عناصر الموضوع
الجبال
أولًا: المعنى اللغوي:
«الجيم والباء واللّام أصلٌ يطّرد ويقاس، وهو تجمّع الشّيء في ارتفاعٍ؛ فالجبل معروفٌ، والجبل: الجماعة العظيمة الكثيرة، قال1:
أمّا قريشٌ فإن تلقّاهم أبدًا إلّا وهم خير من يحفى وينتعل
إلّا وهم جبل اللّه الّذي قصرت عنه الجبال فما ساوى به جبل»2.
وعلى هذا فإن الجبل يعني في اللغة: المرتفع من الأرض ارتفاعًا ملحوظًا يجعله يعظم ويطول على ما حوله من الأرض، فإن انفرد فأكمةٌ أو قنّةٌ، ودونه في الارتفاع التل، ودون التل الربوة أو الرابية، أو النتوء الأرضي، أو الأكمة وجمعها آكام، ودون الأكمة النجد أو الهضبة، ودون الهضبة السهل، ودون السهل المنخفض من تضاريس الأرض.
والجمع: أجبلٌ كأفلسٍ، وجبالٌ بالكسر، وأجبالٌ، والثّاني في القرآن كثيرٌ3.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
«الجبل» في الاصطلاح: هو كلّ وتدٍ للأرض، عظم وطال، وقيل: هو منطقة من الأرض ترتفع بشكل مفاجئ عما حولها.
و«السلاسل الجبلية» هي مجموعة كبيرة من الجبال تمتد لآلاف الكيلو مترات وتشكل ما يشبه الأحزمة، مثل سلسلة جبال الهملايا شمال الصين، وسلسلة جبال الألب في قلب أوربا.
وبالنظر إلى هذه التعريفات يتبين أن مصطلح الجبال حمّال لجميع مدلولاتها، وبالتالي فإن هذه الدراسة القرآنية ستركّز على بيان هذه المدلولات، واستخراج ما فيها من نتائج دعوية.
وردت مادة (جبل) في القرآن (٤١) مرة، والذي يخص موضوع البحث منها (٣٩) مرة4.
والصيغ التي وردت هي:
الصيغة |
عدد المرات |
المثال |
اسم مفرد |
٦ |
( ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ) [الأعراف:١٧١] |
اسم جمع |
٣٣ |
(ﭟ ﭠ ﭡ) [الأعراف:٧٤] |
وجاءت (الجبال) في القرآن الكريم بمعناها اللغوي، وهو تجمّع الشيء في ارتفاع، فالجبل معروف5، وهو: ما علا من سطح الأرض واستطال وجاوز التل ارتفاعًا6.
قال الله تعالى: (ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ) [الإسراء: ٣٧]، يعني: ولن تساوي الجبال طولًا بفخرك وكبرك7.
الأوتاد:
الأوتاد لغةً:
ما نزل في الأرض، وأوتاد الأرض الجبال، وأوتاد البلاد رؤساؤها8.
الأوتاد اصطلاحًا:
ما يثبّت به الجبل في الأرض.
الصلة بين الأوتاد والجبال:
من خلال التعريفين اللغوي والاصطلاحي للأوتاد تبين أن الجبال أعم وأشمل منه؛ إذ إن الأوتاد يعني ما يثبّت به الجبل، والجبل يشمله، ويشمل ما فوقه من مرتفع.
العلم:
العلم لغةً:
اسم يطلق على العلامة، والأثر، والجبل، والراية9.
العلم اصطلاحًا:
الجبل المرتفع الذي تعرف من خلاله الطريق، فهو كالبرق في لمعانه، واهتداء الناس من خلاله في سيرهم.
الصلة بين العلم والجبال:
من خلال التعريفين اللغوي والاصطلاحي للعلم تبين أن الجبل أعم منه وأشمل؛ إذ إن العلم يعني ما زاد ارتفاعه بحيث يكون دالًّا على الطريق، والجبل يعني: كل ما ارتفع من الأرض، وكان ثابتًا بوتد.
السهل:
السهل لغةً:
هو «كل شيء يميل إلى اللين وقلة الخشونة»10.
السهل اصطلاحًا:
«أرض منبسطة لا تبلغ الهضبة»11.
الصلة بين السهل والجبل:
السهل هو الأرض المنبسطة التي هي غير مرتفعة أبدًا، وبالتالي فإنه لا يحتاج إلى وتد وما شابه، كما أن مناخه وطبيعة منافعه تختلف عمّا يرتفع على الأرض، وأما الجبل فإنه يحتاج إلى وتدٍ إضافة إلى خاصية منافعه، إضافة إلى أن كليهما دالٌّ على قدرة الله تعالى وعظمته.
الرّابية:
الرّابية لغةً:
وهي «ما ارتفع من الأرض»12.
الرّابية اصطلاحًا:
كل شيء ارتفع عن الأرض، سواء أكان جبلًا، أم غير ذلك.
الصلة بين الرابية والجبل:
الرابية أعمّ وأشمل من الجبل، من كون الرابية تعني كل ما ارتفع عن الأرض، وهي بذلك تعني الجبل والهضبة والتل وغير ذلك؛ غير أن الجبل أوضح دلالة، وأعظم اعتبارًا في المدلول الدعوي.
الوادي:
الوادي لغةً:
هو ما كان في المنخفض من الأرض، وجمعه أودية13.
الوادي اصطلاحًا:
هو سيل الماء الواقع في منخفض بين جبلين.
الصلة بين الوادي والجبل:
الوادي منخفض عن سطح الأرض، والجبل مرتفع مثبّت بوتد.
اقترن ذكر الجبال بالأرض في القرآن؛ وذلك لعلاقتهما اللازمة؛ حيث حاجة الأرض إلى التثبيت وعدم الاضطراب، وسوف نوضح ذلك بالبيان فيما يأتي:
أولًا: الجبال وخلق الأرض:
هناك مجموعة من الآيات تتحدث عن عملية تكوين الجبال وأصل نشأتها.
يقول تعالى: (ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ)[ق: ٧].
ويقول تعالى: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [الحجر: ١٩].
ويقول تعالى: (ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ) [لقمان: ١٠].
وقوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ) [النحل: ١٥ - ١٦].
قال الطاهر ابن عاشور في تفسير هذه الآية: «انتقال إلى الاستدلال والامتنان بما على سطح الأرض من المخلوقات العظيمة التي في وجودها لطف بالإنسان، وهذه المخلوقات لما كانت مجعولة كالتكملة للأرض وموضوعة على ظاهر سطحها عبّر عن خلقها ووضعها بالإلقاء الذي هو رمي شيء على الأرض؛ ولعل خلقها كان متأخرًا عن خلق الأرض؛ إذ لعل الجبال انبثقت باضطرابات أرضية كالزلزال العظيم، ثم حدثت الأنهار بتهاطل الأمطار، وأما السّبل والعلامات فتأخّر وجودها ظاهر، فصار خلق هذه الأربعة شبيهًا بإلقاء شيء في شيء بعد تمامه.
ولعل أصل تكوين الجبال كان من شظايا رمت بها الكواكب فصادفت سطح الأرض، كما أن الأمطار تهاطلت فكوّنت الأنهار، فيكون تشبيه حصول هذين بالإلقاء بيّنًا، وإطلاقه على وضع السّبل والعلامات تغليب، ومن إطلاق الإلقاء على الإعطاء، ورواسي جمع راسٍ، وهو الثبات والتمكن في المكان.
قال تعالى: (ﯫ ﯬ) [سبأ: ١٣].
ويطلق على الجبل رأس بمنزلة الوصف الغالب.
وقوله تعالى: (ﭕ ﭖ ﭗ) [النحل: ١٥].
تعليلٌ لإلقاء الرواسي في الأرض، والميد: الاضطراب، وضمير تميد عائد إلى الأرض بقرينة قرنه بقوله تعالى: (ﭗ)؛ لأن الميد إذا عدي بالباء علم أن المجرور بالباء هو الشيء المستقر في الظرف المائد، والاضطراب يعطّل مصالح الناس، ويلحق بهم آلامًا.
ولما كان المقام مقام امتنان علم أن المعلل به هو انتفاء الميد لا وقوعه.
ولعل الله جعل نتوء الجبال على سطح الأرض معدلًا لكرويتها، بحيث لا تكون بحدٍّ من الملاسة يخفّف حركتها في الفضاء تخفيفًا يوجب شدة اضطرابها»14.
ثانيًا: الجبال والتوازن:
قال تعالى: (ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [الرعد: ٣].
قال ابن كثير: «(ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) أي: جعلها متسعة ممتدة في الطول والعرض، وأرساها بجبال راسيات شامخات، وأجرى فيها الأنهار والجداول والعيون؛ ليسقي ما جعل فيها من الثمرات المختلفة الألوان والأشكال والطعوم والروائح من كل زوجين اثنين، أي: من كل شكل صنفان.
(ﮓ ﮔ ﮕﮖ) أي: جعل كلًّا منهما يطلب الآخر طلبًا حثيثًا، فإذا ذهب هذا غشيه هذا، وإذا انقضى هذا جاء الآخر، فيتصرف أيضًا في الزمان، كما يتصرف في المكان والسكان، (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) أي: في آلاء الله وحكمه ودلائله»15.
والنظرة العلمية: في طيات هذه الآية الكريمة ثلاث حقائق أيّدها العلم بدلائل قوية، وهي:
أولًا: أن الله مدّ الأرض، وجعل فيها رواسي، ومدّ الأرض، أي: بسطها أينما سار الإنسان عليها.
ثانيًا: أنه سبحانه جعل في الأرض رواسي، أي: جبالًا لتحفظ التوازن اللازم للكرة الأرضية التي تتكون من منخفضات عميقة في البحار والمحيطات ومرتفعات شامخة من الجبال والهضاب، وأنه لابد في هذه الحالة من استقرار للأرض، واتزان لانتظام حركتها مع ثباتها.
ثالثًا: أنه سبحانه جعل من كل الثمرات زوجين اثنين، أي: جعل في الأشجار التي تحمل الثمار نوعي الذكر والأنثى حتى يتم تلقيح الأعضاء الأنثية بطريق حبوب اللقاح الموجودة بالأعضاء الذكرية، وبذلك تتوالد الأنواع وتتكاثر16.
وقال تعالى: (ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) [النبأ: ٦ - ٧].
قال ابن كثير: «(ﭩ ﭪ) أي: جعلها لها أوتادًا أرساها بها، وثبّتها وقرّرها حتّى سكنت، ولم تضطرب بمن عليها»17.
والنظرة العلمية: تمكّن الإنسان بوسائله العلمية المختلفة أن يثبت أن الجزء الصلب من القشرة الأرضية يبلغ سمكه (٦٠) كيلومترًا، وأن بعض هذه القشرة يرتفع مكوّنًا الجبال وينخفض بعضها؛ ليكون قيعان البحار والمحيطات، وأن وجود الجبال على سطح الكرة الأرضية موزعة بدقة وحكمة يساعد على التوازن بين المرتفعات والمنخفضات، بحيث لا تميد الأرض ولا تضطرب، فكأن هذه الجبال تعمل عمل الأوتاد التي تحفظ توازن الخيمة واستقرارها.
وهناك حقيقة علمية أخرى وصل إليها البحث العلمي في توزيع الجبال واليابس والماء على سطح الأرض بنسب أحجامها الحالية، علاوة على التوازن بحيث لا تميد الأرض ولا تحيد عن موضعها، وهي أنه لو كانت الأرض بحجمها الحالي مكوّنة من الماء بنسبة أكبر لبلغ وزنها أقل مما هي عليه الآن؛ ولما تمكّنت من حفظ نسبة بعدها عن الشمس، بل لانجذبت إليها واحترقت، ولو كان أكثرها مكوّنًا من اليابس لزاد وزنها عما هي عليه الآن؛ ولبعدت عن الشمس البعد الذي لا تتحقق معه الحياة؛ لأنها في هذه الحالة تتجمد من شدة البرودة18.
ثالثًا :الجبال والأنهار:
فضلًا عما تحتويه المناطق الجبلية من قدر كبير من التنوع الإحيائي العالمي، فإنها تقوم بوظيفة أخرى هامة جدًّا؛ إذ تعتبر مستجمعات لمعظم الموارد المائية في العالم، فهناك مجموعة من الآيات تصف الارتباط والعلاقة بين الجبال والماء والأنهار.
قال الرازي: من الاستدلال بأحوال الجبال أنّ بسببها تتولّد الأنهار على وجه الأرض؛ وذلك أنّ الحجر جسمٌ صلبٌ فإذا تصاعدت الأبخرة من قعر الأرض ووصلت إلى الجبل احتبست هناك، فلا تزال تتكامل، فيحصل تحت الجبل مياهٌ عظيمةٌ، ثمّ إنّها لكثرتها وقوّتها تثقب وتخرج وتسيل على وجه الأرض، فمنفعة الجبال في تولّد الأنهار هو من هذا الوجه؛ ولهذا السّبب ففي أكثر الأمر أينما ذكر اللّه الجبال قرن بها ذكر الأنهار مثل ما في هذه الآية، أي: قوله: (ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [الرعد: ٣].
ومثل قوله: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) [المرسلات: ٢٧]19.
وقال أبو حيان: «ومن جهة تولّد الأنهار منها، قيل: وذلك لأنّ الجبل جسمٌ صلبٌ، ويتصاعد بخاره من قعر الأرض إليه ويحتبس هناك، فلا يزال يتكامل فيه فيحصل بسببه مياهٌ كثيرةٌ، فلقوّتها تشقّ وتخرج وتسيل على وجه الأرض، ولهذا في أكثر الأمر إذا ذكر الله تعالى الجبال ذكر الأنهار كهذه الآية: (ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [الرعد: ٣].
وكقوله: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) [المرسلات: ٢٧].
(ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ) [النحل: ١٥].
فقال المفسّرون: الأنهار المياه الجارية في الأرض، وقال الكرمانيّ: مسيل الماء»20.
وقال النيسابوري: «من الدلائل الدالة على وجود الصانع ووحدانيته جريان الأنهار العظيمة على وجه الأرض الكائنة فيها من احتباس الأبخرة، وأكثر ذلك إنما يتكوّن في الجبال؛ فلذا قرن الجبال بالأنهار في القرآن كثيرًا؛ كقوله: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) [المرسلات: ٢٧]»21.
رابعًا: ألوان الجبال:
ورد اختلاف الألوان الجبال في آية كريمة تحدثت عن ألوان صخور الجبال، وأثر الماء في تعدد هذه الألوان وعلاقته به، وهي قوله تعالى: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ) [فاطر: ٢٧].
وقد يعجب الإنسان من علاقة إنزال الماء من السماء باختلاف ألوان الجبال، ففي بحثٍ مطوّلٍ ومعقّدٍ جدًّا ملخّصه أنّ الماء هذا العنصر الحيويّ، والذي يعدّ من أعلى العناصر المذيبة والفعّالة، تبيّن أنه هو العامل الحاسم في تلوين الجبال، التي تأخذ ألوانها من ألوان معادنها التي تشترك في بنيتها، والمعادن تتلوّن بقدر أكسدتها، حيث إنّ الماء له علاقةٌ بهذه الأكسدة؛ لذلك تجد أنّ أحد عوامل تلوينها واختلاف ألوانها من جبالٍ كالغرابيب السود، وجبالٍ جددٍ بيضٍ، وحمرٍ مختلفٍ ألوانها يعود إلى الماء؛ لذلك قال تعالى: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ) [فاطر: ٢٧].
فكل ما تقدّم العلم كشف عن جانب من إعجاز القرآن الكريم العلميّ من أجل أن نعلم علم اليقين أنّ الذي أنزل هذا القرآن هو الذي خلق الأكوان، وأنّ هذا التوافق بين معطيات العلم ومعطيات الوحي هو منطقيٌّ إلى درجةٍ قطعيةٍ؛ لأنّ الوحي كلام الله؛ ولأنّ الكون خلق الله، واتّحاد المصدر يعني اتّحاد الفروع، فلابدّ من تطابق العلم الحقيقيّ مع النقل الصحيح...، فلابد أن نعلم علم اليقين أنّ الذي خلق الأكوان هو الذي أنزل هذا القرآن.
قال تعالى: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ) [الحج: ٦٣]. وهنا عطفٌ.
قال تعالى: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ) [فاطر: ٢٧].
فقوله تبارك وتعالى: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) أي: وخلق الجبال كذلك مختلفة الألوان كما هو المشاهد أيضًا من بيضٍ وحمرٍ، وفي بعضها طرائق، وهي الجدد، جمع جدّة، مختلفة الألوان أيضًا، قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: الجدد: الطرائق22. والغرابيب: الجبال الطوال السود.
وقال ابن جريرٍ: «والعرب إذا وصفوا الأسود بكثرة السواد قالوا: أسود غربيب، إذا وصفوه بشدّة السّواد، وجعل السّواد ها هنا صفةً للغرابيب»23.
فما أعظم كمال وقدرة المولى سبحانه وتعالى في وصف بديع خلقه، فقد خلق الله الجبال مختلفة الألوان من بيضٍ وحمرٍ وأسود غرابيب أي: شديد السواد، فوضع لنا القرآن بإعجازه العلمي سرًّا من أسرار علوم الجيولوجيا، وأطلعنا على أنواع الجبال، ومهّد لنا مجال البحث في هذا العلم، حيث يقوم علماء الجيولوجيا بتصنيف الجبال تبعًا للصخور التي تغلب على تركيبها إلى ثلاثة أقسام رئيسية:
١. جبال رسوبية طبقية.
وهي المشار إليها في الآية بـ (ﮭ ﮮ) [فاطر: ٢٧].
فـ«الجدد البيض» هي صفة للجبال الرسوبية التي تكونت بفعل ترسيب الطبقات.
فمن المعاني اللفظية لكلمة (ﮭ) الوارد ذكرها في الآية الكريمة معنى الشيء المتجدد، ويستدل العلماء على هذا الرأي بأن جبال الجليد الهائلة المتجمدة منذ ملايين السنيين تشكّل ٩٠٪ من الماء المخزون في كوكب الأرض.
وأيضًا «الجدد» بمعنى الغنى، ويفسّر العلماء هذا بأن جبال المعادن النفيسة والرخام والأحجار الكريمة ذات الألوان المختلفة تعدّ من مصادر الثروة للبشر.
ويقول علماء الجيولوجيا: إنها تتجدد ببطء مع مرور الزمن على الرغم مما يؤخذ منها عن طريق العوامل الطبيعية، أو ما تأخذه أيدي الإنسان، فكلما استنزفت قمم هذه الجبال ترتفع جذورها من الأعماق فتعوّض، أي: تجدد ما استنزف منها، وهي (بيض)؛ لأن اللون الغالب على هذه الجبال هو الأبيض حيث أن صخورها تنتمي إلى عائلة الصخور الجرانيتية التي تتكون أساسًا من معادن المرو الأبيض اللون، ومعادن أخرى مختلفة في ألوانها ودرجاتها مثل الفلسبار البوتاسي المقارب إلى اللون الأحمر، والبايوتايت الذي يتراوح بين الأصفر والبني المائل إلى الحمرة والعسلي؛ لذا نجد اختلاف الألوان ودرجاتها في الجبل.
٢. جبال قاعدية متبلورة.
وهي المشار إليها في الآية بـ (ﮯ ﮰ ﮱ) [فاطر: ٢٧].
ويفسّر العلماء اللون الأحمر لهذه الجبال التي ورد ذكرها في الآية الكريمة نتيجة لشيوع عنصر الحديد فيها، وهو الذي يتأكسد فيظهر الصخر بلون أحمر، ويصاحب الحديد معادن أخرى كالنحاس والرصاص، وتختلف نسبة وجود هذه المعادن؛ لذلك يظهر اللون الأحمر بدرجات متفاوتة.
٣. جبال بركانية نارية.
وهي المشار إليها في الآية بـ (ﯓ ﯔ) [فاطر: ٢٧].
و«الغرابيب السود» هي الجبال النارية البركانية غير المتبلورة، حيث يشيع اللون الأسود عليها؛ لأن البازلت وهو صخر ناري أسود اللون يغلب على تكوين هذه الجبال ويتكون بفعل تجمد الأفا.
وهي المادة المنصهرة التي تخرج من فواهات البراكين، ربط الله سبحانه وتعالى بين اختلاف ألوان الثمار واختلاف ألوان الجبال في الآية الكريمة، ورغم غرابة هذا الارتباط إلا أنه يبدو طبيعيًّا من جانب الدراسة العلمية للألوان، فسبحان الله الذي أبدع كل شيء بكلمات موجزة معبّرة عن المعجزات خلق الله، وصف الله الجبال بمعنى آخر هو: (ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) [النبأ: ٦ - ٧]24.
وقال تعالى أيضًا عن نزول الأمطار: (ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ) [النور: ٤٣].
قال أبو السعود: «(ﰅ ﰆ ﰇ) من الغمام، فإن كلّ ما علاك سماءٌ (ﰈ ﰉ ﰊ) أي: من قطعٍ عظامٍ تشبه الجبال في العظم كائنة فيها، وقوله تعالى: (ﰋ ﰌ) مفعول ينزل، على أنّ (ﰋ) تبعيضيّةٌ، والأوليان لابتداء الغاية على أنّ الثّانية بدل اشتمالٍ من الأولى بإعادة الجار أن ينزل مبتدئًا من السماء من جبال فيها بعض برد»25.
وقال الشوكاني والبيضاوي بمثل ما قال أبو السعود إلا أنهما اعتبرا (ﰋ) الثالثة بيانية، فقال: (ﰋ ﰌ) بيان للجبال والمفعول محذوف؛ أي: ينزل مبتدئًا من السماء من جبال فيها من برد26.
فقوله تعالى: (ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ) [النور: ٤٣].
فيه سر لا يعرفه إلا من تمكّن من مراقبة مراحل تكوين البرد داخل السحاب، ومن الذي أنبأه بأن للبرد برقًا، وأن البرد هو السبب في حصوله، وأنه يكون أشد أنواع البرق ضوءًا؟ إن ذلك لا يعرفه إلا من درس الشحنات الكهربائية داخل السحاب واختلاف توزيعها ودور البرد في ذلك؛ ولشدة خفاء هذا الأمر فقد نسب المفسرون البرق إلى السحاب، وإن كان السحاب يشتمل على البرد في كلام المفسرين، ولم نجد من نسب هذا البرق إلى البرد مع أنه المعنى الظاهر؛ لقوله تعالى: (ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ) [النور: ٤٣]27.
أخبر القرآن عن اتخاذ الإنسان الجبال كحصون وبيوت للسكن، وسوف نبين ذلك فيما يأتي:
أولًا: الجبال والوزر:
الوزر في اللّغة: ما يلجأ إليه الإنسان من حصنٍ أو جبلٍ أو غيرهما.
ومنه قول طرفة28:
ولقد تعلم بكرٌ أنّنا
فاضلو الرّأي وفي الرّوع وزر
وقول حسان بن ثابت29:
الناس ألبٌ علينا ثم ليس لنا
إلا السيوف وأطراف القنا وزر
وقال الطاهر ابن عاشور: «الوزر: المكان الّذي يلجأ إليه للتّوقّي من إصابة مكروهٍ مثل الجبال والحصون»30.
ومنه قول الله تعالى: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ) [هود: ٤٣].
وقوله تعالى: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [القيامة: ١٠ - ١١].
فـ (ﯞ) ردع عن طلب المفرّ وتمنّيه، و(ﯟ ﯠ) أي: لا ملجأ ولا حصن، استعير من الجبل، فـ (ﯟ ﯠ) أي: لا ملجأ من النّار. فـ (ﯞ ﯟ ﯠ) أي: لا، ليس هنالك يا ابن آدم فرار ولا جبل ولا حصن، ولا مكان يلجأ إليه ويفر إليه، ولا جبل ولا معقل، ولا ملجأ من اللّه.
وقال ابن مسعودٍ والضحاك: لا حصن، وقال الحسن: لا جبل، وقال ابن عباس: (ﯟ ﯠ) لا حصن ولا ملجأ.
وقال عكرمة: لا منعة، وقال ابن جبيرٍ: لا محيص ولا منعة، وقال مطرف بن الشخير: (ﯟ ﯠ) لا جبل، إن الناس إذا فروا قالوا: عليك بالوزر، وقال السّدّيّ: كانوا في الدّنيا إذا فزعوا تحصّنوا في الجبال، فقال اللّه لهم: لا وزر يعصمكم يومئذٍ منّي، واشتقاقه من الوزر وهو الثقل، أي: ملجأٌ للخائف، وكذلك هو قول أبي قلابة ومجاهد وقتادة31.
قال القرطبي: «المعنى في ذلك كلّه واحدٌ»32.
وأصل هذا أنهم كانوا إذا ضيق عليهم في الحروب والهزائم الشداد لجؤوا إلى الجبال والمعاقل، فأعلموا أنه لا ملجأ من عذاب الله في القيامة إلى جبل ولا إلى غيره33.
وقال عبد القادر العاني: «كانوا إذا فزعوا من شيء يلجأون إلى الجبال؛ ولذلك قال ابن نوح عليه السلام: (ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ) [هود: ٤٣].
فتقدّم الله تعالى لهؤلاء بما يقطع أملهم بأن لا شيء هناك يعصمهم من عذاب الله إلا هو؛ ولهذا قال: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [القيامة: ١٢]»34.
وقوله تعالى: (ﮪ ﮫ ﮬ) [الشرح: ٢].
قال محمد ثناء الله: «(ﮪ ﮫ ﮬ) الوزر في الأصل الجبل، قال الله تعالى: (ﯞ ﯟ ﯠ) يعنى: جبل هناك يلتجئ إليه، والمراد ها هنا الثّقل على سبيل الاستعارة»35.
ثانيًا: الجبال بيوت وسكن:
تحدثت عدة آيات عن اتخاذ الجبال بيوتًا وسكنًا، فهل سكنى الجبال أمر محمود؟ أو مرغوب فيه ابتداء؟ أم يلجأ إليه عند الحاجة فقط؟ سنقف عند هذه الآيات أولًا، ثم نذكر جوابًا جامعًا من خلالها:
قال تعالى: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) [النحل: ٦٨].
تفسير علماء الدين: ألهم ربك النحل أسباب حياتها ووسائل معيشتها بأن تتخذ من الجبال بيوتًا في كهوفها، وتتخذ من فجوات الشجر ومن عرائش المنازل والكروم بيوتًا لها كذلك.
قال البغوي والبيضاوي في تفسير الآية: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ): «أي: ألهمها وقذف في أنفسها، ففهمته»36 أو جعل في غرائزها ذلك، كما قال السمعاني37 أي: اتخذي (ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) أي: يبنون (ﮍ ﮎ ﮏ) أي: أوكارًا مع ما فيها من الخلايا38.
والنظرة العلمية: إن بعض العلماء الذين كرّسوا جهودهم لدراسة حياة الحشرات، وقفوا على حقائق عجيبة، وألّفوا مئات الكتب التي أثبتت صحة ما جاء في القرآن من أن هناك فصائل برّية من النحل تسكن الجبال، وتتخذ من مغاراتها مأوى لها، وأن منه سلالات تتخذ من الأشجار سكنًا بأن تلجأ إلى الثقوب الموجودة في جذوع الأشجار وتتخذ منها بيوتًا تأوي إليها، ولما أراد الإنسان أن ينتفع بعسل النحل استأنسها وصنع لها خلايا من الطين، أو الخشب يعيش فيها، وهكذا تبيّن الآية الكريمة كيف كانت هذه الحشرات بإلهام من الله تأوي إلى مساكنها المختلفة منذ القدم إلى يومنا هذا39.
وقال تعالى في معرض الامتنان على بني آدم: (ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [النحل: ٨١].
قال الكفوي: (ﭴ ﭵ ﭶ) مواضع تستكنون بها من الكهوف والبيوت المنحوتة فيها، من «الكن» وهو السترة40.
وأخبرنا تعالى أن صالحًا عليه السلام قال لقومه ثمود: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) [الأعراف: ٧٤].
وأخبرنا عنهم أيضًا: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) [الحجر: ٨٢].
قال ابن كثير: «أي: من غير خوفٍ ولا احتياجٍ إليها، بل أشرًا وبطرًا وعبثًا، كما هو المشاهد من صنيعهم في بيوتهم بوادي الحجر الذي مرّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ذاهب إلى تبوك، فقنع رأسه وأسرع دابته، وقال لأصحابه: (لا تدخلوا بيوت القوم المعذّبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تبكوا فتباكوا؛ خشية أن يصيبكم ما أصابهم)41»42.
وقال أيضًا عنهم: (ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ) [الشعراء: ١٤٩ - ١٥٠].
قال ابن كثير: «قوله: (ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ) قال ابن عبّاسٍ وغير واحدٍ: يعني: حاذقين، وفي رواية عنه: شرهين أشرين، وهو اختيار مجاهد وجماعة، ولا منافاة بينهما، فإنهم كانوا يتخذون تلك البيوت المنحوتة في الجبال أشرًا وبطرًا وعبثًا من غير حاجة إلى سكناها، وكانوا حاذقين متقنين لنحتها ونقشها، كما هو المشاهد من حالهم لمن رأى منازلهم؛ ولهذا قال: (ﮥ ﮦ ﮧ) أي: أقبلوا على ما يعود نفعه عليكم في الدنيا والآخرة من عبادة ربكم الذي خلقكم ورزقكم؛ لتعبدوه، وتوحّدوه، وتسبّحوه بكرة وأصيلًا»43.
وأثبت العلم الحديث أن سكان الجبال الذين تختفي أحوالهم دائمًا خلف جمالها الخلّاب، وتبعدهم عن مرمى السمع والبصر عزلتهم وصعوبة الوصول إليهم، ويواجهون تدهورًا مستمرًّا في النظم الإيكولوجية وتزايدًا في مستويات الفقر وتفاقمًا في الأوضاع المزعزعة والصراعات المسلحة.
ويقدّر على وجه العموم أن زهاء ١٠ في المائة من سكان الأرض يقطنون مناطق الجبال، وإن رأى «برونو ميسيرلي» من جامعة «برن» بسويسرا أن المسوحات الجديدة كشفت عن وجود أكثر من ٢٥ في المائة من سكان العالم يقطنون مناطق الجبال أو في محيط قدره (٥٠) كيلو مترًا منها.
ويميل سكان الجبال بسبب وجودهم في مناطق نائية أن يكونوا أفقر من نظرائهم في الأراضي الواطئة، وهو سبب يدفع كثرة من شبيبة هذه المناطق إلى هجرها.
ويقول «لاكاباشيربا» مدير برنامج «كومولانغما» للمحافظة على الطبيعة التابع لمعهد الجبال في منطقة التبت الصينية المتمتعة بالاستقلال الذاتي أنه بمجرد أن يغادر الشباب مناطق الجبال فإنهم «يحلّقون بعيدًا ولا يعودون أبدًا»، وأكد أن مشاركة أهالي الجبال أساسية في تنمية مناطقهم وتطوير أنفسهم، وبدون ذلك سيكون كسر دائرة الفقر مستحيلًا حسب رأيه.
إذن الجواب: الجبال سكن للنحل بوحي من الله، وحصن عند الحاجة، ولا يلجأ إليها للمعيشة العادية؛ نظرًا لصعوبة الحياة بها، والله أعلم.
ثالثًا: الخشوع، والإشفاق عن حمل الأمانة، والتأويب، والذكر:
بالرغم من ضخامة الجبال وعظمتها إلا أن هناك لغة مشتركة بين الجبال والإنسان، وهي لغة تسبيح الله عز وجل، ولكن لا نعلمها ولا نعرفها، إنما يعرفها خالقها -جل شأنه-.
فهناك مجموعة من الآيات الكريمة تشير إلى إحساس الجبال الإيماني، وخضوع الجبال وتسبيحها للخالق -تبارك وتعالى -، فذكر الله عز وجل في مواضع عديدة من كتابه العزيز أن هناك لغة مشتركة بين الجبال والإنسان في معرفة حقوق المولى عز وجل، ومن هذه المواضيع:
الخشوع:
قال تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [الحشر: ٢١].
في هذه الآية الكريمة يذكر المولى عز وجل أن الجبال تسابق الإنسان في معرفة الله والخوف منه، فإنها تتصدّع من خشية الله.
قال ابن كثير: «يقول تعالى معظّمًا لأمر القرآن، ومبيّنًا علو قدره، وأنه ينبغي أن تخشع له القلوب، وتتصدع عند سماعه؛ لما فيه من الوعد الحق والوعيد الأكيد (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ) أي: فإذا كان الجبل في غلظته وقساوته لو فهم هذا القرآن فتدبّر ما فيه لخشع وتصدع من خوف الله عز وجل، فكيف يليق بكم أيها البشر أن لا تلين قلوبكم وتخشع وتتصدع من خشية الله، وقد فهمتم عن الله أمره، وتدبرتم كتابه؛ ولهذا قال تعالى: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [الحشر: ٢١]»44.
الإشفاق من حمل الأمانة:
قال تعالى: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) [الأحزاب: ٧٢].
في هذه الآية الكريمة يذكر المولى عز وجل أن الجبال تشفق من حمل الأمانة التي هي بالمعنى العام.
قال السعدي: «يعظّم تعالى شأن الأمانة التي ائتمن الله عليها المكلّفين، التي هي امتثال الأوامر واجتناب المحارم في حال السر والخفية كحال العلانية، وأنه تعالى عرضها على المخلوقات العظيمة السماوات والأرض والجبال عرض تخيير لا تحتيم، وأنك إن قمت بها وأدّيتها على وجهها فلك الثواب، وإن لم تقومي بها ولم تؤديها فعليك العقاب.
(ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ) أي: خوفًا أن لا يقمن بما حمّلن، لا عصيانًا لربهن، ولا زهدًا في ثوابه، وعرضها الله على الإنسان على ذلك الشرط المذكور، فقبلها، وحملها مع ظلمه وجهله، وحمل هذا الحمل الثقيل»45.
التأويب والذكر:
قال تعالى: (ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﯖ ﯗ) [الأنبياء: ٧٩].
وقال تعالى: (ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [سبأ: ١٠].
بل ذكر المولى عز وجل أن الجبال في حالة من التسبيح الدائم! فقال تعالى: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ) [ص: ١٨]
قال سيد قطب: «لقد يقف الناس مدهوشين للنبأ؛ إذ يخالف مألوفهم، ويخالف ما اعتادوا أن يحسّوه من العزلة بين جنس الإنسان، وجنس الطير، وجنس الجبال! ولكن فيم الدهش؟ وفيم العجب؟ إن لهذه الخلائق كلها حقيقة واحدة، وراء تميّز الأجناس والأشكال والصفات والسمات، حقيقة واحدة يجتمعون فيها ببارئ الوجود كله: أحيائه وأشيائه جميعًا، وحين تصل صلة الإنسان بربه إلى درجة الخلوص والإشراق والصفاء، فإن ذلك الحاجز تنزاح، وتتكشف الحقيقة المجردة لكل منهم، فتتصل من وراء حواجز الجنس والشكل والصفة والسمة التي تميزهم وتعزلهم في مألوف الحياة! وقد وهب الله عبده داود هذه الخاصية، وسخّر الجبال معه يسبّحن بالعشي والإشراق، وحشر عليه الطير ترجّع مع ترانيمه تسبيحًا لله، وكانت هذه هبة فوق الملك والسلطان مع النبوة والاستخلاص»46.
تحدث القرآن عن أحوال الجبال في أحداث القيامة، وسوف نوضّحها فيما يأتي:
أولًا: دكّ الجبال:
اعلم أنّه جلّ وعلا بيّن الأحوال الّتي تصير إليها الجبال يوم القيامة في آياتٍ من كتابه، فبيّن أنّه ينزعها من أماكنها ويحملها فيدكّها دكًّا، وذلك في قوله: (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) [الحاقة: ١٣ - ١٤].
قال الطبري: «(ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) يقول: فزلزلتا زلزلةً واحدةً»47.
وقال البغوي: «(ﭵ ﭶ ﭷ) رفعت من أماكنها (ﭸ) كسرتا (ﭹ) كسرةً (ﭺ) فصارتا هباءً منبثًا»48.
وقال ابن كثير: «(ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) [الحاقة: ١٤].
أي: فمدّت مدّا لأديم العكاظي، وتبدّلت الأرض غير الأرض»49.
ثانيًا: الجبال كثيب مهيل، كالعهن:
قال تعالى: (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ) [المزمل: ١٤].
قال السعدي: «(ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) من الهول العظيم (ﮫ ﮬ) الراسيات الصّم الصلاب (ﮭ ﮮ) أي: بمنزلة الرمل المنهال المنتثر، ثم إنها تبس بعد ذلك، فتكون كالهباء المنثور»50.
وقال تعالى: (ﰀ ﰁ ﰂ) [المعارج: ٩].
قال الطبري: «قوله: (ﰀ ﰁ ﰂ) يقول: وتكون الجبال كالصوف»51.
وقال البغوي: «(ﰀ ﰁ ﰂ) كالصّوف المصبوغ»52.
ولا يقال: عهنٌ إلّا للمصبوغ.
وقال مقاتلٌ: كالصّوف المنفوش.
وقال الحسن: كالصّوف الأحمر وهو أضعف الصّوف، وأوّل ما تتغيّر الجبال تصير رملًا مهيلًا ثمّ عهنًا منفوشًا ثمّ تصير هباءً منثورًا53.
وقال تعالى: (ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [القارعة: ٥].
قال الطبري: «قوله: (ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) يقول تعالى ذكره: ويوم تكون الجبال كالصّوف المنفوش؛ والعهن: هو الألوان من الصّوف»54.
ثالثًا: نسف الجبال:
قال تعالى: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) [طه: ١٠٥ - ١٠٧].
قال ابن كثير: «يقول تعالى: (ﮐ ﮑ ﮒ) أي: هل تبقى يوم القيامة أو تزول؟ (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ) أي: يذهبها عن أماكنها ويمحقها ويسيّرها تسييرًا (ﮘ) أي: الأرض (ﮙ ﮚ) أي: بساطًا واحدًا، والقاع هو المستوي من الأرض، والصفصف تأكيد لمعنى ذلك، وقيل: الذي لا نبات فيه، والأول أولى، وإن كان الآخر مرادًا أيضًا باللازم؛ ولهذا قال: (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) أي: لا ترى في الأرض يومئذٍ واديًا، ولا رابية، ولا مكانًا منخفضًا ولا مرتفعًا، كذا قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن البصري والضحاك وقتادة وغير واحد من السلف»55.
وقال الشنقيطي: «جرت العادة في القرآن: أن الله إذا قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: يسألونك قال له: قل بغير فاء، كقوله: (ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ) [الإسراء: ٨٥].
وقوله تعالى: (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) [البقرة: ٢١٩].
وقوله: (ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ) [البقرة: ٢١٥].
وقوله: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [المائدة: ٤].
وقوله: (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ) [البقرة: ٢١٧].
إلى غير ذلك من الآيات، أما في آية (طه) هذه فقال فيها: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ) بالفاء.
وقد أجاب القرطبي عن هذا في تفسير هذه الآية بما نصه: (ﮐ ﮑ ﮒ) أي: عن حال الجبال يوم القيامة، فقل، جاء هذا بفاء، وكل سؤال في القرآن (قل) بغير فاء إلا هذا؛ لأن المعنى: إن سألوك عن الجبال فقل، فتضمن الكلام معنى الشرط، وقد علم الله أنهم يسألونه عنها فأجابهم قبل السؤال، وتلك أسئلة تقدمت، سألوا عنها النبي صلى الله عليه وسلم فجاء الجواب عقب السؤال؛ فلذلك كان بغير فاء، وهذا سؤال لم يسألوه عنه بعد فتفهمه انتهى منه، وما ذكره يحتاج إلى دليل، والعلم عند الله تعالى»56.
قوله تعالى: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) [طه: ١٠٦ - ١٠٧].
الضمير في قوله: (ﮘ) فيه وجهان معروفان عند العلماء:
أحدهما: أنه راجع إلى الأرض، وإن لم يجر لها ذكر، ونظير هذا القول في هذه الآية قوله تعالى: (ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) [فاطر: ٤٥].
وقوله: (ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [النحل: ٦١].
فالضمير فيهما راجع إلى الأرض، ولم يجر لها ذكر.
والثاني: أنه راجع إلى منابت الجبال التي هي مراكزها ومقارها؛ لأنها مفهومة من ذكر الجبال، والمعنى: فيذر مواضعها التي كانت مستقرة فيها من الأرض قاعًا صفصفًا، والقاع: المستوي من الأرض، وقيل: مستنقع الماء، والصفصف: المستوي الأملس الذي لا نبات فيه، ولا بناء، فإنه على صف واحد في استوائه، وأنشد لذلك سيبويه قول الأعشى57:
وكم دون بيتك من صفصف
ودكداك رمل وأعقادها
وقوله: (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) [طه: ١٠٧].
أي: لا اعوجاج فيها ولا أمت، والأمت: النتوء اليسير، أي: ليس فيها اعوجاج، ولا ارتفاع بعضها على بعض، بل هي مستوية، ومن إطلاق الأمت بالمعنى المذكور قول لبيد58:
فاجرمزت ثم سارت وهي لاهية
في كافر ما به أمت ولا شرف
وقول الآخر59:
فأبصرت لمحة من رأس عكرشة
في كافر ما به أمت ولا عوج
والكافر في البيتين: قيل الليل، وقيل المطر؛ لأنه يمنع العين من رؤية الارتفاع، والانحدار في الأرض.
وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة: فإن قلت: قد فرّقوا بين العوج، والعوج فقالوا، العوج بالكسر في المعاني، والعوج بالفتح في الأعيان، والأرض عين فكيف صح فيها المكسور العين؟ قلت: اختيار هذا اللفظ له موقع حسن بديع في وصف الأرض بالاستواء والملاسة، ونفي الاعوجاج عنها على أبلغ ما يكون؛ وذلك أنك لو عمدت إلى قطعة أرض فسوّيتها، وبالغت في التسوية على عينك وعيون البصراء من الفلاحة، واتفقتم على أنه لم يبق فيها اعوجاج قط، ثم استطلعت رأي المهندس فيها، وأمرته أن يعرض استواءها على المقاييس الهندسية، لعثر فيها على عوج في غير موضع لا يدرك ذلك بحاسة البصر، ولكن بالقياس الهندسي، فنفى الله عز وجل ذلك العوج الذي دقّ ولطف عن الإدراك، اللهم إلا بالقياس الذي يعرفه صاحب التقدير والهندسة، وذلك الاعوجاج لما لم يدرك إلا بالقياس دون الإحساس لحق بالمعاني فقيل فيه: عوج بالكسر، والأمت: النتوء اليسير، يقال: مد حبله حتى ما فيه أمت. انتهى منه.
وقوله تعالى: (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) [طه: ١٠٨].
قوله: (ﮣ) أي: يوم إذ نسفت الجبال (ﮤ ﮥ) والداعي: هو الملك الذي يدعوهم إلى الحضور للحساب، قال بعض أهل العلم: يناديهم أيتها العظام النخرة، والأوصال المتفرقة، واللحوم المتمزقة، قومي إلى ربك للحساب والجزاء، فيسمعون الصوت ويتبعونه، ومعنى (ﮦ ﮧ ﮨ) أي: لا يحيدون عنه ولا يميلون يمينًا ولا شمالًا، وقيل: لا عوج لدعاء الملك عن أحد، أي: لا يعدل بدعائه عن أحد، بل يدعوهم جميعًا، وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من اتباعهم للداعي للحساب، وعدم عدولهم عنه بينه في غير هذا الموضع، وزاد أنهم يسرعون إليه كقوله تعالى: (ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [القمر: ٦ - ٨].
والإهطاع: الإسراع، وقوله تعالى: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [ق: ٤١ - ٤٢].
وقوله تعالى: (ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ) [الإسراء: ٥٢].
إلى غير ذلك من الآيات60.
وقال تعالى: (ﮰ ﮱ ﯓ) [المرسلات: ١٠].
قال القرطبي: (ﮰ ﮱ ﯓ) أي: ذهب بها كلها بسرعة، يقال: نسفت الشيء وأنسفته: إذا أخذته كله بسرعة، وكان ابن عباس والكلبي يقول: سويت بالأرض، والعرب تقول: فرس نسوف إذا كان يؤخر الحزام بمرفقيه، قال بشر61:
نسوف للحزام بمرفقيها
ونسفت الناقة الكلأ: إذا رعته، وقال المبرد: نسفت قلعت من موضعها، يقول الرجل للرجل يقتلع رجليه من الأرض أنسفت رجلاه، وقيل: النسف تفريق الأجزاء حتى تذروها للرياح، ومنه نسف الطعام؛ لأنه يحرّك حتى يذهب الريح بعض ما فيه من التبن62.
رابعًا: تسيير الجبال:
ثمّ بيّن أنّه يسيّرها في الهواء بين السّماء والأرض؛ وذلك في قوله: (ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ) [النمل: ٨٧ - ٨٨].
وقوله: (ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) [الكهف: ٤٧]. وقوله: (ﭙ ﭚ ﭛ) [التكوير: ٣]. وقوله تعالى: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ) [النبأ: ٢٠]. وقوله تعالى: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ) [الطور: ٩ - ١٠].
ثمّ بيّن أنّه يفتّتها ويدقّها كقوله: (ﮝ ﮞ ﮟ) [الواقعة: ٥].
أي: فتّتت حتّى صارت كالبسيسة، وهي دقيقٌ ملتوتٌ بسمنٍ أو نحوه على القول بذلك، وقوله: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) [الحاقة: ١٤].
ثم بيّن أنه يصيّرها كالرمل المتهايل وكالعهن المنفوش؛ وذلك في قوله: (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ) [المزمل: ١٤].
وقوله تعالى: (ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ) [المعارج: ٨ - ٩].
في المعارج والقارعة، والعهن: الصوف المصبوغ، ومنه قول زهير بن أبي سلمى في معلقته63:
كأن فتات العهن في كل منزل
نزلن به حب الفنا لم يحطم
ثم بيّن أنها تصير كالهباء المنبث في قوله: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ) [الواقعة: ٥ - ٦].
ثم بيّن أنها تصير سرابًا؛ وذلك في قوله: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ) [النبأ: ٢٠].
وقد بيّن في موضع آخر: أن السراب لا شيء؛ وذلك قوله تعالى: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) [النور: ٣٩].
وبيّن أنه ينسفها نسفًا في قوله هنا: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ) [طه: ١٠٥]64.
وفي قوله تعالى: (ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) [الكهف: ٤٧].
قال الطبري: «يقول تعالى ذكره: (ﭠ ﭡ ﭢ) عن الأرض فنبسّها بسًّا، ونجعلها هباء منبثًا (ﭣ ﭤ ﭥ) ظاهرة، وظهورها لرأي أعين الناظرين من غير شيء يسترها من جبل ولا شجر هو بروزها، وبنحو ذلك قال جماعة من أهل التأويل»65.
وقال تعالى: (ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ) [النمل: ٨٨].
قال ابن كثير: «وقوله تعالى: (ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ) [النمل: ٨٨].
أي: تراها كأنها ثابتة باقية على ما كانت عليه (ﰄ ﰅ ﰆ ﰇﰈ) أي: تزول عن أماكنها، كما قال تعالى: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ) [الطور: ٩ - ١٠]. قال تعالى: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) [طه: ١٠٥ - ١٠٧]. وقال تعالى: (ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) [الكهف: ٤٧]» 66.
وقال تعالى: (ﯠ ﯡ ﯢ) [الطور: ٩ - ١٠].
قال القنوجي: «(ﯠ ﯡ ﯢ) أي: تزول عن أماكنها، وتسير عن مواضعها كسير السحاب، وتطير في الهواء، ثم تقع على الأرض مفتّتة كالرمل، ثم تصير كالعهن أي الصوف المندوف، ثم تطيّرها الرياح فتكون هباء منبثًا، كما دل عليه كلامه في سورة النمل، قيل: ووجه تأكيد الفعلين بالمصدر الدلالة على غرابتهما وخروجهما عن المعهود، والحكمة في مور السماء، وسير الجبال الإعلام والإنذار بأن لا رجوع ولا عود إلى الدنيا لخرابها وعمارة الآخرة، وقد تقدم تفسير مثل هذا في سورة الكهف»67.
وقال القاسمي: «(ﯠ ﯡ ﯢ) [الطور: ٩ - ١٠] أي: تسير عن وجه الأرض فتصير هباء منثورًا»68.
وقال تعالى: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ) [النبأ: ٢٠].
قال الطبري: «قوله: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ) يقول: ونسفت الجبال فاجتثت من أصولها، فصيّرت هباء منبثًا، لعين الناظر، كالسراب الذي يظنّ من يراه من بعد ماء، وهو في الحقيقة هباء»69.
وقال تعالى: (ﭙ ﭚ ﭛ) [التكوير: ٣].
قال الطبري: «قوله: (ﭙ ﭚ ﭛ) يقول: وإذا الجبال سيّرها اللّه، فكانت سرابًا وهباءً منبثًّا»70.
وقال القاسمي: «(ﭙ ﭚ ﭛ) أي: رفعت عن وجه الأرض ونسفت، من أثر الرجفة والزلزال الذي قطّع أوصالها»71.
خامسًا: الجبال هباء منبث:
قال تعالى: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ) [الواقعة: ٥ - ٦].
قال الطبري: «وقوله: (ﮝ ﮞ ﮟ) يقول تعالى ذكره: فتّتت الجبال فتًّا، فصارت كالدقيق المبسوس، وهو المبلول، كما قال جلّ ثناؤه: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ) [المزمل: ١٤].
والبسيسة عند العرب: الدقيق والسويق تلتّ وتتخذ زادًا»72.
وقال القاسمي: «قوله: (ﮡ ﮢ ﮣ) أي: متفرقًا، قال قتادة: الهباء ما تذروه الريح من حطام الشجر، وقال غيره: هو ما يرى من الكوة كهيئة الغبار»73.
موضوعات ذات صلة: |
الآيات الكونية، الأرض، السماء، البحر، الماء |
1 البيتان من شواهد مقاييس اللغة، ولم يعلم لهما قائل. انظر: مقاييس اللغة ١/ ٥٠٢.
2 مقاييس اللغة، ابن فارس ١/٥٠٢.
3 هذا البيت مما أنشده ابن الأعرابي ولم يعلم له قائل.
انظر: تهذيب اللغة، الأزهري ٨/ ٢٧، الفصول والغايات، المعري ص ١٣٢.
4 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، ص١٦٣- ١٦٤.
5 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ١/ ٥٠٢.
6 انظر: المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية ١/ ١٠٥.
7 جامع البيان، الطبري ١٤/ ٥٩٧.
8 انظر: المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، ٢/١٠٠٩.
9 انظر: المصدر السابق ٢/٦٢٤.
10 المصدر السابق١/٤٥٨.
11 المصدر السابق.
12 القاموس المحيط، الفيروزآبادي، ص١٢٨٦.
13 انظر: الصحاح، الجوهري، ٦/٢٥٢١.
14 التحرير والتنوير ١٤/١٢٠- ١٢١.
15 تفسير القرآن العظيم ٤/٤٣١.
16 القرآن وإعجازه العلمي، محمد إسماعيل إبراهيم ص١٤٥- ١٤٦.
17 تفسير القرآن العظيم ٨/ ٣٠٢.
18 القرآن وإعجازه العلمي، محمد إسماعيل إبراهيم ص٦٤، ٦٥.
19 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٦/١٩، محاسن التأويل، القاسمي ٦/٢٥٧.
20 البحر المحيط ٦/٣٤٦.
21 غرائب القرآن ٤/١٣٨.
22 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٦/ ٤٨١.
23 جامع البيان ١٩/٣٦٣.
24 القرآن وإعجازه العلمي، محمد إسماعيل إبراهيم ص ١٧٤.
25 إرشاد العقل السليم، ٦/ ١٨٤.
26 انظر: أنوار التنزيل، البيضاوي ٤/١١٠، فتح القدير، الشوكاني ٤/٤٩.
27 انظر: الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، جامعة المدينة العالمية ص٣٠٢- ٣٠٣، ٣١٥.
28 انظر: ديون طرفة بن العبد ص٣٠.
29 انظر: ديوان حسان بن ثابت ص٩٩.
30 التحرير والتنوير ٢٩/ ٣٤٦.
31 انظر: الجامع لأحكام القرآن القرطبي ١٩/ ٩٨.
32 المصدر السابق.
33 الهداية إلى بلوغ النهاية، مكي بن أبي طالب ١٢/ ٧٨٦٨.
34 بيان المعاني، عبد القادر العاني ١/٢٤٠.
35 التفسير المظهري، محمد ثناء الله ١٠/٢٩١.
36 انظر: معالم التنزيل، البغوي ٣/ ٨٦، أنوار التنزيل، البيضاوي ٣/ ٢٣٢.
37 انظر: تفسير القرآن، السمعاني ٣/ ١٨٥.
38 انظر: الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، جامعة المدينة العالمية ص٢٧٦.
39 القرآن وإعجازه العلمي، محمد إسماعيل إبراهيم ص١٥١.
40 الكليات، الكفوي ص١٦٣.
41 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: (ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ)، ٤/١٤٩، رقم ٣٣٨٠، ومسلم في صحيحه، كتاب الزهد والرقائق، باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، رقم ٢٩٨٠.
42 تفسير القرآن العظيم ٤/٥٤٥.
43 المصدر السابق ٦/١٥٦.
44 تفسير القرآن العظيم ٨/٧٨.
45 تيسير الكريم الرحمن، ص٦٧٣.
46 في ظلال القرآن ٥/٣٠١٧.
47 جامع البيان ٢٣/٢٢٤.
48 معالم التنزيل ٥/١٤٥.
49 تفسير القرآن العظيم ٨/٢١.
50 تيسير الكريم الرحمن ص٨٩٣.
51 جامع البيان ٢٣/٢٥٦.
52 معالم التنزيل، ٨/٢٢١.
53 انظر: المصدر السابق ٥/١٥٢.
54 جامع البيان ٢٤/٥٩٤.
55 تفسير القرآن العظيم ٥/٣١٦.
56 أضواء البيان ٤/٩٨.
57 انظر: ديوان الأعشى ص١٢٦.
58 انظر: ديوان لبيد بن ربيعة ص٤٥.
59 البيت مذكور في: تهذيب اللغة، الأزهري ١٠/١١٢، لسان العرب، ابن منظور ٥/١٤٧ دون تسمية قائله.
60 أضواء البيان ٤/٩٦- ١٠٠.
62 الجامع لأحكام القرآن ١٩/١٥٧.
63 انظر: ديوان زهير بن أبي سلمى ص٦٦.
64 انظر: أضواء البيان ٤/ ٩٦- ١٠٠.
65 جامع البيان ١٥/٢٨١.
66 تفسير القرآن العظيم ٦/٢١٧.
67 فتح البيان ١٣/٢٢٠.
68 محاسن التأويل ٩/٥٠.
69 جامع البيان ٢٤/٢٠.
70 المصدر السابق ٢٤/١٣٣.
71 محاسن التأويل ٩/٤١٢.
72 جامع البيان ٢٢/٢٨٢.
73 محاسن التأويل ٩/١١٩.