عناصر الموضوع
البنوة
أولًا:المعنى اللغوي :
ابنٌ: جمعه: أبناءٌ، وبنون «الولد الذكر». والابن:الولد، ولامه في الأصل منقلبةٌ عن واوٍ عند البعض، وقيل في معتل الياء:الابن الولد، فعلٌ محذوفة اللام مجتلبٌ لها ألف الوصل، وإنما قضى أنه من الياء؛ لأن بنى يبني أكثر في كلامهم من يبنو، والجمع أبناء. والاسم البنوة، فالبنوة مصدر الابن. يقال:ابنٌ بين البنوة. ويقال:تبنيته أي ادعيت بنوته. وتبناه:اتخذه ابنًا1، وسمي بذلك لأنه بناءٌ للأب، فإن الأب هو الذي بناه، وجعله الله بناءً في إيجاده، ومؤنثه ابنة وبنت، وجمعه بنات 2.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
قال فيه الراغب: «يقال لكل ما يحصل من جهة شيء أو من تربيته، أو بتفقده أو كثرة خدمته له أو قيامه بأمره:هو ابنه»3.
وذكر بعض المفسرين كالشوكاني قوله: «الابن: هو أخص القرابة، وأولاهم بالحماية، والدفع، والنفع، فإذا لم ينفع، فغيره من القرابة والأعوان بالأولى»4، وقال فيه الشعراوي: «الابن هو الإنسان الوحيد في الوجود الذي يود أبوه أن يكون الابن أفضل وأحسن حالًا منه، ويتمنى أن يعوض ما فاته في نفسه في ولده، ويتدارك فيه ما فاته من خير»5.
وردت صيغ مادة «بنو» الدالة على بنوة الأبناء في القرآن الكريم (١٦٢) مرة6.
والصيغ التي وردت هي:
الصيغة |
عدد المرات |
المثال |
المفرد |
٤٠ |
(ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) [هود:٤٢] |
المثنى |
٢ |
(ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) [المائدة:٢٧] |
الجمع |
١٢٠ |
(ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) [الصافات:١٤٩] |
وجاءت مادة (بنو) في القرآن الكريم بمعناها اللغوي، وهو الشيء يتولد عن الشيء، كابن الإنسان وغيره7.
قال الله تعالى: (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [النساء:٢٣]. أي:وحلائل أبنائكم الذين ولدتموهم8.
الولد:
الولد لغةً:
الولد: كل ما ولد، ويطلق على الذكر والأنثى، والمثنى والجمع، وجمعه: أولادٌ، ولد الشيء من الشيء: أنشأه وأنتجه9.
الولد اصطلاحًا:
قال الراغب: «الولد:المولود. يقال للواحد والجمع والصغير والكبير»10.
الصلة بين الولد والابن:
الطفل:
الطفل لغةً:
الطاء والفاء واللام أصله المولود الصغير؛ يقال هو طفلٌ، والأنثى طفلة12.
الطفل اصطلاحًا:
الولد الصغير من الإنسان والدواب. وقيل ويبقى هذا الاسم له حتى يميز13.
الصلة بين الطفل والابن:
يكون الابن طفلًا في فترة عمرية معينة، فالطفل يطلق على المولود منذ أن يولد إلى أن يميز.
الصبي:
الصبي لغةً:
يقال:رأيته في صباه أي في صغره، والصبي:من لدن يولد إلى أن يفطم، والجمع أصبيةٌ وصبوةٌ وصبيةٌ14.
الصبي اصطلاحًا:
قال الراغب: «الصبي:من لم يبلغ الحلم»15.
الصلة بين الصبي والابن:
يكون الابن صبيًا في فترة عمرية معينة، فالصبي يطلق على الإنسان منذ أن يميز إلى أن يبلغ الحلم.
الغلام:
الغلام لغةً:
«هو من حين يولد إلى أن يشيب، والجمع أغلمةٌ وغلمةٌ وغلمانٌ»16.
الغلام اصطلاحًا:
«يقع هذا الاسم على الصبي من حين يولد على اختلاف حالاته إلى أن يبلغ»17.
الصلة بين الغلام والابن:
يكون الابن غلامًا حين تظهر عليه علامات البلوغ.
أولًا: البنوة نعمة:
إن الأولاد نعمة عظيمة، وهبة من الله سبحانه قال تعالى: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [الشورى:٤٩-٥٠].
كما أن من أعظم نعم الله على الإنسان في هذه الحياة نعمة الأولاد، فهم منحة إلهية، وهبة ربانية، يختص الله بها من يشـاء من عباده ولو كان فقيرا، ويمنعها عمن يشاء من خلقه ولو كان غنيًا، والأولاد نعمة يتضح من عدة أوجه:
١. إن من سنن الله تعالى في الأنبياء والرسل أن جعل لهم أزواجًا وذرية.
قال سبحانه: (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [الرعد:٣٨].
والله تعالى لا يختار لرسله إلا أكمل الأحوال وأفضلها.
قال ابن كثير رحمه الله: «وكما أرسلناك يا محمد رسولًا بشريًا، كذلك قد بعثنا المرسلين قبلك بشرًا، يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، ويأتون الزوجات، ويولد لهم، وجعلنا لهم أزواجًا وذرية»18.
٢. حب الأبناء فطرة.
كما أن النفس الإنسانية مفطورة على حبهم وطلبهم، وقد ذكر سبحانه الأولاد في سياق ذكر النعم فقال سبحانه (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [نوح:١٠-١٢].
٣. الأولاد زينة الحياة الدنيا.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ) [الكهف:٤٦]فهم زهرتها، يخففون عن آبائهم متاعب الحياة وهمومها، وجودهم في البيت كالأزهار في الحدائق، يضفون عليهم البهجة والسرور، تسر الفؤاد مشاهدتهم، وتقر العين رؤيتهم، وتبتهج النفس بمحادثتهم، وهم بسمة الأمل، وأريج النفس، وريحان القلب، وهم أكبادنا التي تمشي على الأرض.
وقد توجه بعض الأنبياء إلى الله بالدعاء في أن يرزقه الولد وألا يدعه فردًا بلا خلف، فقال تعالى: (ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [الأنبياء:٨٩].
وقد أثنى الله على نبيه زكريا عليه السلام حيث قال: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ) [مريم:٣]والنداء هنا بمعنى الدعاء.
فالولد نعمة ومتعة من متع هذه الحياة، وهم كما قال عنهم الأحنف بن قيس: «ثمار قلوبنا وعماد ظهورنا، ونحن لهم أرض ذليلة، وسماء ظليلة»19
ومن تمام النعمة على أهل الجنة أن يلحق الله تعالى بهم ذريتهم وإن قصر عملهم، قال سبحانه: (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ) [الطور:٢١].
قال ابن كثير رحمه الله: «يخبر تعالى عن فضله وكرمه وامتنانه ولطفه بخلقه وإحسانه، أن المؤمنين إذا اتبعتهم ذرياتهم في الإيمان يلحقهم بآبائهم في المنزلة، وإن لم يبلغوا عملهم لتقر أعين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم، فيجمع بينهم على أحسن الوجوه بأن يرفع الناقص العمل بكامل العمل، ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته للتساوي بينه وبين ذاك»20.
ومن دعاء الملائكة للمؤمنين قوله سبحانه: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [غافر:٨].
ومع هذا تكون النعمة ممزوجة بالفتنة، قال الله تعالى: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) [آل عمران:١٤].
قال ابن كثير رحمه الله: «يخبر تعالى عما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من أنواع الملاذ من النساء والبنين، فبدأ بالنساء؛ لأن الفتنة بهن أشد...، وحب البنين تارة يكون للتفاخر والزينة فهو داخل في هذا، وتارة يكون لتكثير النسل، وتكثير أمة محمد صلى الله عليه وسلم ممن يعبد الله وحده لا شريك له، فهذا محمود ممدوح»21
يقول الله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [الكهف:٤٦].
يقول الله تعالى: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) [آل عمران:١٤].
يقول الله تعالى: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ) [المدثر:١٢-١٣].
فالأولاد هبة من الله للإنسان يسر الفؤاد بمشاهدتهم وتقر العين برؤيتهم وتبتهج النفس بمحادثتهم فهم زهرة الحياة الدنيا وزينتها، ولكي نعرف قيمة هذه النعمة لننظر فيمن حرمها ممن ابتلاه الله بالعقم كيف يبذل المستحيل لعله أن يظفر ولو بطفل واحد ليملأ عليه دنياه بهجة وسرورًا.
كما أن الأموال والأولاد نعمة يسبغها الله على عبد من عباده؛ حين يوفقه إلى الشكر على النعمة، والإصلاح بها في الأرض، والتوجه بها إلى الله؛ فإذا هو مطمئن الضمير، ساكن النفس، واثق من المصير؛ فكلما أنفق احتسب وشعر أنه قدم لنفسه ذخرًا، وكلما أصيب في ماله أو بنيه احتسب؛ فإذا السكينة النفسية تغمره. والأمل في الله يسري عنه.
ولقد قرن الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم الأموال والأولاد في أربعة وعشرين موضعًا قدمت فيها الأموال على الأولاد، وفي موضعين قدم الأولاد على الأموال.
وإن المتأمل في الحكم والأسرار ليستنتج أن المال والبنون زينة وتفاخر في الحياة الدنيا.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ) [الكهف:٤٦].
وقال سبحانه: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ)[الحديد:٢٠].
وقال تعالى: (ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ)[الكهف:٣٤].
وقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ)[مريم:٧٧].
قال القرطبي رحمه الله: إنما كان المال والبنون زينة الحياة الدنيا؛ لأن في المال جمالًا ونفعًا، وفي البنين قوة ودفعًا، فصارا زينة الحياة الدنيا» 22.
وقال السعدي رحمه الله: «أخبر تعالى أن المال والبنين، زينة الحياة الدنيا؛ أي: ليس وراء ذلك شيء، وأن الذي يبقى للإنسان وينفعه ويسره: الباقيات الصالحات»23.
فالمال والبنون زينة الحياة، والإسلام لا ينهى عن التمتع بالزينة في حدود الطيبات. ولكنه يعطيهما القيمة التي تستحقها الزينة في ميزان الخلود ولا يزيد.
إنهما زينة ولكنهما ليستا قيمة؛ فما يجوز أن يوزن بهما الناس ولا أن يقدروا على أساسهما في الحياة؛ إنما القيمة الحقة للباقيات الصالحات من الأعمال والأقوال والعبادات24.
وإن من وجوه الإعجاز البياني في القرآن الكريم أن كل لفظة موضوعة بما يتناسب مع سياقها وموضوعها، فترى الكلمة قدمت في موضع وأخرت في موضع آخر تناسبًا مع سياقها وموضوعها وغرضها، فليس التقديم والتأخير والتكرار عبثًا أو هدرًا، ومن ذلك قوله تعالى في آية الكهف: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ) [الكهف:٤٦].
ونظير ذلك قوله تعالى في آية التغابن: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ) [التغابن:١٥].
في حين أنك تجد تقديم البنين على المال في آية آل عمران في قوله تعالى: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [آل عمران:١٤].
والحكمة في هذا التأخير وذاك التقديم أن السياق يقتضيه، فنجد تقديم المال على الولد حيث تكون الفتنة والإغراء والزينة والاستعانة، وذلك لأن المال قوام الحياة والزينة أشد فتنة من فتنة الولد فقدم عليه.
وحينما يكون السياق عن الحب والمحبة يقدم الولد على المال لأنه الأحب إلى الرجل، ولذلك تجد تقديمه على المال في آية آل عمران حيث قال الله تعالى: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) [آل عمران:١٤].
كما أن من دقائق التعبير القرآني في سورة الإسراء أنه تعالى قدم رزق الأبناء على الآباء: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [الإسراء:٣١].
وفي سورة الأنعام قدم رزق الآباء: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪ) [الأنعام:١٥١].
والسر في ذلك أن قتل الأولاد في سورة الإسراء كان خشية وقوع الفقر بسببهم، فقدم تعالى رزق الأولاد.وفي سورة الأنعام كان قتلهم بسبب فقر الآباء فعلا، فقدم رزق الآباء. فلله در التنزيـل ما أروع أسراره! 25
إن سنة الأنبياء والفضلاء التحرز في الدعاء بطلب الولد: فهذا زكريا عليه الصلاة والسلام تحرز فقال: (ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) [آل عمران:٣٨].
وقال: (ﮂ ﮃ ﮄ) [مريم:٦].
وتحرز إبراهيم فقال: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) [الصافات:١٠٠]
وتحرز المؤمنون فقالوا ما حكى الله تعالى عنهم، (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) [الفرقان:٧٤].
وتحرز الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته لأنس بن مالك رضي الله عنه فدعا له بالبركة في ماله وولده فقال: (اللهم أكثر ماله وولده وبارك له في ما أعطيته)26.
والولد إذا كان بهذه الصفة كان نفعًا لأبويه في الدنيا والآخرة، وخرج من حد العداوة والفتنة إلى حد المسرة والنعمة.
ثانيًا: البنوة فتنة:
ورد التحذير من فتنة الأبناء في أكثر من موضع من القرآن الكريم منها قول الله تعالى: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) [التغابن:١٥].
وقوله تعالى: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [الأنفال:٢٨].
ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) [التغابن:١٤-١٥].
وقوله تعالي: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [المنافقون:٩].
والمتأمل في كلمة فتنة نجد أنها تحتمل معان منها:
الأول: أن الله يفتنكم بالأموال والأولاد بمعنى يختبركم، فانتبهوا لهذا، وحاذروا وكونوا أبدًا يقظين لتنجحوا في الابتلاء وتخلصوا وتتجردوا لله.
الثاني: أن هذه الأموال والأولاد فتنة لكم توقعكم بفتنتها في المخالفة والمعصية.
والفتنة ليست مذمومة في ذاتها؛ لأن معناها اختبار وامتحان، وقد يمر الإنسان بالفتنة وينجح؛ كأن يكون عنده الأموال والأولاد، وهم فتنة بالفعل فلا يغره المال؛ بل إنه استعمله في الخير، والأولاد لم يصيبوه بالغرور بل علمهم حمل منهج الله، وجعلهم ينشؤون على النماذج السلوكية الصحيحة في الدين؛ لذلك فساعة يسمع الإنسان أي أمر فيه فتنة فلا يظن أنها أمر سيئ؛ بل عليه أن يتذكر أن الفتنة هي اختبار وابتلاء وامتحان، وعلى الإنسان أن ينجح مع هذه الفتنة؛ فالفتنة إنما تضر من يخفق ويضعف عند مواجهتها.
والكافرون لا ينجحون في فتنة الأموال والأولاد، ويأتي يوم لا يملكون فيه هذا المال، ولا أولئك الأولاد؛ وحتى إن ملكوا المال فلن يشتروا به في الآخرة شيئًا، وسيكون كل واحد من أولادهم مشغولًا بنفسه.
يقول الإمام البغوي عند تفسير آية التغابن: «وقال عطاء بن يسار: نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، كان ذا أهل وولد، وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه، وقالوا: إلى من تدعنا؟ فيرق لهم ويقيم، فأنزل الله (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ) [التغابن:١٥].
بلاء واختبار وشغل عن الآخرة، يقع بسببها الإنسان في العظائم ومنع الحق وتناول الحرام»27.
ويعلق سيد قطب رحمه الله على آية التغابن (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ) [التغابن:١٥].
ويقول: « التنبيه هنا إلى أن من الأزواج والأولاد من يكون عدوًا.. إن هذا يشيرإلى حقيقة عميقة في الحياة البشرية، ويمس وشائج متشابكة ودقيقة في التركيب العاطفي فالأزواج والأولاد قد يكونون مشغلة وملهاة عن ذكر الله، كما أنهم قد يكونون دافعا للتقصير في تبعات الإيمان اتقاء للمتاعب التي تحيط بهم لو قام المؤمن بواجبه فلقي ما يلقاه المجاهد في سبيل الله! والمجاهد في سبيل الله يتعرض لخسارة الكثير، وتضحية الكثير كما يتعرض هو وأهله للعنت، وقد يحتمل العنت في نفسه ولا يحتلمه في زوجته وأولاده فيبخل ويجبن ليوفر لهم الأمن والقرار أو المتاع والمال! فيكونون عدوًا له، لأنهم صدوه عن الخير، وعوقوه عن تحقيق غاية وجوده الإنساني العليا» 28.
ومن معان الفتنة في الأولاد أن تكون نقمة يصيب الله بها عبدًا من عباده؛ لأنه يعلم من أمره الفساد والدخل؛ فإذا القلق على الأموال والأولاد يحول حياته جحيمًا، وإذا الحرص عليها يؤرقه ويتلف أعصابه، وإذا هو ينفق المال حين ينفقه في ما يتلفه ويعود عليه بالأذى، وإذا هو يشقى بأبنائه إذا مرضوا ويشقى بهم إذا صحوا. وكم من الناس يعذبون بأبنائهم لسبب من الأسباب! وهؤلاء الذين يملكون الأموال ويرزقون الأولاد، يعجب الناس ظاهرها، وهي لهم عذاب29
وتظهر معالم الفتنة بالأولاد في الصور الآتية:
١. الانشغال بها عن الآخرة، والاستعداد لها.
فالتفريط في الصالحات، والحرص على المال والأولاد والمحبة الشديدة لهما تدفع إلى الوقوع في المحرمات، التحاسد والتدابر والتباغض، التقاتل على الدنيا وأموالها. ومعها الوقوع في صفتين ذميمتين بسبب الأموال والأولاد هما. البخل والجبن. وقد نبه الرسول صلى الله عليه وسلم عليهما بقوله: (إن الولد مبخلة مجبنة)30.
والبخل يدفع إلى الوقوع في المال الحرام، وإلى أن تمنع الحقوق الواجبة، وهذا هو الشح المذموم الذي قال الله تعالى عنه: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ) [التغابن:١٦].
٢. البغي والتكبر على الناس.
قال الله عز وجل: (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) [الشورى:٢٧].
وقال تعالى: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗh ﮙ ﮚ ﮛ)[العلق:٦-٧].
كما أن هناك من الناس من يعذب بماله وولده في الدنيا قبل الآخرة، وتتحول عنده الأمور التي يحبها الناس ويحرصون على تكثيرها من كونها مصدر نعمة وسعادة إلى أن تكون مصدر نقمة وشقاء وعذاب.
وصدق الله العظيم: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [التوبة:٨٥].
وهذه الآية وإن كانت في المنافقين الكافرين إلا أنه يمكن الاستشهاد بها في هذا المقام للحذر من هذه النهاية. 31
ولقد حذر الله سبحانه وتعالى من هذه الفتنة في آيتي الأنفال والتغابن.
قال تعالى: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [الأنفال:٢٨].
وقال تعالى: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) [التغابن:١٥].
وكلمة (ﭵ) تأتي في مثل هذه الموارد بمعنى وسيلة الامتحان، والحقيقة أن أهم وسيلة لامتحان الإيمان والكفر والشخصية وفقدانها وميزان القيم الإنسانية للأفراد هي (المال والأولاد). فكيفية جمع المال وكيفية إنفاقه والمحافظة عليه.
وميزان التعلق به ميزان لامتحان البشر، فكم من أناس يلتزمون بظاهر العبادة وشعائر الدين حتى المستحبات يلتزمون بأدائها، لكنهم إذا ما ابتلوا بقضية مالية تراهم ينسون كل شئ، ويدعون الأوامر الإلهية، ومسائل الحق والعدل والإنسانية جانبًا، هذا من جانب المال.
أما عن الأبناء فهم ثمار قلب الإنسان وبراعم حياته المتفتحة، ولهذا نجد الكثير من الناس المتمسكين بالدين والمسائل الأخلاقية والإنسانية لا يراعون الحق والدين بالنسبة للمسائل المتعلقة بمصلحة أبنائهم، فكأن ستارًا يلقى على أفكارهم فينسون كل الأمور ويصير حبهم لأبنائهم سببًا ليحلوا الحرام ويحرموا الحلال، ومن أجل توفير المستقبل لأبنائهم يمنعون كل حق ويقدمون على كل منكر، فيجب علينا الاعتصام بالله العظيم في هذين الميدانين العظيمين للامتحان، وأن نحذر بشدة، فكم من أناس زلت أقدامهم وسقطوا فيهما وظلت لعنة التأريخ تلاحقهم أبدًا، فإذا زلت لنا قدم يومًا وجب علينا الإسراع إلى تصحيح المسير.
٣. تحول الأبناء إلى أعداءً
قال تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [التغابن:١٤].
ربما يكون من الأولاد والنساء من هو عدو للإنسان، فيجب الحذر منهم.
ومعنى (ﮍ) في (ﮍ ﮎ) للتبعيض، وسياق الخطاب بلفظ (ﮉ ﮊ ﮋ) وتعليق العداوة بهم يفيد التعليل أي أنهم يعادونهم بما أنهم مؤمنون، والعداوة من جهة الايمان لا تتحقق إلا باهتمامهم أن يصرفوهم عن أصل الايمان، أو عن الأعمال الصالحة كالانفاق في سبيل الله والهجرة من دار الكفر، أو أن يحملوهم على الكفر، أو المعاصي الموبقة كالبخل عن الانفاق في سبيل الله شفقة على الأولاد والأزواج، والغصب واكتساب المال من غير طريق حله. فالله سبحانه يعد بعض الأولاد والأزواج عدوًا للمؤمنين في إيمانه، حيث يحملونهم على ترك الايمان بالله أو ترك بعض الأعمال الصالحة أو اقتراف بعض الكبائر الموبقة، وربما أطاعوهم في بعض ذلك شفقة عليهم وحبًا لهم، فأمرهم الله بالحذر منهم.
فعن أبي جعفر رضي الله عنه في قوله تعالى: (ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [التغابن:١٤] «وذلك أن الرجل إذا أراد الهجرة تعلق به ابنه وامرأته وقالوا: ننشدك الله أن تذهب عنا فنضيع بعدك، فمنهم من يطيع أهله فيقيم، فحذرهم الله من أبنائهم ونسائهم ونهاهم عن طاعتهم، ومنهم من يمضي ويذرهم ويقول: أما والله لئن لم تهاجروا معي ثم جمع الله بيني وبينكم في دار الهجرة لا أنفعكم بشيء أبدًا»32.
٤. منع الأبناء عن ذكر الله.
قال تعالى: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [المنافقون:٩].
فلقد خاطب سبحانه المؤمنين فقال: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) أي لا تشغلكم (ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ) أي: عن الصلوات الخمس المفروضة. وقيل. ذكر الله جميع طاعاته، عن أبي مسلم. وقيل: ذكره شكره على نعمائه والصبر على بلائه والرضا بقضائه، وهو إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يغفل المؤمن عن ذكر الله في بؤسٍ كان أو نعمةٍ، فإن إحسانه في الحالات لا ينقطع، (ﮩ ﮪ ﮫ) أي من يشغله ماله وولده عن ذكر الله (ﮬ ﮭ ﮮ).
وقال تعالى: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [سبأ:٣٧].
فإن كثرة الأولاد والأموال لا تعني القرب من الله. وقوله سبحانه وتعالى: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ)، خطاب إلى عامة الناس من الكفار وغيرهم، والوجه فيه أن ما ذكره من الحكم - حكم الأموال والأولاد - سواء في ذلك المؤمن والكافر، فالمال والولد إنما يؤثران أثرهما الجميل إذا كان هناك إيمان وعمل صالح وإلا فلا يزيدان الإنسان إلا وبالًا.
كما تكون الأموال والأولاد استدراج وإملاء للكافرين ليزدادوا إثمًا.
قال تعالى: (ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ) [المؤمنون:٥٥ - ٥٦].
وعن قتادة رحمه الله قال: (مكر - والله - بالقوم في أموالهم وأولادهم فلا تعتبروا الناس بأموالهم وأولادهم ولكن اعتبروهم بالإيمان والعمل الصالح)33.
وذلك لأنهم استخدموا أموالهم وأولادهم لأجل الطغيان والاستكبار عن الحق؛ كما قال تعالى: (ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [القلم:١٤].
وأغروا بهما الناس وصدوهم عن سبيل الله؛ كما قال تعالى: عن قوم نوح (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [نوح:٢١].
فذكر أنهم أهل أموال وأولاد؛ إيماءً إلى أن ذلك سبب نفاذ قولهم في قومهم وائتمار القوم بأمرهم؛ فأموالهم إذ أنفقوها لتأليف أتباعهم، وأرهبوا بأولادهم من يقاومهم، والمعنى: واتبعوا أهل الأموال والأولاد التي لم تزدهم تلك الأموال والأولاد إلا خسارًا؛ لأنهم استعملوها في تأييد الكفر والفساد فزادتهم خسارًا إذ لو لم تكن لهم أموال ولا أولاد لكانوا أقل ارتكابًا للفساد34.
الأموال والأولاد اختبار وامتحان في الدنيا، قال تعالى: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [الأنفال:٢٨].
فهذا تنبيه على الحذر من الخيانة التي يحمل عليها المرء حب المال؛ وهي خيانة الغلول وغيرها؛ فتقديم الأموال لأنها مظنة الحمل على الخيانة في هذا المقام، وعطف الأولاد على الأموال لاستيفاء أقوى دواعي الخيانة فإن غرض جمهور الناس في جمع الأموال أن يتركوها لأبنائهم من بعدهم.
وجعل نفس (الأموال والأولاد) فتنة لكثرة حدوث فتنة المرء من جراء أحوالهما؛ مبالغة في التحذير من تلك الأحوال وما ينشأ عنها، فكأن وجود الأموال والأولاد نفس الفتنة، وعطف قوله: (ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) على قوله: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ) للإشارة إلى أن ما عند الله من الأجر على كف النفس عن المنهيات هو خير من المنافع الحاصلة عن اقتحام المناهي لأجل الأموال والأولاد35.
والفتنة: هي البلاء والمحنة؛ لأنهم يوقعون في الإثم والعقوبة، ولا بلاء أعظم منهما، وقدمت الأموال على الأولاد لأنها أعظم فتنة36.
إن فتنة الأموال والأولاد عظيمة لا تخفى على ذوي الألباب؛ إذ أموال الإنسان عليها مدار معيشته وتحصيل رغائبه وشهواته، ودفع كثير من المكاره عنه؛ من أجل ذلك يتكلف في كسبها المشاق ويركب الصعاب ويكلفه الشرع فيها التزام الحلال واجتناب الحرام ويرغبه في القصد والاعتدال، ويتكلف العناء في حفظها، وتتنازعه الأهواء في إنفاقها، ويفرض عليه الشارع فيها حقوقًا معينة وغير معينة: كالزكاة ونفقات الأولاد والأزواج وغيرهم. ويقول الحق سبحانه عن هذا المغتر بالمال والأولاد وهو كافر بالله: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ)، وهذا مصير يليق بمن يقع في خديعة نفسه بالمال أو الأولاد37.
وقال السمرقندي رحمه الله: «إنما ذكر الأموال والأولاد؛ لأن أكثر الناس يدخلون النار لأجل الأموال والأولاد، فأخبر الله تعالى أنه لا ينفعهم في الآخرة؛ لكيلا يفني الناس أعمارهم لأجل المال والولد؛ وإنما ذكر الله تعالى الكفار، لكي يعتبر بذلك المؤمنون» 38.
فعلى العاقل أن يعتبر بالآيات ولا يغتر بكثرة الأعداد من الأموال والأولاد وعدم اجتهاده؛ لمعاده فإن الله يمتعه قليلًا ثم يضطره إلى عذاب غليظ39.
الأموال والأولاد قد تقعد المسلم عن العمل لدين الله والاستجابة خوفًا وبخلًا. والحياة التي يدعو إليها الإسلام حياة كريمة، لا بد لها من تكاليف، ولا بد لها من تضحيات؛ لذلك يعالج القرآن هذا الحرص بالتنبيه إلى فتنة الأموال والأولاد - فهي موضع ابتلاء واختبار وامتحان - وبالتحذير من الضعف عن اجتياز هذا الامتحان، ومن التخلف عن دعوة الجهاد وعن تكاليف الأمانة والعهد والبيعة؛ واعتبار هذا التخلف خيانة لله والرسول، وخيانة للأمانات التي تضطلع بها الأمة المسلمة في الأرض؛ وهي إعلاء كلمة الله وتقرير ألوهيته وحده للعباد، والوصاية على البشرية بالحق والعدل ومع هذا التحذير التذكير بما عند الله من أجر عظيم يرجح على الأموال والأولاد، التي قد تقعد الناس عن التضحية والجهاد40.
فإذا انتبه القلب إلى موضع الامتحان والاختبار، كان ذلك عونًا له على الحذر واليقظة والاحتياط؛ أن يستغرق وينسى ويخفق في الامتحان والفتنة. ثم لا يدعه الله بلا عون منه ولا عوض... فقد يضعف عن الأداء بعد الانتباه؛ لثقل التضحية وضخامة التكليف وبخاصة في موطن الضعف في الأموال والأولاد؛ إنما يلوح له بما هو خير وأبقى، ليستعين به على الفتنة ويتقوى.
(ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ). إنه سبحانه هو الذي وهب الأموال والأولاد... وعنده وراءهما أجر عظيم لمن يستعلي على فتنة الأموال والأولاد، فلا يقعد أحد إذن عن تكاليف الأمانة وتضحيات الجهاد41.
ومن أجل ذلك حذر الله المؤمنين من الاشتغال بالأموال والأولاد عن ذكره فقال: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [المنافقون:٩].
خص الأموال والأولاد بتوجه النهي عن الاشتغال بها اشتغالًا يلهي عن ذكر الله؛ لأن الأموال مما يكثر إقبال الناس على إنمائها والتفكير في اكتسابها؛ بحيث تكون أوقات الشغل بها أكثر من أوقات الشغل بالأولاد. ولأنها كما تشغل عن ذكر الله بصرف الوقت في كسبها ونمائها، تشغل عن ذكره أيضًا بالتذكير لكنزها؛ بحيث ينسى ذكر ما دعا الله إليه من إنفاقها.
وأما ذكر الأولاد فهو إدماج؛ لأن الاشتغال بالأولاد والشفقة عليهم وتدبير شؤونهم وقضاء الأوقات في التأنس بهم من شأنه أن ينسي عن تذكر أمر الله ونهيه في أوقات كثيرة فالشغل بهذين أكثر من الشغل بغيرهما.
وفيه أن الاشتغال بالأموال والأولاد الذي لا يلهي عن ذكر الله ليس بمذموم42.
وهنا نلحظ أنه قدم في سورتي آل عمران والتوبة البنون على الأموال، قال تعالى في آل عمران: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) [آل عمران:١٤].
وقال في التوبة: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ) [التوبة:٢٤]
فعندما يذكر سبحانه الحب الفطري يؤخر الأموال؛ لأن الأموال تترك للأبناء؛ يعمل ويكد ويعلم أنه ميت ويترك الأموال للأبناء.
أما في مواطن الإلهاء فقدم الأموال على الأولاد مع أن حب الأولاد أكثر لكن الالتهاء بالمال يكون أكثر؛ لذا قدم الأموال على الأولاد للتحذير.
قال أبو حيان رحمه الله: (لما كان المال في باب المدافعة والتقرب والفتنة أبلغ من الأولاد قدم، بخلاف قوله تعالى: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ)؛ فإنه ذكر هنا حب الشهوات، فقدم فيه البنين على ذكر الأموال)43. فالفتنة بالمال أكثر؛ لأنه يعين على تحصيل الشهوات المحرمة بخلاف الأولاد، فإن الإنسان قد يفتن بهم ويعصي الله من أجلهم، ولكن الفتنة بالمال أكثر وأشد، ولهذا بدأ سبحانه بالأموال قبل الأولاد كما في قوله تعالى: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) [سبأ:٣٧].
وقوله سبحانه: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ) [التغابن:١٥].
وقوله عز وجل: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [المنافقون:٩].
قال الله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [النساء:١].
الأولاد أمانة ومسؤولية عند الوالدين، كلفهما الله بحفظها ورعايتها، وأوصاهما بتربيتهم تربية صالحة في دينهم ودنياهم، وهم أولى الناس بالبر وأحقهم بالمعروف، والأبوان مسؤولان بين يدي الله عن تربية أبنائهم، قال صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالرجل راع في بيته وهو مسـؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، وهي مسؤولة عن رعيتها) 44
وما دام الأولاد نعمة ومتعة وزينة، فإن الإسلام رتب لهؤلاء الأبناء حقوقًا من قبل الآباء، وهي حقوق تقضي بها الفطرة السوية، ولكن الإسلام مع هذا وضع الضوابط والقواعد التي تحافظ عليها، وتحول دون التفريط فيها أو إساءة القيام بها»45
والعناية بها في ظلال القرآن والسنة، منذ كان نطفة ثم جنينا ثم بعد الولادة حتى البلوغ، ومنها حق النسب، وحق اختيار الاسم الحسن، وحق الرضاع والحضانة، وحق التربية، وحق النفقة، وغيرها مذكرا أنه تعالى خلق الجميع من نفس واحدة نصت عليه الآية السابقة.
وعندما أرسل الله تعالى الرسل جعل لهم أزواجًا وذرية، فقال تعالى: (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [الرعد:٣٨].
وقد بين القرآن الكريم أن الأبناء زينة الحياة الدنيا ومتاعها، قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ)، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «المال والبنون حرث الدنيا والأعمال الصالحة حرث الآخرة، وقد يجمعها لأقوام».
وأخبرنا المولى تعالى أن بعض الأنبياء توجه إليه بالدعاء في أن يرزقه الولد وألا يدعه فردًا بلا خلف، فقال تعالى: (ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [الأنبياء:٨٩].
وقد أثنى الله على نبيه زكريا عليه السلام حيث قال: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ) [مريم:٣]. والنداء هنا بمعنى الدعاء.
أولًا: حقوق مادية:
١. حق الحياة.
قال تعالى: و (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ) [التكوير:٨-٩].
وقال تعالى: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) [النحل:٥٨-٥٩].
وقال سبحانه: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪ) [الأنعام:١٥١].
وقال تعالى: (ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ)[النساء:٩٢].
والإجهاض من أنواع قتل الولد، قال تعالى: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ) [التكوير:٨-٩].
وفي الحديث الصحيح سئل عليه الصلاة والسلام أي الذنب أعظم؟ قال (أن تجعل لله ندًا وهوالذي خلقك، ثم قيل أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك)46.
وأن الله سبحانه وتعالى حينما أمر النبي أن يبايع النساء بايعهن على أن: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [الممتحنة:١٢].
٢. حق رضاعة الطفل.
قال تعالى: (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ) [البقرة:٢٣٣].
ومنه إحضار مرضعة إذا لم ترض الأم المطلقة أن ترضع طفلها.
قال تعالى: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ) [الطلاق:٦].
التشاور مع الأمهات فى عملية الفطام، أي: الفصال التى يحكمها ألا تقل عن عامين.
وفى هذا قال تعالى (ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ) [البقرة:٢٣٣].
٣. حق الإنفاق عليهم.
ويشمل الطعام والكسوة.
قال تعالى (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [البقرة:٢٣٣].
٤. حق الميراث.
وقد شرع الله عز وجل في ذلك نظامًا فريدًا، يحفظ لكل ذي قرابة حقه دون نقص أو زيادة.
ثانيًا: حقوق معنوية:
لقد عني القرآن بتنمية الشعور الفطري الذي ينشأ من خلال الرابطة الأسرية والمحافظة عليها وتقويتها فحدد دائرة معينة من الأقارب حرم فيها الزواج سموًا بهذه القرابة ووقاية لهذه القلوب المتآلفة من شواهد الخصومة والبغضاء التي تنشأ من خلال الممارسات اليومية.
فقال تعالى: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ)[النساء:٢٣].
١. حق النسب.
فإن الإسلام يقرر حفظ الأنساب، لذلك أمر الله بالزواج وحرم السفاح.
قال تعالى: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ) [النور:٦-٩].
كما قرر القرآن تحريم التبني في موضعين:
أحدهما: بسلوك النبي العملي (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [الأحزاب:٤].
والآخر: توجيهي في قوله تعالى: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [الأحزاب:٥].
كما منع الإسلام الزواج من زوجات الأبناء.
قال تعالى: (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [النساء:٢٣].
دققوا في تشديد الإسلام على صفاء النسب، وعلى عدم اختلاط الأنساب.
٢. حق صلة الأرحام.
وقرر استمرارها بالبر والزيارة والتعهد والرعاية فقال تعالى: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) [النساء:٣٦].
وجعل قطيعتها من خصال الكافرين، ومن الفساد الذي نهى عنه الإسلام.
قال تعالى: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [محمد:٢٢].
٣. حق التربية.
ويتاكد هذا في أكثر من موضع، منها قوله تعالى: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ) [لقمان:١٣].
ولهذا فإن من أعظم الأعمال التربية الصحيحة للأبناء، لأنهم استمرار للمرء، وله صدقة جارية لا تنقطع.
أوصى الله تعالى بالآباء خيرًا، وأوجب لهم على أبنائهم حقوقًا، منها معنوية؛ كتوقيرهما، والتلطف في مخاطبتهما، وعدم التأفف منهما، وأخرى وما دية؛ كالنفقة بالمعروف على الموسر.
وإن كان الله تعالى قد أمر: (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) [الإسراء:٢٣].
فإنه يجمع بين الحق المعنوي والمادي للآباء على الأبناء، وورد النص بأن لهم حقًا ثابتًا في أموال أبنائهم، حيث إن حصولهم على هذا الحق وتمكينهم منه واجب ماديٌ على الأبناء، وجعل ذلك لهم بمثابة الكسب الحلال الذي لا ينازعون في أخذه، ولا فضل ولا منة لأحدٍ فيه عليهم يترك أثرًا معنويًا حسنًا في نفوسهم.
قال تعالى (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ) [النساء:١١].
أولًا: واجبات مادية:
وقد قضت الشريعة الغراء بأن للأب أن يأخذ من مال ابنه مقدار حاجته بكرامةٍ وعزة نفس لا يتبعها أذىً ولا منة، كيف وهو في ذلك إنما يأكل من كسبه الطيب، ويأخذ من حقه الثابت.
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أن رجلًا قال: يا رسول الله إن لي مالًا وولدًا، وإن أبي يريد أن يجتاح مالي. فقال عليه الصلاة والسلام: (أنت و مالك لأبيك) 47.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه و سلم، فقال: إن لي مالًا، وإن والدي يحتاج إلى مالي، قال: (أنت ومالك لوالدك، إن أولادكم من أطيب كسبكم، كلوا من كسب أولادكم) 48.
ولا فرق بين الأب والأم في أن لكل منهما الحق في أن يأخذ من مال ولده، لما روي عن عمارة بن عمير، عن عمته، أنها سألت عائشة رضي الله عنها: في حجري يتيم أفآكل من ماله؟ فقالت أم المؤمنين: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وولده من كسبه) 49.
أما وقد تقرر ذلك فلا بد من الإشارة إلى أن بعض أهل العلم ذهبوا إلى أن للأب الأخذ من مال ولده بدون قيدٍ أو حدٍ، لحاجته وفوق حاجته، سواء رضي بذلك الابن أم لم يرض.
قال الشوكاني رحمه الله في شرح حديث أم المؤمنين رضي الله عنها: «يدل على أن الرجل مشاركٌ لولده في ماله، فيجوز له الأكل منه سواء أذن الولد أو لم يأذن، ويجوز له أيضًا أن يتصرف به كما يتصرف بماله، ما لم يكن ذلك على وجه السرف والسفه» 50.
واعترض على من ذهب هذا المذهب بما رواه الحاكم بإسنادٍ صححه، وقال: هو على شرط الشيخين، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أولادكم هبة الله لكم، يهب لمن يشاء إناثًا، ويهب لمن يشاء الذكور، فهم وأموالهم لكم إذا احتجتم إليها) 51.
وإن كان العقل والاعتبار يشهدان لمذهب تقييد حق الأب في مال ابنه بمقدار الحاجة لا غير، إذ لو كان معنى قوله: (أنت ومالك لأبيك) على ظاهره وإطلاقه لاستحق الأب الاسئثار بمال ولده بعد وفاته لا يشركه فيه غيره من الورثة، و لكانت عليه زكاته في حياته إن قصر في أدائها الولد، و ليس الأمر كذلك.
قال ابن الهمام الحنفي بعد ذكر حديث عائشة المتقدم: (ومما يقع بأن الحديث يعني أنت ومالك لأبيك ما أول أنه تعالى ورث الأب من ابنه السدس مع ولد ولده، فلو كان الكل ملكه لم يكن لغيره شيء مع وجوده) 52.
قال ابن قدامه رحمه الله: «وللأب أن يأخذ من مال ولده ما شاء مع غناه وحاجته بشرطين:
أحدهما: أن لا يجحف بالإبن، و لا يأخذ ما تعلقت به حاجته.
الثاني: أن لا يأخذ من مال أحد ولديه فيعطيه لآخر؛ لأن تفضيل أحد الولدين غير جائز، فمع تخصيص الآخر بالأخذ منه أولى. فإذا وجد الشرطان جاز الأخذ» 53.
فليتق الأبناء والآباء ربهم فيما أعطوا و ما تركوا، و لا يجاوزن أحدهم حدود ما شرعه الله تعالى له، فإنه (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) [النساء:١٤].
(ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ) [البقرة:٢٢٩].
واجبات معنوية:
قال تعالى: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [الإسراء:٢٣]
يتناول القرآن الكريم كيفية تعاطي الأبناء مع الوالدين، كشكلٍ من أشكال العلاقات التي يبنيها الإنسان في حياته، فهناك من ينفتح على الله وعلى أجواء الصلاح في علاقته بهما، ليبقى معهما في خط الصلاح في شبابه، كما كان كذلك في طفولته، وهناك من ينغلق عن الله ويصم أذنيه عن سماع ندائهما الذي يدعوه إليه.
يقول تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ) [الأحقاف:١٥].
أن يحسن إليهما، وأن يتطلع، بعمقٍ وانفتاح وإنسانيةٍ، إلى الجهد الذي بذلاه في تربيته، بما لم يبذله أحدٌ معه، ولم يقدمه إليه إنسانٌ، ولا سيما الأم التي تتحمل الجهد الجسدي الشاق في حمله وولادته ورضاعه، (ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ) [الأحقاف:١٥].
فكان حملها له مشقة ومعاناة ثقيلة تواجه فيها حالة صحية صعبة، حيث يتغير مزاجها، ويضطرب وضعها الجسدي بكل أجهزته، وكانت ولادته حركة آلام قاسية في مكابدة الجهد والخطر على الحياة، ولكنها بالرغم من حالة الكره الطبيعي للإحساس الجسدي بالثقل والألم والمعاناة، تتقبل ذلك كله بالرضى والحنان والعاطفة، فتحتضن ولدها بالعاطفة الدافقة الطاهرة، وتستمر في رعايته في حمله ورضاعه.
وتستمر الرعاية مدة طويلةً (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ)، عندما تشتد قواه (ﭥ ﭦ ﭧ)، وهي المدة التي يقوى فيها جسده، ويكمل فيها عقله، وتهدأ فيها شهواته، وتتوازن فيها انفعالاته، ويبدأ بالتطلع إلى نعمة الله عليه في حركة وجوده، بكل تفاصيلها الصغيرة والكبيرة، (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) [النمل:١٩].
أي: اجعلني أعيش وعي النعمة، إلهامًا روحيًا، يلزمني بمسؤولية الشكر لك قولًا وفعلًا يلتزمان سبل رضاك ومواقعه وغاياته، وبما يحولها إلى طاقةٍ حيةٍ منفتحةٍ على مواقع القرب منك والحب والصدق لك.
موضوعات ذات صلة: |
الأبوة، الأخوة، الأمومة، التبني |
.
1 انظر: لسان العرب، ابن منظور، ١٤/٨٩.
2 انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني، ص ٦٢- ٦٣.
3 المفردات، ص١٤٧.
4 فتح القدير، ٤/١٢٣.
5 تفسير الشعراوي، ١٩/١١٦٣٦.
6 انظر: المعجم المفهرس، محمد فؤاد عبد الباقي ص١٣٦- ١٣٩.
7 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ١/ ٣٠٣.
8 انظر: جامع البيان، الطبري ٦/ ٥٦٠.
9 انظر: المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، ٣/٢٨١.
10 المفردات، ص٨٨٣.
11 انظر: الفروق اللغوية، أبو هلال العسكري، ١/١٢، الكليات، أبو البقاء الكفوي، ص٢٧.
12 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس، ٣/٣٢٢.
13 انظر: التوقيف، المناوي، ص٢٢٧.
14 انظر: لسان العرب، ابن منظور، ١٤/٤٥٠.
15 المفردات، ص٤٧٥.
16 لسان العرب، ابن منظور، ١٢/٤٤٠.
17 الكليات، أبو البقاء الكفوي، ص٦٧٢.
18 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٤/٤٦٨.
19 انظر: زهر الآداب، أبو إسحاق القيرواني، ١/٦٣.
20 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٧/٤٣٣.
21 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٢/١٩ باختصار.
22 الجامع لأحكام القرآن ١٠/ ٤١٣.
23 تيسير الكريم الرحمن ٤٧٩.
24 انظر: في ظلال القرآن ٤/ ٢٢٧٢.
25 انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب ٤/ ١٩٨٢.
26 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الدعوات، باب الدعاء بكثرة المال مع البركة، رقم ٦٣٧٨.
27 معالم التنزيل ٨/١٤٣.
28 في ظلال القرآن، سيد قطب ٤/ ٢٢٧٤.
29 انظر: المصدر السابق ٣/ ١٦٦٦.
30 المسند الجامع ٢٧ /١٥٣.
31 انظر: ففروا إلي الله. أبو زر القلموني، ص ٢١٦
32 انظر: السيرة النبوية، ابن هشام ص ٢٧١
33 انظر: الدر المنثور، السيوطي ١٠/ ٥٨٢.
34 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٩/ ١٩٢.
35 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٩/ ٧٩.
36 انظر: البحر المحيط، أبو حيان ٨/ ٢٠٩.
37 انظر: تفسير الشعراوي ١١٤٢
38 انظر: تفسير السمرقندي ١/ ٢٢١.
39 انظر: روح البيان، إسماعيل حقي ١/ ١٢.
40 انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب ٣/ ١٤٩٧.
41 انظر: المصدر السابق ٣/ ١٥١٧
42 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٨/ ٢٢٥.
43 انظر: البحر المحيط، أبو حيان ٢/ ٢٩٥.
44 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى والمدن، ٢/٥، رقم ٨٩٣، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل، ٣/١٤٥٩، رقم ١٨٢٩.
45 انظر: حقوق الأولاد قبل الوالدين، بحث أعده د. عبد الحميد الأنصاري، بحولية كلية الشريعة، جامعة قطر، العدد الثاني عشر ١٤١٥هـ، ص ٣١١.
46 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، باب (فلا تجعلوا لله أندادا)، ٦/١٨، رقم ٤٤٧٧، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب كون الشرك أقبح الذنوب، ١/٩٠، رقم ٨٦.
47 أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب التجارات، باب ما للرجل من مال ولده، ٢/٧٦٩، رقم ٢٢٩١.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، ١/٣١١، رقم ١٤٨٦.
48 أخرجه أحمد في مسنده، ١١/٢٦١، رقم ٦٦٧٨.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، ١/٣١١، رقم ١٤٨٧.
49 أخرجه أبو داود في سننه، أبواب الإجارة، باب في الرجل يأكل من مال ولده، ٣/٢٨٨، رقم ٣٥٢٨.
50 نيل الأوطار ٥ /٣٩.
51 أخرجه الحاكم في المستدرك، ٢/٢٨٤.
قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين.
وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم٢٥٦٤ .
52 انظر: فتح القدير، ابن الهمام ص٢٣٥.
53 انظر: الكافي ٢ / ٤٧١.