عناصر الموضوع
التقليد
أولًا: المعنى اللغوي:
التقليد مصدر للفعل الرباعي «قلد» بتضعيف اللام المفتوحة. ويأتي في اللغة على معان كثيرة، منها:
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
التقليد يتناوله أهل الفقه وأهل الاجتماع والذي يهمنا في هذه الدراسة، ما تناوله أهل الاجتماع من عادات وتقاليد وسلوكات سلبية توارثها الناس فرادى وجماعات. وقد ورد لكلمة التقليد في الاصطلاح عدة تعريفات، منها:
قال الجرجاني: «التقليد عبارة عن اتباع الإنسان غيره فيما يقول أو يفعل، معتقدًا للحقيقة فيه من غير نظر وتأمل في الدليل، كأن هذا المتبع جعل قول الغير أو فعله قلادة في عنقه، وعبارة عن قبول قول الغير بلا حجة ولا دليل»6.
«والمقصود بالتقليد الأعمى بالنسبة للمسلم: ما سلكه بعض المسلمين -من غير إدراك ولا وعي ولا تمحيص- من اتباع الكفار، والأخذ منهم، والتشبه بهم، في شتى ألوان الحياة وأنماط السلوك والأخلاق، وأشكال الإنتاج، في الاعتقاد والتصور والفكر والفلسفة والسياسة والاقتصاد والأدب والفن والثقافة والنظم والتشريع، من غير اعتبار للعقيدة والشريعة الإسلامية والأخلاق الفاضلة، ومن غير إلزام للمنهج الإسلامي الأصيل»7.
ومن هذه التعريفات، يمكن بيان الآتي:
فالمعنى الاصطلاحي للتقليد لا يخرج عن معنى الإحاطة والمحاكاة، وهما من المعاني اللغوية للكلمة.
الاتباع:
الاتباع لغة:
التاء والباء والعين: أصل واحدٌ لا يشذ عنه من الباب شيء، وهو التلو والقفو، يقال: تبعت فلانًا، إذا تلوته واتبعته، وأتبعته إذا لحقته8.
والمعنى اللغوي يدور حول الاقتفاء والاقتداء، واللحاق بشيء أو شخص والسير خلفه.
الاتباع اصطلاحًا:
قال الشرباصي: «والمعنى الأخلاقي للاتباع هو: أن يميز الإنسان الخبيث من الطيب، وأن يتبين طريقه على بصيرة، وأن يعرف من تقدمه على طريق الحق والصدق، فيتخذه أسوة وقدوة، فيمضي اللاحق على سنن السابق، فتوجد عند الإنسان روح الاتباع، وينأى بنفسه عن ضلال الابتداع... وخير اتباع ينبغي أن يتحلى به المرء ويلتزمه ويحرص عليه، اتباع هدي الله، والتزام صراطه المستقيم؛ لأن ذلك طريق الأمان والاطمئنان، يقول الله تبارك وتعالى: (ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [البقرة: ٣٨]»9.
الصلة بين الاتباع والتقليد:
في الاتباع يميز الإنسان الخبيث من الطيب، ويتبين طريقه على بصيرة، بخلاف التقليد الذي يحصل من غير إدراك ولا وعي ولا تمحيص، وينبه إلى أنه ورد في نصوص القرآن الكريم الاتباع بمعنى التقليد في مجموعة من الآيات.
التشبه:
التشبه لغة:
ترد هذه الكلمة بمعنى: «المماثلة والمحاكاة والتقليد»10. قال ابن منظور: «وأشبه الشيء الشيء: ماثله... وتشابه الشيئان واشتبها: أشبه كل واحد منهما صاحبه»11. يقول الله سبحانه: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) أي: «تشاكل علينا في أسنانها وألوانها»12.
والتشبه اصطلاحًا:
هو عبارة عن محاولة الإنسان أن يكون شبه المتشبه به وعلى هيئته وحليته ونعته وصفته، أو هو عبارة عن تكلف ذلك وتقصده وتعلمه، وقد يعبر عن التشبه بالتشكل والتمثل والتزيي والتحلي والتخلق13.
الصلة بين التشبه والتقليد:
التقليد صفة نقص لا تقع إلا من الجانب الضعيف، وفيه معاني الانقياد، والتفويض، والاستسلام، والطاعة العمياء من غير نظر وتمييز بين ما يضر وما ينفع، وأما التشبه فقريب من التقليد إلا أن فيه تكلفًا وتعلمًا وتقصدًا.
وغلب استعمال التقليد في الأقوال، وأما التشبه فقد غلب استعماله في الأفعال.
أسباب التقليد يمكن إجمالها في مطالب أربعة، على النحو الآتي:
أولًا: الجهل:
عندما ينتشر الجهل، ينتشر التقليد؛ فيستقبل الجاهل ما يلقى إليه من عقائد فاسدة، وتشريعات ضالة. وقد حدثنا القرآن الكريم بأمور يكون الجهل فيها سببًا للتقليد، وهي:
١. الجهل بحقيقة التوحيد.
تحدث القرآن الكريم عن أناس جهلوا حقيقة الألوهية والربوبية، وحقيقة المنعم عليهم؛ فعبدوا غيره. فهاهم بنو إسرائيل يطلبون من موسى عليه السلام -وهم حديثو عهد بمعجزة فلق البحر، وإغراق فرعون وقومه على مرأى من أبصارهم- أن يجعل لهم إلهًا صنمًا، تقليدًا لعبدة الأصنام. فقال الله سبحانه مبينًا سبب تقليدهم الذي هو الجهل: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) [الأعراف: ١٣٨] فوصفهم الله بالجهل على أتم وجه، لأنهم جهلوا حقيقة التوحيد14.
وشبيهٌ بذلك ما طلبه جهال الأعراب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم ذات أنواط كما للكفار. فقد روى الإمام أحمد عن أبي واقد الليثي أنهم خرجوا عن مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين. قال: (وكان للكفار سدرة يعكفون عندها ويعلقون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط. قال: فمررنا بسدرة خضراء عظيمة. قال: فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى: (ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ)إنها لسننٌ، لتركبن سنن من كان قبلكم سنة سنة)15.
كذلك وجدنا كفار مكة يطلبون من نبي الله صلى الله عليه وسلم أن يعبد آلهتهم، التي هرعوا في عبادتها مستنين بآبائهم دون علم، فكان الأمر الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم أن يرد على المشركين ردًا فيه الشدة والوصف بالجهل.
فقال الله سبحانه: (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ) [الزمر: ٦٤].
فكان جهلهم بالله تعالى، وفساد جهلهم بعبادة الأصنام يضاهي جهل بني إسرائيل. وها نحن نرى اليوم عبادة المادة من دون الله تعالى من قبل بعض أبناء الأمة استجابة لطلب الغرب الذي صارت المادة في حياة غالبية أهله كل شيء.
ووجد في البشرية من صفته الجهل بحقيقة العبادة ومدلولها ومستحقها، فافتتن بالقبور والأضرحة فعبدها تقليدًا لآبائه.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أما ود كانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع كانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجوف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا، وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت»16.
فهي لم تعبد إلا بعد هلاك الصالحين ونسخ العلم وانتشار الجهل.
والأمم والشعوب عندما يغشاها الجهل ويندس بين صفوفها المشعوذون والمبطلون؛ فإن التقاليد الباطلة والأخلاق الفاحشة تتسلل اليهم، ويبتعدون عن ضياء الحق17. واليوم نرى من سرى إليه تقليد السابقين في التمسح بالقبور وتقديسها من جهلة الأمة.
وبلغ من جهل الكفار أن اختلقوا لله تعالى بنين وبنات بغير علم منهم، فنسبوا إليه الولد، فكان من جهلهم أن نسبت اليهود عزيرًا إلى الله، وكان مثلهم النصارى في قولهم المسيح ابن الله، (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨ) [التوبة: ٣٠].
ويشبههم الكفار في قولهم: الملائكة بنات الله، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، فقال الله فيهم وفي أمثالهم: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [الأنعام: ١٠٠].
ولقد وجد في البشرية قديمًا وحديثًا من علية القوم من يستخف بعقول الدهماء، طالبًا منهم عبادته من دون الله، وهذا من جهله بحقيقة ربه عز وجل، بل ومن جهله بحقيقة نفسه.
فقد قال الله تعالى عن فرعون وقومه: (ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ) [الزخرف: ٥٤].
فالطغاة يعزلون الجماهير عن كل سبل المعرفة، ويلقون في روعهم ما يشاءون من المؤثرات حتى تنطبع نفوسهم بهذه المؤثرات المصطنعة؛ وبهذا يسهل استخفافهم، ويلين قيادهم، فيقودونهم ذات اليمين وذات الشمال وهم مطمئنون 18.
إن الذي لا يستقيم على طريق، ولا يمسك بحبل الله، ولا يزن بميزان الله، هو الجاهل بهذا الطريق، فجهله كان سببًا في سهولة انقياده لمن استجهله. والناظر في زماننا اليوم، يرى الأمر جليًا في سلوك الكثيرين. فلقد جهلت الأمة حقائق كثيرة عن الله عز وجل، منها حقيقة أن الرزق بيد الله وحده، فصاروا طوعًا في يد المستكبرين؛ فذلوا أنفسهم بطاعة من أقرضهم من الغرب الذي في غالبيته كفر، وأذلوا شعوبهم بأن مارسوا عليهم عقيدة غير المسلمين وثقافتهم، ظنًا منهم أنه من خلالهم يكون الرزق، وأنهم لو تركوا طاعتهم ما طعموا وما شربوا!!.
٢. الجهل بحقيقة النبوة.
إن الأقوام الكافرة جهلت رسالة النبي المبعوث بها، وأنه مكلف بالبلاغ وليس الإتيان بالعذاب، فأخذت الأقوام تطلب من أنبيائها أن تأتيها بالعذاب والمعجزات، ولم يكن هذا من أجل الاهتداء، بل عنادًا. وهذا الأمر تكرر على مر القرون، بسبب جهل الأقوام بحقيقة النبوة فوصف الله جهلهم بقوله: (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ) [البقرة: ١١٨].
فبنو إسرائيل اشترطوا -لجهلهم- على موسى عليه السلام أن يروا الله جهرة كي يؤمنوا، فقال سبحانه عنهم: (ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ) [البقرة: ٥٥].
ومثلهم كان مشركو مكة في الجهل وطلب الخوارق، فقال سبحانه: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ) [الفرقان: ٢١].
ولما جهلت علية الأقوام ميزان الله تعالى في التفاضل بين الناس وهو التقوى؛ أنفت أنفسهم الجلوس مع ضعفاء المؤمنين كبرًا، فطلبوا من الأنبياء عليهم السلام الانفصال في المجلس عنهم. فقال الله سبحانه عن قوم نوح عليه السلام: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) [هود: ٢٩].
وتبع قوم نوح صناديد مكة حينما طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم مجلسًا سوى مجلس الضعفاء الداعين ربهم غدوًا وعشيًا. فجاء التوجيه الرباني للرسول صلى الله عليه وسلم في رفض الطلب: (ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ) [الأنعام: ٥٢].
٣. الجهل بحقيقة التشريع.
والقرآن الكريم لا يصم المقلد بالجهل فقط، بل ويصم المتبوع كذلك. فمن حيث التشريع وجدنا القرآن الكريم ينعى على المقلد الذي يتبع آباءه الذين شرعوا له مالم يأذن به الله، هؤلاء الآباء الذين لا يعقلون شيئا ولا يهتدون.
فقال الله سبحانه: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [البقرة: ١٧٠].
وهذه الآية سبقتها آيتان تتحدثان عن حق الله في التشريع الذي يجب أن يطبق لا أن ينازع.
إن الله تعالى هو الخالق المالك الرازق؛ ومن حقه وهو يعلم من خلق، ويعلم ما يصلح الخلق ويفسده أن يضع التشريع الذي يصلح خلقه ولا يفسدهم. ولما جهل الكفار حقيقة علم الله، وجهلوا حقيقة أنفسهم وقلة علمهم وجهلوا حقيقة الكون، ذهبوا ينازعون الله هذا الحق وأخذوا يشرعون مالم يأذن به الله. فالنزاع بين الرسل والدعاة من جهة، وأقوامهم من جهة أخرى، لم يكن -في الأغلب الأعم- حول قضية الربوبية، فأهل الكفر يعترفون لله بالربوبية.
قال الله تعالى: (ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [الزخرف: ٩].
ولكنه كان حول من تكون له السلطة والحاكمية. فوجدنا حكم الطاغوت وتشريعاته، ينازع حكم الله تعالى دائمًا.
وأراد بعض الصحابة رضي الله عنه أن يحرموا على أنفسهم بعض ما أحل الله من نساء وطعام ونوم19، تقليدًا لرهبانية النصارى، ظنًا منهم أن ذلك فيه زيادة قربى إلى الله تعالى، فكان قول الله تعالى ناهيًا إياهم عن ذلك: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ) [المائدة: ٨٧].
فسمى الله تعالى تحريم ما أحل اعتداء، فهو اعتداء من حيث جعل النفس هي المشرعة من دون الله، وتحرم ما يصلحها، وتحل ما يفسدها، وهذا لا يكون إلا من جاهل.
واليوم جهل كثير من المسلمين من له الحق في التشريع؛ فقصروا فهمهم للإسلام على عبادات تقام، ويستفتونه في لباس أو شراب أو نكاح، أما النظم العامة، فلم يعد الاستفتاء فيها للإسلام، بل للدساتير الوضعية.
والجهل من أسباب الارتماء في أحضان الحضارة الغربية، فمن فسد تصوره عن الإسلام وأحكامه، وتاريخه ومدنيته وحضارته، لا بد أن يتأثر بكل غزو فكري، وينقاد لكل فكرة لا أخلاقية لأنه فارغ العقيدة والعلم20.
وهذا ماثل في حياة المسلمين اليوم، ففي تقليد الحياة الاجتماعية حينما سفهت المرأة أمر دينها خرجت عارية متبرجة تبرج الجاهلية الأولى، الذي ينهى الله عنه بقوله: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ) [الأحزاب: ٣٣].
وفي جاهلية المجال الاقتصادي، نجد الكثير من المسلمين يتعاملون بالربا، والاستغلال تقليدًا للفكر الرأسمالي الغربي. وفي مجال الحكم، قلد من بيده مقاليد المسلمين الغرب في تطبيق التشريع العلماني، متخذين تشريع الله وراءهم ظهريًا. وهذا كله لجهلهم بحقيقة تشريع الله النافع الصالح، ولجهلهم بحقيقة التشريع الوضعي الضار.
ثانيًا: اتباع الهوى:
اتباع الهوى مذموم في كتاب الله تعالى، ويكون في أمور أهمها:
١. اتباع الهوى في الشبهات.
اتباع الهوى يكون في شبهات كثيرة منها: شبهة الغلو والشرك، والحكم بغير ما أنزل الله، واستبدال التشريع الرباني بالتشريع الوضعي.
أما اتباع الهوى في شبهة الغلو، فقد نهى الله تعالى أهل الكتاب عن اتباع أسلافهم في الغلو في عيسى عليه السلام.
قال الله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [المائدة: ٧٧].
وجاءت الشبهة من أن الذين عبدوا مع الله غيره، كانوا يرون أن الحق في اتخاذ آلهة مع الله تعالى21.
وقريب من غلو النصارى في عيسى عليه السلام تبعًا لأهواء من ضل قبلهم وأضل، وجدنا كذلك متبعي الأهواء من كفار مكة قلدوا آباءهم في عبادة الأصنام.
قال الله تعالى: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) [النجم: ١٩-٢٣].
وصاحب الهوى متقلب في عبادته، واختيار معبوده، فيتنقل بين معبوداته حسب هواه. يروي الطبري عن سعيد قال: «كانت قريش تعبد العزى، وهو حجر أبيض، حينًا من الدهر، فإذا وجدوا ما هو أحسن منه طرحوا الأول وعبدوا الآخر، فأنزل الله (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ)[الجاثية: ٢٣]»22.
واتباع الهوى سبب في الصد عن اتباع الحق، فالله عز وجل خاطب موسى عليه السلام بقوله: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ) [طه: ١٥-١٦].
وخاطب نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم مبينًا تشابه كفار مكة مع قوم موسى عليه السلام في ترك الحق اتباعًا لأهوائهم فقال الله سبحانه: (ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) [القصص: ٥٠].
يقول صاحب التفسير الوسيط: «ما يتبع هؤلاء الجاهلون في عبادتهم لتلك الآلهة الباطلة، إلا الظنون الكاذبة، وإلا ما تشتهيه أنفسهم الأمارة بالسوء، وتقليد للآباء بدون تفكر أو تدبر»23.
ووجد في المسلمين فرق غالت في الرجال والعقائد اتباعًا لهواها -مضاهاة لليهود والنصارى- ومنها بعض الشيعة الذين غلوا في آل البيت والحسن والحسين والأئمة، حتى رفعوهم إلى درجة النبوة، بل ومنهم من رفع الأئمة فوق مرتبة النبوة.
وكما كان اتباع الهوى في شبهة العقائد، كذلك كان في شبهة التشريع.
يقول الله عز وجل: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [الأنعام: ١١٩].
وشبهة الكفار في تحليل الميتة أن ما ذبح الإنسان فحلال، وما قتل الله فحرام، فهل الإنسان أحسن من الله؟! فلا بد من تحليل ما قتل الله (الميتة) بزعمهم24.
وكان من تشريع كفار مكة تلاعبهم في الأشهر الحرم، كما أخبرنا الله تعالى عنهم: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [التوبة: ٣٧]25 .
وكانت العرب تمتنع من الغارات في هذه الأشهر. فلما كان ترك القتال يطول هذه المدة- ثلاثة أشهر متتالية- أخذوا يحلون هذه الأشهر ويحرمون بدلًا منها غيرها. وهذا التحليل والتحريم كان تبعًا لأهوائهم. وهذا الفعل لكفار مكة، وتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم، يشابه فعل اليهود من قبل في التبديل والتحريف.
فقد قال الله عنهم: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [المائدة: ٤١].
فقد غيروا حكم الزاني المحصن من الرجم إلى الجلد والتحميم، وهذا تبعًا لهوى أنفسهم التي كبر عليها رجم علية القوم إذا زنوا.
ولقد خاطب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم محذرًا إياه من اتباع أهواء اليهود وأن يحكم لأشرافهم على خصومهم بغير حق: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) [المائدة: ٤٩].
والتحذير الرباني للنبي صلى الله عليه وسلم، تحذير لأمته. واليوم نرى تبديل حكم الله تعالى في عالمنا الإسلامي، فتشابه حكام المسلمين باليهود والغرب العلماني في تعطيل حكم الله تعالى، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير؛ كي لا يتهموا بالرجعية. فالحدود معطلة، إذ السارق من ضعفاء القوم له السجن بدل قطع اليد. والزانيان بالرضا لا عقوبة عليهما. وشارب الخمر لا جلد عليه. والقصاص معطل، فالقاتل عمدًا يسجن، ويقتل غيره من أقربائه ثأرًا، كما هو الحال في الجاهلية الأولى. والقانون يحكم به على الضعيف دون الشريف.
٢. اتباع الهوى في الشهوات.
بين الله تعالى في كتابه العزيز حب الناس للشهوات، فقال سبحانه: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [آل عمران: ١٤].
ومن الناس من يحبها حبًا جمًا، ويتبع هواه في حبها لدرجة هلاكه من حيث لا يشعر، فيعميه حبها عن اتباع الحق، وتكون له إلهًا يعبد.
يقول ابن تيمية: « فهذا الاتباع والتقليد الذي ذمه الله هو اتباع الهوى إما للعادة والنسب كاتباع الآباء، وإما للرئاسة كاتباع الأكابر والسادة والمتكبرين، فهذا مثل تقليد الرجل لأبيه أو سيده أو ذي سلطانه»26.
ووجدنا آيات كثيرة تتحدث عن اتباع الهوى في كثير من الشهوات منها:
إن خلق الكبرياء، خلق يعمي عن اتباع الصراط المستقيم ومن اتبع هواه في هذا الخلق واستكبر، وجد نفسه معاندًا للحق، صادًا عن سبيل الله تعالى. ولقد وجد هذا الأمر في الأمم والأفراد، فقال الله سبحانه عن بني إسرائيل: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [البقرة: ٨٧].
فبنوا إسرائيل استكبروا عن سماع الحق واتباع الرسل، فقتلوا فريقًا منهم وكذبوا فريقًا. وفعلهم هذا مثل فعل فرعون وقومه حينما أنكروا الحق ظلمًا وعلوًا.
إذ قال الله تعالى عنهم: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ) [النمل: ١٤].
فأنفسهم أيقنت الحق، ولكنهم رفضوه تكبرًا، ففرعون استكبر عن الحق تبعًا لهوى نفسه في جعلها إلهًا من دون الله، وقومه اتبعوه عبادة له من دون الله تعالى.
فصدق قول الله عز وجل فيهم: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ) [القصص: ٣٩].
فكانت صفة الاستكبار ماثلة في بني إسرائيل وفي فرعون وجنوده. والأمر ذاته نجده ماثلا في أبي جهل، الذي نزل فيه قول الله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ) [الجاثية: ٢٣].
وذلك أنه طاف بالبيت ذات ليلة ومعه الوليد بن المغيرة، فتحدث في شأن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو جهل: والله إني لأعلم أنه لصادق! فقال له: مه! وما دلك على ذلك؟ قال: يا أبا عبد شمس، كنا نسميه في صباه الصادق الأمين؛ فلما تم عقله وكمل رشده، نسميه الكاذب الخائن!! والله إني لأعلم أنه لصادق! قال: فما يمنعك أن تصدقه وتؤمن به! قال: تتحدث عني بنات قريش أني قد اتبعت يتيم أبي طالب من أجل كسرة، واللات والعزى إن اتبعته أبدًا. فنزلت(ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ)27.
فأبو جهل أيقن أن محمدًا صلى الله عليه وسلم على الحق، إلا أنه كذبه اتباعًا لهواه، وصدًا عن سبيل الله تعالى كبرياء من نفسه، وبقي بهذا مقلدًا لدين آبائه. واليوم نرى هذا الأمر ماثلًا في كثير من أهل الكبرياء استنكافًا عن الحق، واتباعًا لما سبق.
علم الله تعالى الإنسان مالم يعلم، والأصل في الإنسان أن يشكر الله تعالى على هذه النعمة بأن يؤدي حق الله فيها، إلا أن هناك ممن تعلم حتى إذا صار عالمًا اتبع هواه، فعندها قال أو عمل خلاف ما يعلم.
ولقد ذكر الله تعالى هذا الصنف في كتابه العزيز فقال:(ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) [الأعراف: ١٧٥-١٧٦].
وهذه الآية كانت في يهودي آتاه الله علمًا، فذهب إلى من أغدق عليه العطاء فتبعه وترك دين موسى عليه السلام28.
وعلماء السلاطين موجودون في كل حين، تتعاقب وتتشابه فعالهم في إرضاء سلاطينهم تبعًا لأهوائهم.
يقول سيد قطب: «وكم من عالم دين رأيناه يعلم حقيقة دين الله، ثم يزيغ عنها، ويعلن غيرها، ويستخدم علمه في التحريفات المقصودة، والفتاوى المطلوبة لسلطان الأرض الزائل! يحاول أن يثبت بها هذا السلطان المعتدي على سلطان الله وحرماته في الأرض جميعًا»29.
والآية تبين أن هذا الصنف من العلماء: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ) أي: اطمأن إليها وسكن حيث ملذاته وشهواته واتبع الهوى في حبها، والأصل أن يرفعه علمه إذا عمل به، إلا أنه آثر الحياة الدنيا، فنزل من العلو إلى السفل، واستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، وكان من الذين قال الله فيهم: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ) [النساء: ٤٤].
وابتلي بعض علماء أمة الإسلام بمثل ذلك، فباعوا آيات الله تعالى بمنصب رخيص، ورضى حاكم جائر، تثبيتًا لعرشه، واتباعًا للهوى، فبئس ما يشترون. وهذا الصنف من العلماء أخطر على الأمة من ملأ الحاكم الجائر وجنده؛ لأن الحاكم الظالم يستند في شريعة أفعاله إليهم، ويعد نفسه على الحق؛ وبهذا يزداد السلطان عتوًا وإفسادًا.
يقول تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ) [غافر: ٢٦].
ففرعون ينظر إلى موسى على أنه المفسد ويرى نفسه مصلحًا، فأصبح المعتدي على الألوهية الحقة -طمعًا في إبقاء ألوهيته الزائفة المتبعة للهوى- هو الحق، ومن أراد إرشاد العباد لخالقهم هو المفسد! بل وعد نفسه أنه الهادي قومه إلى الرشاد، الآتي لهم بشرع رشيد.
قال الله سبحانه عنه: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ) [غافر: ٢٩].
وتكرر الأمر من قوم لوط، حينما نظروا إلى من ترفع عن الفاحشة وتنزه عنها، بأنه لا يستحق مجاورة ولا مساكنة، فهم الجديرون للأرض والوطن، وغيرهم ممن لا يفعل فعلهم ليس له إلا الطرد والنفي!
فقال سبحانه عنهم: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [النمل: ٥٦].
كذلك نجده هذا الأمر من أهل مكة الذين شاركوا فرعون وقوم لوط في قلب الحقائق تلبية لرغباتهم وشهواتهم، حينما حاربوا النبي صلى الله عليه وسلم لأنه عاب آلهتهم، وسفه أحلامهم، واتهموه بالسحر والكذب والكهانة، وأنه أفسد بين الولد ووالده، وفرق بين المرء وزوجه، فلا بد من سجنه أو قتله أو طرده، (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ) [الأنفال: ٣٠].
وتتوالى السنون والأيام، وتمشي معها الحالة المكرورة من قلب للحقيقة، فيصبح: الأمين خائنًا، والخائن أمينًا، والمصلح مفسدًا، والمفسد مصلحًا، والمجاهد إرهابيًا لا يستحق الحياة، ولا بد من محاصرته ومطاردته ونفيه من الأرض. فتصنف الناس حسب الأهواء والأمزجة. تشابهت القلوب، فحاكت الأفعال بعضها بعضًا.
ثالثًا: الخوف والاستضعاف:
خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وكرمه بالعقل والإرادة. وحينما يتنازل عن هذا التكريم الإلهي، فإنه يصبح موبوءًا بوباء التبعية، ويسلم قياد نفسه لغيره، ويعطل عقله، ويسيطر الخوف والضعف عليه. ومن هنا نجده يمتثل أمر سيده، ويجتنب نهيه، تاركًا كتاب ربه وراءه ظهريًا، ومعرضًا عن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، حجته في ذلك: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ)، أو (ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ).
ومن خلال ذلك سيكون تحت هذا المطلب أمران هما:
يعرف الخوف بأنه «توقع حلول مكروه، أو فوات محبوب»30 .
والخوف جبلي-وهو ماكان مفطورًا عليه المرء- لا مؤاخذة فيه، وأما النفعي، فهو الذي يجلبه المرء لنفسه نتيجة ضعفها. والخوف النفعي قد يكون خوفًا من قوة متوقعة، وخوفًا على المال أو المنصب. وهذا كان سببًا في تقليد الكافرين ومتابعتهم، والإعراض عن سبيل المؤمنين.
يقول الله عز وجل: (ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ) [المائدة: ٥٢].
نزلت هذه الآية في المنافقين - وعلى رأسهم ابن سلول - الذين والوا اليهود31، وعملوا بأعمالهم مقلدين إياهم في الصد عن دين الله. ويحملهم على ذلك؛ خوفهم أن يهزم المسلمون، فتكون لهم يد عند من يوالونهم، يحفظون بها أنفسهم «ولكن حجة ابن سلول، هي حجة كل ابن سلول على مدار الزمان؛ وتصوره هو تصور كل منافق مريض القلب لا يدرك حقيقة الإيمان»32.
وتتكرر صورة ابن سلول وأعوانه اليوم في خشيتهم من اليهود، ومسارعتهم في المحافظة على كيانهم وأمنهم، قائلين: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ)فالمسارعة في خدمة يهود، والبحث عن رضاهم، ديدن المنافقين في هذه الأمة قديمًا وحديثًا، محتسبين أن كل صيحة عليهم.
وتعدية المسارعة بكلمة (في) وليس بكلمة إلى كما في قوله الله تعالى: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ) [آل عمران: ١٣٣].
دليل على أنهم غارقون في التقليد والتبعية، وهذا ينم عن نفسية مريضة، فهم يهرعون في نصرة العدو ونقل أخبار المسلمين إليه. وفي هذا دليل على عميق مرض أنفسهم، وعدم ثقتهم بوعد الله بالنصر. فلما كانت النفس بهذا السوء والهزيمة؛ سهل انقيادها لليهود والنصارى وأشياعهم، وعملت -وهي راضية- ما تطلبه يهود في مطاردة الإسلام وأهله، ونشر الفساد والإلحاد، وحمايته بالأموال والأنفس؛ فالأمر ماثل للعيان في هذا الزمان مشابهة لابن سلول. وحيثما وجدت نفس بهذا المرض، كانت مقلدة ذائبة في غيرها. وهذا في كل زمان.
والمخاطب بالرؤية معروف وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، أو من يصلح للخطاب من أمته. والفعل (ترى) مضارع يدل على الاستمرارية، وهذا يعني أن المسألة تتكرر في كل زمان، ولم يكن الحديث مع غائب، ولعل ذلك -والله أعلم- من باب أهمية المؤمن المخاطب، وحظه عند الله تعالى، وتحذيره من أن يصيبه ما أصاب المسارعين فيهم.
وكما أن الخوف من الدائرة، سبب تقليد، كان الخوف على المصالح المادية أيضًا، فقال الله سبحانه: (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ) [القصص: ٥٧]. وهذا كان من أهل مكة للرسول صلى الله عليه وسلم، رغم أن الله جعل لهم حرمًا آمنًا يجبى إليه ثمرات كل شيء. وشابه ذلك أهل زماننا، فكم من دولة عربية وإسلامية تتبع أوروبا وأمريكا، خوفًا على مصالحها الاقتصادية، أو حبًا في تخفيف الديون المتراكمة عليها، أو خوفًا من ضربة عسكرية، رغم ما أنعم الله عليهم ما لم ينعم به على غيرهم من طاقات بشرية وإمكانات اقتصادية.
ولئن كان الخوف من التخطف -إن اتبع الدين- هو شأن علية القوم، فقد وجدنا العامة من الناس، تلوك ألسنتهم الفكرة نفسها، فلكم تشنفت الآذان من ثقافة المجتمع المستضعف الخائف من البغي السلطاني، أو عدم الحصول على وظيفة، إن عمل لدينه حق العمل بشموله، أو جاهد نصرة له، محاربًا الظلم وأهله، ذابًا عن شرع الله تعالى، ومطالبًا بتحكيمه كاملًا غير منقوص. فسبحانك ربي، (ﯶ ﯷ) [البقرة: ١١٨].
فالحالة ذاتها على مر الأجيال.
ولئن سألتهم عن قناعتهم بهذه الفعال لقالوا: لسنا على قناعة بذلك ولكنها الوظيفة!! سبحان الله العظيم تشابهت القلوب مع قلوب قريش،(ﮟ ﮠ ﮡ)فاعترف الفريقان بأن ما يدعو إليه النبي صلى الله عليه وسلم والدعاة في كل زمان هو الهدى، لكنهم أعرضوا عن اتباعه، وبقوا على دين كبرائهم خوفًا، فحالهم كحال فرعون وجنده: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ) [النمل: ١٤].
ولقد برر القوم عدم تبعيتهم لشرع الله بكلمة (ﮣ) الدالة على الأخذ بسرعة33. دلالة على شدة الهلع والخوف من الناس، كما قال الله تعالى: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ) [الصافات: ٦٩-٧٠].
والإهراع: «إسراع فيه شبه بالرعدة».34 فالإسراع الشديد في التقليد والتبعية ثمرة الخوف الشديد. وهذه الحالة النفسية التي يصفها القرآن العظيم للمقلدين، تدل على ذوبان شخصية صاحبها في المتبوعين، وخوفها منهم.
وصف الله سبحانه وتعالى حالة الضعف كحالة تعتري النفس البشرية، تؤدي إلى الانقياد والتبعية للآخر المستكبر، فقال: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) [إبراهيم: ٢١].
والضعفاء هم الذين تنازلوا عن كرامتهم وحريتهم الشخصية في التفكير والاعتقاد، وجعلوا أنفسهم تبعًا للمستكبرين الطغاة. والقوة المادية -مهما كانت- لا تملك إلا تعذيب الجسد، أما العقل والروح فلا يملك أحد حبسها إلا إذا أسلمها صاحبها للحبس والإذلال، فحينما ضعفت الأرواح والعقول سقطت همتهم، واتبعوا المستكبرين35.
والضعاف هم الذين فقدوا صناعة القرار الذاتي، فأصبحوا مصنوعين لا صانعين، مقودين لا قادة. وهم الذين ذابت شخصياتهم فذاب قرارها الخاص بها في غيرها، ومن هان على نفسه، هان على الناس. فالضعفاء يقولون للمستكبرين: (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ)، «أي: مهما أمرتمونا ائتمرنا وفعلنا»36، بل هم سادة في التطبيق والامتثال من فرط ضعفهم وذلهم وعبوديتهم، فهم: «لشدة تبعيتهم كأنهم عين التبعية»37.
لقد قلد الضعفاء الكبراء في أنواع الضلالات المختلفة، فلما كذب المستكبرون الأنبياء، كذلك كان الضعفاء، ولما كان المستكبرون معذبين للرسل عليهم السلام كان الضعفاء جلادين لديهم، منقادين للأمر دون تفكير.
والله تعالى لم يقبل عذر المستضعف، إذا كان قادرًا على الانتفاضة على ضعفه وذله، تاركًا تبعية كبيره، بل وحتى تكثير سواده -إذا لم يكن في الانتفاضة منكر أكبر من منكر الضعف والذلة-. يقول المولى عز وجل: (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [النساء: ٩٧].
ولقد عبر القرآن الكريم عن المستضعفين بصيغة الفعل المبني للمجهول(استضعفوا)، لهوانهم على الله كما في قوله تعالى: (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) [سبأ: ٣٣].
وفي التعبير بصيغة المبني للمجهول دلالة على شدة مهانتهم لأنفسهم وعدم تقديرهم لكرامتها، فأذلوها مقلدين الذين استكبروا. وفي المقابل كان التعبير عن المستكبرين بصيغة المبني للمعلوم، لإظهار تفننهم في قيادة المستضعفين بالليل والنهار. فهم وجدوا قطيعًا ينفذ، فلماذا لا يأمرون؟! ووجدوا ضعفًا سهل انقياده، فلماذا لا يتكبرون! والكبر شعارهم، «والسين والتاء للمبالغة في الكبر»38. وذلك أن المتكبر سعى في طلب الكبر.
ويبين يوسف العظم أن أعمق معاني الهزيمة تلك التي تنبع من داخل الإنسان، ولا يشعر بها، لأنه مخدر الذهن يحيا أجواء الغرور، ولا يفسح لغيره حوارًا39.
وهذا ماثل تمامًا في حاضر أمة الإسلام اليوم، فقد انهزمت من داخلها، ولم تعد تعرف سر قوتها، وسر ضعف غيرها، فانبهرت بحضارة غيرها واتبعتها.
وقريب من هذا -الهزيمة النفسية التي كانت سببًا في التقليد- قول الله تعالى: (ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [إبراهيم: ٢٢].
فبمجرد دعاء الشيطان استجابوا، وهذا دليل الخواء الروحي، والضعف العقلي، والفراغ الذاتي، أن لبوا نداء الشيطان في الضلال والإغواء، بمجرد الدعوة، كما هو شأن كل متبعي الشيطان في كل زمان.
والمغلوب مولع دائمًا بالاقتداء بمن غلبه، لاعتقاد الكمال في الغالب، فتجده يتشبه بالغالب في زيه ومركبه وسلاحه.40
والمتأمل في المجموعات الإنسانية، يرى أن نسبةً عظمى منها تضعف إرادتها وتنحني أمام إرادة ذوي السلطة السياسية أو الاجتماعية أو الروحية، وحينها تتعطل ملكاتهم فيكونوا إمعة. ويستغل القادة صفة الطاعة العمياء هذه لبث أفكارهم وعقائدهم التي فيها تمكين نفوذهم، وتسخيرهم لتحقيق ما تشتهي أنفسهم الآثمة من سلطان أو مال.41
رابعًا: تعظيم الأنبياء والأولياء:
يخرج في كل أمة أشخاص بارزون لهم بصمات في تاريخها، فمنهم من يبرز في ميدان العبادة، ومنهم من يبرز في ميدان المعارك، ومنهم من يبرز في ميدان العلم، ومنهم من يبرز في ميدان القيادة. وهذه الفئة من كل أمة يكون لها وزنها في أنفس الجماهير. ولما كان قول أهل النباهة له مكانة في الأنفس، فإن العامة تقول بقولهم، وتعمل عملهم. يقول القرطبي: «وأقوال النبهاء أبدًا مشهورة في الناس يحتج بها، فمن هنا صح أن تقول الجماعة قول نبيهها»42.
فالنبيه تتبعه العامة، ويقلدونه في القول والعمل. ويكون الناس معهم أصناف ثلاثة:
الصنف الأول: الغالي فيهم، المعظم لهم لدرجة العبادة.
الصنف الثاني: الجافي عنهم، إما جاهلًا بهم، أو حاسدًا لهم.
الصنف الثالث: الوسط بين الصنفين السابقين، ويتعامل مع هذه الفئة البارزة دون إفراط ولا تفريط.
وهذا المطلب سيدور حول الصنف الأول دون الثاني الذي لا يكون فيه تقليد، بسبب جهلهم الذي لا يدفعه إلى التقليد، أو حسده الذي يسبب معاداتهم والتي تمنع التقليد من الناس، وذلك في أمرين:
١. المبالغة في تعظيم الأنبياء عليهم السلام.
لقد بين الله تعالى أن اليهود زعموا أن عزيرًا ابن الله، وكذلك بالنسبة للنصارى في عيسى عليه السلام، فقال سبحانه عنهم: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [التوبة: ٣٠].
فعزير، مختلف فيه أنبي هو أم عالم من علماء بني اسرائيل؟ وأيًا كان الأمر، فالذي يهم هنا أنه قدس، بزعمهم أنه ابن الله زورًا وكذبًا.
يقول محمد سيد الطنطاوي: «وقد قدسه اليهود من أجل نشره لكثير من علوم الشريعة، وأطلقوا عليه لقب(ابن الله)»43.
فعزير عظم عند اليهود، لما له من شأن في حفظ التوراة، في الوقت العصيب الذي ذهبت منهم هذه التوراة.
أما بالنسبة لعيسى عليه السلام، فقد أخبر الله تعالى عن فرية النصارى حين قالوا عنه بأنه ابن الله، وذلك لأنهم رأوا على يديه من المعجزات التي لا تصدر إلا عن إله، أو لأنه ولد لغير أب. فمن هنا، كان تعظيمهم له.
ولقد غالت النصارى في المسيح عليه السلام، وأطروه إطراءً تجاوزوا به الحد، فقال الله سبحانه وتعالى ناهيًا إياهم عن الغلو فيه: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ) [النساء: ١٧١].
والآية تنهى عن رفع عيسى عليه السلام من مقام النبوة إلى مقام الألوهية، فسلفهم ضل في هذه الفرية وأضل من بعده.
وبين الله تعالى كفر النصارى في عقيدة التأليه والتثليث لعيسى عليه السلام فقال سبحانه: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ) [المائدة: ٧٢-٧٣].
فهاتان الآيتان تظهران كفر من اعتقد هذه العقيدة. وفيهما تحذير لأهل مكة التي ضاهى مشركوها اليهود والنصارى، حين خرقوا لله بنين وبنات بغير علم، وجعلوا الملائكة -الذين هم عباد الرحمن- بنات الله، وكذلك فيهما تحذير للمسلمين من أن يغلو في نبيهم صلى الله عليه وسلم، مشابهة لليهود والنصارى في العزير وعيسى، والذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا حينما قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده فقولوا: عبد الله ورسوله)44.
ومع هذا التحذير والإرشاد، إلا أنه وجد في الأمة من أعطى النبي صلى الله عليه وسلم بعض صفات الألوهية، كالتضرع إليه في قضاء الحاجات وتفريج الكربات ومغفرة الذنوب45.
فمن أهل التصوف من أعطى النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس له وما هو بريء منه، فاعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الله المستوي على العرش، وأن السماوات والأرض والعرش والكرسي وكل الكائنات خلقت من نوره وإنه أول موجود؛ وهذه عقيدة ابن عربي46 .
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا رضي الله عنه حينما أراد السجود له، تقليدًا لنصارى الشام في السجود لأساقفتهم، وبين أن هذا لا ينبغي إلا لله وحده47 .
خامسًا: تعظيم الأولياء:
بشر الله تعالى أولياءه الصالحين بألا يخافوا ولا يحزنوا فقال: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) [يونس: ٦٢-٦٣].
و«أولياء الله هم المؤمنون الذين والوه بالطاعة والعبادة»48، وهم الأقرب إلى الله تعالى، والأكثر طاعة له، وخشية منه. والأولياء الصالحون وجدوا عبر التاريخ، فهم يتبعون الأنبياء والرسل عليهم السلام، وكانوا من الطاعة والعبادة لله ما ميزهم عن غيرهم، فأخذت الدهماء تنظر إليهم نظرة تقدير وإجلال وإكبار، فمنهم من ظن فيهم الشفاعة عند الله تعالى، ومنهم من أوصلهم إلى مرتبة الألوهية، فتوجهوا إليهم من أجل قضاء الحاجات، وتلبية الرغبات.
والناظر إلى آيات القرآن الكريم يجد ما يدل على ذلك. فقوم نوح قال الله تعالى في حقهم: (ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ) [نوح: ٢٣].
هؤلاء رجال صالحون كان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا جعل أتباعهم لهم صورًا ليتذكروهم، فينشطوا في العبادة والطاعة كلما رأوها. واستمر الحال حتى نسخ العلم وانتشر الجهل، وزين لهم الشيطان، أن هؤلاء الرجال الصالحين كان يستمطر ويستنصر بهم، فزاد تعظيمهم في الأنفس حتى وصلوا إلى عبادتهم.
وظاهرة تقديس الصالحين عادة سرت إلى أمة الإسلام ممن قبلنا وموجودة حتى يومنا هذا، فزمن ابن تيمية يقول عنهم: «وهؤلاء الذين يحجون إلى القبور يقصدون ما يقصده المشركون الذين يقصدون بعبادة المخلوق، ما يقصده العابدون لله منهم من قصده قضاء حاجته وإجابة سؤاله يقول هؤلاء أقرب إلى الله مني فأنا أتوسل بهم وهم يتوسطون لي في قضاء حاجتي... ومنهم من يجعل لصاحب القبر نصيبًا من ماله أو بعض ماله، أو يجعل ولده له كما كان المشركون يفعلون بآلهتهم، ومنهم من يسيب لهم السوائب، فلا يذبح ولا يركب، وما يسيب لهم من بقر وغيرها كما كان المشركون يسيبون لطواغيتهم»49. والناظر اليوم لعباد القبور، يرى الأعاجيب من سجود لأصحاب المقامات، واستشفاء بهم، وطلب رزق منهم، وغير ذلك مما لا ينبغي إلا لله وحده سبحانه.
وها هم قوم إبراهيم عليه السلام يعكفون على أصنام لهم، تعظيمًا لها، وتقليدًا لآبائهم. فقد دار الحوار بين إبراهيم عليه السلام وبين قومه كما أخبرنا الله سبحانه عنهم في سورة الشعراء.
فإبراهيم عليه السلام يسأل قومه عن معبوداتهم: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ)، فيجيبون بأنها أصنام يظلون لها عاكفون: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ). فأخبرهم بصيغة السؤال الاستنكاري أنها لا تضر ولا تنفع(ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ). فكان ردهم الذي يكشف خبايا أنفسهم في التقليد: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ). وكلمة (ﮮ) تظهر إضرابهم عن كلام إبراهيم عليه السلام، وعدم سماعهم له؛ لأن قضية تقليد الآباء أهم وأعظم عندهم. وهذا ينم عن تصميم، وقوة إرادة في أنفسهم لمسألة التقليد. فقوله: (ﮱ ﯓ) فيه دلالة واضحة على تقليدهم آباءهم في الفعل، فالكاف للتشبيه. فهم يفعلون كما فعل آباؤهم، ومن تعظيمهم لهذه الأصنام أنهم ظلوا لها عاكفين.
وعاكفون من «عكف على الشيء يعكف ويعكف عكفًا عكوفًا: أقبل عليه مواظبًا لا يصرف عنه وجهه... لزم المكان50، فالعكوف من ملازمة الشيء.
وهذا من تعظيم الملازم للملازم. فهم عاكفون على عبادة الأصنام، منكبون على تعظيم من لا يستحق التعظيم، إظهارًا لما في أنفسهم من الابتهاج بهذه العبادة.
وكما عكف قوم إبراهيم عليه السلام على أصنام وتماثيل؛ تقليدًا لأسلافهم واقتفاءً لآثارهم، فقد وجدنا هذا العكوف عند قوم موسى عليه السلام، لكن مع معبود آخر هو العجل، صنعه لهم السامري، وتكررت كلمة (العكوف)، فقال الله سبحانه: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ) [طه: ٩٠-٩١].
فكان الرد الذي فيه الغلظة وينم عن شدة التقليد: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ) [طه: ٩١].
وكلمة (لن) نفي فيه الشدة والتأبيد، وفيه دلالة على أنهم أشربوا حب العجل حتى أعماهم عن التأدب مع نبي الله تعالى، كما قال سبحانه: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ) [البقرة: ٩٣].
وكلمة(ﯩ) الدالة على الظرفية، تبين مدى الحب لعبادة العجل، وتعمقه في قلوبهم.
أولًا: التقليد في العقيدة:
العقائد مسائل ثابتة، يجب الإيمان بها، ولا مجال للتلاعب فيها. إلا أن الأقوام حينما جاءتهم رسلهم بالبينات، مبشرين ومنذرين، جابهوا أنبياءهم بالكفر والنكران، وحجتهم في ذلك: (ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ) [الزخرف: ٢٢].
والتقليد في العقيدة تكرر من الأمم في موقفها من رسلها، وإنكار البعث، والاحتجاج بالقدر. وولوج هذا الجانب من التقليد العقائدي سيكون في مسائل ثلاث:
١. التقليد في موقف الأمم من الرسل والدعاة.
أرسل الله تعالى الرسل تترا إلى الناس مبشرين ومنذرين، فمنهم من آمن، ومنهم من صد عن سبيله. والذين صدوا عن سبيله هم الأكثرية، وكانت لهم مواقف تجاه الرسل متكررة على مر الأجيال، ومن هذه المواقف: شبهة بشرية الرسل، وموقف التكذيب والاستهزاء بهم وبالدعاة. وسيكون الحديث عن هذين الموقفين.
الموقف الأول: شبهة بشرية الرسل.
تكررت هذه الشبهة على لسان الأقوام المكذبة للرسل عليهم السلام، ظنًا منهم أن الرسالة لا تنبغي إلا لملك مقرب، والبشر أدنى من هذا المستوى، ولئن كانت هذه لبشر، فتنبغي أن تكون لرجل عظيم في المال والجاه.
وجاءت هذه الشبهة على لسان الأقوام في أكثر من آية، منها قول الله تعالى: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ) [التغابن: ٦].
فهذه الآية ذكرت اتهام الأقوام للرسل عليهم السلام بأنهم بشر، وهذا الكلام لمجموع الرسل (رسلهم)، وفيه بيان أن الأقوام توارثت هذه الشبهة، وتفوه بها اللاحقون تقليدًا للسابقين.
فقد كانت حكاية هذه الشبهة على لسان الملأ من قوم نوح عليه السلام حين دعاهم: (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [هود: ٢٦].
فكان ردهم كما قال الله سبحانه: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) [المؤمنون: ٢٤].
والأمر نفسه يتبعه قوم عاد وثمود، فقال الله سبحانه مقولتهم: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [فصلت: ١٤].
وتتوالى الأمم في إنكارها لبشرية الرسل عليهم السلام، حتى يصل الأمر لقوم فرعون فيخبر الله تعالى عنهم استنكارهم لبشرية موسى وهارون عليهما السلام: (ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [المؤمنون: ٤٧].
كذلك قوم شعيب عليه السلام يتابعون غيرهم في هذه الشبهة، فيقول الله عنهم: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ)إلى قوله: (ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) [الشعراء: ١٧٦-١٨٦].
وكذلك يقولها أهل أنطاكية لرسلهم الثلاثة الذين أرسلهم إليهم عيسى عليه السلام: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [يس: ١٥].
وتستمر البشرية في التواصي على هذه الشبهة، حتى يأتي أهل مكة فيكرروها لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) [يونس: ٢].
وهذا العجب الذي حصل من أهل مكة في بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم سبقهم إليه قوم نوح إذ قال الله تعالى عن ذلك: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [الأعراف: ٦٣].
وكذلك جاء هذا العجب من قوم عاد وبنص الآية السابقة نفسها51، «فإنكار رسالة البشر عام في كل الأمم»52.
الموقف الثاني: التكذيب والاستهزاء والطرد.
المجتمعات البشرية تكون على نمط معين من الحياة، فيها كبراء يقودون رعية هي لهم تبع، فإذا كانت هذه المجتمعات ظالمة منحرفة عن عقيدة التوحيد، أرسل الله إليها الرسل مبشرين ومنذرين، وتكون هذه الرسالة تحريرًا للضعفاء من التبعية العمياء للكبراء، وهداية الجميع لله وحده. وهذه الرسالة الجديدة تجد الاستجابة من الضعفاء، والصد والعنت -عادة- من الكبراء، وحجتهم أن الرسل وأتباعهم ليسوا من علية القوم وملئهم، بل هم من الضعفاء.
وعند توالي تبعية المستضعفين للرسل والدعاة، يستشعر الكبراء الخطر في ضياع نفوذهم، وذهاب طاعة المستضعفين لهم، فيبدأ هؤلاء الكبراء بإثارة الشبهات حول الرسالة الجديدة لهدمها، فيكذبونها ويستهزؤون بها. وحينما لا تفلح حجتهم أمام حجة دين الله تعالى يلجئون إلى القوة والبطش وطرد الرسل والدعاة. وهذا الأمر ديدن الكافرين قديمًا وحديثًا، كما أخبرنا القرآن العظيم.
يقول الله تعالى: (ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [الحجر: ١٠-١١].
يقول ابن عاشور: «(ﮬ ﮭ ﮮ)يدل على تكرر ذلك منهم، وأنه سنته، (فكان) دلت على أنه سجية لهم، والمضارع دل على تكرره منهم»53.
وكذلك بين الله تعالى أن اتهام الرسل عليهم السلام بالسحر أو الجنون ديدن الأقوام الكافرة، فقال الله سبحانه: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ) [الذاريات: ٥٢-٥٣].
والآية تتحدث عن عموم الأقوام الذين جاءتهم رسلهم بالبينات، فما كان قولهم لرسلهم إلا أن قالوا: ساحر أو مجنون. وهذا ما قالته قريش لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوم نوح عليه السلام يتهمونه بالجنون: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) [المؤمنون: ٢٥].
والتهمة نفسها وجهت إلى سيدنا موسى عليه السلام من فرعون، حيث قال الله تعالى مقولته: (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [الشعراء: ٢٧].
وكذلك فعل كفار مكة مع محمد صلى الله عليه وسلم فوصفوه بالكذب والجنون في أكثر من موطن، فقال الله سبحانه عنهم: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ) [سبأ: ٨].
وكما كانت الأقوام تتوالى في الاستهزاء بالرسل عليهم السلام، كذلك كان الحال بأتباع الرسل المؤمنين.
فقوم نوح عليه السلام اتهموا من آمن به بأنهم ليسوا من أهل العقل، وليس لهم رأي سديد، فقال الله سبحانه: (ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ) [هود: ٢٧].
وشابه ملأ قريش ملأ قوم نوح في ازدراء المؤمنين أتباع الرسل، فكان أغنياء مكة وكبراؤها، إذا مروا على مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ورأوا ضعفاء المسلمين كعمار وخباب وصهيب رضي الله عنهم، استهزؤوا بهم وقالوا: أهؤلاء من الله عليهم من بيننا بالهدى، لو كان ما جاء به محمد خيرًا ما سبقونا إليه، وما خصهم الله به دوننا54.
ومن مسلمي اليوم من يستهزىء بالملتزمين بشرع الله تعالى في أفلام فضائيات هابطة وجوالات محمولة. وهؤلاء يشبهون المنافقين في أخلاقهم وصفاتهم الذين قالوا في غزوة تبوك عن الصحابة: «ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونًا، ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء»، يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأنزل الله فيهم: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) [التوبة: ٦٥-٦٦]55.
ولما لم يجد التكذيب والاستهزاء نفعًا أمام المستمسكين بدينهم، الثابتين عليه، رفع أهل الكفر سقف المحاربة إلى التهديد والوعيد لرسل الله وأتباعهم بالإخراج من أوطانهم.
فقال الله سبحانه: (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ) [إبراهيم: ١٣].
فهذه الآية جاءت بعد الحديث عن أقوام موسى ونوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله56، والآية تكلمت بلسان الجمع (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ)، وهذا يعني أن النفي والطرد من سنة الكافرين، فقلد اللاحقون السابقين.
وهذا النفي والإخراج كان تهديدًا من قوم شعيب لشعيب عليه السلام ومن آمن معه: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [الأعراف: ٨٨].
وكذلك من قوم لوط: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [النمل: ٥٦] إلى أن جاء زمن النبي صلى الله عليه وسلم فكانت المؤامرة التي أخبر الله تعالى عنها: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ) [الإسراء: ٧٦].
وتستمر المؤامرة ضد أتباع الرسل عليهم السلام، وضد الدعاة الصادقين المنادين بتطبيق شرع الله تعالى، والواقفين في وجه الظلم والاحتلال والاستعباد. فترى السجون في طول البلاد وعرضها للدعاة المخلصين الذين نادوا بتطبيق دستور الإسلام، حتى إنه من شدة البطش والتنكيل كانت الهجرة القصرية إلى بلاد الكفر، هروبًا من بطش الظلمة في ديار المسلمين، إذ إنهم وجدوا بلاد الكفر أكثر أمنًا من بلادهم.
٢. التقليد في إنكار البعث.
اليوم الآخر يوم أخبرت به الرسل جميعًا وهو يدرك عقلًا، إن أحسن العقل التفكير. إلا أن من الناس من عطل عقله وأسلمه لغيره انقيادًا له وتبعية؛ وبات يتذرع بأن ما جاءت به الرسل، إن هو إلا أساطير الأولين.
فقال الله تعالى عنهم: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) [المؤمنون: ٨١-٨٣].
فأهل مكة قالوا مثل ما قال أسلافهم: أنه لا بعث بعد رميم العظام.
ومتكأ القوم في تكذيبهم للبعث، أنه وعد متكرر لآبائهم الأقدمين، فهم قالوا مثل ما قال أسلافهم، وكذبوا مثل ما كذب الأولون. والملاحظ أن(سورة المؤمنون) ذكرت قوم نوح، فقوم ثمود، فقرونًا آخرين، فقوم موسى ثم ذكرت حكاية أهل مكة في إنكار البعث كما في الآيات السابقة.
ويبين الله تعالى أن قوم عاد ردوا على هود عليه السلام دعوته بالإيمان بالبعث، منكرين التعذيب لهم بعد الموت، عذرهم كما وصفهم الله تعالى بأن هذا خلق الأولين، فقال الله سبحانه: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [الشعراء: ١٢٣].
إلى أن يقول عنهم: (ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ) [الشعراء: ١٣٦-١٣٨].
فقوم عاد يقتدون بمن سبقهم في إنكار البعث. وأشار القرآن الكريم إلى إنكار قوم موسى عليه السلام للآخرة، حين نهاه الله عن اتباع من صد عنها كفرًا بها، فقال سبحانه: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ) [طه: ١٥-١٦].
ويستبعد الكافر البعث؛ لأنه بزعمه مخالف للمعهود عنده. ويعبر عن ذلك بسؤال استنكاري، كما أخبر الله تعالى: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [مريم: ٦٦].
وكذلك يستعظمه؛ لأن الله في ظنه المزعوم غير قادر عليه.
يقول الله تعالى: (ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ) [الإسراء: ٤٩].
وهم يتعجبون منه، إذ يقول الله تعالى: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ) [الرعد: ٥].
ولك أن تتصور شدة العناد في إنكار البعث من أهل الكفر، حينما تعلم أن القرآن الكريم أورد آيات كثيرة إثباتًا لهذه العقيدة، أمام صلف الكفار، بل إن سورًا كسورة الكهف ومريم وسبأ يكاد يكون موضوعها الأساس إثبات البعث57.
وفي العصر الحديث أطل علينا مكر شيوعي إلحادي لا يؤمن إلا بالمادة. فكل ما هو محسوس ومشاهد فهو موجود، أما غير ذلك من غيب غير مشاهد فلا إيمان به ألبتة. وبناءً على ذلك فليس للكون نهاية ولا حدود، ولا يوم آخر!
وهؤلاء القوم امتداد للماديين قديمًا أعداء الرسل الذين تطاولوا بالمادة وأنكروا البعث.
والذي يتولى كبر إنكار البعث هم المترفون، كما يقول الله تعالى: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) [سبأ: ٣٤-٣٥].
فذكرت أنه ما من قرية أرسل الله إليها رسولًا، إلا كان من ضمن ما أنكره مترفوها: البعث(ﮛ ﮜ ﮝ). وهذا يتابع فيه المترفون اللاحقون إخوانهم المترفين السابقين أيضًا، ويحاكونهم في ذلك. وقد ذكر الله سبحانه إنكار عموم المترفين للبعث حينما تحدث عن أصحاب الشمال، فقال: (ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ) [الواقعة: ٤٥-٤٧].
ومن غرور المنكرين للبعث ظنهم أن الله أعطاهم في الدنيا أموالًا وأولادًا، اعتقادًا منهم أن ذلك كرامة لهم من الله، فلئن رجعوا إلى يوم القيامة- على تقدير حصوله عندهم حسب اعتقادهم الفاسد- فسوف يكون لهم الحسنى، فهم يعتقدون أن الله سيؤتيهم يوم القيامة خيرًا مما آتاهم في الدنيا- إن وجد حسب ظنهم-. وتكرر هذا الغرور في سورتي الكهف ومريم المتتاليتين في المصحف ترتيبًا.
فقال الله سبحانه عن رجل من بني اسرائيل58: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) [الكهف: ٣٦].
وتحدثت سورة مريم عن العاص بن وائل59: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ) [مريم: ٧٧].
فكلاهما أنكر اليوم الآخر، وزعم أنه لو جاء يوم القيامة ليكونن لكل منهما خير مما أوتي في الدنيا. وانظر للتوكيدات في الآيتين: (ﭦ) و(ﭖ)، وهذا يدل على شدة الغرور والجهل.
٣. التقليد في الاحتجاج بالقدر.
الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان، وهذا من الأركان التي يساء فهمها، ويحمل من التفسيرات ما لا يحتمل. وإساءة الفهم هذه قديمة جديدة، عايشها القدماء، وسايرها المحدثون. ولقد بين الله عز وجل في كتابه الكريم فهم الأقوام الخاطئ لهذا الركن حينما كانوا يتعذرون بالقدر على فعل المنكر، بعبادة غير الله تعالى، وتحريم ما أحل الله من الحرث والأنعام، وكذلك التلاعب في كيفية اللباس عند الطواف.
فقال الله سبحانه: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [النحل: ٣٥].
يقول المشركون: ما نعبد هذه الأصنام، ولا نحرم ما حرمنا من السوائب والبحائر، إلا بمشيئة الله ورضاه، ولولا ذلك لعاقبنا على ذلك. وهذا كما فعلت الأمم المشركة الذين استن هؤلاء سنتهم، فقالوا مثل قولهم، وسلكوا سبيلهم في تكذيب رسل الله، واتباع أفعال آبائهم الضلال.
وهذا طريق متعين لكل الكفار المتقدمين والمتأخرين في تكذيب الأنبياء وفي دفع دعوتهم عن أنفسهم60.
كذلك بين الله تعالى احتجاج الأقوام المتعاقبة على فعل المعاصي بالقدر في سورة الأنعام حيث قال الله سبحانه: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ) [الأنعام: ١٤٨].
يقول ابن عاشور: «(ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ)؛ أي: كذب الذين من قبلهم أنبياءهم مثل ما كذبك هؤلاء. وهذا يدل على أن الذين أشركوا قصدوا بقولهم: (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ)تكذيب النبي- صلى الله عليه وسلم إذ دعاهم إلى الإقلاع عما يعتقدون، بحجة أن الله رضيه لهم وشاءه منهم مشيئة رضى، فكذلك الأمم قبلهم كذبوا رسلهم مستندين إلى هذه الشبهة»61.
فهم حرموا ما أحل الله، وأحلوا ما حرم كما فعل آباؤهم، وأرادوا بذلك أنهم على الحق المشروع المرضي من عند الله!.
وكانت قبيلة من أهل اليمن يطوفون بالبيت عراة، فإذا عذلوا على ما أتوا من قبيح فعلهم وعوتبوا عليه، قالوا: وجدنا على مثل ما نفعل آباءنا، فنحن نقتدي بهم ونستن بسنتهم، والله أمرنا به62، فأنكر الله عليهم ذلك وقال: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [الأعراف: ٢٨].
فهم يحتجون على فعل الفواحش بأنهم وجدوا آباءهم عليها، وأنها طاعات أمر الله بها، فنحن نستن بسنة الآباء، ونتبع أوامر الله بزعمهم.
وقدوة هؤلاء الكفرة إبليس حينما احتج بالقدر على معصيته في عدم السجود لآدم متوعدًا بني آدم بالإغواء والإضلال؛ لأن الله أراد له الغواية -بزعمه-، فقال الله سبحانه: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [الأعراف: ١٦].
والباء سببية، كما يقول الزمخشري63.
ومن الفرق التي احتجت بالقدر على المعاصي: فرقة المباحية64 التي أسقطت الشريعة مطلقًا، وأسقطوا الأوامر والنواهي الربانية، واحتجوا على ذلك بالقدر قائلين: إن الحبيب رفع عنه التكليف65.
ومن الفرق كذلك الجبرية66 الذين سلبوا العبد قدرته واختياره، وجعلوا حركاته بمنزلة حركات الجماد لا قدرة له عليها، ولا اختيار، وكل ما خلقه الله فقد رضيه وأحبه، وهؤلاء أعرضوا عن الأمر والنهي والوعد والوعيد، وتركوا الأعمال الصالحة والأخذ بالأسباب المنجية من عذاب الله تعالى، فصاروا من جنس المشركين الذين قالوا ما ذكره الله عنهم: (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [الأنعام: ١٤٨]67.
ومن المسلمين من شاكل هؤلاء المحتجين بالقدر على المعاصي وترك الفرائض، فإن قلت لمسلم تارك لفريضة الصلاة: لم لا تصلي؟ رد مجيبًا: الله قدر لي ذلك، وعندما يهديني سأصلي، فيا سبحان الله: (ﭚ ﭛ).[مريم: ٧٨].
فعلم ما كتب الله له، أم هو مكلف بمعرفة ذلك!! أم إنه لا يدري الفرق بين علم الله تعالى بكل شيء قبل حصوله، ووقوعه كما قدر وعلم، وبين أنه مكلف بالعمل والترك كما أمر الله تعالى ونهى!
وكذلك احتج بالقدر ذرية من ذرية آدم في تبريرهم شركهم أنهم وجدوا آباءهم مشركين فتبعوهم على شركهم، فقال الله سبحانه: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ). [الأعراف: ١٧٢-١٧٣].
ومن وراء الاحتجاج الخاطئ بالقدر، تضيع الحقوق. ففي حالات القتل مثلًا، يأتي أهل الإصلاح لأولياء المقتول من باب القدر، وأن هذا الأمر مكتوب على قتيلكم، وذلك من أجل التخفيف عن المجرم أو العفو عنه. وبهذا تضيع الحقوق، فيزداد أهل الحق يأسًا، ويزداد المجرم إجرامًا.
ثانيًا: التقليد في الأحكام الشرعية:
خلق الله الكون، وهو يعلم ما يصلحه وما يفسده، ومن حقه وحده أن يضع له التشريع الذي يناسبه؛ فهو الأعلم: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [الملك: ١٤].
فالحلال ما أحل والحرام ما حرم. إلا أن من الناس من يأبى إلا أن يأتي بتشريع من لدن نفسه، فمنهم من يتلاعب في العبادات والشعائر، فيغير فيها زيادةً أو نقصًا، ومنهم من يرى لنفسه حق التشريع، فيأتي بشرع غير شرع الله تعالى.
١. التقليد في الشعائر.
الله تعالى خلقنا لعبادته، (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ) [الذاريات: ٥٦].
وحتى تكون العبادة صحيحة ومقبولة فلا بد لها من شرطين: أن تكون خالصة لوجهه الكريم، وموافقة للشرع، يقول الله تعالى: (ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ) [الكهف: ١١٠].
إلا أن من الناس من يزين له الشيطان أن يعبد الله وفق هواه، فيأتي بعبادة لم يأذن بها الله. وهذا الصنف أمرنا الله تعالى بمخالفته في عبادات منها:
أولًا: الصلاة.
بالنسبة لشعيرة الصلاة، فقد ورد في السنة المطهرة ما فيه الأمر بمخالفة المشركين، فقد روى مسلم عن جابر: (اشتكى رسول الله صلى الله عيله وسلم فصلينا وراءه، وهو قاعد، وأبو بكر يسمع الناس تكبيره، فالتفت إلينا فرآنا قيامًا، فأشار إلينا فقعدنا فصلينا بصلاته قعودًا، فلما سلم قال: إن كدتم آنفًا لتفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود. فلا تفعلوا، ائتموا بأئمتكم إن صلى قائمًا فصلوا قيامًا، وإن صلى قاعدًا فصلوا قعودًا) 68.
ففي هذا الحديث نهى عن التشبه بفارس والروم حتى في مجرد الصورة، وإن كانت نيتنا غير نيتهم.
ثانيًا: الحج.
وبالنسبة لبعض مناسك الحج، فقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ما فيه مخالفة للمشركين في الوقوف بعرفة والمزدلفة والدفع منهما، امتثالًا لقول الله عز وجل: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ) [البقرة: ١٩٨].
فقد ورد أنها نزلت في قريش، وكانوا يسمون أنفسهم بالحمس69.
كانوا لا يقفون في عرفات، بحجة أنهم لا يخرجون من الحرم وقت الطاعة، وكان غيرهم يقفون بعرفات. ومن وقف بعرفة أفاض قبل غروب الشمس، ومن وقف بالمزدلفة أفاض إذا طلعت الشمس. فأمر الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم بمخالفة القوم في الدفعتين. وذلك بأن يفيض من عرفات بعد المغرب، ومن مزدلفة قبل طلوع الشمس، فبينت السنة المراد من الآية الكريمة70.
والحديث قصد فيه مخالفة المشركين71.
وقد دفع القرآن الكريم حرج الصحابة في السعي بين الصفا والمروة حينما ظنوا أن السعي بينهما من فعل الجاهلية.
روى البخاري عن هاشم بن عروة أنه قال: قلت لعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأنا يومئذ حديث السن: أرأيت قول الله تعالى: (ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ) [البقرة: ١٥٨]. فما أرى على أحد شيئًا أن لا يطوف بهما.
فقالت عائشة: (كلا، لو كانت كما تقول، كانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار، كانوا يهلون لمناة، وكانت مناة حذو قديد، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله: (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ))72.
فمن باب حرص الصحابة رضي الله عنهم على مخالفة أفعال المشركين في الجاهلية، وألا يتشبهوا بهم في عباداتهم، تحرج بعضهم من السعي بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى ما يدفع هذا الحرج. وكان بالصفا والمروة صنمان إساف ونائلة، وقيل: إنهما رجل وامرأة زانيان، مسخهما الله تعالى فنصبا على الصفا والمروة ليتعظ بهما الناس، ثم نحر قصي بن كلاب عندهما وأمر بعبادتهما، فلما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة كسرهما كراهية لذينك الصنمين، والسعي بينهما، وكان ذلك سنة في آبائهم73.
ثالثًا: الصيام.
وفي باب الصيام، وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوضح لنا مخالفة اليهود والنصارى في صيامهم. ففي مجال الترغيب في تعجيل الفطر، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الدين ظاهرًا ما عجل الناس الفطر، إن اليهود والنصارى يؤخرون)74. قال الطيبي: «في هذا التعليل دليل على أن قوام الدين الحنيفي على مخالفة الأعداء من أهل الكتاب وأن في موافقتهم تلفًا للدين»75.
وفي مجال مخالفة اليهود والنصارى في كيفية صيام يوم عاشوراء: روى مسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقول حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى. فقال: (فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع)76.
فحينما أخبر صلى الله عليه وسلم بتعظيم أهل الكتاب ليوم عاشوراء، أضاف لصيامه التاسع؛ وذلك تركًا لمشابهتهم، وأمرًا بمخالفتهم.
٢. التقليد في الشرائع.
أمر الله تعالى كل رسول بتشريع يناسب قومه وحالهم، موصيًا إياهم بإقامته، فقال الله سبحانه: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [الشورى: ١٣].
إلا أن المشركين ردوا شرع الله تعالى، زاعمين أنهم أهل للتشريع والتحليل والتحريم؛ فضلوا وأضلوا.
قال الله تعالى: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) [الشورى: ١٣].
ولقد ذكر الله تعالى قضية التحليل والتحريم في سور كثيرة -كانت الأنعام المكية والمائدة المدنية في مقدمتها- وربطها بالعقيدة، ليبين لنا أنه لا يمكن أن تكتمل دائرة الإيمان إلا بالعقيدة والشريعة معًا.
فأهل الجاهلية إن قيل لهم: اتبعوا شرع الله في الأنعام، قالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه الآباء.
يقول الله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ) [البقرة: ١٧٠] نزلت في قبائل عربية حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام والبحيرة77 والسائبة78 والوصيلة79 والحام80 81.
والآية السابقة جاءت بعد نداء الله للناس بأكل الحلال الطيب من الأرض والنهي عن اتباع خطوات الشيطان82.
وجاء السياق بعدها يأمر المؤمنين بالأكل من طيبات ما رزقهم الله، ويبين لهم المحرمات الأربعة من المأكولات83.
ويؤيد هذا قول الله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) [المائدة: ١٠٤].
فهذه الآية جاءت بعد آية84 تنفي تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة التي كانت الجاهلية تصنع منها جزءًا من تشريعها.
فإذا دعي الكفار لاتباع ما أحل الله، واجتناب ما حرم قالوا مستكبرين: بل نتبع شرع آبائنا، فنحل ما أحلوا، ونحرم ما حرموا، فهم لنا سلف في التشريع، ونحن لهم خلف في التقليد. وهذا يظهر تغلغل التبعية للآباء في صدور المدعوين للإسلام، فحتى لو لم يكن الآباء يعقلون من أمر التحليل والتحريم شيئًا، وليس عندهم علم بما أحلوا وما حرموا، ولا عندهم كتاب اهتدوا من خلاله للتحريم والتحليل، فهم يتبعونهم في ذلك. وهذا عناد شديد وغلظة وجفوة وشدة في الصد عن دين الله تعالى.
وأراد قوم من الصحابة رضي الله عنهم أن يوجدوا تشريعًا لهم من عند أنفسهم، تشبهًا بالنصارى وذلك بتحريم بعض الطيبات من النساء والطعام كما يفعل القسيسون والرهبان، واتفقوا على صيام النهار، وقيام الليل، ولا يأكلوا اللحم ولا الودك ولا يقربوا النساء والطيب، وأن يلبسوا المسوح، ويترهبوا، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهاهم عن ذلك، ونهاهم عن التشبه بالقسيسين والرهبان. وبين أن تشددهم كان سببًا لهلاكهم، فأنزل الله تعالى قوله: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ) [المائدة: ٨٧]85.
فالصحابة أرادوا تحريم طيبات أحلت لهم؛ فكان النهي عن ذلك، وسماه الله اعتداءً، فهذا ليس لهم ولا للبشر. وقد عد الله تعالى طاعة الجاهليات التي تتواصى بمجادلتنا في شرع ربنا شركًا، فقال الله سبحانه: (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ) [الأنعام: ١٢١].
والاعتداء على التشريع، لا يقتصر على تحريم طيبات أحلت، وتحليل خبائث حرمت. فالقضية قضية مبدأ، ولمن يكون التشريع في الأمور كلها، هل يكون لله وحده سبحانه؟ أم يكون للبشر؟ وبناءً عليه وجدنا الأحبار والرهبان نصبوا من أنفسهم آلهة لها الحق في التشريع بما تهوى أنفسهم، فكان لهم أتباع اتخذوهم أربابًا من دون الله.
يقول الله تعالى: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) [التوبة: ٣١].
روى الترمذي عن عدي ابن حاتم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: (يا عدي اطرح عنك هذا الوثن، وسمعته يقرأ في سورة براءة: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ)قال: أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئًا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئًا حرموه)86.
وكان على شاكلة هؤلاء، العرب الذين جاءهم عمرو بن لحي بتشريع جديد، غير فيه دين إبراهيم عليه السلام، فاتبعه جهلة العرب يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (رأيت عمرو بن عامر بن لحي الخزاعي يجر قصبه في النار، وكان أول من سيب السوائب)87.
فهناك المشرعون في الأرض من دون الله، ولهم أتباع يأخذون بتشريعهم. فحق الحاكمية المطلقة-كما يبين سيد قطب- لله وحده، والبشر مجردون من مزاولة هذا المبدأ في أي صورة من الصور. وحينها تكون الصغيرة كالكبيرة، ولا يهم أن يكون الأمر أمر ذبيحة، أو أمر دولة، فهذه كتلك من ناحية المبدأ88.
ولقد أخبرنا القرآن العظيم عن تشريعات أهل الكتاب وأهل الجاهلية المخالفة لشريعة الله تعالى، من رفض لحكم الله تعالى سواءٌ في النظام الاجتماعي، أم النظام الاقتصادي، أم نظام العقوبات، أم غيرها من النظم. وتوالت الجاهليات في ذلك مستبدلة تشريع الله تعالى بتشريعها، تاركة كتاب ربها وراءها ظهريًا، وشرعت ما لم يأذن به الله.
فقد روى مسلم عن البراء بن عازب قال: (مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محممًا مجلودًا، فدعاهم صلى الله عليه وسلم فقال: هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم. فدعا رجلًا من علمائهم فقال: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك. نجده الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، وكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد. قلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه. فأمر به فرجم، فأنزل الله عز وجل: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ)الى قوله (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [المائدة: ٤١].
يقول: ائتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا89.
فاليهود شرعوا التحميم والجلد على الزاني المحصن بدل الرجم مخالفين بذلك تعاليم التوراة. والحديث يبين لنا أن اليهود كثر في أشرافهم الزنا، وعز عليهم أن يقيموا عليهم الحد، فغير الأحبار شرع الله تعالى من الرجم إلى الجلد والفضيحة والتحميم. ولقد حاول بعض الصحابة رضي الله عنهم أن يفعلوا فعل اليهود بتغيير حد السرقة في المرأة المخزومية التي سرقت، لأنها من قبيلة لها اعتبارها وشأنها، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، مبينًا لهم أن عدم إقامة الحد على الشرفاء وعلية القوم، وإقامته على الضعفاء فقط، ديدن الأمم السابقة، وكان هذا سببًا في هلاكهم.
فقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها: أن قريشًا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة ابن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتشفع في حد من حدود الله). ثم قام فاختطب، ثم قال: (إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)90.
وهذا التحاكم المذموم حسب الأهواء صفة المنافقين إخوة اليهود في الأخلاق، فقد أخبر الله تعالى عنهم فقال: (ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [النور: ٤٧-٤٨].
وهذا ينطبق على ساسة الأمة اليوم في عدم قبول حكم الله تعالى واستبدالهم إياه بحكم الطاغوت. فقانون البشر الوضعي هو المطبق في حياة الأمة الإسلامية، بدل الشريعة الإسلامية. ففي الناحية الاجتماعية، تجد خروج المرأة كاشفة عن مفاتن جسمها، أمر يحفظه القانون! واتخاذ الخليلات حرية شخصية لا يجوز التعرض لها، فالقانون يكفله! ولم نر حالة رجم أو جلد لزانٍ- وما أكثرهم- بل هي حرية شخصية لا يعاقب عليها القانون، بل يحميها!. وفي المجال الاقتصادي تجد التعامل بالربا عنوان غالبية البنوك في طول بلاد المسلمين وعرضها. وفي مجال العقوبات لم نر أي قطع يد للسارق- وما أكثرهم-، بل يسجنون شهورًا أو قليلًا من السنين، ثم يخرجون محترفين أكثر، هذا إن كان من العامة، أما علية القوم، فمعفو عنهم، مبرر لهم. ولم تكن هناك حالة قصاص لقاتل عمدًا، بل يقتل من لا ناقة له ولا جملًا من أقربائه. وهكذا نجد أن حياتنا يحكمها الحكم الذي قلد الطاغوت العلماني الغربي، لا بحكم الله تعالى. (ﯾ ﯿ ﰀﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ) [المائدة: ٥٠].
ثالثًا: التقليد في الأخلاق:
بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم ليتمم مكارم الأخلاق، ووصف الله عز وجل خلقه فقال: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [القلم: ٤].
ومكارم الأخلاق جاءت الأنبياء عليهم السلام لتبثها في الناس، ناهية في الوقت ذاته عن سيئها. وجاء القرآن الكريم ليحذر المؤمنين من التشبه بأخلاق أهل الكتاب والمنافقين والمشركين. ومن هنا سيكون تحت هذا المسألة العناوين الآتية:
١. تقليد أخلاق أهل الكتاب.
تحدث القرآن الكريم كثيرًا عن أهل الكتاب، مبينًا للمسلمين صفاتهم وأخلاقهم السيئة، ليكونوا على بينة من دينهم، وليحذروا هذه الصفات؛ حتى لا يصيبهم ما أصابهم. ومن صفات أهل الكتاب التي حذر القرآن المؤمنين منها: قسوة القلب، وقلة الأدب مع الرسل عليهم السلام، وإيذاء الأنبياء عليهم السلام، والتفرق والاختلاف.
فقسوة القلب نتيجة طبيعية لاقتراف المعاصي، والقلوب القاسية توعدها الله تعالى بالويل، فقال سبحانه: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) [الزمر: ٢٢].
ولقد اتصف أهل الكتاب بهذه الصفة- وخاصة اليهود- حينما طال عليهم الأمد؛ فلما كان الأمر كذلك نهى الله تعالى المؤمنين عن مشابهتهم في هذه الصفة الذميمة، وأمرهم بطاعته والخشوع لذكره، فقال الله سبحانه: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [الحديد: ١٦].
وسبب نزولها: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا قد أصابوا من العيش ما أصابوا بعد ما كان بهم القحط والجهد، ففتروا عن بعض ما كانوا عليهم من الطاعة. أو أنهم أخذوا رضي الله عنهم في المزاح فنزلت91.
والآية تنهى المؤمنين أن يسلكوا طريق أهل الكتاب في الانغماس في الشهوات ومتابعة الملذات؛ فتكون النتيجة قسوة قلوبهم، كما قست قلوب أهل الكتاب. والناظر اليوم لأمة الإسلام يجد هذه الصفة الذميمة موجودة في كثير من أبناء الأمة، لكثرة الذنوب، لا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا. فشابهنا اليهود في حب الدنيا فكثرت الذنوب، فكانت النتيجة تشابهًا في قسوة القوب.
ومن أخلاق اليهود التي نهانا الله تعالى عن التخلق بها، قلة الأدب مع الأنبياء وإيذاؤهم. فنهى الله تعالى المؤمنين عن التشبه باليهود في قلة التأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول الله سبحانه: (ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [البقرة: ١٠٤].
وسبب نزولها- كما ذكر السيوطي- أنه: كان رجلان من اليهود: مالك بن الصيف، ورفاعة بن زيد إذا لقيا النبي صلى الله عليه وسلم قالا وهم يكلمانه: راعنا سمعك واسمع غير مسمع، فظن المسلمون أن هذا الشيء كان أهل الكتاب يعظمون به أنبياءهم، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فأنزل الله تعالى: (ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ)92.
وكلمة راعنا سب بلغة اليهود يورون عنها بالرعونة، وكان المسلمون يقولونها ظنًا منهم أن الأنبياء تفخم بها، فكره الله تعالى للمؤمنين أن يقولوه لنبيهم ذلك؛ سدًا للذريعة، ونهيًا عن تقليد اليهود في قصدهم. فالله تعالى نهى المؤمنين عن التشبه باليهود في أقوالهم وكيفية مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم. وكانت اليهود لهم كلمة عبرانية يتسابون بها تشبه كلمة (راعنا) وهي (راعينا) ومعناها: اسمع لا سمعت، أو أنت راعي غنمنا، وكان المؤمنون يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم إذا حدثهم بحديث: راعنا يا رسول الله، أي: راقبنا وانظرنا حتى نفهم كلامك ونحفظه، فتلقفها اليهود لموافقتها الكلمة السيئة عندهم، وأخذوا يلوون بها ألسنتهم، إساءة للنبي صلى الله عليه وسلم موهمين أنهم يريدون الانتظار، فنهى الله عز وجل المؤمنين عن هذه الكلمة، حتى لا يتخذها اليهود وسيلة الى إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، وكرهها لهم93.
ولقد حاكى اليهود الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم، أسلافهم في إيذاء الأنبياء عليهم السلام. فقد آذوا الأنبياء بالقتل والتعنت والصلف، وعدم طاعتهم، وعلى رأس هؤلاء الأنبياء الذين تعرضوا لإيذاء اليهود سيدنا موسى عليه السلام، فقال الله سبحانه مخبرًا عن هذا الإيذاء: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ) [الصف: ٥].
ومن إيذاء اليهود لموسى عليه السلام ما رواه البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه وسلم: (إن موسى كان رجلًا حييًا ستيرًا لا يرى من جلده شيء؛ استحياء منه. فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا: ما يستتر هذا التستر إلا من عيب بجلده، إما برص وإما أدرة94 وإما آفة، وإن الله أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى، فخلا يومًا وحده فوضع ثيابه على الحجر ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني اسرائيل، فرأوه عريانًا أحسن ما خلق الله وأبرأه مما يقولون...فذلك قول الله تعالى: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ))95.
فجاء القرآن الكريم ناهيًا المؤمنين أن يفعلوا فعل اليهود بإيذاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [الأحزاب: ٦٩].
فالله تعالى ينهى كل مؤمن أن يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم بقول يكرهه، أو بفعل لا يحبه، ونهاهم أن يكونوا أشباه الذين آذوا موسى عليه السلام.
وقد وقع الخلاف فيما أوذي به النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلت هذه الآية، فبين النقاش: أن إيذاءهم للنبي صلى الله عليه وسلم بقولهم: زيد بن محمد. وقيل: نزلت في شأن زيد بن حارثة وزينب بنت جحش، وما سمع فيه من قالة بعض الناس، أو إيذاءه في اتهام زوجته الطاهرة عائشة رضي الله عنها بالفاحشة من قبل أصحاب الإفك، وقول بعضهم وقد قسم مالًا: اعدل فينا يا رسول الله. فقال له: ويحك إذا لم أعدل أنا فمن يعدل؟ وكان يقول: يرحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر96.
فالله تعالى ينادي مؤمني هذه الأمة ناهيًا إياهم عن إيذاء نبيهم بأدنى أذى، ولا يكونوا كبني إسرائيل الذين آذوا موسى في غير موطن.
ومن الذين حاكى اليهود في إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم، المنافقون إذ طعنوا في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فاتهموها بالفاحشة.
حيث أنزل الله تعالى في رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول وأناس معه قذفوا عائشة، قوله سبحانه: (ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ) [الأحزاب: ٥٧]97 .
فنحن نرى أن سورة الأحزاب، تتحدث عن إيذاء المنافقين للنبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك عن إيذاء اليهود لموسى عليه السلام، ونهينا عن التأسي بالفريقين. ومعلوم أن المنافقين إخوان اليهود في أخلاق السوء، بنص القرآن: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ) [الحشر: ١١].
وتتوالى الأنفس المريضة الكافرة في إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، متبعًا اللاحق منها السابق، سواء بالاعتداء على شخصه أو أتباعه المؤمنين، أم بالافتراء والكذب عليه بوضع الحديث. ويتداول خلق الإيذاء هذا أناس، منهم المشركون ومنهم اليهود ومنهم المنافقون، حتى العصر الحديث. ففي العهد المكي: كان من أوائل من آذوه عمه أبو لهب وزوجته حمالة الحطب. وألقى الشقي عقبة بن أبي معيط سلا الجزور على ظهره صلى الله عليه وسلم. وفي العهد المدني آذاه اليهود بالقول والفعل، فقد كان اليهودي كعب بن الأشرف يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم بشعره، وحاول يهود بني النضير إيذاءه بالقتل. ويتوالى الإيذاء في العهد الأموي، حيث وصف النصراني الحاقد يوحنا الدمشقي الرسول صلى الله عليه وسلم باستغلاله الدين لمصالحه الشخصية. ويتبع مرضى العصر الحديث أسلافهم المرضى في إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم، ويشابه هذا الإيذاء، ما كان من صحيفة بلاند بوستن. وكذلك ما كان من فيلم الإساءة للنبي صلى الله عليه وسلم والذي عرض في أمريكا.
إن الإيذاء للرسول صلى الله عليه وسلم ولدينه، تتشابه فيه فئات من الناس على اختلاف ألوان مللهم، وعلى توالي الزمان، ونسمع من المسلمين- وللأسف- شتمه للنبي صلى الله عليه وسلم. ومنهم من لا يتأدب عند رواية أحاديثه، ولا عند مناقشتها، ولا عند رؤية من يلتزم بسنته صلى الله عليه وسلم، وهذا كله من الإيذاء.
ومن أخلاق السوء التي نهانا الله عن امتثالها، وعن فعلها كما فعلها أهل الكتاب: التفرق والاختلاف والتشرذم.
يقول الله تعالى: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ) [آل عمران: ١٠٥].
أي: لا تكونوا يا معشر المؤمنين كأهل الكتاب الذين تفرقوا واختلفوا في دين الله تعالى، وخالفوا أمره، من بعد ما جاءهم البينات. فلا تفعلوا فعلهم، وتستنوا سنتهم98.
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم تفرق اليهود والنصارى وتفرق أمة الإسلام في حديث واحد، حيث قال: (تفرقت اليهود على إحدى وسبعين أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)99.
وفي هذا دلالة على وقوع التفرق والاختلاف في الأمة كما وقع في أهل الكتاب.
ويحذرنا الله عز وجل في آيات أخرى من مشابهة أهل الكتاب في التفرق، فيقول سبحانه وتعالى: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ) [الروم: ٣١-٣٢].
وأوحى الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، أن يتبرأ من الذين تفرقوا في دينهم، وأصبحوا شيعًا وأحزابًا. والتبرؤ يقتضي المخالفة، وترك المشابهة بأفعالهم وتفرقهم. فقال الله سبحانه وتعالى: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [الأنعام: ١٥٩].
ومن كرامة هذه الأمة على الله تعالى، أن يأمرهم بما أمر به أولي العزم من الرسل، وينهاها عما نهاهم عنه، فقال الله سبحانه: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [الشورى: ١٣].
وهذا فيه حث لهذه الأمة أن تسلك سبيل صفوة الصفوة من الخلق وهم أولوا العزم وتلتزم بصفاتها، وألا يسلكوا سبيل من اتبع غير سبيل المؤمنين.
والناظر لحال أمة الإسلام يرى التفرق والتشرذم والتناحر والتباغض، سواء على مستوى الأفراد، أم الجماعات، أم المؤسسات، أم الدويلات الإسلامية. كل مستوى يخطئ الآخر، ويرى نفسه الحق، وما عداه باطل، وسرى هذا الداء إلى أنفس العاملين للإسلام. وقليل من أبناء الأمة من ينظر بعين الحاذق إلى حقيقة الاختلاف، وأنه لا يجوز -ولا بأي حال- أن يؤدي إلى تناكر القلوب وتباغضها. وتعددت الأفكار والرؤى التي ينتمي إليها أبناء المسلمين، فأصبحنا شيعًا وأحزابًا، كل حزب بما لديهم فرحون. وانتشرت البغضاء فيما بين هذه الأحزاب، حتى ضرب بعضها رقاب بعض، ولا أدل على ذلك مما حصل في فلسطين، حينما كانت الاستجابة لأوامر يهود.
٢. تقليد أخلاق المنافقين.
النفاق صفة ذميمة يلجأ إليها بعض البشر حينما لا يستطيعون الوصول الى أهدافهم بسهولة، فيلجأون الى النفاق. وهذه الفئة البشرية تتصف بصفات بذيئة، ويتخلقون بأخلاق مسمومة ذميمة، حذرنا الله تعالى منها، والتشبه بها، أو سلوك سبيلهم في مثل هذه الأخلاق. ومن صفاتهم الذميمة التي نهينا عن تقليدهم فيها: الظن السيء، والإعراض عن الحق، والخوض في آيات الله بالباطل.
لقد جاء القرآن الكريم ينهانا عن التأسي بالمنافقين في صفتهم الظن السيء الذي ينص على أن خروج المؤمنين غزاة طائعين لله تعالى سبب في قتلهم وموتهم.
فقال الله سبحانه: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ) [آل عمران: ١٥٦].
وهذه في عبدالله بن أبي بن سلول وأصحابه المنافقين100. وصيغة (ﯧ ﯨ) صيغة استقبال في معنى الاستمرار101.
وهذا الظن السيء، يتكرر ويتجدد، مشابهة للمنافقين السابقين. فترى ضعاف الإيمان يثبطون عن الجهاد والاستشهاد، قائلين لإخوانهم المجاهدين: لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا! ولو لم يجاهدوا ما غيبوا في غياهب السجون! ولو لم يخالطوا المجاهدين ما أبعدوا عن أوطانهم ولا توقفت عطاياهم!
ولقد شابه المنافقين في الظن السيء، ظن أهل الجاهلية، الذين ظنوا أن الله تعالى لا ينصر رسوله والمؤمنين، فقال الله سبحانه: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ) [آل عمران: ١٥٤].
يقول ابن القيم: «وقد فسر هذا الظن الذي لا يليق بالله، بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وأنه يسلمه للقتل، وقد فسر بظنهم أن ما أصابهم لم يكن بقضائه وقدره، ولا حكمة له فيه»102.
وتتجدد واقعية الآية، وتتكرر أخلاق النفاق في زماننا اليوم، إذ التثبيط عن الجهاد، والتخويف من شأنه وشأن المجاهدين وسلاحهم، مقابل تهويل المنافقين لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب. ويظنون بالله ظن السوء، وأن الله تعالى لن ينصر العاملين لدينه المستمسكين بحبله المتين، فهم لا قبل لهم بأعدائهم، فعدتهم أضعف من عدة عدوهم. كذلك ينتظر هؤلاء المنافقون، عثرات المجاهدين والإصابة منهم.
فصدق قول الله فيهم: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [التوبة: ٥٠].
ومن أخلاق النفاق، التي كان الزجر عن التشبه بها: خلق الإعراض عن الحق، حيث يقول الله تعالى: (ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ) [الأنفال: ٢٠-٢١].
فصفة المنافقين أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، يقولون: نسمع كلام الله، لكنهم لا ينتفعون بما سمعوا، ويتولوا وهم معرضون.
يقول القرطبي: «فدلت الآية على أن قول المؤمن: سمعت وأطعت، لا فائدة فيه ما لم يظهر أثر ذلك عليه بامتثال فعله»103.
واليوم ترى الذين في قلوبهم مرض يتولون عن أمر الله تعالى، فهم يقولون: سمعنا، وهم لا يسمعون. فكم من سامع لآيات الله تتلى عليه سماع أذن لا عمل فيه. فمثلًا تنهى عن التشبه بالكفار في التحاكم إلى الطاغوت فلا استجابة، وتنهى عن التشبه بالكفار في الزي والمظهر فلا سمع ولا طاعة، وتؤمر الفتاة المقلدة لفاجرات الكفر، بمواراة السوءة فلا تلبي، وتنهى عن نصرة الظالم بالباطل -كما هي جاهلية مكة الأولى- فلا تلبية ولا استجابة، وتنهى عن أكل أموال الناس بالباطل فلا يستجيبون.
ومن صفات المنافقين التي ذكرها القرآن الكريم: الخوض في آيات الله بالباطل والاستهزاء بها، ومن شدة خطورة هذه الصفة، لم ينهنا الله تعالى فقط عن فعلها، بل وعن الجلوس مع الخائضين والمستهزئين بها، فقال الله سبحانه: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ) [النساء: ١٤٠].
وأمر الله المؤمنين بالإعراض عمن هذه صفته، نراه في قول الله سبحانه: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ) [الأنعام: ٦٨].
وهذه «نزلت في قوم من المنافقين كانوا يجلسون إلى أحبار اليهود، فيسخرون من القرآن، ويكذبون به ويحرفونه، فنهى المسلمين عن مجالستهم.
قال ابن عباس: ودخل في هذه الآية كل محدث في الدين ومبتدع إلى يوم القيامة»104.
والأمر بالإعراض عن الخائضين من المنافقين، وعن مجالستهم، أبلغ في الزجر من النهي عن مشابهتهم في هذا الخلق الذميم.
يقول أبو السعود: «المراد بالإعراض: إظهار المخالفة بالقيام عن مجالستهم، لا الإعراض بالقلب أو بالوجه فقط»105.
ومن الجلوس مع المستهزئين بآيات الله، الجلوس أمام شاشات بعض الفضائيات التي تستهزىء بالعاملين لدين الله تعالى، وتصورهم بصور تنفر العامة من الدين، كأن تصورهم بأنهم قاطعوا طريق، أو أصحاب قوة يستخدمونها في سفك الدماء والاعتداء على حقوق الناس، وأنهم إرهابيون. كل ذلك وأمثاله من باب الطعن والنيل من المعتصمين بدين الله تعالى، وتنفير الناس منهم.
فصدق قول الله فيهم: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) [التوبة: ٦٥-٦٦].
٣. تقليد أخلاق المشركين.
المشرك له من الأخلاق الذميمة الكثير، فهمه الأكبر نفسه، ينظر إليها على أنها غايته، فيحقق لها ما يستطيع من متاع الدنيا، وكلما ازداد في البحث عن شهواته ورغباته، ازداد تأصل الأخلاق السيئة في نفسه. وذكر الله أخلاقًا للمشركين لنكون- نحن المؤمنين- أبعد الناس عنها تشبهًا وتقليدًا وفعلًا. ومن أخلاق المشركين التي نهينا عن التخلق بها، خلق البطر والرياء، والعصبية القبلية النتنة، والتبرج المذموم.
فعن خلق البطر والرياء، يقول الله تعالى: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) [الأنفال: ٤٧].
لما رأى أبو سفيان أن عيره نجت، أرسل إلى أبي جهل يخبره بذلك، طالبًا منه العودة، إلا أن أبا جهل ركب رأسه وقال: والله لا نرجع حتى نرد بدرًا، فنقيم عليها ثلاثًا، فننحر الجزر، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدًا106.
فالكبر والبطر يملآن قلب أبي جهل. فكان النهي الرباني للمؤمنين عن أن يزاولوا مثل هذه الأخلاق، وزجرهم أن يكونوا مثلهم في أفعالهم.
وهكذا يتكرر فعل أبي جهل، من قبل أحفاده، نظروا إلى الدنيا، ظانين أن النصر من خلال الخمر والسهر والقيان، فشربوا الخمر حتى ثملوا، وعزفت لهم القيان، فضاعت العباد والبلاد. ولو أنهم كانوا ممن عرف الله، لأقاموا الليل بالقرآن، بدل عزف القيان، ولسمعوا قول الله تعالى وهو يناديهم: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) [الأنفال: ٤٧].
سماع المجيب، ولكان قدوتهم جند صلاح الدين الذين كان وصفهم: رهبان بالليل، فرسان بالنهار. فاستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، فكانت الذلة والمسكنة، كما كان حال أبي جهل الذي شرب كأس المنايا بدل كأس الخمر، وناحت عليه النوائح بدل زغاريد القيان، وذكرتهم العرب بالصغار بدل الفخار. وما زالت الأمة تتجرع كأس الهوان من وراء أفعال أتباع أبي جهل البطر الأشر.
ومن أخلاق المشركين التي نزل فيها القرآن يحذر المسلمين من مزاولتها: دعوى الجاهلية، فقد قال الله عز وجل: (ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ) [آل عمران: ١٠٠-١٠١].
وسبب نزولها أن شاس بن قيس اليهودي -وكان شديد الضغن على المسلمين- مر على نفر من الأوس والخزرج في مجلس جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ألفتهم بالإسلام من بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من عداوة، فقال: والله مالنا معهم إذا اجتمعوا بها من قرار، فأمر شابًا من اليهود أن يعمد إليهم، ويذكرهم بعاثًا107، وما كان فيه من قتل بينهم، ففعل، فتنازع الفريقان، مناديًا كلًا منهما قبيلته فخرًا، كما كانوا عليه في الجاهلية. فبلغ ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا معشر المسلمين، أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم، بعد أن أكرمكم الله بالإسلام وألف بين قلوبكم. عندها عرفوا أنها نزعة الشيطان، فتعانقوا، فأنزل الله الآيات السابقة108.
ففي هذه الآية يحذر الله تعالى المؤمنين من إثارة الجاهلية والنعرات العصبية، التي أثارها اليهود بينهم، مبينًا أن طاعة اليهود توصل إلى الكفر والردة بعد الإسلام والإيمان.
ويعيد التاريخ نفسه، ويحسد الكفار المسلمين على تجمعهم ووحدتهم وتآلفهم، ويقف التآلف هذا عقبة في وجه الاستعمار في العصر الحديث، ففكر أحفاد شاس بن قيس، كما فكر في الإيقاع بين المسلمين، ونشر دعوى الجاهلية؛ لتسهل السيطرة وليهون الاستيلاء. فقد أقيمت الجامعة الإسلامية في أواخر الدولة العثمانية على أساس إعادة الوحدة للأمة، ونشر ثقافة المقاومة للمستعمر، فما كان من دول الاستكبار يرأسهم يهود، إلا أن أثاروا النعرات الإقليمية في أوساط الشعب الإسلامي الواحد، وكان في الأمة أمثال أبي رغال109 الذين يصنعون من أنفسهم جسرًا لعبور الأجنبي الدخيل إلى حصن الأمة، فنعقوا بما نعقت به السياسة البريطانية (فرق تسد)، وسبحوا بحمد النعرات القبلية، التي أثارها المستعمر في البلاد الإسلامية. فأثار في المصريين الفرعونية، وفي العراق الآشورية، وفي فلسطين الكنعانية، وكان هذا في البداية على مستوى الدولة الإسلامية الأم، ثم لما كان ذلك للمستعمر من خلال الأبواق الناعقة بلغته وفكره، مقلدة له في هذه النعرات، راح ينشر فكر العصبية والقبلية النتنة على مستوى الدويلة نفسها، فأخذ ينشر ثقافة مدني وفلاح، وقروي وحضري، وفي بلادنا ثقافة لاجئ وغير لاجئ. وهكذا كان للقبيلة وتعظمها بالآباء مكان في أنفس المقلدين الناعقين بما نعقت به الصهيونية والصليبية.
وكذلك نشر الاستعمار، العصبية القبلية، والعنصرية البغيضة، باسم القومية العربية، وذلك من أجل فصل العرب عن جسمهم الأم دولة الإسلام التي كانت متمثلة في الدولة العثمانية. والقومية العربية فكرة صليبية حاقدة، تهدف إلى ما هدف إليه شاس بن قيس من تفتيت الأمة وضياعها وتفرقها.
وهكذا نجد الثمار الخبيثة التي حذرت منها آيات آل عمران السابقة من تفرق الأمة، وضرب بعضهم رقاب بعض، والخلافات الحدودية والسياسية وغيرها، موجودة اليوم.
ومن بلاغة الآية وإعجازها: (ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ) [آل عمران: ١٠٠].
أنها حذرت من طاعة أهل الكتاب اليهود والنصارى-جميعًا، ولم تذكر اليهود فقط الذين كانوا سببًا في نزول الآية؛ وذلك لعلم الله تعالى أن أمر الدس والتفريق سيتكرر، لكن على يد النصارى هذه المرة، وإن كانت اليد اليهودية الأثيمة لها شأن في ذلك.
ومن الأخلاق التي انتشرت في الجاهلية ونهى القرآن عن التشبه بها أو مقارفتها، خلق التبرج، حيث يقول المولى عز وجل: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ) [الأحزاب: ٣٣].
وتبرج الجاهلية: كان بخروج المرأة تمشي بين يدي الرجال، مع تكسر وتبختر وتغنج، أو أنها تلقي الخمار على رأسها، ولا تشده، فيواري قلائدها وقرطها110 وعنقها، ويبدو ذلك كله منها، مما يستدعي به شهوة الرجل 111.
فجاء القرآن الكريم ناشرًا العفة والطهر في المجتمع، بنهيه عن التشبه بالكافرات الفاجرات، وألا يتبرجن مثل تبرجهن. ولئن كان النهي في الآية لأمهات المؤمنين رضي الله عنهن، إلا أنه يعم المسلمات جميعًا.
يقول الشوكاني: «ولا تبرجن أيها المسلمات بعد إسلامكن تبرجًا مثل تبرج أهل الجاهلية التي كنتن عليها، وكان عليها من قبلكن، أي: لا تحدثن بأفعالكن وأقوالكن جاهلية تشابه الجاهلية التي كانت من قبل»112، ولئن نهت الآية عن تبرج مثل تبرج الجاهلية الأولى، إلا أن الجاهلية تتكرر، ولا تختص بفترة زمنية معينة، بل هي حالة اجتماعية معينة، لها تصورات معينة للحياة، ويمكن أن توجد هذه الجاهلية في أي مكان وفي أي زمان113.
لقد حرر الكفر اليوم المرأة على طريقته الشيطانية حينما تعرت على عينه من لباس الباطن لباس التقوى أولًا، ثم من لباس الظاهر لباس الحشمة والوقار ثانيًا، فنشره الغربي في شارعه ومتجره وجامعته، بل وأنشأ دورًا خاصة للعري والبغاء، وعز عليه حسدًا أن يرى المسلمات محتشمات عفيفات فصنع على عينه من شراذم الأمة، من يتطبع بطبعه، ويصنع رذيلته، وينقل فكرته إلى ديار المسلمين، تقليدًا للكافرات الفاجرات.
فانتشرت فكرة تبرج الجاهلية الأولى في ديارنا، حتى غدا في جامعاتنا، ومدارسنا، وقرانا ومدننا، وفي السفر والحضر، وفي الحل والترحال، وهذا مصاحب بالزينة، والجلسات المشبوهة، خاصة في الجامعات، فأصبح هذا الجانب من التبرج لا تختلف فيه بشيء كثير عن جاهلية الغرب الذي صدر لنا هذا التهتك والعري، فاستقبله كثير من جاهلات الأمة ظنًا منهن أنه الرقي والفخار. فكانت جاهلية اليوم أشد من جاهلية الأمس في تبرجها هذا.
لما كان لكل عمل نتيجة، ولما كانت الأسباب مرتبطة بالمسببات، كان لما يصدر عن الإنسان المكلف من أعمال، نتائج وآثار، والمرء حينما يقوم بأعمال متشبهًا فيها بغيره، فإنه ينجم عن ذلك نتائج وآثار، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، وذلك حسب المتبوع وأعماله المقلدة.
والإنسان المكلف يتحمل تبعة تقليده للآخرين، والآثار الناتجة عن ذلك، سواءٌ أكان ذلك في الدنيا أم في الآخرة، ومن هنا سيكون هذا المبحث ضامًا للمطلبين الآتيين:
أولًا: آثار التقليد في الدنيا:
الصاحب مع صاحبه مؤثر أو متأثر، وكذلك الجماعات والدول، ترى فيها التابع والمتبوع. والأعمال المتبعة منها خير ومنها شر، والخير ينتج عنه الخير، والشر لا ينتج عنه إلا الشر. والتقليد لأعمال السوء لا ينتج عنه إلا السوء. ففي الدنيا تنتشر التفرقة، ويتخلى الله تعالى عن هذا الصنف من الناس فيخذلهم ولا ينصرهم، وتكون الموالاة السيئة لأعداء الله تعالى، حيث الفساد والردة. ومن هنا يندرج تحت هذا المطلب الأمور الآتية:
١. التفرق والميل عن سبيل الله تعالى .
يقول المولى عز وجل: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ) [الأنعام: ١٥٣].
جعل الله تعالى البشر فريقين: فريقًًا يدعو إلى الجنة، وفريقًا يدعو إلى السعير. والذي يدعو إلى الجنة له طريق واحد لا ثاني له يتلقاه من ربه عز وجل، فيلتزم به ويدعو إليه، أما الذين يدعون إلى النار فإنهم كثيرون، يتلقون الأوامر والنواهي من جهات شتى، فيدعو كل منهم حسب هواه إلى بدعته، ولهذا كانت لهم سبل شتى يدعون إليها أتباعهم، فتكون نتيجتها التفرق والاختلاف والشتات والزيغ والضلال.
وآية الأنعام السابقة كانت خاتمة للوصايا العشر114 التي وردت في آيتين سابقتين لهذه الآية. والذي وصى به ربنا، في هاتين الآيتين هو صراطه ودينه الذي ارتضاه لعباده، وهو طريق قويم لا اعوجاج فيه، أمرنا بالعمل به، وأن نجعله لأنفسنا منهاجًا نسلكه، وألا نسلك منهاج غيرنا، من اليهودية والنصرانية والمجوسية والعلمانية والإلحادية وغيرها من سبل الكفر، ولئن سلكنا هذه السبل فمصيرنا التشتت بنا عن طريقه ودينه الذي ارتضاه وهو الإسلام وهذا ما هو حاصل للأمة اليوم.
فسبيل الحق واحد لا تشعب فيه، وسبل الباطل كثيرة كالبدع والخوض في الباطل، والأهواء ومبادئ الضلال، وهذا كله تضاد يسبب التفرق والتشرذم.
يقول ابن كثير: «إنما وحد سبيله لأن الحق واحد، ولهذا جمع السبل لتفرقها وتشعبها»115.
والذي يأتي بما يخالف شرع الله تعالى فإنه مبتدع، والبدعة تتضمن تفريق الأمة الإسلامية؛ إذ إن صاحب البدعة، يدعي أنه على الحق وغيره ضال، وبهذا يتفرقون ويصبحون شيعًا وأحزابًا.
وهذا حاصل اليوم، فعلى مستوى الأفكار والرؤى، يوجد في الأمة من ابتدع فكرة العلمانية متبعًا فيها الغرب العلماني، وفي الأمة من اتبع بدعة الشيوعية الملحدة، وكل منهم ينظر لنفسه أنه على الحق والقادر على إعادة حقوق الأمة المسلوبة، وتحرير مقدساتها، ويذم الآخرين؛ فتفرقوا.
والفرق بين الفريقين أن أهل الحق وإن اختلفوا في أمر اجتهادي فسرعان ما يحتكمون للكتاب والسنة فيلتزمون، وكل يخضع للحق، فتبقى صفة الوحدة والألفة شعارهم، بينما أهل الضلال كل واحد منهم يركب رأسه، ويريد تعظيم نفسه، وتصغير الآخرين، ولا يريد الحق، فتجدهم دائمًا في اختلاف وصراع، لتشعب مناهجهم وتنوعها، وكل حين يخرج منهم مذهب جديد 116.
ومنهج الله تعالى واحد، وكتابه واحد، والذين يتبعونه من الأمة يكونون موحدين، أما غير منهج الله فإنها مناهج مفرقة مشتتة وفيها الاختلاف الكثير، وما دام الأمر كذلك فإن نتيجة متبعيها التفرق والتشتت والميل عن سواء السبيل.
يقول الله عز وجل: (ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [النساء: ٨٢] .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم)117.
فاختلاف القلوب مسبب لتباغض القلوب وتناحرها وتفرقها.
٢. الخذلان وفقدان النصير.
بين الله سبحانه للبشر طريق الخير وأمرهم بها، وبين لهم طريق الشر وحذرهم منها. ومن خالف ذلك متبعًا مخالفي أوامر الله تعالى، كان خصمًا لله تعالى يخذله ولا ينصره.
يقول المولى عز وجل: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) [البقرة: ١٢٠] .
فالله تعالى بين للمؤمنين حقيقة اليهود والنصارى، وأنهم لا يرضون منا إلا اتباع ملتهم، فجاء التحذير الإلهي: بأن اتباع ملتهم فيه فقدان ولاية الله ونصرته.
ولقد تحدثت سورة الجاثية عن بني إسرائيل118 وأنهم اختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات.
ثم حذرت النبي صلى الله عليه وسلم من اتباع أهواء الذين لا يعلمون من كفار مكة وغيرهم؛ فالظالمون بعضهم أولياء بعض، والله ولي المتقين.
فقال المولى عز وجل: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [الجاثية: ١٨-١٩].
ولئن كان اتباعٌ من النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الأهواء من أهل الكتاب والكفار، من بعد ما جاءه من الحق -وحاشاه-؛ فليس له من نصير ينصره من عذاب الله، وليس له منهم من أحد عنه حاجزين.
قال تعالى: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [الرعد: ٣٧].
والملاحظ أن الخطاب في آيات البقرة: ١٢٠، والرعد: ٣٧، والجاثية: ١٨ السابقة موجه للرسول صلى الله عليه وسلم، بأنك إن اتبعت أهواء الذين لا يعلمون، وأهواء أهل الكتاب- وحاشاه أن يفعل ذلك- فإن لك عذابًا، لا يدفعه عنك أحد. والخطاب هذا خطاب لأمته. فإذا كان الأمر كذلك مع سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، فكيف بمن دونه من الناس، وفي هذا تحذير شديد، ووعيد كبير لمن اتبع غير سبيل الله بأنه سيفقد الولي والنصير.
ورفع الله ولايته ونصرته عن الذين يركنون إلى الذين ظلموا، فقال الله سبحانه: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ) [هود: ١١٣].
والركون إلى الذين ظلموا يعني: محبتهم والميل بالقلب إليهم، ومداهنتهم والرضى بأعمالهم، والدنو منهم، وطاعتهم، والاعتماد عليهم في قضاء المصالح119.
والذي يركن إلى الذين ظلموا بشيء من ذلك؛ فإنه يفقد الولاية والنصرة من دون الله تعالى. والأمة اليوم فقدت نصرة الله تعالى، وذلك لأنها رضيت أعمال الذين ظلموا، بل شابهت أعمالهم وفعلت فعلهم، فكانت جديرة بأن يتخلى ربها عنها ويتركها من ولايته ونصرته.
وإذا كان الميل اليسير إلى الذين ظلموا، يفقد النصرة والمعونة والولاية من الله تعالى، فكيف بالميل كل الميل إلى الظالمين! بل كيف بالظالمين أنفسهم! وإذا كان بمجرد الميل القلبي ترتفع النصرة ويكون الخذلان، فكيف -والحال اليوم- المخالطة والمشاورة، والمشاركة في مطاردة الإيمان وأهله ومحبة الظالمين وتبجيلهم وتقديرهم، بل وتعظيمهم، ونقل أسرار المسلمين إليهم! فهل يبقى بعد ذلك لنا من ولي من الله أو نصير!
ولقد ذكر الله تعالى في أكثر من آية أن الظالمين ليس لهم نصير120.
وركون الذين ظلموا أنفسهم إلى الظالمين، وخضوعهم لجورهم، من أهم أسباب تفشي الظلم في الأرض، وانتفاش الظالمين، وزيادة بطشهم، فيكون الذين ركنوا أدوات في أيدي الظلمة يحركونهم لتوسيع نفوذهم، وتنفيذ أوامرهم في ضرب الناس، ويبلغ العجز والهوان بالذين ظلموا أنفسهم إلى التسابق من أجل إرضاء الظلمة، فيتبعونهم في استجابة أمرهم، عندها تكون العقوبات الثلاث: فقد ولاية الله تعالى، وتخلف نصره، والنار.
٣. ضرر موالاة الكافرين.
المؤمن ولي للمؤمن، يحبه، ويأمره بالخير، وينهاه عن الشر، ويعادي من عاداه، ويوالي من والاه، وينصره، فالذين آمنوا بعضهم أولياء بعض. وعندما يكون الأمر كذلك؛ فإن الخير يعم، والصلاح ينتشر، والفساد يضمحل. وهكذا أمرنا من الله تعالى أن نكون، إلا أن ضعاف الإيمان من المسلمين حينما يوالون أعداء الله، وينصرونهم ويعينونهم، ويطلعونهم على أسرار المسلمين؛ فإنك تجد ضرر ذلك بالفساد والردة.
فالفساد الناتج عن موالاة الكافرين، حذرنا الله منه، بعد أن أمرنا بموالاة المؤمنين حيث يقول: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) [الأنفال: ٧٢-٧٣].
فالآيتان فيهما المفاصلة بين المؤمنين والكافرين، فالمؤمنون بعضهم أولياء بعض، والكافرون بعضهم أولياء بعض. و«الولاية هي النصرة والمحبة والإكرام والاحترام، والكون مع المحبوبين ظاهرًا وباطنًا»121.
والمؤمنون إذا لم يوال بعضهم بعضًا نصرة ومحبة وولاءً، ويعادوا الكافرين بغضًا وخذلانًا لهم وحربًا عليهم؛ تكن فتنة عظيمة وهي الشرك وقوة الكفر، وفساد كبير بانتشار المعاصي وضعف الإسلام وأهله، ويختلط الحق بالباطل، والمؤمن بالكافر، وتعدم كثير من العبادات الهامة، كالجهاد والحكم بما أنزل الله122.
والمرء إذا أحب آخر، أحب عمله، وقلده فيه واتبعه، وانتقل ذلك إلى إكرام محبوبه، وتقديره واحترامه، فيخالطهم، وينتقل معهم، وحينها يكثر سوادهم وأعمالهم. فإذا كان مثل هذه الأعمال من مسلم لكافر، فهذا يعني الفتنة وانتشار الفساد، فالمسلم الموالي للكافر يقلده في أعماله وأقواله، وينشر فكرته، ويسيء لدينه وأمته ووطنه، بجلب فساد الكافرين إلى ديار المسلمين.
وهذا الفساد متنوع:
فعقيدة: كان التشكيك في المسلمات.
وسياسة: لسنا إلا ذيلًا للغرب الكافر.
وأخلاقًا: فسدت الشباب، وطغت النساء، وحميت الرذيلة، وحوربت الفضيلة، وأصبح المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، وسفلة الأمة ورويبضتها تتكلم في أمر العامة.
وبهذا نشر الإعلام الضال المضلل أنواع الفساد هذه وأضعافها.
وكلمتا (فتنة وفساد) في الآية السابقة نكرة، وذلك لتعم كل فتنة وكل فساد، ووصف هذا الفساد بالكبير يظهر ضخامته. ومن الفتنة تخويف العامة من المساجد وطريقها وأهلها، وتحذيرهم بالسجن والمساءلة وعدم الحصول على وظيفة، وفي المقابل فتح الطريق أمام الجيل للذهاب إلى السوء وأهله، فطريقه آمن، لا مساءلة فيه ولا محاكمة.
ومن ضرر موالاة الكافرين أيضًا: الردة؛ فمن والاهم فهو منهم، ويتبرأ الله منه. يقول المولى عز وجل (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [المائدة: ٥١].
وسبب نزولها: أن عبادة بن الصامت قال: «لما حاربت بنو قينقاع تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي بن سلول وقام دونهم، ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وكان أحد بني عوف بن الخزرج وله من حلفهم مثل الذي له من عبدالله بن أبي، فحالفهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ من حلف الكفار وولايتهم.قال: ففيه وفي عبد الله بن أبي نزلت القصة في المائدة: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ)الآية123.
والآية تعني: لا تعتمدوا على الاستنصار باليهود والنصارى، ولا تتودوا لهم، ولا تصافوهم مصافاة الأحباب، ومن يتولهم من المؤمنين؛ فإنه من جملتهم، وحكمه حكمهم، ويكون مثلهم124.
ولقد تبرأ الله تعالى من كل من يتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، فقال الله سبحانه: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ) [آل عمران: ٢٨].
فمن اتخذ الكافرين أنصارًا يواليهم ويظاهرهم على المسلمين؛ فقد برئت منه ذمة الله، وارتد عن دينه. ونادى رب العزة المؤمنين، محذرًا إياهم طاعة أهل الكتاب وطاعة الكافرين، وفي السورة نفسها، لما يؤدي ذلك إلى الردة بعد الإيمان125.
ولقد زين الشيطان لأتباعه من أهل الكتاب وإخوانهم المنافقين الردة بعد ما تبين لهم الهدى، وكان ذلك نتيجة لطاعة بعض أوامر الكارهين لما أنزل الله.
فقال سبحانه: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [محمد: ٢٥-٢٦].
فاليهود والمنافقون قالوا للمشركين -الكارهين ما أنزل الله- سرًا: سنطيعكم في عداوة محمد والمظاهرة عليه، والقعود عن الجهاد126.
والمنافقون اتبعوا ما أسخط الله، وكرهوا ما يرضيه عنهم من قتال الكافرين، فقال سبحانه: (ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ) [محمد: ٢٨].
فاتباع نواهي الله، وعدم امتثال أمره، ينتج عن ذلك إحباط العمل وبطلانه. وإحباط العمل كان ثمرة سيئة للعمل السيء في موالاة المنافقين والكافرين، فقال الله سبحانه في معرض الحديث عن الولاء: (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [المائدة: ٥٣].
ولما كان الجزاء من جنس العمل، كان العقاب مناسبًا لسببه، فاليهود اتبعوا ما أسخط الله: (ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ) [محمد: ٢٨].
فكانت النتيجة سخط الله عليهم: (ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) [المائدة: ٨٠].
ثانيًا: آثار التقليد في الآخرة:
الحياة لا تنتهي بالموت، ولو أنها كذلك لاستراح الكثير من الكبراء وضعفائهم، إذ يقول الله عن المتحسرين النادمين يوم القيامة: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ) [الفجر: ٢٤].
فهناك الحياة الآخرة، التي ليس بعدها حياة، ولا دار، إلا الجنة أو النار. وفي هذه الدار تبلى السرائر، وتتكشف الحقائق، ويذهب الزيف والخداع، وإذا بالمقلد المتبوع يظهر على حقيقته، فهالته التي كانت في الدنيا زالت اليوم، وقوته التي صارع بها الحق في الدنيا ضعفت، وأتباعه المقلدون انكشف لهم العوار، وزال عنهم القناع الزائف، والكذب الخادع، فأخذتهم الحمية أمام هذا الموقف الرهيب، وانتفضوا على ذلتهم وصغارهم الذي كان في الدنيا، فجابهوا أسيادهم وواجهوهم- حيث لا تنفع المجابهة ولا المواجهة- بالشتائم والتلاعن والتباغض والتلاوم والتبرؤ والدعاء عليهم بمضاعفة العذاب.
وهذه الآثار السيئة نتيجة للتقليد الأعمى، والاتباع المذموم، والتي يمتد أثرهما إلى يوم القيامة. وسيتناول الباحث هذه الآثار على النحو الآتي:
١. التلاعن بين الأتباع والمتبوعين.
فقد قال الله تعالى عن السبب الذي أوصل التابع والمتبوع إلى التلاعن يوم القيامة: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ) [الأعراف: ٣٨].
فالسبب إضلال المتبوع للتابع.
وكل أمة تلعن أختها في الدين والملة. فيلعن اليهود اليهود، والنصارى النصارى، والمشركون المشركين، والأتباع القادة، قائلين لهم: أنتم ألقيتمونا هذا الملقى حين أطعناكم، وحينما أضللتمونا في الدنيا فاتبعناكم127.
وبين الله تعالى التلاعن بين المتوادين على عبادة الأصنام، فقال سبحانه: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) [العنكبوت: ٢٥].
فهم تحابوا على عبادة الأوثان، وتوادوا على خدمتها في الدنيا، ولأجلها عادوا دين الحق وهذا الأمر يحصل لهم مودة في دار الدنيا فقط، ثم هي منقطعة عنهم يوم القيامة، وإذا بهم يلعن كل غوي صاحبه الذي أغواه، وتنقلب المودة بغضًا ولعنًا.
٢. التبرؤ والحسرة.
ومن الثمار الخبيثة للتقليد والتبعية الهوجاء: التبرؤ، حيث يتبرأ المتبوعون من الأتباع، والحسرة على ما فرطوا في جنب الله تعالى. فعن تبرؤ المتبوعين من أتباعهم، يقول الله عز وجل: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ) [البقرة: ١٦٥-١٦٧].
فهاهم -الأتباع والمتبوعون- وجهًا لوجه أمام العذاب الشديد، وحينها لم يعد نفع من التابعين لأسيادهم، وتنقطع أسباب المودة التي كانت في الدنيا، فحينها يتبرأ الكبراء من الضعفاء، علهم يخفف عنهم من عذاب التبعية ووزرها، ويتمنى التابع الكرة إلى الدنيا -ولكن هيهات- فالتابع والمتبوع في النار، كلما رأوا أعمالهم السيئة ومعاصيهم التي اتبعوا أسيادهم في فعلها، كلما ازدادوا حسرة وندامة وتقليبًا للكفين على ما أنفقوا من أعمارهم وأموالهم في مرضاة المجرمين.
ويتجلى التبرؤ الأكبر، من قائد الغواية والضلالة الأكبر: الشيطان، حينما يقف خطيبًا على منبر من نار في أهلها.
فأخبر الله سبحانه عن التبرؤ هذا فقال: (ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ) [إبراهيم: ٢٢].
فالشيطان يجحد أن يكون شريكًا لله فيما أشركه أتباعه فيه من العبادة في الدنيا، ولم يكن له من سلطان وقوة على إجبارهم على الشرك، وما كان منه إلا أن دعاهم فقط للغواية فاستجابوا وتابعوه. فهو يتبرأ من جعل أتباعه له في الدنيا شريكًا لله، ومن طاعتهم إياه. وهذه الخطبة تزيدهم حزنًا إلى حزنهم وحسرة إلى حسرتهم.
والشيطان يزين للإنسان المعصية، حتى إذا وقع فيها تركه وتبرأ منه، فبين الله تعالى أن اتباع الشيطان في المعصية أثمر التبرؤ والخلود في النار، فقال سبحانه: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [الحشر: ١٦].
فالشيطان يخذل الإنسان في كل حين، فهل من معتبر!.
ولك أن تتصور شدة الحسرة والندم، حينما تعلم أن القرآن العظيم صور الحسرة والندم بالعض على اليدين، فقال الله سبحانه: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [الفرقان: ٢٧-٢٩].
يقول الطبري: «ويوم يعض الظالم نفسه، المشرك بربه، على يديه ندمًا وأسفًا على ما فرط في جنب الله، وأوبق نفسه بالكفر به في طاعة خليله الذي صده عن سبيل ربه، يقول: يا ليتني اتخذت في الدنيا مع الرسول سبيلًا يعني: طريقًا إلى النجاة من عذاب الله»128.
ويظهر تبرؤ المتبوعين من أتباعهم يوم القيامة، حينما يناديهم الله عز وجل بقوله: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [القصص: ٦٢-٦٣].
فالآيات توضح إغواء المعبودين لمن أشركهم بالله وجعلهم له ندًا، في الدنيا كما غووا هم، وعند مواجهة استحقاق العذاب، اعترفوا بهذه الغواية، وتبرؤوا من عبادتهم، لما رأوا العذاب وندموا أشد الندم، وتمنوا أن لو كانوا مهتدين.
٣. العذاب المهين والاستقبال المشين في جهنم.
عادة الحبيب أن يستقبل حبيبه بالترحاب والابتسامة والكلمة الطيبة التي تدخل السرور إلى القلب، إشعارًا بمدى محبته عنده. إلا أن الأمر يختلف يوم القيامة عند الذين رحب بعضهم ببعض على السوء في الدنيا، وفرحوا بلقاء بعضهم بعضًا على موائد المؤامرات، صادين عن سبيل الله، ماكرين برسله ودعاته، ومكذبين بآياته، ففي جهنم يكون حميم وغساق.
واستقبال المتبوعين أتباعهم بعدم الترحاب، وبالدعاء عليهم، والتذمر منهم، جزاءً بما كانوا في الدنيا يكسبون، ولكبرائهم يتبعون.
فيقول الله تعالى واصفًا حالتهم هذه: (ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀﰁ ﰂ ﰃ ﰄﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ) [ص: ٥٥-٦١].
تقول خزنة جهنم لرؤساء الطغيان والكفر: هذا فوج من أتباعكم الذين أضللتموهم، اقتحموا معكم النار، كما اقتحموا معكم الجهل والعصيان، فعندها تقول رؤوس الكفر: لا مرحبًا بهم أي: لا رحبت بكم الأرض ولا وسعت، وضاقت عليكم أماكنكم. فترد الأتباع الدعاء عليهم بأن لا مرحبًا بكم أنتم، معللين هذا الرد بأنكم أيها الرؤساء قدمتم لنا هذا العذاب؛ إذ بدأتم بالكفر قبلنا وشرعتموه لنا، ودعوتمونا إليه، وإلى العمل الذي يوجب لنا هذه النار. والدعاء بالضيق وعدم الكرامة، تبعه دعاء آخر، وهو من قدم لنا هذا العذاب أي: سنه وشرعه فزده عذابًا ضعفًا في النار129.
إنها صورة بائسة، معكوسة لما كان في الدنيا، التي كان فيها الترحاب والقبلات، والفرح الشديد عند الإساءة للرسل والدعاة وإصابة الهدف بدقة للخطة الماكرة، مع زيادة الرتبة والراتب من المتبوع للتابع المنفذ. فأين اليوم التصفيق للخطابات! وأين الحراسات! وأين اليوم الفداء بالأرواح والمهج والأنفس!
٤. التخاصم والتلاوم.
أمام الموقف الرهيب، الذي يقترن فيه كل مع شاكلته في المعاصي والآثام، وترتفع الأصوات المتلاومة كل يلقي بالتبعة والمسؤولية على غيره في السبب الذي أوصلهم إلى هذا العذاب الأليم. هذا التخاصم والتلاوم يذكره الله تعالى في مواطن من كتابه الكريم، منها: (ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [الصافات: ٢٧-٣٤].
أي: أقبل الأتباع على المتبوعين يتساءلون لائمين إياهم بقولهم: كنتم تزينون لنا الباطل، وتحولون بيننا وبين الخير؛ فأطعناكم في ذلك. فرد المتبوعون عليهم بأنكم ما كنتم صالحين فأفسدناكم، ولا مؤمنين فكفرناكم، بل كانت قلوبكم منكرة للإيمان قابلة للعصيان. وكذلك لم يكن لنا عليكم من حجج قوية ألزمناكم بها بأن تتبعونا على الكفر، فحق العذاب علينا جميعًا بسبب أنا كنا غاوين، فدعوناكم إلى الغواية دون قهر ولا سلطان فاستجبتم لها فنحن في العذاب مشتركون، كما اشتركنا في الصد عن سبيل الله في الدنيا، والكفر والضلال130.
والتخاصم وتراجع الكلام بين المستضعفين والمستكبرين، تذكره آيات أخرى.
يقول الله فيها: (ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ) [سبأ: ٣١-٣٣].
ولو رأينا، لرأينا موقفًا يحول دونه الوصف ويعجز عنه التصور، حيث المضللون من المستضعفين والمضللون من المستكبرين، والمحاججة بين الخصمين على أشدها في التلاوم وإرجاع الكلام، إذ يقول التابع المستضعف -وقد أخذته بعض شجاعة-: لولا أنتم لكنا مؤمنين، فقد كنتم شديدي الحرص على كفرنا لنقلدكم فيه، ولولاكم أيها الرؤساء في الدنيا لكنا مؤمنين بالله وآياته. فكان رد المستكبرين: (ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ) .
والاستفهام استنكاري، إنكارًا للتهمة، وردًا على الأتباع بأنكم كنتم مجرمين، فإجرامكم هو الذي صدكم عن الإيمان. فكانت مجابهة المستضعفين على رد المستكبرين: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ)بل مكركم الذي لم يفتر ليلًا ولا نهارًا للصد عن الهدى، ولتمكين الباطل، ولتلبيس الحق، ولاستخدام النفوذ والسلطان في التضليل والإغواء.
وقول الله سبحانه: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ)كناية عن دوام الإلحاح عليهم في التمسك بالشرك.
عندها خاف الخصمان من الفضيحة في الموقف فأسروا الندامة في قلوبهم وصدورهم كمدًا، وهذا من الذلة بمكان. ومن ثم كانت الأغلال التي تنتظرهم؛ لتغل بها الأيدي إلى الأعناق، ويلقى بهم إلى جهنم جزاءً لأعمالهم الخبيثة التي كثروا بها سواد المستكبرين من القادة والمتبوعين في الدنيا، فما أغنى تقليدهم عنهم شيئًا.
وذكرت الآية الليل والنهار، لبيان كثرة المكر وتواصله وعدم يأس أصحابه المجرمين، لنعلم نحن المسلمين في هذا الزمان، مدى ما يمكر بنا، ويحاك ضدنا من مؤامرات، مؤامرات عسكرية وإعلامية واجتماعية وثقافية وفكرية واقتصادية، لكل منها مختصون وأهلون. ونتيجة هذا المكر الخبيث يوم الحسرة: التخاصم والتلاوم والأغلال والعذاب الشديد جزاءً وفاقًا.
الأمم تصح وتمرض، تبتلى وتعافى، ومن أراد السلامة فلا بد له من وقاية نفسه من المرض، ولئن أصابه؛ فإنه يحرص على الاستشفاء. والأمراض التي تصيب الأمم كثيرة، منها- كما أخبر القرآن الكريم- مرض التقليد والتبعية العمياء الذي يوهن العقول، ويذيب الشخصية، ويضعف الإرادة؛ فتتبع سبل سابقيها وكبرائها، وتنحرف عن منهج الله الذي ارتضاه لعباده. ولقد وقع في هذا الأمر كثير من القرون، فأصاب القرون اللاحقة المقلدة، ما أصاب القرون السابقة المقلدة في المعاصي والذنوب، حينما لم يعتبروا ولم يتعظوا بالهالكين قبلهم.
وجاء القرآن الكريم يقص علينا أمراض الأمم التي أصيبت بها وعوقبت عليها؛ لتكون آية وموعظة للمتقين. فكان ذلك دواء من الأدوية التي وصفها لنا القرآن الكريم لنتعافى مما ابتلي به كثير من الخلق. وحتى يثبت الشفاء ويزداد، كان لا بد من وجه مضاد لوجه أئمة السوء والشر، وهم أئمة الهدى، ولا بد من إظهار الصورة المنفرة للمقلدين أيضًا؛ زجرًا لهم، وردعًا لغيرهم. وكذلك لا بد من بيان المسؤولية الفردية التي يتحملها كل فرد عن عمله. ومن هنا فقد جاء هذا المبحث في أربعة مطالب:
أولًا: الاعتبار بمصارع القرون الأولى:
قص علينا القرآن الكريم قصصًا للغابرين، أظهر فيها عللهم، التي كانت سببًا في دمارهم واستحقاقهم العقوبة من الله تعالى. وقصصهم هذه، فيها الإرشاد والتوجيه للخلق ألا يقعوا فيما وقع فيه هؤلاء السابقون من العلل؛ حتى لا يصيبهم ما أصابهم.
ولقد عذب الله تعالى الأقوام بأنواع مختلفة من العذاب، كل بما يناسب ذنبه حيث يذكر الله سبحانه ذلك بقوله: (ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ) [العنكبوت: ٤٠].
فقوم عاد أهلكوا بريح صرصر عاتية، وقوم ثمود أهلكوا بالصيحة، وقوم نوح بالطوفان، وقوم فرعون بالغرق، وجعل ديار قوم لوط عاليها سافلها. وهذه الألوان من العذاب، ليست من الظالمين ببعيد.
وسبب هذا العذاب: كفرهم، وعتوهم عن أمر ربهم، وعصيان رسله، وتكذيبهم بآياته، (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ) [هود: ١١٧].
وكل هذا لم يكن ليقصه الله عبثًًا- وحاشاه-، بل كان ذلك للموعظة ولتكون آية، آية للمؤمن ليصبر على ما يلقاه في سبيل الله من أذى، إذ إنه مطمئن لوعد ربه أن العاقبة للمتقين، ويقتدي بمن سبقه من المؤمنين الصابرين، وليزداد خشية وإيمانًا، وآية لغير المؤمن لعله يزدجر عما يقترف من آثام وسيئات.
ومن أسباب الهلاك الظلم والكفر، فقد قال الله سبحانه عن قوم لوط: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [هود: ٨٢-٨٣].
يخبر الله تعالى أن الحجارة التي أصابت قوم لوط حاضرة لكل ظالم طغى وتجبر، وهي بانتظار كل من حاكى فعالهم. فالله سبحانه لا يحابي أحدًا من الخلق، وليس بينه وبين أحد نسبًا.
والظلم ذنب عظيم يعذب الله تعالى بسببه الظالمين، ويعجل لهم العقوبة في الدنيا قبل الآخرة: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ) [الكهف: ٥٩].
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه)131.
واليوم لا نرى ردعًا للظالم، ولا أخذًا على يديه لزجره عن ظلمه، وليت الأمر بقي على ذلك، بل وصل الأمر إلى التزلف والتملق للظلمة، والمداهنة لهم، ورفع قدرهم، واعتبار زيارتهم، والجلوس معهم مفخرة، فكان حري أن يعم العقاب، حيث التشريد والشتات، وأن يحل العذاب، حيث التشرذم والتفرق، والتقاطع والتدابر. ولا يدفع ذلك كله إلا الإنابة إلى العزيز الغفار، وترك التشبه بمن ظلم نفسه من الأمم السابقة.
وخاطب الله تعالى المنافقين بأن يعتبروا بما حل بالأمم من قبلهم، حيث قال: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) [التوبة: ٧٠].
فأهل النفاق مطالبون بالاتعاظ مما أصاب الذين ذكرتهم الآية وأتتهم الرسل بالبينات، فردوها كفرًا وظلمًا؛ فكان الغضب الإلهي، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. وسياق الآية وإن كان يتحدث عن المنافقين، إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالمنافقون وغيرهم في كل زمان عليهم الاعتبار.
ولم يكن الظلم وحده سببًا في الهلاك، بل والتكذيب بآيات الله ورسله أيضًا والذي حذر منه القرآن الكريم. وأمر الله تعالى بالسير في الأرض للاعتبار بمن أصابهم سخط الله وغضبه بسبب تكذيبهم الرسل، فقال سبحانه: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) [الأنعام: ١١].
وكل موضع أمر فيه بالسير في الأرض، فإنه يدل على الاعتبار والحذر، أن يحل بالمخاطبين من أفعال الله مثل ما حل بالسابقين132 وسمى القرطبي السير في الأرض: «سفر العبرة»133.
وسورة الشعراء جاءت آيتها السادسة تهديدًا لمن كذب الرسول صلى الله عليه وسلم قريش، (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) [الشعراء: ٦].
ومن ثم ذكرت تكذيب الأقوام لرسلها فيما بعد134، فأهلكهم الله بهذا التكذيب.
ويقول الله عز وجل عن عادة آل فرعون والذين من قبلهم في التكذيب بآيات الله وإهلاكهم بسبب ذلك: (ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ) [الأنفال: ٥٤].
ولما تشابه حال قريش، بحال آل فرعون والذين من قبلهم في التكذيب والكفر، كان تغيير حالهم جميعًا بالعذاب؛ فهم غيروا أوامر الله وشرعه، فغير الله حالهم؛ جزاءً وفاقًا لجنس عملهم. فعلى كل من يريد النجاة مما حصل للقرون السالفة عليه أن يتقي الله تعالى ويكون مع الصادقين، وألا يكون كآل فرعون والذين من قبلهم في التكذيب.
ومن أسباب الهلاك التي حذرنا القرآن منها: الترف والبطر، يقول الله سبحانه: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ) [الإسراء: ١٦].
أي: أمرنا المترفين بطاعة الله وتوحيده، وتصديق رسله واتباعهم، فخرجوا عن طاعة ربهم وعصوا أمره، فوجب عليهم عذاب الاستئصال. وأكد فعل التدمير بمصدره للمبالغة في شدة الهلاك الواقع بهم135.
وجاءت الآية التي تلي السابقة محذرة مما أصاب القرون الأولى: (ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ) [الإسراء: ١٧].
والله تعالى لا يغير نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم من عقيدة صحيحة، وعبادة مشروعة، وأخلاق حسنة، إلى ضدها؛ فإن فعلوا عاقبهم الله تعالى، بتغيير حالهم.
يقول المولى عز وجل: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ) [الأنفال: ٥٣].
جاءت هذه الآية بين آيتين تبدأ كل منهما بقول الله سبحانه: (ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ)عاقبهم الله بكفرهم وتكذيبهم بآيات الله، وغيروا أحوالهم من الصلاح إلى الفساد، فغير الله ما بهم من النعم إلى النقم.
وجاء الزجر الشديد لأولئك المغترين بأموالهم وأولادهم، بأنه كان من قبلكم من هو أشد منكم قوة، وأكثر أموالًا، وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمرتموها أنتم، فلما عصوا رسل ربهم، وجحدوا آياته عاقبهم الله تعالى، ولم يكن لهم من دونه ولي ولا واق، ولم تغن عنهم أموالهم ولا قوتهم من الله شيئًا.
فطلب الله تعالى من هؤلاء المغترين أن يسيروا في الأرض ويعتبروا بمن سبقهم، ممن هو أكثر منهم أموالا وأشد منهم قوة.
فقال الله سبحانه: (ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [غافر: ٢١]
ولقد أهلك الله تعالى قرى كثيرة تشابهت في جريمة بطر النعمة و كفرانها، فيقول عز من قائل: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [القصص: ٥٨].
وأرسل الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم لأهل مكة التي كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدًا من كل مكان136، فكذبوا به، وجحدوه رغم معرفتهم بصدقه وأمانته، فأبدل الله رغدهم جوعًا، وأمنهم خوفًا.
وفي المقابل انقلب حال من اتبعوه من المؤمنين من خوف إلى أمن، ومن ضعف إلى قوة، و من قلة إلى كثرة، ومن هزيمة إلى نصر: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ) [الأنفال: ٢٦].
وختم الآية بالشكر، وهذا الذي يناسب ذكر النعم وزيادتها.
ومن المنكرات الخطيرة المعلنة: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولقد قص الله علينا نبأ بني إسرائيل حينما تركوا هذا الواجب، فانتشر الفساد بينهم، فلعنهم الله، وضرب قلوب بعضهم ببعض.
فقال الله سبحانه مخبرًا عن ذلك: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ) [المائدة: ٧٨-٧٩].
وحذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال: (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)137.
فعلى الأمة في هذا الزمان أن تحسب لنقم الله وغضبه الحساب الذي يليق، ولا تبقى شاردة في غيها وضلالها، وألا تتبع الذين ظلموا أنفسهم، بل تتبع سبيل من أناب إلى الله. وعلى تاركي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اعتقادًا منهم النجاة من أذى الظلمة، أن يعلموا أن الفساد الخلقي سيصيبهم؛ والفساد الخلقي أشد وأخطر من الأذى الجسدي، فالأول يربي على الركون إلى الظلمة، والثاني يربي على التحدي والاستعلاء بالإيمان.
والمستقرئ لكتاب الله تعالى، يرى التعقيب على قصص الغابرين يدعوه إلى الصبر وأخذ العبرة. فبعد إغراق قوم نوح، يقول سبحانه: (ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [هود: ٤٩].
وتعقيبًا على هلاك ثمود، قال الله سبحانه: (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ) [النمل: ٥٢].
وكذلك الأمر بعد هلاك فرعون: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [النازعات: ٢٥-٢٦].
وتعقيبًا على هلاك قوم لوط: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ) [الحجر: ٧٥].
وعن بدر، وبعد هلاك صناديد قريش، قال سبحانه: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [آل عمران: ١٣].
وبعد هزيمة يهود في خيبر: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) [الحشر: ٢].
وطريق الأنبياء عليهم السلام محفوف بالأذى الجسدي، أما الإيمان فمقره القلب، ولا سلطان لأحد عليه إلا الله، يقول الله سبحانه: (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [آل عمران: ١١١]؛ فعلى المؤمن أن يتأسى بطريقهم عليهم السلام؛ فهو الطريق الأسلم والأقرب للنصر في الدنيا، والنجاة في الآخرة.
ثانيًا: القدوة الحسنة:
السنة أن يكون للناس إمام يؤمهم، يحاكون فعله وقوله، ويتبعون أمره، وينصرون فكره. والإمام هذا أحد نوعين -كما سماهم القرآن الكريم- أئمة يدعون إلى النار، وأئمة يهدون بأمر الله.
وأئمة الهدى حتى يستطيعوا تغيير ما أفسده الناس، ويحيلوا طريقهم المعوج إلى استقامة؛ لا بد أن يكون معهم المنهج الواضح البين، الذي يقنع الناس المضللين بأن ما هم فيه ضلال. ويبقى المنهاج جافًا حتى يتحول إلى بشر تمشي على الأرض. فكان هذا الأمر مع أنبياء الله عليهم السلام ومع الذين ربوا على أيديهم من أتباعهم المؤمنين؛ ليكونوا قدوة حسنة للناس من بعدهم في كل جيل.
والأنبياء أحسن الناس خلقًا وإيمانًا، وأعلاهم منزلة، والواجب أن يتأسى بهم الناس، وأن يتبعوهم في فعلهم وقولهم، ويتركوا الاقتداء بأئمة الكفر. وحتى يكونوا قدوة، جعل الله تعالى لهم صفات، وآتاهم بينات من الهدى، فقال سبحانه مخاطبًا النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكر ثمانية عشر نبيًا ممن سبقوه138: (ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ) [الأنعام: ٩٠].
يقول الطبري: «هؤلاء القوم الذين وكلنا بآياتنا وليسوا بها بكافرين، هم الذين هداهم الله لدينه الحق، وحفظ ما وكلوا بحفظه من آيات كتابه، والقيام بحدوده، واتباع حلاله وحرامه والعمل بما فيه... فبالعمل الذي عملوا، والمنهاج الذي سلكوا، وبالهدى الذي هديناهم، والتوفيق الذي وفقناهم (ﯲ) يا محمد، أي: فاعمل، وخذ به واسلكه»139.
ويبين الإمام الرازي أن صفات الشرف وخصال الكمال هذه كانت مفرقة في الأنبياء بأجمعهم. فأيوب كان من أصحاب الصبر. وداود وسليمان كانا من أصحاب الشكر. وسيدنا يوسف كان مستجمعًا لهاتين الصفتين -الصبر والشكر-. وموسى كان صاحب الشريعة القاهرة والمعجزات الظاهرة، وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كانوا أصحاب زهد، وإسماعيل كان صاحب الصدق، ويونس كان صاحب التضرع. وبعد ذكرهم، أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهم (ﯱ ﯲ)، أي: اقتد بكل هذه الصفات المفرقة فيهم؛ فكان النبي صلى الله عليه وسلم بهذا أفضلهم 140.
ومن الصفات التي تحلى بها الأنبياء عليهم السلام، وأمرنا أن نتأسى بهم فيها، البراءة من الأعداء، وإظهار العداوة والبغضاء بيننا وبينهم أبدًا حتى يؤمنوا بالله وحده.
قال الله تعالى: (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ) [الممتحنة: ٤].
فالمؤمنون عليهم التأسي بإبراهيم والذين معه في عدم الرضا بعبادة الأصنام، وأن يتشبهوا بهم في البراءة من الكفار في كل الأحوال، حتى وإن كانوا ضعفاء، أيًا كان الضعف، سواءٌ أكان ضعف النصرة، كما كان زمن النبي صلى الله عليه وسلم في الفترة المكية، أم ضعف الإرادة، كما هو حال مسلمي اليوم.
وأن يقتدوا بإبراهيم والذين معه في عظمة البراءة، وألا تكون على خجل، كما يصنع بعض الناس اليوم. وأن يقتدوا بإبراهيم والذين معه في الكفر بجميع المعبودات، سواءٌ أكان المعبود بشرًا- كعبادة الزعماء في بعض الدول- أم عبادة المؤسسات- كالتي تشرع من دون الله. وأن تستمر البراءة من ذلك أبدًا حتى يؤمنوا بالله وحده.
وعلينا أن نقتدي بإبراهيم والذين معه في خصال الخير، في عدم الاستغفار للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم، وفي التبرؤ من حولنا وقوتنا إلى حول الله وقوته، وأن نتشبه بهم في التوكل على ربنا، وفي الإنابة إليه، فالمصير إليه.
ونقتدي بهم في مناجاة ربنا ألا يجعلنا فتنة للقوم الكافرين، وأن يغفر لنا: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ) [الممتحنة: ٤-٥].
وأول سورة الممتحنة نزل في حاطب بن أبي بلتعة141، الذي والى أهل مكة في محاولة إنبائهم سير النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة، فكان التوجيه الرباني في هذه الآية إلى المؤمنين أن يقتدوا بإبراهيم والذين معه في البراءة من المشركين.
وكانت الوصية الربانية، في اتخاذ الأنبياء عليهم السلام أسوة حسنة في سورة الممتحنة نفسها، فقال الله سبحانه: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) [الممتحنة: ٦].
فالذي يقتدي بأئمة الهدى هؤلاء، هو من آمن بالله واليوم الآخر. وليس كل أحد تسهل عليه هذه الأسوة، إنما تسهل على من آمن واحتسب الأجر142.
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم سيد الخلق، وأكرمهم على الله تعالى، ولما كان على خلق عظيم، جاء التوجيه الرباني بتخصيصه أن يكون أسوة حسنة.
فقال الله سبحانه: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [الأحزاب: ٢١].
ولكي يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة، فقد أهله الله لذلك في كل ميدان من ميادين الدين والدنيا. ففي مجال الثبات على العقيدة وعدم التنازل عنها، ثبت أمام مغريات المال والجاه والنساء التي عرضت عليه مقابل ثنيه عن الدعوة، فثبت ولم يساوم143.
قال الله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ). [الكافرون: ١-٦].
وفي مجال الأخلاق، كان النبي صلى الله عليه وسلم الأعلى فيها كلها، ويكفيه شرفًا أن زكى الله خلقه فقال: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [القلم: ٤].
وحرف الجر يفيد الاستعلاء، فكأنه صلى الله عليه وسلم اعتلى الأخلاق كلها، وكلمة عظيم توحي بشأن هذه الأخلاق العظيمة؛ فهو صلى الله عليه وسلم صاحبها الذي امتلأت حياته بها.
وفي مجال التعامل، كان صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة. فكان باشًا مع أصحابه، محترمًا إياهم، محبًا لهم، ملبيًا حاجاتهم. وغير ذلك من مجالات الاقتداء التي يستطيع كل فرد في المجتمع -أيًا كان مركزه وعمله- أن يقتدي به صلى الله عليه وسلم، سواءٌ أكان زوجًا أم أبًا أم جارًا أم مربيًا أم قائدًا أم مجاهدًا.
وختمت صفات عباد الرحمن بدعائهم ربهم أن يجعلهم أئمة يقتدى بهم: (ﮭ ﮮ ﮯ) [الفرقان: ٧٤] .
قال البخاري: «أيمة نقتدي بمن قبلنا، ويقتدي بنا من بعدنا»144.
وصفات العباد الذين نسبهم الرحمن لنفسه هي: التواضع، ومخاطبة الجاهلين بالسلام، والدعاء، والاعتدال، في الإنفاق ولا يشركون ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون، وكذلك من صفاتهم التوبة وعمل الصالحات، ولا يشهدون الزور، والإعراض عن اللغو، والإصغاء لآيات الله145.
وختم هذه الصفات بدعاء (ﮭ ﮮ ﮯ) فيه إشارة إلى أن هذه الصفات هي جزء من صفات عباد الله الواجب على الناس أن يتبعوهم فيها، والتي تؤهلهم للإمامة وقيادة الناس.
واليوم يعيش المسلمون أزمة قدوات فصار جزء منهم يقتدي بمن فسدت عقائده، وساءت أخلاقه، وراج سوؤه. فصار باطن الجيل وظاهره مقلدًا للكفر، ولدعاة على أبواب جهنم. وحتى يحسن حالنا، ويسوء وجه عدونا؛ لا بد من أئمة للهدى يقتدي بهم التائهون، ويؤوب إليهم المرضى بهم يستشفون.
وأئمة الاقتداء والهدى هؤلاء، لا بد لهم من صفات يتصفون بها، وسمات تعلو باطنهم وظاهرهم، ومنها:
وغيرها من الصفات التي تؤهل المسلم ليكون قدوة للمتقين.
ثالثًا: إظهار الصورة المنفرة للمقلدين:
أنعم الله تعالى على الإنسان بنعم كثيرة، فقال سبحانه: (ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [النحل: ١٨].
وعلى الإنسان أن يقوم بواجب الشكر لله على هذه النعم، وشكرها يكون باستعمالها فيما أمر الله، فإن استعملها صاحبها في غير ما أمر الله تعالى فقد كفر هذه النعمة، وحينها يستحق الذم.
ومن النعم التي أنعم الله بها على الإنسان السمع والبصر والعقل؛ لتكون له عونًا على اتباع الحق، واجتناب الباطل، ومن عطلها عن هذه الوظيفة التي خلقت لأجلها؛ فقد شبهه القرآن الكريم بالبهائم.
فقال الله سبحانه: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) [الأعراف: ١٧٩].
فهؤلاء لهم قلوب لا يفقهون بها الخير والهدى، ولهم أعين لا يبصرون بها طريق الحق، ولهم آذان لا يسمعون بها مواعظ القرآن سماع اتعاظ. هؤلاء مثلهم كمثل الأنعام لا تفقه ما يقال لها. بينما الأنعام وهي غير مكلفة، طائعة لربها، وهي مفطورة على ذلك؛ فهي: «تبصر منافعها، وتتبع مالكها، وهم بخلاف ذلك»146.
ووصفهم الله تعالى بالغفلة الكاملة، فهي خاصة بهم (ﭰ ﭱ)147.
إن تفضيل الله تعالى للأنعام على من أنكر حق الله تعالى في الوجود، وفي العبادة متبعًا في ذلك غيره، ومعطلًا ما وهبه الله من حواس، لهو تفضيل في غاية البشاعة والازدراء، فناسب تعطيلهم الحواس، تصويرهم البشع بأنهم أضل من الأنعام، فلو كان عندهم شيء من الإحساس والأنفة والعزة، لاهتزت مشاعرهم، وانتفضت قلوبهم الصدئة على تبعية عمياء، وجاهلية حمقاء، ولأنصت السمع للحق، ولنطق به اللسان، وعملت به الجوارح. يقول عبيد الله بن المعتمر: «لا فرق بين بهيمة تقاد وإنسان يقلد»148.
وقريب من آية الأعراف السابقة، آية الفرقان التي يقول تعالى فيها: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [الفرقان: ٤٤].
والملاحظ أن كلتا الآيتين جاء فيهما الإضراب لزيادة الذم.
أما ارتباط الآيتين بما قبلهما، فقد جاءت آية الأعراف السابقة بعد الحديث عن الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها، وآتاه الله علمًا لكنه أخلد إلى الأرض متبعًا هواه 149؛ فلما كان حاله ترك آيات الله، واتباع هواه، شبهه الله تعالى بالكلب الذي إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث. وهذا مثل في غاية السوء، وهذا استنفار لذي الحجر؛ ليقلع عن كل عمل يوصل إلى مثل هذا الحال. أما آية الفرقان فقد سبقتها آيات تخبر عن استهزاء الكفار بالنبي صلى الله عليه وسلم.
ووصفهم إياه بالضلال، واتخاذهم الهوى إلهًا من دون الله، فكان الرد الرباني عليهم بأنهم من الجهل بمكان وأنهم أضل من الأنعام سبيلًا. يقول سعيد حوى: «إن القيام بأمر الله هو وحده الذي يطلق طاقات الإنسان كلها في طريقها الصاعد نحو الكمال، وترك أمر الله يعني إطلاق هذه الطاقات نحو الحيوانية الحرة»150.
ولم يكتف القرآن الكريم بتشبيه الذين يتبعون آباءهم -معرضين عن داعي الله تعالى لهم باتباع ما أنزل الله- بالأنعام، بل شبههم أيضًا بالذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً. وهذه الصورة منفرة من التقليد الذي لا يقوم على دليل، قال سبحانه: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) [البقرة: ١٧١].
والآية هذه سبقت بالآية: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [البقرة: ١٧٠].
يقول الرازي: «ضرب لهم هذا المثل تنبيهًا للسامعين لهم إنهم إنما وقعوا فيما وقعوا فيه بسبب ترك الإصغاء، وقلة الاهتمام بالدين، فصيرهم من هذا الوجه بمنزل الأنعام، ومثل هذا المثل يزيد السامع معرفة بأحوال الكفار، ويحقر إلى الكافر نفسه إذا سمع ذلك، فيكون كسرًا لقلبه، وتضييقًا لصدره، حيث صيره كالبهيمة فيكون في ذلك نهاية الزجر والردع لمن يسمعه عن أن يسلك مثل طريقه في التقليد»151.
هؤلاء المقلدون عطلوا حواسهم-التي خلقها الله لهم لينتفعوا بها-واتبعوا آباءهم مقلدين لهم دون وعي وتفكير، ولم يتبعوا الرسل معاندين لهم. فهم صم عن سماع الحق، بكمٌ عن النطق به والدعوة إليه، عميٌ عن اتباعه؛ لأجل ذلك وصفهم القرآن في سورة الأنفال: بأنهم من الدواب، وأنهم شرها.
قال الله سبحانه: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) [الأنفال: ٢٢].
ويلاحظ أن آيتي البقرة والأنفال وصفتا المقلدين بالصم والبكم وعدم العقل، وهذا الوصف يليق بهم في الدنيا إذ إنهم كذلك. أما يوم القيامة حينما يرون ما وعدهم ربهم من النار، فإنهم يحسنون استعمال سمعهم وعقولهم؛ فيندمون ولات حين مناص.
يقول الله تعالى واصفًا حالهم هذه: (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ) [الملك: ١٠-١١].
وفي هذا أكبر الزجر لأولئك المقلدين، كي يتوبوا من غيهم، ويفيقوا من غفلتهم ولا يكونوا إمعات152 معطلين لأسماعهم وأبصارهم وأفئدتهم، متبعين كل ناعق.
ويخرج عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الإمعة من زمرة العلماء والمتعلمين حينما يقول: «اغد عالمًا أو متعلمًا ولا تكونن إمعة»153.
ولقد صور الله تعالى الكافرين بصورة مزرية، حينما قال: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ) [محمد: ١٢].
فهم كالبهائم لا هم لهم إلا شهوة البطن والفرج، (ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ) [هود: ١٦].
ولئن شبه المتبعون غير ما أنزل الله، بالأنعام، فقد كان للحمار دور في التشبيه به أيضًا. فالله تعالى وصف اليهود الذين لا يلتزمون أمره بالحمار في الحقارة والبلادة والجهل، قال سبحانه: (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [الجمعة: ٥].
فالله تعالى كلف اليهود بالعمل بما في التوراة، ومن ذلك اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، إلا إنهم كتموا، وحرفوا وبدلوا، وظاهروا المشركين على المسلمين فلما كانوا كذلك، شبههم بالحمار يحمل أسفارًا، لا يدري ما يحمل ولا ينتفع بما يحمل، إنزالًا من قدرهم، وحطًًا من شأنهم. والحمار يضرب به المثل في الجهل والبلادة والحقارة 154.
والغاية من ذلك تحقير المقلد ليكون ذلك أدعى لدفعه لترك التقليد. وهذا المثل فيه ترهيب للمسلمين من أن يتهاونوا بشيء من أحكام القرآن؛ فيكونوا أكثر سوءًا من اليهود؛ ومن ثم يكونون دون الحمار؛ فرسولهم صلى الله عليه وسلم أعظم، وكتابهم أعلى.
وفي الأمة الإسلامية اليوم من يحفظ كتاب الله تعالى ويعلم ما فيه، إلا إنه يخالفه في عمله وأخلاقه وتصرفاته وتصوراته، فشابه اليهود في هذه الصفة المذمومة.
وعليه أن يعتبر ويتعظ ويعمل بما علم، كي لا يلحقه من الذم ما لحق اليهود.
رابعًا: إعلان المسؤولية الفردية:
المسؤولية الفردية تعني تحمل الإنسان تبعة معتقداته وأفعاله وأقواله، في الدنيا والآخرة، ولا يشاركه أحد في ذلك. ومن عدل الله تعالى أن أرسى هذا المبدأ، فلا يحمل أحد وزر أحد.
يقول سبحانه: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ) [فاطر: ١٨].
فالآية تحث المقلد على الانتباه، وعدم الانجرار وراء الناعقين دون وعي وإدراك، لأن المتبوع لن يحمل شيئًا من أثقال التابع وآثامه. والمقلد غيره على غير هدى، يتحمل تبعة تقليده، ولا يغني عنه المتبوع شيئًا، فهو أضعف من أن يدفع العذاب عن نفسه، فضلًا عن أن يدفعه عن غيره.
هذا المبدأ الرباني وردت آيات كثيرة تقره وتعلنه، وضرب الله تعالى أمثلة عدة توضحه، تمثلت في أولي العزم من الأنبياء كإبراهيم عليه السلام مع أبيه، ونوح عليه السلام مع ولده وزوجه، والنبي صلى الله عليه وسلم مع عمه؛ ليكونوا أسوة حسنة لغيرهم من المؤمنين في التبرؤ من المشركين. فإبراهيم عليه السلام خاطب أباه أنه لا يملك له من الله شيئًا، فقال سبحانه: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [الممتحنة: ٤] فهو-على مكانته من الله تعالى- لا يستطيع أن يمنع أدنى شيء عن أبيه (ﯯ ﯰ)، وفي هذا إظهار لمبدأ المسؤولية الفردية عن الأعمال. والتعبير في الآية عن الملك (ﯪ ﯫ) ليظهر أن الكل ملك لله تعالى، والمرء لا يملك نفسه التي بين جنبيه، فكيف يملك غيرها ليرد عنها العذاب. وهذا فيه تحذير للمغرورين في الدنيا وتبعية أهلها ألا تعملوا إلا وفق ما أراد المالك سبحانه، لأن مخالفته تعني تحمل النتيجة من العذاب.
أما بالنسبة لمبدأ المسؤولية على مستوى البنوة، فقد قدم القرآن الكريم صورة نوح عليه السلام مع ولده الكافر الذي ناداه للنجاة من الغرق كما أخبر القرآن الكريم: (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ) [هود: ٤٢].
فنوح عليه السلام أمر ولده أن يتبع سبيله، وألا يتبع سبيل الكافرين، إلا أن الابن كان مطيعًا للكافرين لا لأبيه، فكانت النتيجة أن هلك مع الذين كثر سوادهم، واتبع سبيلهم، وأطاع أمرهم من الكافرين، ولم تنفع قرابة الأبوة شيئًا، حتى مجرد المناجاة التي كانت من نوح عليه السلام لربه لم تستجب، والتي ذكرها القرآن العظيم: (ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [هود: ٤٥-٤٦].
فكان التسليم المطلق من النبي الطائع بعدها مباشرة لأمر الله، والإنابة إليه من ندائه هذا، فقال سبحانه: (ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ) [هود: ٤٧].
نوح هذا الذي هو من أولي العزم لم يستطع أن يرفع العذاب عن ابنه الذي هو من صلبه، ولم يستجب دعاؤه في أكثر الناس قربًا له، فكانت الثمرة أن تحمل الولد وزر نفسه، وثمرة اختياره، وكان والده من الذين رضي الله عنهم، بينما ولده من الذين غضب الله عليهم فأهلكه معهم.
وأكد القرآن الكريم هذا النموذج في المسؤولية الفردية بين الابن إبراهيم عليه السلام وأبيه الكافر، وبين الأب نوح عليه السلام وبين ابنه الكافر، حينما جعله مبدأً عامًا بين كل ابن وأب، وبين كل أب وابن، فقال سبحانه: (ﮩ ﮪ)إلى قوله تعالى: (ﯚ ﯛ) [لقمان: ٣٣].
كذلك كانت المسؤولية الفردية على مستوى الزوجية، ولم يغن الزوج النبي عن زوجته الكافرة شيئًا، فقال الله سبحانه عن الزوجتين الكافرتين لنوح ولوط عليهما السلام: (ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [التحريم: ١٠].
إن الصلة بين الزوجين صلة متينة قوية، والعلاقة بينهما علاقة حميمة، وكلًا منهما لباس للآخر، يسترها وتستره، هذه المودة لم تكن لتجدي نفعًا عند الله تعالى حتى في ظل النبوة والرسالة.
ورغم أن الزوج نبي مرسل من عند الله تعالى، إلا إنه لم يستطع أن يغني شيئًا من عذاب الله تعالى عمن عاش معها حينًا من الدهر، حينما اختارت الكفر على الإيمان، ورضيت لنفسها طريق الكافرين على طريق المؤمنين، واتبعت خطوات الشيطان، وكفرت بخالقها وعصت زوجها إذ دعاها إلى الإيمان.
فالنتيجة لم يحمل من آثامها وأثقالها شيئًا، وحصدت هي وحدها -ووحدها فقط- ثمرة غراسها السيء (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ). بينما هو النبي كانت له ثمرة غراسه الطيب رضوان الله تعالى والفوز بالجنة لطاعته ربه، ومخالفة الهوى والكافرين. يقول الله سبحانه: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ) [غافر: ١٧].
ويقول سبحانه: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [طه: ١٥].
كذلك الأمر كان بالنسبة لسيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم حينما جمع أهل مكة وحذرهم وبين لهم حقيقة المسؤولية الفردية للأعمال، وأنه لا يغني عنهم من الله شيئًا، وأن الجميع: (ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ) [مريم: ٩٥].
وأن (ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ) [عبس: ٣٧].
فقال صلى الله عليه وسلم مؤكدًا هذا المبدأ: (يا معشر قريش -أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئًا)155.
فالنبي صلى الله عليه وسلم على قدر كرامته عند الله تعالى، وهو أحب الخلق إليه؛ إلا إنه لا يغني عن أقرب الناس إليه شيئًا، فكيف بالأباعد عنه نسبًا ممن يدعون أنهم من أمته، ولا يهتدون بهديه، ويتبعون غيره مستبدلين بشرعه شرع غيره، هؤلاء يؤتى بهم يوم القيامة ولا يردون الحوض، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إني لكم فرط على الحوض، فإياي لا يأتين أحدكم فيذب عني كما يذب البعير الضال، فأقول: فيم هذا؟ فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقًًا)156
ولو أن أحدًا يملك لأحد شيئًا، لكان هذا الأمر من سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب الذي دافع عنه في أيام الدعوة الإسلامية الأولى دفاع المستميت، إلا إنه صلى الله عليه وسلم نهي عن الاستغفار لعمه أبي طالب حينما مات على الكفر وعلى ملة الآباء والأجداد.
قال الله سبحانه: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ) [التوبة: ١١٣].
وسبب النزول أنه: «لما حضر أبا طالب الوفاة دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال: أي عم قل معي: لا اله إلا الله، أحاج لك به عند السله. فقال أبو جهل وابن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟
فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر شيء كلمهم به على ملة عبد المطلب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأستغفرن لك ما لم أنْه عنه، فنزلت157.
فالنهي كان للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين أن يستغفروا للمشركين، حتى ولو كانوا أولي قربى. هذا النهي كان قد توجه لنبيين من أولي العزم هما نوح وإبراهيم عليهما السلام، فنوح نهاه ربه أن يدعو لابنه الكافر، وإبراهيم نهاه ربه أن يستغفر لأبيه المشرك، فكان الموقف مماثلًا مع النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك كان النهي للمؤمنين في كل زمان أن يشفعوا للكافر ولو كان ذا قربى، لأنه حاد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
هذا الأمر وجدنا الصحابة رضوان الله عليهم يطبقونه أفضل تطبيق.
فقال الله سبحانه: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) [المجادلة: ٢٢].
نزلت هذه الآية في أبي عبيدة بن الجراح قتل أباه عبد الله يوم أحد، وفي أبي بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز، وفي مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد، وفي عمر قتل خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم بدر، وفي علي وحمزة قتلوا عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر158.
هكذا تكون المفاصلة، وهكذا تكون النتيجة، صفين: صف إيمان لا كفر فيه، وصف كفر لا إيمان فيه، يحمل كل منهما تبعة اختياره، وثمرة زراعته، ولا يحمل أحد وزر أحد ولو كان ذا قربى. ليحذر المرء ولينتبه من غفلته وغروره، وأنه لن يحمل أحد عنه من أوزاره شيئًا؛ كي يبقى طائعًا لله وحده، مخالفًا كل ذي هوى.
ولقد ضرب الله مثلًا للذين آمنوا امرأة فرعون في إيمانها وصبرها أمام أعتى جبابرة الأرض.
فقال سبحانه: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [التحريم: ١١].
هذه المرأة الصابرة، رغم ضعفها الجسدي إلا إنها قوية بإيمانها، صبرت على أذى زوجها وتعذيبه، لأنها علمت أن ليس لها إلا ما سعت، وأن زوجها الكافر لن يغني عنها من الله شيئًا، ولن يدفع عنها ضرًا، فكان قرارها الراسخ أن لا عودة إلى الكفر بعد إذ هداها الله إلى الإيمان، وفي هذا عبرة للمؤمنين.
هذه النماذج، ما ذكرها القرآن على هذا المستوى -مستوى النبوة- إلا لتؤكد مبدأ المسؤولية الفردية، وأن المرء مهما علت مكانته عند ربه، ومهما كان قريبًا من ربه، فإنه لن يستطيع أن يحمل عن أحد وزرًا ولو كان ذا قربى. فإذا كانت الأنبياء مع آبائها وأبنائها وأزواجها على هذا النحو، فكيف بمن هم أبعد من ذلك، كيف بمن اجتمعوا من أنساب شتى على الكفر والصد عن سبيل الله، والتآمر على دينه ويوم القيامة لا نسب ولا سؤال.
يقول الله سبحانه: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [المؤمنون: ١٠١].
وفي هذا بيان للناس أجمعين -في كل زمان- أن يستشعروا خطورة الموقف، وتبعة المسؤولية الشخصية حينما يتبعون غير أمر الله، ويطيعون العصاة في معصية الله، ويحادون الله ورسوله تبعًا لكبرائهم، أو لأهوائهم ومصالحهم الذاتية، حيث تنقطع الصلات ومصالح الدنيا.
فقال الله سبحانه: (ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [البقرة: ١٦٦].
ولقد وجد في البشرية من يتكل على فضائل الآباء، ظنًا منه أنها تنفع الأبناء، ومن هؤلاء اليهود الذين ادعوا نسبتهم إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب عليهم السلام، ولم يقتدوا بهم، ظانين أن النسب إليهم سينفعهم.
فرد الله تعالى عليهم هذا الادعاء: (ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ) [البقرة: ١٣٤].
فلكل ما كسب واكتسب، ولن ينفعوكم يوم القيامة.
ويزعم النصارى -حسب معتقداتهم- أن المسيح عليه السلام حمل خطايا الآخرين وكفر عنها بدمه، فجاء القرآن العظيم نافيًا هذا الاعتقاد الخاطئ، حيث قال الله تعالى: (ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ) [النساء: ١١١].
وقال سبحانه: (ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ) [الأنعام: ١٦٤].
وصناديد الكفر يصدون عن سبيل الله تعالى، ويحرضون الناس على عدم اتباع الأنبياء والدعاة إلى الله، ويحثونهم على اتباع طريقتهم والعمل بمنهجهم، وتكثير سوادهم؛ لتبقى لهم القوة والغلبة، مؤملين أتباعهم بالأماني الفارغة، والوعود الكاذبة وأنهم سيحملون أوزارهم عنهم.
حتى إذا حانت لحظة الشدة-في الدنيا والآخرة- تبرءوا من أتباعهم، فكان القرآن العظيم يقص قصتهم هذه: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ) [العنكبوت: ١٢-١٣].
إن الكبار يحملون وزر إضلال الصغار ويتحملون تبعة الافتراء على الله، وسيحاسبون على جريمة إضلال الضعفاء، وللضعفاء تبعة تبعية الضالين المضلين، فكانت النتيجة: (ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ) [النجم: ٣٩-٤١].
فإعلان مبدأ المسؤولية الفردية على هذا المستوى، هو إعلان فيه التحذير الشديد من التقصير أو التهاون في شأن الطاعات والتزام أوامر الله تعالى، واجتناب نواهيه، وألا يتكل أحد على حسنات أحد مهما كان قربه من الله تعالى.
موضوعات ذات صلة: |
الاتباع، القدوة |
1 تاج العروس، الزبيدي، ٩/٦٧.
2 العين للفراهيدي ٥/١١٧، لسان العرب، ابن منظور ٣/٣٦٧.
3 أساس البلاغة، الزمخشري، ٣٧٥.
4 انظر: المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية ١/٥٢٦.
5 لسان العرب، ابن منظور ٣/٣٦٧.
6 التعريفات، الجرجاني ص٩٠.
7 التقليد والتبعية وأثرهما في كيان الأمة الإسلامية، ناصر العقل ص٥٦.
8 مقاييس اللغة، ابن فارس، ١/٣٦٢.
9 موسوعة أخلاق القرآن، الشرباصي ٥/١٣٨.
10 من تشبه بقوم فهو منهم، ناصر العقل، ص٧.
11 لسان العرب، ابن منظور، ١٣/٥٠٣.
12 تفسير السمرقندي، ١/٦٣.
13 انظر: التدابير الواقية من التشبه بالكفار، عثمان أحمد دوكلي ص٣٤.
14 انظر: روح المعاني، الألوسي، ٩/٤١، المنار، محمد رشيد رضا، ٩/١١٠-١١١.
15 أخرجه أحمد في مسنده، ٣٦/٢٢٥، رقم ٢١٨٩٧.
وصححه الألباني في ظلال الجنة، ١/٣١، رقم ٧٦.
16 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله تعالى: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ)، ٦/ ٧٣، رقم ٤٩٢٠.
17 انظر: فقه السيرة النبوية، البوطي، ٤٧-٤٨.
18 انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب، ٥/٣١٩٤.
19 انظر: أسباب النزول، الواحدي، ص٢٠٦.
20 انظر: الشباب المسلم في مواجهة التحديات، عبد الله علوان، ص١٩٥، التقليد والتبعية، ناصر العقل، ص١١١-١١٣.
21 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي. ٢٣/٩٧.
22 جامع البيان، الطبري، ٢٢/٧٦.
23 الوسيط، طنطاوي، ١٤/٧٠.
24 جامع البيان، الطبري، ١٢/٨٠.
25 والأشهر الحرم التي حرمها الله تعالى أربعة: ثلاث سرد، وهي: ذو القعدة وذو الحجة ومحرم، وواحد فرد؛ وهو رجب.
26 مجموع فتاوى ابن تيمية، ٢٠/١٦.
27 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٦/١١٣.
28 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٢/٢٣١.
29 في ظلال القرآن، سيد قطب، ٣/١٣٩٨.
30 التعريفات، الجرجاني، ص١٣٧.
31 انظر: أسباب النزول، الواحدي، ١٩٩.
32 في ظلال القرآن، سيد قطب. ٢/٩١٦.
33 انظر: الكشاف، الزمخشري، ١/١١٨.
34 المصدر السابق ٤/٤٧.
35 انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب ٤/٢٠٩٦.
36 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٢/٤٥٤.
37 روح المعاني، الألوسي، ٢٤/٧٤.
38 التحرير والتنوير، ابن عاشور، ١٣/٢١٦.
39 انظر: المنهزمون دراسة للفكر المتخلف والحضارة المنهارة، يوسف العظم، ص١٩.
40 انظر: مقدمة ابن خلدون، ص ١٤٧.
41 انظر: العقيدة الإسلامية وأسسها، الميداني، ص٦٩٩.
42 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٨/٨٥.
43 الوسيط، طنطاوي، ٦/٢٥٧.
44 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ)، ٤/١٦٧، رقم ٣٤٤٥.
45 انظر: تيسير العزيز الحميد، سليمان بن عبدالله، ص ٢٧٣، إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد، الفوزان، ١/٦٢.
46 انظر: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، ٢/١١٥٧.
47 انظر: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب النكاح، باب حق الزوج على المرأة، ١/٥٩٥، رقم ١٨٥٣.
48 المحرر الوجيز، ابن عطية، ٣/١٤٤.
49 الرد على الأخنائي، ابن تيمية،ص ٥٩.
50 لسان العرب، ابن منظور، ٩/٢٥٥.
51 الأعراف: ٦٩.
52 أيسر التفاسير، الجزائري، ٢/٤٠.
53 التحرير والتنوير. ابن عاشور ١٤/٢٣.
وانظر: أضواء البيان، الشنقيطي ٦/٢٩٥.
54 انظر: السيرة النبوية، ابن هشام، ٢/٢٣٧.
55 انظر: أسباب النزول، الواحدي، ص١٦٩.
56 انظر: سورة ابراهيم: ٩.
57 انظر: في ظلال القرآن. سيد قطب. ٤/٢٢٩٩، و ٥/٢٨٨٨.
58 انظر: المحرر الوجيز، ابن عطية، ٣/٥٤٠.
59 انظر: صحيح مسلم، لمسلم، كتاب التوبة، باب في نزول (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ)، رقم ٧١٦٤، ٨/١٢٩.
60 انظر: جامع البيان، الطبري ١٧/٢٠٠، مفاتيح الغيب، الرازي ١٣/١٨٤-١٨٥.
61 التحرير والتنوير، ابن عاشور، ٨/١٤٨.
62 انظر: جامع البيان، الطبري ١٢/٣٧٨-٣٧٩.
63 انظر: الكشاف، ٢/٨٧.
64 هم قوم يحفظون طاعات لا أصل لها، وتلبيسات في الحقيقة، وهم يدعون محبة الله، ويخالفون الشريعة، ويقولون: إن الحبيب رفع عنه التكليف.
انظر: اعتقادات فرق المسلمين والمشركين، الرازي، ص٧٤.
65 انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية، ٨/١٧٩.
66 الجبرية: يزعمون أن العبد ليس قادرًا على فعله. ومن ضلالاتهم: أن الجنة والنار تفنيان.
انظر: اعتقادات فرق المسلمين والمشركين، الرازي ص٦٨.
67 انظر: أقسام الناس في الايمان بالقضاء والقدر، عبدالله الغفيلي، مجلة البحوث الإسلامية، عدد ٧٩، ص٩٠٣.
68 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام، رقم ٩٥٥، ٢/١٩.
69 الحمس: جمع أحمس وهو المشدد على نفسه في الدين.
انظر: عمدة القاري، العيني، ١٠/٣.
70 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٢/٢٨٣، اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٣/٤٢٢.
71 انظر: شرح صحيح البخاري، ابن بطال، ٢/٣٦٧، واقتضاء الصراط المستقيم، ابن تيمية، ص١١٩.
72 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ)، رقم ٤٤٩٥، ٥/١٥٣، ومسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به، رقم ٣١٤٠، ٤/٦٩.
73 انظر: أحكام القرآن، ابن العربي، ١/٤٦-٤٧، تحفة الأحوذي، المباركفوري، ٨/٢٤٢.
74 أخرجه أحمد في مسنده،، رقم٩٨١٠، ١٥/٥٠٣، وأبو داود في سننه، كتاب الصوم، باب ما يستحب من تعجيل الفطر، ٢/٣٠٥، رقم ٢٣٥٣، والحاكم في المستدرك، رقم ١٥٧٣، ١/٥٩٦. .
وصححه الحاكم على شرط مسلم.
75 انظر: عون المعبود، العظيم آبادي، ٦/٣٤٤.
76 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصيام، باب صوم يوم عاشوراء، رقم ٢٦٣٦، ٣/١٥١.
77 البحيرة: ما كان العرب يجعلونه بالناقة إذا ولدت عشرة أبطن شقوا أذنها، فيسيبوها فلا تركب ولا يحمل عليها.
انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني، ص٣٧
78 السائبة: التي كانت العرب تسيبها في المرعى فلا ترد عن حوض ولا علف، وذلك إذا ولدت خمسة أبطن.
انظر: المصدر السابق. ٢٤٦
79 الوصيلة: هي الشاة إذا ولدت ذكرًا وأنثى قالوا: وصلت أخاها فلا يذبحون أخاها من أجلها.
انظر: المصدر السابق. ٥٢٥.
80 الحام: الفحل إذا ركب ولد ولده، ويقال: إذا أنتج من صلبه عشرة أبطن، قالوا: قد حمى ظهره فلا يركب ولا يمنع من كلأ ولا ماء. انظر: غريب القرآن، السجستاني، ص١٢٠.
81 انظر: أسباب النزول، الواحدي، ص٤٨.
82 انظر: سورة البقرة: ١٦٨-١٦٩.
83 انظر: سورة البقرة: ١٧٢-١٧٣.والمحرمات الأربعة هي: الدم، ولحم الخنزير، والميتة، وما أهل لغير الله به.
84 انظر: سورة المائدة: ١٠٣.
85 انظر: أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص٢٠٦.
86 أخرجه الترمذي في سننه، كتاب تفسير القرآن، سورة التوبة، رقم ٣٠٩٥.
وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي، ٣/٢٤٧.
87 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب قصة خزاعة، ٤/١٦٠.
88 انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب، ٣/١١٩٢-١١٩٣.
89 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب يقول الله تعالى: (يعرفونه كما يعرفون أبناءهم)، رقم ٣٦٣٥، ٤/١٨٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنا، رقم ٤٥٣٦، ٥/١٢٢.
90 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحدود، باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان، رقم ٦٧٨٨، ٤/ ١٥٠.
91 انظر: لباب النقول، السيوطي، ص٢٠٤
92 المصد السابق ص ٢٠.
93 انظر: جامع البيان، الطبري، ٢/٤٦٠، مفاتيح الغيب، الرازي، ٣/٢٥٣.
94 أي: نفخة في الخصية.
انظر: لسان العرب، ابن منظور ٤/١٥.
95 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الخضر مع موسى عليهما السلام، رقم ٣٤٠٠، ٤/١٢٩، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب من فضائل موسى صلى الله عليه وسلم، رقم ٦٢٩٦، ٧/٩٩.
96 انظر: أيسر التفاسير، الجزائري، ٤/٢٩٨.
97 لباب النقول، السيوطي، ص١٧١.
98 انظر: جامع البيان، الطبري، ٧/٩٢
99 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب السنة، باب شرح السنة، رقم ٤٥٩٦، ٤/١٩٧، والترمذي في سننه، كتاب الإيمان، باب ما جاء في افتراق الأمة، رقم ٢٦٤٠، ٥/٢٥، وابن ماجه في سننه، كتاب الفتن، باب افتراق الأمم، رقم ٣٩٩١، ٢/١٣٢١.
قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
ووافقه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي، ٣/٥٣.
100 انظر: جامع البيان. الطبري، ٧/٣٣٠.
101 انظر: روح المعاني، الألوسي، ٧/ ٣٣٠.
102 زاد المعاد، ابن القيم، ٣/٢٢٨.
103 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٧/٢٤٦.
104 البحر المديد، ابن عجيبة، ٢/١٦٥.
105 إرشاد العقل السليم، أبو السعود، ٢/٢٤٥.
106 انظر: السيرة النبوية، ابن هشام، ٣/١٦٦.
107 بعاث موضع بالمدينة، كانت فيه وقعة عظيمة بين الأوس والخزرج، قتل فيها خلق من أشرافهم وكبرائهم.
انظر: البداية والنهاية، ابن كثير ٣/١١٧.
108 انظر: أسباب النزول، الواحدي، ٧٦-٧٧.
109 أبو رغال: رجل من نجد كان دليلًا لأبرهة الحبشي على البيت الحرام لهدمه، فلما وصل مع أبرهة إلى موضع يسمى المغمس مات أبو رغال، فصارت العرب ترجم قبره.
انظر: تاريخ الأمم والرسل والملوك، الطبري، ١/ ٤٤١.
110 القرط: نوع من حلي الأذن.
انظر: لسان العرب، ابن منظور، ٧/ ٣٧٤.
111 انظر: الكشاف، الزمخشري ٣/٥٤٦، أنوار التنزيل، البيضاوي، ٤/٣٧٣.
112 المصدر السابق، ٤/ ٢٧٨.
113 انظر: اقتضاء الصراط المستقيم، ابن تيمية، ص٧٦.
114 وهي: عدم الإشراك بالله شيئًا، والإحسان إلى الوالدين، وتحريم قتل الأولاد خشية الفقر، والابتعاد عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتحريم قتل النفس إلا بالحق، والنهي عن تناول مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، والوفاء بالكيل والميزان، والعدل، والوفاء بالعهد، واتباع الصراط المستقيم.
115 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٢/١٧٠.
116 انظر: إعانة المستفيد، الفوزان ص٤١.
117 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب من يستحب أن يلي الإمام في الصف والكراهية التأخر، رقم ٦٧٥، ٢/٢٥٣.
وصححه لألباني في صحيح سنن أبي داود رقم ٦٧٩، ٣/٢.
118 الجاثية: ١٦-١٧.
119 انظر: جامع البيان، الطبري، ١٥/٥٠٠، النكت والعيون، الماوردي، ٢/٥٠٨، الكشاف، الزمخشري، ٢/٤٠٨، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٩/٧٢.
120 انظر: البقرة: ٢٧٠، وآل عمران: ١٩٢، والحج: ٧١، والشورى: ٨.
121 الولاء والبراء في الإسلام، القحطاني، ص٩٠.
122 انظر: معالم التنزيل، البغوي، ٣/٣٨٠، تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٣٢٧.
123 لباب النقول، السيوطي، ص١٠٩.
124 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي، ١٢/١٥، روح المعاني، الألوسي، ٦/١٥٦.
125 سورة آل عمران: ١٠٠، ١٤٩.
126 انظر: معالم التنزيل، البغوي، ٧/٢٨٧، أنوار التنزيل، البيضاوي، ٥/١٢٣.
127 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ٣/١٩٤، نظم الدرر، البقاعي، ٣/٣٢، في ظلال القرآن، سيد قطب، ٣/١٢٨٩-١٢٩٠.
128 جامع البيان، الطبري، ١٩/٢٦٢.
129 زاد المسير، ابن الجوزي، ٧/١٥٢، اجتماع الجيوش الإسلامية، ابن القيم، ص٢٩.
130 انظر: جامع البيان، الطبري، ٢١/٣١، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٤/٧.
131 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي، رقم ٤٣٤٠، ٤/٢١٤.
وصححه الألباني في تعليقه على مشكاة المصابيح، ٣/١١٥.
132 انظر: إعلام الموقعين، ابن القيم، ١/١٤٧.
133 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٥/٢٢٥.
134 انظر: سورة الشعراء: ١٠٥، ١٢٣، ١٤١، ١٦٠، ١٧٦.
135 انظر: أضواء البيان، الشنقيطي، ١٨/١٤١.
136 وانظر: سورة النحل: ١١٢.
137 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، رقم ٢١٦٩، ٤/٤٦٨.
قال الترمذي: « هذا حديث حسن». ٤/٤٦٨.
138 انظر: الأنعام: ٨٤-٨٦.
139 جامع البيان، الطبري، ١١/٥١٨-٥١٩.
وانظر: اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل، ٨/٢٧٢.
140 مفاتيح الغيب، الرازي، ١٣/٥٨.
141 انظر: لباب النقول، السيوطي، ص٢٥٦.
142 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٨٥٦.
143 انظر: السيرة النبوية، ابن هشام، ٢/١٣٠.
144 انظر: صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ٨/١٣٩.
145 انظر: سورة الفرقان: ٦٣-٧٤.
146 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٧/٢٠٦.
وانظر: نظم الدرر، البقاعي، ٣/١٥٩.
147 انظر: أنوار التنزيل، البيضاوي، ٣/٧٧، نظم الدرر، البقاعي، ٣/١٥٩.
148 أضواء البيان، الشنقيطي، ٧/٣١٢.
149 انظر: سورة الأعراف: ١٧٥-١٧٩.
150 الرسول صلى الله عليه وسلم، حوى، ص٩.
151 مفاتيح الغيب، الرازي، ٥/٨.
152 جمع إمعة وهو: الذي لا رأي له ولا عزم، فهو يتبع كل أحد، ولا يثبت على شيء.
انظر: لسان العرب، ابن منظور، ٨/٣.
153 إعلام الموقعين، ابن القيم، ٢/٢٦٨.
154 انظر: اللباب في العلوم الكتاب، ابن عادل، ١٩/٧٦.
155 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الوصايا، باب هل يدخل النساء والولد في الأقارب، رقم ٢٧٥٣، ٣/١٩٠-١٩١.
156 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا وصفاته، رقم ٢٢٩٥، ٤/١٧٩٥.
157 أسباب النزول، الواحدي، ص١٧٧.
158 المصدر السابق، ص٢٧٨.