأنهم أمة عاقلة مميزة، متعبدة، موعودة متوعدة، متناسلة، يموتون، وأجمع المسلمون كلهم على ذلك»58.

      ويقول ابن تيمية: «لم يخالف أحد من طوائف المسلمين في وجود الجن، ولا في أن الله أرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم إليهم، وجمهور طوائف الكفار على إثبات الجن، أما أهل الكتاب من اليهود والنصارى فهم مقرون بهم كإقرار المسلمين، وإن وجد فيهم من ينكر ذلك، وكما يوجد في المسلمين من ينكر ذلك، كما يوجد في طوائف المسلمين الغالطون والمعتزلة من ينكر ذلك، وإن كان جمهور الطائفة وأئمتها مقرين بذلك؛ وهذا لأن وجود الجن تواترت به أخبار الأنبياء تواترًا معلومًا بالاضطرار، ومعلوم بالاضطرار أنهم أحياء عقلاء، فاعلون بالإرادة، بل مأمورون منهيون، ليسوا صفات وأعراضًا قائمة بالإنسان أو غيره، كما يزعمه بعض الملاحدة»59.

      وقد تقدم كثير من الأدلة التي يستند إليها أهل السنة والجماعة في إثبات وجود الجن، سواء كانت هذه الأدلة مأخوذة من القرآن أو السنة، بالإضافة إلى دلالة الإجماع على ذلك.

      ٢. جمهور الكفار.

      كعامة أهل الكتاب، والمجوس، وجمهور الكنعانيين، واليونانيين، والرومان، والهنود القدماء، وعامة مشركي العرب: الإقرار بوجود الجن، مع انحراف في تصورهم عن هذا المخلوق.

      هذه الطوائف المختلفة أقرت بوجود الجن، ولكن إقرارهم هذا صاحبه تصورات فاسدة ومنحرفة، فمنهم من اعتبر أن الجن شركاء لله في الخلق والتدبير، ومنهم من اعتبر أن للجن سلطانًا في الأرض، وأنهم يعلمون الغيب، ومنهم من أثبت أخوة بين الله وإبليس، -تعالى الله عن ذلك-، إلى غير ذلك من التصورات المنحرفة60.

      ثانيًا: المنكرون لوجود الجن:

      مذهب أكثر الفلاسفة والأطباء، وجماعة من القدرية والمعتزلة والجهمية، وكافة الزنادقة قديمًا وحديثًا: إنكار الجن، بالإضافة إلى نفر قد أولوا النصوص الدالة على وجود الجن تأويلًا يدل على إنكارهم.

      قال القرطبي: «وقد أنكر جماعة من كفرة الأطباء والفلاسفة الجن، وقالوا: إنهم بسائط، ولا يصح طعامهم، اجتراء على الله وافتراء، والقرآن والسنة ترد عليهم»61.

      وقال ابن تيمية: «وجمهور طوائف الكفار على إثبات الجن، أما أهل الكتاب من اليهود والنصارى فهم مقرون بهم كإقرار المسلمين، وإن وجد فيهم من ينكر ذلك، وكما يوجد في المسلمين من ينكر ذلك كما يوجد في طوائف المسلمين الغالطون والمعتزلة من ينكر ذلك، وإن كان جمهور الطائفة وأئمتها مقرين بذلك»62.

      ١. المتأخرون من القدرية.

      ينكر متأخرو القدرية وجود الجن، مع اعتراف متقدميهم بذلك، قال أبو بكر الباقلاني: وكثير من القدرية يثبتون وجود الجن قديمًا، وينفون وجودهم الآن، ومنهم من يزعم أنهم لا يرون؛ لرقة أجسامهم، ونفوذ الشعاع فيها، ومنهم من قال: إنما لا يرون لأنهم لا ألوان لهم.

      والمعتزلة قدرية، فهم ينكرون وجود الجن.

      يقول الجويني: «وقد أنكرهم معظم المعتزلة، ودل إنكارهم إياهم على قلة مبالاتهم، وركاكة ديانتهم، فليس في إثباتهم مستحيل عقلي، وقد نصت نصوص الكتاب والسنة على إثباتهم، وحقّ على اللبيب المعتصم بحبل الدين أن يثبت ما قضى العقل بجوازه، ونص الشرع على ثبوته»63.

      وقال ابن حجر الهيتمي: «وإنكار المعتزلة لوجودهم فيه مخالفة للكتاب والسنة والإجماع، بل ألزموا به كفرًا؛ لأن فيه تكذيب النصوص القطعية بوجودهم»64.

      ٢. الزنادقة.

      وأما الزنادقة قديمًا وحديثًا كالدهرية والملحدين من الشيوعيين وغيرهم، فإنهم ينكرون الغيبيات بشكل عام، ويعتبرون أن الكون وجد هكذا صدفة؛ وعلى هذا فهم يحاربون الأديان، ويعتبرونها أفيون الشعوب، وذلك كما تفعل الشيوعية في الوقت الحاضر.

      وليس لهؤلاء حجة في إنكار الغيبيات -والجن من بينهم- إلا عدم الإيمان بما لا يقع عليه الحس، ولا يعرف بالتجربة والمشاهدة، وهي حجة ساقطة من أساسها، لا تقوى على الوقوف أمام الأدلة الكثيرة الناطقة بوجودهم.

      ثانيًا: موقف الإنسان من الجن:

      يجب على الإنسان المسلم بأن يؤمن بأن الجن مخلوق من مخلوقات الله تعالى مأمور بطاعة الله، ومنهي عن معصية الله تعالى ، وأن الجن فيهم المسلم والكافر.

      والكفار من الجن يوسوسون للإنسان، ويزيّنون له المعاصي، ويشكّكون المسلم في الله عز وجل.

      قال تعالى حاكيًا عن إبليس: ( ﮋﮌ ) [الحجر: ٣٩ - ٤٢]

      ويجب على المسلم أن يعلم أنه ليس للجن الكافر -الشيطان- من القدرة التي يستطيع بها أن يجبر الإنسان على ترك الطاعات وفعل المعاصي، ومن ثمّ يتصور أنه لا ذنب على الإنسان إذا قصّر في طاعة الله، أو فعل معصية من المعاصي، وهذا التصور إنما سببه الجهل بالقرآن الذي بيّن حقيقة الشيطان، وأنه ليس له سلطان بقهر الإنسان على فعل المعصية، أو يثبّطه عن القيام بالطاعة؛ لأنه في هذا التصور يكون مشاركًا لله في القدرة على قهر العباد وجبرهم على ما يشاء، وهذا هو عين الشرك في الربوبية، ولو كان للشيطان مثل هذه السلطة، لكان في ذلك مناقضة لتكليف الله للبشر، وفي ذلك مناقضة صريحة لما في القرآن الكريم؛ لأن التكليف مبني على قدرة الإنسان في اختيار الخير أو الشر، وإذا انتفى الاختيار عند الإنسان -بسبب إجبار الشيطان له على فعل المعاصي وترك الواجبات-، لكان في ذلك بطلان التكليف من قبل الله للإنسان، وهذا الكلام لا يقول به إلا كافر أو جاهل؛ لأن الرسل بعثهم الله على مدار التاريخ إنما جاء لاختبار هذه الإرادة عند الإنسان، فإما أن يستجيب هذا الإنسان لداعي الله، وإما أن يستجيب لداعي الشيطان الذي يوسوس للإنسان، ويزيّن له المعاصي، وعلى أساس هذه الاستجابة أو عدمها يكون جزاء الإنسان بالجنة أو النار.

      يقول الله عز وجل في هذا الشأن حاكيًا عن الشيطان: ( ﮗﮘ ﮣﮤ ﮨﮩ ﮯﮰ ﯗﯘ ) [إبراهيم: ٢٢].

      فهذا هو الشيطان في الآخرة يعلن في صغار وانكسار تخليه عن أتباعه الذين أطاعوه فيما زيّن لهم من المعاصي، ويوضّح لهم أنه لم يكن له سلطان يجبر هؤلاء على ما كان سببًا في دخولهم جهنم، قال الشوكاني في قوله تعالى: ( ) الآية: «ما كان ليتسلط عليكم بإظهار حجة على ما وعدتكم به وزينته لكم ( ) أي: إلا مجرد دعائي لكم إلى الغواية والضلال بلا حجة ولا برهان..، وقيل: المراد بالسلطان هنا: القهر، أي: ما كان لي عليكم من قهر يضطركم إلى إجابتي، وقيل: هذا الاستثناء هو من باب: تحية بينهم ضرب»

      والمسلم يعلم أن الجنّ لا تقدر على شيء إلا بإرادة الله، كما أنها لا تعلم من غيب الله شيئًا.

      قال تعالى: ( ﯿ ) [الجن: ٢٦- ٢٧].

      وقال تعالى عن وفاة النبي سليمان عليه السلام: ( ﯿ ﰄﰅ ) [سبأ: ١٤].

      فعلى المسلم أن يكون دائم الصلة بالله عز وجل ، فمن كان في كنف الله عز وجل حماه الله من شياطين الإنس والجن، فهو نعم المولى ونعم النصير.

      والمسلم يؤمن بأن الله سبحانه يحفظه من مسّ الجن وإيذائه -مما لم يقدره الله- بالتزام الطاعات.

      قال تعالى: ( ﮪﮫ) [الرعد: ١١].

      فللإنسان () من الملائكة يتعاقبون في الليل والنهار ( ﮪﮫ) يحفظون بدنه وروحه من كل من يريده بسوء، ويحفظون عليه أعماله، وهم ملازمون له دائمًا، فكما أن علم الله محيط به، فالله قد أرسل هؤلاء الحفظة على العباد، بحيث لا تخفى أحوالهم ولا أعمالهم، ولا ينسى منها شيء.

      أما الذين يبتعدون عن طريق الله، فمن السهل على الجن أن يؤذوهم بالصرع والجنون.

      ويجب على المسلم أن يعلم أنه في معركة مستمرةٍ مع الشياطين وأعوانهم من شياطين الإنس والجن، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.

      والمسلم يعلم أن إبليس تكبّر على أمر الله عز وجل عندما أمره بالسجود لآدم؛ تكريمًا له، وقال: ( ﭗﭘ ) [الأعرف: ١٢]؛ فغضب الله عليه، وأنزله من السماء، وأخرجه من رحمته: ( ﮚﮛ ) [الأعراف: ١٨].

    إيمان الجن

    • تحدث القرآن عن استجابة فريق منهم لدعوات الرسل، وهذا ما سنوضّحه فيما يأتي:

      أولًا: موقف الجن من الرسالات:

      في إخبار القرآن عن النفر من الجن الذين استمعوا للرسول بمكة ما يدل على أنهم كانوا عالمين بموسى عليه السلام ورسالته.

      قال تعالى: ( ) [الأحقاف: ٣٠].

      والنص يوحي أن هذا النفر كان من قوم عنده صلاح واستقامة، ومطالبة الجن بالإيمان غالبًا ما ينشأ عنه استجابة لذلك الرسول من قبل بعضهم، أو رفضًا لدعوته من قبل البعض الآخر، وفي النهاية يدل على أنهم فرق شتى.

      فعند النظر في تلك الآية الكريمة نجد أن الجن قد وصفوا القرآن بأوصاف.

      الأول: كونه ( ) مصدّقًا لكتب الأنبياء، والمعنى أن كتب جميع الأنبياء كانت مشتملة على الدعوة إلى التوحيد والنبوّة والمعاد والأمر بتطهير الأخلاق، فكذلك هذا الكتاب مشتمل على هذه المعاني.

      الثاني: قوله: ( ) فالوصف الأول يفيد أن هذا الكتاب يماثل سائر الكتب الإلهية في الدعوة إلى هذه المطالب العالية الشريفة، وهذا مما يدل على أن الجن كان عندهم إيمان مسبق بالرسل السابقة، بل حتى قيل: إنهم كانوا على اليهودية.

      والوصف الثاني يفيد أن هذه المطالب التي اشتمل القرآن عليها مطالب حق وصدق في أنفسها، يعلم كل أحد بصريح عقله كونها كذلك، سواء وردت الكتب الإلهية قبل ذلك بها أو لم ترد.

      ووصف الكتاب بأنه ( ) دون: أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأن التوراة آخر كتاب من كتب الشرائع نزل قبل القرآن، وأما ما جاء بعده؛ فكتب مكمّلة للتوراة، ومبيّنة لها مثل زبور داود، وإنجيل عيسى، فكأنه لم ينزل شيء جديد بعد التوراة، فلما أنزل القرآن؛ جاء بهدي مستقل غير مقصود منه بيان التوراة، ولكنه مصدّق للتوراة، وهادٍ إلى أزيد مما هدت إليه التوراة65.

      ثم إنهم لما استمعوا القرآن حتى فرغ من تلاوته ( ) انصرفوا إليهم () مخوّفين داعين بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وذلك لا يكون إلا بعد إيمانهم؛ لأنهم لا يدعون غيرهم إلى سماع القرآن، والتصديق به، إلا وقد آمنوا.

      وعند ذلك ( ) أي: لكتب الأنبياء، وذلك أن كتب سائر الأنبياء كانت مشتملةً على الدعوة إلى التوحيد والدعوة إلى النبوة والمعاد، وتطهير الأخلاق، وكذلك هذا الكتاب مشتمل على هذه المعاني، وهو معنى قوله: ( )

      ثانيًا: إرسال الرسل إلى الجن:

      ومما يوضّح أيضًا موقف الجن من الرسالات السابقة هي الآيات التي تتضمن التصريح بإرسال رسل إليهم.

      مثل قوله تعالى: ( ﯦﯧ) [الأنعام: ١٣٠].

      ففي هذه الآية خطاب للجن والإنس يوم القيامة، وهذا الخطاب فيه تقرير من الله أنه قد بعث رسلًا إلى الجن والإنس حيث يسألهم وهو أعلم: هل بلّغتهم الرسل رسالاته؟66، وبذلك يزول العذر، وتنقطع الحجة لأي واحد من الجن والإنس؛ إذ بعث الله رسلًا يوضّحون الطريق، ويأمرون بعبادة الله، وينهون عن معصيته، ولا شك أن أمر الرسل ونهيهم للجن والإنس هو محض التكليف، قال ابن القيم: «وهذه الآية تدل على أن الجن كانوا متعبدين بشرائع الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم ، لكن دعوة أولئك الرسل كانت مقصورة على بعض الإنس والجن، أما رسالة نبينا عليه الصلاة والسلام فهي عامة لجميع الجن والإنس»67.

      ثالثًا: موقف الجن من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم:

      لقد بيّن لنا القرآن موقف الجن من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.

      قال تعالى: ( ﭣﭤ ﭿ ) [الجن: ١ - ٧].

      فالجن كما يصفون أنفسهم هنا: ( ﯩﯪ )، ومنهم الضالون المضلون، ومنهم السّذّج الأبرياء الذين ينخدعون: ( ﭿ ) [الجن: ٣ -٤].

      وهم قابلون للهداية من الضلال، مستعدون لإدراك رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فهمًا وتأثرًا: ( ﭣﭤ ) [الجن: ١ - ٢].

      وأنهم قابلون بخلقتهم لتوقيع الجزاء عليهم وتحقيق نتائج الإيمان والكفر فيهم: ( ﯿ ﰀﰁ ﭕﭖ ) [الجن: ١٣-١٥].

      وأنهم لا ينفعون الإنس حين يلوذون بهم، بل يرهقونهم: ( ) [الجن: ٦].

      رابعًا: موقف الجن من القرآن:

      لقد بيّن لنا القرآن موقف الجن من سماعهم للقرآن، وأنهم لم يتوانوا، ولم يتقاعسوا في تبليغ القرآن، الذي سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم ، وعملوا على الدعوة إليه.

      قال الله تعالى: ( ﭜﭝ ﭿ ﮋﮌ ﮕﮖ ) [الأحقاف: ٢٩ - ٣٢].

      واذكر -أيها الرسول- حين بعثنا إليك طائفة من الجن، فلما حضروا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ، قال بعضهم لبعض: أنصتوا؛ لنستمع القرآن، فلما فرغ الرسول من تلاوة القرآن، وقد وعوه، وأثّر فيهم، رجعوا إلى قومهم منذرين، ومحذّرين لهم بأس الله -إن لم يؤمنوا به-، فقالوا لقومهم لما رجعوا إليهم: سمعنا كلامًا مثيرًا للعجب في فصاحته وبلاغته، ومواعظه وبركاته، والإيحاء: إلقاء المعنى إلى النفس في خفاء، كالإلهام وإنزال الملك، ويكون ذلك في سرعة68.

      قالوا: يا قومنا إنا سمعنا كتابًا أنزل من بعد موسى، مصدّقًا لما قبله من كتب الله التي أنزلها على رسله، يهدي إلى الحق والصواب، وإلى طريق صحيح مستقيم.

      يا قومنا أجيبوا رسول الله محمدًا إلى ما يدعوكم إليه، وصدّقوه، واعملوا بما جاءكم به، يغفر الله لكم من ذنوبكم، وينقذكم من عذاب مؤلم موجع.

      ومن لا يجب رسول الله إلى ما دعا إليه؛ فليس بمعجز الله في الأرض، إذا أراد عقوبته، وليس له من دون الله أنصار يمنعونه من عذابه، أولئك في ذهاب واضح عن الحق69.

      خامسًا: إقرار الجن بالنعم:

      وذلك في سورة الرحمن في قوله تعالى بعد الحديث عن نعمه على عباده: ( ) [الرحمن: ١٣].

      حيث ورد هذا الخطاب في واحد وثلاثين موضعًا من سورة الرحمن، وفيه خطاب للجن والإنس معًا، وفي هذه المواضع امتنان من الله على عباده بهذه النعم التي لا يجحدها إلا كافر.

      وأخرج الترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا، فقال: لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردودًا منكم، كلما أتيت على قوله: ( ) قالوا: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد)70.

      قال ابن القيم: «وقد دلت سورة الرحمن على تكليفهم بالشرائع كما كلّف الإنس، ولهذا يقول في إثر كل آية: ( )؛ فدلّ ذلك على أن السورة خطاب للثقلين معًا؛ ولهذا قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن قراءة تبليغ، وأخبر أصحابه أنهم كانوا أحسن ردًّا منهم؛ فإنهم جعلوا يقولون كلما قرأ عليهم: ( ) لا نكذّب بشيء من آلائك ربنا، فلك الحمد»71.

      موضوعات ذات صلة:

      سليمان عليه السلام، الشيطان، الناس


1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصوم، باب هل يقول: إني صائم إذا شتم، ٣/ ٢٦، رقم ١٩٠٤، ومسلم في صحيحه، كتاب الصيام، باب فضل الصيام، ٢/ ٨٠٧، رقم ١١٥١.

2 مختار الصحاح، الجوهري ٥/٢٠٩٣.

وانظر: المحكم والمحيط الأعظم، ابن سيده ٧/٢١٣، الكليات، الكفوي ٢/١٦٩.

3 أنوار التنزيل، البيضاوي ٥/٣٩٧.

4 الكليات، ص٥٤٠ بتصرف.

5 انظر: عالم الجن، عبد الكريم عبيدات ص٨.

6 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، ص ١٧٩-١٨٢.

7 انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني، ص ٢٠٣-٢٠٥.

8 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس، ٣/١٨٤، لسان العرب، ابن منظور، ١٣/٢٣٧.

9 انظر: جمهرة اللغة، ابن دريد، ٢/٨٦٧، تهذيب اللغة، الأزهري، ١١/٢١٤.

10 انظر: التوقيف، المناوي، ص٢١٠.

11 انظر: تاج العروس، الزبيدي، ٤/٣٥٧.

12 مقاييس اللغة، ابن فارس ١/ ١٣٢.

13 انظر: تاج العروس، الزبيدي ٢٧/ ٤٨.

14 مقاييس اللغة، ابن فارس ١/١٤٥، لسان العرب، ابن منظور ١/١٤٧.

15 التعريفات، الجرجاني ص ٣٨.

16 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٣/٣٥.

17 انظر: عالم الجن، عبد الكريم عبيدات ص١٣.

18 انظر: الإيمان بالجن بين الحقيقة والتهويل، علي الشحود ص٦٤.

19 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة ٤/١١١، رقم ٣٢١٠.

20 التفسير الميسر، مجمع الملك فهد ص٣٧٨.

21 المصدر السابق ص٤٢٩.

22 أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، ١٠/٣٩٧، رقم ٣٠٣٦١.

وصحح إسناده ابن حجر في الفتح ٦/٣٤٤.

23 انظر: إيضاح الدلالة في عموم الرسالة، ابن تيمية ص ٣٢.

24 انظر: الفتاوى الحديثية، ابن حجر الهيتمي ص ٦٥.

25 انظر: سيرة ابن هشام ١/٦١٢.

26 انظر: المصدر السابق ١/٤٨٠ -٤٨١.

27 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الآداب، باب قتل الحيات وغيرها، ٤/١٧٥٧، رقم ٢٢٣٦.

28 أخرجه الطبري في تفسيره ١٣/ ٧ وابن أبي حاتم في تفسيره ٥/ ١٧١٥.

29 ذعته: خنقته، والذعت: أشد الخنق، وروي بالدال المهملة، أي: دفعته بعنف.

انظر: شرح صحيح البخاري، ابن بطال ٣/٢٠١، فتح الباري، ابن رجب ٦/٣٩٦، فتح الباري، ابن حجر ٣/٨١.

30 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلاة، باب الأسير، أو الغريم، يربط في المسجد، ١/ ٩٩، رقم ٤٦١، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة، والتعوذ منه وجواز العمل القليل في الصلاة، ١/٣٨٤، رقم ٥٤١.

31 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الوكالة، باب إذا وكل رجلًا، فترك الوكيل شيئًا فأجازه الموكل فهو جائز، ٣/١٠١، رقم ٢٣١١.

32 انظر: النبوات، ابن تيمية ص ٢٩٠.

33 انظر: جامع البيان، الطبري ٢٧/ ٨.

34 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٧/ ٥٥، فتح القدير، الشوكاني ٥/٩٢.

35 انظر: التفسير الميسر ص١٧٤.

36 انظر: طريق الهجرتين، ابن القيم ص ٤٢١.

37 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأذان، باب الجهر بقراءة صلاة الفجر، ١/ ١٥٤، رقم ٧٧٣، ومسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن، ١/٣٣١، رقم ٤٤٩.

38 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٤٩٩.

39 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ١/ ٦١٩.

40 انظر: طريق الهجرتين، ابن القيم ص٤٢١.

41 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ١٣/ ١٩٥.

42 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٧/٨٦.

43 انظر: طريق الهجرتين، ابن القيم ١/ ٤١٦.

44 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٣/٣٤٠.

45 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ١٣/١٩٥.

46 انظر: جامع البيان، الطبري ٢٦/ ٣١، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٧/ ٨٦.

47 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٧/ ٨٦، روح المعاني، الألوسي ٨/ ٢٨.

48 انظر: فتح القدير، الشوكاني ٢/١٦٣.

49 انظر: الفتاوى الحديثية ص ٦٦.

50 انظر: عالم الجن، عبد الكريم عبيدات ص ٢٠٩.

51 انظر: طريق الهجرتين، ابن القيم ١/ ٤١٦.

52 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٩/١٥.

53 انظر: طريق الهجرتين، ابن القيم ١/ ٤١٤.

54 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٩/١٥.

55 انظر: عالم الجن، عبد الكريم عبيدات ص ٦٧.

56 انظر: العقيدة الإسلامية وأسسها، عبدالرحمن حبنكة الميداني ٢/ ٢٣.

57 انظر: المحلى، ابن حزم ١/ ٣٣.

58 انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل، ٥/١٢.

59 انظر: مجموع الفتاوى ١٩/ ٩.

60 انظر: عالم الجن، عبد الكريم عبيدات ص ٩٠.

61 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٩/٦.

62 انظر: إيضاح الدلالة في عموم الرسالة، ابن تيمية ٤.

63 انظر: الإرشاد إلى قواطع الأدلة، الجويني ٣٢٣.

64 انظر: الفتاوى الحديثية، ابن حجر الهيتمي ص ١٢٣.

65 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٦/٥٠-٥١.

66 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ١/٦١٩.

67 انظر: طريق الهجرتين، ابن القيم ص ٤٢٢.

68 التفسير المنير، الزحيلي ٢٩/١٦١.

69 انظر: التفسير الميسر ص٥٠٦.

70 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الرحمن، ٥/ ٣٩٩، رقم ٣٢٩١.

وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، ٥/١٨٣، رقم ٢١٥٠.

71 انظر: طريق الهجرتين ص ٤٢٢.