التوحيد
أولًا: المعنى اللغوي:
أصل مادة (وح د) تدل على الانفراد1.
والوَحْدة: الانفراد2.
و(أحد) اسم الله جل ثناؤه، لا يوصف شيء بالأحدية غيره؛ لأن أحدًا صفة من صفات الله التي استأثر بها، فلا يشركه فيها شيء، وليس كقولك: (الله واحد)، و(هذا شيء واحد)، لأنه لا يقال: شيء أحد3.
والتوحيد: الإيمان بالله تعالى وحده لا شريك له4.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحيّ:
عرف الجرجاني التوحيد بأنه: معرفة الله تعالى بالربوبية، والإقرار بالوحدانية، ونفي الأنداد عنه جملة5.
وعرفه السعدي بأنه: العلم والاعتراف بتفرد الرب بصفات الكمال والإقرار بتوحده بصفات العظمة والجلال , وإفراده وحده بالعبادة6.
ولم تأت مفردة (التوحيد) بهذه الصيغة في القرآن الكريم، وإنما استعمل القرآن الكريم جذرها (و ح د) في معانٍ أخرى، لا صلة لها بموضوع البحث.
الشرك:
الشرك لغة:
مأخوذ من شرك، ومنه: (أشرك بالله: كفر أي: جعل له شريكًا في ملكه تعالى الله عن ذلك)7، وقد يأتي بمعنى المخالطة والنصيب، لكن المراد هنا هو الكفر.
الشرك اصطلاحًا:
تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائصه سبحانه8.
الصلة بين الشرك والتوحيد:
الشرك هو الظلم العظيم، ولا يغفره الله لصاحبه -إن مات عليه-؛ لأنه يناقض أصل التوحيد، ويخرج صاحبه عن الملة، ويحبط عمله ويخلّده في النار.
الإلحاد:
الإلحاد لغة:
مادة (ل ح د) تدل على معنى ميل عن استقامة، فيقال: (لحد السهم عن الهدف)، أي: عدل عنه، ولحد الرجل في الدين: طعن وحاد عنه وعدل وجادل ومارى. ولحد، أي: مال عن طريق القصد، وجار وظلم9.
والملحد: «الطاعن في الدين المائل عنه»10.
الإلحاد اصطلاحًا:
هو: «الميل، والجور، والانحراف عن الإسلام، أو الإيمان»11.
الإلحاد المعاصر: الإلحاد المصطلح عليه في هذا العصر يعني: إنكار وجود الله، والقول بأن الكون وجد بلا خالق، وأن المادة أزلية أبدية، واعتبار تغيرات الكون قد تمت بالمصادفة، أو بمقتضى طبيعة المادة وقوانينها، واعتبار ظاهرة الحياة، وما تستتبع من شعور وفكر عند الإنسان، من أثر التطور الذاتي في المادة12.
الصلة بين الإلحاد والتوحيد:
العلاقة بينهما علاقة تضاد، فالملحد انحرف عن التوحيد والدين القويم.
العبادة:
العبادة لغةً:
من الفعل عبد يعبد، عبادةً وعبوديةً، والمفعول: معبود، وعبد الله بمعنى وحّده وأطاعه، وانقاد وخضع وذلّ له، والتزم شرائع دينه، وأدّى فرائضه13.
العبادة اصطلاحًا:
قال المناوي: «العبادة فعل المكلف على خلاف هوى نفسه؛ تعظيمًا لربه، وقيل: هي الأفعال الواقعة على نهاية ما يمكن من التذلل والخضوع المتجاوز لتذلل بعض العباد لبعض، ولذلك اختصّت بالرب، وهي أخص من العبودية التي تعني مطلق التذلل»14.
وقال الراغب: «العبودية: إظهار التّذلل، والعبادة أبلغ منها؛ لأنها غاية التّذلل، ولا يستحقها إلا من له غاية الإفضال وهو الله تعالى»15.
الصلة بين العبادة والتوحيد:
وعلاقة العبادة بالتوحيد علاقة واضحةٌ، فالله جل وعلا هو المستحق للعبادة دون سواه، وتفريده جل وعلا بالعبادة على اختلاف صورها هو حقيقة التوحيد (توحيد الإلهية) وهو مضمون شهادة: لا إله إلا الله.
القلوب مفطورة على حب خالقها وتأليهه:
إن الإيمان بوجود الله جل وعلا والإيمان بوحدانيّته تعالى في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، له دلائله الكثيرة، وشواهده المتعددة، وفي مقدّمة هذه الدلائل والشواهد (الفطرة)، إن التوحيد حقيقةٌ فطريّةٌ قبل أن يكون معرفةً نظريّةً جدليّةً، وإنّ أرقّ أساليب الإقناع وأبلغ أساليب الإذعان بأصول الإيمان: إحالة المخاطبين إلى فطرهم وغرائزهم16، وكذلك كان منهج القرآن الكريم في اعتماده دليل (الفطرة) في معالجة قضايا التوحيد.
لقد جاءت كلمة (الفطرة) بلفظها مرة واحدة في القرآن الكريم في قوله تعالى: (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩﯪﯫﯬ)[الروم: ٣٠].
وقد فسّر العلماء (الفطرة) بمعانٍ مختلفةٍ متقاربةٍ، وأنسبها في هذا المقام أنّ المقصود بـ(الفطرة): هو الشعور المغروس في النفس الإنسانية بوجوده سبحانه، وبتوحيده سبحانه وتعالى بربوبيته وألوهيته، إن هذه الغريزة الدينية المركوزة في داخل كل إنسان منذ بداية خلقه، هي البوصلة التي توجّه قلبه وعقله إلى توحيد الله تعالى قبل أيّ دليلٍ آخر17.
والسنة النبوية أيضًا تؤكد ذلك: أن الله تعالى قد خلق الإنسان مؤمنًا بربه، متّجهًا إليه بفطرته بالطاعة والعبادة، وأنّ غايته هي تحقيق العبودية والتوحيد، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (كلّ مولودٍ يولد على الفطرة)، وفي روايةٍ: (على هذه الملّة)، (فأبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه)، وفي رواية: (ويشرّكانه)، (كما تولد البهيمة بهيمةً جمعاء، هل تحسّون فيها من جدعاء؟!، حتّى تكونوا أنتم تجدعونها) قالوا: يا رسول الله؛ أفرأيت من يموت منهم وهو صغيرٌ؟، قال: (الله أعلم بما كانوا عاملين)، ثمّ يقول أبو هريرة رضي الله عنه: واقرءوا إن شئـتم: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ) [الروم: ٣٠]18.
فلم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث: (يسلمانه)؛ لأنّ الإسلام موافقٌ للفطرة19.
بل هو الفطرة المركوزة في النفس الإنسانية، وهو الوضع الطبيعي لها، فلا يحتاج إذًا لتأثير الأبوين، أما باقي المذاهب الإلحادية فهي تغطي الفطرة، وتنكّسها وتصادمها؛ لذلك فهي لا تأتي على النفس من داخلها، إنما تأتي بمؤثر خارجي20.
ويضرب الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك مثلًا محسوسًا، وهو ولادة البهيمة سالمةً من العيب، ثم يطرأ عليها العيب بعد ذلك بجناية الإنسان.
يقول ابن القيم رحمه الله: «فجمع عليه الصلاة والسلام بين الأمرين: تغيير الفطرة بالتّهويد والتّنصير، وتغيير الخلقة بالجدع، وهما الأمران اللذان أخبر إبليس أنه لابدّ أن يغيّرهما، فغيّر فطرة الله بالكفر، وهو تغيير الخلقة التي خلقوا عليها، وغيّر الصورة بالجدع والبتك، فغيّر الفطرة إلى الشّرك، والخلقة إلى البتك والقطع، فهذا تغيير خلقة الرّوح، وهذا تغيير خلقة الصورة».
ويقول كذلك: «فالقلوب مفطورةٌ على حبّ إلهها وفاطرها وتأليهه، فصرف ذلك التألّه والمحبّة إلى غيره تغييرٌ للفطرة»21.
وبما أن معرفة الله وتوحيده فطرةٌ في النفوس؛ لذلك لمّا شك الأقوام المكذبون لرسلهم في الدعوة لتوحيد الله، استغرب الرسل هذا الشك فقالوا: (ﯕﯖﯗ)؟! [إبراهيم: ١٠].
الفطرة السليمة والعقل الصحيح ينطقان الإنسان بتوحيد الخالق:
والمخاطبون حين نزول القرآن يعرفون ربهم الذي خلقهم، وتنطق فطرهم بالحق عندما تسأل، ويؤازر هذه الفطرة العقل الصحيح؛ إذ جعله الله تعالى نورًا للإنسان.
قال تعالى: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ ﰄ ﰅ ﰆ) [المؤمنون: ٨٤- ٨٩].
ويقول تعالى: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ) [العنكبوت: ٦١].
وقد أدرك الأعرابيّ بفطرته السليمة وعقله الصحيح أنّ هذه المخلوقات العظيمة، من أرض وسماء، وليل ونهار، وشمس وقمر، وإنسان وحيوان، ونبات وكواكب، ورياح وسحاب، وغيرها، تدل على الخالق تبارك وتعالى، حيث قال: «البعرة تدلّ على البعير، والأثر يدلّ على المسير، ليلٌ داجٍ، ونهارٌ ساجٍ، وسماءٌ ذات أبراجٍ، أفلا تدلّ على الصانع الخبير؟!»22.
الفطرة تنطق الحيوان والجمادات أيضًا بالتوحيد:
وهذه الغريزة الفطرية لم تكن مقتصرة على النفوس البشرية وحدها، بل حتى الطير والجمادات وغيرها، قد فطرها ربّها وخالقها على تسبيحه وتحميده وتنزيهه، نطقًا لا يفهمه إلاّ الذي أنطقها.
قال تعالى: (ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ) [الإسراء: ٤٤].
وقال تعالى: (ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ) [النور: ٤١].
وقال تعالى: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ) [الحج: ١٨].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «والمقصود إذا كانت هذه الجمادات قد فطرت على معرفة ربها وتسبيحه وتنزيهه، والإنسان أشرف منها، فلأن يفطر على معرفته بربه بطريق الأولى والأحرى؛ لما ركّب فيه من العقل والتمييز والفطنة»، إلى أن يقول: «وهذا الهدهد طير من الطيور، وفي نظرنا عديم العقل، يصيح كغيره من الطيور، قد خاطب سليمان بأعظم التوحيد، وأعلمه بغير ذلك، فقال: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [النمـل: ٢٢].
إلى قولـه: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [النمل: ٢٦].
هذا كله كلام الهدهد، كما اتفق على ذلك المفسرون»ا هـ23.
منهج القرآن في الدعوة إلى التوحيد بتحريك الفطرة وإيقاظها:
وحيث إن القرآن الكريم يعتبر هذه القضية -قضية معرفة وجود الله والإيمان به وتوحيده- أمرًا فطريًا في النفوس البشرية السليمة، وحقيقة بدهية لا تحتاج إلى جدال أو نقاش، فكل إنسان عاقل يدرك بنفسه هذه الحقيقة، بما أودعه الله تعالى فيه من فطرة يحس بها، دون الحاجة إلى منهج إضافي يسلكه لمعرفة ربه خالقه ورازقه؛ لذلك فإنّ منهج القرآن الكريم ومسلكه في هذه القضية، البدء بالفطرة يوقظها، ويذكّرها بما هو مغروس في أعماقها؛ ليجد أنها معترفة ومقرة بوجود الخالق العظيم، وأنها في ذلك لا تحتاج إلى دليل.
والدلائل التي تحرّك هذه الفطرة، وتشير إلى وجود الله تعالى أكثر من أن تحصى، إنها تنبعث من كل شيء على وجه الأرض، بل ومن كل شيء في السماء، أضف إلى ذلك النظام البديع، والدقة المتناهية في صنع هذه المخلوقات، والترتيب في سيرها وحركتها، فيدرك الإنسان بعقله وبصيرته أنّ هذا النظام وذلك الإبداع، لا يمكن أن يحدث من غير محدث، أو يوجد من غير موجد؛ لأنّ تلك المخلوقات عاجزة عن إيجاد ذلك النظام الدقيق، والترتيب المحكم من تلقاء نفسها24.
قيمة التزام التوحيد والتديّن الصحيح في إرواء الفطرة:
ولأن عقيدة التوحيد ليست غريبةً عن الفطرة أو مغايرة لها، بل هي تلائم الفطرة وتنميها ولا تصادمها، فهي العقيدة الوحيدة التي تستطيع أن تشبع الجوعة الفطرية التي لا تشبعها النظم الفلسفية، ولا المذاهب الوثنية، ولا السلطان السياسي، ولا الثراء المالي25.
فمهما استعلنت المذاهب المادية الإلحادية وتزخرفت، ومهما تعددت الأفكار والنظريات، فلن تغني الأفراد والمجتمعات عن الدين الصحيح، ولن تستطيع أن تلبي متطلبات الروح والجسد، بل كلما توغل الفرد فيها أيقن تمام اليقين أنها لا تمنحه أمنًا، ولا تروي له ظمأ، وألا مهرب منها إلا إلى الدين الصحيح.
فالتدين الحق -الذي يعتمد على إفراد الله بالتوحيد، والتعبد له وفق ما شرع- هو عنصر ضروري للحياة؛ ليحقق المرء من خلاله عبوديته لله رب العالمين، ولتحصيل سعادته وسلامته من العطب والنصب والشقاء في الدارين، وهو ضروري لتكتمل القوة النظرية في الإنسان، فبه وحده يجد العقل ما يشبع نهمته، ومن دونه لا يحقق مطامحه العليا، وهو عنصر ضروري لتزكية الروح وتهذيب قوة الوجدان؛ إذ العواطف النبيلة تجد في الدين مجالًا ثرًّا، ومنهلًا لا ينفد معينه تدرك فيه غايتها26.
انحراف الفطرة وتشوّهها بجناية الإنسان والشيطان:
وقد يقال هنا: لو كان التوجّه إلى الله أمرًا فطريًّا حقًّا، لما عبد النّاس في مختلف العصور آلهةً شتى، فهذا واقعٌ مسلّمٌ به يخالف المدّعى.
والجواب: أنّ الفطرة -كما سبق- تدعو المرء إلى الاتجاه إلى الخالق، لكنّ الإنسان تحيط به مؤثرات كثيرة تجعله ينحرف، ففيما يغرسه الآباء في نفوس الأبناء، وفيما يلقيه الكتّاب والمعلمون والباحثون في أفكار الناشئة ما يبدّل هذه الفطرة ويقذرها، ويلقي عليها غشاوة، فلا تتجه إلى الحقيقة.
وقد يقال: إذا تركنا الطفل من غير أن نؤثّر في فطرته، هل يخرج موحدًا عارفًا بربّه؟!، فنقول: إذا ترك شياطين الإنس البشر، ولم يدّنسوا فطرهم، فإنّ شياطين الجنّ لن يتركوهم، فقد أخذ الشيطان على نفسه العهد بإضلال بني آدم.
قال تعالى: (ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ) [ص: ٨٢-٨٣]27.
وأعطي الشيطان القدرة على أن يصل إلى قلب الإنسان، كما في الحديث الصحيح: (إنّ الشّيطان يجري من ابن آدم مجرى الدّم، وإنّي خشيت أن يقذف في قلوبكما شرًّا) أو قال: (شيئًا)28.
والقرآن الكريم وصف الشيطان المطلوب الاستعاذة منه بأنه: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) [الناس: ٥].
وقد صحّ أيضًا أنّ لكل إنسان قرينًا من الجنّ، يأمره بالشرّ، ويحثه عليه، وفي القرآن الكريم: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ) [ق: ٢٧].
وكما أمدّ الله الإنسان بملكٍ يهديه ويؤيده، فإنه كذلك يمدّه بشيطانٍ يوسوس له، ويزيّن له السّوء، ويغريه بالمنكر، ويدعوه إلى الفتنة، يستوي في ذلك الأنبياء وغيرهم.
قال تعالى: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ) [الأنعام: ١١٢]29.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم من عندي ليلًا، فغرت عليه، فجاء فرأى ما أصنع، -وفي روايةٍ: فأدخلت يدي في شعره-، فقال: (ما لك يا عائشة، أغرت؟)، قلت: وما لي لا يغار مثلي على مثلك؟ فقال: (أقد جاءك شيطانك؟)، قلت: يا رسول الله، أو معي شيطانٌ؟ قال: (نعم)، قلت: ومع كلّ إنسانٍ شيطانٌ؟ قال: (نعم)، قلت: ومعك يا رسول الله؟، قال: (نعم، ولكن ربّي أعانني عليه حتّى أسلم)30.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما منكم من أحدٍ إلا وقد وكّل به قرينه من الجنّ) قالوا: وإيّاك يا رسول اللّه؟ قال: (وإيّاي، إلاّ أنّ اللّه أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلاّ بخيرٍ)31.
وشياطين الجنّ يقومون بدورٍ كبيرٍ في إفساد الفطرة وتدنيسها؛ لأنّ أعمالهم تتّجه دائمًا إلى التمرّد على الله، وإلى التفريق والتمزيق والتخريب والتدمير، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، ووصل ما أمر الله به أن يقطع، فما من شر في الأرض ولا فساد في الوجود، إلا ولهم به صلة.
وهم الذين زيّنوا للأمم السابقة سوء العمل، وحسّنوا لهم الكفر والمعاصي، ودعوهم إلى تكذيب الرّسل ومخالفة أوامر الله، ولا تزال هذه أعمالهم32.
قال تعالى: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ) [النحل: ٦٣].
وعن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: (ألا إنّ ربّي أمرني أن أعلّمكم ما جهلتم ممّا علّمني يومي هذا، كلّ مالٍ نحلته عبدًا حلالٌ، وإنّي خلقت عبادي حنفاء كلّهم، وإنّهم أتتهم الشّياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا...) إلى آخر الحديث33.
فالشياطين هي التي دعت إلى تحريف الدّين، والخروج على الفطرة، وإلى الإشراك بالله، وحرّمت الحلال، وأحلّت الحرام، ولا تزال الشياطين تقعد للإنسان بكلّ طريقٍ صادّةً عن سبيل الله، ومحاولةً صرفه عن جلائل الأعمال.
ففي حديث سبرة بن فاكهٍ (أو: أبي فاكهٍ) رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنّ الشّيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد له بطريق الإسلام، فقال: تسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبيك؟!، فعصاه فأسلم، ثمّ قعد له بطريق الهجرة، فقال: تهاجر وتدع أرضك وسماءك؟!، وإنّما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطّول، فعصاه فهاجر، ثمّ قعد له بطريق الجهاد، فقال: تجاهد فهو جهد النّفس والمال، فتقاتل فتقتل، فتنكح المرأة، ويقسم المال، فعصاه فجاهد)، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (فمن فعل ذلك كان حقًّا على اللّه عز وجل أن يدخله الجنّة، ومن قتل كان حقًّا على اللّه عز وجل أن يدخله الجنّة، وإن غرق كان حقًّا على اللّه أن يدخله الجنّة، أو وقصته دابّته كان حقًّا على اللّه أن يدخله الجنّة)34.
والشيطان هو الذي قام بدور رئيس في محاولة القضاء على دعوة الإسلام في أول صدام له مع أعدائه.
قال تعالى: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ) [الأنفال: ٤٨].
وهذا الشيطان هو الذي يزين لكل فرد ما تهفو إليه نفسه، ويميل إليه هواه من حب للجنس، أو طمع في المال، أو حرصٍ على المنصب، أو تطلّع إلى الجاه، أو إيثار للاستبداد، أو ميل إلى الطغيان، بل إنه ليتسلط على المتدينين أنفسهم؛ ليزيدوا في شرع الله، أو ينقصوا منه؛ ليطوّعوا الدين لأهوائهم، ويخضعوه لشهواتهم.
وهو الذي يغري العداوة والبغضاء بين الناس، فيفرّق بين الأخ وأخيه، وبين الزوج والزوجة، وبين طوائف الأمة وجماعاتها، وهو الذي يوقد نيران الحروب بين الأمم والشعوب، وينفخ فيها لتهلك الحرث والنسل، وتأتي على الأخضر واليابس.
وكلما كان الشيطان أقدر على الشر، كان أقرب منزلة وأعلى قدرًا لدى رئيسه إبليس لعنه الله.
عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنّ إبليس يضع عرشه على الماء، ثمّ يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلةً أعظمهم فتنةً.. يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئًا، قال: ثمّ يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتّى فرّقت بينه وبين امرأته، قال: فيدنيه منه ويقول: نعم أنت)35.
إن كل ما يعانيه الإنسان من فتن وويلات، إنما هو من نتاج إبليس وجنوده الأشرار36.
وعودٌ على بدءٍ، فلأجل كلّ هذا الانحراف الناشئ عن الدّخائل المبطلة من جنايات الإنسان والشيطان في تلويث الفطرة، فقد جاء تمام الآية الكريمة في الفطرة قوله تعالى: (ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ) [الروم: ٣٠].
فكثيرٌ من الناس قد فقدوا الاعتقاد والمعرفة والإدراك لتلك الحقيقة العظيمة المرتبطة بحياة البشر ودينهم وأعمالهم37.
المصائب قد تجلو الفطرة وتصحّح مسارها:
وكثيرًا ما تنكشف الحجب عن الفطرة المشوّهة؛ فتزول عنها الغشاوة التي رانت عليها، عندما تصاب بمصاب أليم، أو تقع في مأزق لا تجد فيه من البشر عونًا، وتفقد أسباب النجاة، فكم من ملحد عرف ربّه وآب إليه عندما أحـيط به، وكم من مشرك أخلص دينه لله لضرٍّ نـزل به.
قال تعالى: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) [يونس: ٢٢]38.
ومهما بلغ الإنسان في الطغيان والكفر والعناد، تبقى هذه الفطرة لا يستطيع القضاء عليها مهما كابر في ذلك، وتظل دلائلها تظهر وهو يشعر أو لا يشعر.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) [النمل: ١٤].
وفرعون أجرم طاغية في البشر؛ أنكر وجود الله، ودعا الناس إلى عبادته، وهدد موسى عليه السلام إن اتخذ إلهًا غيره، قال له موسى عليه السلام كما قصّ الله تعالى: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ) [الإسراء: ١٠٢].
ثم كانت العاقبة أن قال فرعون وهو في أحضان الموج وقد أدركـه الغـرق: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ) [يونس: ٩٠]39.
أقدمية التوحيد وأسبقيته على الشرك:
وإذا كان التوحيد حقيقةً فطريّة، فمن البدهيّ أن يكون الأصل في البشرية هو التوحيد، وأن يكون الشرك انحرافًا طارئًا دخيلًا عليها، فالتوحيد له أقدميته وأسبقيته على الشرك، خلافًا لما تقول به بعض النظريات الضالّة في تطوّر الأديان.
لقد حكى الله تعالى في القرآن الكريم أن أبا البشرية الأول آدم عليه السلام وذريته كانوا على التوحيد، يتبعون منهجًا إلهيًّا منزّلًا إليهم من ربهم تبارك وتعالى، فهم أول البشر، يدينون بالتوحيد الخالص، وبذلك يكون التوحيد سابقًا للشرك، وليس تطوّرًا عنه، ولم يعرف الشرك والانحراف إلا بعد قرون، حينما انحرف القوم عن دين الله وتوحيده، فبعث الله تعالى لهم نوحًا عليه السلام يدعوهم إلى عبادة الله تعالى وحده.
قال تعالى: (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ) [الأعراف: ٥٩]40.
بل لقد بيّن الله سبحانه أن البشرية كانت أول أمرها على التوحيد ثم طرأ عليها الشرك وتعدد الآلهة في آية واضحةٍ، وهي قوله تعالى: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ) [البقرة: ٢١٣].
وقد روى الحاكم في المستدرك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان بين نوحٍ وآدم عشرة قرونٍ كلّهم على شريعةٍ من الحقّ، فاختلفوا فبعث الله النّبيّين مبشّرين ومنذرين»، قال: «وكذلك في قراءة عبد الله: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ فاختلفوا)»41.
ويؤيد هذا التفسير لهذه الآية، الآية الأخرى في سورة يونس: (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) [يونس: ١٩].
وعن قتادة قال: «ذكر لنا أنه كان بين آدم ونوح عليهما السلام عشرة قرون كلهم على الهدى وعلى شريعـةٍ من الحق، ثم اختلفوا بعد ذلك؛ فبعث الله عز وجل نوحًا، وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض»42.
وجمهور المفسرين يقولون بأن الناس كانوا أمة واحدة على الهدى والتوحيد، فظهر فيهم الشرك عن طريق تعظيم الموتى، فبعث الله إليهم رسله؛ ليردوهم إلى التوحيد، قال الطبري: «إن دليل القرآن واضحٌ على أن الذين أخبر الله عنهم أنهم كانوا أمة واحدة، إنما كانوا أمة واحدة على الإيمان ودين الحق دون الكفر بالله والشرك به. وذلك أن الله -جل وعز- قال في السورة التي يذكر فيها (يونس): (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) [يونس: ١٩].
فتوعّد جلّ ذكـره على الاختلاف، لا على الاجتماع، ولا على كونهم أمة واحدة، ولو كان اجتماعهم قبل الاختلاف كان على الكفر ثمّ كان الاختلاف بعد ذلك، لم يكن إلا بانتقال بعضهم إلى الإيمان، ولو كان ذلك كذلك، لكان الوعد أولى بحكمته جل ثناؤه في ذلك الحال من الوعيد؛ لأنها حال إنابة بعضهم إلى طاعته، ومحالٌ أن يتوعّد في حال التوبة والإنابة، ويترك ذلك في حال اجتماع الجميع على الكفر والشرك»43.
ورجّح ابن كثير أيضًا قول ابن عباس وقتادة معلّلًا ترجيحه بقوله: «لأن الناس كانوا على ملة آدم حتى عبدوا الأصنام؛ فبعث الله إليهم نوحًا عليه السلام، فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض»، ويقول: «ثم أخبر الله تعالى أن هذا الشرك حادث في الناس كائن بعد أن لم يكن، وأن الناس كلهم كانوا على دين واحد، وهو الإسلام،...، ثم وقع الاختلاف بين الناس، وعبدت الأصنام والأنداد والأوثان؛ فبعث الله الرسل بآياته وبيناته وحججه البالغة وبراهينه الدامغة»44.
ونقول أيضًا أنه لا عجب في ذلك ولا غرابة؛ لأن الإنسان كلّما كان قريبا من النبع، كان الماء أكثر صفاءً ونقاءً، وكلما ابتعد عن النبع، وجد الماء أقلّ صفاءً ونقاءً؛ لما يطرأ عليه من الأذى، وما يداخله من القذى، والشوائب التي تنصبّ فيه، وهكذا كانت البشرية الأولى على الفطرة والتوحيد؛ لقرب عهدها بربها تعالى، ثم اختلطت بعد ذلك الينابيع، وتضافرت العوامل التي أدّت إلى الانحراف عن التوحيد، فكان ظهور الشرك طارئًا بعد ذلك التوحيد، وكان انحرافًا عنه45.
تفنيد مزاعم تطور الأديان من الشرك إلى التوحيد:
يزعم بعض الباحثين الغربيين -ممّن يسمّون بعلماء مقارنة الأديان-، وكذلك مقلدتهم من الكتاب المسلمين بأن الشرك سابق على التوحيد، وأن عبادة الإله قد تطورت من جيل إلى جيل، حتى وصلت إلى التوحيد الخالص، حتى زعم بعضهم أن عقيدة الإله الأحد عقيدة جد حديثة، وأنها وليدة عقلية خاصة بالجنس السامي.
وقد اعتمد هؤلاء على نظرية التطور والارتقاء، حيث قاسوا التوحيد في حياة البشر على نمو وتطور العلوم والصناعات التي تنمو وتتطور بسبب الجهد البشري46.
وقد يظن بعض المسلمين أن في ذلك ترقيًا للإنسان وتزكية للإسلام؛ لأنهم يزعمون أن البشرية لما كانت في حال من التأخر كانت تعبد آلهة متعددة، ولما ترقّت وتقدّمت أصبحت تعبد إلهًا واحدًا؛ فنشأت ديانات التوحيد، يظنون ذلك ويدافعون عنه، وإننا لنأسف كل الأسف لانخداعهم بهذه الأفكار الغربية، وتبنيهم لتلك النظرية الملحدة47.
ولا يخفى أن هذه الأباطيل فيها إنكار سافر لكل ما سبق من الوحي السماوي والسنة النبوية، علاوةً على منافاتها للفطرة والمنطق في مكابرةٍ صارخةٍ، ولو كان هناك تطورٌ حقًّا -كما تقول هذه النظريات-، لكان من الطبيعي والمنطقي أن يكون هذا التطور من الوحدة إلى الكثرة؛ لأن الواقع يدل على ذلك، فأنت عندما تبدأ بالعدّ والحساب -مثلًا- تبدأ بالواحد وتنتهي بما بعده من كثرة، وليس العكس48.
أما استدلال القائلين بأسبقية الوثنية على التوحيد بآثار الحفريات التي زعموا بأنها تدل على أن الناس في بادئ الأمر قد تدينوا بالوثنية، ثم تطورت عباداتهم مع تطورهم الفكري، فإن ذلك ما هو إلا مجرد التخمينات والتخرصات الوهمية، والتي لا تقاوم القرآن الكريم، والسنة الثابتة.
ومن الممكن والمعقول جدًا أن تكون تلك الآثار التي اكتشفوها قد وقعت لذرية آدم عليه السلام، وقد حدث الشرك الأول كما أشرنا في قوم نوحٍ عليه السلام، والدليل متى تطرق إليه الاحتمال، فلا يصح أن يكون دليلًا يحتج به، فكيف وأدلتهم تصطدم بنصوص القرآن والسنة؟!49.
إن الدعوة إلى الإيمان بالله تبارك وتعالى، وتقرير توحيده، وتنزيهه عن الند والصاحبة والولد، وإفراده بالعبادة، والتذلل إليه، والانقياد لأمره وحكمه، هي القضية الأساسية التي من أجلها بعث الله جميع أنبيائه ورسله، وقد جاء ذلك واضحًا جليًا فيما قصه الله تعالى علينا في القرآن الكريم من دعوة الرسل إلى أممهم وأقوامهم50، يقول ابن أبي العز الحنفي رحمه الله: «اعلم أنّ التّوحيد أوّل دعوة الرّسل، وأوّل منازل الطّريق، وأوّل مقامٍ يقوم فيه السّالك إلى اللّه عز وجل»51.
ويلاحظ أن الجانب الأهم في دعوة الرسل عليهم السلام هو توحيد الله تعالى بالعبادة وإفراده بها، فلم يبعثهم الله لدعوة الناس إلى مجرد الإيمان بالله وأنه خالقهم، إذ هم مقرّون بذلك تناسقًا مع الفطرة التي فطرهم الله تعالى عليها، ولم تكن قضية وجود الله في يوم من الأيام هي القضية التي يقف الناس عندها، إلا في فترات قليلة، ولظروف خاصة عند بعض الأوروبيين الذين عرف عنهم الإلحاد، وحاولوا أن يجدوا له فلسفة خاصة؛ تبريرا لانحرافهم وفساد فطرتهم52.
ولا ريب أن توحيد الربوبية لم ينكره المشركون، بل أقرّوا بأنه -سبحانه وحده- خالقهم، وخالق السموات والأرض، والقائم بمصالح العالم كله، وإنما أنكروا توحيد الإلهيّة والمحبّة، كما قد حكى الله تعالى عنهم في قوله: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ) [البقرة: ١٦٥].
فلما سووا غيره به في هذا التّوحيد كانوا مشركين، كما قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [الأنعام: ١].
وقد علّم الله سبحانه وتعالى عباده كيفية مباينة الشّرك في توحيد الإلهيّة، وأنه تعالى حقيق بإفراده وليًّا وحكمًا وربًّا، فقال تعالى: (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ) [الأنعام: ١٤].
وقال: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) [الأنعام: ١١٤].
وقال: (ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ) [الأنعام: ١٦٤].
فلا وليّ ولا حكم ولا ربّ إلاّ الله، الذي من عدل به غيره، فقد أشرك في ألوهيّته -ولو وحّد ربوبيّته-، فتوحيد الربوبيّة هو الذي اجتمعت فيه الخلائق مؤمنها وكافرها، وتوحيد الإلهيّة مفرق الطرق بين المؤمنين والمشركين53.
ولذلك حكى الله تعالى عن الأقوام السابقين تعجّبهم من دعوة الأنبياء إلى التوحيد وعبادة الله تعالى وحده.
قال تعالى: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ) [الأعراف: ٧٠].
أي: لنفرده بالعبادة ونخصه بها من دون آلهتنا؟! فلم ينكروا إلا طلب الرسل منهم إفراد العبادة لله، ولم ينكروا الله تعالى، ولا قالوا: إنه لا يعبد، بل أقروا بأنه يعبد، وأنكروا كونه يفرد بالعـبادة، فعبدوا مع الله غيره وأشركوا معه سواه واتخذوا معه أندادا، كما قال تعالى: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [البقرة: ٢٢].
فأرسل الله الرسل تأمر بترك عبادة كل ما سواه، وتبين أن هذا الاعتقاد الذي يعتقدونه في الأنداد باطل، وأن التقرب إليهم باطل، وأن ذلك لا يكون إلا لله وحده، وهذا هو توحيد العبادة، وقد كانوا مقرّين بتوحيد الربوبية، وهو أن الله هو الخالق وحده والرازق وحده.
ولقد قرر القرآن الكريم هذا المعنى وأكده بطريقين:
الأول: الطريق الإجمالي.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [الأنبياء: ٢٥].
فهذا تعميم على سبيل الحصر، بأن كل رسول قد أوحي إليه أن الله تعالى متصف بالوحدانية، لا إله إلا الله، ومستحق للتوحيد، وذلك في قول الله: (ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ)؛ أي: أفردوني بالعبادة؛ لأني متفرد بالألوهية.
وقال تعالى في هذا المعنى أيضًا: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ) [النحل: ٣٦].
هذه الآية تقرر أن الله تعالى قد بعث في كل أمة رسولًا، وكان أول دعوة كل رسول في كل أمة: أن اعبدوا الله ولا تشركوا به الطواغيت، والطواغيت: كل ما يعبد من دون الله تعالى، وهو مشتق من الطغيان.
وننوه إلى أن هذا الطريق الإجمالي في إثبات القرآن الكريم أن توحيد العبادة هو أساس دعوة الرسل، له صيغتان مختلفتان ومدلولهما واحد، ونمثّل لهما بقوله تعالى: (ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ)[الأعراف: ٥٩].
وقوله: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [هود: ٢].
فإن مدلول الصيغة الأولى: الأمر بعبادة الله، وتقرير أن ليس هناك إله يعبد غيره، ومدلول الصيـغة الثانية: النهي عن عبادة غير الله، فالقرآن الكريم دعا لعبادة الله، ونهى عن عبادة غيره؛ لأن النفس البشرية بحاجة إلى النصّ القاطع على شطري هذه الحقيقة، فلم يكتف القرآن بالنهي الضمنيّ المفهوم من الأمر الصريح- على ما هو مقرر في علم الأصول من: «أن الأمر بالشيء نهيٌ عن ضده الذي لا يجتمع معه»، بل أتى بالنهي الصريح عن عبادة غير الله؛ لأن كثيرًا من الناس يعبدون الله ويعبدون معه غيره، فيقعون في الشرك ويحسبون أنهم مسلمون54.
الثاني: الطريق التفصيلي الاستقرائي:
هذا الطريق يذكر فيه القرآن الرسل بأسمائهم، وكيف كان التوحيد رأس دعوتهم جميعًا، ومن ذلك:
فهذه السورة الكريمة على وجازتها جامعة لكل ما يليق بالله -تعالى وحده-، من صفات الكمال: أحدية، استغناء، تنزيه له عن الشركاء والأشباه، ثم هي مصحّحة لضلالات المشركين وأهل الكتاب في باب الاعتقاد 55.
الربوبية والألوهية حقيقتا التوحيد
التوحيد هو إفراد الله بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته جميعًا:
(التوحيد) يعني اتصاف الله تعالى بالربوبية والألوهية والأسماء والصفات، و(التوحيد) يعني وجوب إفراده سبحانه وتعالى بالأمور الثلاثة، وهذه هي الحقيقة الشرعية للتوحيد: أن يؤمن العبد بأن الله تعالى هو وحده الرب، صاحب كل صفات التأثير والكمال، وأنه لذلك هو وحده الإله المستحقّ للعبادة والطاعة بلا شريك، وأنه لذلك هو الجدير وحده بالأسماء الحسنى والصفات العلا، فلا يصلح للمخلوق منها اسم ولا صفة، فإذا أقر العبد بأحد هذه الأركان الثلاثة فقط لم يكن موحدًا، وإنما يقال: هو مقرٌّ أو معترفٌ بأحدها، ولكن لا يصح أن يسمى موحدًا؛ لأن التوحيد هو مجموعها معًا.
ولهذا لم يطلق القرآن على الكفار أنهم موحدون توحيد الربوبية، حين أقروا أن الله تعالى هو الخالق المالك الرازق، وإنما سماهم كفارًا مشركين.
قال تعالى: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ) [يونس: ٣١-٣٤].
لقد سماهم القرآن كفارًا مشركين؛ لأنهم لم يأتوا بحقيقة التوحيد الجامعة، وإنما أقروا بوصفٍ منها، والتوحيد لا يقبل التجـزئة أصلًا، فمن أشرك في وصفٍ فقد أشرك في الكل؛ لأنه لم يأت بحقيقة مسمى التوحيد الشرعي الجامعة.
ولذلك يقول سبحانه: (ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ) [النساء: ٤٨]56.
الربوبية والألوهية إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا:
ولأجل هذا الترابط الوثيق بين وصفي الربوبية والألوهية، وائتلافهما في تكوين حقيقة التوحيد، نجد أن القرآن الكريم قد استعمل كل لفظ مكان الآخر، أي: هناك تلازم بين الربوبية والألوهية، فإذا ذكر أحدهما دل على الآخر، باعتبارهما وصفين متفردين لذات واحدة، ولا يليق أحدهما إلا بالله، فإذا ذكر الرب فهم منه استلزامًا أنه المستحق للعبادة والطاعة وحده، وإذا ذكر الإله فهم منه استلزامًا أنه الخالق الرازق المالك؛ لأنه لا يكون إلهًا حقًّا إلا بهذه الصفات.
ومن أمثلة ذلك قول الله تعالى: (ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ) [النمل: ٦٠].
فالسؤال في أول الآية وقع عن أشياء تتصل بالخلق والرزق والقدرة والتدبير، وغيرها من صفات التأثير التي هي معنى لفظ الرب، فكان المقام يقتضي سؤالهم في آخر الآية عن ذلك، فيقال: أربّ مع الله؟!، لكن وقع السؤال بقوله: (ﮖ ﮗ ﮘﮙ)؛ لأن اللفظين متلازمان، لا فرق بينهما من حيث الواقع.
الإلهية تتضمن الربوبية، والربوبية تستلزم الإلهية:
ويلاحظ أن استعمال كلمة (إله) هنا في الآية السابقة قد جاء لحكمة عظيمة؛ لأنه جل وعلا قد سألهم عن محل النزاع مباشرة، والمعنى: أربّ يخلق ويرزق مع الله فيستحق التأليه معه؟!، ولما كان الخلق والرزق والتدبير ليس محل نزاع كثير، وإنما النزاع في عبادة غير الله؛ لذلك عاجلهم باستنكار اتخاذ آلهة مع الله تعالى57.
ونضرب مثلًا آخر بقوله تعالى: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ) [المائدة: ٧٣].
والمقام يقتضي أن يقول: اعبدوا الله إلهي وإلهكم، لكن استعمل كلمة الرب مكان الإله؛ للتلازم التام بين الكلمتين. والحكمة هنا -والله أعلم- أن ذكر الرب فيه تصريح بعلة العبادة، وهو ما يتضمنه لفظ الرب من معاني الخلق والرزق... إلى آخره، والمعنى: اعبدوا الله الذي خلقكم ورزقكم وتولاكم في سائر أموركم.
بل ما رأيك أنّ هذا الرّبط بين العبادة وعلّتها -وهي الربوبية وما تتضمّنه من المعاني- قد نطق به أول أمر في القرآن الكريم!!
وهو قول الله تعالى: (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [البقرة: ٢١ - ٢٢].
فتأمل هاتين الآيتين العجيبتين في نظمهما، كيف أنّ الله تبارك وتعالى ذكر في البداية: الأمر بعبادته، وفي النهاية: النهي عن اتخاذ الأنداد والشركاء مع الله، وما بين البداية والنهاية: التعليل الصريح لذلك بتفرده تعالى خلقًا ورزقًا وتدبيرًا للكون.
ولنتأمل أخيرًا في سورة الناس، وكيف جاءت الاستعاذة فيها بالأسماء الحسنى الثلاثة: الربّ، والملك، والإله، مبيّنةً هذا التناسق والتواثق بين الربوبية والألوهية، فإنه لما قال: (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) كان فيه إثبات أنه خالقهم وفاطرهم، فبقي أن يقال: لمّا خلقهم هل كلّفهم وأمرهم ونهاهم؟ قيل: نعم، فجاء: (ﮅ ﮆ) فأثبت الخلق والأمر (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ) [الأعراف: ٥٤].
فلما قيل ذلك، قيل: فإذا كان ربًّا موجدًا، وملكًا مكلفًا، فهل يحب ويرغب إليه، ويكون التوجه إليه غاية الخلق والأمر؟ قيل: (ﮈ ﮉ) أي: مألوههم ومحبوبهم، الذي لا يتوجّه العبد المخلوق المكلّف العابد إلا له، فجاءت الإلهيّة خاتمة وغاية، وما قبلها كالتوطئة لها58.
أساليب القرآن في الدعوة للتوحيد
جاءت أساليب القرآن في الدعوة إلى التوحيد على غاية التفنن والإبداع؛ تلطفًا في استدعاء الناس إلى التوحيد، وتأليفًا لقلوبهم، ولفتًا لأسماعهم وأبصارهم، وإقامة للحجة عليهم بكل الأساليب، ولا شكّ أن في هذا التنويع والتفنّن ظهورًا فائقًا للسمو البلاغي والبياني للقرآن الكريم.
وتقريبًا للوقوف على شيءٍ من هذه الأساليب القرآنية الرفيعة نقسّمها إلى ما يلي:
أولًا: أسلوب الخبر المجرّد:
في كثير من الآيات القرآنية يقرر الله تبارك وتعالى حقائق التوحيد بأسلوب الخبر المجرد، تقريرًا سهلًا مباشرًا، ليس معزّزًا بالتوكيدات، ولا مشفوعًا بالمحاورات والتشبيهات، وكأنّ الحقّ تبارك وتعالى يلقي هذه الحقائق الإيمانية والأصول التوحيديّة إلى الفطرة النقيّة السويّة، التي لا تعرف المكابرة ولا الالتواء، أو كأن القرآن الكريم يعرّض بأولئك المشركين المعاندين، ويقول لهم بمفهوم الكلام دون منطوقه: إن حقائق التوحيد لهي أوضح من الشمس، كيف لا والدلائل عليها تحاصركم من كلّ جانبٍ فطرةً وحسًّا وعقلًا وشرعًا؟! فجدير إذا أن ينزّل أولئك المعاندين المكابرين منزلة الخالين من العناد والمكابرة؛ فيلقى إليهم الكلام أيضًا خبرًا مجرّدًا؛ لأن معهم من الأدلّة ما يقطع كلّ شكٍّ، ويستدعي كل يقين.
والآيات التي نستطيع بها التمثيل لهذا الأسلوب كثيرة، وتكفينا الإشارة بقوله تعالى: (ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ) [الفاتحة: ٢].
وقوله تعالى: (ﯽ ﯾ ﯿﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ) [البقرة: ١٦٣].
وقوله تعالى: (ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ) [الزمر:٦٢-٦٣].
ثانيًا: أسلوب الخبر المؤكد:
من أساليب القرآن الكريم (التوكيد)، وهو أسلوبٌ قيمته البلاغية في تقوية الكلام ابتداءً، وإضفاء مزيدٍ من الصرامة في تقريره وإثباته؛ ليكون أدعى لقبول السامع واقتناعه، أو في مجابهة المتلقّي الجاحد المنكر بما يليق بحاله من مضادّةٍ له ومدافعة، والمؤكدات التي جاء بها القرآن الكريم في شأن الوحدانية والتوحيد كثيرة ومتنوعة؛ ومنها:
ومثالها جميعًا قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ) [الصافات: ١ - ٥].
كأسلوب النفي والاستثناء في قوله تعالى: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ) [النحل:٢].
وأسلوب القصر بـ(إنما): (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) [الأنعام:١٩].
وأسلوب القصر بالتقديم والتأخير، مثل قوله تعالى: (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ) [الفاتحة:٥].
فتقديم المفعول (إياك) أفاد قصر العبادة على الله وحده، وأصل الجملة: نعبدك.
وكذلك أيضًا أسلوب القصر بتعريف طرفي الجملة: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ) [الشورى:١٠].
فتعريف الخبر (ربّـي) أفاد أنه مقصور على المبتدأ، أي: الربوبية مقصورة على الله تعالى59.
ثالثًا: الأساليب الإنشائية:
من أساليب القرآن الكريم أيضًا في تقرير التوحيد: أسلوب الطلب، كالاستفهام التقريري أو الإنكاري، فهذا أسلوب قرآني عالٍ في نقاش المشركين، إنه يوالي عليهم الأسئلة ويترك لهم في كثيرٍ من الأحيان إجاباتها؛ ليصلوا إلى الحق بأنفسهم، ويلزمهم الحجة، ويقودهم إلى الصواب.
قال تعالى: (ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [النمل: ٦٣].
وقال تعالى: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ) [النجم: ١٩-٢٣].
والمعنى: أن هذه التي تسمونها آلهة ليس لها من حقيقة الألوهية أدنى نصيب، وإنما هي أسماء على غير حقائق، كالغول والعنقاء وغيرهما من الأشياء المتوهمة.
ولذلك يقول القرآن الكريم متحديًا المشركين: (ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ) [الرعد: ٣٣].
والمعنى: أن الله تعالى رقيب وعليم بكل شيء، وقد جعل له المشركون شركاء لا حقيقة لهم، وإنما عبدوها بظنون من القول وأوهام من الفكر باطلة.
ويقول تعالى منددًا بالمشركين، الذين يعبدون الأوهام المطلقة، تحت هذه الأسماء المخترعة: (ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) [يونس: ١٨].
ومن ذلك أيضًا: الأسلوب التلقيني، فيستعمل القرآن الكريم هذا الأسلوب في تلقين الجواب الظاهر، حيث إنه لوضوحه لا ينـكره المشركون، بل يسلمون به، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ) [الأنعام: ٦٣-٦٤].
وقوله تعالى: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ) [الرعد: ١٦].
وفي ذات الآية: (ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ)، وقوله تعالى: (ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴﭵ) [سبأ: ٢٤].
ففي هذه الآيات: يأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسألهم عمن ينجيهم من المخاطر، ومن رب السماوات والأرض، ومن يرزقهم، ويأمره بأن يجيب: «الله»؛ لاعترافهم أن آلهتهم لا تملك شيئًا من ذلك، وتلقينهم الجواب فيه إشارة إلى أنهم لا ينكرون ذلك، وليس عندهم جواب غيره، وأن سكوتهم عن الجواب لوضوحه فيه حجة عليهم؛ إذ إنهم ما داموا قد اعترفوا بأن فاعل ذلك هو الله، فلم يشركون به غيره؟ ومثل هذا الأسلوب يعجز الخلق كلهم عن الإتيان بمثله.
ومما يلتحق بهذا الأسلوب التلقيني: الجواب المباشر من الله تعالى على ألسنة خلقه من الملائكة أو الأنبياء وهم يدفعون عنهم دعاوى الألوهية والبنوة لله، فليسوا سوى عباد مكرمين، خاضعين لأمره، ولن يجرؤ واحد منهم على ادعاء الألوهية، أما من تجرأ منهم على تلك الدعوى؛ فجزاؤه جهنم؛ لأنه ظالم مبين، وهل هناك أقوى في هدم الدعوى من اعتراف هؤلاء العباد أنفسهم الذين يدعونهم أبناء، بأنهم ليسوا سوى عبيد خاضعين، ومن جرأة منهم على دعوى الألوهية، كان جزاؤه عذاب جهنم خالدا فيها.
قال تعالى: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [الأنبياء ٢٦ - ٢٩].
وعلى هذا النسق نفسه جرى في الرد على من زعم ألوهية المسيح، فقد جعل المسيح نفسه يتبرأ من ذلك وينفيه، إذ قال: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [المائدة ١١٦- ١١٧]60.
رابعًا: أسلوب ضرب المثل:
كذلك أسلوب الأمثال، وهو باب واسع في القرآن الكريم، يقصد به تقرير المعاني في نفس السامع، وتصويرها في صورة محسوسة ملموسة، عن طريق التشبيه أو الاستعارة أو غيرهما من أساليب البيان، ولقد مدح الله جل وعلا كتابه باشتماله على أسلوب الأمثال فقال: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) [الزمر: ٢٧].
ومن ذلك قوله تعالى: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [العنكبوت: ٤١ - ٤٣].
فقد ضرب الله تعالى مثلًا للذين يستنصرون بآلهة غير الله، صوّرهم فيه بأنهم يستنصرون بأضعف شيء، وكأنهم العنكبوت في بيتها الهش الذي تمزقه الريح، وتقتحمه الحشرات، ويعبث به الصبيان، فلا يغني عن أهله شيئًا.
وقال تعالى: (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ) [الزمر: ٢٩].
فهذان مثلان للمشرك في تخبطه وحيرته، وللموحـد في راحته وسلامـته، ولا يستويان أبدًا، كما لا يستوي عبد مـملوك يسـومه سادته لسوء أخلاقهم سوء العذاب، وعبد مـملوك لـمالكٍ واحدٍ لطيفٍ لا يشق عليه بكثرة الأوامر، واختلاف المذاهب والمشارب.
ويضرب الله الأمثال مبينا ضياع أعمال المشركين، وهو بهذه التشبيهات البليغة يدعوهم إلى التفكّر في العاقبة الخاسرة لأعمالهم -مهما كانت صالحة- ما دامت غير نابعةٍ من إيمانهم وتوحيدهم لله.
قال تعالى: (ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﮊ ﮋ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) [النور: ٣٩-٤٠].
وقال تعالى: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) [إبراهيم: ١٨].
ويضرب الله المثل بالمشركين أنفسهم، وما يعانونه من اضطراب العقيدة وفساد التصور، وما ينشأ عن ذلك من حيرة القلب، وقلق الضمير.
يقول تعالى: (ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ) [الأنعام: ٧١].
وحينًا يصوّرهم هلكى في أشد صور الهلاك وأفتكها، إذ يقول: (ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ) [الحج: ٣١].
وضرب الله سبحانه وتعالى مثلًا لقلب المؤمن الموحّد بالبلد الطيب، ومثلًا لقلب المشرك الكافر الذي لا ينبت فيه توحـيد ولا إيـمان بالبلد الخبيث، فقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [الأعراف: ٥٨]61.
خامسًا: أسلوب المحاورة:
كذلك استخدم القرآن أيضًا أسلوب المحاورة، وهو الذي يورد فيه الحديث عن التوحيد من خلال حوار يجري بين طرفين أو أكثر؛ فيتقرر في النفس أكثر من الخبر المجرد، والمحاورات في القرآن كثيرةٌ، كمحاورات سيدنا إبراهيم عليه السلام مع أبيه آزر.
قال تعالى: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) [مريم: ٤١- ٤٢] إلى آخر الآيات المتضمنة لهذه المحاورة.
فالآيات الكريمة تورد حوارًا بين إبراهيم عليه السلام وبين أبيه المشرك، فيسأل إبراهيم أباه: لم تعبد آلهة صماء عمياء لا تغني عنك شيئًا؟! هو سؤال يبين حقيقة هذه الآلهة الباطلة، ويتضمن صفات الله وحده بالعبادة، فهو السميع البصير الغني المغني عز وجل62.
وكتلك المحاورة بين الرجلين المؤمن والكافر: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) [الكهف: ٣٥-٣٨].
ففي هذه المحاورة يصوّر الله جل وعلا مشهد الرجل الكافر بإزاء متجبّري قريش أو بني تميم، ومشهد الرجل المؤمن المقر بالربوبية الذي هو بإزاء بلال وعمار وصهيب وأقرانهم، وكيف أن الرجل المؤمن الذي خالطت قلبه بشاشة التوحيد؛ قد علم ما يجب عليه من شكر خالقه ورازقه.
وكتلك المحاورة الحادة يوم القيامة بين فئتين من أهل الضلال: بين الضعفاء الأتباع، وبين المتبوعين السادة، والمحاورة الأخرى بين الشيطان وأتباعه من الإنس، وهم في دركات الجحيم، ينبّهنا الله تعالى سلفًا في قرآنه على بنود هذا الحوار بنوعيه؛ ليحذر العاقل، ويتجنّب الانزلاق مع دعاة السوء.
قال تعالى: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ) [إبراهيم: ٢١-٢٢].
وفي هذه الآية الكريـمة
يرسم الله جل وعلا للمشرك صورته المستقبلية، وهو في حالٍ من الحسرة والندامة، عندما يتبرأ منه الشيطان الذي اتبعه، ويقع بينهما التلاوم والشجار؛ لعله يتبصّر؛ فيختار لنفسه مصيرًا خيرًا من هذا المصير!63.
سادسًا: أسلوب القصة:
كذلك أيضًا أسلوب القصة، وهو أسلوب من أوسع أساليب القرآن في التوحيد وغيره، وقد عني القرآن بهذا الأسلوب وأكثر منه؛ لما في القصة من تأثير في النفوس، وسهولة في الحفظ، وانتشار وذيوع بين الناس.
وقد قصّ الله جل وعلا في القرآن الكريم من قصص الأنبياء وأخبارهم، وما تعرضوا له في سبيل الدعوة إلى التوحيد من صعابٍ ومشاقٍّ، وفي ثنايا ذلك: قص علينا القرآن الكريم محاوراتهم ومجادلاتهم مع ذوي الكفر والعناد والتجبّر، وما أظهره الله على أيدي رسله من باهر المعجزات، وصادق الأدلة.
وقد ألمحنا إلى بعض هذه القصص فيما سبق، ونضيف هنا تذكيرًا بقصة أصحاب الأخدود، وقصة أولئك القوم الموحدين المؤمنين الذين لقوا الموت في سبيل عقيدة التوحيد، وقد خلّد الله ذكرهم بهذه الآيات الكريمات، ولعن الكافرين أصحاب تلك الفعلة الشنيعة، مبيّنًا مصير الفريقين.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﮊ ﮋﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [البروج: ١-١٠].
لقد بيّن الله سبب قتلهم لهؤلاء المؤمنين وهو إيمانهم بالله العزيز الحميد، وعدم إيمانهم بالكفر والوثنية اليهودية وعقائدها المزيفة، والعبرة هنا موجهة بخاصة للكفار من أهل مكة، في هذه القصة القريبة العهد منهم، إما أن يكفوا عن إيذاء محمد وأصحابه المؤمنين الموحدين، ويدخلوا في دينه؛ فيكون لكم جنات تجري من تحتها الأنهار، وإما أن يستمروا على إيذائهم الموحدين من المؤمنين والسخرية بهم، كما صنع ذو نواس بالموحدين، فعندئذ يدخلون مع اليهود في اللعنة والغضب، والوعيد الشديد بعذاب جهنم وعذاب الحريق64.
الأدلة القرآنية على صحة التوحيد
لقد استوعب القرآن الكريم الاستدلال على صحة عقيدة الوحدانية، وأنها الحق المبين، وأن كل شريك أو معبود مع الله هو كذب وافتراء، بل كلها أصنام وأوهام لا حق فيها، بل لا حقيقة لها في باب الألوهية، ولم يترك القرآن الكريم دليلًا يصلح لخطاب البشر إلا أورده على أتم الوجوه؛ حتى لا نقول: إنه لم يسق الدليل على صحة الوحدانية أو وجوب التوحيد فقط، وإنما أوجب على الناس أن يتدبروا هذه الأدلة، وأن يفهموها ويحصلوها -ولو إجمالًا-؛ حتى يكونوا على بينة في أعظم حقائق الوجود، وحتى يكون إيمانهم على غاية الاستقرار؛ ولذلك نوّع الأدلة في هذا تنويعًا عجيبًا؛ حتى تناسب جميع الناس على اختلاف مستوياتهم وعصورهم65.
أولًا: الأدلة الوجدانية:
المقصود بالأدلة الوجدانية، أي: النفسية أو الداخلية، هي التي تعتمد في انتزاع الدليل على الوجدانية من داخل الإنسان، لا من خارجه، ومن أعماق شعوره الداخلي ووجدانه الباطني، لا من مدركات حواسه المعروفة.
وهذا الدليل بالغ الأهمية للإنسان، وفي قضية الإيمان بالذات؛ حتى يحاط به من خارجه ومن داخله جميعًا؛ فتمتلئ نفسه يقينًا لا يتسرب إليه ريب ولا قلق، وكم من إنسان امتلأ عقله بالمعارف والأرقام وفنون الإحصاء، وامتلأ عقله بعجائب هذا الكون، ولكنه يمضي متبلّد الإحساس، والسبب في ذلك تعطل وجـدانه الداخـلي، كما قال تعالى: (ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ) [الحج: ٤٦].
ومن هنا اهتم القرآن العظيم ببيان هذا الدليل النفسي، وساق الآيات؛ تذكيرًا للناس بهذا الجانب الفذ، الذي أهملوه وعطّلوه وطمروه تحت ركام من الشبهات والشهوات، التي رانت على قلوبهم؛ فأظلمتها وأماتتها.
ونجتزئ بهذه الإشارة إلى دليل الفطرة، فقد تقدّم له فيما سبق مزيد شرح واستفاضةٍ.
ثانيًا: الأدلة الكونية الحسية، والتذكير بنعم الله فيها:
آيات الله جل وعلا وعجائبه في خلقه كثيرة وعظيمة، وأنّى التفت الإنسان ببصره وجد دليل وحدانية الله تعالى ماثلًا أمامه، وإذا مني الإنسان لسببٍ أو آخر بجفاف الفطرة وضمورها، فلم يعد صوتها المنادي له بالتوحيد يصل إلى آذان قلبه، فإنّ القرآن الكريم يرشد الإنسان إلى أدواتٍ أخرى قد تسعفه وتنقذه من ورطة الغيّ والضلال، لقد زوّد الله الإنسان بمداركه وقواه الحسّيّة من سمعٍ وبصرٍ وذوقٍ وشمٍّ ولمسٍ، حواسٌّ يكتشف بها العالم من حوله، ويقف بها على عجائب مصنوعات الله، فلعلّ في ذلك ما يأخذ بناصيته إلى معارج التوحيد، ويرحم أقدامه من مواطئ الشّرك والكفران.
والقرآن الكريم إذ يذكّر الإنسان بهذه الأدلة الكونية الحسية على وحدانية الله تعالى، فإنه كثيرًا ما يسلك -من أجل هذا التذكير والتقرير- سبيل الامتنان بها كنعمٍ وعطايا حبا الله الإنسان بها، فلولاها لم يكن لهذا الإنسان من وجودٍ ولا ذكرٍ، فهي إذًا آياتٌ كبرى تحيط بالإنسان، ونعمٌ عظيمةٌ تستوعب تفاصيل حياته، فكيف له بعد ذلك أن يعمى عن توحيد الله واستحقاقه للعبادة؟!.
وهذا المنهج القرآني لم نتفطّن إليه بالتأمل والتدبر، بل إن القرآن الكريم هو من يشرح بنفسه منهجه هذا، وتأمل في قوله تعالى: (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [الفرقان: ٦٢].
وقوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [القصص: ٧١-٧٣].
وقوله تعالى: (ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ) [غافر: ٦١ -٦٢].
إن الله جل وعلا يربط ربطًا أكيدًا في هذه الآيات بين توجيه النظر إلى التأمل في هذه الآيات الكبيرة، وبين الامتنان بما فيها من النعم العظيمة، وبين دلالتها المفترضة ونتيجتها المتوقعة في توحيد الناس العبادة لله وقيامهم بالشكر له، أو ليس في الليل السرمد والنهار السرمد ما يبعث الخوف في النفس، والحب لمن جعل الليل والنهار خلفة؟!66.
ولذلك فقد قال تعالى في آية سورة القصص: (ﮈ ﮉ) أي: يرجى ويتوقع منكم أن تشكروا الله على مخالفته بين الليل والنهار؛ فتوحّدوه وتعبدوه.
يقول الطبري: «أفلا ترون بأبصاركم اختلاف الليل والنهار عليكم رحمة من الله بكم، وحجة منه عليكم؛ فتعلموا بذلك أن العبادة لا تصلح إلا لمن أنعم عليكم بذلك دون غيره، ولمن له القدرة التي خالف بها بين ذلك... فعل ذلك بكم؛ لتفردوه بالشكر، وتخلصوا له الحمد؛ لأنه لم يشركه في إنعامه عليكم بذلك شريك؛ فلذلك ينبغي أن لا يكون له شريك في الحمد عليه»67.
وفي آية سورة غافر يقول تعالى بعد ذكر نعمته على الناس: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ)، فأخبر تعالى أن أكثر الناس لا يقومون بشكر نعم الله عليهم والاعتراف بوحدانيته، الذي هو المقـصود الأعظم من التذكير بالنعم؛ لقوله تعالى: (ﮂ ﮃ ﮄ)؛ أي: الذي فعل هذه الأشياء وأنعم بها هو الله الواحد الأحد، الذي لا إله غيره ولا رب سواه، فكيف تعبدون الأصنام التي لا تنعم عليكم؟!68.
وما من مجالٍ هنا لاستقصاء جميع ما ورد في القرآن من الآيات الكونية، ولا كل ما ورد فيه من نعم امتن الله بها على الإنسان، وإنما الغرض هو التنبيه على الاستدلال بهذا النوع من الآيات والنعم، فنكتفي بما يدل على المقصود.
الصورة الأولى: آيات الأرض والسماء والجبال.
إن الله جل وعلا ليضع الإنسان أمام حقيقة يسيرة (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ) [غافر: ٥٧].
بل إنه يسأله سؤالًا فيه إدلال بالتحدي: (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ) [النازعات: ٢٧].
إن كان الإنسان مغترًّا بخلقه اغترارًا؛ أغراه بالجحود والنكران لخالقه أن يشكره ويعبده، فهذه الآيات العظيمة في خلق الأرض والسماء تعرّف الإنسان بحجمه الحقيقي في هذا الكون، وتنبّهه إلى أن الذي خلقها وأبدعها ليس بعاجزٍ عن إحياء الموتى: (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ) [الأحقاف:٣٣].
ومن كان هذا خلقه؛ فهو متعالٍ عن الشريك، كما قال تعالى: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭ) [النحل: ٣].
فأنى يكون له شريك، وقد خلقهما بالحق وهو التوحيد، منفردًا بخلقهما وإبداعهما من غير حاجة لأحد؟!69.
قال تعالى: (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [البقرة: ٢١-٢٢].
قال ابن كثير: «وهذه الآية دالة على توحيده تعالى بالعبادة وحده لا شريك له»70.
وقال الزمخشري: «أي: هو الذي خصكم بهذه الآيات العظيمة والدلائل النيرة الشاهدة بالوحدانية؛ فلا تتخذوا له شركاء»71.
وقال تعالى: (ﯽ ﯾ ﯿﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [البقرة: ١٦٣ - ١٦٤].
قال الطبري: «وهذا تنبيه من الله تعالى ذكره أهل الشرك به على ضلالهم، ودعاءٌ منه لهم إلى الأوبة من كفرهم والإنابة من شركهم، ثم عرّفهم تعالى ذكره بالآية التي تتلوها موضع استدلال ذوي الألباب منهم على حقيقة ما نبههم عليه من توحيده وحججه الواضحة القاطعة عذرهم، فقال تعالى ذكره: أيها المشركون، إن جهلتم أو شككتم في حقيقة ما أخبرتكم من الخبر من أن إلهكم إله واحد دون ما تدعون ألوهيته من الأنداد والأوثان؛ فتدبروا حججي وفكّروا فيها، فإن من حججي خلق السماوات والأرض»72.
وقال تعالى: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) [الأعراف: ١٠].
يقول الطبري: «ولقد وطّناكم أيها الناس في الأرض، وجعلناها لكم قرارًا تستقرون فيها، ومهادًا تمتهدونها، وفراشًا تفترشونها، (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ) تعيشون بها أيام حياتكم من مطاعم ومشارب؛ نعمةً مني عليكم، وإحسانًا مني إليكم (ﯙ ﯚ ﯛ) وأنتم قليل شكركم على هذه النعم التي أنعمتها عليكم؛ لعبادتكم غيري واتخاذكم إلهًا سواي» 73.
وقال تعالى: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ) [الزخرف: ١٠].
وقال تعالى: (ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ) [الملك: ١٥].
وقال تعالى: (ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ) [الذاريات: ٤٨].
وقال تعالى: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ) [المرسلات: ٢٥ - ٢٦].
إن الله سبحانه وتعالى يذكّر عباده بنعمة الأرض التي جعلها لهم كالفراش ممهّدة وموطأة ومستقرة، وهو الذي ذللها لنا؛ للاستفادة من خيراتها، ولولا تذليل الله لها ما استطعنا أن نشق فيها الطرق ولا البناء عليها ولا الحرث ولا سائر أنواع المنافع، والتي منها أن الأموات يكفتون في بطنها، فهي تكنّ الأحياء على ظهرها في المساكن والأموات في القبور، فكأنها كفتت أذى الناس أحياء، وجيفهم أمواتًا74.
وقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) [النحل: ١٥ - ١٦].
وقال تعالى: (ﮨﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) [الأنبياء: ٣١].
وقال تعالى: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) [المرسلات: ٢٧].
هذه نعمة عظيمة من الله تعالى على عباده، حيث ثبّت الأرض بالجبال؛ حتى لا تميد بأهلها وتضطرب فلا يستطيعون التصرف لمعاشهم؛ لعدم استقرارها.
والجبال كذلك علامات يستدل بها المسافرون برًّا وبحرًا إذا ضلوا الطريق؛ فإنها متنوعة الأشكال والألوان، وقد قال تعالى: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ) [فاطر: ٢٧].
هذه الآيات الكبرى والنعم العظيمة في الأرض والجبال، توجب على العباد شكر المنعم وتوحيده وعبادته دون الآلهة والأوثان؛ لأنه هو الذي خلقهم، وخلق هذه النعم، فيكون هو وحده المستحق عليهم الطاعة والشكر والعبادة، وقد استعمل موسى عليه السلام هذا الدليل في الدعوة لتوحيد الله فقال لفرعون وقومه: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [طه: ٥٣ -٥٤].75.
يقول ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: «أي: لدلالات وحججًا وبراهين لأولي النهى، أي: لذوي العقول السليمة على أنه لا إله إلا الله، ولا رب سواه»76.
الصورة الثانية: آيات الشمس والقمر والليل والنهار.
ويحدثنا القرآن الكريم أيضًا عن نعمة تبادل الليل والنهار، وعما خلق له الليل من نعمة الهدوء والسكون، وعن الشمس والقمر يجريان في دقة ونظام؛ فيحسب الناس بهما حياتهم، وينظمون أعمالهم، وعن النجوم في السماء تزينها كمصابيح، ويهتدي بها السائر في ظلمات البر والبحر.
قال تعالى: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ) [يونس: ٥-٦].
في هاتين الآيتين تنبيهٌ على أن الله وحده هو الذي خلق الشمس والقمر والليل والنهار بغير معين ولا شريك، والمتدبر لذلك يعلم حقيقة الوحدانية، قال الطبري: «لقوم يعلمون إذا تدبروها حقيقة وحدانية الله، وصحة ما يدعوهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم، من خلع الأنداد، والبراءة من الأوثان»77.
وانظر هذا التقدير الحكيم بأن جعل الله الليل والنهار مرتبطين بدورة الشمس، فلا يستطيع أحد إيقاف الشمس عن دورتها، أو حبس الليل والنهار عن جزء من الأرض؛ لأن الله وحده هو الذي يتولى ذلك كما قال تعالى: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ) [الحج: ٦١ -٦٢].
يقول الطبري في تفسيره لهذه الآية: «فعلت هذا الفعل من إيلاجي الليل في النهار، وإيلاجي النهار في الليل؛ لأني أنا الحق الذي لا مثل لي، ولا شريك، ولا ند، وأن الذي يدعوه هؤلاء المشركون إلهًا من دونه هو الباطل الذي لا يقدر صنعة شيء، بل هو المصنوع»78.
قال تعالى: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ) [فصلت: ٣٧].
يقول ابن كثير: «يقول تعالى منبّهًا خلقه على قدرته العظيمة، وأنه الذي لا نظير له، وأنه على ما يشاء قدير: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) أي: أنه خلق الليل بظلامه والنهار بضيائه، وهما متعاقبان لا يفتران، والشمس ونورها وإشراقها، والقمر وضياءه وتقدير منازله في فلكه، واختلاف سيره في سمائه؛ ليعرف باختلاف سيره وسير الشمس مقادير الليل والنهار، والجمع والشهور والأعوام، ويتبين بذلك حلول الحقوق، وأوقات العبادات والمعاملات، ثم لمّا كان الشمس والقمر أحسن الأجرام المشاهدة في العالم العلوي والسفلي؛ نبّه تعالى على أنّهما مخلوقان عبدان من عبيده تحت قهره وتسخيره فقال: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ) أي: لا تشركوا به، فما تنفعكم عبادتكم له مع عبادتكم لغيره؛ فإنه لا يغفر أن يشرك به»79.
وقال تعالى: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ) [الفرقان: ٤٥ - ٤٦].
فهذه نعمة أخرى تتعلق بنعمة الشمس، وهي نعمة الظل، وقد نبّه سبحانه وتعالى عباده لهذه النعمة؛ لما فيها من الفوائد للكائنات جميعها؛ مما يستوجب على الناس الشكر للمنعم؛ لأنه لو شاء سكون الظل وعدم تحوله لفعل، ولما استطاع أحد تحويله.
كما نبّه على ما تتم به فائدة الظل هو قبضه تدريجيًّا، ولولا ذلك لم ينتفع به أهله؛ لأن في مدِّه وتحوله من مكان إلى مكان، ثم قبضه شيئًا فشيئًا من المصالح والمنافع مما لا يحصى، وبسكونه دائمًا أو قبضه دفعة واحدة تتعطل المرافق والمصالح80.
وقال تعالى عن النجوم: (ﭟ ﭠ ﭡ) [النحل: ١٦].
وأقسم به: (ﭑ ﭒ ﭓ) [النجم: ١].
وتمدح الله جل وعلا فقال: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ) [النجم: ٤٩].
بل أقسم بمواقعها في السماء: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ) [الواقعة: ٧٥ - ٧٦].
ولقّبها بمصابيح السماء وبروجها: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ) [الحجر: ١٦ - ١٧].
(ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮐ) [الملك: ٥].
وأقسم بـها: (ﭑ ﭒ ﭓ) [البروج: ١].
وأقسم بأحد نجومها واستعجب منه: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ) [الطارق: ١-٣].
أليس في هذه النجوم -وأصغرها قد يفوق شمس الدنيا حجمًا بمرات ومرات- ما يدعو إلى توحيد الله؟!.
لقد أفحم القرآن بهذه الآيات المربوبة المسخّرة من ادّعى الألوهية من البشر إفحامًا لا مخلص له منه، وذلك في الحديث الذي دار بين إبراهيم وهذا الملك، الذي ادعى أنه إله، إذ يقول: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) [البقرة: ٢٥٨]81.
الصورة الثالثة: آيات ونعم الرياح والسحاب والمطر والنبات.
الرياح آية كبرى ونعمة عظيمة، يقول تعالى: (ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) [الحجر: ٢٢].
ويقول تعالى: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) [الأعراف: ٥٧].
وقال تعالى: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ) [الروم: ٤٨].
يقول ابن القيم: «فإذا شاء الله حرّكه بحركة الرحمة؛ فجعله رخاء ورحمة وبشرى بين يدي رحمته، ولاقحًا للسحاب يلقحه بحمل الماء، ومن آياته السحاب المسخر بين السماء والأرض كيف ينشئه سبحانه بالرياح؛ فتثيره كسفًا، ثم يؤلف بينه، ويضم بعضه إلى بعض، ثم تلقحه الريح وهي التي سماها -سبحانه- لواقح، ثم يسوقه على متونها إلى الأرض المحتاجة إليه، فإذا علاها واستوى عليها؛ أهراق ماءه عليها، فيرسل سبحانه الرياح وهو في الجو، فتذروه وتفرقه؛ لئلا يؤذي ويهدم ما ينزل عليه بجملته، حتى إذا رويت وأخذت حاجتها منه؛ أقلع عنها وفارقها، فهي روايا الأرض محمولة على ظهور الرياح»82.
ويقول تعالى: (ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩﯪ) [إبراهيم: ٣٢].
وقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ) [المؤمنون: ١٨ - ١٩].
وقال تعالى: (ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ) [الفرقان: ٤٨ - ٥٠].
وقال تعالى: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ) [الواقعة: ٦٨ - ٧٠].
إن المطر نعمة عظيمة من الله على عباده؛ لأن حياة الحيوان والنبات متوقفة على الماء، والله وحده هو الذي ينزل علينا الماء من السحاب عذبًا فراتًا، ولم يجعله ملحًا أجاجًا، ثم يسكنه في الأرض؛ فيخرج ينابيع ويجري أنهارًا؛ لسقي الإنسان والحيوان والنبات والثمار في الجنات.
فانظر كيف تتجلى النعمة العظمى بإنزال المطر بالقدر المطلوب، لا كثيرًا فيفسد الأرض والعمران، ولا قليلًا فلا يكفي الزروع والثمار، وكيف جعل في الأرض قابلية خزنه للاستفادة منه فيما بعد، ولو شاء الله أن لا تمطر السماء لفعل، ولو شاء جعله أجاجًا لفعل، ولو شاء ذهابه في أعماق الأرض بحيث لا ينال لفعل، فامتن الله على عباده إذن بكل هذه النعم؛ منبّهًا إياهم لوجوب شكره.
يقول تعالى: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ) [الأنعام: ٩٥].
يقول الطبري: «وهذا تنبيه من الله جل ثناؤه هؤلاء العادلين به الآلهة والأوثان على موضع حجته عليهم، وتعريفٌ منه لهم خطأ ما هم عليه مقيمون من إشراك الأصنام في عبادتهم إياهم، يقول تعالى ذكره: إن الذي له العبادة أيها الناس دون كل ما تعبدون من الآلهة والأوثان هو الله، الذي فلق الحب، يعني: شقّ الحب من كل ما ينبت من النبات؛ فأخرج منه الزرع والنوى من كل ما يغرس مما له نواة؛ فأخرج منه الشجر»83.
ويقول تعالى: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) [الأنعام: ٩٩].
إن التفكير في النبات والثمار وكيفية تكونها من البذرة حتى صارت زرعًا أخضر وثمرًا طيبًا بعد جفافها، واختلاف ألوان الثمار وطعومها -مع كونها متشابهة في الشكل والورق-، لا شكّ يؤدي لمعرفة الله ووحدانيته؛ ولذلك حثّ الله على النظر للثمار فقال: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ) فهي تدل دلالة واضحة على وحدانية الله؛ لذلك ذم الله تعالى المشركين بعد هذه الآية مباشرة فقال: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﭑ ﭒ ﭓﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [الأنعام: ١٠٠ - ١٠٢].
قال الطبري في تفسيره لهذه الآية: «يا أيها الناس، إذا نظرتم إلى ثمره عند عقد ثمره، وعند ينعه وانتهائه، فرأيتم اختلاف أحواله وتصرفه في زيادته ونموه؛ علمتم أن له مدبرًا ليس كمثله شيء، ولا تصلح العبادة إلا له دون الآلهة والأنداد، وكان فيه حجج وبرهان وبيان يصدقون بوحدانية الله وقدرته على ما يشاء»84.
إن العبد يشق الأرض ويضع فيها الحب، والزارع المنبت هو الله، دون الأنداد والأوثان، ولو شاء الله أن يجعل هذا الزرع حطامًا يابسًا قبل موعد حصاده ما استطاع أحد إنباته، وأقصى ما يعمله الإنسان هو التعجب والتفجع والحزن على ما فاته من الزرع والثمر، وإن الله تعالى ليضع الإنسان أمام عجزه وضعفه في أسلوب من الاستفهام المثير فيقول تعالى: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) [الواقعـة: ٦٣ - ٦٥].
وقد استنكر الهدهد على قوم بلقيس سجودهم للشمس من دون الله، مستدلًا على وحدانية الله ووجوب إفراده بالعبادة؛ بأنه خلق الماء والنبات، وأخرجه بعد أن كان مخبوءًا في السماء والأرض، وجعل ذلك حجة على المخالفين، حيث قال تعالى عنه: (ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [النمل: ٢٥ -٢٦].
ومن مجموع هذه النعم من رياح وسحاب ومطر ونبات؛ يمتن الله جل وعلا على عباده بالرزق؛ فهو الذي يرزقهم، ويرزق ما على الأرض من دواب، لا تستطيع أن تتكفل برزق نفسها.
قال تعالى: (ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [العنكبوت ٦٠].
ويسترعي انتباههم إلى طعامهم الذي هو من فيض فضله، فيقول: (ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) [عبس ٢٤ - ٣٢]85.
الصورة الرابعة: الآيات والنعم في الأنعام.
آية الله جل وعلا في الأنعام عظيمة، وعجيب صنعه فيها بالغ، وليس أدلّ على ذلك من أن الله تبارك وتعالى قد قرنها بآيات السماء والأرض والجبال في سياقٍ، بل وابتدأ بها في توبيخ المشركين الغافلين عن النظر إليها نظر الاعتبار والافتكار، فقال تعالى: (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ) [الغاشية: ١٧-٢٠].
ولا شك أن للأنعام في حياة العرب بالبادية ما يستحق أن يذكّروا به، وأن يسجّل فضله عليهم بها، فكانت الإبل دليلًا قريبًا ينبغي أن توجّه أنظارهم إليه.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [يس: ٧١ - ٧٢].
وقال تعالى: (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ)[النحل: ٦- ٨].
النعمة الأولى في الأنعام هي نعمة تذليلها؛ لأن الله وحده هو الذي جعلها مقهورة ذليلة، لا تمتنع على صاحبها عند الحاجة إليها في تسييرها وتوجيهها للرعي أو للطرق، أو للحمل، أو للوقوف، ويرتبط بتذليلها كونها جمالًا وزينة لنا في رجوعها من المرعى عشيًّا؛ فتكون شبعانة وخواصرها مليئة، وفي بعثها صباحًا إلى المرعى، ولولا تذليلها ما كانت زينة وجمالًا؛ لأنها تكون نافرة مستعصية.
وقال تعالى: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) [الزخرف: ١٣ - ١٤].
إن نعمة ركوب الأنعام والحمل عليها تلفت النظر وتوجب الشكر؛ لأنها توفّر كثيـرًا من الجهد والتعب، فيستطيع الإنسان السير في المصالح البعيدة كالحج والغزو والتجارة بلا مشقة؛ لأن هذه الأنعام تحمله، وتحمل متاعه وطعامه وشرابه، وبدون هذه الأنعام فإن الإنسان عاجزٌ عن ذلك، وتظهر نعمة الحمل والركوب بشكل خاص في الخيل والبغال والحمير؛ ولذلك أفردت معًا في آية خاصة بها فقال تعالى: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ) [النحل: ٨].
وقال تعالى: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ) [النحل: ٦٦].
وقال تعالى: (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ) [يس: ٧٣].
اللبن نعمة لا توصف على هذه البشرية؛ لأن مصالح العباد كلهم قائمة عليه في معظم وجباتهم الغذائية، وخاصة الصغار، وهذا اللبن يخرج من بطون الأنعام من بين الفرث والدم خالصًا بياضه وطعمه وحلاوته، فانظر كيف يكون الطعام في المعدة؟!
فإذا نضج ذهب أقسامًا للدم والعظم واللحم، وقسم يصير لبنًا، والباقي فضلات من روث وبول، ولا يمتزج قسم بآخر ولا يتغير به؛ فيخرج اللبن خالصًا سائغًا للشاربين لا يغص به أحد.
وقال تعالى: (ﯠ ﯡ) [النحل: ٥].
وقال تعالى: (ﭢ ﭣ) [يس: ٧٢].
هذه النعمة خاتمة النعم في الأنعام، فرغم تعدد منافع الأنعام في حياتهم، فهي كذلك يؤكل لحمها، وهو أعلى أنواع الأطعمة، وعليه اعتماد كبير في حياة الناس، بل إن شعوبًا كثيرة تعيش على الرعي والتجارة بالأنعام اللاحمة86.
إن هذه النعم الكثيرة في الأنعام تستحق الشكر لله، والاعتراف بوحدانيته، وإفراده بالعبادة، وإخلاص الطاعة له، وهذا هو المقصود الأعظم من التذكير بهذه النعم الجليلة؛ لذلك نجد في الآيات دعوة لشكر الله، وعدم اتباع خطوات الشيطان.
يقول تعالى: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) [الأنعام: ١٤٢].
وكذلك بعد ذكر نعمة الأنعام في سورة النحل يقول تعالى: (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) [النحل: ٨١-٨٣].
يقول الطبري في تفسيره لهذه الآيات في سورة النحل: «وإن الله جلّ ثناؤه إنما عرّف عباده بهذه الآية وسائر ما في أوائل هذه السورة نعمته عليهم، ونبّههم به على حججه عليهم، وأدلته على وحدانيته، وخطّأ فعل من يشرك به من أهل الشرك»87.
وقال ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى في سورة يس بعد ذكر نعمة الأنعام: (ﭪ ﭫ)، قال: «أفلا يوحّدون خالق ذلك ومسخّره، ولا يشركون به غيره؟!»88.
الصورة الخامسة: نعمة البيوت وآيتها.
ويوجّه القرآن الكريم أنظار البشر إلى النعمة الكبرى التي أودعها قلوبهم، وهي نعمة الهدوء والسكينة، يحسون بها عند ما يعودون إلى بيوتهم، مكدودين منهوكي القوى، وإلى هدايتهم إلى بناء بيوت من جلود الأنعام، يجدونها خفيفة المحمل في الظعن والإقامة، وإلى اتخاذ أثاثهم وأمتعتهم من أصوافها وأوبارها، وإلى نعمة الظل يجدون عنده الأمن والاستقرار، وإن للشمس وحرارتها لوقعًا مؤلمًا في النفوس وعلى الأجسام، ومن أجمل وسائل الاستتار هذه الثياب، تقي صاحبها الحر، وبها تتم نعمة الله، فيقول: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﮊ ﮋ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [النحل ٨٠ - ٨١]89.
الصورة السادسة: آية ونعمة الأزواج.
ويوجّه القرآن الكريم أنظار البشر أيضًا إلى ما في خلق الزوج من نعمة تسكن إليها النفس، وتجد في ظلها الرحمة والمودة، فيقول: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ) [الروم: ٢١].
إن التفكر في احتياج الكائنات وافتقارها إلى الزوجية، ووجودها بهذه الثنائية «الذكر والأنثى»، لأمرٌ يدفع إلى تسبيح وتقديس الإله العظيم ذي الوحدانية، الذي لم تكن له صاحبة، إنها آية عظيمة تدعو إلى تذكّر التوحيد.
يقول تعالى: (ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ) [الذاريات: ٤٩-٥١].
ختامًا: فإن في إكثار القرآن من الحديث عن هذه النعم، وتوجيه أنظارهم إليها، وتقريرهم بها، ما يدفعهم إلى التفكير في مصدرها، وأنه جدير بالعبادة، ولا سيما أن تلك النعم ليست في طاقة بشر، وأنها باعترافهم أنفسهم من خلق العليّ القدير، وهكذا يتكئ القرآن على عاطفة إنسانية يثيرها؛ لتدفع صاحبها إلى الإيمان بالله وإجلاله وتقديسه، وإلى عبادته عبادةً منبعثة عن حبه وشكر أياديه90.
ثالثًا: الأدلة العقلية:
وهي الأدلة التي تعتمد على عمليات نظرية وفكرية، كترتيب المقدمات واستخراج نتائجها، حسب ضوابط وقوانين وراء بداهة الحسّ ومشاعر النفس، وإن كان الإدراك في الجميع راجعًا إلى العقل 91.
فهذا تنبيه إلى أن أدلة القرآن كلها سمعية عقلية، سمعية؛ لورودها في القرآن، وعقلية؛ لأن للعقل قدرة على التفكير فيها، والنظر والاعتبار إذا سلك المسلك الصحيح92.
ولكنا نتوسع هنا بذكر بعض الأدلة التي لم تندرج تحت ما سبق ذكره من أدلة توحيد الله، وأيضًا قد لوحظ فيها عناية القرآن بنظمها بأسلوبٍ جدليٍّ مرتّبٍ مقصودٍ للمناظرة والمحاجّة ابتداءً، وهذا أسلوب يختلف قليلا عن أسلوب الشواهد القرآنية السابقة في أدلة الآيات الكونية، فالأسلوب هناك سمته الأوضح هي السّرد والحشد للصّور والمشاهد، ويأتي التدليل والتعليل للوحدانية في ركاب السياق والسباق.
وقد استخرج العلماء من الأدلة العقلية القرآنية لتقرير التوحيد أنواعًا.
١. الدليل البدهي.
هو دليل (بدهي) لأنه يقوم على استخدام الحقائق المشهورة والبدهيات المستقرة، في ابتناء الدليل عليها، فيذعن الخصم للدليل إذعانًا إن كان منصفًا.
وهو دليل الخلق والملك؛ لأنه مبني على أصلين:
أن الموجودات مخترعة.
ونأخذ لهذا الدليل أمثلةً من آيات القرآن الكريم في نفي الولد عن الله.
فنجد القرآن الكريم قد حدثنا في صراحة عن أن الله جل وعلا ليس في حاجة إلى هذا الولد، يعينه أو يساعده، فكل من في الوجود خاضع لأمره، لا يلبث أن ينقاد إذا دعي.
قال تعالى: (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) [البقرة: ١١٦- ١١٧].
وحينًا يدفع ذلك دفعًا طبيعيًّا: بأن الولد لا يكون إلا إذا كان ثمة له زوجة تلد، أما وقد خلق كل شيء، فليس ما يزعمونه ولدًا سوى خلق ممن خلق: (ﯸ ﯹ ﯺﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ) [الأنعام: ١٠١].
ويعرض مرة أخرى لهذه الدعوى، فيقرر غناه عن هذا الولد، ولم يحتاج إليه، وله ما في السموات وما في الأرض.
يقول تعالى: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [يونس: ٦٨ - ٦٩].
ويعجب القرآن: كيف يتوهّم للمشركين أن يخصوا أنفسهم بالبنين، ويجعلوا البنات لله؟! فيقول: (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ) [الإسراء: ٤٠].
ويصور القرآن -في أقوى صور التعبير- موقف الطبيعة الساخطة المستعظمة نسبة الولد إلى الله، فتكاد- لشدة غضبها- أن تنفجر غيظا، وتنشق ثورة، وتخرّ الراسيات لهول هذا الافتراء، وضخامة هذا الكذب.
وأصغ إلى تصوير هذا الغضب في قوله: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ) [مريم: ٨٨-٩١]94.
فهذا الدليل (دليل الخلق والملك) دليل عقليٌّ يتكامل مع الأدلة الحسية الكونية السابقة، فمتى تدبر الإنسان تلك الآيات والشواهد؛ استنتج منها: أن كل ما في الكون مخلوق، والمخلوق لابد له من خالق؛ لأنه يستحيل أن يكون خلق من غير خالق، والخالق يجب أن يكون ممتازًا عن المخلوق بكل وجهٍ، وإلا لما كان بينهما فرقٌ.
٢. دليل التمانع.
ويسمى دليل النظام أو التناسق؛ لأنه ينطلق بنا ضمن الآيات الكونية؛ ليوصلنا إلى أن الذي نظم الكون وربط أجزاءه -بحيث يكمل بعضها بعضًا-، وقدّر كل شيء فيه تقديرًا، هو الله الواحد الأحد، ويمتنع أن يكون له تعالى أيّ شريكٍ في ألوهيته أو ربوبيته؛ لأنّ ذلك سيفضي حتمًا إلى الخلل والفساد.
ومن الآيات التي قرر القرآن فيها هذا الدليل: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ) [الأنبياء: ٢٢].
وتوضيح الآية الكريمة أن يقال: لو كان للعالم صانعان لكان تدبيرهما لا يجري على نظام، ولكان العجز يلحقهما أو أحدهما؛ وذلك لأنه لو أراد أحدهما إحياء جسم وأراد الآخر إماتته، فحينئذٍ إما أن تنفذ إرادتهما معًا، فيتناقض النظام لاجتماع الضدين، وإما ألا تنفذ إرادتهما معًا؛ فيؤدي إلى عجزهما، أو لا تنفذ إرادة أحدهما؛ فيؤدي إلى عجزه، والإله لا يكون عاجزًا؛ فبطل ما أدى إليه، وهو افتراض التعدد، وثبت نقيضه، وهو الوحدانية 95.
٣. دليل الفرض والتسليم.
وهذا النوع من الاستدلال يقوم على التسليم بدعوى الخصم تسليمًا جدليًّا -ولو كانت دعواه مستحيلة-، ثم يستدل على إبطال الدعوى بالنتائج الخاطئة المتناقضة التي تترتب على هذه الدعوى.
ومثاله: قوله تعالى: (ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ) [المؤمنون: ٩١].
فالحقيقة أن لا إله إلا الله، ولم يتخذ الله سبحانه وتعالى ولدًا، ولكننا لو سلمنا جدلًا بهذا الافتراض الخاطئ فما هي النتائج التي تترتب على ذلك: يترتب على ذلك استعلاء بعضهم على بعضٍ؛ فلا ينتظم أمر الكون، ولا ينفذ فيه حكم، ولا تتحقق مصلحة، ومن ثمّ ففي ذلك اختلال نظام المخلوقات واستحالة استمراره.
والواقع المشاهد خلاف ذلك؛ فدل هذا الواقع على أن تعدد الآلهة محال لما يلزم عليه من المحال، كما أن افتراض وجود آلهة متعددة يؤدي إلى استعلاء بعضهم على بعضٍ، ومنع كل منهم غيره من التدخل في شؤونه، وهو محال مصادم لما تستلزمه صفات الكمال المطلق للإله المعبود بحقٍّ.
قال تعالى: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ)96.
٤. الشرك ظنون وأوهام .
في ختام هذه الاستدلالات على صحة التوحيد، يبرز القرآن العظيم وجهًا آخر من وجوه الاستدلال، حين يطالب المشركين ويتـحدّاهم أن يقيموا دليلًا واحدًا من أي نوعٍ على صحة عقيدتهم، فلا يستطيعون، بل لا يـملكون إلا التعلق بالظنون والأوهام، والاحتـجاج بفعل آبائهم، كما قال عنهم القرآن: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [البقرة: ١٧٠].
ولمّا كانوا عاجزين عن إتيان ذلك، بيّن القرآن الكريم حقيقة عقائـدهم، وأنها مجرّد ظنونٍ فاسـدةٍ.
قال تعالى: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ) [آل عمران: ١٥٤].
لقد وجّه القرآن نظرهم إلى أن هذه الأصنام أقل منهم؛ فإن لعابديها أرجلًا يمشون بها، وأعينًا يبصرون بها، وآذانًا يسمعون بها، أما هذه الأوثان فجاثمة، لا تستطيع الحركة والانتقال، ولا تستطيع البطش والدفاع، ولا تبصر، ولا تسمع، (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ) [الأعراف: ١٩٥].
(ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ) [فاطر: ١٤].
أو يليق بالعاقل أن يعبد من دونه، ومن يراه عاجزًا لا يستطيع شيئًا؟! ولم يعبد المرء إلهًا لا يسمع دعاءه، ولا يستطيع أن يجيبه إلى مبتغاه، ولا يقدر على أن يرد عن عابده أذى نزل به.
قال سبحانه: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ) [الإسراء: ٥٦].
وإذا استنصره لم يجد عنده ما يؤمل من النصر، والمرء عند الشدائد يلجأ إلى الله، ويطلب منه المعونة والمساعدة، فماذا يصنع بعبادة إلهٍ لا يمده بهما؟! بل إن هذه الأوثان لا تستطيع أن تحمي نفسها، (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) [الأعراف: ١٩٧].
وأي ضلال أشد من عبادة من لا يملك الضر والنفع؟ وماذا بقي لهم من صفات الآلهة؟!، أخلقوا شيئًا في السـماوات والأرض؟ أبأيـديهم الموت والحيـاة والبعث؟ لا: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ) [الفرقان: ٣].
والقرآن يمضي في التحدي، مؤكّدًا لهم أن أولئك الذين يدعونـهم شركاء لله لا يستطيعون أن يخلقوا ذبابًا، ولو ظاهر بعضهم بعضًا، برغم حقارة الذبـاب وضعفه، بل إن هذا الذباب الحقير الضعيف لا يستطيعون استخلاص شيء منه، إن سلبهم إيـاه، (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [الحج: ٧٣].
وإذا كانوا لم يخلقوا شيئًا، فهل يملكون من شيء في السماء أو الأرض؟ لا، إنهم (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ) [سبأ: ٢٢].
وإذا كانت هذه الأوثـان لا تنفع ولا تضر، ولا تـملك من أمر نفسها شيئًا، ولا تخلق شيئًا، وليس بيـدها حياة ولا موت، بل هي أقل من عابـديها قدرًا، فقد انمحت عنها حقيقة الألوهية، ولا يعدو الأمر بعدئذٍ: أن تكون المسألة أسماء وضعوها، من غير أن تدل هذه الأسـماء على آلهةٍ حقيـقيةٍ لـها ما للآلـهة من سلطان وقوة، وتستحق العبـادة رغبةً أو رهبةً، (ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ) [النجم ١٩ - ٢٣].
وها هو ذا يتهكم بهم تهكّمًا لاذعًا عندما منحوا هذه الأسماء التي لا حقيقة لها صفة الشفعاء؛ فيقول: (ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) [يونس: ١٨].
والقرآن يثير في نفوسهم الخوف والفزع من سوء المصير، حين يصوّر لهم يوم القيامة، وما ينالـهم فيه من خيبة الأمل، عندما يرون هذه الآلهة التي اتخذوها؛ ليعتزوا بها، قد أنكرت أن تكون أهلًا لعبادتهم، ويشهدون عليهم بأنهم لم يكونوا عقلاء في هذه العبادة، فيقول: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [مريم: ٨١- ٨٢]97.
موضوعات ذات صلة: |
الألوهية، الإيمان، الدعوة، الشرك |
1 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٦/٩٠.
2 الصحاح، الجوهري ٢/٥٤٧.
3 انظر: تهذيب اللغة، الأزهري ٥/١٢٧.
4 المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية ٢/٥٤٧.
5 التعريفات ص٦٩.
6 القول السديد ص٧.
7 تاج العروس، الزّبيدي، ٢٧/٢٢٤.
8 أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة، نخبة من العلماء، ص ٥٨.
9 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس٥/١٩٠، المفردات، الراغب الأصفهاني ص٤٩٥، مختار الصحاح، الرازي ص٢٤٧.
10 المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية ٢/٢٨٥٠.
11 انظر: التفسير المنير، الزحيلي ٩/١٧٢.
12 انظر: التعريفات الاعتقادية، سعد آل عبد اللطيف ص ٥٨، الألفاظ والمصطلحات المتعلقة بتوحيد الربوبية، آمال العمرو ص ٣٢٧.
13 انظر: معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار ٢/١٤٤٨.
14 التوقيف، ص ٢٣٤.
15 المفردات، ص ٣١٨.
16 انظر: منهج الشيخ محمد رشيد رضا في العقيدة، تامر متولي ص ١٦٦.
17 العقائد الإسلامية، سيد سابق ص ٤٦.
18 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات، رقم ١٣٥٨، ٢/٩٤، ومسلم في صحيحه، كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، رقم ٢٦٥٨، ٤/٢٠٤٧.
19 شرح الطحاوية، ابن أبي العزّ ١/٣٤.
20 عقيدة التوحيد في القرآن الكريم، محمد ملكاوي ص ٢٦.
21 إغاثة اللهفان، ابن القيم ١/١٠٧.
22 منهج القرآن الكريم في دعوة المشركين إلى الإسلام، حمود الرحيلي ص ٣٣٨.
23 المصدر السابق ص ٣٣٩- ٣٤٠.
24 المصدر السابق ص ٣٣٦.
25 عقيدة التوحيد في القرآن الكريم، محمد ملكاوي ص ٢٦.
26 الإسلام أصوله ومبادئه، محمد السحيم ٢/٤٨-٥٠.
27 العقيدة في الله، عمر الأشقر ص ٦٩-٧٠.
28 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب التكبير والتسبيح عند التعجب، رقم ٦٢١٩، ٨/٤٨، عن صفية أم المؤمنين رضي الله عنها.
29 العقائد الإسلامية، سيد سابق ص ١٤٣.
30 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صفة القيامة، باب تحريش الشيطان وبعثه، رقم ٢٨١٥، ٤/٢١٦٨.
31 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صفة القيامة، باب تحريش الشيطان وبعثه، رقم ٢٨١٤، ٤/٢١٦٧.
32 العقيدة في الله، عمر الأشقر ص ١٤٠.
33 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، رقم ٢٨٦٥، ٤/٢١٩٧.
34 أخرجه أحمد، رقم ١٥٩٥٨، ٢٥/٣١٥، والنسائي في سننه الصغرى، كتاب الجهاد، باب ما لمن أسلم وهاجر وجاهد، رقم ٣١٣٤، ٦/٢١.
وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم ٢٩٧٩، ٦/١١٨٦.
35 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صفة القيامة، باب تحريش الشيطان وبعثه، رقم ٢٨١٣، ٤/٢١٦٧.
36 العقائد الإسلامية، سيد سابق ص ١٤٠-١٤٣.
37 مدخل لدراسة العقيدة الإسلامية، عثمان ضميرية ص ٢.
38 حماية الرسول صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد، محمد الغامدي ص ٢٠٠.
39 العقيدة في الله، عمر الأشقر ص ٧١.
40 مدخل لدراسة العقيدة الإسلامية، عثمان ضميرية ص ٢١٧.
41 أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب تواريخ المتقدمين من الأنبياء والمرسلين، ذكر نوح النبي صلى الله عليه وسلم، رقم ٤٠٠٩، ٢/٥٩٦.
وصححه الحاكم على شرط البخاري، ولم يتعقبه الذهبي.
42 انظر: تفسير القرآن العزيز، ابن أبي زمنين ١/٢١٥.
43 جامع البيان، الطبري ٤/٢٨٠.
44 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٤/٢٥٧.
45 مدخل لدراسة العقيدة الإسلامية، عثمان ضميرية ص ٢٢٠.
46 منهج القرآن الكريم في دعوة المشركين إلى الإسلام، حمود الرحيلي ١/٥٨.
47 مدخل لدراسة العقيدة الإسلامية، عثمان ضميرية ص ٢٢١.
48 المصدر السابق ص ٢٢٠.
49 منهج القرآن الكريم في دعوة المشركين إلى الإسلام، حمود الرحيلي ١/٦٥-٦٨.
50 المصدر السابق ١/٦٩.
51 شرح الطحاوية، ابن أبي العز ١/٢١.
52 مدخل لدراسة العقيدة الإسلامية، عثمان ضميرية ص ٣٠٥.
53 تجريد التوحيد المفيد، المقريزي ص ٧-٨.
54 عقيدة التوحيد في القرآن الكريم، محمد ملكاوي ص ١٠٣.
55 التفسير الموضوعي ج ١، جامعة المدينة ص١٣-١٦.
56 المصدر السابق ص ١٧- ١٨.
57 المصدر السابق ص ٢٣.
58 تجريد التوحيد المفيد، المقريزي ص ٩.
59 انظر: منهج القرآن الكريم في دعوة المشركين إلى الإسلام، حمود الرحيلي ١/٤٧٧.
60 عقيدة التوحيد في القرآن الكريم، محمد ملكاوي ص ٣٤٩، من بلاغة القرآن، أحمد البيلي ص ١٩٧.
61 انظر: من بلاغة القرآن، أحمد البيلي ص ٢٠٠، عقيدة التوحيد في القرآن الكريم، محمد ملكاوي ص ١٧٧.
62 التفسير الموضوعي ج ١، جامعة المدينة ص ٢٧.
63 انظر: التفسير الوسيط، الزحيلي ٢/١١٩١.
64 عقيدة التوحيد في القرآن الكريم، محمد ملكاوي ص ٢٢٩.
65 التفسير الموضوعي ج ١، جامعة المدينة ص ٢٨- ٢٩.
66 من بلاغة القرآن، أحمد البيلي ص ٢٠٠.
67 انظر: جامع البيان، الطبري ١٩/٦١٣.
68 عقيدة التوحيد في القرآن الكريم، محمد ملكاوي ص ٢٣٦.
69 عقيدة التوحيد في القرآن الكريم، محمد ملكاوي ص ١٥٣.
70 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ١/١٩٧.
71 الكشاف، الزمخشري ١/٩٥.
72 جامع البيان، الطبري ٣/٢٦٧.
73 المصدر السابق ١٢/٣١٥.
74 عقيدة التوحيد في القرآن الكريم، محمد ملكاوي ص ٢٣٨.
75 المصدر السابق ص ٢٣٩.
76 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٥/٢٩٩.
77 جامع البيان، الطبري ١٥/٢٤.
78 المصدر السابق ١٨/٦٧٦.
79 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٧/١٨٢.
80 عقيدة التوحيد في القرآن الكريم، محمد ملكاوي ص ٢٣٤.
81 من بلاغة القرآن، أحمد البيلي ص ٢٠٣.
82 مفتاح دار السعادة، ابن القيم ١/٢٠٢.
83 جامع البيان، الطبري ١١/٥٥٠.
84 المصدر السابق ١١/٥٨٢- ٥٨٣.
85 من بلاغة القرآن، أحمد البيلي ص ١٩٦.
86 عقيدة التوحيد في القرآن الكريم، محمد ملكاوي ص ٢٤٨-٢٥١.
87 جامع البيان، الطبري ١٧/١٧٣.
88 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٦/٥٩٢.
89 من بلاغة القرآن، أحمد البيلي ص ١٩٤.
90 المصدر السابق ص ١٩٦.
91 التفسير الموضوعي ج ١، جامعة المدينة ص ٣٦.
92 عقيدة التوحيد في القرآن الكريم، محمد ملكاوي ص ٢٦٠.
93 التفسير الموضوعي ج ١، جامعة المدينة ص ٣٧.
94 من بلاغة القرآن، أحمد البيلي ص ١٩٦- ١٩٧.
95 عقيدة التوحيد في القرآن الكريم، محمد ملكاوي ص ٢٦٠.
96 مباحث من التفسير الموضوعي، مصطفى مسلم ص ١٥٣- ١٥٤.
97 من بلاغة القرآن، أحمد البيلي ص ٢٥٥-٢٥٧.