عناصر الموضوع

مفهوم التواضع

التواضع في الاستعمال القرآني

الألفاظ ذات الصلة

درجات التواضع

مظاهر التواضع

نماذج قرآنية في التواضع

فوائد التواضع

التواضع

مفهوم التواضع

أولًا: المعنى اللغوي:

وضع: الواو والضّاد والعين: أصلٌ واحدٌ -كما يقول ابن فارس- يدلّ على الخفض للشّيء وحطّه.

ووضعته بالأرض وضعًا، ووضعت المرأة ولدها، ووضع في تجارته يوضع: خسر، والوضائع: قومٌ ينقلون من أرضٍ إلى أرضٍ يسكنون بها1.

والتواضع: التذلل2. و(تواضع) فلان تذلل وتخاشع، والقوم على الأمر: اتّفقوا عليه، والأرض: انخفضت عمّا يليها3.

والمقصود: أن معنى الجذر (وضع) يدور حول الخفض للشيء وحطّه، كما ذكر ابن فارس، وجاء منه التواضع بمعنى التذلل، والتواضع بمعنى الانخفاض، كقول العرب: تواضعت الأرض: انخفضت عما يليها، ثم توسع المتأخرون في معنى الكلمة، فقالوا: أجرٌ متواضعٌ، وأصلٌ متواضعٌ، وهديةٌ متواضعةٌ... الخ، على سبيل المجاز.

ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:

وأما في الاصطلاح فقد عرّف التواضع بعدة تعريفات، نذكر منها:

التّواضع: استعظام ذوي الفضائل من دونه في المال والجاه، وقيل: الرّضا بمنزلة دون ما يستحقّه فضله ومنزلته4.

وقيل: التّواضع: الاستسلام للحق، وترك الاعتراض على الحكم، وقيل: التواضع: قبول الحق، وقيل: افتخار بالقلة، واعتناق المذلة، وتحمل أثقال أهل الملّة5.

وعرّفه المناوي بقوله: «التواضع: تحقير النفس وإهانتها بالنسبة إلى عظمة الله، وقبول الحق بحسن الخلق. وقيل: ترك الصول، والتبرؤ من القوة والحول، قال التونسي: التواضع: تذلل القلوب لعلام الغيوب، بالتسليم لمجاري أحكام الحق»6.

وقيل: «التواضع: ضد التكبر، وهو أن يرى المرء نفسه دون غيره في صفة الكمال»7.

وقيل: «التواضع: ألا ترى لنفسك قيمة، فمن رأى لنفسه قيمة فليس له في التواضع نصيب»8.

وسئل الفضيل بن عياض عن التواضع، فقال: يخضع للحق، وينقاد له، ويقبله ممن قاله9.

وقال الجنيد: «التواضع خفض الجناح، وكسر الجانب»10. أي: لين الجانب.

وقال رويم: «التّواضع: تذلل القلوب لعلام الغيوب»11.

وعرّفه من المعاصرين سليمان بن عبد الرحمن الحقيل بقوله: «التواضع: معرفة المرء قدر نفسه، وتجنّب الكبر، ويتطلب أن يتجنب الإنسان المباهاة بما فيه من الفضائل، والمفاخرة بالجاه والمال»12.

ومما سبق ندرك أنه وإن اختلفت عبارات العلماء في تعريفهم للتواضع إلا أن كل هذه التعريفات مجتمعة تدل على أن التواضع هو: خفض النفس، وهضمها في ذات الله، ومعرفة المرء قدر نفسه، واجتناب الكبر والبطر والخيلاء، وقبول الحق، والانقياد له.

فالمعنى الاصطلاحي لا يخرج عن أصله اللغوي.

التواضع في الاستعمال القرآني

لم يرد لفظ (التواضع) في القرآن، ولكن ورد جذره (وضع) في القرآن (١٢) مرة.

والمعاني التي استعمل القرآن فيها الجذر (وضع) لا تخرج عن المعنى اللغوي العام، الذي يدل على الخفض للشيء وحطه13.

وقد تحدث القرآن عن التواضع باستخدام ألفاظٍ قريبة، مثل: الذل، واللين.

الألفاظ ذات الصلة

العجب:

العجب لغةً:

العجب بالضم: الزّهو والكبر، ورجلٌ معجبٌ: مزهوٌّ بما يكون منه حسنًا أو قبيحًا14.

العجب اصطلاحًا:

مسرة بحصول أمر، يصحبها تطاول به على من لم يحصل له مثله، بقول أو ما في حكمه، من فعل، أو ترك، أو اعتقاد15.

الصلة بين التواضع والعجب:

أن العجب بالشيء شدة السرور به حتى لا يعادله شيء عند صاحبه، تقول هو معجب بفلانة إذا كان شديد السرور بها، وهو معجب بنفسه إذا كان مسرورًا بخصالها،ولهذا يقال: أعجبه، كما يقال: سر به، فليس العجب من الكبر في شيء16، بل هو أحد أسبابه الداعية إليه17.

الكبر:

الكبر لغة:

تدل على خلاف الصّغر، والكبر: معظم الأمر، والكبر: العظمة، وكذلك الكبرياء18، والكبر والتّكبّر والاستكبار تتقارب،وأصل ذلك أن يستعمل في الأعيان ثم استعير للمعاني.

الكبر اصطلاحًا:

قال الراغب الأصفهاني: «الكبر: الحالة التي يتخصص بها الإنسان من إعجابه بنفسه وذلك أن يرى الإنسان نفسه أكبر من غيره.»19.

الصلة بين التواضع والكبر:

التواضع ضد الكبر، فالأول محمود، والثاني مذموم.

درجات التواضع

التواضع خلقٌ حميد، وجوهر لطيف، يستهوي القلوب، ويستثير الإعجاب والتقدير، وهو من أخصّ خصال المؤمنين المتقين، ومن كريم سجايا العاملين الصادقين، ومن شيم الصالحين المخبتين.

والتواضع هدوء وسكينة ووقار واتزان، والتواضع ابتسامة ثغر، وبشاشة وجه، ولطافة خلق، وحسن معاملة، بتمامه وصفائه يتميّز الخبيث من الطيب، والصادق من الكاذب.

وهو على ثلاث درجات: تواضع للدين، وتواضع للحق، وتواضع للخلق.

أولًا: التواضع للدين:

من أعظم درجات التواضع الانقياد لما جاء به الرسول، والاستسلام له والإذعان، وهذا هو معنى ( ) في قوله: ( ) [النساء: ٦٥].

فقوله: ( ) أي: ويخضعوا لأمرك في القضاء خضوعًا، وقال الزجاج: تسليمًا مصدر مؤكد، فإذا قلت ضربه ضربًا فكأنك قلت: لا شك فيه، كذلك ( ) أي: ويسلّمون لحكمك تسليمًا، لا يدخلون على أنفسهم شكًّا20.

ونلحظ أنه جمع بين الجملتين ( ) ( ) وكأن الأولى- المراد بها الانقياد في الباطن، والثانية- المراد منها: الانقياد في الظاهر21.

نفى الله عنهم الإيمان أو كماله، إذا تحاكموا إلى غير الرسول، أو لم يرضوا بحكمه، والحرج هو الشك.

وليس المراد الحرج الذي يجده المحكوم عليه من كراهية ما يلزم به إذا لم يخامره شك في عدل الرسول، وفي إصابته وجه الحق، وقد بيّن الله تعالى في سورة النور كيف يكون الإعراض عن حكم الرسول كفرًا، سواء كان من منافق أم من مؤمن، إذ قال في شأن المنافقين: ( ) [النور: ٤٨-٥٠].

ثم قال: ( ) [النور: ٥١].

لأن حكم الرسول بما شرع الله من الأحكام لا يحتمل الحيف؛ إذ لا يشرع الله إلا الحق، ولا يخالف الرسول في حكمه شرع الله تعالى ؛ ولهذا كانت هذه الآية خاصة بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم، فأما الإعراض عن حكم غير الرسول فليس بكفر إذا جوّز المعرض على الحاكم عدم إصابته حكم الله تعالى، أو عدم العدل في الحكم22.

ونظير هذه الآية قوله تعالى: ( ﭠﭡ ) [الأحزاب: ٣٦].

والخيرة: الاختيار، أي: يريد غير ما أراد الله، ويمتنع مما أمر الله ورسوله.

ولفظ (ما كان) و(ما ينبغي) ونحوهما معناهما المنع، والحظر من الشيء، والإخبار بأنه لا يحل أن يكون شرعًا، وقد يكون لما يمتنع عقلًا، كقوله: ( ) [النمل: ٦٠]23.

وإنما الواجب عليهم أن يخضعوا لما جاء من عند الله ورسوله، ويقبلوه ويتواضعوا له، ويتركوا التكبر عنه، فليس لهم الخيرة في قبوله أو عدم قبوله، وليس لهم الخيرة أن يختاروا من أمرهم ما شاءوا، بل يجب عليهم أن يجعلوا رأيهم تبعًا لرأيه صلى الله عليه وسلم، واختيارهم تلو اختياره.

فقطع سبحانه وتعالى التخيير بعد أمره وأمر رسوله، فليس لمؤمن أن يختار شيئًا بعد أمره صلى الله عليه وسلم، بل إذا أمر فأمره حتم، وإنما الخيرة في قول غيره إذا خفي أمره، وكان ذلك الغير من أهل العلم به وبسنته، فبهذه الشروط يكون قول غيره سائغ الاتّباع لا واجب الاتّباع، فلا يجب على أحد اتباع قول أحد سواه، بل غايته أنه يسوغ له اتباعه، ولو ترك الأخذ بقول غيره لم يكن عاصيًا لله ورسوله24.

ونظير ذلك قوله تعالى: ( ) [البقرة: ٢٠٨]. أي: في الإسلام.

قال مجاهد: في أحكام أهل الإسلام وأعمالهم، () أي: جميعًا.

وقيل: ادخلوا في الإسلام إلى منتهى شرائعه كافين عن المجاوزة إلى غيره، وأصل السلم من الاستسلام والانقياد25.

وقد ذكر الهروي هذه الدرجة من درجات التواضع، وهي التواضع للدين، وأنها تكون بثلاثة أشياء:

الأول: أن لا يعارض شيئًا مما جاء به بشيء من المعارضات الأربعة السارية في العالم المسماة: بالمعقول والقياس والذوق والسياسة.

الثاني: أن لا يتهم دليلًا من أدلة الدين بحيث يظنه فاسد الدلالة أو ناقص الدلالة أو قاصرها، أو أن غيره كان أولى منه، ومتى عرض له شيء من ذلك فليتّهم فهمه، وليعلم أن الآفة منه، والبلية فيه.

الثالث: أن لا يجد إلى خلاف النص سبيلًا ألبتة لا بباطنه ولا بلسانه ولا بفعله ولا بحاله، بل إذا أحسّ بشيء من الخلاف فهو كخلاف المقدم على الزنا وشرب الخمر وقتل النفس، بل هذا الخلاف أعظم عند الله من ذلك، وهو داعٍ إلى النفاق، وهو الذي خافه الكبار والأئمة على نفوسهم26.

وفي كلام الهروي -السابق- شرحٌ وافٍ لدرجة عظيمة من درجات التواضع، بل هي أعظم درجات التواضع وأعلاها، وهي التواضع للدين، بمعنى الاستسلام له، والانقياد لما جاء في الشرع دون معارضة، وألا يحكّم العقل في النقل، فمن يحكّم العقل في النقل فهو متكبّر، فالعقل لا يكون حاكمًا في النقل، وإنما العقل له ثلاث وظائف، هي: أن يتحقق من صحة النقل، وأن يفهم مضمون النقل، وأن يتفكر في خلق السماوات والأرض؛ لكي يعرف الله عز وجل، أما غير هذه الأمور فلا يمكن أن يدركها العقل الضعيف المحدود العلم.

فمن التواضع للدين ألا تعارض المنقول بالمعقول، وألا تتهم للدين دليلًا، والكبر أن تأبى حكمًا شرعيًا، أو آيةً أو حديثًا، أو أن تأخذ من الدين ما تحب وتدع ما لا تحب، فكل هذا كبرٌ وبطرٌ للحق، وردٌّ له.

ومن التواضع للدّين ألا تعارضه برأيٍ أو هوى، ولا تعرض عن تعلّمه والعمل به، وإذا أسدي إليك نصحًا فاقبله واشكر قائله، ومن أمرك بمعروفٍ أو نهاك عن منكرٍ فامتثل لرشده، فالحظوة في التواضع للطاعة، قال رجل لمالك بن مغول: «اتّق الله» فوضع خدّه على الأرض؛ تواضعًا لله27.

وروي أنه قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: اتق الله، فوضع خده على الأرض تواضعًا لله28.

ينسى بعض الناس هذا كله فيتعاظمون في أنفسهم، ويأخذهم العجب بأجسادهم وألوانهم، وامتداد قاماتهم، وجمال ثيابهم، فإذا هم يمشون في الأرض مشية الخيلاء المتكبرين، وينظرون إلى الناس نظرة احتقار وازدراء، ويظن أحدهم أنه خير الناس وهو أرذلهم.

وقد قسم ابن القيم التواضع بقوله: «والتواضع المحمود على نوعين:

النوع الأول: تواضع العبد عند أمر الله امتثالًا، وعند نهيه اجتنابًا، فإن النفس لطلب الراحة تتلكأ في أمره، فيبدو منها نوع إباء وشراد هربًا من العبودية، وتثبّت عند نهيه طلبًا للظفر بما منع منه، فإذا وضع العبد نفسه لأمر الله ونهيه فقد تواضع للعبودية.

والنوع الثاني: تواضعه لعظمة الرب وجلاله، وخضوعه لعزته وكبريائه، فكلما شمخت نفسه ذكر عظمة الرب تعالى وتفرده بذلك، وغضبه الشديد على من نازعه ذلك، فتواضعت إليه نفسه، وانكسر لعظمة الله قلبه، واطمأن لهيبته، وأخبت لسلطانه، فهذا غاية التواضع، وهو يستلزم الأول من غير عكس، والمتواضع حقيقة من رزق الأمرين، والله المستعان»29.

والمقصود أن التواضع يكون للشرع بالخضوع التام لأوامر الله، والاستسلام له، فلا يعارض بمعقول ولا رأي ولا هوى، والانقياد التام لما جاء به خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم، وأن يعبد الله وفق ما أمر، وأن لا يكون الباعث على ذلك داعي العادة.

ثانيًا: التواضع للحق:

ومن درجات التواضع وأنواعه: التواضع للحق، والعمل به، وقبوله، والفرح به، وقد أخبر الله عن قوم من أهل الكتاب أنهم قبلوا الحق لما جاءهم، وفرحوا به، وتواضعوا له، فقال: ( ﭟﭠ ) [المائدة: ٨٣].

وهذا وصف برقة القلوب، والتأثر بسماع القرآن، والظاهر أن الضمير يعود على قسيسين ورهبانًا فيكون عامًا، ويكون قد أخبر عنهم بما يقع من بعضهم، كما جرى للنجاشي، حيث تلا عليه جعفر سورة مريم إلى قوله: ( ) [مريم: ٣٤].

وسورة طه إلى قوله: ( ) [طه: ٩].

فبكى، وكذلك قومه الذين وفدوا على الرسول، حين قرأ عليهم يس فبكوا.

قال ابن عطية: «الضمير في () ظاهره العموم، ومعناه الخصوص فيمن آمن من هؤلاء القادمين من أرض الحبشة، إذ هم عرفوا الحق وقالوا: آمنا، وليس كل النصارى يفعل ذلك، وصدر الآية في قرب المودة عامٌّ فيها، ولا يتوجه أن يكون صدر الآية خاصًّا فيمن آمن؛ لأن من آمن فهو من الذين آمنوا، وليس يقال فيه: ( )، ولا يقال في مؤمنين: ( ) ولا يقال: إنهم أقرب مودة، بل من آمن فهو أهل مودة محضة... فالقوم الذين وصفوا بأنهم عرفوا الحق هم الذين بعثهم النجاشي ليروا النبي صلى الله عليه وسلم ويسمعوا ما عنده، فلما رأوه قرأ عليهم القرآن، وهو المراد بقوله تعالى: ( ) فاضت أعينهم بالدمع من خشية الله، ورقت القلوب»30.

وقال ابن كثير في قوله تعالى قبل الآية السابقة: ( ) [المائدة: ٨٢]: «تضمن وصفهم بأن فيهم العلم والعبادة والتواضع، ثم وصفهم بالانقياد للحق واتباعه والإنصاف، فقال: ( ) [المائدة: ٨٣]. أي: مما عندهم من البشارة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم.

( ) [المائدة: ٨٣]. أي: مع من يشهد بصحة هذا، ويؤمن به»31.

قال الألوسي: «وفي الآية: دليل على أن صفات التواضع والإقبال على العلم والعمل، والإعراض عن الشهوات؛ محمودة أينما كان»32.

وفي قوله: ( ) إشارة إلى أنهم يقبلون الحق إذا فهموه، ويتواضعون ولا يتكبرون كاليهود.

وأخبر الله تعالى عنهم بعد ذلك أنهم قالوا: ( ) [المائدة: ٨٤].

فكأنهم ليموا على إيمانهم ومسارعتهم فيه، فقالوا: ( ) أي: وما الذي يمنعنا من الإيمان بالله والحال أنه قد جاءنا الحق من ربنا الذي لا يقبل الشك والريب، ونحن إذا آمنا واتبعنا الحق طمعنا أن يدخلنا الله الجنة مع القوم الصالحين، فأي مانع يمنعنا؟ أليس ذلك موجبًا للمسارعة والانقياد للإيمان، وعدم التخلف عنه.

قال الله تعالى: ( ) [المائدة: ٨٥].

أي: بما تفوهوا به من الإيمان، ونطقوا به من التصديق بالحق ( ﭿ ﮃﮄ ) [المائدة: ٨٥].

قال السعدي: «وهذه الآيات نزلت في النصارى الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، كالنجاشي وغيره ممن آمن منهم، وكذلك لا يزال يوجد فيهم من يختار دين الإسلام، ويتبين له بطلان ما كانوا عليه، وهم أقرب من اليهود والمشركين إلى دين الإسلام»33.

وقد فسّر النبي صلى الله عليه وسلم الكبر بأنه بطر الحق، وغمط الناس34، يعني: وضده التواضع للحق، وهو قبوله حيث كان، ومع من كان.

وبطر الحق: جحده ودفعه ورده، والتعالي والتعاظم عن القيام به، والأنفة من اتّباعه، وتضييع الحق في أوامر الله ونواهيه، والمعنى: أن المتكبر يرفض الحق، ويأبى أن يدخل فيه، وأن يتبعه؛ ومن بطر الحق أيضًا الحيرة فيه، بمعنى: أن يتحير عند سماع الحق فلا يقبله، ولا يجعله حقًا، ومن بطر الحق أيضًا التكبر، يعني: أنه يتكبر عند سماع الحق فلا يقبله.

وغمط الناس: احتقارهم وازدراؤهم واستصغارهم. وهذا مما نهى الله عنه، فإنه قد يكون المحتقر أعظم قدرًا عند الله، وأحب إليه من الساخر منه المحتقر له؛ ولهذا قال: ( ) [الحجرات: ١١].

فنص على نهي الرجال، وعطف بنهي النساء35.

والحاصل: أن اتباع الحق والانقياد له لهو من أهم علامات التواضع في العبد، بل لا يصح له خلق التواضع حتى يقبل الحق ممن يحب، وممن يبغض، فيقبله من عدوه كما يقبله من وليه.

ثالثًا: التواضع مع الخلق:

ومن درجات التواضع: التواضع مع الخلق، وهو: خفض جناح الذل والرحمة للخلق، حتى لا يرى له على أحد فضلًا، ولا يرى له عند أحد حقًّا.

قال تعالى في وصف المؤمنين: ( ) [المائدة: ٥٤].

قال ابن كثير: «هذه صفات المؤمنين الكُمَّل: أن يكون أحدهم متواضعًا لأخيه ووليه، متعززًا على خصمه وعدوه، كما قال تعالى: ( ﭓﭔ ) [الفتح: ٢٩]»36.

فقوله: () يعني: أرقاء عليهم، رحماء بهم، من قول القائل: ذل فلان لفلان: إذا خضع له واستكان37.

قال السمعاني: «() ليس من الذل وإنّما هو من الذلة، وهي: اللين»38.

وقال البغوي: «ولم يرد به الهوان، بل أراد به أن جانبهم ليّن على المؤمنين، وقيل: هو من الذل، من قولهم: دابة ذلول، يعني أنهم متواضعون، كما قال الله تعالى: ( ) [الفرقان: ٦٣]»39.

( ) عدي () بـ() وإن كان الأصل باللام؛ لأنه ضمّنه معنى: الحنو والعطف، كأنه قال: عاطفين على المؤمنين على وجه التذلل والتواضع، أو لأنه على حذف مضاف، والتقدير: على فضلهم على المؤمنين، والمعنى: أنهم يذلون ويخضعون لمن فضلوا عليه مع شرفهم وعلو مكانهم40.

وآثر الأسلوب الحكيم () على أحنّة وأحدبة لإغراء المؤمنين بالاتصاف بها دون سواها؛ لما فيها من نسيان الذات، وغياب الأنا، مع اللين واليسر والسماحة والود، إنها أخوة ترفع الحواجز، وتزيل الكلف، وتصفّي النفوس، ذلة ليس فيها مهانة، ذلة ليس معها حساسية بالذات تجعله عصيًّا على أخيه41.

وهي صفة مأخوذة من الطواعية واليسر واللين، فالمؤمن ذلول للمؤمن، غير عصي عليه ولا صعب، هيّنٌ ليّنٌ، ميسّر مستجيب، سمحٌ ودود، وهذه هي الذلة للمؤمنين، وما في الذلة للمؤمنين من مذلة ولا مهانة، إنما هي الأخوة، ترفع الحواجز، وتزيل التكلف، وتخلط النفس بالنفس، فلا يبقى فيها ما يستعصي، وما يحتجز دون الآخرين.

يقول سيد رحمه الله: «إن حساسية الفرد بذاته متحوصلة متحيزة هي التي تجعله شموسًا عصيًّا شحيحًا على أخيه، فأما حين يخلط نفسه بنفوس العصبة المؤمنة معه فلن يجد فيها ما يمنعه، وما يستعصي به، وماذا يبقى له في نفسه دونهم، وقد اجتمعوا في الله إخوانًا يحبهم ويحبونه، ويشيع هذا الحب العلوي بينهم ويتقاسمونه؟! ( ) فيهم على الكافرين إباء واستعلاء؛، ولهذه الخصائص هنا موضع، إنها ليست العزة للذات، ولا الاستعلاء للنفس، إنما هي العزة للعقيدة، والاستعلاء للراية التي يقفون تحتها في مواجهة الكافرين، إنها الثقة بأن ما معهم هو الخير، وأن دورهم هو أن يطوعوا الآخرين للخير الذي معهم لا أن يطوعوا الآخرين لأنفسهم، ولا أن يطوعوا أنفسهم للآخرين وما عند الآخرين! ثم هي الثقة بغلبة دين الله على دين الهوى، وبغلبة قوة الله على تلك القوى، وبغلبة حزب الله على أحزاب الجاهلية، فهم الأعلون حتى وهم ينهزمون في بعض المعارك، في أثناء الطريق الطويل»42.

ولما قيل: ( ) ربما توهم أنّ مفهوم القيد غير معتبر، وأنهم موصوفون بالذل دائمًا، وعند كل أحد، فدفع بقوله: ( )43.

ففي قوله تعالى: ( ) تكميل؛ لأنه لما وصفهم بالتذلل ربما توهم أن لهم في نفسهم حقارة، فقال: ومع ذلك هم ( ).

واستدل بالآية على فضل التواضع للمؤمنين، والشدة على الكفار44.

وهذا الوصف هو وصف لهؤلاء القوم بعد أن دخلوا فى الإسلام، فكانت تلك صفتهم، وهذا سلوكهم، فهم ( ) أي: متخاضعين للمؤمنين، لا يلقونهم إلا باللّين والتواضع ( ) أي: أشدّاء وأقوياء، لا يلقى منهم أهل الكفر إلا بلاء في القتال، واستبسالًا في الحرب..، أما في السّلم فهم جبال راسخة في الإيمان، لا ينال أحد منهم نيلًا في دينه، ولا يطمع أحد من أعداء الإسلام في موالاتهم، أو في تعاطفهم معه45.

والأذلة والأعزة وصفان متقابلان وصف بهما القوم باختلاف المتعلق بهما...، ويطلق الذل على لين الجانب والتواضع، وهو مجاز...، فالمراد هنا الذل بمعنى لين الجانب، وتوطئة الكنف، وهو شدة الرحمة، والسعي للنفع؛ ولذلك علق به قوله: ( )، والأعزة: جمع العزيز، فهو المتصف بالعز، وهو القوة والاستقلال، ولأجل ما في طباع العرب من القوة صار العز في كلامهم يدل على معنى الاعتداء، ففي المثل (من عزّ بزّ) وقد أصبح الوصفان متقابلين؛ فلذلك قال السموأل46:

وما ضرّنا أنّا قليل وجارنا

عزيز وجار الأكثرين ذليل

وإثبات الوصفين المتقابلين للقوم صناعة عربية بديعية، وهي المسماة: الطباق، وبلغاء العرب يغربون بها، وهي عزيزة في كلامهم، وقد جاء كثير منها في القرآن، وفيه إيماء إلى أن صفاتهم تسيرها آراؤهم الحصيفة، فليسوا مندفعين إلى فعلٍ ما إلا عن بصيرة، وليسوا ممن تنبعث أخلاقه عن سجية واحدة، بأن يكون لينًا في كل حال، وهذا هو معنى الخلق الأقوم، وهو الذي يكون في كل حال بما يلائم ذلك الحال، كما قال47:

حليم إذا ما الحلم زين أهله

مع الحلم في عين العدو مهيب48

فالقرآن عندما يعبّر عن الإنسان السويّ فهو لا يضع المؤمن في قالب حديدي، بحيث لا يستطيع أن يتغير، فيقول سبحانه: ( ) [المائدة: ٥٤].

إذن فليس المؤمن مطبوعًا على الذلة، ولا مطبوعًا على العزة، لكنه ينفعل للمواقف المختلفة، فهذا موقف يتطلب ذلة وتواضعًا للمؤمنين، فيكون المؤمن ذليلًا، وهناك موقف آخر يتطلب عزة على الكافرين المتكبرين، فيكون المؤمن عزيزًا49.

وكيف يكون الإنسان المؤمن ذليلًا وعزيزًا في آن واحد؟ لأن الحق لا يريد أن يطبع الناس على لون واحد من الانفعال، ولكنه يريد أن ينفعلوا تبعًا للموقف، فعندما يحتاج الموقف إلى أن يكون المؤمن عطوفًا فالمؤمن يواجه الموقف بالعاطفة، وعندما يحتاج الموقف إلى الشدة فالمؤمن يواجه الموقف بالشدة، وإن احتاج الموقف إلى الكرم فالمؤمن يقابل الموقف بالكرم، فالمسلم إذن ينفعل انفعالًا مناسبًا لكل موقف، وليس مطبوعًا على انفعال واحد، ولو انطبع المؤمن على موقف ذلة دائمة فقد يأتي لمواجهة موقف يتطلب العزة فلا يجدها، ولو طبع المؤمن على عزة دائمة فقد يأتي لمواجهة موقف يتطلب الذلة فلا يجدها؛ لذلك جعل الحق قلب المؤمن لينًا قادرًا على المواجهة كل موقف بما يناسبه50.

فالشدة في محلّ اللين هي من الحمق والخرق، واللين في محلّ الشدة هو من الضعف والخور، والسداد والحكمة أن تكون الشدة في محلّ الشدة، واللين في محلّ اللين51.

قال أبو السعود: أي: يظهرون لمن خالف دينهم الشدة والصلابة، ولمن وافقهم في الدين الرحمة والرأفة، قال المفسرون: وذلك لأن الله أمرهم بالغلظة عليهم: ( ) [التوبة: ١٢٣].

وقد بلغ من تشديدهم على الكفار أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تمسّ أبدانهم، وكان الواحد منهم إذا رأى أخاه في الدين صافحه وعانقه.

وقد قال عطاء في هذا: إنهم للمؤمنين كالولد لوالده والعبد لسيده، وعلى الكافرين كالأسد على فريسته52.

ومما يدل على التواضع للخلق قوله عز وجل: ( ) [الحجر: ٨٨].

والخفض: معناه في اللغة: نقيض الرفع، ومنه قوله تعالى في وصف القيامة ( ) [الواقعة: ٣].

أي: أنّها تخفض أهل المعاصي، وترفع أهل الطّاعة، وجناح الإنسان: يده.

قال الليث: يد الإنسان جناحه، قال تعالى: ( ) [القصص: ٣٢].

وخفض الجناح كناية عن اللّين والرّفق والتّواضع، والمقصود: أنه نهاه عن الالتفات إلى الأغنياء من الكفار، وأمره بالتّواضع لفقراء المؤمنين، ونظيره: ( ) [الفتح: ٢٩]53.

وإذا أردت أن تعرف نفسك هل أنت متواضع أو لا؟ فانظر لنفسك حين تخاطب الفقير والمسكين، صاحب الحاجة، فحين تخاطبه متذكرًا فضل الله عز وجل، وتحنّ عليه، وترحمه، فهذا هو التواضع.

فيظهر تواضعك مع من هو دونك من الخلق، وليس مع من هو أعلى منك؛ لأن الذي هو أعلى منك إما أن تتواضع له اختيارًا، وإما أن يجبرك على ذلك؛ لأنك لا تقدر أن تترفع عليه، ولن يقبل منك.

فالتواضع الحقيقي يكون لمن هو أقل منك، وتحمد ربك سبحانه على ما أعطاك من فضله.

وإذا تعارض التواضع للحق مع التواضع للخلق فأيهما يقدّم؟

يقدّم التواضع للحق، فمثلًا: لو كان هناك إنسان يسب الحق، ويفرح بمعاداة من يعمل به، فهنا لا تتواضع له، تواضع للحق، وجادل هذا الرجل حتى وإن أهانك، أو تكلم فيك، فلا تهتم به، فلابد من نصرة الحق54.

قال ابن تيمية: «نهى الله على لسان نبيه عن نوعي الاستطالة للخلق الفخر والبغي؛ لأن الاستطالة إن بحق فافتخار، وإن بغيره فبغي، فلا يحل هذا ولا ذاك، مثل أن يذكر فضل بني هاشم أو قريش أو العرب أو بعضهم، فلا يكن حظه استشعار فضل نفسه، والنظر إلى ذلك، فإنه مخطيء في هذا؛ لأن فضل الجنس لا يستلزم فضل الشخص كما قدمناه، فرب حبشي أفضل عند الله من جمهور قريش»55.

ويتأكد للشيخ التواضع مع طلبته...، وإذا طلب التواضع لمطلق الناس، فكيف لمن له حق الصحبة، وحرمة التودد وصدق المحبة؟! لكن لا يتواضع معهم مع اعتقاد أنهم دونه، وممن يتأكد التواضع لهم: الضعفة والمساكين.

قال الإمام النووي: «وليكن شريف النّفس عفيفًا، متواضعًا للصّالحين، وضعفة المسلمين»56.

والمقصود: أن الله يحب من عباده أن يتواضعوا، ولا يعلو أحد على أحد، متكئًا على نسب، أو مال، أو جاه، أو حسب.

والكتاب والسنة حافلان بما يحث على التواضع للخلق، وخفض الجناح لهم، وما سبق ذكره غيض من فيض، وقليل من كثير مما ورد في ذلك.

مع ملاحظة أن التواضع للخلق لا يعني الذلة للأغنياء من أجل غناهم وأموالهم؛ لأن العلماء قد قسّموا التواضع إلى نوعين هما: محمود، وهو: ترك التطاول على عباد الله، والإزراء بهم، ومذموم، وهو: تواضع المرء لذي الدنيا رغبة في دنياه، فالعاقل يلزم مفارقة التواضع المذموم على الأحوال كلها، ولا يفارق التواضع المحمود على الجهات كلها.

مظاهر التواضع

التواضع وإن كان خلقًا من الأخلاق وعلاقته بالقلب، إلا أن له مظاهر ودلالات ظاهرية تدل عليه في المأكل والملبس وغيرها، ومن هذه المظاهر:

١. قبول الحق والانقياد له.

من مظاهر التواضع قبول الحق ممن جاء به كائنًا من كان، وإن خالف الرأي والهوى، وقد جاء في تعريف التواضع أنه: قبول الحق57.

وقال ابن عطاء: «التواضع: قبول الحق ممن كان»58.

وقد امتدح الله المؤمنين بقوله: ( ﯳﯴ ) [النور: ٥١].

والمعنى: أن من صفات المؤمنين الصادقين أنهم إذا ما دعوا إلى حكم شريعة الله تعالى التي أوحاها إلى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقولوا عندما يدعون لذلك: سمعنا وأطعنا بدون تردد أو تباطؤ، وذلك لكمال إيمانهم، ومعرفتهم للحق، وتواضعهم له، وعدم تكبرهم عنه، () الذين يفعلون ذلك ( ) فلاحًا تامًّا في الدنيا والآخرة.

وهذه هي الصورة المشرقة لإيمان المؤمنين، وما فى قلوبهم من صدق ويقين، إنهم إذا دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم أجابوا بالسّمع والطاعة، ورضوا بما يقضي به الله ورسوله فيهم، سواء أكان ذلك لهم أم عليهم، هكذا الإيمان، وهكذا شأن المؤمنين: ( ﭠﭡ ) [الأحزاب: ٣٦].

إنه السمع والطاعة لما يأمر به الله ورسوله دون تردد أو ارتياب؛ إذ لا إيمان مع تردد فى أمر من أمر الله، أو شك فى حكم من أحكامه59.

إذ لابد من الانقياد للحق في جميع الأمور، ظاهرًا وباطنًا، والتسليم له كليًّا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة، والسمع والطاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، يقول سيد رحمه الله: «فهو السمع والطاعة بلا تردد ولا جدال ولا انحراف، السمع والطاعة المستمدان من الثقة المطلقة في أن حكم الله ورسوله هو الحكم، وما عداه الهوى، النابعان من التسليم المطلق لله، واهب الحياة، المتصرف فيها كيف يشاء، ومن الاطمئنان إلى أن ما يشاؤه الله للناس خير مما يشاءونه لأنفسهم، فالله الذي خلق أعلم بمن خلق»60.

وقال في المقابل عن المنافقين المتكبرين: ( ) [النساء: ٦١].

أي: تعالوا إلى ما أنزل الله فى القرآن لنعمل به ونحكّمه فيما بيننا، وإلى الرسول ليحكم بيننا بما أراه الله، رأيتهم يعرضون عنك ويرغبون عن حكمك إعراضًا متعمدًا منهم بسبب ما فيهم من الضلال والكبر عن اتباع الحق.

وقال تعالى: ( ) [الحج: ٥٤].

والإخبات: هو الخشوع والتواضع والانقياد.

أي: ولكى يعلم أهل العلم بالله أن الذي أنزله الله من آياته التي أحكمها ونسخ ما ألقى الشيطان أنه الحق من ربهم، فيصدّقوا به، وتخضع له قلوبهم، وتذعن للإقرار به نفوسهم، وتعمل بما فيه من عبادات وآداب وأحكام وهى مثلجة الصدر هادئة مطمئنة ببرد اليقين، والسير على نهج سيد المرسلين61.

وكما هو معلوم أن من الأسباب المانعة من قبول الحق هو الكبر وعدم التواضع والخضوع للحق.

قال تعالى: ( ) [الأحقاف: ٢٠].

فمن تكبّر لرياسة نالها دل على دناءة عنصره، ومن تفكر فى تركيب ذاته فعرف مبدأه ومنتهاه وأوسطه عرف نقصه، ورفض كبره، ومن كان تكبّره لغنية فليعلم أن ذلك ظل زائل، وعارية مستردة، وإنما قال: ( ) إشارة إلى أن التكبر ربما يكون محمودًا، وهو التكبر والتبختر بين الصفين62.

ولهذا كان أكثر من يتكبر عن الحق هم المترفون المتكبرون، كما قال سبحانه وتعالى: ( ) [الزخرف: ٢٣].

ومترفوها هم: أهل الرفاهية والمال في الغالب؛ لأنهم أهل الشر وعدم قبول الحق، خلاف الضعفاء والفقراء فإن الغالب عليهم التواضع وقبول الحق، فأهل الترف هم أصحاب الجاه وأصحاب المال ( ) أي: أصحاب المال والجاه فيهم ( ) أي: على ملة ودين، وإنّا متبعون لهم على دينهم، يعني: لسنا بحاجة إليكم أيها الرسل، يزعمون أن هذا يغنيهم عن اتباع الرسل عليهم الصلاة والسلام، فهذا هو التقليد الأعمى، وهو من أمور الجاهلية.

واحتقار المكذّبين للرسل عليهم السلام وأتباعهم، واعتقاد نقصهم، والتهكم بهم، والتكبر عليهم من الموانع الصادة عن وصول الإيمان إلى القلب، واتباع الحق، كما قال قوم نوح عليه السلام: ( ) [الشعراء: ١١١].

وهذا الداء منشؤه من الكبر؛ فإذا تكبّر وتعاظم في نفسه، واحتقر غيره اشمأز من قبول ما جاء به من الحق، وقد سبق في الحديث أن الكبر (بطر الحق)63 وهو ردّه، وعدم قبوله كبرًا، إذا خالف هواه، أو جاءه ممن هو دونه.

ومن هنا قال بعض السلف: التواضع أن تقبل الحق من كل من جاء به، وإن كان صغيرًا، فمن قبل الحق ممن جاء به، سواء أكان صغيرًا أم كبيرًا، وسواء أكان يحبه أم لا يحبه فهو متواضع، ومن أبى قبول الحق تعاظمًا عليه فهو متكبر64.

فالمتواضع يقبل الحق ممن جاء به كائنًا من كان، ولو كان عدوًّا مخالفًا في الدين؛ لأنه يحب الحق، وينشده، ويخضع له.

قال صاحب المنازل: «التواضع: أن يتواضع العبد لصولة الحق».

قال ابن القيم: «يعني: أن يتلقى سلطان الحق بالخضوع له، والذل والانقياد، والدخول تحت رقه، بحيث يكون الحق متصرفًا فيه تصرف المالك في مملوكه، فبهذا يحصل للعبد خلق التواضع»65.

والحاصل: أن من علامات التواضع قبول الحق، والانقياد له، وإن خالف الرأي والهوى.

وقد ذم الله قومًا بقوله: ( ﮘﮙ ﮛﮜ ) [البقرة: ٢٠٦].

وهؤلاء أقوام استولى عليهم التكبّر، وزال عنهم خضوع الإنصاف، فشمخت آنافهم عن قبول الحق، فإذا أمرته بمعروف قال: ألمثلي يقال هذا؟! وأنا كذا وكذا! ثم يتكبر عليك، فيقول: وأنت أولى بأن تؤمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فإن من حالك وقصتك كذا وكذا، ولو ساعده التوفيق، وأدركته الرحمة، وتقلّد المنة بمن هداه إلى رؤية خطئه، ونبّهه على سوء وصفه، لم يطوِ على النصيحة جنبيه66.

٢. اللين مع الخلق.

ومن مظاهر التواضع: اللين مع الخلق، والرفق بهم، والشفقة عليهم، والتواضع لهم، وترك الترفع عليهم، وخفض الجناح لهم، والرأفة والرحمة بهم، وبخاصة العوام والجهلة، ففي اللين والرحمة والشفقة بهم اقتضاءً للحكمة، وتحقيقًا للعدل والإنصاف والتواضع، ومن علامة حب الله تعالى للمؤمن أن يكون ليّن الجانب، متواضعًا لإخوانه المؤمنين، متسربلًا بالعزّة حيال الكافرين والمنافقين.

وقد مدح الله نبيّه يحيى بقوله: ( ) [مريم: ١٤].

أي: لم يكن متكبرًا على الناس، بل كان ليّن الجانب متواضعًا لهم67.

وأمر الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بمثل هذا فى قوله: ( ) [الشعراء: ٢١٥].

ووصفه بقوله: ( ) [آل عمران: ١٥٩].

وهذا الكلام لسيد البشر عليه الصلاة والسلام، فلا شك أن من هو دونه أولى بهذا.

وممن أمر الله بخفض الجناح لهم: الوالدان، فهما أولى الناس بذلك، قال تعالى: ( ) [الإسراء: ٢٤].

وخفض الجناح: كناية عن لين الجانب، ولطف المعاشرة، ورقّة الحديث.

والإنسان فيه جانبان من كل شيء: جانب الخير وجانب الشر، جانب القوة وجانب الضعف، جانب الشدة وجانب اللين، وهكذا، وبين جانبى الإنسان إرادة هي التي تنزع به إلى أي الجانبين، فهو في هذا أشبه بالطائر حين يريد الاتجاه إلى أية جهة يخفض جناحه لها، على حين يفرد الجناح الآخر، فكأنّ الإنسان حين دعي إلى أن يلين لأبويه، وأن يرّق لهما، قد مثّل بطائر أراد أن يأخذ هذا الجانب من جانبيه، وهو جانب الرحمة والعطف، فخفض جناحه ومال إليه68.

وقد كان صلى الله عليه وسلم دائم البشر، سهل الخلق، لطيف المعاملة، ليّن الجانب، ليس بفظّ، ولا غليظ، ولا صخّاب، ولا فحّاش، ولا عيّاب، ولا مدّاح، يتغافل عما لا يشتهيه، ولا يؤيّس منه، ولا يجيب فيه، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يقنط منه قاصده، ولا يذم أحدًا، ولا يعيّره، ولا يطلب عورته، وقد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أبًا، وصاروا عنده في الحق سواء، فأحبوه حبًّا ملك مشاعرهم، فما حكاه التاريخ الصادق عنهم، من أنه ما كان أحد يحب أحدًا مثل ما كان يحب أصحاب محمد محمدًا صلى الله عليه وسلم.

وكان صلى الله عليه وسلم يؤلّف أصحابه ولا ينفّرهم، ويكرم كريم كل قوم، ويوليه عليهم، ويتفقد أصحابه، ويعطي كل جلسائه نصيبه، لا يحسب جليسه أن أحدًا أكرم عليه منه، ينصرف إلى من جالسه أو قاربه لحاجة حتى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة لم يردّه، قد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أبًا.

وقد مدحه الله بقوله: ( ) [التوبة: ١٢٨].

وهذه الآية تبين ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام من الأخلاق العظيمة تجاه أمة دعوته، من كونه يعزّ عليه مشقتهم وهلاكهم، وضررهم وأذاهم في سوء العاقبة من الوقوع في العذاب، ويحرص على هداهم، ويرأف بهم ويرحمهم.

وأخبره سبحانه فقال: ( ) [آل عمران: ١٥٩].

أي: والحال أنهم مجتمعون حوله صلى الله عليه وسلم بفضل الله وبرحمته، فهو الذي جعل في قلبه الشفقة والحنان والرحمة على المؤمنين؛ ليقتدي به المؤمنون، فكل إنسان مؤمن قدوته النبي صلى الله عليه وسلم، فهو مهما أنفق على الناس من مال فلن يجمع قلوبهم، وقد يجمع أبدانهم، لكن القلوب يجمعها الله سبحانه وتعالى بما يجعله في خلق الإنسان من تواضع، ومن لين جانب، ومن حب للغير، فمن يحب الخلق يحبه الخلق، أما من يكره الناس تكرهه الناس؛ ولذلك كان الرجل الجاهلي يقول69:

لا أسأل الناس عما في ضمائرهم

ما في ضميري لهم من ذاك يكفيني

أي: لا أسأل أحدًا هل تحبني، أو لا تحبني؟ ولكن أبحث في قلبي إذا كنت أحب إنسانًا، فإن الله عز وجل يجعل في قلب هذا الإنسان المحبة لي، أما إذا كنت أكرهه فكيف أرجو المحبة منه؟! فعلى ذلك لا تطلب محبة من تكرهه.

فجعل الله عز وجل في قلب النبي صلى الله عليه وسلم المحبة للمؤمنين، فكان يدعو لهم، ويشفق عليهم، ويرحمهم، ويرأف بهم، فيحبونه، ويجتمعون حوله صلوات الله وسلامه عليه. وهكذا ينبغي أن يكون حال المسلم في معاملته مع الناس، وتواضعه معهم.

والمقصود: أن من علامات التواضع أن يكون المسلم لين الجانب للخلق على اختلاف طبقاتهم وطبائعهم، مع الأقارب والأجانب، وأن يكون حسن الصحبة، ذا رفق مع الشريف والضعيف، مع تواضعه للحق والدين؛ لأنه ربما يكون صاحب النار ليّن الجانب للناس، حسن الأخلاق، لكنه جبار بالنسبة للحق، مستكبر عن الحق، فلا ينفعه لينه وعطفه على الناس، بل هو موصوف بالجبروت والكبرياء ولو كان لين الجانب للناس؛ لأنه تجبر واستكبر عن الحق.

فيجب على الإنسان المسلم أن يكون ليّن الجانب لإخوانه، وبخاصة من اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم، فليخفض له جناحه أكثر؛ لأن المتبع للرسول عليه الصلاة والسلام أهل لأن يتواضع له، وأن يكرم، وأن يعزز، قال تعالى: ( ) [الشعراء: ٢١٥].

وقال الله تعالى لرسوله: ( ﭚﭛ ) [الكهف: ٢٨].

فاصبر نفسك: احبسها مع هؤلاء القوم السادة الكرماء الشرفاء، الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي: يعني صباحًا ومساءً، لا رياء ولا سمعة، ولكنهم يريدون وجه الله عز وجل في دعائهم له، وعبادتهم وذكرهم وتسبيحهم له.

وتواضع المؤمن ولينه يجب أن يكون لينًا ليس معه ضعف، فيكون لين الجانب، سهل الأخلاق، مسفر الوجه، طليقه، يتواضع مع الصغير والكبير، ولكن بحيث لا يطمع فيه أهل الظلم، فيغتنم دينه ويخدعه، ويصرفه عن طريق الحق، لابد أن يكون ليّنًا، ولكن لا يكون مع اللين ضعف شديد، وأن يكون حليمًا فلا يعجل، وإذا تكلم عليه أحد لم يغضب، ولم يشتد في كلامه، بل يغلبه الحلم.

وليعلم المسلم: أن لين الجانب المعروف بالتواضع على ثلاثة أقسام:

  1. واجب: كالتواضع لله ولرسوله وللحاكم والعالم والوالد.
  2. حرام: كالتواضع لأهل النار والظلم والكبر؛ لأن التواضع لهؤلاء هو الذل الذي لا عز معه، والخسة التي لا رفعة معها.
  3. مندوب: كالتواضع لعباد الله سوى من ذكر.

    ومفهوم المؤمنين أن الكفار لا يجوز موالاتهم بالمعنى المذكور؛ لقوله تعالى: ( ) [المجادلة: ٢٢].

    وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم مبعوثًا بأعدل الأمور وأكملها، فهو نبي المرحمة، ونبي الملحمة، فكان صلى الله عليه وسلم في مظهر الكمال الجامع بين القوة والعدل والشدة في الله، وبين اللين والرأفة والرحمة، فشريعته أكمل الشرائع، وأمته أكمل الأمم، وأحوالهم ومقاماتهم أكمل الأحوال والمقامات؛ ولذلك تأتي شريعته بالعدل إيجابًا له وفرضًا، وبالفضل ندبًا إليه واستحبابًا، وبالشدة في موضع الشدة، وباللين في موضع اللين، ووضع السيف موضعه، ووضع الندى موضعه.

    بل أمته موصوفون بذلك في مثل قوله تعالى: ( ) [الفتح: ٢٩].

    وقوله: ( ) [المائدة: ٥٤].

    ٣. خفض الجناح للوالدين وللمؤمنين.

    ومن مظاهر التواضع: التواضع للوالدين بطاعتهما بما لا يخالف الشرع، وبالإحسان إليهما وإكرامهما، وبالتواضع لهما، والشفقة عليهما، والتلطف بهما، بأن يقول لهما قولًا حسنًا، وكلامًا طيبًا، مقرونًا بالاحترام والتعظيم، مما يقتضيه حسن الأدب، وغير ذلك مما يجب لهما، عملًا بقوله تعالى: ( ﮞﮟ ) [الإسراء: ٢٣].

    والعبادة: هي التذلل للمعبود والتواضع له، وكذلك الإحسان إلى الوالدين يقتضي التواضع لهما؛ وذلك ينافي الاختيال والعجب والتفاخر؛ ولهذا قرن بينهما.

    ثم زاد الأمر بالإحسان إلى الوالدين تأكيدًا، فصوّر ما ينبغي أن تكون عليه حال الولد من والديه دائمًا، وأخرج معنى الرحمة بهما، والإحسان إليهما، والتواضع لهما في مظهر شيء متخيل محسوس مبالغة في الإلزام به، والدعوة إليه، فقال تعالى: ( ) [الإسراء: ٢٤].

    فصوّر الذلّ المأمور به بطائر خرّ هاويًا إلى الأرض، ثم صوّر مبالغة وضوح الذلّ والتواضع بنشر هذا الطائر -مع ذلك- جناحيه يخفضهما نحو الأرض، بيد أنه استدرك كي لا تحسب أنه ذلّ الحطّة والصغار، وهو ما ينهى عنه الإسلام، ولا يمكن أن يأمر به، فقال: ( ) أي: بسبب وبعامل الرحمة بهما، وهو شرف لك، وليس بصغار عليك، ومع ذلك فلا تقتصر على أن تعاملهما برحمة من عندك، بل ادع الله لهما أيضًا على أن يشملهما برحمة من عنده ( ) أي: رحمة كرحمتهما بي إذ كنت صغيرًا، أو في مقابل رحمتهما بي إذ ذاك70.

    والمقصود أن قوله: ( ) المقصود منه المبالغة في التواضع، أي: ابسط لهما جناح الذّلّ والمسكنة والتواضع، الناشئة من كمال الرّحمة والشفقة عليهما، وقد ورد: (الجنة تحت أقدام الأمهات)71 معناه: أن التواضع للأمهات سبب دخول الجنة.

    والأمر في () أمر للولد بالتواضع للوالدين تواضعًا يبلغ حد الذل لهما؛ لإزالة وحشة نفوسهما إن صارا في حاجة إلى معونة الولد؛ لأن الأبوين يبغيان أن يكونا هما النافعين لولدهما، والقصد من ذلك التخلق بشكره على إنعامهما السابقة عليه.

    قال ابن عاشور: «وصيغ التعبير عن التواضع بتصويره في هيئة تذلل الطائر عند ما يعتريه خوف من طائر أشد منه؛ إذ يخفض جناحه متذللًا، ففي التركيب استعارة مكنية، والجناح تخييل بمنزلة تخييل الأظفار للمنية في قول أبي ذؤيب72:

    وإذا المنية أنشبت أظفارها

    ألفيت كل تميمة لا تنفع

    وهذه أحكام عامة في الوالدين وإن كانا مشركين، ولا يطاعان في معصية ولا كفر، كما في آية سورة العنكبوت، ومقتضى الآية التسوية بين الوالدين في البر وإرضاؤهما معًا في ذلك؛ لأن موردها لفعل يصدر من الولد نحو والديه؛ وذلك قابل للتسوية، ولم تتعرض لما عدا ذلك مما يختلف فيه الأبوان، ويتشاحان في طلب فعل الولد إذا لم يمكن الجمع بين رغبتيهما، بأن يأمره أحد الأبوين بضد ما يأمره به الآخر، ويظهر أن ذلك يجري على أحوال تعارض الأدلة، بأن يسعى إلى العمل بطلبيهما إن استطاع»73.

    وقال الله تعالى عن يحيى: ( ) [مريم: ١٤].

    أي: ولم يكن مستكبرًا عن طاعة ربه وطاعة والديه، ولكنه كان لله ولوالديه متواضعًا متذللًا يأتمر لما أمر به، وينتهي عما نهي عنه، لا يعصي ربه، ولا والديه74.

    فجمع بين القيام بحق الله وحق خلقه؛ ولهذا حصلت له السلامة من الله في جميع أحواله، مبادئها وعواقبها؛ فلذا قال: ( ) [مريم: ١٥].

    وذلك يقتضي سلامته من الشيطان والشر والعقاب في هذه الأحوال الثلاثة وما بينها، وأنه سالم من النار والأهوال ومن أهل دار السلام، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى والده وعلى سائر المرسلين، وجعلنا من أتباعهم، إنه جواد كريم75.

    ٤. بذل السلام.

    ومن مظاهر التواضع: بذل السلام على كل أحد، فالمؤمن المتواضع يفشي السلام، ويبذله لكل أحد، صغيرًا أو كبيرًا، غنيًا أو فقيرًا، عرفه أو لم يعرفه، فإفشاء السلام من أجل القربات، وهو من صفات المؤمنين المتواضعين، ومن أسباب المحبة والألفة، والمحبة من أسباب دخول الجنة، فمن أراد دخول الجنة فعليه أن يفشي السلام، ويسلم على كل من لقي، وفي هذا إزالة للوحشة؛ فإنك إذا لقيت شخصًا ولم تسلّم عليه دخلت الجفوة والوحشة بينك وبينه.

    وقد روي: «رأس التّواضع ثلاثةٌ: الابتداء بالتّسليم على كلّ أحدٍ، والرّضا بالمجلس عن شرف المجلس، وحبّ العبد المساجد، وترك الرّياء والسّمعة في شيءٍ من دينه»76.

    وقد أمر الله في القرآن بإلقاء السلام على أهل البيوت التي يدخلها المسلم، فالسلام هنا للاستئذان والاستئناس والتواضع والبركة، قال تعالى: ( ) [النور: ٦١].

    وجعل الله عز وجل السلام علمًا وشعارًا فيما بين المسلمين، وأمانًا يؤمّن بعضهم بعضًا من شره؛ ألا ترى أن أهل الريبة لا يسلّمون، ولا يردّون السلام، وإن كانوا لا يعرفون تفسيره ولا معناه؟! ولكن على الطبع جعل ذلك لهم77.

    وقوله: () نكرة في سياق الشرط فتعمّ البيوت المسكونة وغير المسكونة، فأطلق القول ليدخل تحت هذا العموم كل بيت كان للغير أو لنفسه، فإذا دخل بيتًا لغيره استأذن، وإذا دخل بيتًا لنفسه سلّم.

    قال السعدي: «( ) نكرة في سياق الشرط، يشمل بيت الإنسان وبيت غيره، سواء كان في البيت ساكن أم لا، فإذا دخلها الإنسان ( ) أي: فليسلّم بعضكم على بعض؛ لأن المسلمين كأنهم شخص واحد من تواددهم وتراحمهم وتعاطفهم، فالسلام مشروع لدخول سائر البيوت من غير فرق بين بيت وبيت»78.

    وقوله: () أصل التحية: الدعاء بالحياة وطولها، ثم استعملت في كل دعاءٍ، وكانت العرب إذا لقي بعضهم بعضًا يقول: حياك الله، ثم استعملها الشرع في السلام، وهي تحية الإسلام، قال تعالى: ( ﭿ) [يونس: ١٠].

    وقال: ( ) [الأحزاب: ٤٤].

    وقال: ( ) [النور: ٦١].

    قالوا: في السلام مزيةٌ على التحية؛ لما أنه دعاءٌ بالسلامة من الآفات الدينية والدنيوية، وهي مستلزمةٌ لطول الحياة، وليس في الدعاء بطول الحياة ذلك؛ ولأن السلام من أسمائه تعالى، فالبداءة بذكره مما لا ريب في فضله ومزّيته، أي: إذا سلّم عليكم من جهة المؤمنين79.

    وقوله: ( ) أي: ثابتة بأمره تعالى، مشروعة من لدنه عز وجل، وكانت ( ) لأنه أمر بها؛ ولأنها يحفّها رضاه وبركته وطيبه، ولا شيء أبرك وأكرم مما جاء من عند الله، واختاره وأحبه وشرعه!

    قال ابن عاشور: «ولكون كلمة (السلام) جامعة لهذا المعنى امتن الله على المسلمين بها بأن جعلها من عند الله؛ إذ هو الذي علّمها رسوله بالوحي»80. وقيل: ذكر القرآن السلام من عند الله تعالى على معنى كونه معاملة منه سبحانه بكرامة الثناء، وحسن الذكر للذين رضي الله عنهم من عباده في الدنيا81.

    فلا يليق بالمسلم أن يدع هذه التحية إلى تحية الجاهلية، أو ما شابهها من ألفاظٍ مستحدثة، كقولهم: احتراماتي، تحياتي، صباح الخير، إلى غير ما هنالك من ألفاظ وعبارات ليس فيها ذلك المعنى اللطيف أو المغزى الدقيق الذي قصد إليه الإسلام، دين الإنسانية الخالد82.

    و ( ) أي: حسنة جميلة، ويقال: ذكر البركة والطيب ها هنا لما فيه من الثواب، ومن أهدى سلامًا إلى إنسان فهي هدية خفيفة المحمل، طيبة الريح، مباركة العاقبة83. فوصف سبحانه هذه التحية بالبركة والطيب لأنها دعوة مؤمن لمؤمن، وكلاهما يرجو بها من الله تعالى زيادة الخير، وطيب الرزق.

    قال السعدي: «ثم مدح هذا السلام فقال: ( ) [النور: ٦١].

    أي: سلامكم بقولكم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أو: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين؛ إذ تدخلون البيوت ( ) أي: قد شرعها لكم، وجعلها تحيتكم () لاشتمالها على السلامة من النقص، وحصول الرحمة والبركة والنماء والزيادة، ()؛ لأنها من الكلم الطيب المحبوب عند الله، الذي فيه طيب نفس للمحيا، ومحبة وجلب مودة»84.

    فالتعبير في قوله: ( ) تعبير لطيف عن قوة الرابطة بين المذكورين في الآية، فالذي يسلّم منهم على قريبه أو صديقه يسلّم على نفسه، والتحية التي يلقيها عليه هي تحية من عند الله، تحمل ذلك الروح، وتفوح بذلك العطر، وتربط بينهم بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، وهكذا ترتبط قلوب المؤمنين بربهم في الصغيرة والكبيرة85.

    ونظير الآية السابقة قوله: (ﯿ ) [النساء: ٨٦].

    (ﯿ ) أي: سلّم عليكم فإن التحية في ديننا بالسلام في الدارين () هي تفعلة من حيّا يحيّي تحية ( ) أي: قولوا: وعليكم السلام ورحمة الله، إذا قال: السلام عليكم، وزيدوا: وبركاته، إذا قال: ورحمة الله، ويقال لكل شيء منتهى، ومنتهى السلام وبركاته ( ) أي: أجيبوها بمثلها، ورد السلام جوابه بمثله؛ لأن المجيب يرد قول المسلّم، وفيه حذف مضاف، أي: ردوا مثلها86.

    وقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه يبدأ من لقيه بالسلام، ويسلّم على الصبيان إذا مر بهم87.

    ٥. ترك التفاخر والبغي.

    ومن علامات التواضع: ترك التفاخر والبغي، فهما صفتان تنافيان التواضع.

    وقد ضرب الله في القرآن مثلًا لرجلين:

    الأول: متكبر فخور بما آتاه الله من فضله.

    والآخر: متواضع خاشع لله.

    فقال عن الأول: ( ﯿ ) [الكهف:٣٤-٣٦].

    إلى آخر الآيات التي ساق فيها مثلًا للنفس الإنسانية المغرورة المتفاخرة بزينة الحياة الدنيا، الجاحدة لنعم الله، وللنفس الإنسانية المتواضعة المعتزة بعقيدتها السليمة، الشاكرة لربها؛ لكي يكون في هذا المثل عبرة وعظة لمن كان له قلب.

    فقال تعالى: ( ﯿ ) أي: فقال صاحب الجنتين لصاحبه المؤمن الشاكر: أنا أكثر منك مالًا، وأعز منك عشيرة وحشمًا وأعوانًا، وهذا شأن المطموسين المغرورين، تزيدهم شهوات الدنيا وزينتها بطرًا وفسادًا في الأرض.

    ثم انتقل صاحب الجنتين من غروره هذا إلى غرور أشد، حكاه القرآن في قوله: ( ) أي: أن هذا المغرور لم يكتف بتطاوله على صاحبه المؤمن، بل سار به نحو جنته حتى دخلها، وهو ظالم لنفسه بسبب كفره وجحوده وغروره، وقوله: ( ) أي: وهو معجب بما أوتي مفتخر به، كافر لنعمة ربه، معرّضٌ بذلك نفسه لسخط الله، وهو أفحش الظلم، وقوله: ( ) أي: قال هذا الكافر لصاحبه: ما أظن أن هذه الجنة تفنى أو تهلك أبدًا.

    والمتدبر لحال صاحب الجنتين يراه أولًا: قد زعم أن مدار التفاضل هو الثروة والعشيرة، ويراه ثانيًا: قد بنى حياته على الغرور والبطر، واعتقاد الخلود لزينة الحياة.

    ثم حكى سبحانه بعد ذلك ما قاله الرجل المؤمن المتواضع لصاحب الجنتين، الذي نطق بأفحش، وأفجر الفجور، فقال تعالى: ( ﭿ ﮋﮌ ﮐﮑ ) أي: قال الرجل الفقير المؤمن في رده على صاحبه الجاحد المغرور، منكرًا عليه كفره، قال له على سبيل المحاورة والمجاوبة: يا هذا ( ) بقدرته ( ) أي: خلق أباك الأول من تراب ( ) أي: خلق أباك آدم من تراب، ثم أوجدك أنت من نطفة عن طريق التناسل والمباشرة بين الذكر والأنثى ( ) أي: ثم صيّرك إنسانًا كاملًا، ذا صورة جميلة، وهيئة حسنة، والاستفهام في قوله: () للإنكار والاستبعاد؛ لأن خلق الله تعالى له من تراب ثم نطفة، ثم تسويته إياه رجلًا، يقتضى منه الإيمان بهذا الخالق العظيم، وإخلاص العبادة له، وشكره على نعمائه، وترك الفخر والتكبر.

    ثم يعلن الرجل الصالح موقفه بشجاعة ووضوح، فيقول لصاحبه صاحب الجنتين: ( ﭿ ) أي: إن كنت أنت يا هذا قد كفرت بالله الذي خلقك من تراب، ثم من نطفة، ثم سوّاك رجلًا، فإني لست بكافر، ولكني أنا مؤمن، أعترف له بالعبادة والطاعة، وأخضع وأتواضع88.

    فمما ينافي التواضع: البغي، وهو العدوان على الناس بالقول وبالفعل ونحو ذلك.

    قال ابن منظور: «وأصل البغي مجاوزة الحدّ»89، قال تعالى: ( ) [يونس: ٢٣].

    أي: إن اسم البغي وعقوبة البغي على الباغي (على أنفسكم الباغية).

    والمقصود أن من مظاهر التواضع ترك هذه الأمور، وهي: (الغرور والعجب والكبر والبغي) فكلها رذائل، والتواضع فضيلة، وقد جعل الله تعالى الدار الآخرة للذين لا يريدون علوًا في الأرض، قال الكلبي ومقاتل: استكبارًا عن الإيمان، وقال عطاء: استطالة على الناس، وتهاونًا بهم، وقال الحسن: لم يطلبوا الشرف والعز عند ذي سلطانهم، وعن علي رضي الله عنه: أنها نزلت في أهل التواضع من الولاة وأهل المقدرة، يعني: من كان من الولاة وأهل القدرة متواضعًا فهو لا يريد علوًّا فى الأرض ولا فسادًا90.

    قال السعدي: «( )[القصص: ٨٣] وهذا شامل لجميع المعاصي، فإذا كانوا لا إرادة لهم في العلو في الأرض والإفساد لزم من ذلك أن تكون إرادتهم مصروفة إلى الله، وقصدهم الدار الآخرة، وحالهم التواضع لعباد الله، والانقياد للحق، والعمل الصالح»91.

    ومدح الله من عباده ( ) [الفرقان: ٦٣].

    أي: وعباد الله المخلصين الربانيين الذين لهم الجزاء الحسن من ربهم هم الذين يمشون في سكينة ووقار من غير تجبّر ولا استكبار، يطؤون الأرض برفق، ويعاملون الناس بلين، لا يريدون علوًّا في الأرض ولا فسادًا، كما قال تعالى حاكيًا وصية لقمان لابنه: ( ﯿﰀ ) [لقمان: ١٨].

    وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى تصنّعًا ورياء، وإنما بعزة وأنفة، هي عزة المؤمن المتواضع لله وحده.

    فلا ينبغي التفاخر بمظاهر الدنيا، فإن كل ما فيها من ثروات وقصور ومبانٍ وآلات هو متاع يستمتع به في أيام قليلة تنقضي وتذهب، وما عند الله من الثواب على الطاعة خير وأدوم للذين صدّقوا بالله ووحّدوه، وتوكلوا على ربهم وفوّضوا إليه أمورهم.

    وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم العباد أن يتواضع بعضهم لبعض، حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد، فقال: (وإن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد)92.

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في اقتضاء الصراط المستقيم في التعليق على هذا الحديث: «فنهى سبحانه عن نوعي الاستطالة على الخلق، وهو الفخر والبغي؛ لأن المستطيل إن استطال بحقٍّ فقد افتخر، وإن كان بغير حقٍّ فقد بغى، فلا يحل لا هذا ولا هذا»93.

    ٦ مشاركة الضعفاء والمساكين.

    ومن مظاهر التواضع: مشاركة الضعفاء والمساكين، والجلوس معهم، وتفقّد أحوالهم، وقد نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن طرد المؤمنين الضعفاء، فقال تعالى: ( ﯺﯻ ﯿ ) [الأنعام: ٥٢].

    يعني: المصلّين، بلالًا وابن أم عبد، كانا يجالسان النبي صلى الله عليه وسلم، قالت قريش محقرتهما: لولاهما وأمثالهما لجالسناه، فنهي عن طردهم94.

    وقد امتثل صلى الله عليه وسلم هذا الأمر أشد امتثال، فكان إذا جالس الفقراء من المؤمنين صبر نفسه معهم، وأحسن معاملتهم، وألان لهم جانبه، وحسّن خلقه، وقرّبهم منه، بل كانوا هم أكثر أهل مجلسه رضي الله عنهم95.

    قال الطبري: «ذكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبب جماعة من ضعفاء المسلمين، قال المشركون له: لو طردت هؤلاء عنك لغشيناك وحضرنا مجلسك!»96.

    وروى مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء عنك لا يجترئون علينا! قال: وكنت أنا، وابن مسعود، ورجل من هذيل، وبلال، ورجلان لست أسميهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل الله عز وجل: ( ﯺﯻ)

    وهذه وصية له صلى الله عليه وسلم فى باب الفقراء والمستضعفين؛ وذلك لما قصروا لسان المعارضة عن استدفاع ما كانوا بصدده من أمر إخلاء الرسول صلوات الله عليه وسلامه مجلسه منهم، وسكنوا متضرعين بقلوبهم بين يدي الله، أراد أن يبيّن له أثر حسن الابتهال، فتولّى سبحانه خصيمتهم، وقال: ( ﯺﯻ) لا تنظر يا محمد إلى خرقتهم على ظاهرهم، وانظر إلى حرقتهم فى سرائرهم، ويقال: كانوا مستورين بحالتهم، فشهرهم بأن أظهر قصتهم، ولولا أنه سبحانه قال: ( ﯺﯻ) فشهد لهم بالإرادة وإلا فمن يتجاسر أن يقول: إن شخصًا مخلوقًا يريد الحق سبحانه؟!97.

    وجاء هذا النهي إلى النبي الكريم ليقرع أسماع المشركين، وليريهم أن محمدًا لن يتخلى أبدًا عن هؤلاء الفقراء الذين تزدري أعينهم، وأنه إذا كان ألف صحبة هؤلاء الفقراء، وأنس بهم قبل أن يتلقى أمر ربه بشأنهم، فإنه الآن وقد جاءه من ربه هذا النهي الذي يلبس صورة الأمر بالحفاظ على تلك الجماعة الفقيرة المؤمنة، وملء يده منها، وإعطائها وجهه كله، إنه لن يتخلّى أبدًا عن تلك الجماعة، ولو وقعت السماء على الأرض، إنه لن يعصي أمر ربه، ولن يخرج عنه بحال أبدًا، هذا ما تعرفه قريش فيما عرفت من محمد، وأخذه بكل كلمة جاءته من ربه، أو يقول إنها جاءته من ربه، كما تزعم قريش، إذن فهذا النهي هو كبتٌ لقريش ولزعمائها خاصة، واستخفاف بهم، وأنهم أقلّ شأنًا، وأخفّ ميزانًا عند الله الذي يدعوهم محمد إليه، وأن حساب الناس فى هذا الدين الذي يدعو إليه ليس بجاههم وسلطانهم وأنسابهم وأحسابهم، وإنما هو مائدة ممدودة من الله لعباد الله، فمن أخذ مكانه منها لم يكن لأحد أن يزحزحه عنه98.

    ومن كمال تواضعه صلى الله عليه وسلم مع الضعفة والمساكين: أن الأمة من إماء أهل المدينة كانت تأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنطلق به إلى حيث شاءت99. وفي رواية الإمام أحمد: «إن كانت الأمة من أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنطلق به في حاجتها»100. وفي رواية أخرى له: «إن كانت الوليدة من ولائد أهل المدينة لتجيء فتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت»101.

    ٧ الاعتدال في اللباس.

    ومن مظاهر التواضع: عدم المباهاة باللباس، ولبس المتوسط منه، وقد ذكر الله تعالى في القرآن الحكمة من اللباس، فهو من أجل أن يقي من الحر والبرد، ويستر العورة، لا للفخر والمباهاة ( ) [النحل: ٨١].

    قال قتادة: من القطن والكتان والصوف، وقد قال في أول السورة: ( ) [النحل: ٥] من البرد102.

    وقال تعالى: ( ﭼﭽ ﭿ ) [الأعراف: ٢٦].

    فقد امتن الله على الخلق بأن جعل لهم لباسًا وريشًا، والرياش: جمع ريش: وهو اللباس، قال الفراء: ريش ورياش كما يقال: لبس ولباس، وريش الطائر ما ستره الله به، وقيل المراد بالريش هنا: الخصب ورفاهية العيش، قال القرطبي: والذي عليه أكثر أهل اللغة أن الريش ما ستر من لباس أو معيشة، وحكى أبو حاتم عن أبي عبيدة: وهبت له دابة وريشها، أي: وما عليها من اللباس، وقيل المراد بالريش هنا: لباس الزينة؛ لذكره بعد قوله: ( ) وعطفه عليه103.

    ولما كان هذا هو المقصود من اللباس، وهو الوقاية والستر، عقب بعده بقوله: ( ﭿ ) أي: ولباس التقوى ذلك الذي قد علمتموه، خير لكم يا بني آدم، من لباس الثياب التي تواري سوءاتكم، ومن الرياش التي أنزلناها إليكم، هكذا فالبسوه104.

    والحاصل: أن من علامات التواضع التوسط في اللباس، وعدم المبالغة فيه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (البذاذة من الإيمان)105.

    والبذاذة: رثاثة الهيئة، يقال: بذّ الهيئة، وباذّ الهيئة، أي: رثّ اللبسة، والمراد: التواضع في اللباس، وترك التبجّح به106.

    وقوله: (من الإيمان) أي: من كمال أهله، والمراد من الحديث: أن التواضع في اللباس، والتوقي عن الفائق في الزينة من أخلاق أهل الإيمان، والإيمان هو الباعث عليه107.

    ولا يمنع هذا من التجمل، فخير الهدي -في قضية اللباس- هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن هديه في اللباس أجمل الهدي وأحسنه، فقد كان صلى الله عليه وسلم متواضعًا في لباسه، ومع ذلك كان يتجمل للوفود، وفي يوم الجمعة، ويحث أمته على إظهار نعمة الله عليهم، فقد قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الرجل يحبّ أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله جميل، يحبّ الجمال)108.

    فكان صلى الله عليه وسلم يلبس ما وجد، فتارة يلبس لباس الأغنياء من حلل اليمن، وثياب الشام ونحوها، وتارة يلبس لباس المساكين، فيلبس جبّة من صوف أحيانًا، وأحيانًا يتّزر بعباءة ويهيئ إبل الصدقة، يعني: أنه يطلبها بيده ويصلحها، كما يفعل أرباب الإبل بها109.

    والمقصود: أن ترك اللباس الفاخر والثياب الغالية -وإن كانت حلالًا- تواضعًا لله ليس بخلًا على النفس ولا شهرة؛ علامة على التواضع، فالتوجيه الشرعي في أمر اللباس أنه يستحب للناس أن يتوسطوا ويعتدلوا فيه، من غير إسراف ولا مخيلة، ومن غير رداءة ولا رثاثة، فالاعتدال مندوب في جميع الأمور، ومنها اللباس الذي يقي الإنسان من الحر أو البرد، ويتزين به للناس.

نماذج قرآنية في التواضع

  1. التواضع للحق وللخلق من صفات الأنبياء والمرسلين، الذين عرفوا الحق فاتبعوه، والباطل فاجتنبوه، ففازوا بسعادة الدنيا والآخرة، وهو كذلك من صفات أتباعهم الصالحين، كما سيأتي بيانه في الآتي:

    أولًا: تواضع الأنبياء والرسل:

    ١. تواضع النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

    أشار القرآن في غير موضع إلى تواضعه صلى الله عليه وسلم فقال له: ( ﭞﭟ ) [آل عمران: ١٥٩].

    والمعنى: من رحمة الله عليك أن عاملت أصحابك باللين والرفق، وهذا شيء خصّك الله به، فقد حباك بآداب القرآن العالية، وحكمه السامية، فهانت عليك المصائب، هذا مع أنّ كثيرًا من أصحابك قد استحقوا اللوم والتعنيف؛ إذ تركوك وقت اشتداد الهول فيما الحرب قائمة على أشدها.

    وتنوين () للتعظيم. أي: فبرحمةٍ عظيمة لهم كائنةٍ من الله تعالى، وهي ربطه على جأشه، وتخصيصه بمكارم الأخلاق، كنت ليّن الجانب لهم، وعاملتهم بالرفق، والتلطّف بهم...، ولو ( ) جافيًا في المعاشرة قولًا وفعلًا، والفظّ: هو الكريه الخلق، أو هو الغليظ الجانب، السيئ الخلق ( ) قاسيه ( ) لتفرّقوا من عندك، ولم يسكنوا إليك، وتردّوا في مهاوي الردى110.

    والفظاظة والشراسة والخشونة في المعاشرة، والقسوة والغلظة والتكبر من الأخلاق المنفّرة للناس، لا يصبرون على معاشرة صاحبهما وإن كثرت فضائله، ورجيت فواضله، بل يتفرّقون ويذهبون من حوله، ويتركونه وشأنه، لا يبالون ما يفوتهم من منافع الإقبال عليه، والتحلق حواليه ( ) وإذًا لفاتهم هدايتك، ولم يبلغ قلوبهم دعوتك.

    وتقديم المجرور ( ) مفيد للحصر الإضافي، أي: برحمة من الله لا بغير ذلك من أحوالهم، وهذا القصر مفيد التعريض بأن أحوالهم كانت مستوجبة الغلظ عليهم، ولكن الله ألان خلق رسوله؛ رحمة بهم، لحكمة علمها الله في سياسة هذه الأمة111.

    ودل الفعل الماضي في قوله: () على أن ذلك وصف تقرر وعرف من خلقه، وأن فطرته على ذلك برحمة من الله؛ إذ خلقه كذلك، والله أعلم حيث يجعل رسالته، فخلق الرسول مناسب لتحقيق حصول مراد الله تعالى من إرساله؛ لأن الرسول يجيء بشريعة يبلغها عن الله تعالى، فالتبليغ متعين لا مصانعة فيه، ولا يتأثر بخلق الرسول، وهو أيضًا مأمور بسياسة أمته بتلك الشريعة، وتنفيذها فيهم، وهذا عمل له ارتباط قوي بمناسبة خلق الرسول لطباع أمته؛ حتى يلائم خلقه الوسائل المتوسل بها لحمل أمته على الشريعة الناجحة في البلوغ بهم إلى مراد الله تعالى منهم112.

    وهذه الآية: ( ) دلالة على اختصاص نبينا بمكارم الأخلاق، ومن عجيب أمره صلى الله عليه وسلم أنه كان أجمع الناس لدواعي العظمة، ثم كان -مع ذلك- أدناهم إلى التواضع، فكان أشرف الناس نسبًا، وأوفرهم حسبًا، وأزكاهم عملًا، وأسخاهم كرمًا، وأفصحهم بيانًا، وكلها من دواعي العظمة، ثم كان من تواضعه عليه السلام أنه كان يرقع الثوب، ويخصف النعل، ويركب الحمار، ويجلس على الأرض، ويجيب دعوة العبد المملوك، فصلوات الله وسلامه على السراج المنير بحر المكارم والفضائل113.

    ويبيّن السعدي رحمه الله ما للأخلاق الحسنة في الرئيس من أثر على عامة الناس، فيقول: «والأخلاق الحسنة من الرئيس في الدين تجذب الناس إلى دين الله، وترغّبهم فيه، مع ما لصاحبه من المدح والثواب الخاص، والأخلاق السيئة من الرئيس في الدين تنفّر الناس عن الدين، وتبغّضهم إليه، مع ما لصاحبها من الذم والعقاب الخاص، فهذا الرسول المعصوم يقول الله له ما يقول، فكيف بغيره؟! أليس من أوجب الواجبات، وأهم المهمات، الاقتداء بأخلاقه الكريمة، ومعاملة الناس بما يعاملهم به صلى الله عليه وسلم من اللين وحسن الخلق والتأليف؛ امتثالًا لأمر الله، وجذبًا لعباد الله لدين الله»114.

    والمقصود: أن هذه الآية وما أشبهها من الآيات الدالات على اتصافه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق، ومن جملة هذه الأخلاق التواضع، ولين الجانب لأصحابه، فهو سيد المتواضعين صلى الله عليه وسلم، فليس هناك خلق تجلّى في سيرة سيد المتواضعين، وسيد الخلق أجمعين -صلوات الله وسلامه عليه- كما تجلّى خلق التواضع، وإنك لتجد هذا الخلق سجيّة في شخصه الكريم، في سائر أحواله، في بيته، وبين أصحابه، في سفره وإقامته، في لباسه ومركبه، ومأكله ومشربه، ويقظته ومنامه، وفي سائر حياته، يسلّم على الغلمان ويداعبهم، ويذهب مع الفقير والجارية وسائر أصحاب الحاجات ليقضي لهم حاجاتهم، وكان يخيط ثوبه، ويخصف نعله، وكان لا يشرب حتى يفرغ أصحابه فيشرب فضلتهم، وكان ينام على الحصير فيؤثر في جنبه.

    فتواضعه ظاهر في كل أخلاقه، ركب الحمار، وأردف عليه، والعرب في كبرياء نفوسهم لا يرون ذلك لذوي الزعامة والشأن منهم، أجاب دعوة الداعي الذي دعاه إلى إهالة سنخة وخبز من شعير فأجاب، يغشى الأنصار في بيوتهم فيسلم على صبيانهم، ويمسح رؤوسهم، -صلوات الله وسلامه عليه-، توقظه الأمة حتى يقضي حاجتها، كلّمه رجل يوم فتح مكة فلما كلّمه أصاب ذلك الرجل رعدة احترامًا وتقديرًا لرسول الله، فقال: (هوّن عليك! إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد)115.

    سئلت عائشة رضي الله عنها: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت: (كان يكون في مهنة أهله -تعني خدمة أهله- فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة)116

    وقالت: (كان يخصف نعله، ويرقّع ثوبه)117.

    والمقصود: أن التواضع خلقه وصفته في حضره وسفره، والتواضع خلقه مع أصحابه ومع أعدائه، والتواضع خلقه مع الأغنياء والفقراء، مع الصغار والكبار، رقيق القلب، رءوفًا بأمته، حريصًا عليهم، ساعٍ في تأليفهم، فأحبّوه المحبة الصادقة فوق محبة المال والأهل والولد، يقول له أحد أصحابه: يا رسول الله! إني أحبك، فكلما ذكرتك لم تقر عيني حتى أنظر إليك، ولكنني أفكر بعد موتي وعلو منزلتك ماذا سأفعل؟ فأنزل الله: ( ﭿ ﮇﮈ ) [النساء: ٦٩]118.

    ٢. تواضع إبراهيم عليه السلام.

    من تواضعه عليه السلام: أنه خدم أضيافه بنفسه، قال تعالى: ( ) [الذاريات: ٢٦-٢٧].

    قوله: ( ) الروغان: هو الذهاب في اختفاء بحيث يكاد لا يشعر به، وهذا من كرم رب المنزل المضيّف، أن يذهب في اختفاء بحيث لا يشعر به الضيف، فيشق عليه ويستحي، فلا يشعر به إلا وقد جاءه بالطعام، بخلاف من يسمع ضيفه وهو يقول له أو لمن حضر: مكانكم حتى آتيكم بالطعام، ونحو ذلك مما يوجب حياء الضيف واحتشامه119.

    والمقصود أنه ذبحه، فشواه في الرضف، وأتاهم به، قال تعالى: ( ) يدل على خدمته للضيف بنفسه، ولم يقل: فأمر لهم، بل هو الذي ذهب وجاء به بنفسه، ولم يبعثه مع خادمه، وهذا أبلغ في إكرام الضيف120.

    وقوله: ( ) أخذ العلماء فقهًا آخر من فقه الضيافة، ألا وهو أن صاحب البيت نفسه يستحب له أن يباشر خدمة الأضياف بنفسه، ولا يجعل الخدم فقط هم الذين يتولون تقديم الطعام، فإن مباشرة صاحب البيت تقديم الطعام بنفسه للأضياف تفهمهم مدى حفاوته واهتمامه بهم، وإن كان المؤدى واحد، لكن حسن الاستقبال مع القيام على الخدمة كل ذلك يشعر الأضياف باهتمام صاحب البيت بهم، وهذا ينعكس بمودة ومحبة في قلب الضيف؛ لأن المضيف جمع له بين الحسنيين: حسن الضيافة، وحسن البشاشة والاستقبال.

    ومن أوجه تسميتهم مكرمين، قيل: لأن إبراهيم عليه السلام أكرمهم بتعجيل قراهم، والقيام بنفسه عليهم، وطلاقة الوجه، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: خدمته بنفسه إياهم121.

    والمقصود أن من تواضعه عليه السلام أنه ذهب إلى أهله، وأحضر العجل، وذبحه بنفسه، وقرّبه إليهم، مع الإمكان أن يقوم غيره بهذه المهمة.

    ٣. تواضع موسى عليه السلام.

    وهذا موسى كليم الرحمن، أحد أولي العزم من الرسل، يذكر الله عنه قصته مع الخضر العبد الصالح، التي تعلّمنا كيف يتعلم الأكبر والأعلم من الأصغر، والأقل منه رتبة، فإن موسى عليه السلام كليم الله، مع كثرة علمه وعمله أمره الله أن يصحب العبد الصالح وهو الخضر، في رحلة استطلاعية، وجولة ميدانية، تدل على أن التواضع خير من العجب والكبر، قال تعالى: ( ) [الكهف: ٦٦].

    فموسى وهو نبيٌّ عظيم، ورسول كريم عزم على الذهاب إلى الخضر، والتفتيش عنه، ولو أنّه يمضي حقبًا من الزمان، قيل: ثمانين سنة، ثمّ لما اجتمع به، تواضع له، وعظّمه، واتبعه في صورة مستفيد منه.

    قال الزجاج: وفيما فعل موسى عليه السلام، وهو من جلة الأنبياء من طلب العلم، والرحلة في ذلك، ما يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يترك طلب العلم، وإن كان قد بلغ نهايته، وأن يتواضع لمن هو أعلم منه122.

    قال الرازي: «اعلم أن هذه الآيات تدل على أن موسى عليه السلام راعى أنواعًا كثيرة من الأدب واللطف عندما أراد أن يتعلم من الخضر.

    فأحدها: أنه جعل نفسه تبعًا له؛ لأنه قال: ( )

    وثانيها: أن استأذن في إثبات هذا التبعية، فإنه قال: هل تأذن لي أن أجعل نفسي تبعًا لك، وهذا مبالغة عظيمة في التواضع.

    وثالثها: أنه قال: ( ) وهذا إقرار له على نفسه بالجهل، وعلى أستاذه بالعلم.

    ورابعها: أنه قال: ( ) وصيغة (من) للتبعيض، فطلب منه تعليم بعض ما علمه الله، وهذا أيضًا مشعر بالتواضع؛ كأنه يقول له: لا أطلب منك أن تجعلني مساويًا في العلم لك، بل أطلب منك أن تعطيني جزًءا من أجزاء علمك، كما يطلب الفقير من الغني أن يدفع إليه جزءًا من أجزاء ماله.

    وخامسها: أن قوله: ( ) اعتراف بأن الله علمه ذلك العلم.

    وسادسها: أن قوله: () طلب منه للإرشاد والهداية، والإرشاد هو الأمر الذي لو لم يحصل لحصلت الغواية والضلال.

    وسابعها: أن قوله: ( ) معناه: أنه طلب منه أن يعامله بمثل ما عامله الله به، وفيه إشعار بأنه يكون إنعامك علي عند هذا التعليم شبيهًا بإنعام الله تعالى عليك في هذا التعليم.

    وثامنها: أن المتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير لأجل كونه فعلًا لذلك الغير، فإنا إذا قلنا: لا إله إلا الله، فاليهود الذين كانوا قبلنا كانوا يذكرون هذه الكلمة، فلا يجب كوننا متبعين لهم في ذكر هذه الكلمة، لأنا لا نقول هذه الكلمة لأجل أنهم قالوها، بل إنما نقولها لقيام الدليل على أنه يجب ذكرها، أما إذا أتينا بهذه الصلوات الخمس على موافقة فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما أتينا بها لأجل أنه عليه السلام أتى بها؛ لا جرم كنا متابعين في فعل هذه الصلوات لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا ثبت هذا فنقول قوله: ( ) يدل على أنه يأتي بمثل أفعال ذلك الأستاذ لمجرد كون ذلك الأستاذ آتيًا بها، وهذا يدل على أن المتعلم يجب عليه في أول الأمر التسليم، وترك المنازعة والاعتراض.

    وتاسعها: أن قوله: () يدل على طلب متابعته مطلقًا في جميع الأمور، غير مقيد بشيء دون شيء.

    وعاشرها: أنه ثبت بالأخبار أن الخضر عرف أولًا أنه نبي بني إسرائيل، وأنه هو موسى صاحب التوراة، وهو الرجل الذي كلّمه الله عز وجل من غير واسطة، وخصّه بالمعجزات القاهرة الباهرة، ثم إنه عليه السلام مع هذه المناصب الرفيعة، والدرجات العالية الشريفة أتى بهذه الأنواع الكثيرة من التواضع؛ وذلك يدل على كونه عليه السلام آتيًا في طلب العلم بأعظم أنواع المبالغة، وهذا هو اللائق به؛ لأن كل من كانت إحاطته بالعلوم أكثر كان علمه بما فيها من البهجة والسعادة أكثر، فكان طلبه لها أشد، وكان تعظيمه لأرباب العلم أكمل وأشد.

    والحادي عشر: أنه قال: ( ) فأثبت كونه تبعًا له أولًا، ثم طلب ثانيًا أن يعلّمه، وهذا منه ابتداء بالخدمة، ثم في المرتبة الثانية طلب منه التعليم.

    والثاني عشر: أنه قال: ( ) فلم يطلب على تلك المتابعة على التعليم شيئًا، كأنه قال: لا أطلب منك على هذه المتابعة المال والجاه، ولا غرض لي إلا طلب العلم»123.

    والمقصود: أنه راعى في ذلك غاية التواضع والأدب، فاستجهل نفسه، واستأذن أن يكون تابعًا له، وسأل منه أن يرشده وينعم عليه بتعليم بعض ما أنعم الله عليه، وهكذا ينبغي أن يكون سؤال المتعلم من العالم.

    وأيضًا مما يدل على تواضعه عليه السلام أنه سقى للفتاتين اللتين أرادتا السقيا فعجزتا، قال جل وعلا: ( ﭫﭬ ﭯﭰ ﭶﭷ ) [القصص: ٢٣-٢٤].

    فسقى لهما، وأعانهما على سقيهما، فارتاحتا من انتظار من هو أقوى منهن.

    ثم هو عليه السلام لما خطب من صاحب مدين ابنته جعل مهر ابنته أن يرعى غنم مدين ثماني أو عشر سنين، كل ذلك من التواضع الذي يتخلق به عليه السلام.

    ٤. تواضع عيسى عليه السلام.

    وهذا نبي الله عيسى عليه السلام يقول الله عنه: ( ﮋﮌ) [مريم: ٣٠].

    فتواضع لله بأنه عبد لله، والعبد خاضع لمالكه وسيده.

    وفي آية أخرى قال الله تعالى: ( ) [النساء: ١٧٢].

    وعدل عن طريق الإضافة في قوله: ( ) فأظهر الحرف الذي تقدّر الإضافة عليه؛ لأن التنكير هنا أظهر في العبودية، أي: عبدًا من جملة العبيد، ولو قال: «عبد الله» لأوهمت الإضافة أنه العبد الخصيص، أو أن ذلك علم له، وأما ما حكى الله عنه في الآية السابقة: ( ﮋﮌ) [مريم: ٣٠فلأنه لم يكن في مقام خطاب من ادعوا له الإلهية124.

    وقال الله تعالى عنه أنه قال: ( ) [مريم: ٣٢].

    أي: ولم يجعلني متعظّمًا عاصيًا مستكبرًا عن عبادة ربي، وطاعته وبر والدتي، فأشقى بذلك.

    والجبار: المتعظّم، وهي صفة مقرونة بالشقاء؛ لأنّها مناقضة لجميع الناس، فلا يلقى صاحبها من كل أحد إلا مكروهًا، وكان عيسى عليه السلام في غاية التّواضع، يأكل الشجر، ويلبس الشّعر، ويجلس على الأرض، ويأوي حيث جنّه الليل، لا مسكن له، قال قتادة: وكان يقول: سلوني فإني ليّن القلب، صغيرٌ في نفسي125.

    وقوله: () أي: في دنياي أو أخراي، فلم يجعلني كذلك، بل جعلني مطيعًا له خاضعًا خاشعًا متذللًا متواضعًا لعباد الله، سعيدًا في الدنيا والآخرة، أنا ومن اتبعني.

    فلما تم له الكمال ومحامد الخصال قال: ( ) [مريم: ٣٣].

    أي: من فضل ربي وكرمه حصلت لي السلامة يوم ولادتي، ويوم موتي، ويوم بعثي، من الشر والشيطان والعقوبة؛ وذلك يقتضي سلامته من الأهوال ودار الفجار، وأنه من أهل دار السلام، فهذه معجزة عظيمة، وبرهان باهر على أنه رسول الله، وعبد الله حقًا126.

    ٥. تواضع داود عليه السلام.

    ومن الأنبياء الذي عملوا بأعمال البشر داود عليه السلام، فقد كان حدّادًا يصنع الدروع، وفي نفس الوقت كان ملكًا، وكان يأكل مما تصنعه يداه، وهذا من كرم أخلاقه، وعظيم تواضعه.

    قال الله تعالى عنه: ( ﯟﯠ ) [الأنبياء: ٨٠].

    يقول تعالى ذكره: وعلّمنا داود صنعة لبوس لكم، واللبوس عند العرب: السلاح كله، درعًا كان أو جوشنًا أو سيفًا أو رمحًا، يدلّ على ذلك قول الهذليّ127:

    ومعي لبوسٌ للّبيس كأنّه

    روقٌ بجبهة ذي نعاجٍ مجفل

    وإنما يصف بذلك رمحًا.

    وأما في هذا الموضع فإن أهل التأويل قالوا: عني الدروع128.

    قال قتادة: أول من صنع الدروع داود عليه السلام، وإنما كانت صفائح، فهو أول من سردها وحلقها129.

    وبيّن الله تعالى العلة من هذا التعليم، فقال: () أي: لتحرزكم وتمنعكم ( ) أي: من حرب عدوكم130.

    وهذا دليل على جواز اتخاذ الصنائع والأسباب، فالسبب سنة الله في خلقه، وهي شهادة للعمال وأهل الحرف والصنائع بأن العمل شرف، واتخاذ الحرفة كرامة، وهذه الآية: فيها إشارة لحث أهل الإيمان على العمل والإبداع، والأخذ بأسباب النصر على الأعداء، ومحاربة الفساد بإعداد الجيوش مقودة بقيم الإيمان، وتعاليم الرحمن، وشريعة الديان131.

    ونتعلم من هؤلاء الأنبياء عدم الاعتماد على أحد إلا على الله سبحانه وتعالى، في مطعمنا ومشربنا وملبسنا، فهو الذي يرزقنا، وقد كانوا عليهم السلام أصحاب حرف وصناعات...، يأكلون ويشربون من هذه الحرف، ومما عملت أيديهم...، وما من أحد إلا ويعلّمه الله عز وجل شيئًا يصلح له، ويكون فيه معاشه ورزقه، فمن الناس من لا يستفيد مما علّمه الله سبحانه، فيترك العمل ويسأل الناس، ويستسهل أن يأخذ رزقه من الحرام، وما من مخلوق إلا وقد قسم له الله عز وجل رزقه، ولابد أن يأتيه هذا الرزق، فعلى الإنسان المؤمن أن يبحث عن وظيفته بالطرق الحلال، ولا يقول: قد ضيّق الله عز وجل عليّ، ثم يتوجّه إلى الحرام؛ فإن رزقك مقسوم، وكسبك معلوم، ولن يزداد شيئًا على ما قسمه الله عز وجل، فابحث عن الحلال تجد الحلال، ويرزقك الله سبحانه وتعالى، وائتس بهؤلاء الأنبياء الذين كانوا لا تلهيهم صنعتهم ولا كسبهم الرزق عن الدعوة إلى الله عز وجل، ولا تشغلهم عن المرتبة العظيمة التي هم فيها، وهي مرتبة النبوة.

    ثانيًا: تواضع الصالحين:

    لقد حكى القرآن بعض النماذج من تواضع الصالحين، منها:

    ١. لقمان.

    قال الله تعالى: ( ) [لقمان: ١٢].

    فأخبر تعالى عن امتنانه على عبده الفاضل لقمان بالحكمة، وهي العلم بالحق على وجهه وحكمته، وهي أيضًا العلم بالأحكام ومعرفة ما فيها من الأسرار والإحكام، فقد يكون الإنسان عالمًا ولا يكون حكيمًا، وأما الحكمة فهي مستلزمة للعلم والعمل؛ ولهذا فسّرت الحكمة بالعلم النافع والعمل الصالح...، وهذه الوصايا التي وصى بها لقمان لابنه تجمع أمهات الحكم، وتستلزم ما لم يذكر منها، وكل وصية يقرن بها ما يدعو إلى فعلها إن كانت أمرًا، وإلى تركها إن كانت نهيًا، وهذا يدل على ما ذكرنا في تفسير الحكمة أنها العلم بالأحكام وحكمها ومناسباتها132.

    فمن حكمته وتواضعه: أنه أوصى ابنه بعدة وصايا.

    منها: أنه قال له: ( ﯿﰀ ﰎﰏ ) [لقمان: ١٨-١٩].

    أي: ولا تمش فى الأرض مختالًا متبخترًا؛ لأن تلك مشية الجبارين المتكبرين الذين يبغون فى الأرض، ويظلمون الناس، بل امش هونًا؛ فإن ذلك يفضي إلى التواضع.

    وهذه كلمة جامعة من الحكمة والتقوى؛ إذ جمع لابنه الإرشاد إلى فعله الخير، وبثّه في الناس، وكفّه عن الشر، وزجره الناس عن ارتكابه.

    وهي وصايا نافعة قد حكاها الله تعالى عن لقمان الحكيم ليمتثلها الناس، ويقتدوا بها، بعد أن امتثلها هو فكان حكيمًا متواضعًا لله ولخلقه.

    فبعد أن أمر ابنه بأصل الدين وهو التوحيد، ونهاه عن الشرك...، نهاه عن التكبر، وأمره بالتواضع، ونهاه عن البطر والأشر والمرح، وأمره بالسكون في الحركات والأصوات، ونهاه عن ضد ذلك.

    وفي قوله: ( ﯿﰀ) [لقمان: ١٨].

    قالوا في معناها: لا تمل خدك للناس كبرًا عليهم، وإعجابًا بنفسك، واحتقارًا للخلق...، وقيل في معناها أيضًا: ( ) أي: أن تولي شدقك إذا ذكر الرجل عندك كأنك تحتقره، فكل إنسان له قدر عند نفسه، وله قدر عند خالقه سبحانه وتعالى، والله أعلم بهذا الإنسان، فلا تحتقر أحدًا من الخلق، ولكن ادع إلى الله سبحانه وتعالى، وظنّ الخير في غيرك؛ لعل هذا الذي تنظر إليه بازدراء واحتقار يكون أفضل منك في يوم من الأيام.

    فعامل الناس بالصورة التي تحب أن يعاملوك بها، وانظر للذي تأمره وتنهاه وضع نفسك مكانه، إذا كنت أنت مكانه في هذه المعصية وهو يأمرك، فإنك تحب أن يأمرك باللين، فكن ليّنًا أنت معه، وأمره بالطريقة التي تحب أن يأمرك هو بها في يوم من الأيام، وعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به.

    يقول الإمام القرطبي رحمه الله: «فالمعنى: أقبل عليهم -أي: الناس- متواضعًا مؤنسًا مستأنسًا، وإذا حدّثك أصغرهم فاصغ إليه حتى يكمل حديثه، وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل»133.

    قال سيد قطب: «ويستطرد لقمان في وصيته التي يحكيها القرآن هنا إلى أدب الداعية إلى الله، فالدعوة إلى الخير لا تجيز التعالي على الناس، والتطاول عليهم باسم قيادتهم إلى الخير، ومن باب أولى يكون التعالي والتطاول بغير دعوة إلى الخير أقبح وأرذل.

    ( ) والصعر: داء يصيب الإبل فيلوي أعناقها، والأسلوب القرآني يختار هذا التعبير للتنفير من الحركة المشابهة للصّعر، حركة الكبر والازورار، وإمالة الخد للناس في تعالٍ واستكبار! والمشي في الأرض مرحًا هو المشي في تخايل ونفخة، وقلة مبالاة بالناس، وهي حركة كريهة يمقتها الله، ويمقتها الخلق، وهي تعبير عن شعور مريض بالذات، يتنفس في مشية الخيلاء!

    ومع النهي عن مشية المرح بيان للمشية المعتدلة القاصدة ( ) والقصد هنا من الاقتصاد، وعدم الإسراف، وعدم إضاعة الطاقة في التبختر والتثني والاختيال ومن القصد كذلك؛ لأن المشية القاصدة إلى هدف لا تتلكأ ولا تتخايل ولا تتبختر، إنما تمضي لقصدها في بساطة وانطلاق.

    والغض من الصوت فيه أدب وثقة بالنفس واطمئنان إلى صدق الحديث وقوته، وما يزعق أو يغلظ في الخطاب إلا سيء الأدب، أو شاكٌّ في قيمة قوله، أو قيمة شخصه، يحاول إخفاء هذا الشك بالحدة والغلظة والزعاق!

    والأسلوب القرآني يرذل هذا الفعل ويقبّحه في صورة منفّرة محتقرة بشعة حين يعقب عليه بقوله: ( ) فيرتسم مشهد مضحك يدعو إلى الهزء والسخرية مع النفور والبشاعة، ولا يكاد ذو حس يتصور هذا المشهد المضحك من وراء التعبير المبدع، ثم يحاول شيئًا من صوت هذا الحمير!»134.

    ٢. ذو القرنين.

    ذو القرنين هذا الملك الصالح الذي ملك الأرض، وهو أحد أربعة135 حكموا الناس شرقًا وغربًا، حكى الله قصته في سورة الكهف في عدة آيات، وفي قصته دروس عظيمة، وفوائد جمة، تدل على عقله الراجح، وحنكته السياسية، ومقدرته على الحكم، وعلى الرغم من ذلك فإنه كان في قمة التواضع لربه وخالقه جل وعلا، ولعباده.

    حكى الله عنه أنه قال: ( ﭿ ﮋﮌ ﮎﮏ ) [الكهف: ٨٧-٨٨].

    وقال: ( ﯿ ﰇﰈ ﰏﰐ ) [الكهف: ٩٥-٩٦].

    وقال تعالى عنه أنه قال: ( ﭕﭖ ﭜﭝ ) [الكهف: ٩٨].

    قال سيد: «( ﭕﭖ ﭜﭝ ) وبذلك تنتهي هذه الحلقة من سيرة ذي القرنين النموذج الطيب للحاكم الصالح، يمكّنه الله في الأرض، وييسّر له الأسباب، فيجتاح الأرض شرقًا وغربًا، ولكنه لا يتجبّر ولا يتكبّر، ولا يطغى ولا يتبطر، ولا يتخذ من الفتوح وسيلة للغنم المادي، واستغلال الأفراد والجماعات والأوطان، ولا يعامل البلاد المفتوحة معاملة الرقيق، ولا يسخّر أهلها في أغراضه وأطماعه، إنما ينشر العدل في كل مكان يحلّ به، ويساعد المتخلفين، ويدرأ عنهم العدوان دون مقابل، ويستخدم القوة التي يسّرها الله له في التعمير والإصلاح، ودفع العدوان، وإحقاق الحق، ثم يرجع كل خير يحقّقه الله على يديه إلى رحمة الله، وفضل الله، ولا ينسى وهو في إبان سطوته قدرة الله وجبروته، وأنه راجع إلى الله»136.

    والمقصود: أن التواضع خلق الصالحين في أحوالهم كلها، ولقد كان سلف هذه الأمة لا تغيّرهم المناصب ولا الدنيا، ولا يحتقرون أحدًا صغر عنهم أو كبر، بل كانوا شديدي التواضع والانكسار لله، والأمثلة على ذلك كثيرة جدًا.

    فهذا ابن عباس رضي الله عنهما مع جلالته يأخذ بركاب زيد بن ثابت الأنصاري ويقول: «هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا وكبرائنا»137. وقال مجاهد: «ربما أخذ لي ابن عمر بالركاب»138.

    وقد كان بكر بن عبد الله المزني رحمه الله آية في التواضع في ملبسه وكلامه وتصرفاته ومعاملته للخلق، يعامل جميع الناس على حد سواء، في الرفق والاحتفاء والبشر والاهتمام بأحاديثهم، فلا يفرّق بين غني وفقير، وبين عالم وجاهل، وشريف ووضيع، لا يعنف أحدًا، ولا يترفع على أحد مع عظم منزلته، حتى إنه يقول: «إذا رأيت من هو أكبر منك فقل: سبقني بالإيمان والعمل الصالح؛ فهو خير مني، وإذا رأيت من هو أصغر منك فقل: سبقته إلى الذنوب والمعاصي؛ فهو خير مني، وإذا رأيت إخوانك يكرمونك ويعظّمونك فقل: هذا فضل أخذوا به، وإذا رأيت منهم تقصيرًا فقل: هذا ذنب أحدثته»139.

فوائد التواضع

  1. لا شك أن خلق التواضع من أعظم الأخلاق الكريمة، والشمائل الحميدة، التي يتحلى بها المؤمن الكريم، فيضفي على إخوانه المسلمين المحبة والمودة والألفة، ويرضي ربه، ويقتدي برسوله صلى الله عليه وسلم سيد المتواضعين، وللتواضع فوائد عديدة، نذكر بعضًا منها:

    أولًا: دخول الجنة.

    من أعظم ما يناله المتواضعون هو دخول جنات النعيم.

    قال تعالى: ( ﯲﯳ ) [القصص: ٨٣].

    والمعنى: تلك الدار الآخرة نجعل نعيمها للذين لا يريدون تكبرًا عن الحقّ في الأرض، وتجبرًا عنه ولا فسادًا، يقول: ولا ظلم الناس بغير حقّ، وعملًا بمعاصي الله فيها140.

    و ( ) إشارة تعظيم، كأنه قال: تلك التي سمعت خبرها، وبلغك وصفها، تعظيم لها، وتفخيم لشأنها141.

    ويراد بالدار الآخرة هنا: الجنة؛ وذلك معهود في إطلاقها على الجنة، ومعلوم أن ما يجعل لهؤلاء هو الجنة...، والأحسن أن يكون ذلك على حذف مضاف دل عليه المعنى، أي: نعيم الدار الآخرة وحظوتها وخيرها؛ لأن الدار الآخرة هي موضع الإقامة بعد انقضاء الدنيا، وسميت آخرة؛ لأنها متأخرة عن الدنيا، أو هي آخر ما يسكن142.

    ومعنى جعلها لهم: أنها محضرة لأجلهم ليس لهم غيرها، وأما من عداهم فلهم أحوال ذات مراتب، أفصحت عنها آيات أخرى، وأخبار نبوية143.

    وعن الفضيل: أنه قرأها -أي: هذه الآية-، ثم قال: ذهبت الأماني هاهنا.

    وعن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه كان يرددها حتى قبض144.

    وقوله: ( ) أي: ليس لهم إرادة، فكيف العمل للعلو في الأرض على عباد الله، والتكبر عليهم وعلى الحق ( ) وهذا شامل لجميع المعاصي، فإذا كانوا لا إرادة لهم في العلو في الأرض والإفساد لزم من ذلك أن تكون إرادتهم مصروفة إلى الله، وقصدهم الدار الآخرة، وحالهم التواضع لعباد الله، والانقياد للحق، والعمل الصالح145.

    ومعنى: ( ) كناية عن: لا يفعلون؛ لأن من لا يريد الفعل لا يفعله إلا مكرهًا...، والعلو: التكبر عن الحق وعلى الخلق، والطغيان في الأعمال. والفساد: ضد الصلاح، وهو كل فعل مذموم في الشريعة أو لدى أهل العقول الراجحة، وقوله: ( ) العاقبة: وصف عومل معاملة الأسماء لكثرة الوصف به، وهي الحالة الآخرة بعد حالة سابقة، وغلب إطلاقها على عاقبة الخير146.

    فهؤلاء متواضعون: لا يريدون التكبر على خلق الله، ولا الاستعلاء على عباد الله، ولا يتيهون بأحسابهم ولا بأنسابهم ولا بأمومتهم أو أبوتهم، ولا بأموالهم، ولا بما ملّكهم الله في هذه الدنيا، وإلا لكان ذلك ابتلاءً وفتنة، كما كانت كنوز قارون لقارون، فقد فتن بها وعذّب في الدنيا؛ وعذاب يوم القيامة أشد.

    والدار الآخرة إنما جعلها الله للذين لا يستعلون على عباد الله، ولا يتكبرون على الإيمان والمؤمنين...، والدار الآخرة وجنتها ورضاها ورحمتها مقصورة على الذين لا يتكبرون، ومن ينازع الله في كبريائه أذله وحقره147.

    وقال في آية أخرى: ( ) [الحج: ٣٤].

    يعني: بالجنة148. وعن قتادة في قوله تعالى: ( ) قال: «هم المتواضعون»149.

    ثانيًا: محبة الله للمتواضع.

    ومن فوائد التواضع العظيمة محبة الله للمتواضع، يقول الله جل وعلا: ( ) [المائدة: ٥٤].

    فأخبر تعالى المؤمنين في هذه الآية الكريمة: أنهم إن ارتد بعضهم فإن الله يأتي عوضًا عن ذلك المرتد بقوم من صفاتهم الذل للمؤمنين، والتواضع لهم، ولين الجانب، والقسوة والشدة على الكافرين، وهذا من كمال صفات المؤمنين؛ وبهذا أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم فأمره بلين الجانب للمؤمنين، بقوله: ( ) [الحجر: ٨٨].

    وقوله: ( ) [الشعراء: ٢١٥]150.

    فالتواضع يورث محبة الله للمتواضع، ومحبة الله للعبد هي أجل نعمة أنعم بها عليه، وأعظم فضيلة تفضل الله بها عليه، وإذا أحب الله عبدًا يسر له الأسباب، وهوّن عليه كل عسير، ووفّقه لفعل الخيرات، وترك المنكرات، وأقبل بقلوب عباده إليه بالمحبة والوداد.

    ومحبة الله حال من أحوال الذات العلية لا نعرف كنهها، ولا ندرك حقيقتها، وهي تليق بذاته الكريمة، وتتفق مع صفات الجلال والكمال التي يتصف بها واجب الوجود، والذي خلق بقدرته كل موجود، وهي غير الإحسان، وإن كانت من فضل الله، وغير الرحمة وغير الرضا؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعلها لبعض عباده، والإحسان والرحمة يعمّان كل موجود، والرضا وإن جعله جزاء أعلى للمحسنين، كما قال في جزاء المؤمنين بعد ذكر الجنات والنعيم المقيم: ( ) [التوبة: ٧٢].

    فالمحبة أكبر منه، وقد ذكرها الله سبحانه وتعالى، فكان هذا دليلًا على أنهما متغايران بالنسبة لذاته العلية، كما أن المدلول اللفظي لهما متغاير، وإن كانت المحبة تتضمن الرضا لا محالة، بل إنها لا تكون إلا حيث يكون أقصى الرضا، هذه إشارة إلى محبة الله لبعض عباده الذين اصطفاهم151.

    والمقصود: أن من الأسباب التي يترتب عليها محبة الله: الذّلة على المؤمنين بأن يكون المسلم للمؤمنين كالولد لوالده والعبد لسيده، وعلى الكافرين كالأسد على فريسته، والعزة على الكافرين، أي: لا يخضعون للكافرين، ولا يحالفونهم على المؤمنين، ولا يختارون أن يدخلوا في ولايتهم ويتركوا ولاية المؤمنين.

    موضوعات ذات صلة:

    الاستكبار، الخشوع، الذل، الغرور


1 مقاييس اللغة، ابن فارس ٦/١١٧.

2 العين، الفراهيدي ٢/ ١٩٦، تهذيب اللغة، الأزهري ٣/٤٨.

3 المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية ٢/١٠٤٠.

4 مقاليد العلوم، السيوطي ص ٢٠٣.

5 انظر: المصدر السابق ص ٢١٧، التعرف لمذهب أهل التصوف، الكلاباذي ص ٩٧.

6 التوقيف ص ١١١.

7 معجم لغة الفقهاء، محمد قلعجي وحامد قنيبي ص ١٥٠.

8 مدارج السالكين، ابن القيم ٢/ ٣١٤.

9 أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، ١٠/٥١٠، رقم ٧٨٩٥.

وانظر: مدارج السالكين، ابن القيم ٢/ ٣١٤، ترتيب الأمالي الخميسية، الشجري ٢/٣٠٣.

10 التعرف لمذهب أهل التصوف، الكلاباذي ص ٩٧.

11 المصدر السابق ص ٩٧.

12 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ضوء كتاب الله ١/١٤٩.

13 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٦/١١٧.

14 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس، ٤/٢٤٣، لسان العرب، ابن منظور، ١/٥٨٢، تاج العروس، الزبيدي، ٣/٣١٨.

15 البحر الزخار، ابن المرتضى الصعدي ٦/٤٩٠.

16 الفروق اللغوية، العسكري، ص٣٥٢.

17 انظر: إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي، ٢/٤٥٦.

18 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٥/١٥٣-١٥٤.

19 المفردات، ص٥٤٥.

20 تفسير السمرقندي ١/ ٣١٥.

21 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ١٠/١٢٨، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٢/٣٤٩.

22 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٥/ ١١١.

23 فتح القدير، الشوكاني ٤/ ٣٢٥.

24 محاسن التأويل، القاسمي ٣/ ٢١٣.

25 انظر: معالم التنزيل، البغوي ١/٢٦٧.

26 مدارج السالكين، ابن القيم ٢/٣١٨-٣١٩.

27 انظر: الدر المنثور، السيوطي ١/ ٥٧٥.

28 معالم التنزيل، البغوي ١/ ٢٦٤، تفسير القرآن، السمعاني ١/٢٠٨.

29 الروح ص ٢٣٣.

30 المحرر الوجيز ٢/٢٢٧.

31 تفسير القرآن العظيم، ٣/ ١٦٨.

32 روح المعاني، ٤/ ٥.

33 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٢٤٢.

34 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه، ١/٩٣، رقم ١٤٧.

35 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٧/٣٧٦.

36 تفسير القرآن العظيم، ٣/ ١٣٦.

37 جامع البيان، الطبري ٨/٥٢٧.

38 تفسير القرآن، ٢/٤٧.

39 معالم التنزيل، ٣/٧٢.

40 البحر المحيط، أبو حيان ٤/٢٩٨.

41 التضمين النحوي في القرآن الكريم، محمد فاضل ١/ ٣٤٤.

42 في ظلال القرآن ٢/٩١٩.

43 حاشيه الشهاب على أنوار التنزيل، ٨/٦٨.

44 محاسن التأويل، القاسمي ٤/١٧٢.

45 التفسير القرآني للقرآن، عبدالكريم الخطيب ٣/١١٢٠.

46 انظر: البيان والتبيين، الجاحظ، ٣/ ١٢٨، العقد الفريد، ابن عبدربه ١/٢٠٨.

47 البيت لكعب بن سعد الغنوي، يرثي أخاه.

انظر: جمهرة أشعار العرب، القرشي ص ٥٦٠ ، لسان العرب، ابن منظور ١/٣٢٨.

48 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٦/٢٣٧-٢٣٨.

49 تفسير الشعراوي ٣/١٧١٦.

50 انظر: تفسير الشعراوي ٥/ ٣٢١٣.

51 العذب النمير، الشنقيطي ٢/١٥٢.

52 صفوة التفاسير، الصابوني ٣/٢١١.

53 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ١١/٤٨٩.

54 مجموع فتاوى ورسائل العثيمين ٢٦/ ٢١٨.

55 اقتضاء الصراط المستقيم ١/ ٤٥٣.

56 المجموع شرح المهذب، النووي ٢/١٦٩.

57 التعرف لمذهب أهل التصوف، الكلاباذي ص ٩٧.

58 مدارج السالكين، ابن القيم ٢/ ٣١٤.

59 التفسير القرآني للقرآن، عبدالكريم الخطيب ٩/ ١٣١٠.

60 في ظلال القرآن ٤/ ٢٥٢٧.

61 تفسير المراغي ١٧/ ١٣١.

62 روح البيان، إسماعيل حقي ٦/ ٤٠٨.

63 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه، ١/٩٣، رقم ١٤٧.

64 جامع العلوم والحكم، ابن رجب ١/٣٠٧.

65 مدارج السالكين ٢/٣١٧.

66 انظر: لطائف الإشارات، القشيري ١/١٧١.

67 انظر: تفسير المراغي ١٦/٣٩، الوسيط، الزحيلي ٢/١٤٦٦.

68 التفسير القرآني للقرآن، عبدالكريم الخطيب ٨/ ٤٧٣.

69 البيت لذي الإصبع العدواني.

انظر: العقد الفريد، ابن عبدربه ٢/ ١٧٧.

70 من روائع القرآن، البوطي ص ٢٦٠.

71 أخرجه الشهاب القضاعي في مسنده، ١/١٠٢، رقم ١١٩، والدولابي في الكنى والأسماء، ٣/١٠٩١، رقم ١٩١١.

وضعفه الألباني في ضعيف الجامع ص ٣٩٤، رقم ٢٦٦٦.

72 انظر: جمهرة أشعار العرب، القرشي ص ٥٣٦، تهذيب اللغة، الأزهري ١١/٢٦٠.

73 التحرير والتنوير ١٥/ ٧٠.

74 جامع البيان، الطبري ١٨/١٦٠.

75 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٤٩١.

76 ترتيب الأمالي الخميسية، الشجري ٢/ ٣٠١.

77 تأويلات أهل السنة، الماتريدي ٣/٢٨٥.

78 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٥٧٥.

79 انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني، ص ٢٧٠، إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٢/ ٢١١.

80 التحرير والتنوير ١٨/ ٣٠٤.

81 المصدر السابق ٢٠/ ٧.

82 روائع البيان تفسير آيات الأحكام، الصابوني ٢/ ٢٣٤.

83 تفسير القرآن، السمعاني ٣/ ٥٥٣.

84 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٥٧٥.

85 في ظلال القرآن ٤/ ٢٥٣٤.

86 مدارك التنزيل، النسفي ١/ ٣٨٠.

87 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاستئذان، باب التسليم على الصبيان، ٨/٥٥، رقم ٦٢٤٧، ومسلم في صحيحه، كتاب السلام، باب استحباب السلام على الصبيان، ٤/١٧٠٨، رقم ٢١٦٨.

88 انظر: التفسير الوسيط، طنطاوي ٨/ ٥١٦.

89 لسان العرب ١٤/٧٨.

90 معالم التنزيل، البغوي ٣/٥٤٧.

91 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٦٢٥.

92 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، ٤/٢١٩٨، رقم ٢٨٦٥.

93 اقتضاء الصراط المستقيم ١/٤٥٣.

94 انظر: تفسير مجاهد ١/٣٢٢.

95 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٢٥٨

96 جامع البيان، الطبري ١١/٣٧٤.

97 لطائف الإشارات، القشيري ١/٤٧٥.

98 انظر: التفسير القرآني للقرآن، عبدالكريم الخطيب ٤/١٩٢.

99 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب الكبر، ٨/٢٠، رقم ٦٠٧٢.

100 أخرجه أحمد في مسنده، ١٩/٩، رقم ١١٩٤١.

قال المحقق: «إسناده صحيح على شرط الشيخين».

101 أخرجه أحمد في مسنده، ٢٠/ ١٧٨، رقم ١٢٧٨٠.

قال المحقق: «إسناده ضعيف، لضعف علي بن زيد، وهو ابن جدعان، وقد صح الحديث بغير هذا اللفظ».

102 انظر: تفسير يحيى بن سلام ١/ ٨٠.

103 فتح القدير، الشوكاني ٢/٢٢٤.

104 جامع البيان، الطبري ١٢/ ٣٧٠.

105 أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الزهد، باب من لا يؤبه له، ٢/١٣٧٩، رقم ٤١١٨.

وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ١/٦٠١ ، رقم ٣٤١.

106 النهاية في غريب الحديث، ابن الأثير ١/١١٠.

107 مرقاة المفاتيح، الملا علي القاري ٧/ ٢٧٨٢.

108 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه، ١/٩٣، رقم ١٤٧.

109 اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى، ابن رجب ص ١١١.

110 انظر: إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٢/١٠٥.

111 التحرير والتنوير ٤/١٤٤.

112 انظر: التحرير والتنوير ٤/١٤٥.

113 صفوة التفاسير، الصابوني ١/٢٢١.

114 تيسير الكريم الرحمن، ص ١٥٤.

115 أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الأطعمة، باب القديد، ٢/١١٠١، رقم ٣٣١٢.

وصححه الألباني في صحيح الجامع ٢/١١٨٥، رقم ٧٠٥٢.

116 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأذان، باب من كان في حاجة أهله فأقيمت الصلاة فخرج، ١/١٣٦، رقم ٦٧٦.

117 أخرجه أحمد في مسنده، ٤١/٢٦٩، رقم ٢٤٧٤٩.

قال المحقق: «حديث صحيح».

118 أخرجه الطبراني في المعجم الصغير، ١/٥٣، رقم ٥٢، وفي المعجم الأوسط، ١/١٥٢، رقم ٤٧٧، والبيهقي في شعب الإيمان، ٢/٥٠٤، رقم ١٣١٧.

119 التفسير القيم، ابن القيم ص ٤٨٨.

120 المصدر السابق.

121 معالم التنزيل، البغوي ٤/٢٨٥.

122 الوسيط، الواحدي ٣/ ١٥٨.

123 مفاتيح الغيب، الرازي ٢١/ ٤٨٣-٤٨٤.

124 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٦/٥٩.

125 الجواهر الحسان، الثعالبي ٤/١٧.

126 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٤٩٢.

127 البيت منسوب لأبي كبير الهذلي.

انظر: الجليس الصالح الكافي، أبو الفرج الجريري ص ٣١٣.

128 جامع البيان، الطبري ١٨/٤٨٠.

129 الكشف والبيان، الثعلبي ٦/٢٨٦.

130 معالم التنزيل، البغوي ٣/٣٠١.

131 الإيمان بالقدر، الصلابي ص ٢٠٧.

132 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٦٤٨.

133 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٤/٧٠.

134 في ظلال القرآن ٥/ ٢٧٩٠.

135 مسلمان، وهما: ذو القرنين وسليمان عليهما السلام، وكافران، وهما: النمرود وبختنصر، كذا قيل، والله أعلم.

انظر: فنون العجائب، أبو سعيد النقاش ص ١٠٩.

136 في ظلال القرآن ٤/٢٢٩٣.

137 انظر: تاريخ الإسلام، الذهبي ٤/ ٥٧، البداية والنهاية، ابن كثير ١٢/ ٩٤ .

138 انظر: تاريخ الإسلام، الذهبي ٧/٢٣٧، تاريخ دمشق، ابن عساكر ٥٧/٣٤ .

139 صفة الصفوة، ابن الجوزي ٢/١٤٦.

140 جامع البيان، الطبري ١٩/٦٣٧.

141 مدارك التنزيل، النسفي ٢/ ٦٦٠، أنوار التنزيل، البيضاوي ٤/١٨٦.

142 انظر: البحر المحيط، أبو حيان ١/٤٩٧.

143 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٠/ ١٨٩.

144 انظر: البحر المديد، ابن عجيبة ٤/٢٨١

145 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٦٢٥.

146 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٠/ ١٩٠.

147 انظر: تفسير المنتصر الكتاني ٦/١٥٦.

148 انظر: تفسير يحيى بن سلام ١/٣٧٥.

149 أخرجه عبدالرزاق في تفسيره، ٢/٤٠٦، والطبري في تفسيره ١٦/ ٥٥١.

150 أضواء البيان، الشنقيطي ١/٤١٥.

151 زهرة التفاسير، أبو زهرة ٣/١١٨٧.