عناصر الموضوع
التثبت
أولًا: المعنى اللغوي:
التثبت مأخوذ من الفعل ثبت، ويطلق في اللغة على أمور:
التأنّي أو التريّث وعدم الاستعجال، تقول: تثبّت في الأمر والرأي، واستثبت: تأنّى فيه ولم يعجل، واستثبت في أمره: إذا شاور وفحص عنه1.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
يمكن تعريف التثبت بأنه: التأني وعدم التسرع في كل الأحوال التي يقع للإنسان فيها نوع اشتباه، حتى يتضح له الأمر، ويتبين الرشد والصواب والحقيقة، وإفراغ الجهد والوسع لمعرفة حقيقة الحال المراد4.
ورد لفظ (التثبّت) في القرآن الكريم (٣) مرات، في سورتين، في قراءة حمزة والكسائي وخلف 5.
والصيغ التي وردت هي:
الصيغة | عدد المرات | المثال |
فعل الأمر | ٣ | (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ فَتَثَبَّتُوا) [النساء:٩٤] |
وجاء التثبت في القرآن الكريم بمعناه اللغوي الذي يدور حول التأني والتريث وعدم الاستعجال.
التبين:
التبين لغة:
مصدر تبيّن إذا تثبّت في الأمر. ويقال: تبيّنت الأمر أي: تأمّلته وتوسّمته، واستبنت الشّيء إذا تأمّلته حتّى تبيّن لك. والبيان: ما بيّن به الشّيء من الدّلالة وغيرها. وبان الشّيء بيانًا: اتّضح، فهو بيّن، وكذلك أبان الشّيء فهو مبين. وأبنته أنا أي: أوضحته، واستبان الشّيء: ظهر. واستبنته أنا: عرفته، وتبيّن الشّيء: ظهر6.
التبين اصطلاحًا:
مرتبة من مراتب وصول العلم يراد بها طلب الحقيقة بعد التباسها.
يقول الكفويّ: «اعلم أنّ مراتب وصول العلم إلى النّفس: الشّعور ثمّ الإدراك ثمّ الحفظ ثمّ التّذكّر ثمّ الذّكر ثمّ الرّأي، وهو استحضار المقدّمات وإجالة الخاطر فيها، ثمّ التّبيّن وهو علم يحصل بعد الالتباس، ثمّ الاستبصار وهو العلم بعد التّأمّل... » 7.
الصلة بين التثبت والتبين:
يرى بعض أهل العلم أن التثبت والتبين بمعنى واحد، وذلك عند توجيههم لقراءة (ﭦ)، و(فتثبتوا)8.
ويرى بعضهم أن المعنيين متقاربان؛ لأن من تبيّن فقد تثبّت، ومن تثبّت فقد تبيّن9.
ويرى بعض أهل العلم أن بينهما فرقًا، فقد ذكر أبو علي الفارسي في توجيهه لقراءة (ﭦ)، و(فتثبتوا) أن التثبّت هو خلاف الإقدام، والمراد: التأنّي، ومما يقوّي ذلك قولهم: تثبّت في أمرك. ولا يكاد يقال في هذا المعنى: تبيّن.
وأما التبيّن فليس وراءه شيء، وقد يكون تبينت أشدّ من تثبّت10.
ومن الفروق بينهما: أن «المراد من التبين: التعرّف والتفحص، ومن التثبت: الأناة وعدم العجلة، والتبصر في الأمر الواقع، والخبر الوارد حتى يتضح ويظهر»11.
والراجح أن بينهما فرقًا، فلو لم يكن بينهما فرق لما جاءت القراءة الأخرى باللفظ الآخر، فهناك فرق بينهما، والذي أراه -والله أعلم- أن التبين يكون بالبحث في الوسائل المادية التي من شأنها أن ترى وتبان، بينما التثبت يكون من جهة الأمور المعنوية كالسماع.
النظر:
النظر لغةً:
يقصد به في اللغة التأمل والتفحّص، يقال: نظره، أي: تأمّله بعينه12.
وعبارة الراغب: «نظرت إلى كذا -إذا مددت طرفك إليه-: رأيته أو لم تره، ونظرت فيه: إذا رأيته وتدبرته»13.
النّظر اصطلاحًا:
تقليب البصر والبصيرة؛ لإدراك الشيء ورؤيته، وقيل: هو التحديق لإدراك الصور، في أول مراتب الإبصار، ثم تليه الرّؤية، وهي من لوازمه.
الصلة بين التثبت والنظر:
يتضح من خلال تعريف التثبت والنظر أن النظر وسيلة من وسائل التثبت.
التبصر:
التبصر لغة:
مصدر قولهم: تبصّر الشّيء إذا نظر إليه هل يعرفه؟ وهو مأخوذ من مادّة (ب ص ر) الّتي تدلّ على العلم بالشّيء، ومعناه: التّأمّل والتّعرّف، أمّا التّبصير فهو التّعريف والإيضاح، يقال: بصّره بالأمر تبصيرًا وتبصرة فهّمه إيّاه14.
التبصر اصطلاحًا:
يمكن تعريفه بأنه النّظر إلى الشّيء بقصد معرفته15.
وعرّفه القرطبي بأنه «معرفة الشّيء على الحقيقة من خلال البراهين»16.
ويمكن تعريفه بأنه: «طلب معرفة الأمور على حقيقتها من خلال البراهين الحسّيّة الّتي يمكن للعين رؤيتها، وللبصيرة (أي: قوّة القلب المدركة) تأمّلها واعتقاد صحّتها»17.
الصلة بين التثبت والتبصر:
يلاحظ أن التبصر وسيلة من وسائل التثبت.
ولا شكّ بأنّ كلّ لفظة من ألفاظ القرآن الكريم لها كيانها الخاص بها، ومعانيها التي لا يمكن أن تحملها لفظة أخرى من ألفاظ الكتاب العزيز، وإنما يكون الاشتراك بين بعض الألفاظ في جزء من المعاني، لا في كلها.
العجلة:
العجلة لغة:
العين والجيم واللام أصلان صحيحان، يدل أحدهما على الإسراع، والآخر على بعض الحيوان، والجمع عجل وعجلات، والعجل والعجلة: خلاف البطء 18.
العجلة اصطلاحًا:
قال الرّاغب: «العجلة: طلب الشّيء وتحرّيه قبل أوانه»19.
وقال المناوي: «العجلة: فعل الشّيء قبل وقته اللّائق به»20.
الصلة بين التثبت والعجلة:
العجلة من الألفاظ المقابلة للتثبت، فهي ضد التثبت.
إن للتثبت أهمية عظيمة في حياة الناس، فعندما يبني الإنسان تصوراته، ويصدر أحكامه على أساس من العلم، وليس الظن والتخريص، فإن ذلك يحميه من الوقوع في ظلم الناس، واتهامهم في أعراضهم وأموالهم21.
والتثبت يعدّ من أجل الآداب والأخلاق التي طالب الشرع بالتحلي بها والاتصاف بها. وإن من يتأمل في واقع الناس اليوم، وينظر في الكم الهائل من الأخبار التي نسمعها في كل يوم، ويرى الاختلاف والتباين بين مصادر هذه الأخبار، يدرك عظمة هذا الدين، وسمو هذا المنهج الذي دعا إليه الإسلام، وأمر به القرآن والسنة.
ولذلك يقول سيد قطب: «التثبت من كل خبر ومن كل ظاهرة، ومن كل حركة قبل الحكم عليها، هو دعوة القرآن الكريم، ومنهج الإسلام الدقيق.
ومتى استقام القلب والعقل على هذا المنهج لم يبق مجال للوهم والخرافة في عالم العقيدة، ولم يبق مجال للظن والشبهة في عالم الحكم والقضاء والتعامل، ولم يبق مجال للأحكام السطحية والفروض الوهمية في عالم البحوث والتجارب والعلوم»22.
وقد جاء الأمر بالتثبت في نصوص كثيرة، منها قول الله تعالى: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [الحجرات: ٦].
قال الشيخ السعدي: «والتثبت في سماع الأخبار وتمحصيها ونقلها وإذاعتها، والبناء عليها أصل كبير نافع، أمر الله به رسوله، قال تعالى: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) فأمر بالتثبت، وأخبر بالأضرار المترتبة على عدم التثبت، وأن من تثبت لم يندم، وأشار إلى الميزان في ذلك في قوله تعالى: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) وأنه العلم والتحقق في الإصابة وعدمه، فمن تحقق وعلم كيف يسمع، وكيف ينقل وكيف يعمل، فهو الحازم المصيب، ومن كان غير ذلك فهو الأحمق الطائش الذي مآله الندامة»23.
وعبر في الآية بحرف «إن» الذي يفيد التشكيك، ولم يقل: «إذا» لأنها تفيد التحقيق؛ ليبرهن على أن وقوع مثل هذا الحدث في المجتمع الإسلامي على سبيل الندرة، وأن الأصل في المؤمن الصدق.
والأمر في الآية بالتثبت من خبر الفاسق «لأن الفاسق ضعيف الوازع الديني في نفسه، وضعف الوازع يجرؤه على الاستخفاف بالمحظور، وبما يخبر به في شهادة أو خبر يترتب عليهما إضرار بالغير أو بالصالح العام، ويقوي جرأته على ذلك دومًا إذا لم يتب ويندم على ما صدر منه ويقلع عن مثله»24.
وتتضح أهمية التثبت في العلة والنتائج التي أمر الله من أجلها بالتثبت، فالعلة في قوله: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) «أي: تثبتوا - أيها المؤمنون- من صحة خبر الفاسق؛ لئلا تصيبوا قومًا بما يؤذيهم، والحال أنكم تجهلون حقيقة أمرهم، أو خشية أن تصيبوا قومًا بجهالة؛ لظنكم أن النبأ الذي جاء به الفاسق حقًّا»25.
وأما النتائج المترتبة على عدم التثبت فذلك قوله تعالى: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) أي: فتندموا على ما فرط منكم وتتمنّوا أن لو لم تكونوا فعلتم ذلك.
فالآية ترشدنا إلى وجوب التثبت من الأخبار، والتحذير من الاعتماد على مجرد الأقوال؛ منعًا من إلقاء الفتنة بين أفراد وجماعتهم، وأخذًا بالحيطة والحذر، وعدم إيذاء الآخرين بخطأ فادح، فيصبح المتسرع في الحكم والتصديق نادمًا على العجلة، وترك التأني والتأمل.
وما أحوجنا في هذا الزمان لهذا الأدب الذي سهل فيه انتشار الأخبار بسرعة مذهلة، فبمجرد ضغطة زر ينتشر الخبر على الآلاف بل ملايين البشر، وبعض الناس لا يحتاج أن يضغط زرًّا، بل هو بنفسه مذياع ما أن يسمع الخبر إلا ويطير به طيرانًا، وهو لم يتأكد بعد من صحة الخبر وتفاصيله وأحداثه، وإنما تلقّفه ونشره وأذاعه.
قال ابن الجوزي مبينًا أهمية التثبت: «ما اعتمد أحد أمرًا إذا هم بشيء مثل التثبت، فإنه متى عمل بواقعة من غير تأمل للعواقب، كان الغالب عليه الندم، ولهذا أمر الإنسان بالمشاورة؛ لأن الإنسان بالتثبت يطول تفكيره، فتعرض على نفسه الأحوال، وكأنه شاور، وقد قيل: «خمير الرأي خير من فطيره».
وأشد الناس تفريطًا من عمل مبادرة في واقعة من غير تثبت ولا استشارة، خصوصًا فيما يوجب الغضب، فإنه بنـزقه طلب الهلاك واستتبع الندم العظيم، فالله الله، التثبت، التثبت في كل الأمور، والنظر في عواقبها»26.
وإذا كانت آية سورة الحجرات أمرت بالتثبت في جميع الأحوال، فإن التثبت في حال الحروب آكد من غيرها؛ لكثرة الإشاعات والمغرضات في التثبيط من العزائم، قال تعالى: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [النساء: ٩٤].
وببيان سبب نزول الآية يتبين المراد، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رجل في غنيمة له، فلحقه المسلمون، فقال: السلام عليكم، فقتلوه وأخذوا غنيمته، فأنزل الله في ذلك إلى قوله: (ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ) 27.
«فإذا كان من خرج للجهاد في سبيل الله، ومجاهدة أعداء الله، وقد استعد بأنواع الاستعداد للإيقاع بهم، مأمورًا بالتبين لمن ألقى إليه السلام، وكانت القرينة قوية في أنه إنما سلّم تعوذًا من القتل وخوفًا على نفسه - فإن ذلك يدل على الأمر بالتبين والتثبت في كل الأحوال التي يقع فيها نوع اشتباه، فيتثبت فيها العبد، حتى يتضح له الأمر ويتبين الرشد والصواب (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) فيجازي كلًّا ما عمله ونواه، بحسب ما علمه من أحوال عباده ونياتهم»28.
قال الطبري في تفسير الآية: «فتأنّوا في قتل من أشكل عليكم أمره، فلم تعلموا حقيقة إسلامه ولا كفره، ولا تعجلوا فتقتلوا من التبس عليكم أمره، ولا تتقدموا على قتل أحد إلا على قتل من علمتموه يقينًا حربًا لكم ولله ولرسوله»29.
نرى هنا أهمية التثبت كيف وضّحها الله سبحانه وتعالى، حتى في الحرب طلب منا التثبت، وهي مظنة قتال وخداع وغيره من أمور الحروب التي جرت عليها.
ويزداد هذا الواجب توكيدًا إذا تعلّق الأمر بالدّماء والأعراض والأحكام الشّرعيّة؛ لما في انتشار الأخبار الكاذبة من ضرر عظيم، وشرّ جسيم.
وتتبين أهمية التثبت في ذم الله تعالى المسارعين في نقل الأخبار، فقال: (ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ) [النور: ١٥].
وتتجلى أهمية التثبت في معرفة الأضرار الكثيرة الواقعة على الفرد والمجتمع من جراء عدم التثبت، فـ«المشاهد والواقع أن عدم التثبت وعدم التأني يؤديان إلى كثير من الأضرار والمفاسد، فقد يسمع الإنسان خبرًا، أو يقرأ نبأ في صحيفة، أو مجلة، فيسارع بتصديقه، ويعادي ويصادق، ويبني على ذلك التصرفات والأعمال التي يصدرها للمقاومة أو الموافقة، على أساس أنه حق واقع، ثم يظهر أنه كان مكذوبًا، أو محرفًا، أو مزورًا، أو مبالغًا فيه، أو مرادًا به غير ما فهمه الإنسان، ومن هنا يكتوي المتسرع بلهب الندم والحسرة بسبب استعجاله وعدم تثبته»30.
وتأكيدًا لأهمية التثبت، وزيادة في الحرص على عدم ذيوع الإشاعات والأكاذيب في المجتمع، فقد أمرت الشريعة الإسلامية المؤمنين بالإعراض عن جميع أنواع اللغو وبأية صفة كانت وهيئة تبدّت، فهي من أعمال الجهل المنهي عنها، قال تعالى: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ) [القصص: ٥٥].
وقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [المؤمنون: ١ - ٣].
فقد بيّنت الآيات أن التثبت والإعراض عن لغو الكلام سبب من أسباب الفلاح، وأن ذلك صفة ملازمة للمؤمنين.
ولأجل ذلك حذر الشارع أشد التحذير من نقل الشخص لكل ما يسمعه، فعن حفص بن عاصم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء كذبًا أن يحدّث بكل ما سمع)31.
قال الإمام مالك: «اعلم أنّه ليس يسلم رجل حدّث بكل ما سمع، ولا يكون إمامًا أبدًا وهو يحدّث بكل ما سمع »32.
قال النووي: «وأما معنى الحديث والآثار التي في الباب ففيها الزجر عن التحديث بكل ما سمع الإنسان، فإنه يسمع في العادة الصدق والكذب، فإذا حدّث بكل ما سمع فقد كذب؛ لإخباره بما لم يكن، وقد تقدم أن مذهب أهل الحق أن الكذب الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو، ولا يشترط فيه التعمد، لكن التعمد شرط في كونه إثمًا»33.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (إن العبد ليتكلم بالكلمة، ما يتبين ما فيها، يهوي بها في النار، أبعد ما بين المشرق والمغرب)34.
ففي قوله صلى الله عليه وسلم: (ما يتبين فيها) بيان أنه لا يتثبت من الخبر، ولا ما يدور حوله من معطيات ربما تكذّب هذا الخبر، فيكون أحد الكاذبين؛ لأنه استعجال دون تبين وتروي في الكلام.
ولذلك قال ابن حجر رحمه الله: «لا يتطلب معناها، أي: لا يثبتها بفكره، ولا يتأملها حتى يتثبّت فيها فلا يقولها إلا إن ظهرت المصلحة في القول»35.
وأخبر سبحانه أن الإنسان مسؤول أمام الله عز وجل ومحاسب عن كل صغير وجليل فقال: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ) [الإسراء: ٣٦]
وتظهر أهمية التثبت في حثّ النبي صلى الله عليه وسلم على التأني في الأمور كلها، فقال: (التأني من الله، والعجلة من الشيطان)36.
فقوله: ( التأني من الله) أي: مما يرضاه، وأمر به، ويوفّق إليه، ويثيب عليه (والعجلة من الشيطان) أي: هو الحامل عليها بوسوسته؛ لأن العجلة تمنع من التثبت والنظر في العواقب37.
والشّاهد من هذه النّصوص هو: الأمر بالتثبّت في الأخبار الّتي ينقلها النّاس، هذا في عصر الهدى والنّور، والعلم والإيمان، فكيف بزمن قلّ فيه ذلك كلّه؟!
ومن خلال ما سبق يتضح أن التثبت من كل الأخبار والأحداث قبل الحكم عليها هو دعوة القرآن الكريم ومنهج الإسلام الدقيق، حيث إن تلقّف الأخبار بغير تبين وتروي قد يحيلها أحيانًا إلى غير مقاصدها، وينتج عنها بعد ذلك خطر عظيم، والاستماع إلى الكذب لا يجوز؛ لأن مداومة الاستماع إليه مدعاة لتصديقه وترديده وترويجه بين الناس، وقد يلتقط بعض السامعين الأحاديث الكاذبة، ويرويها دون أن يبين حقيقتها، فيأخذها غيره ويرويها على أنها أحاديث صادقة وحقائق واقعة، وقد يؤدي الاستماع إلى الباطل والأكاذيب إلى استقرار شيء منها في النفس ولو بدون قصد.
التثبت منهج إسلامي واضح المعالم، يقوم على صدقية الخبر وسلامة النقل، وهو أدب اجتماعي عام ضروري للحفاظ على وحدة الأمة، والناظر المتأمل سيجد أن التثبت له علاقة بكل مجالات الحياة المتنوعة، وليس هناك مجال إلا والتثبت أساس فيه، وهذا بيان لبعض المجالات التي يقوم عليها التثبت.
أولًا: المجال العلمي:
إن أوجب ما يدخله التثبت هو المجال العلمي بكل أنواعه وتفاصيله، بل إذا تأملنا لوجدنا أن التثبت هو العلم، والعلم هو معرفة الأمور على حقيقتها، وأخص ما يدخله التثبت في المجال العلمي التثبت في النواحي الدينية.
ويناول البحث في موضوع التثبت في النواحي الدينية أمرين:
الأول: التثبت في نقل كلام الله تعالى.
يقول ابن القيم: «وقد حرم الله سبحانه القول عليه بغير علم في الفتيا والقضاء، وجعله من أعظم المحرمات، بل جعله في المرتبة العليا منها، فقال تعالى: (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [الأعراف: ٣٣].
فرتّب المحرمات أربع مراتب، وبدأ بأسهلها وهو الفواحش، ثم ثنى بما هو أشد تحريمًا منه وهو الإثم والظلم، ثم ثلّث بما هو أعظم تحريمًا منهما وهو الشرك به سبحانه، ثم ربّع بما هو أشد تحريمًا من ذلك كله، وهو القول عليه بلا علم، وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه»38.
إن التقول على الله بغير علم ولا دليل «هو سبب تحريف الأديان، والابتداع في الدين الحق، وهو منهج أدعياء التجديد، وتخطي الشريعة باسم الاجتهاد»39.
إن من أخطر أنواع التثبت: التثبت في القول على الله تبارك وتعالى؛ لأن القول على الله بغير علم من أشد المحرمات، كما قال تعالى: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [الأعراف: ٣٣].
أي: «في أسمائه وصفاته وأفعاله وشرعه، فكل هذه قد حرمها الله، ونهى العباد عن تعاطيها؛ لما فيها من المفاسد الخاصة والعامة، ولما فيها من الظلم والتجرؤ على الله، والاستطالة على عباد الله، وتغيير دين الله وشرعه»40.
فلابد إذن من الحذر في القول على الله بغير علم، فإنه كذب وحرام، وكثيرًا ما نسمع الناس يقولون: قال الله في الحديث القدسي، بدون تثبت من مصدر هذا القول، ناسبين إليه سبحانه ما لم يقله، فلماذا هذه الجرأة على الله؟! ولماذا هذا التسرع وعدم التثبت في القول على الله؟!
ومن هنا كان القول على الله بغير علم سببًا للضلال والإضلال.
إن حاجة العلماء والدعاة وطلاب العلم إلى التثبت في النقل عن الله -خاصة في مجال الفتيا- ماسة وخطيرة؛ لأنهم من يصدر الأحكام، ويطبّق النصوص على الوقائع والأقوال، فلا بد من التثبت من الواقعة وملابسات حدوثها، وصحة صدور القول من قائله، ومراده منه ومقصده، والتحري من توافق ذلك مع النص عند تنزيله عليه.
إنّ ثمة حقيقة لا شك فيها؛ وهي أن الساحة الإسلامية تشهد فوضى فقهية تطاول فيها بعض أدعياء العلم وأنصاف المثقفين على الفتوى، فراحوا يخوضون فيها بدون ورع أو تثبّت، بل تجرؤوا على المسائل الكبار التي لو عرضت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر41.
والعجيب أنّ بعض الناس عندما تراجعه في بعض تلك الفتاوى والآراء، يبادرك بضرورة اتساع الصدر للرأي المخالف؛ لأنه ما زال العلماء يختلفون ولا ينكر بعضهم على بعض! وهذا حق لا شك فيه لو أنّه صادر عمن يحق له الفتوى والاجتهاد من أهل العلم الراسخين، أما وإنه صادر في أغلب الأحوال عن غير أهله؛ فكيف يراد منا أن نعذر فيه المخالف؟! ونحسب أن بعض المفتين في هذا الزمان أحق بالسجن من السّرّاق! 42.
والأخطر من هذا أن بعض محاضن الصحوة الإسلامية لم تسلم من هذه الفوضى الفقهية والمنهجية، وإذا كان المربون وروّاد العمل الدعوي يتحدثون في وقت مضى عن الموازنة بين العزائم والرّخص؛ فإن بعض المعاصرين تجاوزوا الرّخص إلى الوقوع في بعض المنكرات الواضحات بحجة الواقعية، وتغيّر الزمان، وعموم البلوى، وضرورة تقديم المصالح الدعوية، وإعادة قراءة مقاصد الشريعة، ونحوها من المعاذير الباردة التي أوجدت مناخًا دعويًّا مهيّأ للتفلت من القيود الشرعية، ولا نبالغ إذا قلنا: إن بعض الدعاة أصبحوا لا يتورعون عن ممارسة بعض المناورات السياسية والحزبية، ويقع أحيانًا فيما تقع فيه بعض التجمعات الحزبية العلمانية!
الثاني: التثبت في نقل كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
التثبت في النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ضروري، والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم: (من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)43.
وروى مسلم في صحيحه: أنّ بشير العدوي جاء إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فجعل يحدّث ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم... فجعل ابن عباس رضي الله عنهما لا يأذن (أي: لا يصغي) لحديثه، ولا ينظر إليه، فقال: يا ابن عباس! ما لي لا أراك تسمع لحديثي؟ أحدثك عن رسول الله ولا تسمع! فقال ابن عباس: إنّا كنا مرّة إذا سمعنا رجلًا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا؛ فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف44.
وهذا النص يفيد أنّ العلماء والأئمة كانوا يتثبّتون أشدّ التثبّت في تلقّي العلم، ويتحرّون في نقلته ورواته، وبخاصة بعد أن ظهرت الفتن وكثر الابتداع؛ ولهذا قال محمد بن سيرين: «لم يكونوا يسألون عن الإسناد؛ فلما وقعت الفتنة قالوا: سمّوا لنا رجالكم؛ فينظر إلى أهل السنّة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع ولا يؤخذ حديثهم»45.
ولأهمية التثبت في النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان السلف يحتاطون ولا يأخذون برواية الضعيف، فعن ابن أبي الزناد: «أدركت بالمدينة مائة مأمون، ما يؤخذ عنهم الحديث، يقال: ليس من أهله»46.
وقد كان للصحابة رضي الله عنهم منهج واضح في تلقي الأخبار والروايات، فقد كانوا إذا بلغهم الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتاطون في قبوله بطلب الشهادة أو اليمين؛ لمزيد من التأكيد والتثبت.
فعن قبيصة بن ذؤيب، أنه قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها، فقال: ما لك في كتاب الله تعالى شيء، وما علمت لك في سنة نبي الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة، فقال مثل ما قال المغيرة ابن شعبة، فأنفذه لها أبو بكر، ثم جاءت الجدة الأخرى إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه تسأله ميراثها، فقال: مالك في كتاب الله تعالى شيء، وما كان القضاء الذي قضي به إلا لغيرك، وما أنا بزائد في الفرائض، ولكن هو ذلك السدس، فإن اجتمعتما فيه فهو بينكما، وأيتكما خلت به فهو لها47.
وعن أسماء بن الحكم قال: سمعت عليًّا يقول: كنت رجلًا إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا نفعني الله منه بما شاء أن ينفعني، وإذا حدثني أحد من أصحابه استحلفته، فإذا حلف لي صدقته48.
ومن هنا نشأ علم الجرح والتعديل، وعلم التصحيح والتضعيف، ومعرفة ما صح وما لم يصح من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وشنّ العلماء حملة ضارية على رواة الأحاديث الموضوعة؛ لما في ذلك من كذب صريح على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإن من الإثم العظيم تساهل الناس اليوم في نقل ورواية الأحاديث الموضوعة في أبواب الترغيب والترهيب، والوعظ، وغير ذلك، وهؤلاء سيكون خصمهم يوم القيامة النبي صلى الله عليه وسلم الذي توعّدهم بقوله: (من حدّث عني بحديث يرى أنه كذب، فإنه أحد الكاذبين)49.
وما أجمل كلام ابن العربي حين يقول: «على الناس أن ينظروا في أديانهم نظرهم في أموالهم، وهم لا يأخذون في البيع دينارًا معيبًا، وإنما يختارون السالم الطيب؛ كذلك في الدين لا يؤخذ من الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما صح سنده؛ لئلا يدخل في خبر الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينما هو يطلب الفضل إذا به قد أصاب النقص، بل ربما أصاب الخسران المبين»50.
ثانيًا: المجال الأمني:
لا يخفى على أحد أهمية الأمن للفرد والمجتمع والدولة، بل وللعالم أجمع؛ وذلك لما يتحقق في الحياة الآمنة من استقرار وهدوء، ونهضة إنسانية في جميع المجالات الحيوية.
ومن ضمن مقاييس قوة الدولة اليوم هو مدى ما يتحقق فيها من الأمن والأمان للقاطنين والمقيمين فيها.
كما أن الأمن أصبح في العصر الحاضر مطلبًا مهمًّا، وضرورة ملحة، ومبتغى عزيزًا في ظل الظروف القلقة والأحداث الدامية، والعواصف المدمرة التي تشهدها كثير من الدول والمجتمعات العالمية.
ومن هنا تنبع أهمية التثبت في المجال الأمني، وقد أنكر الله سبحانه وتعالى على من نشر كل خبر جاءه في أمن أو خوف دون التثبت ومراجعة أهل الاستنباط بذلك الخبر فقال: (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [النساء: ٨٣ ].
يقول الشيخ السعدي: «هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق. وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين، أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، أهل الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة، الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها. فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطًا للمؤمنين وسرورًا لهم وتحرزًا من أعدائهم فعلوا ذلك. وإن رأوا أنه ليس فيه مصلحة أو فيه مصلحة ولكن مضرته تزيد على مصلحته، لم يذيعوه، ولهذا قال: (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ) أي: يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة وعلومهم الرشيدة. وفي هذا دليل لقاعدة أدبية، وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولّى من هو أهل لذلك ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم، فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ. وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها، والأمر بالتأمل قبل الكلام والنظر فيه، هل هو مصلحة، فيقدم عليه الإنسان؟ أم لا فيحجم عنه؟ »51.
وقد ورد من الأسباب التي نزلت لأجلها الآية ما يوضح أهمية التثبت في الناحية الأمنية، وعدم الاستعجال بإذاعة الأخبار التي تضر بأمن واستقرار الأفراد والمجتمعات، فقد ذكر أنها نزلت في أهل النفاق أو ضعفاء الإيمان، كانوا إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف من الأعداء، أذاعوا بالحديث، حتى يبلغ عدوهم أمرهم52.
ولذلك قال الزمخشري حول هذه الآية: «هم ناس من ضعفة المسلمين الذين لم تكن فيهم خبرة بالأحوال ولا استبطان للأمور، كانوا إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أمن وسلامة أو خوف وخلل (ﮑ ﮒ) وكانت إذاعتهم مفسدة، ولو ردوا ذلك الخبر إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وإلى أولى الأمر منهم- وهم كبراء الصحابة البصراء بالأمور أو الذين كانوا يؤمرون منهم- (ﮜ) علم تدبير ما أخبروا به (ﮝ ﮞ ﮟ) الذين يستخرجون تدبيره بفطنهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدها»53.
ففي الآية إنكار على من يبادر إلى نقل الأمور قبل التحقق منها، فيخبر بها ويفشيها وينشرها، وقد لا يكون لها أساس من الصحة.
فنفهم من الآية أنه قد يذاع الخبر عن اضطرابات أمنية من مصادر غير موثوقة إلى الجهلة أو المنافقين، أو ضعفة المسلمين الذين لا خبرة لهم بالقضايا العامة، فيبادرون إلى إذاعته ونشره، وترويجه بين الناس، وهذا أمر منكر يضر بالمصلحة العامة، وتحصل به المفسدة.
«ولا يخفى أنه ينبغي التنبه للآثار السيئة لعدم التثبت على مستوى الأمن الخاص والعام، وأنه يجب تفويت الفرص على مروجي الإشاعات في محاولاتهم اختراق أمن المجتمعات الإسلامية، والعبث في مقوماتها، ومحاولة البعض الفتك بنفسية الأفراد والمجتمعات، وجعلهم فريسة سهلة للآراء والأفكار والدعاوى السيئة؛ لكي يقوموا بتنفيذ أغراضهم وأهدافهم، وينفثوا سمومهم الخبيثة في المجتمعات الآمنة، والسعي لترويج مناهجهم المنحرفة وأفكارهم الفاسدة»54.
ثالثًا: المجال الاجتماعي:
«ينفرد المجتمع الإسلامي عن سائر المجتمعات الأخرى أنه مجتمع انبثق من العقيدة الإسلامية، فالعلاقة الاجتماعية التي تربط أفراده تقوم على أساس العقيدة الإسلامية»55.
والمجتمع في نظر الإسلام لا يقوم على الروابط المادية فقط، بل هنالك ما هو أهم، وهو الروابط الإيمانية والأخلاقية والأدبية، وهذا ما يفسر لنا قيمة المجتمع المسلم وتميزه عن غيره من المجتمعات، بل إن الإسلام ذهب إلى أبعد من ذلك، حينما «عمل على إقامة ذلك المجتمع الفاضل في كل أنحاء الأرض؛ لأنه دين يخاطب الإنسانية كلها»56.
«والإسلام يربي أبناءه وأفراد مجتمعه على التحلي بمعاني الإيمان، وما يفرضه عليه من التزام ومسئولية تجاه نفسه أولًا، وتجاه المجتمع الكبير الذي يعيش فيه ثانيًا»57.
ومن لوازم تلك المسئولية وجوب التثبت فيما يخص العلاقات الاجتماعية من زواج وطلاق، وما يحدث بين الجيران من علاقات سلبية، وما يحدث في المجتمع من مجريات الحياة المتنوعة.
ومن لوازم تلك المسئولية أيضًا: عدم القيام بإيذاء المجتمع بأي نوع من أنواع الإيذاء الحسي والمعنوي، ولعل عدم التثبت وما يجره من نشر الشائعات في العلاقات الاجتماعية من أخطر أنواع الإيذاء الاجتماعي.
وقد ندبت الشريعة الإسلامية إلى كل ما يكفل على المسلمين وحدتهم، ويحقق مقاصدهم، ويحفظ اجتماعهم من الإشاعات المغرضة الفاسدة الناتجة عن عدم التثبت.
قال تعالى: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ) [الحجرات: ١٠].
وحذرت من كل ما من شأنه أن يشيع الفاحشة في المجتمع ويقطع أوصاله ونسيجه فقال تعالى: (ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ) [النور: ١٩].
ولعل من أخطر الأمثلة على تأثير عدم التثبت على العلاقات في المجتمع المسلم، ما حدث في قصة الإفك التي رميت بها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وفي هذه الحادثة التي هزت كيان المجتمع الإسلامي حينئذ هزًّا عنيفًا العديد من الدروس والفوائد التي ينبغي لكل فرد في المجتمع المسلم أن يقف عندها ويستفيد منها، ويحذر كل الحذر من عدم التثبت والإشاعات المغرضة.
وهذه القصة يتضح فيها كيف كان تأثير عدم التثبت على علاقة النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها ، وعلى علاقة الذين خاضوا في الإفك برسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة رضي الله عنها وأبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكذلك على علاقة المجتمع الإسلامي ببعضه في ذلك الوقت.
ولعل ما يفسر ذلك ما جاء في الحديث: (فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه، فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرًا، وقد ذكروا رجلًا ما علمت عليه إلا خيرًا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي)، فقام سعد بن معاذ، فقال: يا رسول الله، أنا والله أعذرك منه إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا، ففعلنا فيه أمرك، فقام سعد بن عبادة - وهو سيد الخزرج، وكان قبل ذلك رجلًا صالحًا ولكن احتملته الحمية - فقال: كذبت لعمر الله، لا تقتله، ولا تقدر على ذلك، فقام أسيد بن حضير فقال: كذبت لعمر الله، والله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فثار الحيان الأوس والخزرج، حتى هموا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فنزل، فخفضهم حتى سكتوا)58.
والمتأمل في أحداث واقعة الإفك يجد «أن مروج شائعة الإفك هذه، والتي هزت كيان المجتمع الإسلامي حينئذ هزًّا عنيفًا، قد اختلق موضوعها وأقامه على أساس جانب ضئيل جدًّا من الحقيقة، وهو رؤية الناس لابن المعطل يقود بعيره وعليه عائشة رضي الله عنها ، ثم عالج هذا القدر الضئيل جدًّا من الحقيقة بالمبالغة، وجسّمه بطريقة انفعالية، ومزجه بجوانب من شطحاته الخيالية، وصاغه صياغة خبيثة يسهل على الذين يوجه إليهم الشائعة استيعابها وترديدها»59.
فحادثة الإفك كادت تفتك بالمجتمع الإسلامي بأسره، لولا أن النبي صلى الله عليه وسلم عالج هذه القضية بتأنٍّ، وتروٍّ، وتثبّت.
ومن الأمثلة أيضًا على تأثير عدم التثبت على العلاقات الاجتماعية في المجتمع: ما ورد في سبب نزول قوله تعالى: (ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ) [آل عمران: ١٠٠].
فقد كان جماع قبائل الأنصار بطنين: الأوس والخزرج، وكان بينهما في الجاهلية حرب ودماء، حتى منّ الله عليهم بالإسلام وبالنبي صلى الله عليه وسلم، فأطفأ الله الحرب التي كانت بينهم وألّف بينهم بالإسلام. فبينا رجل من الأوس ورجل من الخزرج قاعدان يتحادثان ومعهما يهودي جالس، فلم يزل يذكّرهما بأيامهم والعداوة التي كانت بينهم حتى استبا، ثم اقتتلا، فنادى هذا قومه وهذا قومه، فخرجوا بالسلاح وصفّ بعضهم لبعض، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يزل يمشي بينهم إلى هؤلاء وهؤلاء ليسكنهم حتى رجعوا، فأنزل الله في ذلك القرآن (ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ) [آل عمران: ١٠٠]60.
ونلاحظ أن التسرع وعدم التثبت كانا سببين رئيسين في اقتتال المسلمين، ورفع السلاح على بعضهم البعض، فلما تيقنوا أنها نزعة شيطان تعانقوا وألقوا السلاح.
رابعًا: المجال السياسي:
تعد مجالات السياسة وجوانبها المتعددة ومسائلها المتنوعة في الأحوال الداخلية، أو الإقليمية، أو الدولية من أهم المجالات التي يجب التثبت فيها؛ حيث تعد مجالًا خصبًا لانتشار الإشاعات ونموها، وبخاصة في أوقات نشوب الحروب وحدوث الأزمات والتوترات، وفتور العلاقات، وتوالي وقوع الحوادث، مع ما يحيط بتلك الحوادث والوقائع من غموض وأهمية.
وقد كان منهج النبي صلى الله عليه وسلم قائمًا على التثبت في علاقاته السياسية، ممتثلًا في ذلك أمر القرآن بوجوب التثبت، فلما بلغه صلى الله عليه وسلم أن يهود بني قريظة نقضوا عهدهم الذي عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم، بعث سعد بن معاذ سيد الأوس، وسعد بن عبادة سيد الخزرج، ومعهما عبد الله بن رواحة، وخوات بن جبير، فقال: «انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟ فإن كان حقًّا فألحنوا لي لحنا أعرفه، ولا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس»61.
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يتسرع في قتال بني قريظة، ولم يأخذ بما بلغه، حتى يتثبت عن طريق من يرسلهم هو صلى الله عليه وسلم.
ومن نماذج التثبت الجليلة في العلاقات السياسية: ما حدث من النجاشي عندما أرسلت قريش عمرو بن العاص وعبدالله بن ربيعة إلى الحبشة بعد هجرة المسلمين إليها، وكانا يحملان الهدايا إلى النجاشي وبطارقته، فقابلا النجاشي فقالا له: أيها الملك، إن فتية منا سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم لتردهم إليهم، فهم أعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه. فقالت بطارقته حوله -وقد تسلموا الهدايا مسبقًا- صدقا أيها الملك، قومهم أعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما، فليردوهم إلى بلادهم وقومهم.
فغضب النجاشي ثم قال: لا لعمر الله، إذن لا أسلمهم إليهما، ولا يكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني.
ثم أرسل النجاشي إليهم، فتكلم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له: أيها الملك كنا قومًا أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا منا نعرف نسبه، وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئًا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا؛ ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.
فلما سمع النجاشي منهم، والتقى بهم مرة أخرى على أثر وشاية من عمرو بن العاص، وسمع منهم ثانية، قال النجاشي لهم: اذهبوا، فأنتم شيوم62 بأرضي، من سبكم غرم، ثم قال: من سبكم غرم، ثم قال: من سبكم غرم، ما أحب أن لي دبرًا63 من ذهب وأني آذيت رجلا منكم، ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها، فوالله ما أخذ الله من الرشوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه، فخرجا من عنده مقبوحين مردودًا عليهما ما جاءا به، وأقام المسلمون عنده بخير دار مع خير جار64.
فالنجاشي لم يسارع ويأخذ بكلام عمرو بن العاص ومن معه، وإنما تأنى وأرسل إلى المسلمين واستمع منهم، وتثبت من حالهم.
ويكون التثبت آكد في المجال السياسي حينما يتعلق الأمر بأولياء الأمور والحكام وقادة البلاد، فيجب التثبت مما ينسب إليهم، ويحكى عنهم، من تجريح، واختلاق الأكاذيب، والافتراءات عليهم، ومحاولة تنفير الناس منهم، أو تعميق الفجوة فيما بينهم وبين مواطنيهم.
ومن النماذج المهمة في هذا الأمر: ما ورد أن أهل حمص شكوا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عامله عليهم سعيد بن عامر قالوا: نشكو منه أربعًا: لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار. ولا يجيب أحدًا بليل. وله يوم في الشهر لا يخرج فيه إلينا. وتصيبه الإغماءة بين الحين والآخر.
فجمع عمر بينهم وبينه وقال: اللهم لا تخيّب ظني فيه اليوم، وسأله عمر عن هذه الشكوى، فقال: لا أخرج إليهم حتى يتعالى النهار لأنه ليس لأهلي خادم فأعجن عجينهم، ثم أجلس حتى يختمر، ثم أخبز خبزي، ثم أتوضأ ثم أخرج إليهم.
وأما قولهم: إني لا أجيب أحدًا بليل، فإني جعلت النهار لهم، وجعلت الليل لربي عز وجل.
وأما قولهم: إن لي يومًا في الشهر لا أخرج إليهم فيه، فإنه ليس لي خادم يغسل ثيابي، ولا ثياب أبدلها فأجلس حتى تجف، ثم أدلكها، ثم أخرج إليهم من آخر النهار.
وأما قولهم: تصيبني الإغماءة بين الحين والآخر، فإني شهدت مصرع خبيب الأنصاري بمكة وقد بضعت قريش لحمه، ثم حملوه على جذع، فقالوا: أتحب أن محمدًا مكانك؟ فقال: والله ما أحب أني في أهلي وولدي وأن محمدًا شيك بشوكة، فكلما ذكرت ذلك اليوم وتركي نصرته في تلك الحال وأنا مشرك لا أؤمن بالله العظيم، إلا ظننت أن الله عز وجل لا يغفر لي بذلك الذنب أبدًا، فتصيبني تلك الإغماءة. فقال عمر: الحمد لله الذي لم يخيب ظني فيه، فبعث إليه بألف دينار ليستعين بها على حاجته، ففرقها على المحتاجين65.
فأهل حمص أشاعوا عن أميرهم هذه الأمور، وجعلوها منقصة في حقه دون أن يتثبتوا أو يتبينوا، وشكوا ذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي أزاح هذه التهم عن سعيد بن عامر عن طريق التثبت والتبين.
فالواجب على الفرد والمجتمع المسلم أن يتنبه إلى الأخطار المحدقة من جراء الإشاعات وعدم التثبت في الميدان السياسي، والعواقب الوخيمة الناتجة عن ذلك، وأن يتنبه المسلم إلى طبيعة العلاقة المثلى الواجبة بين الحاكم والمحكوم، والراعي والرعية، التي شرعها الإسلام الحنيف، وميّزها عن غيرها من العلاقات.
خامسًا: المجال الاقتصادي:
للاقتصاد أهميته في حياة الفرد والمجتمع، بل وفي العالم أجمع. ويرتبط العالم اليوم بروابط اقتصادية كبيرة، فما يحدث في منطقة أو دولة من دول العالم -غالبًا- تتأثر بها بقية الدول سلبًا أو إيجابًا، وبخاصة في حالات الحروب والكوارث.
وبناء على ذلك فالتثبت في مجال الاقتصاد من الأهمية بمكان، فيجب عدم نشر الإشاعات والأخبار غير الموثوق فيها حول الأمور الاقتصادية، كالمسائل المتعلقة بالبيع والشراء، والأثمان، والسلع المختلفة، وكذا الأمور المالية والنقدية والتجارية بصفة عامة؛ حيث إن أكثر من يتأثر بهذه الأخبار والإشاعات أصحاب الأموال والثروات المالية الكبرى، مما ينعكس سلبًا بالتأثير على اقتصاد الدولة.
ومن الأمور الحيوية الأكثر تأثرًا في المجال الاقتصادي: سوق المال (البورصة)، فهذه السوق تتأثر سلبًا وإيجابًا بالأخبار الصادقة والكاذبة جراء التثبت وعدمه.
ومن صور التأثير السلبي على سوق المال نتيجة لعدم التثبت: «ما يقوم به بعض المضاربين من الاتفاق فيما بينهم من خلال التوصيات عبر الوسائل الحديثة، من: (الجوّال أو المنتديات أو البريد الإلكتروني أو تويتر أو فيس بوك) على شراء سهمٍ من الأسهم المدرجة بغرض رفع قيمته إلى حدٍ معين ثم بيعه بكميات كبيرة، وهو ما يسمى بـ (الجروبات)؛ ولأن الغرض منها إيهام المتداولين بأن هذا هو السعر المناسب للسهم حتى يقبلوا على شرائه بعد ارتفاعه، ثم يصعب خلاصهم منه بعد تصريفه من قبل تلك المجموعات (الجروبات).
والهدف من هذا البيع: إيهام المتعاملين أن تغيّرات سعرية حدثت للورقة المعنية، وأن تعاملًا نشطًا يجري عليها، ولما كانت البورصات تقوم بنشر كافة المعلومات بشأن الصفقات أولًا بأول، فإن هذه السلسلة من البيوع للأوراق المالية من شأنها أن تؤدي إلى انخفاض قيمتها السوقية بشكلٍ يوحي بتدهور حالة المنشأة المصدرة لها، وهنا يصاب البعض بالذعر مما يدفعهم إلى التخلص مما يمتلكونه من هذه الأسهم، الأمر الذي يترتّب عليه عروض كبيرة بدون طلبٍ موازٍ فيهبط السعر، وعندها يتدخّل المستثمر المخادع مشتريًا، ويحدث عكس ما تقدّم في المضاربة على البيع»66.
فالتثبت وعدمه في الأمور الاقتصادية له أثر كبير في نمو أو تدهور الحالة الاقتصادية للمؤسسات والشركات والدول.
سادسًا: المجال القضائي:
إن حاجة الإنسانية إلى القضاء بمنزلة حاجتها إلى الشمس والهواء، فلو رفع القضاء من حياتها لهبطت إلى دركة البهائم والعجماوات، وأكل قويها ضعيفها، وكبيرها صغيرها.
ومهمة القضاء في الإسلام هي إرساء دعائم العدل؛ ولهذا كان للقضاء في الإسلام منزلة رفيعة سامية، فهو فريضة من أقوى الفرائض، وعبادة من أشرف العبادات لمن ابتغى به وجه الله تعالى؛ لأنه إظهارٌ للعدل، وإزالةٌ للباطل، وبالعدل قامت الأرض والسموات.
وحاجة القضاء إلى التثبت قبل إصدار الأحكام واضحة جلية، فلا يمكن تحقيق العدل في القضاء إلا بالتثبت والتبين.
ولقد نبه الشيخ محمد الطاهر بن عاشور إلى أن مجال القضاء هو المجال الأحوج إلى اعتماد منهج التثبت في الحكم، فقال: «الأمر بالتبين أصل عظيم في وجوب التثبت في القضاء، وألا يتبع الحاكم القيل والقال، ولا ينصاع إلى الجولان في الخواطر من الظنون والأوهام»67، وذلك لأن خطأ القاضي خاصة في الإدانة والحكم، وهو يقضي في اليوم في أكثر من قضية تضيع به الحقوق، وتتضرر به الأعراض، فكان مطالبًا أكثر من غيره بالتثبت.
ومن لوازم التثبت في القضاء:
أولًا: أن يسمع القاضي من الخصمين، لا أن يسمع كلام خصم دون الآخر؛ فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال: فقلت: يا رسول الله تبعثني إلى قوم أسن مني، وأنا حدث لا أبصر القضاء؟ قال: فوضع يده على صدري، وقال: (اللهم ثبت لسانه، واهد قلبه، يا علي، إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء) قال: فما اختلف علي قضاء بعد، أو ما أشكل علي قضاء بعد68.
ثانيًا: طلب البينة والدليل على الدعوى من خلال الشهود، أو طلب اليمين من الطرف الآخر عند النكول 69وعدم البينة، وهي وسيلة من وسائل إثبات الحق الذي يدعيه المدعي70:
فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه)71.
ثالثًا: بناء الأحكام على العلم واليقين، بعيدًا عن الشك والتسرع؛ لأن تبرئة المذنب خير من إدانة البريء.
ومن النماذج التي ذكرها القرآن في وجوب التثبت عند القضاء: ما جاء في قصة داود عليه السلام مع الخصمين، وهو ما ذكره الله في قوله: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ) [ص: ٢١ - ٢٦].
فداود عليه السلام عندما سمع القضية من المدّعي عرف أنه مظلوم، وأن خصمه ظلمه وبغى عليه، وتأثر داود بما سمع، وظن أن الأمر لا يتطلب سماع الطرف الآخر72.
فعاتب الله داود عليه السلام على هذا الأمر؛ لأن مقتضى التثبت أن يسمع من الطرفين، لا أن يسمع طرفًا دون الآخر.
ومن النماذج التي ذكرها القرآن أيضًا في وجوب التثبت عند القضاء، ما جاء في قوله تعالى: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﭑ ﭒﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [النساء: ١٠٥ - ١٠٩].
وسبب نزول هذه الآيات أن نفرًا من الأنصار- قتادة بن النعمان وعمه رفاعة- غزوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته. فسرقت درع لأحدهم (رفاعة). فحامت الشبهة حول رجل من الأنصار من أهل بيت يقال لهم: بنو أبيرق. فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن طعمة بن أبيرق سرق درعي. فلما رأى السارق ذلك عمد إلى الدرع فألقاها في بيت رجل يهودي (اسمه زيد بن السمين). وقال لنفر من عشيرته: إني غيبت الدرع، وألقيتها في بيت فلان. وستوجد عنده. فانطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا نبي الله، إن صاحبنا بريء، وإن الذي سرق الدرع فلان. وقد أحطنا بذلك علمًا. فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس، وجادل عنه، فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك. ولما عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الدرع وجدت في بيت اليهودي، قام فبرأ ابن أبيرق وعذره على رؤوس الناس. وكان أهله قد قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم قبل ظهور الدرع في بيت اليهودي-: إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت! قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته. فقال: (عمدت إلى أهل بيت يذكر منهم إسلام وصلاح وترميهم بالسرقة على غير ثبت ولا بينة؟) .
قال: فرجعت، ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. فأتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: الله المستعان، فلم نلبث أن نزلت: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [النساء: ١٠٥]73.
فالله سبحانه يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم: «إن عليك ألا تتهاون في تحرى الحق اغترارًا بلحن الخائنين وقوة جدلهم في الخصومة؛ لئلا تكون خصيمًا لهم وتقع في ورطة الدفاع عنهم، والآيات فيها إيماء إلى أن الاعتقاد الشخصي والميل الفطري والديني لا ينبغي أن يظهر لهما أثر في مجلس القضاء، وإلى أن القاضي لا يساعد من يظن أنه صاحب الحق، بل عليه أن يساوى بين المتخاصمين في كل شيء.
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم في هذه القضية قبل نزول الآيات ولم يعمل بغير ما يعتقد أنه تأييد للحق، لكنه أحسن الظن في أمر بيّن له علام الغيوب حقيقة الواقع فيه، وما ينبغي له أن يعامل به ذويه»74.
فالآيات السابقة ترشدنا إلى أنه يجب على القاضي أن يجعل الحق والصدق هدفه في جميع مواقفه، وأن يدقّق فيما يعرض عليه، فلا يأخذ بظواهر الأمور، ولا ينخدع بتزويق الخصوم، وعليه أن يحذر تلبيسهم ولا ينساق بأي اعتبار غير اعتبار الحق والعدل والحقيقة. ولا يتسرع في تصديق فريق وتبرئته والدفاع عنه. وأن يرجع عن الخطأ إذا ما ظهر له.
منذ أن خلق الله الخليقة وجد الصراع بين القوى، صراعٌ يستهدف أعماق الإنسانية، ويؤثر في كيان البشرية، وإذا كانت الحروب والأزمات والكوارث والنكبات تستهدف بأسلحتها الفتاكة الإنسان من حيث جسده وبنائه، فإن هناك حربًا سافرة مستترة تتوالد على ضفاف الحوادث والملمّات، وتتكاثر زمن التقلبات والمتغيّرات، وهي أشدّ ضراوة وأقوى فتكًا؛ لأنها تستهدف الإنسان من حيث عمقه وعطائه، وقيمه ونمائه، إنها حرب الشائعات.
الشائعات من أخطر الحروب المعنوية، والأوبئة النفسية، بل من أشد الأسلحة تدميرًا، وأعظمها وقعًا وتأثيرًا، وليس من المبالغة في شيء إذا عدّت ظاهرة اجتماعية عالمية، لها خطورتها البالغة على المجتمعات البشرية. وفيما يأتي بيان لتعريف الإشاعة وخطرها وضررها.
و«الإشاعة: فكرة خاصة تنشر ليؤمن بها الناس، تنتقل من شخص إلى آخر، ويتم هذا عادة بواسطة الكلمة التي يتفوه بها الإنسان، دون أن تستند إلى دليل أو شاهد»75.
وقيل: «الإشاعة: أخبار مشكوك في صحتها، ويتعذر التحقق من أصلها، وتتعلق بموضوعات لها أهمية لدى الجهة الموجهة إليها، ويؤدي تصديقهم أو نشرهم لها إلى إضعاف روحهم المعنوية»76.
وللإسلام نظرته الحكيمة في الإشاعة حسب طبيعتها، ومن ثم ترتيب الحكم الشرعي والجزاء العادل عليها.
والمتأمل في النصوص المتعددة في القرآن والسنة يجد أن الإسلام يحرم نقل الإشاعات وترويجها بين الناس بغرض الإفساد والتخريب، وهدم الكيان والبنيان الاجتماعي، وصرف الناس عن عبادة الله وعمارة الأرض، وعمل ما ينفع الناس، إلى الاشتغال فيما لا ينفع.
ومعلوم أن نقل الإشاعة وترويجها في المجتمع من أنواع الفحش والإثم والبغي التي حرمها الله عز وجل بقوله: (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [الأعراف: ٣٣].
وقد توعد سبحانه محبي رواج الإشاعة في المجتمع المسلم بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة فقال: (ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ) [النور: ١٩].
فإذا كان هذا جزاء من يحب شيوع الفاحشة والإشاعة في المجتمع، فكيف يكون جزاء مروجي الإشاعات في المجتمع المسلم؟!
وتوعده النبي صلى الله عليه وسلم بأفظع عقاب، فعن سمرة بن جندب رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت الليلة رجلين أتياني، قالا: الذي رأيته يشق شدقه فكذاب، يكذب بالكذبة تحمل عنه حتى تبلغ الآفاق، فيصنع به إلى يوم القيامة)77.
وكذلك حذرت الشريعة الإسلامية من الاستماع للإشاعات وتصديقها وقبولها، وأمرت بالتثبت والتروي عند سماعها، فقد تكون تلك الأخبار كاذبة ومضللة، ولها أهداف سامة وبغيضة وهادمة للمجتمع، بل قد تعود بالضرر البالغ على المستمع لها، ومعلوم أن لناقلي الإشاعات ومروجيها أساليب خلابة ووسائل مغرية في عرض ما لديهم، الأمر الذي يجعل المستمع لهم يقع في شباكهم، وتلتف حوله حبائلهم، فلا يستطيع الفكاك منها.
قال تعالى موجهًا النصح لعباده المؤمنين: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ) [النور: ١٢].
وقال سبحانه: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [الحجرات: ٦].
قال الشوكاني: «المراد من التبين: التعرف والتفحص، ومن التثبت الأناة وعدم العجلة، والتبصر في الأمر الواقع والخبر الوارد حتى يتضح ويظهر»78.
والشائعات لها خطر عظيم وضرر جسيم على الفرد والمجتمع وعلى مستوى الدول والحكومات 79، فبجانب أضرارها المعروفة من:
فإن لها أضرارًا وأخطارًا أخرى في مجالات متنوعة، يتجلى ذلك في عدة أمور:
أولًا: أخطار وأضرار تتعلق بالناحية الشرعية:
فالإشاعات يعظم خطرها حينما تتناول موضوعات الشريعة الإسلامية وجوانبها المتعددة، كاتهام عقيدة الإسلام بالتهم الباطلة، وإشاعة الكذب نحوها، كذلك الإشاعات الموجهة إلى الشريعة وما تضمنته من عبادات ومعاملات وأخلاق وحدود وغير ذلك.
ولا شك أنه لتلك الإشاعات المتعددة ضد الشريعة الإسلامية بعض الأضرار والأخطار على أبناء المجتمع المسلم، وبخاصة ممن ليس لديهم حصانة عقدية وفكرية قوية.
وقد حذر الله من الآثار السيئة المتوقع حدوثها من كيد أعداء الإسلام، وإشاعاتهم الخبيثة في المجتمع المسلم.
قال تعالى: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) [المائدة: ٤٩].
ثانيًا: أضرار فكرية:
المتأمل في مسيرة التاريخ الإسلامي يجد العديد من الإشاعات التي سرت في المجتمع المسلم، واستهدفت فكره وعقله وشعوره، وأثرت في معطياته ومنجزاته، وخاصة في العصر الحاضر، وذلك رغبة في الهيمنة الفكرية على العالم الإسلامي، ولتأكيد ذلك فقد استخدم أعداء الإسلام سلاح الإشاعات التي يحملها الغزو الفكري لتحقيق مآربهم، مما أسفر عن كثير من الانحرافات الفكرية في بعض المجتمعات الإسلامية، وولّدت لديها بعض الشكوك والمخاوف من الشريعة الإسلامية دون دليل تستند عليه أو برهان تنطلق منه.
ثالثًا: أضرار نفسية:
تنتظم الإشاعات فيما يسمى بالحرب النفسية، والتي تتوجه بالدرجة الأولى إلى نفسية الفرد والمجتمع المستهدف، فتقوم بمحاولات لاختراقها، ومن ثمّ النفاذ إلى داخلها وتحطيمها والهيمنة عليها، وإلحاق الهزيمة المروعة بها.
وقد أشار القرآن إلى نوعية هذا الأثر النفسي الخطير وأسماه بالأذى فقال: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) [آل عمران: ١٨٦]
ونظرًا لذلك كله يأمر الله تعالى المسلمين بعدم الوهن والحزن، ويذكّرهم بأنهم في علو عن غيرهم إن تمسكوا بإيمانهم، وذلك في قوله: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ) [آل عمران: ١٣٩].
والمتأمل في أحوال المجتمعات الإسلامية اليوم يجد أن الآثار النفسية التي لحقت بها عديدة، من خلال الإشاعات التي شملت الفرد والأسرة والمجتمع.
رابعًا: أضرار اجتماعية:
تقوم الإشاعات بإحداث آثار سلبية عديدة في حياة المجتمع، سواء على مستوى الفرد أو الأسرة أو نطاق النسيج الاجتماعي عامة.
وإذا ما سرت الإشاعة في المجتمع وحملت مضامين سيئة أو مخيفة أو محبطة أو ليست في صالح ذلك المجتمع عامة أو تلك الفئة الاجتماعية خاصة، فإن الإشاعة سوف تنجح في مهمتها، ويستجيب لها الناس، وتحدث الأثر المطلوب.
خامسًا: أضرار اقتصادية:
تقوم الإشاعات بدورها في التأثير على الحياة الاقتصادية، ومحاولة التأثير على المستهلكين أو المنتجين، سواء كانوا أفرادًا أم أسرًا أم مجتمعات أم شركات ومؤسسات أم دولًا ومنظمات.
ولا يخفى أن للمنافسات الاقتصادية وما يموج به سوق العمل والمال من محاولات للربح والتضخم أمر يساعد على ترويج الإشاعات، ومحاولة كل جهة نشر الإشاعات ضد أعمال ومنشآت ومنتجات الطرف الآخر ورميها بعدم الجودة أو الغش أو ارتفاع الأسعار وما إلى ذلك من إشاعات.
والحقيقة أن تلك الإشاعات مضرة باقتصاد أي مجتمع، وتنعكس سلبًا على أفراده، ولا تخدم بأي حال من الأحوال قضايا المجتمع ومسائله الاقتصادية المتنوعة.
سادسًا: أضرار سياسية:
تكمن خطورة الإشاعات في المجال السياسي حينما تتعلق بشخصيات الحكام وأولي الأمر، ومحاولات تتبع أحوالهم وشئونهم الخاصة والعامة، وتوظيف ذلك بصورة خبيثة تهدف للنيل منهم وزعزعة مكانتهم في قلوب الناس.
كما تهدف الإشاعات إلى محاولة تدمير المجتمع عن طريق توهين رموز النظام السياسي الحاكم، أو التشكيك في مؤسساته وهيئاته، والتشكيك بالمواقف والخطط التي يضعها النظام السياسي، وتعتمد هذه الإشاعات على أسلوب التهويل والتضخيم والتشويش والتشكيك، وأخطرها ما يطلق منها أثناء الحروب والاضطرابات الداخلية.
وهذه الإشاعات السياسية المغرضة تحدث الشكوك، وتعصف بالمجتمع، فينتج عن ذلك الأخطار العظيمة التي تهدد كيان المجتمع بأسره.
يتضح مما سبق أن الإشاعات لها أضرارها الخطيرة في مناحي الحياة الخاصة والعامة، وهي لا تقتصر على مجال محدد، بل تمتد لتشمل كل مجالات النشاط البشري.
إن للتثبت فوائد كثيرة، نذكر منها80:
١. التثبت علامة من علامات الإيمان.
فقد وجّه الله النداء لعباده المؤمنين بقوله: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [الحجرات: ٦].
فدل ذلك على أن من علامات الإيمان التثبت في الأخبار، وبمفهوم المخالفة فإن عدم التثبت في الأخبار يقدح في الإيمان.
٢. السلامة من الأخطاء.
إن التثبت يجعل الإنسان المسلم قريبًا من الصواب، وسالمًا من الأخطاء والعثرات، فلا يتعجل ولا يتسرع في نشر الأخبار حين سماعها، بل يتأمل ويتبين قبل أن يتكلم، وينظر متفحصًا هل هذا الكلام فيه مصلحة فيقدم عليه، أو فيه مفسدة فيحجم عنه ويتوقف؛ لأنه لم يصدر عن علم81.
فالتثبت يحمي الإنسان من الغم والهم اللذين يصاحبان الإنسان صحبة لها دوام، وبه يميز بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، ويحميه من الجهل والوقوع في الأخطاء والآثام العظام التي ربما تؤدي إلى تلف النفوس والأموال بغير حق82.
لذلك كان توجيه الله للمؤمنين بالتثبت حيث قال: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [الحجرات: ٦].
٣. الثقة بالمؤمنين.
فقد اتهمت عائشة رضي الله عنها بأسوأ الكذب والبهتان، وهي صاحبة الطهر والعفاف، ولحق بالمؤمنين هم وكرب من جراء هذا الاتهام الباطل، حتى نزل القرآن يبرؤها من فوق سبع سماوات، ويحرّم على المؤمنين أن يخوضوا في هذا الباطل، ويوجب عليهم أن يثقوا بالمؤمنين، وأن يظنوا بأنفسهم خيرًا83، لذلك قال تعالى لهم: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ) [النور: ١٢ - ١٣].
فالظن السيئ وإشاعة الفاحشة في المؤمنين من صفات شرار الخلق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بخياركم؟). قالوا: بلى. قال: (الذين إذا رؤوا ذكر الله، أفلا أخبركم بشراركم؟)، قالوا: بلى. قال: (المشّاؤون بالنميمة، المفسدون بين الأحبّة، الباغون البرآء العنت)84.
٤. المحافظة على الدماء والأموال.
فبعض الصحابة قتل نفرًا من الناس، وسلب ماله بغير تثبت، حتى نزلت فيه وفي أمثاله الآية الكريمة: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [النساء: ٩٤].
وبالتثبت نحافظ على الدماء والأموال والأعراض، وبدون التثبت فإن كل ضرورة من ضرورات الحياة تضيع، ويضيع معها الإنسان.
٥. الشعور بالسكينة والطمأنينة النفسية.
فإن بعض الصحابة الذين خاضوا في الإفك ونشروه من غير تثبت ولا تبين، وكذلك الذين قتلوا الرجل وأخذوا ماله بعد أن سلّم وشهد أن لا إله إلا الله مثل أسامة بن زيد رضي الله عنه، كل أولئك لم يشعروا بالسكينة والطمأنينة في نفوسهم، بل أصابتهم الحسرة وعمهم الندم لما نزل الوحي من السماء يكشف الموقف، ويضع النقاط فوق الحروف، وتمنوا أن لم يكونوا أسلموا قبل ذلك اليوم85، وصدق الله إذ يقول: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [الحجرات: ٦ ].
فالتثبت يشعرنا بالسكينة والطمأنينة، ويبعد عنا كل شعور بالحسرة والندامة على أقوال أو أفعال صدرت منا دون أن نتحقق منها.
٦. نيل محبة الله ورضاه.
فالعجلة من أبواب الشيطان، ومن شأنها أن تمنع صاحبها من الخير والتثبت والوقار والحلم، وتجلب عليه الشرور والندم. وفي المقابل فإن التثبت والتأني من الرحمن، ومن التزم بهذا الخلق العظيم نال محبة الله ورضوانه، وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (التأني من الله، والعجلة من الشيطان)86.
٧. توثيق عرى الأخوة ووحدة الصف.
فالتثبت يؤدي إلى توثيق عرى الأخوة ووحدة الصف، وحفظ المجتمع من كل أسباب الخلاف والفرقة والعداوة والبغضاء.
وإن عدم الالتزام بهذه الفضيلة يؤدي إلى اضطراب الصف، وإعطاء العدو فرصة للانخراط في الصف المسلم.
وإن أسباب العداوة والفرقة والبغضاء ترجع إلى اتهام المؤمنين بالظنون الضعيفة، والتجسس عليهم، وتتبع عوراتهم، والغيبة التي تأكل لحومهم وأعراضهم، والنميمة التي تفسد عليهم حياتهم، فالتثبت من شأنه أن يحفظ المؤمنين من هذه الأسباب، وأن يقيم مجتمعًا خاليًا من الحقد والحسد والظلم.
٨. حفظ الكرامات والحريات والأعراض والأموال.
فإن من شأن التثبت وعدم التسرع أن يقيم سياجًا متينًا لحفظ كرامات الناس وحرياتهم وأعراضهم وأموالهم، ويبقيها مصونة من عبث العابثين، ويحفظها من الظن الآثم والتخريص الباطل، وذلك من خلال الأمر بالتأني والتثبت، والنهي عن الاستعجال والتخمين، وسوء الظن، والخوض في الباطل، وشهادة الزور.
ومن شأن ذلك كله أن يحفظ المجتمع بما فيه من كرامات وحريات وأعراض وأموال، انطلاقًا من قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا)87.
٩. تحقيق العدل بين الناس.
فالإسلام عندما أمرنا بالتثبت وعدم قبول الأخبار إلا بعد التمحيص والتدقيق، والتروي والتأني في إصدار الأحكام، ونهانا عن اتهام الناس بالظنون الكاذبة، وعن الكذب والغيبة والنميمة، إنما أراد من خلال هذه الأوامر والنواهي تحقيق العدل الإلهي الذي لا تصلح الدنيا والآخرة إلا به، وإعطاء كل ذي حق حقه.
١٠. تطهير المجتمع المسلم من المنافقين.
فالتثبت يطهر المجتمع المسلم من المنافقين وإرجافاتهم التي لا تنفك عن الكذب، وإحداث البلبلة والفتنة، والسعي إلى إيقاع المسلمين في الحيرة والاضطراب.
فالتثبت يعلّم المؤمنين أن يضبطوا ألسنتهم فلا تمتد إلى الناس بأي سوء، ولا يشيعون الفاحشة في المجتمع المسلم، مما يؤدي إلى التماسك وثقة المؤمنين بعضهم ببعض، وعدم السماح للمنافقين بالتغلغل بين صفوفهم.
هذا الضبط اللساني الشديد أدب وخلق حرصت تعاليم هذا الدين على إيجاده في المسلمين، لذلك قال سبحانه: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [ق: ١٨].
هناك وسائل عديدة للتثبت بشكل عام، منها88:
١. عدم التسرع في تصديق الأخبار، قبل التأكد من صحتها أو كذبها.
قال تعالى: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [الحجرات: ٦].
قال ابن القيم: «هاهنا فائدة لطيفة، وهي أنه سبحانه لم يأمر برد خبر الفاسق وتكذيبه ورد شهادته جملة، وإنما أمر بالتبين، فإن قامت قرائن وأدلة من خارج تدل على صدقه عمل بدليل الصدق»89.
إذًا قوله: (ﭦ) فيه أن أمر الله بالتبين والتثبت في أمر الفاسق يدل على عدم إهمال أمر الفاسق مطلقًا في نفس الوقت الذي لا يعتمد عليه بثقة مطلقًا.
إن مما يسهم اليوم في مجانبة الحق والصواب في المواقف: المسارعة في نقل وتداول الأخبار ونقل الأحداث دون توثيق وتثبت منها، والتعامل معها كأنها صدق وحق لا ريب فيه، ومن ثم تتخذ المواقف والأحكام المتسرعة على أساسها، ما ينجم عنه الأحكام والمواقف الجائرة التي قد يندم صاحبها عليها، لكن حين لا ينفع الندم؛ لأنها قد طارت كل مطير. ويشتد خطر هذه المواقف وإثمها إذا كانت قد صدرت من متبوع في علم أو دعوة أو جهاد.
وتتأكد أهمية التثبت والتوثق بصورة أكبر في زماننا اليوم، الذي كثرت فيه وسائل النقل والاتصالات الاجتماعية السريعة، وتسارع الناس في نشر أي خبر والحكم عليه دون أدنى تثبت منه؛ حرصًا من الناشر على السبق والشهرة في نقل الأخبار، أو حرصًا على إلحاق الأذى والتهم بخصمه.
فالتثبّت من كل خبر ومن كل ظاهرة قبل الحكم عليها، هو دعوة القرآن الكريم ومنهج الإسلام القويم، ومتى استقام القلب واللسان على هذا المنهج لم يبق مجال للظن والشبهة في عالم المواقف والأحكام. فكم من مظلوم في دينه وعرضه أو بدنه أو ماله كان سبب ذلك التسرع في نقل الأخبار وتلقيها دون تثبت وتمحيص. وكم من أواصر قطعت بين الأقارب والإخوان كان سببها الظنون الكاذبة وتلقي الأخبار والشائعات دون تثبت.
والتثبت المنشود هنا يعني نوعين من التثبت:
وهذا النوع من التثبت هو ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم في مواقفه من الأخبار، أو في مواقفه من الأخطاء التي تنجم عن بعض أصحابه رضي الله عنهم، فقد تكرر في مواقف كثيرة، وقبل أن يتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم موقفًا من صاحب الخطأ، أن يقول لصاحب الخطأ: (ما حملك على ما صنعت)، وهذا تثبت منه صلى الله عليه وسلم من أسباب وملابسات الوقوع في الأخطاء.
وهذا يشمل الأخبار التي تنقل عن الأفراد أو الطوائف.
٢. التأكد من ضبط النقلة وصحة فهمهم.
من القضايا المشكلة التي يغفل عنها بعض الأفاضل أنهم ينظرون إلى عدالة الناقل وأمانته، دون النظر إلى ضبطه وإتقانه في النقل.
وعندما تكون استجابة الإنسان عاطفية، فإنه -عادة - يعجز عن تمييز الحقائق، فقد يكون الناقل قد بلغ الغاية في التقوى والورع، لكنه قليل الضبط، ضعيف الحفظ لما يسمع.
وهذا يذكّرنا بقول ابن أبي الزناد: «أدركت بالمدينة مائة مأمون، ما يؤخذ عنهم الحديث، يقال: ليس من أهله»90.
ومن الناس من يسمع الخبر، وينقله على غير وجهه، ليس من باب الكذب والخيانة، ولكنه لم يستطع أن يفهم الكلام على وجهه الصحيح، فالله سبحانه لم يرزقه حسن الفهم والتيقظ، ولهذا تراه يقوّل الناس ما لم يقولوا، ويحمّل كلامهم ما لم يحتمل.
إن هناك تفاوتًا كبيرًا بين الناس في الإدراك والقدرة على تفسير الأحداث، وحينما يفهم السامع من كلام القائل شيئًا، ثم ينقل للناس مفهومه هو -لا منطوق القائل ونص كلامه- فإن هذا سوف يؤدي إلى لبس شديد عند الناس.
وعدم مراعاة هذه الجوانب والتنبه لها قد يؤدي إلى التسليم ببعض الأخبار الواهية التي ليس لها أساس من الصحة، ثم تؤدي هذه الأخبار دورها في إثارة الضغائن.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وكثير من الناقلين ليس قصده الكذب، لكن المعرفة بحقيقة أقوال الناس من غير نقل ألفاظهم وسائر ما به يعرف مرادهم، قد يتعسر على بعض الناس، ويتعذر على بعضهم»91.
٣. الاعتماد على القرائن في قبول الأخبار وردها.
إذا نقل الخبر عن أحد من العلماء أو الدعاة، ولم يتأكد لنا صحة النقل، أو صحة فهم الدلالة، فينبغي أن يعرض ذلك الخبر على أقواله وأفعاله السابقة واللاحقة، ويقاس بطريقته وأحواله، فإن خالف ذلك الخبر المعروف من سيرته وقوله، كانت هذه قرينة مهمة في رد الخبر، أو حمله على المعروف من حاله.
وهذا من الوسائل المفيدة جدًّا في تمييز الأخبار وتنقيحها، قال ابن القيم: «والكلمة الواحدة يقولها اثنان، يريد بها أحدهما أعظم الباطل، ويريد بها الآخر محض الحق، والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه، وما يدعو إليه ويناظر عليه»92.
وقال السبكي: «فإذا كان الرجل ثقة مشهودًا له بالإيمان والاستقامة، فلا ينبغي أن يحمل كلامه وألفاظ كتاباته على غير ما تعوّد منه ومن أمثاله، بل ينبغي التأويل الصالح، وحسن الظن الواجب به وبأمثاله»93.
ومن الأمثلة التطبيقية على ذلك ما نقل عن الجنيد أنه قال: «انتهى عقل العقلاء إلى الحيرة»94.
قال ابن تيمية: «فهذا ما أعرفه من كلام الجنيد. وفيه نظر هل قاله، ولعل الأشبه أنه ليس من كلامه المعهود؛ فإن كان قد قال هذا فأراد عدم العلم بما لم يصل إليه؛ لم يرد بذلك أن الأنبياء والأولياء لم يحصل لهم يقين ومعرفة وهدى وعلم؛ فإن الجنيد أجل من أن يريد هذا، وهذا الكلام مردود على من قاله»95.
ثم قال ابن تيمية: «كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ثمّ معصوم من الخطأ غير الرسول؛ لكن الشيوخ الذين عرف صحة طريقتهم علم أنهم لا يقصدون ما يعلم فساده بالضرورة من العقل والدين»96.
٤. عدم التسرع في اتخاذ الأحكام والقرارات.
وينبغي التفكر والتبصر في عاقبة التسرع في الحكم، وما يؤدي إليه من الندامة، وتمني عدم وقوعه.
فالعاقل هو الذي يتأنى ويتأمل ويتثبت، ولا يتسرع، ويعرف عاقبة عدم الالتزام بذلك. قال لقمان الحكيم: «إن المؤمن إذا أبصر العاقبة أمن الندامة»97.
٥. الجمع بين طرفي الخصومة والاستماع إليهم، وعدم الحكم لطرف قبل التثبت والسماع من الطرف الآخر.
الجمع بين طرفي الخصومة وسيلة من وسائل التثبت التي من شأنها أن تعطي حكمًا صائبًا صحيحًا خاليًا من الظلم والجور. ولذلك كان رسول الله صلى لله عليه وسلم يعلّم أصحابه أسلوب التثبت في القضاء.
فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال: فقلت: يا رسول الله تبعثني إلى قوم أسن مني، وأنا حدث لا أبصر القضاء؟ قال: فوضع يده على صدري وقال: (اللهم ثبت لسانه، واهد قلبه، يا علي، إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر، كما سمعت من الأول، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء) قال: فما اختلف علي قضاء بعد، أو ما أشكل علي قضاء بعد98.
وقال عمر بن عبد العزيز: «إذا أتاك الخصم وقد فقئت عينه، فلا تحكم له حتى يأتي خصمه، فلعله قد فقئت عيناه جميعًا»99.
فلا يدفعه وجود أحد الخصمين وشعوره بأنه مظلوم أن يحكم له قبل الاطلاع على حجة الفريق الآخر، بل يجب عليه أن يسمع دعوى الخصمين قبل الحكم، فلعل الذي يظهر في هيئة المظلوم يكون قد أوقع على خصمه ظلمًا أكبر من الذي حاق به.
عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه شيئًا، بقوله: فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها )100.
٦. مناقشة صاحب الشأن قبل الحكم.
وخير ما يوضح هذا السبب موقف النبي صلى الله عليه وسلم من حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه لما أخبر أهل مكة بغزو النبي صلى الله عليه وسلم لهم.
فقد روى البخاري عن علي رضي الله عنه يقول: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد بن الأسود قال: (انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ101، فإن بها ظعينة102 ومعها كتاب فخذوه منها)، فانطلقنا تعادي بنا خيلنا حتى انتهينا إلى الروضة، فإذا نحن بالظعينة فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي من كتاب. فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب. فأخرجته من عقاصها103، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا حاطب ما هذا؟)، قال: يا رسول الله لا تعجل عليّ، إني كنت أمرأ ملصقًا في قريش ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم وأموالهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدًا يحمون بها قرابتي، وما فعلت كفرًا ولا ارتدادًا ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد صدقكم). قال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق. قال: (إنه قد شهد بدرًا وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم )104.
نلاحظ من خلال هذه القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل حاطبًا عن سبب فعلته، واستمع إلى جوابه وتبريره لما فعل، وناقشه في ذلك، ولم يستعجل في رميه بتهمة الخيانة، وكان صلى الله عليه وسلم يريد من خلال ذلك أن يعلمنا التبين والتثبت، وعدم الاستعجال في إطلاق الأحكام على الناس.
ونستفيد من هذه القصة في واقع حياتنا، عدم الحكم على ظواهر الأمور قبل تبيّن حقيقتها، فربما تحدث حادثة معينة، فيتعجل الإنسان ويحكم على أشخاصها قبل معرفة الأسباب والدوافع، وسماع وجهة نظرهم، فيقع في لحومهم وأعراضهم، وفي ذلك ظلم عظيم، فماذا سيخسر إن أرسل أو اتصل بصاحب الشأن ليتأكد منه شخصيًّا دون وسيط، ربما يكون هو سبب الفرقة التي حدثت والكذب الذي نقل إلينا.
٧. الظن الحسن بالمؤمنين.
فينبغي أن يقيس ما يسمعه عنهم على نفسه، فإن استبعده عن نفسه يستبعده عن غيره: وفي هذا يقول الله: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ) [النور: ١٢].
فمن الناس من يطلق لخياله العنان، ويصوغ شتى التصورات التي تنسب إلى الناس التهم، وتوقعهم في البلاء، وسوء الظن يجعل الإنسان يتجه اتجاهًا مغايرًا لما أراده الناس، ويقوم بتفسير الكلمات والوقائع والأخبار بناء على خلفيات نفسية مبيّتة، فيفرّغ كل كلمة من مضمونها، ويملؤها بمعانٍ أخرى عديدة ليست من مدلولها، ثم يمارس هذا الإنسان -دون وعي- نوعًا من التحليل لما يراه ويسمعه، ثم يضخّم إحساسه تضخيمًا مسرفًا بدون أي تحفّظ.
فالظن السيئ هو ظلم للمؤمنين، بل يتعدى إلى العدوان على أعراضهم وكرامتهم بغير حق، بل لابد من إدانة ظان السوء ليثبت ما يقول أو يتحمل الحكم الشرعي الذي يصدر بحقة فيمن قذفهم.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) [الحجرات: ١٢].
قال ابن كثير رحمه الله: «يقول تعالى ناهيا عباده المؤمنين عن كثير من الظن، وهو التهمة والتخون للأهل والأقارب والناس في غير محله؛ لأن بعض ذلك يكون إثمًا محضًا، فليجتنب كثير منه احتياطًا »105.
وقال القرطبي: «قال علماؤنا: فالظن هنا وفي الآية هو التهمة. ومحل التحذير والنهي إنما هو تهمة لا سبب لها يوجبها، كمن يتهم بالفاحشة أو بشرب الخمر مثلًا ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك. ودليل كون الظن هنا بمعنى التهمة قول تعالى: (ﭝ ﭞ) وذلك أنه قد يقع له خاطر التهمة ابتداء ويريد أن يتجسس خبر ذلك ويبحث عنه، ويتبصر ويستمع لتحقق ما وقع له من تلك التهمة. فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك»106.
ثم قال القرطبي مبينًا طريقة تمييز الظنون: «والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها، أن كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر كان حرامًا واجب الاجتناب. وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والصلاح، وأونست منه الأمانة في الظاهر، فظن الفساد به والخيانة محرم، بخلاف من اشتهره الناس بتعاطي الريب والمجاهرة بالخبائث»107.
وخلاصة القول: حسن الظن من التثبت، وتحريم سوء الظن بأي مسلم؛ لأنه ينافي التبين والتثبت الذي أمر الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في التخلق بهما ورتب عليهما الأجور.
٨. عدم الالتفات للألفاظ البراقة.
فكثيرًا ما يسمع الإنسان مجموعة من الألفاظ البراقة، والعبارات الخلابة، فيغتر بهذه الألفاظ وتلك العبارات، وتعجبه بما لها من بريق وزخرف، ويتسرع ويأخذ بها دون تثبت. وقد لفت النبي صلى لله عليه وسلم إلى هذا الأمر حين قال: (إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه شيئًا، بقوله، فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها)108.
ومعنى (ألحن بحجته من بعض) أي: أفصح وأفطن بحجته من بعض، فيزين كلامه حيث أظنه صادقًا في دعواه، وأن الحق معه وهو كاذب»109.
وكثيرًا ما نسمع اليوم عبر وسائل التواصل والإعلام المرئي والمسموع من كلمات وأخبار وما هي إلا تنافس القائمين بهذا العمل الإعلامي في نقل الأحداث، فكلًّا يلمع الخبر الذي حصل عليه رغبة بكسب المتابعين أو المشاهدين له، حتى ولو كانت تلك العبارات مجحفة في حق أصحابها، فبعضهم يدس السم بالعسل، وخاصة ما نسمع من مطالبات مستميتة لحقوق المرأة، وكأن الإسلام قد هضم حقها، وليس خلفها إلا أهل النفاق الذين يريدون إشاعة الفاحشة بين المسلمين، بل هم لا يريدون حرية المرأة، هم يريدون حرية الوصول إليها بعد أن صانها الإسلام عن الرذائل، فالتبين من كل خبر وحادثة ومن خلف الخبر مهم لوضوح الحقائق.
٩. الاستماع الجيد، والمراجعة الدقيقة لكل ما يطلب من الإنسان تنفيذه من أوامر.
فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال يوم خيبر: (لأعطين هذه الراية رجلًا يحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه)، قال عمر بن الخطاب: ما أحببت الإمارة إلا يومئذ، قال: فتساورت 110لها رجاء أن أدعى لها، قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، فأعطاه إياها، وقال: (امش، ولا تلتفت، حتى يفتح الله عليك)، قال: فسار علي شيئًا ثم وقف ولم يلتفت، فصرخ: يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس؟ قال: (قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم، إلا بحقها وحسابهم على الله)111.
فنجد أن عليًّا رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم متثبتًا على ماذا يقاتل الناس، ثم مضى مطمئنًّا إلى ما طلب منه على أكمل وجه بعد أن وقف على حقيقة الأمر.
١٠. الحكم على الآخرين من خلال التجربة والمصاحبة والمعايشة.
فقد أثنى رجل على رجل عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال عمر: هل صحبته في سفر قط؟ قال: لا. قال: هل ائتمنته على أمانة قط؟ قال: لا. قال: هل كانت بينك وبينه مداراة112 في حق؟ قال: لا. قال: اسكت، فلا أرى لك به علمًا، أظنك والله رأيته في المسجد يخفض رأسه ويرفعه113.
١١. المطالبة بالشهود أو البينة على الدعوى، أو اليمين من الطرف الآخر عند النكول وعدم البينة.
وهي وسيلة من وسائل إثبات الحق الذي يدّعيه المدّعي.
والأصل في ذلك ما ورد عن الأشعث بن قيس قال: كانت بيني وبين رجل خصومة في بئر، فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله: (شاهداك أو يمينه)، قلت: إنه إذا يحلف ولا يبالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين يستحق بها مالًا، وهو فيها فاجر، لقي الله وهو عليه غضبان)، فأنزل الله تصديق ذلك، ثم اقترأ هذه الآية: (ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ) [آل عمران: ٧٧]114.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه)115.
١٢. أن لا يقضي القاضي مدفوعًا بشهوة التشفي أو الحقد.
ولا يستعجل في القضاء، وأن لا يقضي وهو غضبان، أو جوعان، أو نعسان، أو مرهق، ولا وهو يدافع الأخبثين (البول والغائط).
١٣. عدم بناء الأحكام على الشك، بل لابد من اليقين.
فيجب أن يفسر الشك في صالح المتهم؛ ذلك لأن اليقين لا يزول بالشك، ولأن يخطئ القاضي فيبرئ مذنبًا خير له من أن يخطئ ويتسرع بإدانة بريء ومعاقبته.
١٤. أن يطلب القاضي من الله أن يلهمه الرشد والصواب في الأمر كله.
فلا صواب إلا بالإلهام من الله، وإن العبد البعيد عن عون الله هالك.
١٥. الاستعانة بأهل العلم والخبرة والورع.
ويستعين بالنظر في اجتهادات السابقين من الأئمة المجتهدين، وما ينتج عن هذه الاستعانة من تثبت تقتضيه المسالك الشرعية، ويؤدي إلى أن يكون الرأي أو الحكم أوفق للحق، وأقرب للصواب، وأطيب لنفس الخصوم.
١٦. دراسة النماذج العملية للتثبت من خلال القرآن والسنة.
وكذلك سيرة السلف الصالح، ومعايشتها، والاستفادة منها في الواقع العملي.
ذكر القرآن الكريم نماذج كثيرة للتثبت متمثلة في عدد من القصص، وهذا بيان بعضها:
أولًا: قصة موسى عليه السلام والخضر:
وردت قصة موسى والخضر عليهما السلام في سورة الكهف، في قول ربنا سبحانه: (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ) [الكهف: ٦٠ - ٨٢].
لم يذكر لنا القرآن اسم العبد الصالح الذي ذهب إليه موسى عليه السلام، لكن بيّن لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن اسمه الخضر116، وسمي بهذا الاسم لأنه جلس على فروة بيضاء117، فإذا هي تهتز من خلفه خضراء118.
ويلاحظ على هذه القصة أنها «قصة تثبّتٍ في صورة عملية؛ ذلك أن الإنسان يبني حكمه على ما يشاهده ويشعر به؛ ولذلك يخطئ ويتعثر كثيرًا، ولو انكشفت له حقائق الحياة، ومواطن الأمور وعواقبها، لتغير حكمه كثيرًا، ونقض ما أبرم، وتثبّت أنه لا ثقة له بأحكامه، وأنه لا يصح الإسراع في الحكم، وأن حياتنا اليومية العامة مليئة بالأخطاء الفاحشة، والأحكام السريعة، والخطوات المتهورة، والآراء المرتجلة، ولو أسندت إليه إدارة هذا العالم الفسيح، لأفسد العالم وأهلك الحرث والنسل؛ لأن نظره قاصر، وعلمه محدود، وخلق من عجل، وفطر على السرعة وقلة البصر»119.
وتظهر مواضع التثبت في هذه القصة فيما يأتي120:
أولًا: لقد اختار الله سبحانه وتعالى لتقرير هذه الحقيقة العظيمة أعظم شخصية في عصره، وهو موسى عليه السلام، أحد أولي العزم، الذي ظن متعجلًا غير متثبت أنه أعلم الناس، فعاتبه الحق سبحانه؛ لأنه لم يرد العلم إليه، فعن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم: (أن موسى قام خطيبًا في بني إسرائيل، فسئل أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عليه، إذ لم يرد العلم إليه، فقال له: بلى، لي عبد بمجمع البحرين هو أعلم منك)121.
ثانيًا: بعد أن قابل موسى الخضر عليهما السلام ، وسأله أن يعلّمه من علمه، وأخبره الخضر أنه لن يستطيع صبرًا على ما يرى، وتعهد موسى عليه السلام أنه سيكون صابرًا، ولا يعصي له أمرًا، أخذ الخضر عليه السلام الشرط على موسى عليه السلام إن أراد صحبته ألا يسأله عن شيء حتى يوضّحه له ووافق موسى عليه السلام ألا يتسرع بالإنكار على الخضر عليه السلام عندما يقوم ببعض الأمور التي يبدو ظاهرها المنكر؛ لأن التسرع ينافي التثبت122، فقبل موسى عليه السلام شرطه رعاية لأدب المتعلم مع العالم123 .
قال تعالى: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ) [الكهف: ٦٥ - ٧٠].
ثالثًا: «وتمضي الرحلة، وينكر موسى على الخضر عليهما السلام تصرفات أثارت الاستغراب والدهشة، من خرق للسفينة التي أقلتهما بدون أجر، وقتل للغلام الزكي الذي لم يبلغ الحلم، وبناء للجدار في قرية لم يضيفهما أهلها، لذلك لم يملك موسى عليه السلام نفسه أمام هذه التصرفات الغريبة ونسي وعده، وأسرع بالإنكار والتساؤل قائلًا للخضر عليه السلام: (ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ) [الكهف: ٧٤]» 124.
إذن لم يصبر موسى عليه السلام على ما قام به الخضر عليه السلام، وتسرعه هذا ينافي التثبت، فلو صبر وتأنى لرأى العجب، لكنه أكثر الاعتراض فتعين الفراق125، لذلك قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (يرحم الله موسى لو كان صبر لقص علينا من أمرهما)126.
وقد «كان على موسى عليه السلام أن يتريث ويتأنى حتى يوضّح له الخضر أسباب ما يقوم به، لكنه تسرع وقال كلامًا يدل على ندمه الشديد (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ) [الكهف: ٧٦].
ولما لم يلتزم موسى عليه السلام بالشرط الذي وضعه على نفسه، وأنكر إنكارًا قائمًا على العجلة وعدم التريث، قرر الخضر عليه السلام مفارقته (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [الكهف: ٧٨]»127.
رابعًا: «يمضي الخضر عليه السلام بتؤدة وأناة حتى تنتهي الرحلة إلى غايتها المقدرة، ويكشف القناع عن هذه القضايا الثلاث، التي كانت موضع دهشة واستغراب من موسى عليه السلام ومن كل من يقرأ هذه القصة في القرآن، فيتجلى أن الخضر عليه السلام كان مصيبًا محسنًا، فقد أحسن إلى صاحب السفينة بخرقها؛ إذ حفظها من اغتصاب الملك الظالم (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ) [الكهف: ٧٩].
وأحسن إلى أبوي الغلام بقتله؛ إذ كان فتنة لهما (ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ) [الكهف: ٨٠].
وأن بكاء ساعة أفضل من البكاء طول الحياة، وأن الغلام يعوّض، ولا عوض عن الدين والعافية (ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ) [الكهف: ٨١].
وأصلح الجدار وأقامه؛ لأنه كان ليتيمين من أبوين صالحين، وكان تحته كنز لهما، ولو تهدم الجدار لانكشف الكنز واختطفه الناهبون، فظهر أن صلاح العمل ينفع في الحياة وبعد الممات، وأن البذور الصالحة تظهر نتيجتها كما أن البذور السيئة تظهر نتيجتها»128، (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ) [الكهف: ٨٢].
هذه القصة العظيمة درس لكل المسلمين -وخاصة الدعاة- في التأني والتثبت قبل الإنكار، وهذا يوصلنا إلى الحقيقة والصواب، والعاقبة المحمودة، فكم من قضية أو حكم كنا نجهله أو ننكره، فلما وقفنا على حقيقته تبين لنا خطأ اعتقادنا وتفكيرنا!
ثانيًا: قصة سليمان عليه السلام والهدهد:
وردت هذه القصة في سورة النمل في قوله تعالى: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [النمل: ٢٠ - ٢٨].
تتجلى مظاهر التثبت في هذه القصة من خلال الآتي129:
أولًا: قوله تعالى: (ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) ففي هذه الآية عدة فوائد:
الأولى: أن الخلل لا بد أن يعالج بالعقوبة (ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) وهذا يثبت أن سليمان عليه السلام كان على إحاطة تامة وعلم شامل بأمر الجند.
الثانية: لم يتسرع سليمان عليه السلام بعقاب من لم يثبت تقصيره، فربما يكون هناك عذر أو سبب لهذا الغياب، ومن ثمّ قال: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) فقبل العقوبة لابد من التثبت، ومعرفة سبب الغياب.
الثالثة: دقة كلام الحاكم وإحاطته واختصاره، وإظهار الغضب إذا وجد الخلل، والتهديد بالعقوبة بحيث يسمعها الجند.
يقول سيد قطب: «ومن ثمّ نجد سليمان الملك الحازم يتهدد الجندي الغائب المخالف: (ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) ولكن سليمان ليس ملكًا جبارًا في الأرض، إنما هو نبي، وهو لم يسمع بعد حجة الهدهد الغائب، فلا ينبغي أن يقضي في شأنه قضاء نهائيًّا قبل أن يسمع منه، ويتبين عذره، ومن ثمّ تبرز سمة النبي العادل: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) أي: حجة قوية توضح عذره، وتنفي المؤاخذة عنه»130.
«إذن فالسلطان المبين هو العذر البيّن الواضح المقبول، وهذا الاستدراك من سليمان عليه السلام يدل على حزمه وضبطه وعدله وتثبّته، فقد أعطى المتهم فرصة لبيان حجته والدفاع عن نفسه؛ لأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، أما إذا قدّم عذرًا أو حجة فلابد أن يقبل منه»131.
ونستفيد من فعل سليمان عليه السلام في واقعنا، عدم جواز إصدار الأحكام على الناس المتهمين في نظرنا، حتى يعطوا الفرصة للدفاع عن أنفسهم، والإتيان بالبينات القاطعة التي تشهد ببراءتهم مما نسب إليهم، لكن الناس في هذه الأيام يصدرون الأحكام الجاهزة على الناس دون أدنى تثبت، مما يجعل المجتمع المسلم أسيرًا للشائعات الكاذبة التي تقوّض بنيانه.
ثانيًا: قوله تعالى: (ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) إن قول الهدهد: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ) تدل على تثبته؛ لأن الإحاطة تعني «العلم بالشيء من جميع جهاته»132، وقوله: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) يدل على تأكده وتيقّنه مما رأى وشاهد.
ثالثًا: قوله تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ) ومن دروس التثبت في هذه الآية:
الأول: قوله: (ﮊ) وهذا يدل على النظر والتأمل، والتصفح، والتثبت من الأخبار، والكشف عن الحقائق بوجه من وجوه المعرفة والعلم133.
الثاني: «قوله: (ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ) يلاحظ أن سليمان عليه السلام لم يشرع في تصديقه أو تكذيبه، ولم يستخفه النبأ العظيم الذي جاء به، إنما أخذ في تجربة الهدهد ليتأكد من صحة ما قاله (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ) [النمل: ٢٨]»134.
الثالث: لا بد للإنسان أن يتمهل، ويتثبت من الأخبار التي ترد إليه، وأن يفحصها ويتأكد منها، فإن ظهر له صدقها أخذ بها، وإن ظهر له كذبها رفضها، ولا يلام على موقفه هذا، وهذا ما فعله سليمان عليه السلام، تثبّت من كلام الهدهد فظهر له صدقه135.
ثالثًا: قصة داود عليه السلام والخصمين:
وردت هذه القصة في قوله تعالى: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ) [ص: ٢١ - ٢٦ ].
وبيان هذه القصة «أن داود النبي الملك، كان يخصص بعض وقته للتصرف في شؤون الملك، وللقضاء بين الناس.
ويخصص البعض الآخر للخلوة والعبادة وترتيل أناشيده تسبيحًا لله في المحراب. وكان إذا دخل المحراب للعبادة والخلوة لم يدخل إليه أحد حتى يخرج هو إلى الناس.
وفي ذات يوم فوجئ بشخصين يتسوران المحراب المغلق عليه، ففزع منهم، فما يتسور المحراب هكذا مؤمن ولا أمين! فبادرا يطمئنانه (ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ) وجئنا للتقاضي أمامك (ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) وبدأ أحدهما فعرض خصومته: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ) أي: اجعلها لي وفي ملكي وكفالتي (ﮣ ﮤ ﮥ) أي: شدد علي في القول وأغلظ.
والقضية- كما عرضها أحد الخصمين- تحمل ظلمًا صارخًا مثيرًا لا يحتمل التأويل. ومن ثمّ اندفع داود يقضي على إثر سماعه لهذه المظلمة الصارخة ولم يوجه إلى الخصم الآخر حديثًا، ولم يطلب إليه بيانًا، ولم يسمع له حجة. ولكنه مضى يحكم: (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ) أي: الأقوياء المخالطين بعضهم لبعض (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ).
ويبدو أنه عند هذه المرحلة اختفى عنه الرجلان، فقد كانا ملكين جاءا للامتحان! امتحان النبي الملك الذي ولاه الله أمر الناس، ليقضي بينهم بالحق والعدل، وليتبين الحق قبل إصدار الحكم. وقد اختارا أن يعرضا عليه القضية في صورة صارخة مثيرة، ولكن القاضي عليه ألا يستثار، وعليه ألا يتعجل، وعليه ألا يأخذ بظاهر قول واحد قبل أن يمنح الآخر فرصة للإدلاء بقوله وحجته، فقد يتغير وجه المسألة كله، أو بعضه، وينكشف أن ذلك الظاهر كان خادعًا أو كاذبًا أو ناقصًا! » 136.
ومن دروس التثبت المستفادة من هذه القصة137:
أولًا: لقد ورد في تفسير هذه الآيات كثير من القصص الإسرائيلية التي لا دليل عليها، وفيها ما يقدح في عصمة الأنبياء. ولذلك ردّ كثير من المفسرين هذه القصص الإسرائيلية في تفسير هذه الآيات138.
ثانيًا: الظاهر من هذه القصة أن داود عليه السلام سمع قول المتظلم من الخصمين وهو المدعي، ولم يخبرنا القرآن عن داود عليه السلام أنه سأل المدّعى عليه عما يقول المدّعي، وهل يقر بدعواه أم لا؟ وهل عنده ما يدفع هذه الدعوى.
ويبدو أن داود عليه السلام عندما سمع القضية من المدّعي عرف أنه مظلوم، وأن خصمه ظلمه وبغى عليه، وتأثر داود بما سمع، وظن أن الأمر لا يتطلب سماع الطرف الآخر، فقال داود عليه السلام مستعجلًا للمتظلم: لقد ظلمك، مع إمكان أنه لو سأل المتظلم منه لنفى ذلك ولم يعترف به139.
والأصل أن يسمع القاضي من الخصمين، لا أن يسمع كلام خصم دون الآخر؛ لأن قضية التثبت من أصول الحكم التي لا يمكن تجاوزها، ومقتضى التثبت أن يسمع من الطرفين.
ثالثًا: نتعلم من قصة داود عليه السلام عدم جواز إصدار الحكم من غير تثبت ولا إقرار من الخصم؛ إذ هذا محل الفتنة التي كانت لداود عليه السلام، فينبغي التأني في إصدار الأحكام، حتى تسمع الدعوى من الخصمين معًا140.
رابعًا: إن من قواعد الحكم الأساسية التثبت والعدل في الأحكام، ومن مقتضيات ذلك ألا يحكم القاضي في الدعوى إلا بعد أن ترفع إليه، وألا يميل مع أحد الخصمين لقرابة أو صداقة، أو محبة، أو بغض للآخر؛ فإن ذلك يخرجه عن الصراط المستقيم141(ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ).
خامسًا: لا يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه الشخصي، إلا إذا كان معه شاهد آخر يعزز هذا العلم، فقد روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: «لو رأيت أحدًا على حد لم أحده، حتى يشهد عندي شاهدان بذلك»142.
فهذه القصة تعلمنا وجوب الحكم بالحق والعدل، ومقتضى ذلك التأني والتثبت في إصدار الأحكام، من خلال الوقوف على الطرفين المتخاصمين، وعدم الاكتفاء بسماع طرف دون الطرف الآخر، وعدم الالتفات إلى الشائعات، والاكتفاء بما يشاع منها دون سماع المعنيّ بها، فكم من شائعة انتشرت واشتهرت، لكنها عين الباطل والكذب والزور.
من النماذج القرآنية في عدم التثبت، حادثة الإفك، فقد أظهرت هذه الحادثة مدى خطورة عدم التّثبّت والإشاعة على المجتمع المسلم، فقد افترى عبد الله بن أبيّ على عرض رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فرمى أحبّ نسائه إلى قلبه، وبنت أحبّ أصحابه إليه بالإفك، واتهم صحابيًّا كريمًا بهذه التّهمة النّكراء، وماجت المدينة شهرًا كاملًا بالفتنة، وانتقل الحديث من لسانٍ إلى لسانٍ ومن بيتٍ إلى بيتٍ، حتى وصل خبره إلى الرّسول صلّى الله عليه وسلم وعلم به أبو بكر الصّديق ثم عرفته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها .
وهذه الحادثة وردت في القرآن في قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [النور: ١١ - ٢٦].
وجاء تفصيل الحادثة في كتب السنة عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أراد أن يخرج سفرًا أقرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها، خرج بها معه، فأقرع بيننا في غزاة غزاها، فخرج سهمي، فخرجت معه بعد ما أنزل الحجاب، فأنا أحمل في هودج، وأنزل فيه، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك، وقفل ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى الرحل، فلمست صدري، فإذا عقد لي من جزع أظفار143 قد انقطع، فرجعت، فالتمست عقدي، فحبسني ابتغاؤه، فأقبل الذين يرحلون لي، فاحتملوا هودجي، فرحّلوه على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافًا لم يثقلن ولم يغشهن اللحم، وإنما يأكلن العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم حين رفعوه ثقل الهودج، فاحتملوه وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل وساروا، فوجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منزلهم وليس فيه أحد، فأممت منزلي الذي كنت به، فظننت أنهم سيفقدونني، فيرجعون إلي، فبينا أنا جالسة غلبتني عيناي، فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين أناخ راحلته فوطئ يدها، فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا معرسين في نحر الظهيرة، فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي ابن سلول، فقدمنا المدينة، فاشتكيت بها شهرًا والناس يفيضون من قول أصحاب الإفك، ويريبني في وجعي، أني لا أرى من النبي صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أمرض، إنما يدخل فيسلم، ثم يقول: (كيف تيكم)144، لا أشعر بشيء من ذلك حتى نقهت، فخرجت أنا وأم مسطح قبل المناصع 145متبرزنا لا نخرج إلا ليلًا إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف146 قريبًا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في البرية أو في التنزه، فأقبلت أنا وأم مسطح بنت أبي رهم نمشي، فعثرت في مرطها147، فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت، أتسبين رجلًا شهد بدرًا، فقالت: يا هنتاه148، ألم تسمعي ما قالوا؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضًا على مرضي، فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلم فقال: (كيف تيكم)، فقلت: ائذن لي إلى أبوي، قالت: وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما، فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيت أبوي، فقلت لأمي: ما يتحدث به الناس؟ فقالت: يا بنية هوني على نفسك الشأن، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر، إلا أكثرن عليها، فقلت: سبحان الله، ولقد يتحدث الناس بهذا، قالت: فبت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي، يستشيرهما في فراق أهله، فأما أسامة، فأشار عليه بالذي يعلم في نفسه من الود لهم، فقال أسامة: أهلك يا رسول الله، ولا نعلم والله إلا خيرًا، وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله، لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة، فقال: (يا بريرة هل رأيت فيها شيئًا يريبك؟)، فقالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق، إن رأيت منها أمرًا أغمصه 149عليها قط، أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن العجين، فتأتي الداجن فتأكله، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه، فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرًا، وقد ذكروا رجلًا ما علمت عليه إلا خيرًا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي)، فقام سعد بن معاذ، فقال: يا رسول الله، أنا والله أعذرك منه إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا، ففعلنا فيه أمرك، فقام سعد بن عبادة - وهو سيد الخزرج، وكان قبل ذلك رجلًا صالحًا ولكن احتملته الحمية - فقال: كذبت لعمر الله، لا تقتله، ولا تقدر على ذلك، فقام أسيد بن حضير فقال: كذبت لعمر الله، والله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فثار الحيان الأوس، والخزرج حتى هموا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فنزل، فخفضهم حتى سكتوا، وسكت وبكيت يومي لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، فأصبح عندي أبواي، وقد بكيت ليلتين ويومًا حتى أظن أن البكاء فالق كبدي، قالت: فبينا هما جالسان عندي، وأنا أبكي، إذ استأذنت امرأة من الأنصار، فأذنت لها، فجلست تبكي معي، فبينا نحن كذلك إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس ولم يجلس عندي من يوم قيل في ما قيل قبلها، وقد مكث شهرًا لا يوحى إليه في شأني شيء، قالت: فتشهد، ثم قال: (يا عائشة، فإنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة، فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب، فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه، ثم تاب تاب الله عليه)، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته، قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة، وقلت لأبي: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال، قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: وأنا جارية حديثة السن، لا أقرأ كثيرًا من القرآن، فقلت: إني والله لقد علمت أنكم سمعتم ما يتحدث به الناس، ووقر في أنفسكم وصدقتم به، ولئن قلت لكم: إني بريئة، والله يعلم إني لبريئة لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر، والله يعلم أني بريئة لتصدقني، والله ما أجد لي ولكم مثلًا، إلا أبا يوسف إذ قال: (ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [يوسف: ١٨].
ثم تحولت على فراشي وأنا أرجو أن يبرئني الله، ولكن والله ما ظننت أن ينزل في شأني وحيًا، ولأنا أحقر في نفسي من أن يتكلم بالقرآن في أمري، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله، فوالله ما رام مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت، حتى أنزل عليه الوحي، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء، حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في يوم شات، فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها، أن قال لي: (يا عائشة احمدي الله، فقد برأك الله)، فقالت لي أمي: قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: لا والله، لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله، فأنزل الله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ) الآيات150.
وقد حملت هذه القصة دلالات كثيرة على عدم التثبت لمن خاض فيها، منها:
أولًا: قصة الإفك الكذب فيها ظاهر جدًّا؛ لأنه لا يمكن أن تكون زوجة نبي الله صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف؛ لأن الله لا يختار لنبيه إلا الطيبات، كما قال: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ) [النور: ٢٦].
فمن خاض في هذه الحادثة غاب عنه هذا الأمر بسبب عدم التثبت.
ثانيًا: يظهر عدم التثبت في هذه القصة، في عدم تأمل الخائضين في حال حامل لواء الإفك، إنه عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين والذي كان معهم في غزوة بني المصطلق -وكانت فيها حادثة الإفك- وحدث منه ما حدث في هذه الغزوة مما ذكره القرآن في قوله: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [المنافقون: ٥ - ٨ ].
فكيف يصدّق بعد ذلك وقد حدث منه ما حدث؟!
يقول الشيخ محمد الغزالي عن موقف ابن سلول في غزوة بني المصطلق وحادثة الإفك: «لم يدر بخاطر أحد أنّ هذه الأوبة المتعجّلة سوف تتمخّض عن أكذوبة دنيئة يحيك أطرافها عبد الله بن أبيّ، ثم يرمي بها بين الناس، فتسير مسير الوباء الفاتك، فقد اختفى كالعقرب الخائنة، ثم شرع يلسع الغافلين، قبع هذا المنافق في جنح الظلام وبدأ ينفث الإشاعات المريبة.
وتدلّى- في غوايته- إلى حضيض بعيد، فلم يبال أن يتهجّم على الأعراض المصونة، وأن ينسج حولها مفتريات يندى لها جبين الحرائر العفيفات.
في عودة الرسول صلى الله عليه وسلم من غزوة بني المصطلق إلى المدينة، نبت حديث الإفك وشاع، واجتهد خصوم الله ورسوله أن ينقلوا شرره في كل مكان قاصدين- من وراء هذا الأسلوب الجديد في حرب الإسلام- أن يدمّروا على الرسول صلى الله عليه وسلم بيته، وأن يسقطوا مكانة أقرب الرّجال لديه، وأن يدعوا جمهور المسلمين- بعد ذلك- يضطرب في عماية من الأسى والغم! !.
وللوصول إلى هذه الغاية استباح ابن أبي لنفسه أن يرمي بالفحشاء سيدة لمّا تجاوز مرحلة الطفولة البريئة، لا تعرف الشرّ، ولا تهمّ بمنكر، ولا تحسن الحياة إلا في فلك النبوة العالي، وهي التي تربّت في حجر صدّيق، وأعدت لصحبة نبي في الدنيا والآخرة»151.
ثالثًا: الخوض في عرض عائشة رضي الله عنها وعدم الظن بها خيرًا، فهذا من التعجل وعدم التثبت الذي أنكره الله على الخائضين في قوله: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ) [النور: ١٢].
فهذه الآية فيها عتاب للمؤمنين، إذ كان الواجب عليهم إنكار ما سمعوه من إفك وكذب حول بيت النبوة، وأن يقيس فضلاء المؤمنين الأمر على أنفسهم، فإذا استبعدوه عن أنفسهم، فأم المؤمنين أبعد لفضلها، فقد «كان الأولى أن يظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرًا، وأن يستبعدوا سقوط أنفسهم في مثل هذه الحمأة، وامرأة نبيهم الطاهرة وأخوهم الصحابي المجاهد هما من أنفسهم. فظن الخير بهما أولى.
فإن ما لا يليق بهم لا يليق بزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يليق بصاحبه الذي لم يعلم عنه إلا خيرًا»152.
وقد كان ظن بعض المؤمنين بزوجة نبيهم صلى الله عليه وسلم خيرًا، كما ورد أن أبا أيوب رضي الله عنه قالت له امرأته أم أيوب: أما تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال: بلى، وذلك الكذب، أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت: لا والله، ما كنت لأفعله. قال: فعائشة والله خير منك153.
رابعًا: عدم إقامة البينة على هذا الإفك من الخائضين فيه: وهذا ما ذكره الله في قوله: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ) [النور: ١٣].
قال الزمخشري: «جعل الله التفصلة بين الرمي الصادق والكاذب: ثبوت شهادة الشهود الأربعة وانتفاءها، والذين رموا عائشة رضى الله عنها لم تكن لهم بينة على قولهم، فقامت عليهم الحجة وكانوا عند اللّه أي: في حكمه وشريعته كاذبين. وهذا توبيخ وتعنيف للذين سمعوا الإفك فلم يجدوا في دفعه وإنكاره، واحتجاج عليهم بما هو ظاهر مكشوف في الشرع، من وجوب تكذيب القاذف بغير بينة، والتنكيل به إذا قذف امرأة محصنة من عرض نساء المسلمين، فكيف بأمّ المؤمنين الصدّيقة بنت الصدّيق حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبيبة حبيب الله؟ »154.
خامسًا: قوله تعالى: (ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ) [النور: ١٥].
ويتجلى عدم التثبت في هذه الآية في ثلاثة أمور وهي:
الأول: تلقي الإفك بألسنتهم بالسؤال عنه وبإشاعته، لا مجرد السماع عفوًا، وإنما يأخذه بعضهم من بعض، ويذيعه وينشره بدون تحقق.
الثاني: التكلم بما لا علم لهم به، ولا دليل عليه، وهذا ينافي التثبت، وهو حديث باللسان دون القلب «لأن من المعلوم بداهة أن التلقي إنما يكون بالأذن ثم يعرض على العقل والقلب، وحينئذ يكون الكلام باللسان، فإنما هي لفتة إلى السرعة وعدم التأني أو التروي في إصدار الحكم، بل في تداوله والتحرك به كأن الإفك عندما وقع من ابن سلول صمت الآذان، وسترت العقول، وغلفت القلوب، فلم يبق إلا أن لاكته الألسن وتحركت به الشفاه، دون فهم للواقع، ودون معرفة بالظروف والملابسات»155.
ولقد صوّر صاحب الظلال ذلك تصويرًا بديعًا حين قال: «وهي صور فيها الخفّة والاستهتار، وقلّة الحرج، وتناول أعظم الأمور وأخطرها بلا مبالاة ولا اهتمام: (ﮟ ﮠ ﮡ) لسان يتلقى عن لسان، بلا تدبر ولا تروّ، ولا فحص ولا إمعان نظر، حتى لكأن القول لا يمر على الآذان، ولا تتملاه الرؤوس، ولا تتدبّره القلوب، (ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ)، بأفواهكم لا بوعيكم، ولا بعقلكم، ولا بقلبكم، إنّما هي كلمات تقذف بها الأفواه قبل أن تستقر في المدارك، وقبل أن تتلقاها العقول... » 156.
الثالث: استصغار ذلك القول، وهو عند الله عظيم الإثم، موجب لشدة العقاب (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ) قال الزحيلي: « وهذا يدل على أمور ثلاثة: هي أن القذف من الكبائر؛ لقوله تعالى: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ) وأن عظم المعصية لا يختلف بظن فاعلها، وإنما بالواقع، فربما كان جاهلًا لعظمها، لقوله تعالى: (ﮩ ﮪ) وأن الواجب على المكلف في كل محرم أن يستعظم الإقدام عليه، فربما كان من الكبائر»157.
وهكذا يتبين من هذه القصة أن للإشاعات وعدم التثبت دورًا خطيرًا في تحريك النسيج الاجتماعي، والتأثير في تماسكه، واللعب بعواطفه، وتوجيهه نحو الهاوية إذا لم يتدارك الأمر.
موضوعات ذات صلة: |
المسابقة، المسارعة |
1 انظر: تهذيب اللغة، الأزهري ١٤/١٩١، مختار الصحاح، الرازي ص٤٨، لسان العرب، ابن منظور ١٢/١٩.
2 انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني ص١٧١.
3 انظر: أساس البلاغة، الزمخشري ١/٦٩، مختار الصحاح، الرازي ص٤٨.
4 انظر: فتح القدير، الشوكاني ٥/٧٠، تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٤٨٢، الموسوعة الفقهية الكويتية ١٠/١٤٢.
5 انظر: معاني القراءات، الأزهري ١/٣١٥، البدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة، عبد الفتاح القاضي ص٨٣.
6 انظر: الصحاح، الجوهري ٥/ ٢٠٨٣، لسان العرب، ابن منظور ١٣/٦٧.
7 الكليات، الكفوي ص٨٩.
8 انظر: جامع البيان، الطبري ٩/٨١، معاني القراءات، الأزهري ١/٣١٥.
9 انظر: جامع البيان، الطبري ٢٢/٢٨٦، الحجة في القراءات السبع، ابن خالويه ص١٢٦.
10 انظر: الحجة للقراء السبعة، أبو علي الفارسي ٣/١٧٤.
11 فتح القدير، الشوكاني ٧/١٠.
12 المعجم الاشتقاقي، محمد جبل ٤/٢٢١٩.
13 المفردات ص٨١٢.
14 انظر: لسان العرب، ابن منظور ٤/ ٦٥، بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي ٢/٢٢٣.
15 انظر: لسان العرب، ابن منظور ٤/ ٦٥.
16 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٣/٣٤٣.
17 نضرة النعيم، مجموعة مؤلفين ٨/٣٥١٧-٣٥١٨.
18 انظر: مجمل اللغة، ابن فارس ١/٦٤٩.
19 المفردات ص٣٢٣.
20 التوقيف، ص٢٣٧.
21 انظر: أدب الكلام وأثره في بناء العلاقات الإنسانية، عبدالله عودة ص٥٢.
22 في ظلال القرآن، سيد قطب ٤/٢٢٢٧.
23 الفتاوى السعدية ص٦٦-٦٧.
24 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٦/٢٣١.
25 الوسيط، سيد طنطاوي ١٣/٣٠٥.
26 صيد الخاطر، ابن الجوزي ص٣٨٥.
27 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، باب (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا)، رقم ٤٥٩١، ٦/٤٧.
28 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص١٩٤.
29 جامع البيان، الطبري ٩/٧٠.
30 الحكمة في الدعوة إلى الله، سعيد بن وهف القحطاني ص١٧١.
31 أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع ١/١٠.
32 أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه ١/١١.
33 شرح صحيح مسلم ١/٧٥.
34 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق. باب حفظ اللسان، رقم ٦٤٧٧، ٨/١٠٠، ومسلم في صحيحه. كتاب الزهد والرقائق، باب التكلم بالكلمة يهوي بها في النار، رقم ٢٩٨٨، ٤/٢٢٩٠.
35 فتح الباري، ابن حجر ١١/٣١١.
36 أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، رقم ٢٠٢٧٠، ١٠/١٧٨، وأبو يعلى في مسنده، رقم ٤٢٥٦، ٧/٢٤٧.
وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة ٤/٤٠٤.
37 انظر: فيض القدير، المناوي ٣/١٨٤.
38 إعلام الموقعين، ابن القيم ١/٣٨.
39 التفسير المنير، الزحيلي ٨/١٩٢.
40 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٢٨٧.
41 انظر: أدب المفتي والمستفتي، ابن الصلاح ص٧٦.
42 انظر: المصدر السابق ص٨٥.
43 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجنائز، باب ما يكره من النياحة على الميت، رقم ١٢٢٩، ١/٤٣٤، ومسلم في صحيحه، في المقدمة، باب تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم ٣، ١/١٠.
44 أخرجه مسلم في صحيحه، في المقدمة، باب النهي عن الرواية عن الضعفاء، رقم ٧، ١/١٣.
45 أخرجه مسلم في صحيحه، في المقدمة، باب إن الإسناد من الدين، رقم ٩، ١/١٥.
46 أخرجه مسلم في صحيحه، في المقدمة، ١/١٥.
47 أخرجه أحمد في مسنده، رقم ١٧٩٨٠، ٢٩/٤٩٩، وأبو داود في سننه، كتاب الفرائض، باب في الجدة، رقم ٢٨٩٤، ٤/٥٢١، والترمذي في سننه، أبواب الفرائض، باب ما جاء في ميراث الجدة، رقم ٢١٠٠، ٣/٤٩٠، والنسائي في سننه، كتاب الفرائض، باب ذكر الجدات والأجداد، ومقادير نصيبهم، رقم ٦٣٠٥، ٦/١١١، وابن ماجه في سننه، كتاب أبواب الفرائض، باب ميراث الجدة، رقم ٢٧٢٣، ٤/٢٦، والبيهقي في السنن الكبرى، رقم ١٢٣٣٧، ٦/٣٨٤، والحاكم في المستدرك، رقم ٧٩٧٨، ٤/٣٧٦.
قال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه». ولم يتعقبه الذهبي.
وضعفه الألباني في إرواء الغليل ٦/١٢٤.
48 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب أبواب فضائل القرآن، باب في الاستغفار، رقم ١٥٢١، ٢/٦٣٠، والترمذي في سننه، كتاب أبواب الصلاة، باب ما جاء في الصلاة عند التوبة، رقم ٤٠٦، ١/٥٢٤، والنسائي في سننه، كتاب عمل اليوم والليلة، باب ما يفعل من بلي بذنب وما يقول، رقم ١٠١٧٥، ٩/١٥٩.
وصححه الألباني في صحيح أبي داود.
49 أخرجه مسلم في صحيحه، في المقدمة، باب وجوب الرواية عن الثقات وترك الكذابين، رقم ١، ١/٨.
50 أحكام القرآن، ابن العربي ٦/٤٤٠.
51 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص١٩٠.
52 انظر: الدر المنثور، السيوطي ٢/٦٠١.
53 الكشاف، الزمخشري ١/٥٤١.
54 الإشاعة وآثارها في المجتمع، عبد الرحيم المغذوي ص٢٩٠.
55 مجتمعنا المعاصر، عبدالله المشوخي ص٣٧.
56 المجتمع الإنساني في ظل الإسلام، أبو زهرة ص١٢٢.
57 الدعوة وصلتها بالحياة، عبد الرحيم المغذوي ص٢٢٢.
58 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضًا، رقم ٢٦٦١، ٣/١٧٣، ومسلم في صحيحه، كتاب التوبة، باب رقم ١٠، رقم٢٧٧٠، ٤/٢١٣٠.
59 بحوث في الإعلام الإسلامي، محمد فريد ص٤٥.
60 الدر المنثور، السيوطي ٢/٢٨٠.
61 السيرة النبوية، ابن هشام ٣/٣٠٧ بتصرف.
62 الشيوم: الآمنون.
انظر: السيرة النبوية، ابن هشام ١/٢٨٩.
63 الدبر بلسان الحبشة: الجبل.
انظر: السيرة النبوية، ابن هشام ١/٢٨٩.
64 انظر: السيرة النبوية، ابن هشام ١/٢٨٩.
65 صفة الصفوة، ابن الجوزي ١/٢٥٧.
66 انظر: صناديق الاستثمار في البنوك الإسلامية، أشرف دوابه ص١٣٣، تطهير الكسب الحرام في الأسهم والصناديق الاستثمارية، عطية فياض ص٣٤.
67 التحرير والتنوير ٢٦/٢٣١.
68 أخرجه أحمد في مسنده، رقم ٧٤٤، ٢/١٤٣، والنسائي في السنن الكبرى. كتاب الخصائص، باب ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: (إن الله سيهدي قلبك، ويثبت لسانك)، رقم ٨٣٦٦، ٧/٤٢٢، والحاكم في المستدرك، رقم ٧٠٢٥، ٤/١٠٥.
قال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه»، ولم يتعقبه الذهبي.
69 النكول: امتناع من وجبت عليه اليمين، أو له.
انظر: شرح حدود ابن عرفة، الرصاع ص٤٧٢.
70 انظر: نظام القضاء في الشريعة الإسلامية، عبدالكريم زيدان ١/١٥٥.
71 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الأقضية، باب اليمين على المدعى عليه، رقم ١٧١١، ٣/١٣٣٦.
72 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٥/١٧٨.
73 انظر في سبب النزول: جامع البيان، الطبري ٩/١٧٦ ، تفسير ابن أبي حاتم ٤/١٠٦٣.
74 تفسير المراغي ٥/١٤٧-١٤٨ بتصرف.
75 الرأي العام، حسنين عبد القادر ص١٤٠.
76 أساليب مواجهة الشائعات، جمال محفوظ ص١٩٤.
77 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب قول الله تعالى: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ)، رقم ٦٠٩٦، ٨/٢٥.
78 فتح القدير، ٥/٦٠.
79 انظر: الإشاعة وأثرها في المجتمع، عبدالرحيم المغذوي ص٢٥٨، اتجاهات النهضة والتغيير في العالم الإسلامي، عباس حسيني ص٥٣.
80 انظر: التثبت والتبين في المنهج الإسلامي، العليمي ص١٠٦، التثبت في القرآن، محمد حسين ص١٠٧.
81 انظر: فتح القدير، الشوكاني ٥/٦٠، تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص١٩٠.
82 انظر: الكشاف ٤/٣٦٣، تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٨٠٠.
83 انظر: أيسر التفاسير، الجزائري ١/٨٦١.
84 أخرجه أحمد في مسنده، رقم ٢٧٦٠٢، ٤٥/٥٧٧، والبخاري في الأدب المفرد، رقم ٣٢٣، ص١٦٨.
وحسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد ص١٣٣.
85 انظر: آفات على الطريق، السيد محمد نوح ٢/١٥٣.
86 سبق تخريجه.
87 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العلم، باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب، رقم ١٠٥، ١/٥٢، ومسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، رقم ١٢١٨، ٢/٨٨٦.
88 انظر: التثبت والتبين في المنهج الإسلامي، أحمد العليمي ص١٠٢، نحو منهج شرعي في تلقي الأخبار وروايتها، أحمد الصويان ص٤٥ .
89 مدارج السالكين، ابن القيم ١/٣٦٨.
90 أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه، ١/١٥.
91 منهاج السنة النبوية، ابن تيمية ٦/١٩٣.
92 مدارج السالكين، ابن القيم ٣/٤٨١.
93 قاعدة في الجرح والتعديل، السبكي ص٩٣.
94 مجموع الفتاوى ١١/٣٩١.
95 المصدر السابق ١١/٣٩٢.
96 المصدر السابق ١١/٣٩٣.
97 إحياء علوم الدين، الغزالي ٤/٣٩٦.
98 سبق تخريجه.
99 العقد الفريد، ابن عبد ربه ١/٨٤.
100 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الشهادات، باب من أقام البينة بعد اليمين، رقم ٢٦٨٠، ٣/١٨٠، ومسلم في صحيحه، كتاب الأقضية، بابالحكم بالظاهر واللحن بالحجة، رقم ١٧١٣، ٣/١٣٣٧.
101 منطقة بين مكة والمدينة قرب حمراء الأسد.
انظر: معجم البلدان، ياقوت الحموي ٢/٣٣٥.
102 الظعينة: كل جمل يركب، وهذا هو الأصل، وإنما سميت المرأة ظعينة؛ لأنها تركبه.
انظر: غريب الحديث، ابن سلام ٤/٤٣٧.
103 العقاص الضفيرة.
انظر: مختار الصحاح، الرازي ص٢١٤.
104 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد، باب الجاسوس، رقم ٣٠٠٧، ٤/٥٩.
105 تفسير القرآن العظيم، ٤/٢١٣.
106 الجامع لأحكام القرآن، ١٦/٣٣١.
107 المصدر السابق ١٦/٣٣١-٣٣٢.
108 سبق تخريجه.
109 مرقاة المفاتيح، الملا علي القاري ٧/٣٠١.
110 فتساورت: أي رفعت لها شخصي.
انظر: لسان العرب، ابن منظور ٤/٣٨٦.
111 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب، رقم ٢٤٠٥، ٤/١٨٧١.
112 مداراة: ملاينة.
انظر: مختار الصحاح، الرازي ص٨٦.
113 الكفاية في علم الرواية، الخطيب البغدادي ١/٨٦.
114 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرهن، باب إذا اختلف الراهن والمرتهن، رقم ٢٥١٥، ٣/١٤٣، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار، رقم ١٣٨، ١/١٢٣.
115 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الأقضية، باب اليمين على المدعى عليه، رقم ١٧١١، ٣/١٣٣٦.
116 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العلم، باب ما ذكر في ذهاب موسى في البحر إلى الخضر، رقم ٧٤، ١/٤٠.
117 الأرض اليابسة.
انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين، الحميدي ١/٥٤٢.
118 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب بدء الوحي، رقم ٣٢٢١، ٣/١٢٤٨.
119 تأملات في سورة الكهف، أبو الحسن الندوي ص٩٣-٩٤.
120 انظر: التثبت في القرآن الكريم، محمد حسين ص١٢٠.
121 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ)، رقم ٤٤٤٨، ٤/١٧٥٢.
122 تفسير السمرقندي ٢/٣٥٥.
123 معاني القرآن، النحاس ٤/٢٦٩.
124 تأملات في سورة الكهف، أبو الحسن الندوي ص٩٥.
125 التفسير المنير، الزحيلي ٨/٣٢٧.
126 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب حديث الخضر مع موسى عليهما السلام، رقم ٣٤٠١، ٤/١٥٤.
127 تأملات في سورة الكهف، أبو الحسن الندوي ص٩٥.
128 المصدر السابق ص٩٦-٩٧.
129 انظر: الأساس في التفسير، سعيد حوى ٧/٤٠٠٨، القصص القرآني، صلاح الخالدي ٣/٥٢٧، التثبت في القرآن الكريم، محمد حسين ص١٢٥.
130 في ظلال القرآن ٥/٢٦٣٨.
131 القصص القرآني، صلاح الخالدي ٣/٥٢٧.
132 نظم الدرر، البقاعي ٥/٤١٤.
133 انظر: الكشاف، الزمخشري ٣/٣٦٧، فتح القدير، الشوكاني ٤/١٣٦.
134 المستفاد من قصص القرآن، عبدالكريم زيدان ١/٤٣٠.
135 القصص القرآني، صلاح الخالدي ١/٥٣٥.
136 في ظلال القرآن، سيد قطب ٥/٣٠١٨.
137 انظر: التثبت في القرآن الكريم، محمد حسين ص١٣٠.
138 انظر: معاني القرآن، النحاس ٦/٩٨، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٤/٣٢، في ظلال القرآن، سيد قطب ٥/٣٠١٨.
139 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٥/١٧٨.
140 انظر: أيسر التفاسير، الجزائري ٤/٤٤٤.
141 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٧١١.
142 انظر: تلخيص الحبير، ابن حجر ٤/١٩٧ وصحح إسناده مع وجود انقطاع فيه.
143 جزع أظفار: الجزع اسم مدينة بحمير في اليمن.
انظر: لسان العرب، ابن منظور ٤/٥١٧.
144 تيكم: هي إشارة بالتنبيه للمؤنث مثل ذا للمذكر.
انظر: مشارق الأنوار على صحاح الآثار، القاضي عياض ١/١٢٥.
145 المناصع: موضع بعينه خارج المدينة، وكن النساء يتبرزن إليه بالليل على مذاهب العرب بالجاهلية.
انظر: لسان العرب، ابن منظور ٨/٣٥٦.
146 الكنف: المراحيض.
انظر: غريب الحديث، ابن سلام ٣/١٤٣.
147 المرط: أكسيةٌ من صوف أو خزٍّ كان يؤتزر بها.
انظر: الصحاح، الجوهري ٣/١١٥٩.
148 هنتاه: لفظة تختص بالنداء. وقيل: معنى يا هنتاه: يا بلهاء، كأنها نسبت إلى قلة المعرفة بمكايد الناس وشرورهم.
انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير ٥/٢٨٠.
149 أغمصه: أعيبه.
انظر: الصحاح، الجوهري ٣/١٠٤٧.
150 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضا ، رقم ٢٦٦١، ٣/١٧٣، ومسلم في صحيحه، كتاب التوبة، باب رقم ١٠، رقم ٢٧٧٠، ٤/٢١٣٠.
151 فقه السيرة، محمد الغزالي ص٢٩١ بتصرف.
152 في ظلال القرآن، سيد قطب ٤/٢٥٠١ بتصرف يسير.
153 أخرجه الطبري في تفسيره ١٧/٢١٢.
154 الكشاف، الزمخشري ٣/٢١٩.
155 آفات على الطريق، السيد محمد نوح ٢/٧٠.
156 في ظلال القرآن ٤/٢٥٠٢.
157 التفسير المنير، الزحيلي ١٨/١٨١.