البعث
أولًا: المعنى اللغوي:
الباء والعين والثاء أصلٌ واحد، وهو الإثارة. ويقال بعثت الناقة إذا أثرتها. وقال ابن أحمر:
فبعثتها تقص المقاصر بعدما ... كربت حياة النار للمتنور1.
قال الراغب: «أصل البعث: إثارة الشيء وتوجيهه»2.
والبعث ضربان:
أحدهما: إيجاد الأعيان والأجناس والأنواع عن ليس (أي من عدم)، وذلك يختص به الباري تعالى، ولم يقدر عليه أحد.
والثاني: إحياء الموتى، وقد خص بذلك بعض أوليائه، كعيسى صلى الله عليه وسلم وأمثاله، ومنه قوله عز وجل: ( ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ) [الروم: ٥٦]. يعني: يوم الحشر3.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
يعرف البعث بعد الموت بأنه: «إحياء الله تعالى الأموات وإخراجهم من قبورهم وهم أحياء للحساب وللجزاء»4.
وقال ابن كثير: «هو المعاد وقيام الأرواح والأجساد يوم القيامة»5.
والحاصل أن البعث: «هو أن يعيد الله تعالى الإنسان بروحه وجسده كما كان في الحياة الدنيا، وهذا كائن عندما تتعلق إرادة الرب جل وعلا بذلك فيخرج الخلق جميعهم من قبورهم، وهم حفاة عراة غرل بهم، ويساقون إلى أرض الموقف لينال كل إنسان ما يستحقه من الجزاء العادل وفق ما عمل في حياته الدنيا»6.
وردت مادة (بعث) في القرآن الكريم ( ٦٧) مرة7.
والصيغ التي وردت هي:
الصيغة | عدد المرات | المثال |
الفعل الماضي | ٢٠ | (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) [البقرة:٥٦] |
الفعل المضارع | ٢٨ | (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) [النحل:٣٨] |
فعل الأمر | ٥ | (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [البقرة:١٢٩] |
اسم مفعول | ٩ | (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) [المطففين:٤] |
مصدر | ٥ | (ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ) [لقمان:٢٨] |
وجاء البعث في الاستعمال القرآني على سبعة أوجه8:
الأول: الإلهام: قال الله تعالى: (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [المائدة:٣١]. يعني فألهم الله غرابًا.
الثاني: الإحياء في الدنيا: قال تعالى: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) [البقرة:٥٦].أي: ثم أحييناكم في الدنيا.
الثالث: اليقظة من النوم: قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ) [الأنعام:٦٠]. أي: من النوم.
الرابع: التسليط: قال تعالى: (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) [الإسراء:٥]. أي: سلطنا عليكم عبادًا لنا.
الخامس: إرسال الرسول: قال تعالى: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ) [الجمعة:٢].أي: أرسل رسولًا.
السادس: النصب والتعيين: قال تعالى: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [النساء:٣٥].أي: انصبوا حكمًا.
السابع: النشور من القبور: قال تعالى: (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [الحج:٧]. يعني: ينشر من في القبور.
الإحياء:
الإحياء لغة:
قال ابن فارس: «الحاء والياء والحرف المعتل أصلان: أحدهما خلاف الموت، والآخر الاستحياء الذي هو ضد الوقاحة؛ فأما الأول فالحياة والحيوان، وهو ضد الموت والموتان، ويسمى المطر حيًا لأن به حياة الأرض»9.
الإحياء اصطلاحًا:
لم يعرف أهل السنة الإحياء في مؤلفاتهم لوضوح معناه، وإنما تحدثوا عن هذا اللفظ بكلام عام يبين معناه عندهم، وقد ورد الإحياء في الشرع بمعنى نفخ الروح في الجسد، وإيجاد الحياة فيه10.
الصلة بين الإحياء والبعث:
أنهما يدلان على شيء واحد وهو إعادة الحياة للميت.
النشور:
النشور لغة:
الحياة بعد الموت، ينشرهم الله إنشارًا، ونشرت الأرض تنشر نشورًا، إذا أصابها الربيع فأنبتت، فهي ناشرةٌ11.
النشور اصطلاحًا:
يطلق ويراد به معنى البعث، وهو انتشار الناس من قبورهم إلى الموقف للحساب والجزاء.
الصلة بين البعث والنشور:
أن بعث الخلق اسم لإخراجهم من قبورهم إلى الموقف، ومنه قوله تعالى: ( ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ) [يس: ٥٢].
والنشور اسم لظهور المبعوثين وظهور أعمالهم للخلائق، ومنه قولك نشرت اسمك، ونشرت فضيلة فلان، إلا أنه قيل: أنشر الله الموتى بالألف، ونشرت الفضيلة والثوب للفرق بين المعنيين»12.
ووجه الصلة بين البعث والنشور أنهما مرحلتان متتاليتان للموتى يوم القيامة البعث يكون بإحيائهم وإخراجهم من قبورهم والبعث يكون بانتشارهم بعد خروجهم من قبورهم كالفراش المبثوث.
الإخراج:
الإخراج لغة:
أصله من «خرج خروجًا: برز من مقره أو حاله، سواء كان مقره دارًا، أو بلدًا، أو ثوبًا، وسواء كان حاله حالة في نفسه، أو في أسبابه الخارجة13.
الإخراج اصطلاحًا:
«هو البعث يوم القيامة لموقف العرض والجزاء»14.
الصلة بين الإخراج والبعث:
أن البعث يشمل الإحياء والخروج، فالإخراج أخص من البعث.
منهج القرآن في تقرير مبدأ البعث
سلك القرآن الكريم مسلك الاستدلال العقلي والقياس في إثبات قضية البعث بعد الموت وأنها ممكنة عقلا، وذلك من خلال النظر في المشاهدات الكونية الدالة على قدرة الله تعالى عليه، وأنه أهون من كثير مما لا ينكرون أن الله يقدر عليه، فمن ذلك ما يلي:
أولًا: الاستدلال بالنشأة الأولى:
دل القرآن الكريم على قضية البعث بقياسها على قضية مسلمة عند منكريه وهي قضية الخلق الأول، أو النشأة الأولى، فهم يقرون بأن الله هو الذي خلقهم كما قال تعالى: ( ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [الزخرف: ٨٧].
فبين القرآن إنهم إن أقروا بذلك وأن الله هو الذي خلقهم بقدرته وأنشأهم من عدم، لزمهم الإقرار بقدرته كذلك على بعثهم بعد موتهم، وذلك في مواضع عدة منها قوله تعالى: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ) [يس: ٧٨ - ٧٩]
ذكر الواحدي: «عن أبي مالكٍ: أن أبي بن خلفٍ الجمحي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظمٍ حائلٍ ففته بين يديه، وقال: يا محمد يبعث الله هذا بعدما أرم؟ فقال: (نعم، يبعث الله هذا ويميتك ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم)15، فنزلت هذه الآية»16.
«وقيل: إن هذا الكافر قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن سحقتها وأذريتها في الريح أيعيدها الله! فنزلت (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) أي من غير شيء فهو قادر على إعادتها في النشأة الثانية من شيء وهو عجم الذنب، ويقال عجب الذنب بالباء»17.
«ولا شك أن الإحياء بعد أهون من الإنشاء قبل، فمن قدر على الإنشاء كان على الإحياء أقدر وأقدر، ولا احتمال لعروض العجز فإن قدرته عز وجل ذاتية لا تقبل الزوال ولا التغير بوجه من الوجوه18.
ولهذا قال تعالى: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) «فإن قدرته كما كانت لامتناع التغير فيه، والمادة على حالها في القابلية اللازمة لذاتها»19.
«وهذا بمجرد تصوره، يعلم به علما يقينا لا شبهة فيه، أن الذي أنشأها أول مرة قادر على الإعادة ثاني مرة، وهو أهون على القدرة إذا تصوره المتصور»20.
ومما يدل على هذا المعنى قوله تعالى: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ) [الواقعة: ٦٠-٦٢].
قال النسفي: « (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ) وعلى أن ننشئكم في خلق لا تعلمونها وما عهدتم بمثلها، يعني أنا نقدر على الأمرين جميعًا على خلق ما يماثلكم وما لا يماثلكم، فكيف نعجز عن إعادتكم؟ ويجوز أن يكون أمثالكم جمع مثل، أي على أن نبدل ونغير صفاتكم التي أنتم عليها في خلقكم وأخلاقكم، وننشئكم في صفات لا تعلمونها»21.
وقال المراغي: «أي نحن قسمنا الموت بينكم، ووقتنا موت كل واحد بميقات معين لا يعدوه بحسب ما اقتضته مشيئتنا المبنية على الحكم البالغة، وما نحن بعاجزين عن أن نذهبكم ونأتي بأشباهكم من الخلق، وننشئكم فيما لا تعلمون من الأطوار والأحوال التي لا تعهدونها.. ثم ذكر دليلا آخر على البعث فقال: ( ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ) أي لقد علمتم أن الله أنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا، فخلقكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، فهلا تتذكرون وتعرفون أن الذي قدر على هذه النشأة وهى البداية قادر على النشأة الأخرى وهى الإعادة بطريق الأولى»22.
قال الشوكاني: « (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) وهي ابتداء الخلق من نطفةٍ، ثم من علقةٍ، ثم من مضغةٍ ولم تكونوا قبل ذلك شيئًا، وقال قتادة والضحاك: يعني خلق آدم من ترابٍ فلولا تذكرون أي: فهلا تذكرون قدرة الله سبحانه على النشأة الأخيرة وتقيسونها على النشأة الأولى»23.
وقال الصابوني: « ( ﮔ ﮕ) أي فهلا تتذكرون بأن الله قادر على إعادتكم كما قدر على خلقكم أول مرة؟ (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [مريم: ٦٧]. »24.
وقد رد القرآن الكريم على من أنكروا البعث كذلك وسألوا سؤال استبعاد لا سؤال استفهام أيبعثون بعد موتهم وآباؤهم بعد أن صاروا عظاما ورفاتا من جديد ردا مفحما غاية في البيان والإيجاز والإعجاز والإفحام.
قال تعالى: ( ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ) [الإسراء: ٤٩ - ٥١].
«وقوله: (ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ) قالوا إنكارا منهم للبعث بعد الموت: إنا لمبعوثون بعد مصيرنا في القبور عظاما غير منحطمة، ورفاتا منحطمة، وقد بلينا فصرنا فيها ترابا، خلقا منشأ كما كنا قبل الممات جديدا، نعاد كما بدئنا، فأجابهم جل جلاله يعرفهم قدرته على بعثه إياهم بعد مماتهم، وإنشائه لهم كما كانوا قبل بلاهم خلقا جديدا، على أي حال كانوا من الأحوال، عظاما أو رفاتا، أو حجارة أو حديدا، أو غير ذلك مما يعظم عندهم أن يحدث مثله خلقا أمثالهم أحياء، قل يا محمد ( ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ)»25.
«وتقرير الشبهة: أن الإنسان إذا مات جفت عظامه وتناثرت وتفرقت في جوانب العالم، واختلطت بسائطها بأمثالها من العناصر، فكيف يعقل بعد ذلك اجتماعها بأعيانها، ثم عود الحياة إلى ذلك المجموع؟ فأجاب سبحانه عنهم بأن إعادة بدن الميت إلى حال الحياة أمرٌ ممكنٌ، ولو فرضتم أن بدنه قد صار أبعد شيءٍ من الحياة ومن رطوبة الحي كالحجارة والحديد، فهو كقول القائل: أتطمع في وأنا ابن فلانٍ، فيقول: كن ابن السلطان أو ابن من شئت، فسأطلب منك حقي»26.
«وقوله تعالى: (ﭟ ﭠ ﭡ)؟ يخبر تعالى رسوله أن منكري البعث سيقولون له مستبعدين البعث: من يعيدنا؟ وعلمه الجواب فقال له: ( ﭣ ﭤ ﭥ) أي خلقكم (ﭦ ﭧ)، وهو جواب مسكت فالذي خلقكم ثم أماتكم هو الذي يعيدكم كما بدأكم وهو أهون عليه»27.
«والمعنى أنه لما قال لهم: كونوا حجارةً أو حديدًا أو شيئًا أبعد في قبول الحياة من هذين الشيئين فإن إعادة الحياة إليه ممكنةٌ، فعند ذلك قالوا: من هذا الذي يقدر على إعادة الحياة إليه، قال تعالى: ( ﭣ ) يا محمد: ( ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) يعني أن القول بصحة الإعادة فرعٌ على تسليم أن خالق الحيوانات هو الله تعالى، فإذا ثبت ذلك فنقول: إن تلك الأجسام قابلةٌ للحياة والعقل، وإله العالم قادرٌ لذاته، عالمٌ لذاته فلا يبطل علمه وقدرته البتة، فالقادر على الابتداء يجب أن يبقى قادرًا على الإعادة، وهذا كلامٌ تامٌ وبرهانٌ قويٌ»28.
ثانيًا: القياس العقلي:
دلل القرآن الكريم على قضية البعث بعد الموت بالقياس العقلي الجلي على قضية بدء الخلق، وبين أنه قياس بطريق الأولى، فكل من صدق بأنه تعالى ابتدأ خلق الإنسان وهو أمر فطري لم ينازع فيه المشركون، لزمه بطريق الأولى التصديق بقدرته تعالى على إعادته مرة أخرى، قال تعالى: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ) [الروم: ٢٧].
قال القرطبي: «أما بدء خلقه فبعلوقه في الرحم قبل ولادته، وأما إعادته فإحياؤه بعد الموت بالنفخة الثانية للبعث، فجعل ما علم من ابتداء خلقه دليلًا على ما يخفى من إعادته، استدلالًا بالشاهد على الغائب، ثم أكد ذلك بقوله: (ﭳ ﭴ ﭵﭶ)»29.
«والهين هو ما لا يتعب فيه الفاعل، والأهون ما لا يتعب فيه الفاعل بالطريق الأولى، فإذا قال قائلٌ إن الرجل القوي لا يتعب من نقل شعيرة من موضعٍ وسلم السامع له ذلك، فإذا قال فكونه لا يتعب من نقل خردلةٍ يكون ذلك كلامًا معقولًا مبقىً على حقيقته»30.
قال القرطبي: «ووجهه أن هذا مثلٌ ضربه الله تعالى لعباده، يقول: إعادة الشيء على الخلائق أهون من ابتدائه، فينبغي أن يكون البعث لمن قدر على البداية عندكم وفيما بينكم أهون عليه من الإنشاء»31.
كذلك برهن القرآن الكريم على قضية البعث بحكمة الله وعدله اللذين يقتضيان محاسبة الناس على أعمالهم في الدنيا في دار أخرى بعد موتهم، وإلا كان وجودهم في هذه الحياة الدنيا ضربا من العبث يتنزه الله تعالى عنه.
من ذلك قوله تعالى: ( ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ) [المؤمنون: ١١٥، ١١٦].
قال الزحيلي: « (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ) أي: أفظننتم أنكم مخلوقون عبثا، أي لعبا وباطلا بلا قصد ولا حكمة لنا، بل خلقناكم للعبادة والتهذيب والتعليم وإقامة أوامر الله تعالى، وهل ظننتم أنكم لا تعودون إلينا في الدار الآخرة للحساب والجزاء، كما قال تعالى: (ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) [القيامة: ٣٦].
أي: هملًا.
( ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ) أي: تنزه وتقدس الله صاحب الملك الواسع، الثابت الذي لا يزول، أن يخلق شيئا عبثا، فإنه الملك الحق المنزه عن ذلك، وهو ذو العرش العظيم الحسن البهي الذي يدبر فيه نظام الكون بحكمة ومقصد سام»32.
«وبيان كونه عبثًا أنه لو خلق الخلق فأحسن المحسن وأساء المسيء ولم يلق كلٌ جزاءه لكان ذلك إضاعةً لحق المحسن وإغضاءً عما حصل من فساد المسيء فكان ذلك تسليطًا للعبث»33.
ومثله قوله تعالى: ( ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ) [القيامة: ٣٦]
«وتقريره أن إعطاء القدرة والآلة والعقل بدون التكليف والأمر بالطاعة والنهي عن المفاسد يقتضي كونه تعالى راضيًا بقبائح الأفعال، وذلك لا يليق بحكمته، فإذًا لا بد من التكليف والتكليف لا يحسن ولا يليق بالكريم الرحيم إلا إذا كان هناك دار الثواب والبعث والقيامة»34.
ثالثًا: الاستشهاد بالدورة النباتية:
استدل القرآن الكريم على إمكان البعث بما هو مشاهد من إحياء الأرض الميتة الجرز بنزول الماء عليها فتهتز بالخضرة والحياة بعد موتها، فمن قدر على إحياء تلك الأرض بعد موتها قادر لا محالة على إحياء الموتى من البشر.
وقد تكرر هذا المثل في مواضع عدة منها قوله تعالى: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ) [الأعراف: ٥٧].
«يلفت الله تعالى نظر المشركين المنكرين للبعث والحساب والعقاب، إلى أنه يرسل الرياح فتثير السحاب، وتجعله يتكون في جو السماء، ثم تسوقه الرياح إلى الأرض الموات، التي لا نبات فيها، فيفرغ السحاب ما فيه من فوق هذه الأرض الميتة، فتحيا الأرض بالماء، وتهتز وتربو، ويخرج منها النبات، وكما أحيا الله تعالى الأرض الميتة، وأخرج منها النبات النضير، كذلك يحيي الله الأموات من البشر، ويخرجهم من قبورهم يوم القيامة ليحاسبهم على أعمالهم»35.
قال السعدي: «يبين تعالى أثرا من آثار قدرته، ونفحة من نفحات رحمته فقال: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) أي: الرياح المبشرات بالغيث، التي تثيره بإذن الله من الأرض، فيستبشر الخلق برحمة الله، وترتاح لها قلوبهم قبل نزوله، ( ﯭ ﯮ ﯯ ) الرياح ( ﯰ ﯱ) قد أثاره بعضها، وألفه ريح أخرى، وألحقه ريح أخرى ( ﯲ ﯳ ﯴ) قد كادت تهلك حيواناته، وكاد أهله أن ييأسوا من رحمة الله، ( ﯵ ﯶ) أي: بذلك البلد الميت ( ﯷ ) الغزير من ذلك السحاب وسخر الله له ريحا تدره وتفرقه بإذن الله، (ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) فأصبحوا مستبشرين برحمة الله، راتعين بخير الله، وقوله: ( ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ) أي: كما أحيينا الأرض بعد موتها بالنبات، كذلك نخرج الموتى من قبورهم، بعد ما كانوا رفاتا متمزقين، وهذا استدلال واضح، فإنه لا فرق بين الأمرين، فمنكر البعث استبعادا له - مع أنه يرى ما هو نظيره - من باب العناد، وإنكار المحسوسات»36.
وقال الزحيلي: «هذه آية اعتبار واستدلال على وجود البعث، وفهم الدليل بسيط جدا؛ فإن الله تعالى كما أنه يحيي الأرض وينبتها نباتا حسنا بالمطر فإنه قادر على إعادة الموتى أحياء يوم القيامة، كإحياء الأرض بعد موتها.. وإحياء الأرض بعد موتها بالنباتات يحدث بقدرة الله الخالق، فكذلك إعادة الحياة إلى الأجساد يكون بقدرة الله أيضا» 37.
وقد جمع بين الطريقتين السابقتين في إثبات البعث قوله تعالى: ( ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ) [الحج: ٥].
«( ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) إقامة للحجة التي تلقم المجادلين في البعث حجرا إثر الإشارة إلى ما يؤول إليه أمرهم، واستظهر أن المراد بالناس هنا الكفرة المجادلون المنكرون للبعث، والتعبير عن اعتقادهم في حقه بالريب أي الشك مع أنهم جازمون بعدم إمكانه إما للإيذان بأن أقصى ما يمكن صدوره عنهم وإن كانوا في غاية ما يكون من المكابرة والعناد هو الارتياب في شأنه، وإما الجزم بعدم الإمكان فخارج من دائرة الاحتمال كما أن تنكيره وتصديره بكلمة الشك للإشعار بأن حقه أن يكون ضعيفا مشكوك الوقوع، وإما للتنبيه على أن جرمهم ذلك بمنزلة الريب الضعيف لكمال وضوح دلائل الإمكان ونهاية قوتها، وإنما لم يقل وإن ارتبتم في البعث للمبالغة في تنزيه أمره عن شائبة وقوع الريب والإشعار بأن ذلك إن وقع فمن جهتهم لا من جهته، واعتبار استقرارهم فيه وإحاطته بهم لا ينافي اعتبار ضعفه وقلته لما أن ما يقتضيه ذلك هو دوام ملابستهم به لا قوته وكثرته»38.
«فيا أيها البشر، إن كنتم في شك من إمكان البعث ومجيئه، فانظروا إلى بدء خلقكم، فمن قدر على البدء قدر على الإعادة، بدليل مراحل خلق الإنسان السبع.. وهذا هو الدليل الأول على قدرة الله على البعث، يعتمد على التأمل في مراحل خلق الإنسان، والدليل الثاني: هو خلق النبات المشابه لخلق الإنسان، فإذا تأمل المرء أحوال الأرض، يراها أولا ميتة يابسة لا نبات فيها ولا زرع، فإذا أنزل الله عليها المطر تحركت بالنبات، ودبت فيها الحياة، وارتفعت وانتفخت بالماء والنبات، ثم أنبتت من كل صنف من النبات والزرع ما هو جميل المنظر، طيب الرائحة، متناسق الألوان أو مختلفها، لاختلاف ألوان الثمار والزروع والطعوم والروائح، والأشكال والمنافع، كما يلاحظ كل إنسان في فصل الربيع والصيف وغيرهما»39.
وهذا ارتقاءٌ في الاستدلال على الإحياء بعد الموت بقياس التمثيل لأنه استدلالٌ بحالةٍ مشاهدةٍ فلذلك افتتح بفعل الرؤية، بخلاف الاستدلال بخلق الإنسان فإن مبدأه غير مشاهدٍ فقيل في شأنه فإنا خلقناكم من ترابٍ الآية، ومحل الاستدلال من قوله تعالى: ( ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ )، فهو مناسبٌ قوله في الاستدلال الأول فإنا خلقناكم من ترابٍ، فهمود الأرض بمنزلة موت الإنسان واهتزازها وإنباتها بعد ذلك يماثل الإحياء بعد الموت»40.
فهذان الدليلان القاطعان، يدلان على هذه المطالب الخمسة، وهي هذه: ( ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [الحج: ٦- ٧]»41.
رابعًا: الاستدلال بوقائع حصل فيها الإحياء بعد الموت:
استدل القرآن الكريم على قضية البعث بوقائع حدثت فعلا، ووقع فيها أمر الإحياء بعد الموت في هذه الحياة الدنيا بشكل معاين، وهي وقائع عديدة ذكرها الله تعالى في كتابه ليدلنا بها على إمكان وقوع إحياء الموتى حتى في هذه الحياة الدنيا، وأن من قدر على ذلك فهو قادر لا محالة على إحياء الموتى جميعا يوم القيامة، فمن هذه الوقائع:
١. قصة الرجل الذي قتل في بني إسرائيل.
قال تعالى: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ) [البقرة: ٦٧ - ٧٣].
«وحكاية ذلك: أن رجلًا موسرًا قتله بنو عمه ليرثوه، وطرحوه عند باب المدينة، ثم جاءوا يطالبون بديته؛ فأمرهم الله تعالى أن يذبحوا بقرة، ويضربوا القتيل ببعضها؛ فيحيا ويخبرهم بقاتله. فضربوه بذنبها، فحي وقال: قتلني فلان وفلان - يريد ابني عمه - فاقتص منهما، وحرما ميراثه»42.
«روي عن ابن عباسٍ وسائر المفسرين أن رجلًا من بني إسرائيل قتل قريبًا لكي يرثه ثم رماه في مجمع الطريق ثم شكا ذلك إلى موسى عليه السلام فاجتهد موسى في تعرف القاتل، فلما لم يظهر قالوا له: سل لنا ربك حتى يبينه، فسأله فأوحى الله إليه: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ) فتعجبوا من ذلك ثم شددوا على أنفسهم بالاستفهام حالًا بعد حالٍ واستقصوا في طلب الوصف فلما تعينت لم يجدوها بذلك النعت إلا عند إنسانٍ معينٍ ولم يبعها إلا بأضعاف ثمنها، فاشتروها وذبحوها وأمرهم موسى أن يأخذوا عضوًا منها فيضربوا به القتيل، ففعلوا فصار المقتول حيًا وسمى لهم قاتله وهو الذي ابتدأ بالشكاية فقتلوه قودًا»43.
وقد اختلفوا في المخاطب بقوله تعالى: ( ﮒ ﮓ) «قال القفال: ظاهره يدل على أن الله تعالى قال هذا لبني إسرائيل أي: إحياء الله الموتى يكون مثل هذا الذي شاهدتم؛ لأنهم وإن كانوا مؤمنين بذلك إلا أنهم لم يؤمنوا به إلا من طريق الاستدلال، ولم يشاهدوا شيئًا منه، فإذا شاهدوه اطمأنت قلوبهم، وانتفت عنهم الشبهة، فأحيا الله القتيل عيانًا، ثم قال لهم: ( ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ )، أي: كما أحياها في الدنيا يحييها في الآخرة من غير احتياج إلى مادة ومثال وآلة التي لا يخلو منها المستدل»44.
وقال أبو جعفر الطبري: «وقوله: ( ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ) مخاطبة من الله عباده المؤمنين، واحتجاج منه على المشركين المكذبين بالبعث، وأمرهم بالاعتبار بما كان منه جل ثناؤه من إحياء قتيل بني إسرائيل بعد مماته في الدنيا، فقال لهم تعالى ذكره: أيها المكذبون بالبعث بعد الممات، اعتبروا بإحيائي هذا القتيل بعد مماته، فإني كما أحييته في الدنيا، فكذلك أحيي الموتى بعد مماتهم، فأبعثهم يوم البعث، وإنما احتج جل ذكره بذلك على مشركي العرب، وهم قوم أميون لا كتاب لهم، لأن الذين كانوا يعلمون علم ذلك من بني إسرائيل كانوا بين أظهرهم، وفيهم نزلت هذه الآيات، فأخبرهم جل ذكره بذلك، ليتعرفوا علم من قبلهم..
( ﮒ ) الله أيها الكافرون المكذبون بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من عند الله من آياته، و (ﮓ): أعلامه وحججه الدالة على نبوته لتعقلوا وتفهموا أنه محق صادق، فتؤمنوا به وتتبعوه»45.
٢. قصة الذين خرجوا من ديارهم فرارا من الموت.
ومن الوقائع التي استدل بها القرآن على صدق وقوع البعث بعد الموت ووقعت فعلا ما حدث لألوف من بني إسرائيل ذكرهم القرآن في قوله تعالى: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ) [البقرة: ٢٤٣]
«يخاطب الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم فيقول: ألم ينته إلى علمك قصة الذين خرجوا من ديارهم فرارًا من الموت وهم ألوف، وهم أهل مدينة من مدن بني إسرائيل أصابها الله تعالى بمرض الطاعون ففروا هاربين من الموت فأماتهم الله عن آخرهم ثم أحياهم بدعوة نبيهم حزقيل عليه السلام»46.
«وذكر غير واحد من السلف أن هؤلاء القوم كانوا أهل بلدة في زمان بني إسرائيل استوخموا أرضهم وأصابهم بها وباء شديد فخرجوا فرارًا من الموت إلى البرية، فنزلوا واديًا أفيح، فملؤا ما بين عدوتيه فأرسل الله إليهم ملكين أحدهما من أسفل الوادي والآخر من أعلاه فصاحا بهم صيحة واحدة فماتوا عن آخرهم موتة رجل واحد فحيزوا إلى حظائر وبني عليهم جدران وقبور وفنوا وتمزقوا وتفرقوا فلما كان بعد دهر مر بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له: حزقيل فسأل الله أن يحييهم على يديه فأجابه إلى ذلك وأمره أن يقول: أيتها العظام البالية إن الله يأمرك أن تجتمعي فاجتمع عظام كل جسد بعضها إلى بعض، ثم أمره فنادى: أيتها العظام إن الله يأمرك بأن تكتسي لحمًا وعصبًا وجلدًا. فكان ذلك، وهو يشاهده ثم أمره فنادى: أيتها الأرواح إن الله يأمرك أن ترجع كل روح إلى الجسد الذي كانت تعمره. فقاموا أحياء ينظرون قد أحياهم الله بعد رقدتهم الطويلة، وهم يقولون: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت، وكان في إحيائهم عبرة ودليل قاطع على وقوع المعاد الجسماني يوم القيامة»47.
«فكما كان قادرًا على إحيائهم في الدنيا هو قادرٌ على إحياء المتوفين في الآخرة، فيجازي كلًا منهم بما عمل. ففي هذه القصة تنبيهٌ على المعاد، وأنه كائنٌ لا محالة، فيليق بكل عاقلٍ أن يعمل لمعاده بأن يحافظ على عبادة ربه، وأن يوفي حقوق عباده»48.
«إن الله لذو فضل على الناس فيما يريهم من الآيات الباهرة والحجج القاطعة، وكان في إحيائهم عبرة ودليل قاطع على وقوع المعاد الجسماني يوم القيامة»49.
٣. قصة صاحب القرية.
ومن الوقائع التي تؤكد إمكان البعث بعد الموت قصة صاحب القرية.
قال تعالى: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ) [البقرة: ٢٥٩].
اختلف المفسرون في صاحب القصة الذي مر على القرية، هل كان نبيا عبدا صالحا أو كان كافرا شاكا في البعث، كما اختلفوا في اسمه، «واختلفوا في القرية المذكورة في الآية، لكن القرآن ضرب صفحا عن تعيين اسم الشخص واسم القرية كعادته في مثل هذه القصص التي يكون المقصد القرآني فيها هو إظهار الحكمة من ذكرها وما تشتمل عليه من المواعظ والآيات والعبر، ولا تخص شخوصها وزمانها ومكانها، والذي يعنينا هنا هو دلالة هذه القصة على قدرة الله على البعث، وإيقاعه فعلا أمام من استبعده ليكون ذلك دليلا له ولكل من سمع القصة على إثبات قدرة الله على إحياء الموتى.
وتفسيرها كما قال ابن كثير: «(ﮠ ﮡ) أي: ليس فيها أحد من قولهم: خوت الدار تخوي خواءً وخويا، وقوله: (ﮢ ﮣ) أي: ساقطة سقوفها وجدرانها على عرصاتها، فوقف متفكرا فيما آل أمرها إليه بعد العمارة العظيمة وقال: (ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) وذلك لما رأى من دثورها وشدة خرابها وبعدها عن العود إلى ما كانت عليه.
قال الله تعالى: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ)، قال: وعمرت البلدة بعد مضي سبعين سنة من موته وتكامل ساكنوها وتراجعت بنو إسرائيل إليها، فلما بعثه الله عز وجل بعد موته كان أول شيء أحيا الله فيه عينيه لينظر بهما إلى صنع الله فيه كيف يحيي بدنه؟
فلما استقل سويا قال الله له -أي بواسطة الملك-: (ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ) قالوا: وذلك أنه مات أول النهار ثم بعثه الله في آخر نهار، فلما رأى الشمس باقية ظن أنها شمس ذلك اليوم فقال: (ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ) وذلك: أنه كان معه فيما ذكر عنب وتين وعصير فوجده كما فقده لم يتغير منه شيء، لا العصير استحال ولا التين حمض ولا أنتن ولا العنب تعفن (ﯫ ﯬ ﯭ) أي: كيف يحييه الله عز وجل وأنت تنظر (ﯮ ﯯ ﯰ) أي: دليلا على المعاد»50.
«فأجيب: بل لبثت مائة عام، فانظر لترى دلائل قدرتنا إلى طعامك وشرابك طوال هذه المدة، لم يتغير ولم يفسد، مع أن العادة جرت بفساد مثله بمضي مدة قليلة، وانظر أيضا لترى الدليل على قدرتنا إلى حمارك كيف نخرت عظامه وتقطعت أوصاله، لتتبين تطاول مرور الزمان عليه وعليك وأنت راقد أو نائم فعلنا بك ما فعلنا لتعاين ما استبعدته، ولتتيقن ما تعجبت منه، ولنجعلك دليلا على المعاد، وآية دالة على تمام قدرتنا على البعث يوم القيامة، كقوله تعالى: (ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ) [لقمان: ٢٨].
فقوله: (ﯮ ﯯ ﯰ) دليل على البعث بعد الموت»51.
٤. قصة إبراهيم عليه السلام مع الطير.
كما استدل القرآن على وقوع البعث بعد الموت بما وقع لسيدنا إبراهيم عليه السلام حين سأل الله أن يريه إحياء الموتى عيانا، فاستجاب الله له وأجرى له الأمر على يديه بإذنه سبحانه، قال تعالى: ( ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ) [البقرة: ٢٦٠].
وقد تكلم بعض المفسرين في سبب سؤال إبراهيم لربه أن يريه كيفية إحياء الموتى وهل كان شكا منه في البعث أو كان طلبا للترقي في درجات اليقين؟
وقد ذهب جمهور المفسرين إلى الثاني واستبعاد الأول لكونه لا يليق بمقام النبوة فضلا عن الخلة.
قال الشيخ محمد رشيد رضا: «وقد فهم بعض الناس من هذا السؤال أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، كان قلقًا مضطربًا في اعتقاده بالبعث وذلك شكٌ فيه، وما أبلد أذهانهم وأبعد أفهامهم عن إصابة المرمى، وقد ورد في حديث الصحيحين نحن أولى بالشك من إبراهيم أي أننا نقطع بعدم شكه كما نقطع بعدم شكنا أو أشد قطعًا، نعم ليس في الكلام ما يشعر، بالشك، فإنه ما من أحدٍ إلا وهو يؤمن بأمورٍ كثيرةٍ إيمانًا يقينيًا وهو لا يعرف كيفيتها ويود لو يعرفها»52.
قال القرطبي: «ولا يجوز على الأنبياء صلوات الله عليهم مثل هذا الشك فإنه كفرٌ، والأنبياء متفقون على الإيمان بالبعث.
وقد أخبر الله تعالى أن أنبياءه وأولياءه ليس للشيطان عليهم سبيلٌ فقال: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ) [الإسراء: ٦٥].
وقال اللعين: (ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [الحجر: ٤٠].
وإذا لم يكن له عليهم سلطنةٌ فكيف يشككهم، وإنما سأل أن يشاهد كيفية جمع أجزاء الموتى بعد تفريقها وإيصال الأعصاب والجلود بعد تمزيقها، فأراد أن يترقى من علم اليقين إلى عين اليقين، فقوله:» أرني كيف» طلب مشاهدة الكيفية»53.
وقال ابن عاشور: «فإن إبراهيم لفرط محبته الوصول إلى مرتبة المعاينة في دليل البعث رام الانتقال من العلم النظري البرهاني، إلى العلم الضروري، فسأل الله أن يريه إحياء الموتى بالمحسوس»54.
وما وقع لخليل الله إبراهيم عليه السلام من إجابة الله دليل واقعي على البعث بعد الموت، قال السعدي: «وهذا فيه أيضا أعظم دلالة حسية على قدرة الله وإحيائه الموتى للبعث والجزاء، فأخبر تعالى عن خليله إبراهيم أنه سأله أن يريه ببصره كيف يحيي الموتى، لأنه قد تيقن ذلك بخبر الله تعالى، ولكنه أحب أن يشاهده عيانا ليحصل له مرتبة عين اليقين.
فلهذا قال الله له: (ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) وذلك أنه بتوارد الأدلة اليقينية مما يزداد به الإيمان ويكمل به الإيقان ويسعى في نيله أولو العرفان، فقال له ربه (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) أي: ضمهن ليكون ذلك بمرأى منك ومشاهدة وعلى يديك. (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) أي: مزقهن، اخلط أجزاءهن بعضها ببعض، واجعل على كل جبل، أي: من الجبال التي في القرب منه، جزء من تلك الأجزاء (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ) أي: تحصل لهن حياة كاملة، ويأتينك في هذه القوة وسرعة الطيران، ففعل إبراهيم عليه السلام ذلك وحصل له ما أراد»55.
«فأخذ هذه الطير حسب ما أمر وذكاها، ثم قطعها قطعًا صغارًا، وخلط لحوم البعض إلى لحوم البعض مع الدم والريش حتى يكون أعجب، ثم جعل من ذلك المجموع المختلط جزءًا على كل جبلٍ، ووقف هو من حيث يرى تلك الأجزاء وأمسك رءوس الطير في يده، ثم قال: تعالين بإذن الله، فتطايرت تلك الأجزاء وطار الدم إلى الدم والريش إلى الريش حتى التأمت مثل ما كانت أولًا وبقيت بلا رءوسٍ، ثم كرر النداء فجاءته سعيًا، أي عدوًا على أرجلهن. ولا يقال للطائر: (سعى) إذا طار إلا على التمثيل، قاله النحاس. وكان إبراهيم إذا أشار إلى واحدٍ منها بغير رأسه تباعد الطائر، وإذا أشار إليه برأسه قرب حتى لقي كل طائرٍ رأسه، وطارت بإذن الله. وقال الزجاج: المعنى ثم اجعل على كل جبلٍ من كل واحدٍ جزءًا»56.
وقال الألوسي: «وفي الآية دليل لمن ذهب إلى أن إحياء الموتى يوم القيامة بجمع الأجزاء المتفرقة وإرسال الروح إليها بعد تركيبها وليس هو من باب إعادة المعدوم الصرف لأنه سبحانه بين الكيفية بالتفريق ثم الجمع وإعادة الروح ولم يعدم هناك سوى الجزء الصوري والهيئة التركيبية دون الأجزاء المادية»57.
٥. ما أجراه الله تعالى على يد المسيح عليه السلام.
ومن تلك الوقائع التي حدث فيها إحياء الموتى ما أجراه الله تعالى على يد المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام معجزة له، وقد حكى القرآن الكريم ذلك.
قال تعالى: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ) [آل عمران: ٤٩].
«وإحياء الموتى معجزةٌ للمسيح أيضًا، كنفخ الروح في الطير المصور من الطين، فكان إذا أحيا ميتًا كلمه ثم رجع ميتًا، وورد في الأناجيل أنه أحيا بنتًا كانت ماتت فأحياها عقب موتها. ووقع في إنجيل متى في الإصحاح السابع عشر أن عيسى صعد الجبل ومعه بطرس ويعقوب ويوحنا أخوه وأظهر لهم موسى وإيلياء يتكلمان معهم، وكل ذلك بإذن الله له أن يفعل ذلك»58.
«قال الكلبي: كان عليه الصلاة والسلام يحيي الموتى بيا حي يا قيوم أحيا عازر وكان صديقًا له فعاش وولد له، ومر على ابن عجوز ميت فدعا الله تعالى فنزل عن سريره حيًا، ورجع إلى أهله وبقي وولد له، وبنت العاشر أحياها وولدت بعد ذلك، فقالوا إنك تحيي من كان قريب العهد من الموت فلعلهم لم يموتوا بل أصابهتهم سكتة، فأحي لنا سام بن نوحٍ، فقال: دلوني على قبره، ففعلوا فقام على قبره، فدعا الله عز وجل، فقام من قبره وقد شاب رأسه، فقال عليه السلام: كيف شبت ولم يكن في زمانكم شيبٌ؟ قال: يا روح الله، لما دعوتني سمعت صوتًا يقول أجب روح الله، فظننت أن الساعة قد قامت، فمن هول ذلك شبت، فسأله عن النزع، قال: يا روح الله، إن مرارته لم تذهب من حنجرتي، وكان بينه وبين موته أكثر من أربعة آلاف سنةٍ، وقال للقوم: صدقوه فإنه نبي الله، فآمن به بعضهم وكذبه آخرون فقالوا هذا سحرٌ»59.
«وروي في إحيائه الموتى أنه كان يضرب بعصاه الميت أو القبر أو الجمجمة، فيحيي الإنسان ويكلمه، وروي أنه أحيا سام بن نوح عليه السلام، وروي أن الذي كان يحييه كانت تدوم حياته، وروي أنه كان يعود لموته سريعا، وفي قصص الإحياء أحاديث كثيرة لا يوقف على صحتها، وإحياء الموتى هي آيته المعجزة المعرضة للتحدي، وهي بالمعنى متحدى بها وإن كان لم ينص على التحدي بها، وآيات عيسى عليه السلام إنما تجري فيما يعارض الطب لأن علم الطب كان شرف الناس في ذلك الزمان وشغلهم وحينئذ أثيرت فيه العجائب، فلما جاء عيسى عليه السلام بغرائب لا تقتضيها الأمزجة وأصول الطب، وذلك إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص علمت الأطباء أن هذه القوة من عند الله، وهذا كأمر السحرة مع موسى، والفصحاء مع محمد عليه السلام»60.
٦. قصة أصحاب الكهف.
ومن الوقائع التي تشهد على إمكان البعث بعد الموت قصة أولئك الفتية الذين آووا إلى الكهف وكان من أمرهم ما جاء في قوله تعالى: ( ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ) [الكهف: ٩ - ١٢].
قال ابن كثير: «هذا إخبار عن قصة أصحاب الكهف والرقيم على سبيل الإجمال والاختصار، ثم بسطها بعد ذلك فقال: (ﮃ ﮄ) يعني: يا محمد (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ) أي: ليس أمرهم عجيبا في قدرتنا وسلطاننا، فإن خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، وتسخير الشمس والقمر والكواكب، وغير ذلك من الآيات العظيمة الدالة على قدرة الله تعالى، وأنه على ما يشاء قادر ولا يعجزه شيء أعجب من أخبار أصحاب الكهف والرقيم كما قال ابن جريج عن مجاهد: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ) يقول: قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك»61.
وقال الطبري: «وأما الكهف، فإنه كهف الجبل الذي أوى إليه القوم الذين قص الله شأنهم في هذه السورة، وأما الرقيم، فإن أهل التأويل اختلفوا في المعني به، فقال بعضهم: هو اسم قرية، أو واد على اختلاف بينهم في ذلك»62.
«ثم ذكر قصتهم مجملة، وفصلها بعد ذلك فقال: (ﮎ ﮏ ﮐ) أي: الشباب، (ﮑ ﮒ) يريدون بذلك التحصن والتحرز من فتنة قومهم لهم، (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) أي تثبتنا بها وتحفظنا من الشر، وتوفقنا للخير (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ) أي: يسر لنا كل سبب موصل إلى الرشد، وأصلح لنا أمر ديننا ودنيانا، فجمعوا بين السعي والفرار من الفتنة، إلى محل يمكن الاستخفاء فيه، وبين تضرعهم وسؤالهم لله تيسير أمورهم، وعدم اتكالهم على أنفسهم وعلى الخلق، فلذلك استجاب الله دعاءهم، وقيض لهم ما لم يكن في حسابهم، قال: (ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ) أي أنمناهم (ﮤ ﮥ) وهي ثلاث مائة سنة وتسع سنين، وفي النوم المذكور حفظ لقلوبهم من الاضطراب والخوف، وحفظ لهم من قومهم وليكون آية بينة، (ﮧ ﮨ) أي: من نومهم (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) أي: لنعلم أيهم أحصى لمقدار مدتهم، كما قال تعالى: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [الكهف:١٩].
وفي العلم بمقدار لبثهم، ضبط للحساب، ومعرفة لكمال قدرة الله تعالى وحكمته ورحمته، فلو استمروا على نومهم، لم يحصل الاطلاع على شيء من ذلك من قصتهم»63.
وقال القرطبي: «(ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ) عبارةٌ عن إلقاء الله تعالى النوم عليهم، وهذه من فصيحات القرآن التي أقرت العرب بالقصور عن الإتيان بمثله، قال الزجاج: أي منعناهم عن أن يسمعوا، لأن النائم إذا سمع انتبه، وقال ابن عباسٍ: ضربنا على آذانهم بالنوم، أي سددنا آذانهم عن نفوذ الأصوات إليها، وقيل: المعنى» فضربنا على آذانهم» أي فاستجبنا دعاءهم، وصرفنا عنهم شر قومهم، وأنمناهم، والمعنى كله متقاربٌ»64.
وقد ذكر ابن الجوزي سبب بعثهم فقال: «فأما سبب بعث أصحاب الكهف من نومهم، فقال عكرمة: جاءت أمةٌ مسلمةٌ، وكان ملكهم مسلمًا، فاختلفوا في الروح والجسد، فقال قائل: يبعث الروح والجسد. وقال قائل: يبعث الروح وحده، والجسد تأكله الأرض فلا يكون شيئًا، فشق اختلافهم على الملك، فانطلق فلبس المسوح، وقعد على الرماد، ودعا الله أن يبعث لهم آية تبين لهم، فبعث الله أصحاب الكهف»65.
ويستفاد من ذلك أن الله ضرب على آذان هؤلاء الفتية في كهفهم حتى لا يفزعهم شيء ولا يوقظهم من سباتهم صوت إلى ما شاء الله، ثم بعثهم سبحانه بقدرته أي أيقظهم من نومهم لحكم عظيمة منها أن يعرف الناس قصتهم فيدركوا قدرته تعالى على البعث وليكون لهم في ذلك آية عليه، وأن من قدر على بعثهم بعد كل هذه السنين من نومهم مع حفظ أجسادهم من التلف والفساد قادر على أن يحييهم بعد موتهم وتحلل أجسادهم، فالنوم هو صورة صغرى للموت، إذ يتوفى الله فيه الأنفس كما في الموت، وقد صرح القرآن بذلك، وسيأتي تفصيله.
وكل هذه براهين واقعية وأدلة مشاهدة حسية على إمكان البعث بعد الموت ووقوعه بقدرة الله عز وجل على يد من شاء من عباده إظهارا لقدرته سبحانه، ودليلا على وقوع البعث يوم القيامة.
خامسًا: الاستدلال باليقظة بعد النوم:
من أعظم وأظهر الأدلة الحسية المشاهدة على إمكان البعث بعد الموت، تلك الحقيقة التي تقع لكل إنسان مرة على الأقل كل يوم وهي النوم واليقظة بعده، فالنوم ما هو إلا صورة مصغرة وحالة مؤقتة من الموت، ولهذا قالوا النوم موت أصغر، وقد بين الله في كتابه أن يقظة الإنسان بعد نومه وما يحدث في هذا النوم من تعطل الحواس جميعا بحيث يصبح النائم في حالة تشبه الميت في بعض الأمور دليل على بعثه بعد موته الموتة الكبرى، وسمى النوم وفاة كما سمى الاستيقاظ منه بعثا، وقد جاء هذا الاستدلال في أكثر من موضع من كتاب الله تعالى، من ذلك قوله سبحانه: ( ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [الأنعام: ٦٠].
قال أبو حيان في معنى الآية: «ذكر شيئًا محسوسًا قاهرًا للأنام وهو التوفي بالليل والبعث بالنهار وكلاهما ليس للإنسان فيه قدرةٌ، بل هو أمرٌ يوقعه الله تعالى بالإنسان والتوفي عبارةٌ في العرف عن الموت وهنا المعنى به النوم على سبيل المجاز للعلاقة التي بينه وبين الموت وهي زوال إحساسه ومعرفته وفكره، ولما كان التوفي المراد به النوم سببًا للراحة أسنده تعالى إليه»66.
قال الشيخ محمد رشيد رضا: «وأطلق التوفي على الموت؛ لأن الأرواح تقبض وتؤخذ أخذًا تامًا حتى لا يبقى لها تصرفٌ في الأبدان، وأطلق على النوم في هذه الآية وفي آية الزمر التي نذكرها قريبًا، فقال العلماء: إنه إطلاقٌ مجازيٌ مبنيٌ على تشبيه النوم بالموت لما بينهما من المشاركة في زوال إحساس الحواس والتمييز، وإنما جعلوه استعارةً عن النوم بناءً على جعله حقيقةً في الموت، وهو كذلك في العرف العام لا في أصل اللغة؛ يقولون توفي فلانٌ - بالبناء للمفعول - بمعنى مات، وتوفاه الله بمعنى أماته، وما أعلم أن العرب استعملت التوفي في الموت، وإنما هو استعمالٌ إسلاميٌ مبنيٌ على الموت، يحصل بقبض الأنفس التي تحيا بها الناس»67.
وقال ابن الجوزي: «(ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ) يريد به النوم، لأنه يقبض الأرواح عن التصرف، كما يقبض بالموت، وقال ابن عباس: يقبض أرواحكم في منامكم. و(ﭗ): بمعنى كسبتم، (ﭙ ﭚ) أي: يوقظكم فيه، أي: في النهار، (ﭜ ﭝ ﭞ) أي: لتبلغوا الأجل المسمى لانقطاع حياتكم، فدل باليقظة بعد النوم على البعث بعد الموت»68.
وقال الرازي: «بين كمال قدرته بهذه الآية وهو كونه قادرًا على نقل الذوات من الموت إلى الحياة ومن النوم إلى اليقظة واستقلاله بحفظها في جميع الأحوال وتدبيرها على أحسن الوجوه حالة النوم واليقظة»69.
«(ﭠ ﭡ ﭢ) ثم إليه وحده يكون رجوعكم إذا انتهت آجالكم ومتم، (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) إذ يبعثكم من مراقد الموت كما كان يبعثكم من مضاجع النوم؛ لأنه عالمٌ بتلك الأعمال كلها فيذكركم بها، ويحاسبكم عليها، ويجزيكم بها، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًا فشرٌ، وفيه تنبيهٌ على أن القادر على البعث من توفي النوم قادرٌ على البعث من توفي الموت»70.
وكذلك قوله تعالى: ( ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) [الزمر: ٤٢].
قال ابن كثير: «قال تعالى مخبرا عن نفسه الكريمة بأنه المتصرف في الوجود بما يشاء، وأنه يتوفى الأنفس الوفاة الكبرى، بما يرسل من الحفظة الذين يقبضونها من الأبدان، والوفاة الصغرى عند المنام، كما قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [الأنعام:٦٠-٦١].
فذكر الوفاتين: الصغرى ثم الكبرى، وفي هذه الآية ذكر الكبرى ثم الصغرى»71.
وقال القرطبي: «وقال ابن زيدٍ: النوم وفاةٌ والموت وفاةٌ.. وقال عمر: النوم أخو الموت»72.
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر بن عبد الله قيل: يا رسول الله أينام أهل الجنة؟ قال: (النوم أخو الموت و لا ينام أهل الجنة)73.
قال ابن العربي: «خلق الله للعبد النوم، ليعلم به كيفية الانتقال من حال إلى حال، وصفة الخروج من دار إلى دار، فإنه موت أصغر، وقد يقال بنظر آخر أنه يقظةٌ صغرى، فإن نظرنا إليه من حيث عدم الحركة والحس والتصرف بالأفعال معه، قلنا هو موت لعدم ذلك كله به، وقد قال تعالى: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ) [الزمر: ٤٢].
وإن نظرنا إليه من حيث إنه انقطاع عن عالم التصرف الأدنى مع الآدميين والإكباب على الدنيا ومعانيها، وأنه إقبال على الملائكة المقربين، وتفريغ القلب لإدراك الحقائق بطريق الأمثال، واطلاع على ما يكون غدًا، رأينا أنه حياة صحيحة، ويقظة محققة بدلًا عن موت مفقد، ونوم مفسد»74.
وقال ابن الجوزي: «قوله تعالى: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) أي: يقبض الأرواح حين موت أجسادها (ﭬ ﭭ ﭮ) أي: ويتوفى التي لم تمت في منامها. فيمسك أي: عن الجسد والنفس (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ) إلى الجسد إلى أجلٍ مسمًى وهو انقضاء العمر (إن في ذلك لآياتٍ لقومٍ يتفكرون) في أمر البعث»75.
وقال الطبري: «وقوله: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) يقول تعالى ذكره: إن في قبض الله نفس النائم والميت وإرساله بعد نفس هذا ترجع إلى جسمها، وحبسه لغيرها عن جسمها لعبرة وعظة لمن تفكر وتدبر، وبيانا له أن الله يحيي من يشاء من خلقه إذا شاء، ويميت من شاء إذا شاء»76.
«وقال مقاتل: لعلامات لقوم يتفكرون في أمر البعث، يعني أن توفي نفسٍ النائم وإرسالها بعد التوفي دليلٌ على البعث»77.
تأكيد مبدأ البعث بالقسم الرباني:
يأتي القسم لتأكيد الخبر لمنكريه، وقد أمر الصادق صلى الله عليه وسلم أن يقسم على قضية البعث تأكيدا لها في وجه من كذبوه وأنكروها، وهو الذي لم يجربوا عليه كذبا قط باعترافهم، وقسمه عليها رغم أنها من الغيب، حيث لم يعاين أمر البعث لأن إخبار الله له به أشد يقينا في قلبه مما يشاهده بعينه.
قال تعالى: ( ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ) [التغابن: ٧].
«يخبر تعالى عن عناد الكافرين، وزعمهم الباطل، وتكذيبهم بالبعث بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، فأمر أشرف خلقه، أن يقسم بربه على بعثهم، وجزائهم بأعمالهم الخبيثة، وتكذيبهم بالحق، (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ) فإنه وإن كان عسيرًا بل متعذرًا بالنسبة إلى الخلق، فإن قواهم كلهم، لو اجتمعت على إحياء ميت واحد، ما قدروا على ذلك»78.
«والمراد بالذين كفروا هنا المشركون من أهل مكة ومن على دينهم، واجتلاب حرف لن لتأكيد النفي فكانوا موقنين بانتفاء البعث، ولذلك جيء إبطال زعمهم مؤكدًا بالقسم لينقض نفيهم بأشد منه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يبلغهم عن الله أن البعث واقعٌ وخاطبهم بذلك تسجيلًا عليهم أن لا يقولوا ما بلغناه ذلك، وجملة (ﯖ ﯗ) معترضةٌ بين جملة (ﮮ ﮯ ﮰ) وجملة (ﯤ ﯥ ﯦ) وحرف بلى حرف جوابٍ للإبطال خاصٌ بجواب الكلام المنفي لإبطاله»79.
قال الرازي: «(ﯗ) إثباتٌ لما بعد أن وهو البعث وقيل: قوله تعالى: (ﯖ ﯗ ﯘ) يحتمل أن يكون تعليمًا للرسول صلى الله عليه وسلم ، أي يعلمه القسم تأكيدًا لما كان يخبر عن البعث وكذلك جميع القسم في القرآن»80.
«أي زعموا أن الشأن لن يبعثوا بعد موتهم (ﯖ) ردا عليهم وإظهارا لبطلان زعمهم بإثبات ما نفوه بلى تبعثون، وأكد ذلك بالجملة القسمية فهي داخلة في حيز الأمر، وكذا قوله تعالى: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ) أي لتحاسبن وتجزون بأعمالكم، وزيد ذلك لبيان تحقق أمر آخر متفرع على البعث منوط به ففيه أيضا تأكيد له (ﯟ) أي ما ذكر من البعث والجزاء (ﯠ ﯡ ﯢ) لتحقق القدرة التامة وقبول المادة»81.
«وجواب القسم لتبعثن، أي: لتخرجن من قبوركم لتنبؤن بما عملتم أي: لتخبرن بذلك إقامةً للحجة عليكم، ثم تجزون به وذلك البعث والجزاء على الله يسيرٌ إذ الإعادة أيسر من الابتداء»82.
ومثله قوله تعالى تأكيدا لأمر البعث بالقسم ردا على قولهم بإنكارها: (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) [سبأ: ٣].
«(ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ) أرادوا بضمير المتكلم جنس البشر قاطبةً لا أنفسهم أو معاصريهم فقط كما أرادوا بنفي إتيانها نفي وجودها بالكلية لا عدم حضورها مع تحققها في نفس الأمر، وإنما عبروا عنه بذلك لأنهم كانوا يوعدون بإتيانها، ولأن وجود الأمور الزمانية المستقبلة لا سيما أجزاء الزمان لا يكون إلا بالإتيان والحضور، وقيل هو استبطاءٌ لإتيانها الموعود بطريق الهزء والسخرية كقولهم متى هذا الوعد، (ﭿ ﮀ) ردٌ لكلامهم وإثباتٌ لما نفوه على معنى ليس الأمر إلا إتيانها، وقوله تعالى: (ﮁ ﮂ) تأكيدٌ له على أتم الوجوه وأكملها، وقرئ (ليأتينكم) على تأويل الساعة باليوم أو الوقت، وقوله تعالى: (ﮃ ﮄ) الخ إمداد للتأكيد وتسديدٌ له إثر تسديدٍ وكسر لسورة نكيرهم واستبعادهم، فإن تعقيب القسم بجلائل نعوت المقسم به على الإطلاق يؤذن بفخامة شأن المقسم عليه وقوة ثباته وصحته لما أن ذلك في حكم الاستشهاد على الأمر، ولا ريب في أن المستشهد به كلما كان أجل وأعلا كانت الشهادة آكد وأقوى، والمستشهد عليه أحق بالثبوت وأولى، لا سيما إذا خص بالذكر من النعوت ماله تعلقٌ خاصٌ بالمقسم عليه كما نحن فيه، فإن وصفه بعلم الغيب الذي أشهر أفراده وأدخلها في الخفاء هو المقسم عليه تنبيه لهم على علة الحكم، وكونه مما لا يحوم حوله شائبة ريبٍ ما، وفائدة الأمر بهذه المرتبة من اليمين أن لا يبقى للمعاندين عذرٌ ما أصلًا، فإنهم كانوا يعرفون أمانته ونزاهته عن وصمة الكذب فضلًا عن اليمين الفاجرة، وإنما لم يصدقوه مكابرة»83.
ومن القسم على وقوع البعث قوله تعالى: ( ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ) [القيامة: ١ - ٤].
«وصيغة لا أقسم صيغة قسمٍ، أدخل حرف النفي على فعل أقسم لقصد المبالغة في تحقيق حرمة المقسم به بحيث يوهم للسامع أن المتكلم يهم أن يقسم به ثم يترك القسم مخافة الحنث بالمقسم به فيقول: لا أقسم به، أي ولا أقسم بأعز منه عندي، وذلك كنايةٌ عن تأكيد القسم»84.
«قوله عز وجل: (ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) قال الحسن: أقسم بالأولى ولم يقسم بالثانية. وقال قتادة: حكمها حكم الأولى، وفي «النفس اللوامة» ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها المذمومة، قاله ابن عباس. فعلى هذا: هي التي تلوم نفسها حين لا ينفعها اللوم.
والثاني: أنها النفس المؤمنة، قاله الحسن. قال: لا ترى المؤمن إلا يلوم نفسه على كل حال.
والثالث: أنها جميع النفوس. قال الفراء: ليس من نفس برةٍ ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها، إن كانت عملت خيرا قالت: هلا زدت. وإن كانت عملت سوءا قالت: ليتني لم أفعل»85.
والأظهر هو القول الثاني، لأن الله تعالى أقسم بها، والقسم من الله تعظيم لشأن المقسم به وتنبيه على مكانته، وهذا يليق بالنفس المؤمنة بخلاف النفس الفاجرة أو المذمومة، والله أعلم.
«وجواب القسم ما دل عليه قوله: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ)، وهو: لتبعثن. انتهى، وهو تقدير النحاس. وقول من قال جواب القسم هو: (ﮔ ﮕ). وما روي عن الحسن أن الجواب: (ﮚ ﮛ) ، وما قيل أن لا في القسمين لنفيهما، أي لا أقسم على شيءٍ، وأن التقدير: أسألك أيحسب الإنسان؟ أقوالٌ لا تصلح أن يرد بها، بل تطرح ولا يسود بها الورق، ولولا أنهم سردوها في الكتب لم أنبه عليها، والإنسان هنا الكافر المكذب بالبعث»86.
«وقوله تعالى: (ﮔ ﮕ) تقرير وتوبيخ، والإنسان اسم جنس وهذه أقوال كانت لكفار قريش فعليها هو الرد،.. وقال القتبي: (ﮞ ﮟ) معناه نتقنها سوية، والبنان: الأصابع، فكأن الكفار لما استبعدوا جمع العظام بعد الفناء والإرمام، قيل لهم إنما تجمع ويسوى أكثرها تفرقا وأدقها أجزاء وهي عظام الأنامل ومفاصلها، وهذا كله عند البعث، وقال ابن عباس وجمهور المفسرين: (ﮞ ﮟ) معناه نجعلها في حياته هذه بضعة أو عظما واحدا كخف البعير لا تفاريق فيه، فكأن المعنى قادرين في الدنيا على أن نجعلها دون تفرق، فتقل منفعته بيده، فكأن التقدير بلى نحن أهل أن نجمعها قادرين على إزالة منفعة بيده، ففي هذا توعد ما»87.
المنكرون للبعث بعد الموت ودوافعهم
رغم وضوح الأدلة والآيات لكل ذي قلب وعينين على إمكان البعث بعد الموت وأن الله قادر عليه، إلا أن فريقا من الناس أنكروا البعث بعد الموت وكذبوا به وراحوا يلقون الشبه على استحالته، وهم في ذلك أصناف متعددة.
أولًا: أصناف المنكرين للبعث بعد الموت:
المنكرون للبعث بعد الموت يصنفون بحسب إنكارهم للمبدأ ولوجود الخالق أربعة أصناف:
الصنف الأول: أنكروا المبدأ والمعاد، وزعموا أن الأكوان تتصرف بطبيعتها فتوجد وتعدم بأنفسها، ليس لها ربٌ يتصرف فيها، إنما هي أرحامٌ تدفع وأرضٌ تبلع، وهؤلاء هم جمهور الفلاسفة الدهرية والطبائعية.
والصنف الثاني: من الدهرية طائفةٌ يقال لهم الدورية، وهم منكرون للخالق أيضًا، ويعتقدون أن في كل ستةٍ وثلاثين ألف سنةٍ يعود كل شيءٍ إلي ما كان عليه، وزعموا أن هذا قد تكرر مراتٍ لا تتناهى، فكابروا في المعقول، وكذبوا المنقول، قبحهم الله تعالى.
وهاتان الطائفتان يعمهم قوله عز وجل: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) [الجاثية: ٢٤].
ولهذا عن السلف الصالح فيها تفسيران الأول معنى قول منكري البعث: (ﭱ ﭲ) أي يموت الآباء ويحيا الأبناء هكذا أبدًا، وهو قول الطائفة الأولى، والمعنى الثاني أنهم عنوا كونهم يموتون ويحيون هم أنفسهم، ويتكرر ذلك منهم أبدًا ولا حساب ولا جزاء، بل ولا موجد ولا معدم، ولا محاسب ولا مجازي، وهذا قول الدورية.
الصنف الثالث: الدهرية من مشركي العرب ومن وافقهم، وهم مقرون بالبداءة، وأن الله تعالى ربهم وخالقهم، (ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [الزخرف: ٨٧].
ومع هذا قالوا: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ) [الدخان: ٣٥].
فأقروا بالبداءة والمبدئ، وأنكروا البعث والمعاد، وهم المذكورون في حديث أبي هريرة رضي الله عنه (وأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته)88.
والصنف الرابع: ملاحدة الجهمية ومن وافقهم، أقروا بمعادٍ ليس على ما في القرآن ولا فيما أخبرت به الرسل عن الله عز وجل، بل زعموا أن هذا العالم يعدم عدمًا محضًا، وليس المعاد هو بل عالمٌ آخر غيره، فحينئذٍ تكون الأرض التي تحدث أخبارها وتخبر بما عمل عليها من خيرٍ وشرٍ ليست هي هذه، وتكون الأجساد التي تعذب وتجازى وتشهد على من عمل بها المعاصي ليست هي التي أعيدت بل هي غيرها، والأبدان التي تنعم في الجنة وتثاب ليست هي التي عملت الطاعة، ولا أنها تحولت من حالٍ إلى حالٍ، بل هي غيرها تبتدأ ابتداءً محضًا، فأنكروا معاد الأبدان، وزعموا أن المعاد بداءةٌ أخرى89.
أما من حيث الاختلاف في إنكار المعاد الجسماني أو الروحاني أو هما معا فالمنكرون للبعث المخالفون لما عليه الكتاب والسنة وإجماع أهل الملل على المعاد الروحاني والجسماني معا أصناف ثلاثة:
١. المنكرون للمعاد الروحاني فقط.
وهؤلاء يقولون بمادية الروح وأنها حالة في الجسم سارية فيه سريان الماء في العود الأخضر أو النار في الفحم، والإنسان عندهم روح وبدن وكلاهما جسم مادى.
وهؤلاء خلافنا معهم بالأساس في حقيقة الروح، وأنها ليست مادية، بل هي خلق من خلق الله ليست بجسم ولكنها تحل في الأجسام كما يشاء الله.
أو نقول إن كانت تسميتهم للروح مادة تسمية اصطلاحية فلا مشاحة في الاصطلاح، وحينئذ لا يكونون منكرين لبعث الأرواح والأجسام.
٢. المنكرون للمعاد الجسماني فقط.
وهؤلاء من يطلقون عليهم الفلاسفة الإلهيين، وينتسبون إلى الإسلام رغم مخالفتهم لكثير من عقائده الأساسية ولما هو معلوم من الدين بالضرورة كالفارابي وابن سينا ومن سار على دربهم من المتكلمين والمشتغلين بالفلسفة، ويتلخص مذهبهم في قضية البعث أو المعاد أن الأجساد لا تحشر ولا تبعث، وإنما المثاب والمعاقب هي الأرواح المجردة، والمثوبات والعقوبات روحانية لا جسمانية، ولعلهم فى مقالتهم هذه متأثرين بأساتذتهم فى هذا الاتجاه، الذين يمثلهم في الفكر اليوناني سقراط وأفلاطون وأرسطو، فهؤلاء جميعًا يرون أن النفس لها وجود متقدم على البدن، وأن البعث هو عودة الروح إلى عالمها بعد مفارقة البدن الذى هو من جملة المركبات التي مصيرها الانحلال والفناء.
وهذا شأن المنافقين الذين يظهرون الإسلام وتعظيم الرسل والانقياد للشرائع في الظاهر من المتفلسفة والمتصوفة ومن لف لفهم، وهم في الباطن كفار منكرون لما هو معلوم من الدين بالضرورة، يخلطون تعاليم الرسل بقول الصابئة والمجوس وغيرهم من المشركين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وأما المنافقون من هذه الأمة الذين لا يقرون بألفاظ القرآن والسنة المشهورة فإنهم يحرفون الكلام عن مواضعه، ويقولون: هذه أمثالٌ ضربت لنفهم المعاد الروحاني، وهؤلاء مثل القرامطة الباطنية الذين قولهم مؤلف من قول المجوس والصابئة، ومثل المتفلسفة الصابئة المنتسبين إلى الإسلام، وطائفة ممن ضاهوهم: من كاتب، أو متطبب، أو متكلم، أو متصوف، كأصحاب رسائل «إخوان الصفا» وغيرهم، أو منافق، وهؤلاء كلهم كفار يجب قتلهم باتفاق أهل الإيمان»90.
٣. المنكرون للمعاد الجسماني والروحاني معا.
وهؤلاء هم من يسمون الفلاسفة الطبيعيين، وقد فسر هؤلاء الفلاسفة الإنسان تفسيرًا ماديا بحتًا وينكرون كل ما وراء الحس والتجربة المادية، لذا فإنهم يرفضون أن تكون الطبيعة الإنسانية مشتملة على نفس تغاير في طبيعتها المادية المحسوسة وصفاتها، ومن هنا أجمع القدماء منهم والمحدثون على إنكار عقيدة البعث بعد الموت، لأن الموت عندهم عدم محض، وليس هناك يوم آخر يعاد فيه الإنسان فيحاسب على ما قدمت يداه، وما الأمر -في نظر هؤلاء- إلا أرحام تدفع وأرض تبلغ وما يهلكنا إلا الدهر، وهؤلاء من يسمون الدهرية والطبائعية والطبيعيين، يقول رب العزة حاكيًا مذهبهم ومبكتا لهم: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [الجاثية: ٢٤].
ويوجد لهم أشباه في العصر الحديث من الملحدين كالشيوعيين وسائر أصحاب المذاهب المادية الباطلة، والعقلانية الفاسدة، الذين لا يتبعون الرسل ولا يدينون بالأديان والشرائع، وإنما يتبعون أهواءهم ويستندون إلى العقل ويرفضون الوحي الإلهي، وأولئك كفار خارجون عن الملل كلها، متفق على كفرهم بين جميع أصحاب الشرائع والديانات.
ثانيًا: أسباب إنكار البعث:
١. الاستدلال العقلي الخاطئ.
من أسباب إنكار البعث عند هؤلاء المنكرين للبعث هو اعتمادهم على بعض الشبه العقلية، والاستدلال العقلي الخاطئ.
وأعظم شبهة لدى المنكرين للبعث هي استبعاد إعادة الأجسام بعد تمزقها، وتفتتها، ثم اختلاطها بأجزاء الأرض، إذ تصبح متصورة بصورة التراب، فكيف يمكن إعادتها إلى حالتها التي كانت عليها من قبل؟!
هذا أمر غريب على عقول المنكرين، وعجيب في نفس الوقت عندهم، والحديث عنه خرافة، والمتحدث به، إما مفتر على الله الكذب، وإما مجنون سلب عقله، فخيل له جنونه ذلك الحديث وأجراه على لسانه.
وقد عبر شاعرهم عن ذلك الإنكار، مبينًا أن الحديث عنه خرافة بقوله91:
حياة ثم موت ثم نشر
حديث خرافة يا أم عمرو
وقال آخر92:
أيوعدني ابن كبشة أن سنحيا
وكيف حياة أصداء وهام
ويقول الحق جل شأنه، مخبرا عن ذلك الجحود العنيد والإنكار الشديد، ونسبتهم إلى قائله الجنون، أو الكذب والافتراء على الله: ( ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ) [سبأ: ٧ - ٨].
«أي هل نرشدكم إلى رجلٍ ينبئكم، أي يقول لكم: إنكم تبعثون بعد البلى في القبور، وهذا صادرٌ عن فرط إنكارهم»93.
«يعنون بذلك الرجل، رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه رجل أتى بما يستغرب منه، حتى صار - بزعمهم - فرجة يتفرجون عليه، وأعجوبة يسخرون منه، وأنه كيف يقول إنكم مبعوثون بعدما مزقكم البلى، وتفرقت أوصالكم، واضمحلت أعضاؤكم؟!»94.
«ثم إنه تعالى أجابهم مرةً أخرى وقال: بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب في مقابلة قولهم: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ) وقوله: (ﭠ ﭡ) في مقابلة قولهم: (ﭖ ﭗ) وكلاهما مناسبٌ. أما العذاب فلأن نسبة الكذب إلى الصادق مؤذيةٌ، لأنه شهادةٌ عليه بأنه يستحق العذاب فجعل العذاب عليهم حيث نسبوه إلى الكذب. وأما الجنون فلأن نسبة الجنون إلى العاقل دونه في الإيذاء، لأنه لا يشهد عليه بأنه يعذب، ولكن ينسبه إلى عدم الهداية فبين أنهم هم الضالون، ثم وصف ضلالهم بالبعد، لأن من يسمي المهتدي ضالًا يكون هو الضال، فمن يسمي الهادي ضالًا يكون أضل، والنبي عليه الصلاة والسلام كان هادي كل مهتد»95.
«ثم ذكرهم بتلك الأدلة فقال: ( ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ) [سبأ: ٨ - ٩].
أي: دلالة واضحة على قدرة الله، فكيف يستبعد عليه إعادة تلك الأجسام الضعيفة بعد تفرقها، وهو القادر على خلق هذه الآيات العظيمة، من السماء والأرض، ذلك هو دليل البعث؛ لأنه يدل على كمال القدرة، ومن المقدور عليه إعادة خلق الإنسان وإيجاده مرة أخرى.
وقد قرن هذا الدليل بالتهديد حيث قال: (ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ).
ثم بين تعالى أن المنتفع بتلك الآيات كل من يرجع إلى ربه، ويتوب إليه، لا من يتمادى في عناده وتعصبه، فقال تعالى: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ)»96.
ويقول الله تعالى حاكيًا عن المشركين استبعادهم وقوع البعث بعد الموت، وعدم إمكانه، وتعجبهم من شأنه وشأن القائل به: ( ﭑﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ) [ق: ١ - ٣].
«قوله تعالى: (ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ) أي إنهم لم يستنكروا أصل الإرسال إليهم، وإنما أنكروا كون المرسل بشرًا مثلهم ينذرهم عذاب يوم القيامة وهم لا يؤمنون بالبعث الآخر فلذا قالوا ما أخبر تعالى به عنهم وقوله (ﭜ ﭝ) أي بالبعث (ﭞ ﭟ ﭠ) أي أمر يدعو إلى التعجب إذ من مات وصار ترابا لا يعقل أن يبعث مرة أخرى فيسأل ويحاسب ويجزي وقد أفصحوا عن معتقدهم بقولهم (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) ذلك الرجوع إلى الحياة رجوع بعيد التحقيق»97.
«الواقع أنهم يعبرون بذلك عن أنفسهم، ويستبعدون البعث ووقوعه ظنا منهم أن قدرة الله تشبه قدرتهم، فقاسوا قدرة الله على قدرتهم، وقياس الغائب على الشاهد باطل في نظر العقلاء، ولذلك صور الله عز وجل هذا الظن الخاطئ في قوله تعالى: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [يس: ٧٨].
ولذا فقد استعظمت عقولهم هذا الأمر، وجعلته في حكم المستحيل، و إلا فلو نظروا بغير هذه النظرة القاصرة، وتأملوا في أنفسهم في مبدأ خلقهم، وفيما بين أيديهم من الآيات الدالة على القدرة الإلهية التي لا يعجزها شيء متى ما أرادته لما صدر منهم هذا القول المنكر»98.
وقد رد على قولهم ذلك بقوله سبحانه: ( ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ) [ق: ٤ - ٥]
«ردٌ لقولهم: (ﭧ ﭨ ﭩ) [ق: ٣].
فإن إحالتهم البعث ناشئةٌ عن عدة شبهٍ منها: أن تفرق أجزاء الأجساد في مناحي الأرض ومهاب الرياح لا تبقي أملًا في إمكان جمعها، إذ لا يحيط بها محيطٌ، وأنها لو علمت مواقعها لتعذر التقاطها وجمعها، ولو جمعت كيف تعود إلى صورها التي كانت مشكلةً بها، وأنها لو عادت كيف تعود إليها، فاقتصر في إقلاع شبههم على إقلاع أصلها وهو عدم العلم بمواقع تلك الأجزاء وذراتها.. والمعنى: أن جمع أجزاء الأجسام ممكنٌ لا يعزب عن علم الله، وإذا كان عالمًا بتلك الأجزاء كما هو مقتضى عموم العلم الإلهي وكان قد أراد إحياء أصحابها كما أخبر به، فلا يعظم على قدرته جمعها وتركيبها أجسامًا كأجسام أصحابها حين فارقوا الحياة»99.
وهذا من الإعجاز فقد رد على تلك الشبه المتعددة والاحتمالات الكثيرة برد موجز مفحم، فالذي خلقها عالم بمحل كل جزء منها بعد تفرقها، لا يعزب عنه منها شيء، وهو قادر على إعادة تركيبها كما كانت، كما ابتدأ خلقها أول مرة.
«فقوله: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ) إيماءٌ إلى دليل الإمكان، لأن مرجعه إلى عموم العلم كما قلنا، فأساس مبنى الرد هو عموم علم الله تعالى، لأن يجمع إبطال الاحتمالات التي تنشأ عن شبهتهم، فلو قال: نحن قادرون على إرجاع ما تنقص الأرض منهم لخطر في وساوس نفوسهم شبهة أن الله وإن سلمنا أنه قادرٌ فإن أجزاء الأجساد إذا تفرقت لا يعلمها الله حتى تتسلط على جمعها قدرته، فكان البناء على عموم العلم أقطع لاحتمالاتهم، واعلم أن هذا الكلام بيانٌ للإمكان رعيًا لما تضمنه كلامهم من الإحالة، لأن ثبوت الإمكان يقلع اعتقاد الاستحالة من نفوسهم، وهو كافٍ لإبطال تكذيبهم، ولاستدعائهم للنظر في الدعوة، ثم يبقى النظر في كيفية الإعادة، وهي أمرٌ لم نكلف بالبحث عنه»100.
«وبعد أن بين الله لهم شمول علمه، وإحاطته بالجزئيات والكليات -إذ إن العالم بجزئيات الأشياء لا تخفى عليه كلياتها- بين لهم سبب اضطرابهم في أمر البعث وأنه تكذيبهم للحق الذي جاءهم من خالقهم، إذ الإخبار عنه حق، والمخبر به صادق، قال تعالى: (ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ) أي مضطرب غير مستقر»101.
٢. شبهة عدم عودة الموتى إلى الحياة والرد عليها.
كان من بين الشبه التي أثارها المشركون على إنكارهم للبعث ما حكاه القرآن الكريم من قوله تعالى: ( ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ) [النحل: ٣٨-٤٠].
وهذا «انتقالٌ لحكاية مقالةٍ أخرى من شنيع مقالاتهم في كفرهم، واستدلالٌ من أدلة تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يخبر به إظهارًا لدعوته في مظهر المحال، وذلك إنكارهم الحياة الثانية والبعث بعد الموت»102.
«قوله: (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) معناه أنهم كانوا يدعون العلم الضروري بأن الشيء إذا فني وصار عدمًا محضًا ونفيًا صرفًا، فإنه بعد هذا العدم الصرف لا يعود بعينه بل العائد يكون شيئًا آخر غيره. وهذا القسم واليمين إشارةٌ إلى أنهم كانوا يدعون العلم الضروري بأن عوده بعينه بعد عدمه محالٌ في بديهة العقل: وأقسموا بالله جهد أيمانهم على أنهم يجحدون في قلوبهم وعقولهم هذا العلم الضروري»103.
وقال الألوسي: «وهو مبني على أن الميت يعدم ويفنى وأن البعث إعادة له وأنه يستحيل إعادة المعدوم، وقد ذهب إلى هذه الاستحالة الفلاسفة ولم يوافقهم في دعوى ذلك أحد من المتكلمين إلا الكرامية وأبو الحسين البصري من المعتزلة، واحتجوا عليها بما رده المحققون، وبعضهم ادعى الضرورة في ذلك وأن ما يذكر في بيانه تنبيهات عليه»104.
وتقرير هذه الشبهة كما قال الرازي: «أن الإنسان ليس إلا هذه البينة المخصوصة، فإذا مات وتفرقت أجزاؤه وبطل ذلك المزاج والاعتدال امتنع عوده بعينه، لأن الشيء إذا عدم فقد فني ولم يبق له ذاتٌ ولا حقيقةٌ بعد فنائه وعدمه، فالذي يعود يجب أن يكون شيئًا مغايرًا للأول فلا يكون عينه»105.
«فقال تعالى مكذبا لهم وردا عليهم: (ﮮ) أي: بلى سيكون ذلك، (ﮯ ﮰ ﮱ) أي: لابد منه، (ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) أي: فلجهلهم يخالفون الرسل ويقعون في الكفر.
ثم ذكر تعالى حكمته في المعاد وقيام الأجساد يوم التناد، فقال: (ﯙ ﯚ) أي: للناس (ﯛ ﯜ ﯝ) أي: من كل شيء، و (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [النجم: ٣١].
(ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ) أي: في أيمانهم وأقسامهم: لا يبعث الله من يموت»106.
قال الرازي: «ثم إنه تعالى بين أن القول بالبعث ممكنٌ ويدل عليه وجهان:
الوجه الأول: أنه وعدٌ حقٌ على الله تعالى، فوجب تحقيقه، ثم بين السبب الذي لأجله كان وعدًا حقًا على الله تعالى، وهو التمييز بين المطيع وبين العاصي، وبين المحق والمبطل، وبين الظالم والمظلوم، وهو قوله: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ).
والوجه الثاني: في بيان إمكان الحشر والنشر أن كونه تعالى موجدًا للأشياء ومكونًا لها لا يتوقف على سبق مادةٍ ولا مدةٍ ولا آلةٍ، وهو تعالى إنما يكونها بمحض قدرته ومشيئته، وليس لقدرته دافعٌ ولا لمشيئته مانعٌ فعبر تعالى عن هذا النفاذ الخالي عن المعارض بقوله: (ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ) وإذا كان كذلك، فكما أنه تعالى قدر على الإيجاد في الابتداء وجب أن يكون قادرًا عليه في الإعادة، فثبت بهذين الدليلين القاطعين أن القول بالحشر والنشر والبعث والقيامة حق وصدق»107.
وقد ذكر الله تعالى قولهم باستحالة البعث بعد الموت في مواضع عدة منها قوله تعالى: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ) [المؤمنون: ٨١ - ٨٣].
قال محمد الأمين الشنقيطي: «ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أن الكفار المنكرين للبعث قالوا: إنهم وعدوا بالبعث، ووعد به آباؤهم من قبلهم، والظاهر أنهم يعنون أجدادهم، الذين جاءتهم الرسل، وأخبرتهم بأنهم يبعثون بعد الموت للحساب والجزاء، وقالوا: إن البعث الذي وعدوا به هم وآباؤهم كذبٌ لا حقيقة له، وأنه ما هو (ﮭ ﮮ ﮯ) أي: ما سطروه وكتبوه من الأباطيل والترهات، والأساطير: جمع أسطورةٍ، وقيل: جمع أسطارةٍ، وهذا الذي ذكره عنهم من إنكارهم البعث ذكر مثله في سورة النمل في قوله: (ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) [النمل: ٦٧-٦٨].
ثم إنه تعالى أقام البرهان على البعث، الذي أنكروه في هذه الآية بقوله: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) إلى قوله: (ﰅ ﰆ) [المؤمنون: ٨٤ - ٨٩]؛ لأن من له الأرض، ومن فيها، ومن هو رب السماوات السبع، ورب العرش العظيم، ومن بيده ملكوت كل شيءٍ، وهو يجير ولا يجار عليه، لا شك أنه قادرٌ على بعث الناس بعد الموت»108.
قال ابن عاشور: «فالمقصود منه حكاية دعوى البعث بأن الرسول الذي يدعيها بتحقيقٍ وتوكيدٍ مع كونها شديدة الاستحالة، ففي حكاية توكيد مدعيها زيادةٌ في تفظيع الدعوى في وهمهم، وجملة لقد وعدنا إلخ تعليلٌ للإنكار وتقويةٌ له. وقد جعلوا مستند تكذيبهم بالبعث أنه تكرر الوعد به في أزمانٍ متعددةٍ فلم يقع ولم يبعث واحدٌ من آبائهم، ووجه ذكر الآباء دفع ما عسى أن يقول لهم قائلٌ: إنكم تبعثون قبل أن تصيروا ترابًا وعظامًا، فأعدوا الجواب بأن الوعد بالبعث لم يكن مقتصرًا عليهم فيقعوا في شكٍ باحتمال وقوعه بهم بعد موتهم وقبل فناء أجسامهم بل ذلك وعدٌ قديمٌ وعد به آباؤهم الأولون وقد مضت أزمانٌ وشوهدت رفاتهم في أجداثهم وما بعث أحدٌ منهم، وجملة (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ) من القول الأول، وهي مستأنفة استئنافا بيانا لجواب سؤالٍ يثيره قولهم (ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) وهو أن يقول سائلٌ: فكيف تمالأ على هذه الدعوى العدد من الدعاة في عصورٍ مختلفةٍ مع تحققهم عدم وقوعه؟ فيجيبون بأن هذا الشيء تلقفوه عن بعض الأولين فتناقلوه»109.
وقد أفحمهم القرآن بالجواب، قال الخازن: «قوله تعالى: (ﮱ) أي يا محمد لأهل مكة (ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ) من الخلق (ﯗ ﯘ ﯙ) أي خالقها ومالكها؟ (ﯛ ﯜ) أي لا بد لهم من ذلك لأنهم يقرون أنها مخلوقة لله (ﯞ) أي قل لهم يا محمد إذا أقروا بذلك (ﯟ ﯠ) أي فتعلموا أن من قدر على خلق الأرض ومن فيها ابتداء يقدر على إحيائهم بعد الموت»110.
وقد عرض القرآن مقالتهم بإنكار البعث، وادعاءهم استمرار الحياة الدنيا، وقدم العالم، وأنها ما هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع، وأنهم لا حجة لهم في مواجهة الآيات واضحة الدلالة على أمر البعث بعد الموت إلا طلبهم بأسلوب يملؤه الصلف والتحدي والعناد بعث آبائهم الأولين في هذه الحياة الدنيا.
وذلك في قوله تعالى: ( ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ) [الجاثية: ٢٤- ٢٥].
«أي وقال منكرو البعث والجزاء يوم القيامة ما هناك إلا حياتنا هذه التي نحياها وليس وراءها حياة أخرى، إننا نموت ونحيا أي نموت نحن الأحياء ويحيى أبناؤنا من بعدنا، وهكذا تستمر الحياة أبدًا يموت الكبار ويحيى الصغار، وما يهلكنا إلا الدهر أي وما يميتنا ويفنينا إلا مرور الزمان وطول الأعمار، وهو إلحاد كامل وإنكار للخالق عز وجل، وهو تناقض منهم لأنهم إذا سئلوا من خلقهم يقولون الله، فينسبون إليه الخلق، وهو أصعب ولا ينسبون إليه الإماتة وهي أهون من الخلق، فرد تعالى عليهم مذهبهم «الدهري» بقوله: (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ) أي ليس لهم على معتقدهم هذا أدنى علم نقليًا كان ولا عقليًا، أي يتلقوه عن وحي أوحاه الله إلى من شاء من عباده، ولا عن عقل سليم راجح لا ينقض حكمه، كالواحد مع الواحد اثنان، والأبيض خلاف الأسود، وما إلى ذلك من القضايا العقلية التي لا ترد، فهؤلاء الدهريون ليس لهم شيء من ذلك، ما لهم إلا الظن والخرص، وقضايا العقيدة لا تكون بالظن، والظن أكذب الحديث»111.
«(ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ) أي بأن الله باعث خلقه يوم القيامة ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين أي انشروهم أحياء، حتى نصدق ببعثنا أحياء بعد مماتنا، وإطلاق الحجة على ذلك، إما حقيقة بناء على زعمهم، فإنهم ساقوه مساق الحجة، أو هو مجاز تهكما بهم. كأنه قيل: ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة. بمعنى أن لا حجة لهم البتة، وفيه مبالغة لتنزيل التضاد منزلة التجانس»112.
قال الرازي: «واعلم أن هذه الشبهة ضعيفةٌ جدًا، لأنه ليس كل ما لا يحصل في الحال وجب أن يكون ممتنع الحصول، فإن حصول كل واحدٍ منا كان معدومًا من الأزل إلى الوقت الذي حصلنا فيه، ولو كان عدم الحصول في وقتٍ معينٍ يدل على امتناع الحصول لكان عدم حصولنا كذلك، وذلك باطلٌ بالاتفاق113.
وقد رد عليهم القرآن العظيم بقوله تعالى: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) [الجاثية: ٢٦]
«(ﮔ ﮕ ﮖ) ابتداء (ﮗ ﮘ) عند انقضاء آجالكم على ما دل عليه الحجج لا الدهر كما تزعمون (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ) أي فيه وجوز كون الفعل مضمنا معنى مبعوثين أو منتهين ونحوه ومعنى في أظهر أي يجمعكم في يوم القيامة (ﮞ ﮟ ﮠ) أي في جمعكم فإن من قدر على البدء وقدر على الإعادة والحكمة اقتضت الجمع للجزاء لا محالة في ذلك اليوم والوعد الصدق بالآيات دل على قرعها، وحاصله أن البعث أمر ممكن أخبر به الصادق وتقتضيه الحكمة وكل ما هو كذلك لا محالة واقع والإتيان بالآباء حيث كان منافيا للحكمة التشريعية امتنع إيقاعه (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ) استدراك من قوله تعالى: (ﮞ ﮟ ﮠ) وهو من تمام الكلام المأمور به أو كلام مسوق من جهته تعالى تحقيقا للحق وتنبيها على أن ارتيابهم لجهلهم وقصورهم في النظر والتفكر لا لأن فيه شائبة ريب ما»114.
٣. استمراء الملذات في الحياة الدنيا وعدم الرغبة في التذكير بمفارقتها.
ومن أسباب رفض أولئك المنكرين للبعث وبذل كل جهد في إنكاره أنهم ألفوا شهوات الحياة الدنيا؛ فهم يخشون تبعات الإيمان بالبعث، والانقياد للدين الذي يحجزهم عن شهواتهم، ويحول دونهم ودون أهوائهم، وقد سجل القرآن ذلك وبين سوء حالهم ومآلهم في قول الحق سبحانه: ( ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ) [يونس: ٧ - ٨].
قال ابن عاشور: «هذا استئناف وعيدٍ للذين لم يؤمنوا بالبعث ولا فكروا في الحياة الآخرة ولم ينظروا في الآيات نشأ عن الاستدلال على ما كفروا به من ذلك جمعًا بين الاستدلال المناسب لأهل العقول وبين الوعيد المناسب للمعرضين عن الحق إشارةً إلى أن هؤلاء لا تنفعهم الأدلة وإنما ينتفع بها الذين يعلمون ويتقون وأما هؤلاء فهم سادرون في غلوائهم حتى يلاقوا العذاب، وإذ قد تقرر الرجوع إليه للجزاء تأتى الوعيد لمنكري البعث الذين لا يرجون لقاء ربهم والمصير إليه»115.
«(ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ) بيانٌ لمآل أمر من كفر بالبعث وأعرض عن البينات الدالة عليه بعد تحقيق أن مرجع الكل إليه تعالى، وأنه يعيدهم بعد بدئهم للجزاء ثوابًا وعقابًا، وتفصيل بعض الآيات الشاهدة بذلك، والمراد بلقائه إما الرجوع إليه تعالى بالبعث، أو لقاء الحساب، كما في قوله عز وعلا (ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ)[الحاقة:٢٠]»116.
«وفي الآية إشارةٌ إلى أن البهجة بالحياة الدنيا والرضى بها يكون مقدار التوغل فيهما بمقدار ما يصرف عن الاستعداد إلى الحياة الآخرة. وليس ذلك بمقتضى الإعراض عن الحياة الدنيا فإن الله أنعم على عباده بنعمٍ كثيرةٍ فيها وجب الاعتراف بفضله بها وشكره عليها والتعرف بها إلى مراتب أعلى هي مراتب حياةٍ أخرى والتزود لها. وفي ذلك مقاماتٌ ودرجاتٌ بمقدار ما تهيأت له النفوس العالية من لذات الكمالات الروحية، وأعلاها مقام قول النبيء صلى الله عليه وسلم (فقلت ما لي وللدنيا)117»118.
«قال الحسن: والله ما زينوها ولا رفعوها، حتى رضوا بها وهم غافلون عن آيات الله الكونية فلا يتفكرون فيها، والشرعية فلا يأتمرون بها، بأن مأواهم يوم معادهم النار، جزاء على ما كانوا يكسبون في دنياهم من الآثام والخطايا والإجرام، مع ما هم فيه من الكفر بالله ورسوله واليوم الآخر»119.
وقد ضرب الله المثل بهذا الكافر صاحب الجنتين الذي اغتر بجنتيه وما كان من صنوف النعم فيهما فقال ما حكاه القرآن: ( ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ) [الكهف: ٣٥ - ٣٦].
«يقول تعالى ذكره: هذا الذي جعلنا له جنتين من أعناب (ﭑ ﭒ) وهي بستانه (ﭓ ﭔ ﭕ) وظلمه نفسه: كفره بالبعث، وشكه في قيام الساعة، ونسيانه المعاد إلى الله تعالى، فأوجب لها بذلك سخط الله وأليم عقابه»120،
«ثم حكى تعالى عن الكافر أنه قال: (ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) فجمع بين هذين، فالأول قطعه بأن تلك الأشياء لا تهلك ولا تبيد هذه أبدًا مع أنها متغيرةٌ متبدلةٌ، فإن قيل: هب أنه شك في القيامة فكيف قال: (ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) مع أن الحدس يدل على أن أحوال الدنيا بأسرها ذاهبةٌ باطلةٌ غير باقيةٍ؟ قلنا: المراد أنها لا تبيد مدة حياته ووجوده»121.
قال ابن عطية: «و«ظلمه لنفسه»: كفره وعقائده الفاسدة في الشك في البعث، فقد نص على ذلك قتادة وابن زيد، وفي شكه في حديث العالم إن كانت إشارته بهذه إلى الهيئة من السماوات والأرض وأنواع المخلوقات، وإن كانت إشارته إلى جنته فقط، فإنما في الكلام تساخف واغترار مفرط وقلة تحصيل، وكأنه من شدة العجب بل والسرور أفرط في وصفها بهذا القول ثم قاس أيضا الآخرة على الدنيا، وظن أنه لم يمل له في دنياه إلا لكرامة يستوجبها في نفسه، قال: فإن كان ثم رجوع كما يزعم فستكون حالي كذا وكذا»122.
قال الطبري: «وقوله: (ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) يقول جل ثناؤه: قال لما عاين جنته، ورآها وما فيها من الأشجار والثمار والزروع والأنهار المطردة شكا في المعاد إلى الله: ما أظن أن تبيد هذه الجنة أبدا، ولا تفنى ولا تخرب، وما أظن الساعة التي وعد الله خلقه الحشر فيها تقوم فتحدث، ثم تمنى أمنية أخرى على شك منه، فقال: (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) فرجعت إليه، وهو غير موقن أنه راجع إليه (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ) يقول: لأجدن خيرا من جنتي هذه عند الله إن رددت إليه مرجعا ومردًا، يقول: لم يعطني هذه الجنة في الدنيا إلا ولي عنده أفضل منها في المعاد إن رددت إليه»123.
قال الرازي: «ونظيره قوله تعالى: (ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) [فصلت: ٥٠].
وقوله: (ﭖ ﭗ ﭘ) [مريم: ٧٧].
والسبب في وقوع هذه الشبهة: أنه تعالى لما أعطاه المال في الدنيا ظن أنه إنما أعطاه ذلك لكونه مستحقًا له، والاستحقاق باقٍ بعد الموت فوجب حصول العطاء، والمقدمة الأولى كاذبةٌ فإن فتح باب الدنيا على الإنسان يكون في أكثر الأمر للاستدراج والتملية، والمقصود عود الكناية إلى الجنتين، والباقون منها، والمقصود عود الكناية إلى الجنة التي دخلها»124.
وفي قوله هذا ذكر السعدي احتمالين ثم رجح أحدهما على الآخر فقال: «وهذا لا يخلو من أمرين: إما أن يكون عالما بحقيقة الحال، فيكون كلامه هذا على وجه التهكم والاستهزاء فيكون زيادة كفر إلى كفره، وإما أن يكون هذا ظنه في الحقيقة، فيكون من أجهل الناس، وأبخسهم حظا من العقل، فأي: تلازم بين عطاء الدنيا وعطاء الآخرة، حتى يظن بجهله أن من أعطي في الدنيا أعطي في الآخرة، بل الغالب، أن الله تعالى يزوي الدنيا عن أوليائه وأصفيائه، ويوسعها على أعدائه الذين ليس لهم في الآخرة نصيب، والظاهر أنه يعلم حقيقة الحال، ولكنه قال هذا الكلام، على وجه التهكم والاستهزاء، بدليل قوله: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ) فإثبات أن وصفه الظلم، في حال دخوله، الذي جرى منه، من القول ما جرى، يدل على تمرده وعناده»125.
٤. الهروب من تصور الحساب والعذاب.
من الدوافع التي تكمن وراء إنكار هؤلاء المكذبين بالبعث ذلك الخوف الكامن من تصور أنهم بعد البعث محاسبون ومجازون بأعمالهم التي عملوها في حياتهم الدنيا، فكلما تصوروا ذلك الأمر رفضوا تصديقه واستبعدوه حذرا من وقوعه بالفعل فهم لا يتصورون أن يحاسبوا على ما جنوه من الجرائم والشنائع التي يخشون مغبة الحساب عليها والمعاقبة بها، لذا فهم يعبرون عن إنكارهم للبعث باستبعادهم للحساب والجزاء في الآخرة، وقد عبر القرآن عن ذلك من خلال ذلك المشهد الأخروي الذي يجري لأهل الجنة وهم يتذاكرون بعض ما كان في الدنيا من حوار بين بعضهم وبين مكذبي البعث.
قال تعالى: ( ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ) [الصافات: ٥٠ - ٥٣].
«والمعنى: أهل الجنة يسأل بعضهم بعضًا عن حاله في الدنيا، قوله: (ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ) أي في الدنيا ينكر البعث، و(ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ) أي كان يوبخني على التصديق بالبعث والقيامة ويقول تعجبًا: (ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) أي لمحاسبون ومجازون، والمعنى أن ذلك القرين كان يقول هذه الكلمات على سبيل الاستنكار»126.
«والمدين: المجازى يقال: دانه يدينه، إذا جازاه، والأكثر استعماله في الجزاء على السوء، والدين: الجزاء كما في سورة الفاتحة»127.
ومما يدل على ذلك قوله تعالى في سبب إنكار منكر البعث: ( ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ) [القيامة: ٥ - ٦].
«وقوله (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ) أي ما يجهل الإنسان قدرة خالقه على إعادة خلقه، ولكنه يريد أن يواصل فجوره مستقبله كله فلا يتوب من ذنوبه ولا يؤوب من معاصيه لأن شهواته مستحكمة فيه.
وقوله تعالى: (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) يخبر تعالى عن المنكر للبعث من أجل مواصلة الفجور من زنا وشرب خمور بأنه يقول أيان يوم القيامة استبعادا واستنكارا»128.
وقال ابن الجوزي: «قوله عز وجل: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ) فيه قولان:
أحدهما: يكذب بما أمامه من البعث والحساب، قاله ابن عباس.
والثاني: يقدم الذنب ويؤخر التوبة، ويقول: سوف أتوب، قاله سعيد بن جبير. فعلى هذا: يكون المراد بالإنسان: المسلم. وعلى الأول: الكافر.
وقوله عز وجل: (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) أي: متى هو؟ تكذيبًا به، وهذا هو الكافر»129.
وذكر ابن كثير أن ابن زيد رجح القول الأول فقال: «وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: هو الكافر يكذب بيوم الحساب. وكذا قال ابن زيد، وهذا هو الأظهر من المراد؛ ولهذا قال بعده (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ)؟ أي: يقول متى يكون يوم القيامة؟ وإنما سؤاله سؤال استبعاد لوقوعه، وتكذيب لوجوده»130.
وقال ابن عطية: «وقوله تعالى: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ) قال بعض المتأولين: الضمير في أمامه عائد على الإنسان، ومعنى الآية أن الإنسان إنما يريد شهواته ومعاصيه ليمضي فيها أبدا قدما راكب رأسه ومطيع أمله ومسوفا بتوبته، قاله مجاهد والحسن وعكرمة وابن جبير والضحاك والسدي.
وقال السدي: المعنى ليظلم على قدر طاقته.
وقال الضحاك: المعنى يركب رأسه في طلب الدنيا دائمًا.
وقوله تعالى: (ﮤ ﮥ) تقديره لكن يفجر، وقال ابن عباس ما يقتضي أن الضمير في أمامه عائد على يوم القيامة، والمعنى أن الإنسان هو في زمن وجوده أمام يوم القيامة وبين يديه، ويوم القيامة خلفه فهو يريد شهواته ليفجر في تكذيبه بالبعث وغير ذلك بين يدي يوم القيامة، وهو لا يعرف قدر الضرر الذي هو فيه»131.
قال الألوسي: «وفيهما إيماء إلى أن ذلك الإنسان عالم بوقوع الحشر ولكنه متغاب، واعتبر الدوام في (ﮤ) لأنه خبر عن حال الفاجر بأنه يريد ليفجر في المستقبل على أن حسبانه وإرادته هما عين الفجور، وقيل لأن (ﮥ) ظرف مكان استعير هنا للزمان المستقبل فيفيد الاستمرار، وفي إعادة المظهر ثانيًا ما لا يخفى من التهديد والنعي على قبيح ما ارتكبه، وأن الإنسانية تأبى هذا الحسبان والإرادة وعود ضمير أمامه على هذا المظهر هو الأظهر»132.
هناك ثمرات وآثار تظهر على المؤمن بالبعث قولًا وفعلًا وحالًا وسلوكًا، منها ما يكون في الدنيا، ومنها ما يكون في الآخرة.
أولًا: في الحياة الدنيا:
للإيمان بالبعث آثار على حياة المؤمن في الحياة الدنيا، ومن هذه الآثار:
١. عدم الركون إلى الدنيا وملذاتها.
من ثمار الإيمان بالبعث بعد الموت الإقبال على الله وعلى الدار الآخرة، والإعراض عن الدنيا وزينتها وشهواتها، والتخفف منها، والقناعة باليسير من متاعها في حدود ما أحل الله، فتجد المؤمن الحق يعلم أنها ظل زائل وعرض حائل، فلا ينغمس في شهواتها، ولا يركن إليها، وهؤلاء هم الفائزون يوم القيامة بالنعيم المقيم مصداقا لقوله تعالى: ( ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ) [القصص: ٨٣].
قال الطبري: «يقول تعالى ذكره: تلك الدار الآخرة نجعل نعيمها للذين لا يريدون تكبرا عن الحق في الأرض وتجبرا عنه ولا فسادا. يقول: ولا ظلم الناس بغير حق، وعملا بمعاصي الله فيها»133.
وقال القرطبي: «قال أبو معاوية: الذي لا يريد علوًا هو من لم يجزع من ذلها. ولم ينافس في عزها، وأرفعهم عند الله أشدهم تواضعًا، وأعزهم غدًا ألزمهم لذلٍ اليوم. وروى سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالدٍ قال: مر علي بن الحسين وهو راكبٌ على مساكين يأكلون كسرًا لهم، فسلم عليهم فدعوه إلى طعامهم، فتلا هذه الآية: (ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ)[القصص: ٨٣].
ثم نزل وأكل معهم، ثم قال: قد أجبتكم فأجيبوني. فحملهم إلى منزله فأطعمهم وكساهم وصرفهم. خرجه أبو القاسم الطبراني سليمان بن أحمد قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبلٍ، قال حدثني أبي، قال حدثنا سفيان بن عيينة. فذكره. وقيل: لفظ الدار الآخرة يشمل الثواب والعقاب. والمراد إنما ينتفع بتلك الدار من اتقى، ومن لم يتق فتلك الدار عليه لا له، لأنها تضره ولا تنفعه»134.
وذلك لأنهم يخافون من مغبة يوم البعث وأهواله ويعدون له ويتخففون من شهوات الدنيا لما يجدونه في أنفسهم من الخوف من هذا اليوم واليقين بوقوعه.
وقال تعالى: «( ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ) [الشورى: ١٧ - ١٨].
قال الألوسي: «(ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) استعجال إنكار واستهزاء، كانوا يقولون: متى هي ليتها قامت حتى يظهر لنا أهو الذي نحن عليه أم كالذي عليه محمد عليه الصلاة والسلام وأصحابه، (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) أي خائفون منها مع اعتناء بها فإن الإشفاق عناية مختلطة بخوف، فإذا عدي بمن كما هنا، فمعنى الخوف فيه أظهر، وإذا عدي بعلى فمعني العناية أظهر، وعنايتهم بها لتوقع الثواب، وزعم الجلبي أن الآية من الاحتباك والأصل يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها فلا يشفقون منها والذين آمنوا مشفقون منها فلا يستعجلون بها، (ﭼ ﭽ ﭾ) الأمر المتحقق الكائن لا محالة»135.
وقال السعدي: «(ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) عنادا وتكذيبا، وتعجيزا لربهم، (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) أي: خائفون، لإيمانهم بها، وعلمهم بما تشتمل عليه من الجزاء بالأعمال، وخوفهم، لمعرفتهم بربهم، أن لا تكون أعمالهم منجية لهم ولا مسعدة، ولهذا قال: (ﭼ ﭽ ﭾ) الذي لا مرية فيه، ولا شك يعتريه»136.
٢. السعي الحثيث للأخرى.
فإن الإيمان بالبعث من أكبر الدواعي والدوافع للمرء على السعي الحثيث نحو الآخرة بكثرة العمل الصالح والاستعداد لها بالمسارعة في الخيرات.
قال تعالى: « (ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [المؤمنون: ٥٧ - ٦١].
قال الطبري: «(ﭕ ﭖ) يقول: خائفة من أنهم إلى ربهم راجعون، فلا ينجيهم ما فعلوا من ذلك من عذاب الله، فهم خائفون من المرجع إلى الله.. وقوله: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين هذه الصفات صفاتهم، يبادرون في الأعمال الصالحة، ويطلبون الزلفة عند الله بطاعته»137.
وقال الخازن: «قال الحسن: عملوا والله بالطاعات واجتهدوا فيها وخافوا أن ترد عليهم، وعن عائشة قالت: (قلت يا رسول الله والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة هم الذين يشربون الخمر ويسرقون قال لا يا بنت الصديق ولكن هم الذين يصومون ويتصدقون ويخافون أن لا يقبل منهم أولئك يسارعون في الخيرات)138، وقوله: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) أي يبادرون إلى الأعمال الصالحة (ﭠ ﭡ ﭢ) أي إليها، وقال ابن عباس: سبقت لهم من الله السعادة، وقيل: سبقوا الأمم إلى الخيرات»139.
وقال ابن عاشور: «ومعنى وهم لها سابقون أنهم يتنافسون في الإكثار من أعمال الخير، فالسبق تمثيلٌ للتنافس والتفاوت في الإكثار من الخيرات بحال السابق إلى الغاية، أو المعنى وهم محرزون لما حرصوا عليهم، فالسبق مجازٌ لإحراز المطلوب لأن الإحراز من لوازم السبق»140.
٣. محاسبة النفس.
إن من أيقن بالبعث بعد الموت وما يقع له بعده من الحساب والثواب أو العقاب جدير به أن يحاسب نفسه قبل المثول بين يدي ربه للحساب وأن يلوم نفسه على التقصير والتفريط فيكون ذلك دافعا له إلى التوبة من ذنوبه وغدراته وغفلاته، فيحسن عمله ويتقي ربه في كل حركاته وسكناته، كما قال تعالى: (ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ) [الحشر: ١٨].
قال أبو السعود: «(ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) أي في كل ما تأتون وما تذرون (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ) أي: أي شئ قدمت من الأعمال ليوم القيامة عبر عنه بذلك لدنوه أو لأن الدنيا كيوم والآخرة غده وتنكيره لتفخيمه وتهويله كأنه قيل لغدٍ لا يعرف كنهه لغاية عظمه وأما تنكير نفسٍ فلاستقلال الأنفس النواظر فيما قدمن لذلك اليوم الهائل كأنه قيل ولتنظر نفسٌ واحدةٌ ذلك (ﭨ ﭩ) تكريرٌ للتأكيد أو الأول في أداء الواجبات كما يشعر به ما بعده من الأمر بالعمل وهذا في ترك المحارم كما يؤذن به الوعيد بقوله تعالى: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) أي من المعاصي»141.
وقال السعدي: «يأمر تعالى عباده المؤمنين بما يوجبه الإيمان ويقتضيه من لزوم تقواه، سرا وعلانية، في جميع الأحوال، وأن يراعوا ما أمرهم الله به من أوامره وشرائعه وحدوده، وينظروا ما لهم وما عليهم، وماذا حصلوا عليه من الأعمال التي تنفعهم أو تضرهم في يوم القيامة، فإنهم إذا جعلوا الآخرة نصب أعينهم وقبلة قلوبهم، واهتموا بالمقام بها، اجتهدوا في كثرة الأعمال الموصلة إليها، وتصفيتها من القواطع والعوائق التي توقفهم عن السير أو تعوقهم أو تصرفهم، وإذا علموا أيضا، أن الله خبير بما يعملون، لا تخفى عليه أعمالهم، ولا تضيع لديه ولا يهملها، أوجب لهم الجد والاجتهاد، وهذه الآية الكريمة أصل في محاسبة العبد نفسه، وأنه ينبغي له أن يتفقدها، فإن رأى زللا تداركه بالإقلاع عنه، والتوبة النصوح، والإعراض عن الأسباب الموصلة إليه، وإن رأى نفسه مقصرا في أمر من أوامر الله، بذل جهده واستعان بربه في تكميله وتتميمه، وإتقانه، ويقايس بين منن الله عليه وإحسانه وبين تقصيره، فإن ذلك يوجب له الحياء بلا محالة»142.
ثانثًا: في الآخرة:
أما في الآخرة فإن ثمار الإيمان باليوم الآخر والبعث بعد الموت أحلى وأفضل وهي كثيرة منها:
١. الحساب اليسير.
فإن من آمن باليوم الآخر وما فيه من بعث الأجساد من أجداثها وأعد له عدته فإن الله ييمن كتابه وييسر حسابه يوم القيامة قال تعالى: ( ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ) [الانشقاق: ٦- ٩].
«قوله تعالى: (ﭱ ﭲ) أي يا ابن آدم (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ) أي أنك عامل تعمل يوميا ليل ونهار إلى أن تموت وتلقى ربك إنك لا تبرح تعمل لا محالة وتكسب بجوارحك الخير والشر إلى الموت حيث تنتقل إلى الدار الآخرة وتلقى ربك وتلاقيه هذا يشهد له قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحيح (كلكم يغدو فبائعٌ نفسه فمعتقها أو موبقها)143 إذا فمن الخير لك أيها الإنسان المكلف أن تعمل خيرًا تلاقي به ربك فيرضى عنك به ويكرمك إنك حقا ملاق ربك بعملك فأنصح لك أن يكون عملك صالحا وانظر إلى الصورة التالية (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ) لأنه حوى الخير ولا شر فيه (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) ينظر في كتابه ويقرر هل فعلت كذا فيعترف ويتجاوز عنه وينقلب إلى أهله في الجنة وهم الحور العين والنساء المؤمنات والذرية الصالحة يجمعهم الله ببعضهم كرامة لهم»144.
٢. ثقل الموازين.
فإن من آمنوا بالبعث بعد الموت يثقل الله موازينهم يوم القيامة، وينجيهم من العذاب، ويكرمهم بدخول الجنة، قال تعالى: (ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ) [الأعراف: ٨].
قال الشيخ محمد رشيد رضا: «والوزن في ذلك اليوم الذي يسأل الله فيه الرسل والأمم، ويقص عليهم كل ما كان منهم، هو الحق الذي تحق به الأمور وتعرف به حقيقة كل أحدٍ وما يستحقه من الثواب والعقاب.. (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) قيل: إن الموازين جمع ميزانٍ فهي متعددةٌ لكل امرئٍ ميزانٌ وقيل: لكل عملٍ. والجمهور على أن الميزان واحدٌ وأنه يجمع باعتبار المحاسبين وهم الناس أو على حد قول العرب: سافر فلانٌ على البغال وإن ركب بغلًا واحدًا، وقيل: إن الموازين جمع موزونٍ، والمعنى فمن رجحت موازين أعماله بالإيمان وكثرة حسناته فأولئك هم الفائزون بالنجاة من العذاب والنعيم في دار الثواب»145.
وقال القاسمي: «والوزن يومئذٍ الحق أي: وزن الأعمال والتمييز بين راجحها وخفيفها، يوم يسأل الله الأمم ورسلهم، العدل. فمن ثقلت موازينه أي: حسناته في الميزان فأولئك هم المفلحون أي: الناجون من السخط والعذاب»146.
٣. جنات الخلد.
فإن المؤمنين بالبعث بعد الموت هم الفائزون بجنات الخلد يوم القيامة، قال تعالى: ( ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ) [البقرة: ٣ - ٥].
«حقيقة الإيمان: هو التصديق التام بما أخبرت به الرسل، المتضمن لانقياد الجوارح، وليس الشأن في الإيمان بالأشياء المشاهدة بالحس، فإنه لا يتميز بها المسلم من الكافر. إنما الشأن في الإيمان بالغيب، الذي لم نره ولم نشاهده، وإنما نؤمن به، لخبر الله وخبر رسوله. فهذا الإيمان الذي يميز به المسلم من الكافر، لأنه تصديق مجرد لله ورسله. فالمؤمن يؤمن بكل ما أخبر الله به، أو أخبر به رسوله، سواء شاهده، أو لم يشاهده وسواء فهمه وعقله، أو لم يهتد إليه عقله وفهمه. بخلاف الزنادقة والمكذبين بالأمور الغيبية، لأن عقولهم القاصرة المقصرة لم تهتد إليها فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ففسدت عقولهم، ومرجت أحلامهم. وزكت عقول المؤمنين المصدقين المهتدين بهدى الله، ويدخل في الإيمان بالغيب، الإيمان بجميع ما أخبر الله به من الغيوب الماضية والمستقبلة، وأحوال الآخرة، وحقائق أوصاف الله وكيفيتها، وما أخبرت به الرسل من ذلك فيؤمنون بصفات الله ووجودها، ويتيقنونها، وإن لم يفهموا كيفيتها»147.
«وأما معنى قوله: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ) فإن معنى ذلك: أنهم على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد، بتسديد الله إياهم، وتوفيقه لهم.. (ﭹ ﭺ ﭻ) أي أولئك هم المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله تعالى ذكره بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله، من الفوز بالثواب، والخلود في الجنان، والنجاة مما أعد الله تبارك وتعالى لأعدائه من العقاب»148.
وقال عز من قائل: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [يونس: ٩ - ١٠].
قال الماوردي: «قوله عز وجل: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) فيه أربعة أوجه:
أحدها: يجعل لهم نورًا يمشون به، قاله مجاهد.
الثاني: يجعل عملهم هاديًا لهم إلى الجنة، وهذا معنى قول ابن جريج.
الثالث: أن الله يهديهم إلى طريق الجنة.
الرابع: أنه وصفهم بالهداية على طريق المدح لهم. (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ) فيه وجهان:
أحدهما: من تحت منازلهم، قاله أبو مالك.
الثاني: تجري بين أيديهم وهم يرونها من علو، لقوله تعالى: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [الزخرف: ٥١]. يعني بين يدي، وحكى أبو عبيدة عن مسروق أن أنهار الجنة تجري في غير أخدود»149.
قال الشوكاني: «قوله: (ﭹ) أي: دعاؤهم ونداؤهم، وقيل: الدعاء العبادة، كقوله تعالى: (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ)[مريم:٤٨].
وقيل معنى دعواهم هنا: الادعاء الكائن بين المتخاصمين، والمعنى: أن أهل الجنة يدعون في الدنيا والآخرة تنزيه الله سبحانه من المعايب والإقرار له بالإلهية. قال القفال: أصله من الدعاء، لأن الخصم يدعو خصمه إلى من يحكم بينهما، وقيل معناه: طريقتهم وسيرتهم، وذلك أن المدعي للشيء مواظبٌ عليه فيمكن أن تجعل الدعوى كنايةً عن الملازمة وإن لم يكن في قوله (ﭻ ﭼ) دعوى ولا دعاءٌ وقيل معناه: تمنيهم كقوله: ولهم ما يدعون وكأن تمنيهم في الجنة ليس إلا تسبيح الله وتقديسه، وهو مبتدأٌ وخبره (ﭻ ﭼ)، و(ﭾ) أي: في الجنة. والمعنى على القول الأول: أن دعاءهم الذي يدعون به في الجنة هو تسبيح الله وتقديسه. والمعنى: نسبحك يا الله تسبيحًا، قوله: (ﭽ ﭾ ﭿ) أي: تحية بعضهم للبعض، فيكون المصدر مضافًا إلى الفاعل، أو تحية الله، أو الملائكة لهم، فيكون من إضافة المصدر إلى المفعول.. قوله: (ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ) أي: وخاتمة دعائهم الذي هو التسبيح أن يقولوا: (ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ)»150.
وقال السعدي: «يقول تعالى (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) أي: جمعوا بين الإيمان، والقيام بموجبه ومقتضاه من الأعمال الصالحة، المشتملة على أعمال القلوب وأعمال الجوارح، على وجه الإخلاص والمتابعة، (ﭭ ﭮ ﭯ) أي: بسبب ما معهم من الإيمان، يثيبهم الله أعظم الثواب، وهو الهداية، فيعلمهم ما ينفعهم، ويمن عليهم بالأعمال الناشئة عن الهداية، ويهديهم للنظر في آياته، ويهديهم في هذه الدار إلى الصراط المستقيم وفي الصراط المستقيم، وفي دار الجزاء إلى الصراط الموصل إلى جنات النعيم.
ولهذا قال: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ) الجارية على الدوام (ﭵ ﭶ ﭷ) أضافها الله إلى النعيم، لاشتمالها على النعيم التام، نعيم القلب بالفرح والسرور، والبهجة والحبور، ورؤية الرحمن وسماع كلامه، والاغتباط برضاه وقربه، ولقاء الأحبة والإخوان، والتمتع بالاجتماع بهم، وسماع الأصوات المطربات، والنغمات المشجيات، والمناظر المفرحات، ونعيم البدن بأنواع المآكل والمشارب، والمناكح ونحو ذلك، مما لا تعلمه النفوس، ولا خطر ببال أحد، أو قدر أن يصفه الواصفون.
(ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) أي عبادتهم فيها لله، أولها تسبيح لله وتنزيه له عن النقائض، وآخرها تحميد لله، فالتكاليف سقطت عنهم في دار الجزاء، وإنما بقي لهم أكمل اللذات، الذي هو ألذ عليهم من المآكل اللذيذة، ألا وهو ذكر الله الذي تطمئن به القلوب، وتفرح به الأرواح، وهو لهم بمنزلة النفس، من دون كلفة ومشقة.
وأما تحيتهم فيما بينهم عند التلاقي والتزاور، فهو السلام، أي: كلام سالم من اللغو والإثم، موصوف بأنه (ﭿ) وقد قيل في تفسير قوله: (ﭹ ﭺ ﭻ) إلى آخر الآية: إن أهل الجنة -إذا احتاجوا إلى الطعام والشراب ونحوهما- قالوا سبحانك اللهم، فأحضر لهم في الحال، فإذا فرغوا قالوا: (ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ)»151.
موضوعات ذات صلة: |
الثواب، الجزاء، الجنة، الحساب، العذاب، الموت، النار، اليوم الآخر |
1 مقاييس اللغة، ابن فارس، ١/٢٦٦.
2 انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني، ص١٣٢.
3 انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني، ص١٣٢، التوقيف، المناوي ص٨٠.
4 مباحث العقيدة في سورة الزمر، ناصر الشيخ ص٥٦٧.
5 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٥/٣٩٥.
6 مباحث العقيدة في سورة الزمر، ناصر الشيخ ص٥٦٧.
7 انظر: المعجم المفهرس، محمد فؤاد عبد الباقي ص١٢٤-١٢٥.
8 انظر: الوجوه والنظائر، الدامغاني ص ١١٨، ١٧٧، نزهة الأعين النواظر، ابن الجوزي ص٢٠٤- ٢٠٥، بصائر ذوي التمييز، الفيروز آبادي ٢/٢١٤-٢١٥.
9 مقاييس اللغة، ٢/١٢٢.
10 الألفاظ والمصطلحات المتعلقة بتوحيد الربوبية، آمال العمرو، ص١٤٠- ١٤١.
11 العين، الفراهيدي ٦/٢٥٢.
12 الفروق اللغوية، العسكري، ص٢٨٩
13 المفردات، الراغب الأصفهاني، ص٢٧٨.
14 المحرر الوجيز، ابن عطية، ٥/٣٧٥.
15 أخرجه الحاكم في المستدرك، رقم ٣٦٠٦ .
وقال الذهبي في التلخيص: على شرط البخاري ومسلم.
16 أسباب النزول، ص٣٦٥.
17 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ١٥/٥٨.
18 روح المعاني، الألوسي، ١٢/٥٣.
19 أنوار التنزيل، البيضاوي، ٤/٢٧٤.
20 تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٦٩٩.
21 مدارك التنزيل، ٣/ ٤٢٦
22 تفسير المراغي، ٢٧/ ١٤٦
23 فتح القدير، ٥/ ١٨٩
24 صفوة التفاسير، ٣/٢٩٥
25 جامع البيان، الطبري، ١٧/٤٦٣.
26 فتح القدير، الشوكاني، ٣/٢٧٨.
27 أيسر التفاسير، الجزائري، ٣/٢٠١، ٢٠٢.
28 مفاتيح الغيب، الرازي، ٢٠/٣٥٣.
29 الجامع لأحكام القرآن، ١٤/٢٠
30 مفاتيح الغيب، الرازي، ٢٥/ ٩٦
31 الجامع لأحكام القرآن، ١٤/٢١-٢٢.
32 التفسير المنير، الزحيلي ١٨/١١٣.
33 التحرير والتنوير، ابن عاشور، ١٨/١٣٤.
34 مفاتيح الغيب، الرازي، ٣٠/ ٧٣٧
35 أيسر التفاسير، أسعد حومد، ٣/١٠٦٨.
36 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٢٩٢.
37 التفسير الوسيط، الزحيلي، ١/٦٧٨.
38 روح المعاني، الألوسي، ٩/١١١.
39 التفسير الوسيط، الزحيلي، ٢/١٦٢٦- ١٦٢٧مختصرًا.
40 التحرير والتنوير، ابن عاشور، ١٧/٢٠٣.
41 تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٥٣٣- ٥٣٤.
42 أوضح التفاسير، ابن الخطيب ١/١٣
43 مفاتيح الغيب، الرازي ٣/٥٤٣
44 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل الحنبلي ٢/١٨١.
45 جامع البيان، الطبري ٢/٢٣٢.
46 أيسر التفاسير، الجزائري ١/٢٣١.
47 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ١/٦٦١.
48 البحر المحيط، ابن حيان، ٢/٥٥٩، ٥٦٠.
49 التفسير المنير، الزحيلي ٢/ ٤١٣
50 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ١/٦٨٨.
51 التفسير المنير، الزحيلي، ٣/٣٣.
52 تفسير المنار، ٣/٤٦.
53 الجامع لأحكام القرآن، ٣/٢٩٩.
54 التحرير والتنوير، ٣/٣٨.
55 تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص١١٢.
56 الجامع لأحكام القرآن، ٣/٣٠٠، ٣٠١.
57 روح المعاني، ٢/٣٠.
58 التحرير والتنوير ٣/٢٥٢.
59 إرشاد العقل السليم، أبو السعود، ٢/٣٩.
60 المحرر الوجيز، ابن عطية، ١/٤٤٠.
61 تفسير القرآن العظيم، ٥/١٣٨.
62 جامع البيان، ١٧/٦٠٢.
63 تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٤٧١.
64 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٠/ ٣٦٣
65 زاد المسير، ٣/٦٧.
66 البحر المحيط ٤/٥٣٧.
67 تفسير المنار ٧/٣٩٨، ٣٩٩.
68 زاد المسير ٢/٣٨.
69 مفاتيح الغيب ١٣/١٢.
70 تفسير المنار، ٧/٤٠٠.
71 تفسير القرآن العظيم، ٧/١٠١.
72 الجامع لأحكام القرآن، ١٥/٢٦١.
73 أخرجه الطبراني في الأوسط رقم ٩١٩، والبيهقي في شعب الإيمان، باب تعديد نعم الله عز وجل وما يجب من شكرها، فصل في النوم الذي هو نعمة من نعم الله في دار الدنيا وما جاء في آدابه، رقم ٤٤١٦.
وقال الألباني في السلسلة الصحيحة٣/١٦١، رقم ١٠٨٧: صحيح من بعض طرقه عن جابر.
74 قانون التأويل، ص٤٦٩.
75 زاد المسير ٤/٢٠.
76 جامع البيان، ٢١/٢٩٩.
77 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ١٦/٥٢٠.
78 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٨٦٦.
79 التحرير والتنوير، ابن عاشور، ٢٨/٢٧١.
80 مفاتيح الغيب، ٣٠/٥٥٣.
81 روح المعاني، ١٤/٣١٧، ٣١٨.
82 فتح القدير، الشوكاني ٥/ ٢٨٢
83 إرشاد العقل السليم، أبو السعود، ٧/ ١٢١
84 التحرير والتنوير، ابن عاشور، ٢٩/٣٣٨.
85 زاد المسير ٤/ ٣٦٨
86 البحر المحيط ١٠/ ٣٤٤ .
87 انظر: المحرر الوجيز، ابن عطية ٥/ ٤٠٢.
88 أخرجه أحمد في مسنده رقم ٩١١٤.
وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
89 معارج القبول، حافظ حكمي، ٢/٧٧٦.
90 مجموع الفتاوى، ٤/٣١٤.
91 نسبه الثعالبي في ثمار القلوب في المضاف والمنسوب ص١٣٠ إلى ابن الزِبَعْرَى.
92 نسبه الأبشيهي في المستطرف في كل نفس مستطرف ص٤٦٧ إلى الأسود بن يعفر.
93 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٤/٢٦٢.
94 تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٦٧٥.
95 مفاتيح الغيب، الرازي، ٢٥/١٩٥.
96 مسلك القرآن الكريم في إثبات البعث، علي الفقيهي، ص٦٨.
97 أيسر التفاسير، الجزائري، ٥/١٣٧.
98 مسلك القرآن الكريم في إثبات البعث، علي الفقيهي، ص٦٩.
99 التحرير والتنوير، ابن عاشور، ٢٦/٢٨٠- ٢٨١
100 المصدر السابق.
101 مسلك القرآن الكريم في إثبات البعث، علي الفقيهي، ص٧١.
102 التحرير والتنوير ١٤/١٥٣.
103 مفاتيح الغيب ٢٠/٢٠٦، ٢٠٧.
104 روح المعاني، الألوسي ٧/٣٨٠.
105 مفاتيح الغيب، ٢٠/٢٠٦.
106 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٤/٥٧١.
107 مفاتيح الغيب، ٢٠/٢٠٧.
108 أضواء البيان، ٥/٣٤٨، ٣٨٥.
109 التحرير والتنوير، ١٨/١٠٧.
110 لباب التأويل، الخازن ٣/٢٧٥.
111 أيسر التفاسير، الجزائري ٥/٣٧.
112 محاسن التأويل، القاسمي، ٨/ ٤٣٣
113 مفاتيح الغيب ٢٧/ ٦٧٩
114 روح المعاني، الألوسي، ١٣/١٥٢.
115 التحرير والتنوير، ١١/٩٨.
116 إرشاد العقل السليم، أبو السعود، ٤/١٢٢.
117 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الهبة باب هدية ما يكره لبسه، رقم ٢٤٧١ من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
118 التحرير والتنوير ١١/ ٩٩.
119 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٤/ ٢٤٩.
120 جامع البيان، الطبري ١٨/٢٢.
121 مفاتيح الغيب، الرازي ٢١/٤٦٣.
122 المحرر الوجيز، ٣/٥١٧
123 جامع البيان، الطبري، ١٨/٢٢.
124 مفاتيح الغيب، ٢١/ ٤٦٣- ٤٦٤.
125 تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٤٧٧.
126 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ١٦/٣٠٥.
127 التحرير والتنوير، ٢٣/١١٦.
128 أيسر التفاسير، الجزائري، ٥/٤٧٥.
129 زاد المسير ٤/٣٦٩.
130 تفسير القرآن العظيم، ٨/٢٧٦، ٢٧٧.
131 المحرر الوجيز، ٥/٤٠٢-٤٠٣.
132 روح المعاني، ١٥/١٥٣.
133 جامع البيان، ١٩/٦٣٧.
134 الجامع لأحكام القرآن، ١٣/٣٢٠.
135 روح المعاني ١٣/٢٧.
136 تيسير الكريم الرحمن، ص٧٥٦.
137 جامع البيان، ١٩/٤٤- ٤٥.
138 أخرجه الترمذي في سننه، كتاب التفسير، باب سورة المؤمنون، رقم ٣١٧٥ .
وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ١/٣٠٤، رقم ١٦٢.
139 لباب التأويل، ٣/٢٧٣.
140 التحرير والتنوير، ١٨/ ٧٨
141 إرشاد العقل السليم ٨/٢٣٢.
142 تيسير الكريم الرحمن، ص٨٥٣
143 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، رقم ٥٥٦، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ «كل الناس يغدو».
144 أيسر التفاسير، الجزائري ٥/ ٥٤٣
145 تفسير المنار، ٨/٢٨٣.
146 محاسن التأويل ٥/٦.
147 تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٤٠.
148 جامع البيان، الطبري، ١/٢٤٩.
149 النكت والعيون ٢/٤٢٣.
150 فتح القدير، الشوكاني ٢/٤٨٦.
151 تيسير الكريم الرحمن، ص٣٥٨.