عناصر الموضوع
الرجاء
أولًا: المعنى اللغوي:
أصل مادة (رجا) تدل على الأمل1.
وهو نقيض اليأس، يقال: رجا يرجو 2.
وقد يجيئ الرجاء بمعنى: الخوف، ومنه قوله تعالى: (ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ) [نوح: ١٣] أي: تخافون عظمة الله 3.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
قال الراغب: الرجاء: ظنّ يقتضي حصول ما فيه مسرّة4.
وعرفه الكفوي بأنه: الطمع فيما يمكن حصوله، ويرادفه الأمل5.
وعرفه الجرجاني بأنه: تعلق القلب بمحصول محبوب في المستقبل6.
وبناءً عليه فمعنى الرجاء اصطلاحًا لا يختلف عن معناه لغةً.
وردت مادة (رجا) في القرآن الكريم (٢٨) مرة، يخص موضوع البحث منها(٢٣) مرة7.
والصيغ التي وردت هي:
الصيغة |
عدد المرات |
المثال |
الفعل المضارع |
٢١ |
( ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ) [النساء: ١٠٤] |
فعل الأمر |
١ |
(ﮫ ﮬ ﮭ) [العنكبوت: ٣٦] |
اسم مفعول |
١ |
(ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ) [هود: ٦٢] |
وجاء الرجاء في القرآن على وجهين8:
أحدهما: الأمل والطمع: ومنه قوله تعالى: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [البقرة: ٢١٨].
وقوله تعالى: (ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) [الإسراء: ٥٧]. أي: يأملون ويطمعون في رحمته وجنته9.
الثاني: الخوف: ومنه قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ) [يونس: ٧] يعني: لا يخافون لقاءنا يوم القيامة، فهم لذلك مكذبون بالثواب والعقاب10.
وقوله تعالى: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ) [النبأ: ٢٧] أي: لا يخافون حسابًا.
وعند التأمل نجد أن لفظة الرجاء من الأضداد11، فتستعمل بمعنى الأمل والطمع، وبمعنى الخوف، وقرينة السياق تدل على المعنى المطلوب.
الأمل:
الأمل لغة:
تدل مادة (أمل) على معنين رئيسين، أحدهما: التثبت والانتظار12، ومنه: الأمل، بمعنى: الرجاء، فتقول: أملته أؤمله تأميلًا، وأملته آمله أملًا وإملةً على بناء جلسة13. ومنه: التأمل، أي: التثبت في النظر14.
الأمل اصطلاحًا:
عرفه المناوي بقوله: الأمل: توقع حصول الشيء، وأكثر ما يستعمل فيما يبعد حصوله، فمن عزم على سفر إلى بلد بعيد يقول: أملت الوصول، ولا يقول: طمعت إلا إن قرب منها، فإن الطمع ليس إلا في القريب15.
الصلة بين الرجاء والأمل:
الرجاء والأمل لفظان متقاربان في المعنى، حيث يعرف أهل اللغة الرجاء بالأمل، والأمل بالرجاء، إلا أن المتأمل في معناهما في كتب اللغة يجد فرقًا طفيفًا بينهما، وهو أن الرجاء أكثر ما يستعمل فيما يقرب حصوله، بينما الأمل أكثر ما يستعمل فيما يستبعد حصوله.
وقيل: الأمل: آكد من الرجاء؛ لأن الرجاء معه خوف؛ فلذلك جاء بمعنى خاف نحو: (ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ) [نوح: ١٣] 16.
التمني:
التمني لغة:
تدل مادة (مني) على تقدير شيء، ونفاذ القضاء به، منه قولهم: منى له الماني، أي: قدر المقدر، وتمني الإنسان: أمل يقدره17.
والتمني نوع من الطلب إلا أن الطلب يكون باللسان، والتمني شيء يهجس في القلب يقدره المتمني18.
التمني اصطلاحًا:
التمني: طلب حصول الشيء، سواءً كان ممكنًا أو ممتنعًا19.
الصلة بين الرجاء والتمني:
الرجاء يكون مع بذل الجهد واستفراغ الطاقة في الإتيان بأسباب الظفر والفوز، والتمني حديث النفس بحصول ذلك مع تعطيل الأسباب الموصلة إليه20.
الخوف:
الخوف لغة:
الخاء والواو والفاء أصلٌ واحدٌ يدلّ على الذّعر والفزع21.
الخوف اصطلاحًا:
«خلاف الأمن، والأمن سكون النفس، والخوف من انزعاجها وقلقها»22.
وقال التفتازاني: «غم يلحق الإنسان مما يتوقعه من السوء»23.
الصلة بين الرجاء والخوف:
الخوف هو توقع حلول مكروه، أو فوت محبوب، والرجاء عكسه، توقع حصول محبوب، وهما قرناء لا ينفع أحدهما إلا بوجود الآخر، وهما من أركان العبادة التي لا تتم إلا باجتماعهما مع الحب24.
الرجاء في الله تعالى، وفيما عنده من العبادات القلبية العظيمة.
وقد ذكر القرآن الكريم أن المؤمنين هم أهل الرجاء، وأهل حسن الظن بالله، الذين جمعوا بين حسن العمل، وحسن الرجاء، إذ الرجاء المحمود لا يكون إلا لمن عمل بطاعة الله، ورجا ثوابه، أو تاب من معصيته، ورجا قبول توبته، فأما الرجاء بلا عمل فهو غرور وتمنٍ مذموم.
ومن صور الرجاء التي أثنى الله بها على المؤمنين:
أولًا: رجاء لقاء الله:
قال الله تعالى: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [العنكبوت: ٥] وقال الله تعالى: (ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ) [الكهف: ١١٠].
فالمؤمن يرجو لقاء الله.
واختلف المفسرون في المراد بلقاء الله، على أقوال:
الأول: أن المراد بلقاء الله: رؤيته سبحانه وتعالى، فالمؤمن يرجو رؤية الله؛ ولهذا يعمل الأعمال الصالحة من أجل أن ينعم بهذه الرؤية، لعل هذا العمل الصالح يكون سببًا في رؤية الله جل وعلا.
الثاني: أن لقاء الله: ثوابه، فالمؤمن يرجو ثواب الله بعمله، ويخشى عقاب الله بعمله، فهو يصلي ويقرأ القرآن ويصوم، ويعمل الأعمال الصالحة من أجل حصول الثواب، والابتعاد عن العقاب.
الثالث: أن لقاء الله هو يوم القيامة.
وقد جمع هذه الأقوال كلها وغيرها أبو السعود، حيث قال: «(ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ)، أي: يتوقع ملاقاة جزائه ثوابًا أو عقابًا، أو ملاقاة حكمه يوم القيامة.
وقيل: يرجو لقاء الله عز وجل في الجنة.
وقيل: يرجو ثوابه.
وقيل: يخاف عقابه.
وقيل: لقاؤه تعالى عبارة عن الوصول إلى العاقبة من تلقي ملك الموت والبعث والحساب والجزاء.
على تمثيل تلك الحال بحال عبد قدم على سيده بعد عهد طويل، وقد علم مولاه بجميع ما كان يأتي ويذر، فإما أن يلقاه ببشر وكرامة لما رضي من أفعاله، أو بضده لما سخطه، ولهذا قال: (ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ)، أي: فإن الوقت الذي عينه تعالى لذلك (ﯰ) لا محالة من غير صارف يلويه، ولا عاطف يثنيه؛ لأن أجزاء الزمان على التقضي والتصرم دائمًا، فلا بد من إتيان ذلك الجزاء أيضًا ألبتة، وإتيان وقته موجب لإتيان اللقاء حتمًا، والجواب محذوف، أي: فليختر من الأعمال ما يؤدي إلى حسن الثواب؛ وليحذر ما يسوقه إلى سوء العذاب، كما في قوله تعالى: (ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ) [الكهف: ١١٠] ، وفيه من الوعد والوعيد ما لا يخفى، وقيل: فليبادر إلى ما يحقق أمله، ويصدق رجاءه، أو ما يوجب القربة والزلفى»25.
والمقصود: أن المؤمنين يرجون لقاء الله، فيعملون لهذا اللقاء، ويستعدون له، بعكس المنكر للقاء الله، الغافل عنه.
وقد اختلف في تفسير الرجاء على قولين:
فقيل: الرجاء: بمعنى الطمع والأمل، قاله سعيد ابن جبير26.
قال الزجاج: معنى من كان يرجو لقاء الله: من كان يرجو ثواب لقاء الله، أي: ثواب المصير إليه، فالرجاء على هذا: معناه: الأمل27.
وقيل: الرجاء: بمعنى الخوف.
قال القرطبي: «وأجمع أهل التفسير على أن المعنى: من كان يخاف الموت28.
وقال السعدي: «يعني: يا أيها المحب لربه، المشتاق لقربه ولقائه، المسارع في مرضاته، أبشر بقرب لقاء الحبيب، فإنه آت، وكل آت إنما هو قريب، فتزود للقائه، وسر نحوه، مستصحبًا الرجاء، مؤملًا الوصول إليه، ولكن ما كل من يدعي يعطى بدعواه، ولا كل من تمنى يعطى ما تمناه، فإن الله سميع للأصوات، عليم بالنيات، فمن كان صادقًا في ذلك أناله ما يرجو، ومن كان كاذبًا لم تنفعه دعواه، وهو العليم بمن يصلح لحبه ومن لا يصلح»29.
ولما كان المؤمنون هم الذين يرجون لقاء الله، ويشتاقون له، ويعملون له، أخبر الله عن المشركين أنهم على الضد من ذلك فهم لا يرجون لقاء الله، أي: لا ينتظرون هذا اللقاء، ولا يحسبون حسابه، ولا يقيمون حياتهم وتصرفاتهم على أساسه، ومن ثم لا تستشعر قلوبهم وقار الله وهيبته وجلاله، فتنطلق ألسنتهم بكلمات وتصورات لا تصدر عن قلب يرجو لقاء الله.
قال الله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ) [الفرقان: ٢١] ، فقد كانوا يستبعدون أن يكون الرسول بشرًا، وكانوا يطلبون، لكي يؤمنوا بالعقيدة التي يدعوهم إليها أن تنزل عليهم الملائكة تشهد بها، أو أن يروا الله سبحانه وتعالى فيصدقوا، وهو تطاول على مقام الله سبحانه، تطاول الجاهل المستهتر الذي لا يحس جلال الله في نفسه، ولا يقدر الله حق قدره30.
وقال ابن عاشور: ورجاء لقاء الله: ظن وقوع الحضور لحساب الله...، ولقاء الله: الحشر للجزاء؛ لأن الناس يتلقون خطاب الله المتعلق بهم، لهم أو عليهم، مباشرةً بدون واسطة...، وعبر بفعل الرجاء عن ترقب البعث؛ لأن الكلام مسوق للمؤمنين وهم ممن يرجو لقاء الله؛ لأنهم يترقبون البعث لما يأملون من الخيرات فيه31.
والخلاصة: أن هذه الآية: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [العنكبوت: ٥] فيها حث الإنسان على أن يكون راجيًا في ثواب المصير إلى الله تعالى، فالرجاء سبب من الأسباب التي ينال بها العبد ما عند الله، من مغفرة ذنوبه، وهدايته، وتوفيقه، وإعانته على طاعته، ودخوله الجنة، ونجاته من النار، فالرجاء هو قطب الرحى الذي يدور عليه صلاح العبادة.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: «ولولا روح الرجاء لعطلت عبودية القلب والجوارح، وهدمت صوامع، وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا، بل لولا روح الرجاء لما تحركت الجوارح بالطاعة، ولولا ريحه الطيبة لما جرت سفن الأعمال في بحر الإرادات»32.
ولا يقال: إن الرجاء اعتراض من العبد على ما سبق به حكم الله، فليس الأمر كذلك، بل إنما هو تعلق بما سبق به الحكم، فإن العبد إنما يرجو فضلًا وإحسانًا ورحمةً سبق بها القضاء والقدر، وجعل الرجاء أسباب حصولها، فليس الرجاء اعتراضًا على القدر، بل هو طلب لما سبق به قدر الله.
وقد ذم الله الكافرين الذين لا يرجون لقاءه، ورضوا بالحياة الزائلة، واطمأنوا إليها، فقد حكم لهم بأن مأواهم النار، قال الله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [يونس: ٧-٨].
وقال الله تعالى: (ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ) [الكهف: ١١٠]، وهذه الآية توضح لنا أن العبد إذا كان يرجو لقاء الله صادقًا مخلصًا في ذلك، فإن عاقبة ذلك ونتيجته يؤديان به إلى إصلاح عمله.
فهذه الآية فيها إشارة قاطعة إلى أن الرجاء لا يصح إلا مع العمل.
ورجاء العبد لقاء ربه الذي خلقه هو من أفضل ما يرجوه العبد المؤمن ويأمله، قال العلامة ابن القيم: «رجاء أرباب القلوب، وهو رجاء لقاء الخالق الباعث على الاشتياق، المبغض المنغص للعيش، المزهد في الخلق، هذا الرجاء أفضل أنواع الرجاء وأعلاها، قال الله تعالى: (ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ) [الكهف: ١١٠]، وقال الله تعالى: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [العنكبوت: ٥]، وهذا الرجاء هو محض الإيمان وزبدته، وإليه شخصت أبصار المشتاقين؛ ولذلك سلاهم الله تعالى بإتيان أجل لقائه، وضرب لهم أجلًا يسكن نفوسهم ويطمئنها»33.
ثانيًا: رجاء اليوم الآخر:
ومما ينبغي أن يرجوه المؤمن اليوم الآخر.
قال الله تعالى: (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ) [العنكبوت: ٣٦].
وقال الله تعالى: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [الأحزاب: ٢١].
وقال: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) [الممتحنة: ٦].
ومعنى: (ﮫ ﮬ ﮭ)، أي: وارجوا بعبادتكم إياي جزاء اليوم الآخر، وذلك يوم القيامة34.
قال أبو السعود: «معنى: (ﮫ ﮬ ﮭ)، أي: توقعوه، وما سيقع فيه من فنون الأهوال، وافعلوا اليوم من الأعمال ما تأمنون غائلته»35.
والمراد باليوم الآخر: يوم القيامة؛ لأنه آخر الأيام، وقيل: وارجوا يوم الموت؛ لأنه آخر عمرهم36.
وإنما عبّر شعيب عليه السلام بلفظ الرجاء؛ لأن عبادة الله يرجى منها الخير في الدارين كما سبق.
والرجاء: الترقب واعتقاد الوقوع في المستقبل، وأمره إياهم بترقب اليوم الآخر يدل على أنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث37.
ورجاء اليوم الآخر كفيل بتحويلهم عما كانوا يرجونه في هذه الحياة الدنيا من الكسب المادي الحرام، بالتطفيف في الكيل والميزان، وغصب المارين بطريقهم للتجارة، وبخس الناس أشياءهم، والإفساد في الأرض، والاستطالة على الخلق38.
ثالثًا:رجاء رحمة الله:
ومن أعظم ما يرجوه المؤمن رحمة الله.
قال الله تعالى: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) [البقرة: ٢١٨].
فهذه الآية بينت أن من صفات المؤمنين أنهم يرجون رحمة الله، بمعنى: أنهم يطمعون في رحمة الله، ويرجون أن يدخلهم الجنة برحمته إياهم، وفضله عليهم.
عن الربيع بن أنس رضي الله عنه قال: «أثنى الله على أصحاب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أحسن الثناء، فقال: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) هؤلاء خيار هذه الأمة، ثم جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون، وأنه من رجا طلب، ومن خاف هرب»39.
والناظر لأول وهلة في هذه الآية يظن أن فيها رجاءً وترغيبًا، لكن المتدبر والمتأمل يجد العكس، وهو أن فيها تخويفًا وترهيبًا، حيث جعل الله تعالى رحمته لمن تحققت فيه هذه الأوصاف (الإيمان، والهجرة، والجهاد) وهي ثقيلة على النفس.
وهذه الأوصاف الثلاثة لأولئك المقربين الصديقين:
أولها: أنهم آمنوا، والإيمان تصديق للحق، وإذعان لحكمه، وتنفيذ لأوامره، وإخلاص في القلب، ونور في البصيرة، وذلك وحده كاف للجزاء، إن قام المؤمن به، وحقق لوازمه وخواصه، وصار شعاره ومظهره، وسريرته وحقيقته.
وثانيها: الهجرة، فقال الله تعالى: (ﯓ ﯔ)، وكرر الموصول هنا للإشارة إلى أن الهجرة وحدها عمل زائد على الإيمان يستحق وحده الثواب؛ لأنه ترك للمال والأهل، وطلب للعزة، وإعزاز الدين، بدل البقاء في الذلة والرضا بحياة المستضعفين، وقد أمر الله بالهجرة عند الاستضعاف، ونهى عن البقاء تحت نير غير المسلمين.
ولذا قال الله تعالى: (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) [النساء: ٩٧-١٠٠].
وثالثها: الجهاد في سبيل الله تعالى، وهو باب الجنة، وهو رهبانية هذه الأمة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن طلب منه الوصية: (وعليك بالجهاد، فإنه رهبانية الإسلام)40.
ولقد بين سبحانه جزاءهم، فقال: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ)، أي: إن أولئك المتصفين بهذه الصفات ليس من شأنهم أن يخافوا العذاب لخطأ غير مقصود في الجهاد، بل إنهم يرجون الرحمة والثواب41.
والمراد برحمة الله ها هنا:
يحتمل أن تكون الرحمة التي هي صفته، أي: أن يرحمهم.
ويحتمل أن يكون المراد ما كان من آثار رحمته.
وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى قال للجنة: (أنت رحمتي أرحم بك من أشاء)42، فجعل المخلوق رحمةً له؛ لأنه من آثار رحمة الله؛ ولهذا قال: (أرحم بك).
أما الرحمة التي هي وصفه، فهي شيء آخر، فالآية محتملة للمعنيين، وكلاهما متلازمان؛ لأن الله إذا رحم عبدًا أدخله الجنة التي هي رحمته43.
فيكون في قوله: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) قولان:
الأول: أن المراد منه الرجاء، وهو عبارة عن ظن المنافع التي يتوقعها، وأراد تعالى في هذا الموضع أنهم يطمعون في ثواب الله؛ وذلك لأن عبد الله بن جحش -الذي نزلت فيه هذه الآية-44 ما كان قاطعًا بالفوز والثواب في عمله، بل كان يتوقعه ويرجوه.
فإن قيل: لم جعل الوعد مطلقًا بالرجاء، ولم يقع به كما في سائر الآيات؟
قال الراغب: قلنا: الجواب من وجوه:
أحدها: أن مذهبنا أن الثواب على الإيمان، والعمل غير واجب عقلًا، بل بحكم الوعد، فلذلك علقه بالرجاء.
وثانيها: هب أنه واجب عقلًا بحكم الوعد، ولكنه تعلق بأن لا يكفر بعد ذلك، وهذا الشرط مشكوك فيه لا متيقن، فلا جرم كان الحاصل هو الرجاء لا القطع.
وثالثها: أن المذكور ها هنا هو الإيمان والهجرة والجهاد في سبيل الله، ولا بد للإنسان مع ذلك من سائر الأعمال، وهو أن يرجو أن يوفقه الله لها، كما وفقه لهذه الثلاثة، فلا جرم علقه على الرجاء.
ورابعها: ليس المراد من الآية أن الله شكك العبد في هذه المغفرة، بل المراد وصفهم بأنهم يفارقون الدنيا مع الهجرة والجهاد مستقصرين أنفسهم في حق الله تعالى، يرون أنهم لم يعبدوه حق عبادته، ولم يقضوا ما يلزمهم في نصرة دينه، فيقدمون على الله مع الخوف والرجاء، كما قال: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ) [المؤمنون: ٦٠].
القول الثاني: أن المراد من الرجاء: القطع واليقين في أصل الثواب، والظن إنما دخل في كميته وفي وقته، وفيه وجوه قررناها في تفسير قوله تعالى: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ) [البقرة: ٤٦].
وفي الآية دلالة على أن الذي يحق رجاؤه يعمل ما ذكر الله، ومن وصل إلى ذلك فحق له أن يرجو رحمته، فإن قيل: الإنسان راج لرحمة الله وإن لم يبلغ هذه المنازل!
قيل: إن الذي نسميه رجاءً لن لم يبلغ مثل هذه المنازل فهو تمن على الله، المعني بقوله عليه السلام: (والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني)45.
أو رجاءً لتفصيل غير مستحق، وما ذكره الله عز وجل ها هنا هو الرجاء المستحق الذي وصف به المؤمنين في غير موضع، نحو قوله: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) [الإسراء: ٥٧].
إن قيل: لم ذكر المؤمنين برجاء الرحمة وهي لهم لا محالة؟
قيل: المؤمن وإن بذل الجهد في طاعته فواجب أن يكون بين نظرين: نظر إلى سعة رحمة الله عز وجل، ونظر إلى ما عسى أن يقع، أو وقع منه من ذنب فينتج له خوفًا46.
ونظير الآية السابقة: قوله تعالى: (ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ) [الإسراء: ٥٧] 47.
فـ(ﯥ) مبتدأ، (ﯦ ﯧ) صفة، أي: يدعونهم آلهة، أو يعبدونهم، والخبر (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ)، يعني: أن آلهتهم أولئك يبتغون الوسيلة، وهي القربة إلى الله عز وجل، (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) كغيرهم من عباد الله فكيف يزعمون أنهم آلهة48.
وقال الطبري: «قوله: (ﯮ)، أي: بأفعالهم تلك»49.
والمقصود: أن من صفات هؤلاء المؤمنين أنهم يرجون رحمة الله تعالى على إيمانهم وهجرتهم وجهادهم.
فأثبت لهم الرجاء إشعارًا بأن العمل غير موجب، ولا قاطع في الدلالة، سيما والعبرة بالخواتيم50.
قال القاسمي: «وإنما ثبت لهم الرجاء دون الفوز بالمرجو للإيذان بأنهم عالمون بأنّ العمل غير موجب للأجر، وإنما هو على طريق التفضّل منه سبحانه، لا لأنّ في فوزهم اشتباهًا»51.
فوضع الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله موضع الرجاء من رحمة الله، ولم يعطهم الثواب والمغفرة والرضوان على القطع والتحقيق؛ وذلك ليقيمهم من هذا الرجاء على عمل دائم، وجهاد متصل، وهذا على خلاف ما إذا سوّى حسابهم بعد الهجرة، وبعد كل موقف من مواقف الجهاد، فقد يقعد بهم هذا عن أن يضيفوا جديدًا، أو يخفّوا للجهاد مرةً بعد مرة.
ثم إنه من جهة أخرى يرى الذين آمنوا -مجرد إيمان- ولم يهاجروا ولم يجاهدوا- يريهم شناعة موقفهم، ومغبّة تقصيرهم بتخلفهم عن ركب المهاجرين والمجاهدين، ويرفع لأعينهم بعد ما بينهم وبين مواقع رحمة الله ورضوانه؛ إذ يرون المهاجرين المجاهدين، ولمّا يلمسوا بأيديهم مواقع الرحمة والرضوان، وأنهم ما زالوا على رجاء! فكيف بالذين آمنوا ولم يهاجروا ولم يجاهدوا؟ إن المدى بعيد بينهم وبين أن يصلوا إلى جانب الأمن والسّلامة، وإن عليهم أن يحثّوا المطي إلى ميدان الهجرة والجهاد، ليلحقوا بركب المهاجرين المجاهدين، وليكونوا بمعرض من رحمة الله ورضوانه!52.
ورجاء المؤمن في رحمة الله لا يخيبه الله أبدًا، ولقد سمع أولئك النفر المخلص من المؤمنين المهاجرين هذا الوعد الحق، فجاهدوا وصبروا، حتى حقق الله لهم وعده بالنصر، أو الشهادة، وكلاهما خير، وكلاهما رحمة، وفازوا بمغفرة الله ورحمته53.
رابعًا:رجاء ثواب الله:
ومن أنواع الرجاء المذكورة في القرآن رجاء ثواب الله تعالى.
قال الله تعالى: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ) [النساء: ١٠٤].
فقوله: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ)، قال مقاتل: يعني: من الثواب والأجر54.
وقال البغوي: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ)، أي: وأنتم مع ذلك تأملون من الأجر والثواب في الآخرة، والنصر في الدنيا ما لا يرجون.
وقال بعض المفسرين: المراد بالرجاء الخوف؛ لأن كل راج خائف أن لا يدركه مأموله، ومعنى الآية: وترجون من الله، أي: تخافون من الله، أي: تخافون من عذاب الله ما لا يخافون، قال الفراء رحمه الله: ولا يكون الرجاء بمعنى الخوف إلا مع الجدّ، كقوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ) [الجاثية: ١٤]، أي: لا يخافون، وقال الله تعالى: (ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ) [نوح: ١٣].
أي: لا تخافون لله عظمةً، ولا يجوز رجوتك بمعنى: خفتك، ولا خفتك وأنت تريد رجوتك55.
قال في البحر: «(ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ)، هذه تسلية منه تعالى للمؤمنين، والتأسي فيه أعظم مسلاة»56.
ولفظ الثواب لا يستعمل في الأغلب إلا في الخير، ويجوز أيضًا استعماله في الشر؛ لأنه مأخوذ من قولهم: ثاب إليه عقله، أي: رجع إليه، قال الله تعالى: (ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) [البقرة: ١٢٥].
وأصل الثواب كل ما يعود إلى الفاعل من جزاء فعله، سواءً كان خيرًا أو شرًا، إلا أنه بحسب العرف اختص لفظ الثواب بالخير، فإن حملنا لفظ الثواب ها هنا على أصل اللغة استقام الكلام، وإن حملناه على مقتضى العرف كان ذلك واردًا على سبيل التهكم، كما يقال: تحيتك الضرب، وعتابك السيف، أي: جعل الغم مكان ما يرجون من الثواب، قال الله تعالى: (ﮋ ﮌ ﮍ) [التوبة: ٣٤] 57.
وفى جعل رجاء المؤمنين من الله في قوله تعالى: (ﯚ ﯛ ﯜ) إشعار للمؤمنين بأنهم في جانب الله تعالى، وأن رجاءهم عنده، وهو يجيب رجاء المؤمن ودعاءه، ويؤيده بنصره: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [آل عمران: ١٢٦].
وليس للمشركين من يرجون إلا أن يكون أصنامًا لا تضر ولا تنفع!
وإذا كان الرجاء من الله فهو رجاء من العليم بكل شيء، الحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها، وينصر من ينصره بحكمته؛ ولذا قال سبحانه: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ)، أي: ثبت وتقرر أن العلم والحكمة من أسماء الله تعالى الحسنى58.
وفي الآية رد على من يقول: لا يصح أن يعبد الله رجاء الثواب، فإن هذه عبادة التجار، وإنما يعبد الله لذاته حبًا فيه.
قال القاسمي: «وتدل على أن للمجاهد أن يجاهد لطلب الثواب؛ لقوله: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ)، فجعل هذا سببًا باعثًا على الجهاد، هذا معنى كلام الحاكم، ونظير هذا: لو صلى لطلب الثواب أو السلامة من العقاب، وقد ذكر في ذلك خلاف، فعن الراضي بالله: يجزي ذلك، وقواه الفقيه يحيى بن أحمد، وعن أبي مضر: لا يجزي؛ لأنه لم ينو الوجه الذي شرع الواجب له»59.
ونظير الآيتين السابقتين قوله تعالى: (ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ) [فاطر: ٢٩].
قال السمعاني: «قوله تعالى: (ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ)، أي: لن تهلك، ولن تفسد، والمراد من التجارة: ما وعده الله من الثواب»60.
وقال يحيى بن سلام في تفسيره: «قوله: (ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ)، أي: لن تفسد، وهي تجارة الجنة، يعملون للجنة، ولهذا قال: (ﯻ ﯼ)، ثوابهم في الجنة، (ﯽ ﯾ ﯿ) [فاطر: ٣٠]، أي: يضاعف لهم الثواب، قال الحسن: تضاعف لهم الحسنات، يثابون عليها في الجنة»61.
فهؤلاء الذين يكثرون من قراءة القرآن الكريم، ويؤدون ما أوجبه الله تعالى عليهم، يرجون من الله تعالى الثواب الجزيل، والربح الدائم؛ لأنهم جمعوا في طاعتهم له تعالى بين الإكثار من ذكره، وبين العبادات البدنية والمالية.
قال الرازي: «وقوله تعالى: (ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ) إشارة إلى الإخلاص، أي: ينفقون لا ليقال: إنه كريم، ولا لشيء من الأشياء، غير وجه الله، فإن غير الله بائر، والتاجر فيه تجارته بائرة62.
ثم قال الله تعالى: (ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ) ذكر ما يوجب الخوف والرجاء، فكونه عزيزًا ذا انتقام يوجب الخوف التام، وكونه غفورًا لما دون ذلك يوجب الرجاء البالغ»63.
والمقصود: أن المؤمنين يرجون بأعمالهم وعباداتهم ثواب الله، وأجره في الآخرة.
خامسًا:رجاء نصر الله وتأييده:
ومما يدل على ذلك قوله تعالى في الآية السابقة: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ) [النساء: ١٠٤].
فالرجاء هنا كما يحمل على رجاء الثواب والأجر، يحمل أيضًا على رجاء النصر والظفر من العدو، قال الخازن: «يعني وتأملون من الله من الثواب في الآخرة ما لا يرجون، وقيل: ترجون النصر والظفر في الدنيا، وإظهار دينكم على الأديان كلها»64.
وقال المراغي: «(ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ) من ظهور دينكم الحق على سائر الأديان الباطلة»65.
سادسًا:رجاء أيام الله:
ومن أنواع الرجاء المذكورة في القرآن رجاء أيام الله.
قال الله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [الجاثية: ١٤].
قال مقاتل بن سليمان: «(ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ)، يعني: لا يخشون عقوبات الله، مثل عذاب الأمم الخالية»66.
وقال السعدي: «الذين لا يرجون أيام الله أي: لا يرجون ثوابه، ولا يخافون وقائعه في العاصين، فإنه تعالى سيجزي كل قوم بما كانوا يكسبون، فأنتم يا معشر المؤمنين يجزيكم على إيمانكم وصفحكم وصبركم، ثوابًا جزيلًا، وهم إن استمروا على تكذيبهم فلا يحل بكم ما حل بهم من العذاب الشديد والخزي»67.
والذين لا يرجون أيام الله يراد بهم المشركون من أهل مكة، والرجاء: ترقب وتطلب الأمر المحبوب، وهذا أشهر إطلاقاته، وهو الظاهر في هذه الآية.
والأيام: جمع يوم، وهذا الجمع أو مفرده إذا أضيف إلى اسم أحد أو قوم أو قبيلة كان المراد به اليوم الذي حصل فيه لمن أضيف هو إليه نصر وغلب على معاند أو مقاتل، ومنه أطلق على أيام القتال المشهورة بين قبائل العرب: أيام العرب، أي: التي كان فيها قتال بين قبائل منهم، فانتصر بعضهم على بعض، كما يقال: أيام عبس، وأيام داحس والغبراء، وأيام البسوس، فإذا قالوا: أيام بني فلان، أرادوا الأيام التي انتصر فيها من أضيفت الأيام إلى اسمه، ويقولون: أيام بني فلان على بني فلان، فيريدون أن المجرور بحرف الاستعلاء مغلوب لتضمن لفظ أيام أو (يوم) معنى الانتصار والغلب، وبذلك التضمن كان المجرور متعلقًا بلفظ أيام أو (يوم)، وإن كان جامدًا فمعنى أيام الله على هذا هو من قبيل قولهم: أيام بني فلان، فيحصل من محمل الرجاء على ظاهر استعماله.
ومحمل أيام الله على محمل أمثاله أن معنى الآية للذين لا تترقب نفوسهم أيام نصر الله، أي: نصر الله لهم: إما لأنهم لا يتوكلون على الله، ولا يستنصرونه، بل توجههم إلى الأصنام، وإما لأنهم لا يخطر ببالهم إلا أنهم منصورون بحولهم وقوتهم فلا يخطر ببالهم سؤال نصر الله، أو رجاؤه، وهم معروفون بهذه الصلة بين المسلمين، فلذلك أجريت عليهم هنا وعرفوا بها، وأوثر تعريفهم بهذه الصلة ليكون في ذلك تعريض بأن الله ينصر الذين يرجون أيام نصره وهم المؤمنون، والغرض من هذا التعريض: الإيماء بالموصول إلى وجه أمر المؤمنين أن يغفروا للمشركين، ويصفحوا عن أذى المشركين، ولا يتكلفوا الانتصار لأنفسهم لأن الله ضمن لهم النصر.
وقد يطلق أيام الله في القرآن على الأيام التي حصل فيها فضله ونعمته على قوم، وهو أحد تفسيرين؛ لقوله تعالى: (ﯘ ﯙ ﯚ) [إبراهيم: ٥].
ومعنى لا يرجون أيام الله على هذا التأويل: أنهم في شغل عن ترقب نعم الله بما هم فيه من إسناد فعل الخير إلى أصنامهم بانكبابهم على عبادة الأصنام دون عبادة الله، ويأتي في هذا الوجه من التعريض والتحريض مثل ما ذكر في الوجه الأول؛ لأن المؤمنين هم الذين يرجون نعمة الله، وفسر به قوله تعالى: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ) [الفرقان: ٢١].
وقوله: (ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ) [نوح: ١٣].
فيكون المراد بـ(ﯙ ﯚ) أيام جزائه في الآخرة؛ لأنها أيام ظهور حكمه وعزته، فهي تقارب الأيام بالمعنى الأول، ومنه قوله تعالى: (ﮇ ﮈ ﮉ) [النبأ: ٣٩]، أي: ذلك يوم النصر الذي يحق أن يطلق عليه (يوم)، فيكون معنى هذه الآية: أنهم لا يخافون تمكن الله من عقابهم لأنهم لا يؤمنون بالبعث.
ومعنى الآية68: أن المؤمنين أمروا بالعفو عن أذى المشركين، وقد تكرر ذلك في القرآن قال الله تعالى: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) [آل عمران: ١٨٦].
وفي صحيح البخاري عن أسامة بن زيد في هذه الآية: وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى69.
أخبر الله تعالى عن الكفار أنهم لا يرجون الله، ولا يرجون اليوم الآخر، ولا يرجون ثوابًا ولا حسابًا، قال الله تعالى: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ) [النبأ: ٢٧].
وهذا شأنهم في الحياة الدنيا؛ ولهذا لم يعملوا ليوم القيامة، ولم يوقروا الله، وأهملوا العمل للآخرة.
قال ابن الجوزي: «(ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ)، فيه قولان:
أحدهما: لا يخافون أن يحاسبوا؛ لأنهم لا يؤمنون بالبعث، قاله الجمهور.
والثاني: لا يرجون ثواب حساب؛ لأنهم لا يؤمنون بالبعث، قاله الزجاج»70.
واختار السمعاني الأول حيث قال: «قوله تعالى: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ)، أي: لا يخافون، وقد بينا الرجاء بمعنى الخوف فيما سبق»71.
وقال مقاتل: «يعني: أنهم كانوا لا يخافون من العذاب أن يحاسبوا بأعمالهم الخبيثة إذا عملوها»72.
وقال ابن زيد في قوله: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ)، قال: «لا يؤمنون بالبعث ولا بالحساب، وكيف يرجو الحساب من لا يوقن أنه يحيا، ولا يوقن بالبعث»73.
فإن قيل: الحساب شيء شاق على الإنسان، والشيء الشاق لا يقال فيه: إنه يرجى، بل يجب أن يقال: إنهم كانوا لا يخشون حسابًا.
والجواب: من وجوه:
أحدها: قال مقاتل وكثير من المفسرين قوله: (ﯦ ﯧ)، معناه: لا يخافون، ونظيره قولهم في تفسير قوله تعالى: (ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ) [نوح: ١٣].
وثانيها: أن المؤمن لا بد وأن يرجو رحمة الله؛ لأنه قاطع بأن ثواب إيمانه زائد على عقاب جميع المعاصي سوى الكفر، فقوله: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ)، إشارة إلى أنهم ما كانوا مؤمنين.
وثالثها: أن الرجاء ها هنا بمعنى التوقع؛ لأن الراجي للشيء متوقع له، إلا أن أشرف أقسام التوقع هو الرجاء، فسمي الجنس باسم أشرف أنواعه.
ورابعها: أن في هذه الآية تنبيهًا على أن الحساب مع الله جانب الرجاء فيه أغلب من جانب الخوف؛ وذلك لأن للعبد حقًا على الله تعالى بحكم الوعد في جانب الثواب، ولله تعالى حق على العبد في جانب العقاب، والكريم قد يسقط حق نفسه، ولا يسقط ما كان حقًّا لغيره عليه، فلا جرم كان جانب الرجاء أقوى في الحساب؛ فلهذا السبب ذكر الرجاء، ولم يذكر الخوف74.
والمقصود: أن الله تعالى أخبر عن الكفار في عدة آيات أنهم لا يرجون لقاءه، قال الله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) [يونس: ٧].
قال السعدي: «أي: لا يطمعون بلقاء الله، الذي هو أكبر ما طمع فيه الطامعون، وأعلى ما أمله المؤملون، بل أعرضوا عن ذلك، وربما كذبوا به (ﭖ ﭗ ﭘ) بدلًا عن الآخرة»75.
وقال الله في آية أخرى: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ) [الفرقان: ٢١]، فلماذا لا يرجون لقاء الله؟ لأن الذي يرجو لقاء الله هو من أعد نفسه لهذا اللقاء؛ ليستقبل ثواب الله، لكن الذي لم يفعل أشياء تؤهله إلى ثواب الله، وعمل أشياء تؤهله إلى عقاب الله فكيف له أن يرجو لقاء الله؟ إنه لا يرجو ذلك.
وعلى سبيل المثال: إن الرجل الذي يستشهد، ويقدم نفسه للشهادة، ونفسه هي أعز شيء عنده، إنما يفعل ذلك لوثوقه بأن ما يستقبله بالاستشهاد خير مما يتركه من الحياة 76.
ونظير الآيتين السابقتين قوله تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ) [يونس: ١١].
وقوله: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) [يونس: ١٥].
قال الرازي: «إنّ وصفهم بأنهم لا يرجون لقاء الله أريد به كونهم مكذبين بالحشر والنشر، منكرين للبعث والقيامة، ثم في تقرير حسن هذه الاستعارة وجوه:
الأول: قال الأصم: لا يرجون لقاءنا، أي: لا يرجون في لقائنا خيرًا على طاعة، فهم من السيئات أبعد أن يخافوها.
الثاني: قال القاضي: الرجاء لا يستعمل إلا في المنافع؛ لكنه قد يدل على المضار من بعض الوجوه؛ لأن من لا يرجو لقاء ما وعد ربه من الثواب، وهو القصد بالتكليف لا يخاف أيضًا ما يوعده به من العقاب، فصار ذلك كناية عن جحدهم للبعث والنشور.
واعلم أن كلام القاضي قريب من كلام الأصم، إلا أن البيان التام أن يقال: كل من كان مؤمنًا بالبعث والنشور فإنه لا بد وأن يكون راجيًا ثواب الله، وخائفًا من عقابه، وعدم اللازم يدل على عدم الملزوم، فلزم من نفي الرجاء نفي الإيمان بالبعث، فهذا هو الوجه في حسن هذه الاستعارة»77.
والمقصود: أن الكفار لا يرجون لقاء الله تعالى، ولا الدار الآخرة؛ ولهذا ركنوا إلى الدنيا، وأهملوا الآخرة؛ ولهذا أخبر عنهم الله أنهم رضوا بالحياة الدنيا، واطمأنوا بها.
ومعنى: رضوا بالحياة الدنيا أنهم لم يعملوا النظر في حياة أخرى أرقى وأبقى، لأن الرضا بالحياة الدنيا والاقتناع بأنها كافية يصرف النظر عن أدلة الحياة الآخرة، وأهل الهدى يرون الحياة الدنيا حياة ناقصة، فيشعرون بتطلب حياة تكون أصفى من أكدارها، فلا يلبثون أن تطلع لهم أدلة وجودها، وناهيك بإخبار الصادق بها، ونصب الأدلة على تعين حصولها، فلهذا جعل الرضا بالحياة الدنيا مذمةً، وملقيًا في مهواة الخسران.
وفي الآية إشارة إلى أن البهجة بالحياة الدنيا والرضا بها يكون مقدار التوغل فيهما بمقدار ما يصرف عن الاستعداد إلى الحياة الآخرة، وليس ذلك بمقتضى الإعراض عن الحياة الدنيا، فإن الله أنعم على عباده بنعم كثيرة فيها وجب الاعتراف بفضله بها، وشكره عليها، والتعرف بها إلى مراتب أعلى هي مراتب حياة أخرى، والتزود لها، وفي ذلك مقامات ودرجات بمقدار ما تهيأت له النفوس العالية من لذات الكمالات الروحية78.
أساليب القرآن في الحديث عن الرجاء
تتنوع أساليب القرآن الكريم في الحث على الشيء المرغوب فيه، فتارةً بالأمر الصريح به، وتارةً بالنهي عن ضده، وتارةً بذكر ثوابه، ونجد هذا التنوع في الأسلوب في الحث على الرجاء، حيث جاء في القرآن على النحو الآتي:
أولًا: الأمر به:
من وسائل القرآن الكريم في الحث على الشيء الأمر به؛ إذ لا يأمر الله تعالى إلا بالأمر المحبوب إليه، المطلوب من العباد فعله؛ لحسنه عقلًا وشرعًا، وقد جاء الأمر بالرجاء في قوله تعالى: (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ) [العنكبوت: ٣٦].
وهذا الأمر أقل أحواله الندب، وإن كان الأولى به ها هنا الوجوب؛ وبخاصة أنه اقترن بأمر أعظم، وهو عبادة الله تعالى، فقد أمر شعيب عليه السلام قومه بأمرين، هما: (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ) [العنكبوت: ٣٦] ونهي واحد وهو: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ) [العنكبوت: ٣٦].
ومعناه كما قال السمعاني: «أي: واخشوا اليوم الآخر، وقيل: الرجاء ها هنا على حقيقته، وهو الأمل»79.
وقال مقاتل: «يعني: واخشوا البعث الذي فيه جزاء الأعمال»80.
وقال أبو حيان: «والأمر بالرجاء أمر بفعل ما يترتب الرجاء عليه، أقام المسبب مقام السبب.
والمعنى: وافعلوا ما ترجون به الثواب من الله، أو يكون أمرًا بالرجاء على تقدير تحصيل شرطه، وهو الإيمان بالله، وقال أبو عبيدة: (ﮫ)، أي: خافوا جزاء اليوم الآخر من انتقام الله منكم إن لم تعبدوه، وتضمن الأمر بالعبادة والرجاء أنه إن لم يفعلوا ذلك وقع بهم العذاب؛ كذلك جاء: (ﯕ) وجاءت ثمرة التكذيب، وهي: (ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ)»81.
أو أنهم: أمروا بالرجاء، والمراد اشتراط ما يسوّغه من الإيمان؛ كما يؤمر الكافر بالشرعيات على إرادة الشرط82.
وقال أبو السعود: «أي: توقّعوه وما سيقع فيه من فنون الأهوال، وافعلوا اليوم من الأعمال ما تأمنون غائلته»83.
وإنما قال شعيب بلفظ الرجاء؛ لأن عبادة الله يرجى منها الخير في الدارين84.
وهذا موافق لما جاء في الحديث الشريف في قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ، ذكرته في ملإ خير منهم، وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إلي ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولةً)85.
فالظن الحسن بالله يعني: الرجاء.
قال ابن الجوزي في التعليق على هذا الحديث: «اعلم أن صدق رجاء المؤمن لفضل الله عز وجل وجوده يوجب حسن الظن به، وليس حسن الظن به ما يعتقده الجهال من الرجاء مع الإصرار على المعاصي»86.
وقال النووي: «قال العلماء: معنى حسن الظن بالله تعالى أن يظن أنه يرحمه ويعفو عنه، قالوا: وفي حالة الصحة يكون خائفًا راجيًا، ويكونان سواءً، وقيل: يكون الخوف أرجح، فإذا دنت أمارات الموت غلب الرجاء أو محضه؛ لأن مقصود الخوف الانكفاف عن المعاصي والقبائح، والحرص على الإكثار من الطاعات والأعمال، وقد تعذر ذلك أو معظمه في هذا الحال، فاستحب إحسان الظن المتضمن للافتقار إلى الله تعالى، والإذعان له»87.
والمقصود: أن من أساليب القرآن في الحث على الرجاء الأمر به، كما في قوله: (ﮫ ﮬ ﮭ)، وهذا الأسلوب من أقوى أساليب الحث على الشيء، إذ هو أمر صريح به.
ثانيًا: الثناء على فاعله:
ومن وسائل القرآن الكريم في الحث على الشيء الثناء على فاعله، والقائم به، وقد حث الله تعالى في القرآن الكريم على أهل الرجاء، الراجين للقاء الله، وحسن ثوابه.
قال الله تعالى: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) [البقرة: ٢١٨].
فعن قتادة قال: «أثنى الله على أصحاب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أحسن الثناء، فقال: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) [البقرة: ٢١٨].
هؤلاء خيار هذه الأمة، ثم جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون، وأنه من رجا طلب، ومن خاف هرب»88.
وقال ابن عثيمين: «والرجاء: الطمع في حصول ما هو قريب، ومعلوم أن الطمع بما هو قريب لا يكون قريبًا إلا بفعل ما يكون قريبًا به، وهؤلاء فعلوا ما تكون الرحمة قريبة منهم، والذي فعلوه: الإيمان والهجرة والجهاد، فإذا لم يرج هؤلاء رحمة الله فمن الذي يرجوها؟ فهؤلاء هم أهل الرجاء، فالرجاء لا بد له من أسباب، وحسن الظن لا بد له من أسباب»89.
والمقصود: أنه مدح أهل الرجاء، مما يدل على فضل الرجاء، والحث عليه، فقال: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ)، وكرر الموصول لتعظيم الهجرة والجهاد، كأنهما مستقلان في تحقيق الرجاء، (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) أثبت لهم الرجاء إشعارًا بأن العمل غير موجب، ولا قاطع في الدلالة، سيما والعبرة بالخواتيم، (ﯞ ﯟ) لما فعلوا خطأً، وقلة احتياط (ﯠ) بإجزال الأجر والثواب90.
ومما يدل على مدح أهل الرجاء قوله تعالى: (ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) [الإسراء: ٥٧].
فهؤلاء جمعوا بين رجاء رحمته، ومخافة عذابه، وهذا هو الرجاء المحمود الذي يكون مع العمل، وبذل الأسباب.
ثالثًا:ذم تاركه:
ومن وسائل القرآن الكريم في الحث على الشيء ذم تاركه؛ فقد ذم القرآن الكريم الذين لا يرجون الحساب، قال الله تعالى: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ) [النبأ: ٢٧].
وهذا خبر عن أصحاب النار بأن من صفاتهم أنهم كانوا في الدنيا لا يرجون الحساب.
ونظير الآية السابقة قوله تعالى: (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) [الفرقان: ٤٠].
قال في الكشاف: «(ﮨ ﮩ) قومًا كفرةً بالبعث، لا يتوقعون (ﮬ) وعاقبةً، فوضع الرجاء موضع التوقع؛ لأنه إنما يتوقع العاقبة من يؤمن، فمن ثم لم ينظروا ولم يذكروا، ومرّوا بها كما مرّت ركابهم، أو لا يأملون نشورًا كما يأمله المؤمنون لطمعهم في الوصول إلى ثواب أعمالهم، أو لا يخافون، على اللغة التهامية»91.
رابعًا:النهي عن ضده:
ومن وسائل القرآن الكريم في الحث على الشيء النهي عن ضده، فقد نهى الله تعالى في القرآن الكريم عن اليأس والقنوط، الذين هما نقيض الرجاء والأمل، قال الله تعالى: (ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) [يوسف: ٨٧].
وقال الله تعالى: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ) [الزمر: ٥٣].
والقاعدة: أن النهي عن الشيء أمر بضده92.
و(ﭚ ﭛ) المراد به: رحمته وفرجه، وتيسيره ولطفه في جمع الشتات، وتيسير المراد، ثم علل هذا النهي بقوله: (ﭝ ﭞ ﭟ)، أي: لا يقنط (ﭙ ﭚ ﭛ)، أي: الذي له جميع صفات الجلال والإكرام (ﭣ ﭤ ﭥ)، عياذًا بالله من سلوك سبيلهم، ومشابهة أحوالهم.
والمقصود: أن في قوله: (ﭗ ﭘ)، وقوله: (ﮪﮫ)، نهيين عن القنوط واليأس، يقتضيان الأمر بضدهما، وهو الرجاء والأمل.
خامسًا:اقتران الرجاء بالخوف:
ومن وسائل القرآن الكريم في الحث على الشيء، والترغيب فيه، والدعوة إليه، قرنه بشيء مأمور به، ومرغب فيه، وعطفه عليه.
ومن هذا قرن الرجاء بالخوف الذي هو مطلوب، ومأمور به، قال الله تعالى: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) [الإسراء: ٥٧].
وهذا في سياق مدح عباد الله الصالحين أنهم جمعوا بين رجاء ما عند الله من الثواب، والخوف من العذاب، فلما قرن بين هاتين الصفتين دل على الحث عليهما، والدعوة إليهما، بحيث يكون حال العبد بين الخوف والرجاء، الخوف من عقاب الله وانتقامه، ورجاء عفوه ورحمته وفضله.
ونظير هذا قوله تعالى: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) [الزمر: ٩].
فالحذر هو الخوف.
ونظيره أيضًا قوله تعالى: (ﯫ ﯬ ﯭ) [الأنبياء: ٩٠].
فالرغبة في الدعاء والرهبة كلاهما مطلوب، بدلالة الجمع بينهما في سياق المدح.
سادسًا:الاستفهام:
ومن وسائل القرآن الكريم في الحث على الشيء المحبوب إلى الله، والترغيب فيه، والدعوة إليه، الإنكار على عدم فعله، والاستفهام والتعجب من تركه.
كما قال الله تعالى: (ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ) [نوح: ١٣].
فقوله: (ﭠ ﭡ) استفهام وتعجب، والمعنى: كيف لا ترجون لله وقارًا وهو خالقكم ورازقكم، ومحييكم ومميتكم، وإليه معادكم؟
فلماذا لا ترجونه وتعظمونه وتوقرونه، وقد دل العقل والشرع على استحقاقه التوقير والتعظيم، لما له من عظمة وكبرياء، ولما له من فضل وإنعام.
فهذا الاستفهام والإنكار عليهم تركهم للرجاء، يدل على الحث عليه، والأمر به؛ إذ لا ينكر الله عليهم إلا ترك ما ينبغي عليهم فعله، والقيام به.
ونظير ذلك قوله تعالى: (ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) [الانشقاق: ٢٠].
وقوله: (ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ) [النساء: ٧٨].
قال السعدي: «أي: لا يفهمون حديثًا بالكلية، ولا يقربون من فهمه، أو لا يفهمون منه إلا فهمًا ضعيفًا، وعلى كل فهو ذم لهم وتوبيخ على عدم فهمهم وفقههم عن الله وعن رسوله، وذلك بسبب كفرهم وإعراضهم.
وفي ضمن ذلك مدح من يفهم عن الله وعن رسوله، والحث على ذلك، وعلى الأسباب المعينة على ذلك، من الإقبال على كلامهما وتدبره، وسلوك الطرق الموصلة إليه، فلو فقهوا عن الله لعلموا أن الخير والشر، والحسنات والسيئات، كلها بقضاء الله وقدره، لا يخرج منها شيء عن ذلك، وأن الرسل عليهم الصلاة والسلام لا يكونون سببًا لشر يحدث، هم ولا ما جاءوا به، لأنهم بعثوا بصلاح الدنيا والآخرة والدين»93.
ذكر الله تعالى في القرآن الكريم بعض الوسائل لتحقيق المرجو، منها:
أولًا: العمل الصالح:
من وسائل تحقيق المرجو العمل الصالح، قال الله تعالى: (ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ) [الكهف: ١١٠].
فمن كان يرجو لقاء الله وثوابه ورضوانه وجنته فليعمل، ولا يكتفي بالرجاء المجرد عن العمل، فإن الرجاء الخالي عن العمل عجز وضعف، وأمانٍ باطلة، ولهذا جاء في حديث شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله)94.
ولهذا قال الله تعالى: (ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ) [الكهف: ١١٠].
وهذا شرط، ولا يتحقق الشرط إلا بوجود المشروط.
وشرط العمل أن يكون صالحًا، لا أي عمل، والعمل الصالح هو العمل الموافق لشرع الله، من واجب ومستحب، وقد وضع العلماء له شرطين:
فالعمل الصالح شامل لأفعال الخير كلها الظاهرة والباطنة، المتعلقة بحقوق الله، وحقوق عباده الواجبة والمستحبة.
والمقصود: أن من أعظم الوسائل التي يتوصل بها إلى تحقيق المرجو والمطلوب العمل الدؤوب للوصول للهدف المطلوب، وهذه قاعدة ثابتة ليست في أمور الآخرة فقط، بل هي حتى في أمور الدنيا، فمن رجا شيئًا سعى إليه، وجد في طلبه، وإلا فقد فرط في الطريق الصحيح للوصول إليه، فمن رجا ولدًا سعى في الزواج، ومن رجا زرعًا زرع وسقى وتعب وجد واجتهد، ومن رجا مالًا سعى في طلبه في العمل، وبذل الجهد.
وأعظم مرجو على الإطلاق هو الحصول على رضوان الله وجنته، ولهذا لا بد أن يكون السعي إليه وطلبه عظيم، لا تواني فيه، ولا تكاسل ولا تردد.
ثانيًا: ترك المناهي:
ومن وسائل الحصول على المرجو ترك المناهي، وأعظمها الشرك بالله تعالى، قال الله تعالى: (ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ) [الكهف: ١١٠].
وما يرجوه المؤمن هو دخول الجنة، ومعلوم أنها محرمةٌ على أهل الشرك، لهذا كان ترك الشرك من أعظم الوسائل لتحقيق المرجو الأخروي، وهو رضوان الله، ودخول جنته.
والشرك يشتمل الأكبر والأصغر، ويشمل قوله تعالى: (ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ) أيضًا ترك الرياء.
فيكون معنى: (ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ)، أي: لا يرائي بعمله، بل يعمله خالصًا لوجه الله تعالى، فهذا الذي جمع بين الإخلاص والمتابعة، هو الذي ينال ما يرجو ويطلب، وأما من عدا ذلك فإنه خاسر في دنياه وأخراه، وقد فاته القرب من مولاه، ونيل رضاه96.
وهكذا من يرجو النجاة من عقاب الله عليه أن يترك عموم المعاصي والسيئات، وإلا كان رجاؤه خائبًا، إذ كيف ينجو من العقاب وهو قد فعل كل الأعمال التي يستحق بها العبد عقاب الله وعذابه، قال الله تعالى: (ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ) [النازعات: ٤٠-٤١].
المقصود: أن من وسائل تحقيق المرجو -وأعظمه الفوز في الآخرة- اجتناب المعاصي، وأعظمها الشرك بالله الذي لا رجاء لمن أتى ربه مشركًا به غيره، قال الله تعالى: (ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ) [طه: ٧٤].
ثالثًا:الدعاء:
ومن وسائل تحقيق المرجو الدعاء، فالدعاء من أعظم الأسباب في حصول ما يرجوه الإنسان ويتمناه من الفوز في الدنيا والآخرة، وانظر إلى دعاء يعقوب عليه السلام لما كان قلبه معلقًا بابنه، وكان يرجو عودته إليه مرة أخرى، لم يفقد الأمل في ذلك، بل كان راجيًا من الله عودة ابنه إليه، ولهذا استعان على ذلك بالدعاء.
قال الله تعالى: (ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [يوسف: ٨٣].
الذي يعلم حاجته، وهذا دعاء، ورغبة إلى الله، ولجوء إليه، فبالدعاء تتحقق جميع المطلوبات والرغبات والرجاءات.
فحقق الله ما رجاءه من عودة ابنه إليه بعد طول السنين والأعوام، قال السعدي في قوله: (ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ) [يوسف: ٨٧]: فإن الرجاء يوجب للعبد السعي والاجتهاد فيما رجاه، والإياس: يوجب له التثاقل والتباطؤ، وأولى ما رجا العباد فضل الله وإحسانه ورحمته وروحه (ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) [يوسف: ٨٧].
فإنهم لكفرهم يستبعدون رحمته، ورحمته بعيدة منهم، فلا تتشبهوا بالكافرين، ودل هذا على أنه بحسب إيمان العبد يكون رجاؤه لرحمة الله وروحه97.
والمقصود: أن من أعظم وسائل الحصول على ما يرجوه العبد من خيرات الدنيا والآخرة الدعاء، ومما يبين ذلك قول أصحاب الجنة: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ) هذا رجاء (ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ) [القلم: ٣٢].
قال مقاتل بن سليمان: «في الدعاء إليه»98.
رابعًا:الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم:
ومن أعظم الوسائل التي يحقق المسلم بها ما يرجوه في الآخرة الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم، وإلا فأنى له تحقيق ما يرجو من الفوز والنجاة، وهو بعيدٌ عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وهديه.
قال الله تعالى: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [الأحزاب: ٢١].
ونظيرها قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) [الممتحنة: ٦].
إذ أنه لا طريق موصل إلى الله إلا عن طريقه صلى الله عليه وسلم فهو المبلغ عن الله بأقواله وأفعاله وهديه وخلقه، وكثيرٌ من الناس يظنون أنهم على خير، وأنهم سالكون الطريق المستقيم، الموصل إلى الله، والدار الآخرة، وهم بعيدون عن سنة رسول الله، بل محاربون لها، مبغضون لأهلها، مبتدعون طرقًا غيرها، ثم يرجون ويتمنون الأماني، فأنى لهم الرجاء؟ وكيف لهم النجاة؟ وهم ما عرفوا هديه ولا استقاموا على شريعته، وما استضاءوا بنوره!
ولهذا قال الله تعالى: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) [الأحزاب: ٢١].
فمن كان يرجو لقاء الله والدار الآخرة فليقتد بالرسول صلى الله عليه وسلم في أفعاله وأقواله، هذا هو الطريق الصحيح الموصل إلى ما يرجوه المسلم.
الرجاء عبادة قلبية عظيمة؛ لها آثار جليلة، وفوائد كبيرة، وثمار عديدة، تعود على العبد في حياته، وبعد مماته، ومن هذه الثمار والآثار:
أولًا: زيادة الإيمان:
من آثار الرجاء زيادة الإيمان، قال الله تعالى: (ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) [الإسراء: ٥٧].
(ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ)، أي: يتنافسون في القرب من ربهم، ويبذلون ما يقدرون عليه من الأعمال الصالحة، المقربة إلى الله تعالى، وإلى رحمته، ويخافون عذابه، فيجتنبون كل ما يوصل إلى العذاب، (ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ)، أي: هو الذي ينبغي شدة الحذر منه، والتوقي من أسبابه.
وهذه الأمور الثلاثة الخوف والرجاء والمحبة التي وصف الله بها هؤلاء المقربين عنده، هي الأصل والمادة في كل خير، فمن تمت له تمت له أموره، وإذا خلا القلب منها ترحلت عنه الخيرات، وأحاطت به الشرور.
وعلامة المحبة ما ذكره الله: أن يجتهد العبد في كل عمل يقربه إلى الله، وينافس في قربه بإخلاص الأعمال كلها لله، والنصح فيها، وإيقاعها على أكمل الوجوه المقدور عليها، فمن زعم أنه يحب الله بغير ذلك فهو كاذب99.
والمقصود: أن الرجاء عمل قلبي، وعبادة عظيمة، وقد مدح الله صاحبه بقوله: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [الزمر: ٩].
فاثبت للراجي العلم، والعلم سبب في زيادة الإيمان، والعلماء هم أكثر الناس خشيةً لربهم سبحانه وتعالى، وإيمانًا به، قال الله تعالى: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ) [فاطر: ٢٨].
وقال السعدي: «هذه مقابلة بين العامل بطاعة الله وغيره، وبين العالم والجاهل، فليس المعرض عن طاعة ربه، المتبع لهواه، كمن هو قانت، أي: مطيع لله بأفضل العبادات، وهي الصلاة، وأفضل الأوقات وهو أوقات الليل، فوصفه بكثرة العمل وأفضله، ثم وصفه بالخوف والرجاء، وذكر أن متعلق الخوف عذاب الآخرة، على ما سلف من الذنوب، وأن متعلق الرجاء رحمة الله، فوصفه بالعمل الظاهر والباطن»100.
ثانيًا: الحث على العمل:
ومن آثار الرجاء الحث على العمل، قال الله تعالى: (ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ) [الكهف: ١١٠].
فمن ثمار الرجاء أنه يحث على العمل والبذل من أجل تحقيق المرجو، سواءً كان مما يتعلق بأمور الدنيا، أو بأمور الآخرة، فمن رجا شيئًا سعى إليه، وبذل كل ما في وسعه للوصول إليه.
وانظر في قصة نبي الله يعقوب عليه السلام لما كان يرجو عودة ابنه يوسف عليه السلام كيف أمر أولاده بالسعي والبحث والتحسس من يوسف، ولم ييأس، بل قال لهم: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ) [يوسف: ٨٧].
والمقصود: أن الرجاء أعظم حادٍ يحدو إلى العمل، ويدفع إلى البذل، فليس الراجي كاليائس، فلو يأس يعقوب عليه السلام لما أمرهم بالذهاب ولا البحث ولا التحسس.
وهكذا في أمور الآخرة، فإن الرجاء في الحصول عليها يحدو إلى العمل، بل هي أشد من أمور الدنيا، ففي الدنيا ربما يحصل الإنسان على ما يرجو بغير عمل، بالوساطة مثلًا، أو بالرشوة، أو بالاحتيال، أما الرجاء فيما عند الله في الآخرة من الفضل والرضوان والرحمة والعفو، فإنه لا يكون إلا بالعمل والبذل والطاعة؛ ولهذا قال الله تعالى: (ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ) [الكهف: ١١٠].
فالعمل الصالح يعد وسيلةً لتحقيق الرجاء، وثمرةً له في نفس الوقت، وسيلةً من حيث أنه لا رجاء مأمولًا إلا بالعمل والبذل والسعي له، وثمرةً من ثمار الرجاء من حيث أن الرجاء دافع وحادي يحدو إلى العمل.
ثالثًا:الصبر:
ومن آثار الرجاء الصبر، فالراجون لما عند الله يوم القيامة من الأجر والثواب، هم أكثر الناس صبرًا؛ لما يصيبهم في الدنيا من اللأواء والبلاء والمصائب؛ ولهذا لما كان يعقوب يرجو من الله ثواب مصيبته، وعودة ابنه، قال: (ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [يوسف: ١٨].
والناظر في قصة يعقوب عليه السلام هذه يلحظ أنه بدأ بالبعيد زمنًا ورجاءً، الذي هو يوسف، الذي أكله الذئب -حسب زعمهم- من سنين طويلة، فرجاء عودة الميت مستبعدة، ثم ذكر القريب، وهو أخوه بنيامين، فقال: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ) [يوسف: ٨٧].
وهذا يدل على عظيم رجائه في عودته إليه، وعدم اليأس، فلم يفقد الأمل من عودة يوسف مع تعاقب السنين، ومرور الأعوام، وفي قضية ميؤوس منها، إنه الموت، ليس بعده عودة إلى الدنيا، وقد جاءوا على قميصه بدم كذب، فانتهت القضية، وانتهت معالمها، وغطاها غبار النسيان، إلا أنه لم ييأس، ولم يفقد الأمل.
فيا له من رجاء! ويا له من أمل! ما أوسعه! هكذا كان الأنبياء أوسع الناس رجاءً، وأوسعهم أملًا، وأبعدهم يأسًا وقنوطًا؛ ولهذا قال الله تعالى: (ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) [يوسف: ٨٧].
ولهذا جاء في سياق القصة قوله تعالى: (ﯪ ﯫ ﯬ) إلى أرض فلسطين، شم يعقوب ريح القميص، فقال: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ) [يوسف: ٩٤]، أي: تسخرون مني، وتزعمون أن هذا الكلام صدر مني من غير شعور؛ لأنه رأى منهم من التعجب من حاله ما أوجب له هذا القول.
فوقع ما ظنه بهم فقالوا: (ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ) [يوسف: ٩٥]، أي: لا تزال تائهًا في بحر الحب، لا تدري ما تقول، حيث كنت مترجيًا للقاء يوسف، مترقبًا لزوال الهم والغم والحزن101.
وانظر أيضًا إلى قصة أصحاب الجنة، كيف حداهم الرجاء بما عند الله أن صبروا على ما أصابهم من هلاك جنتهم، حيث قالوا: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ) [القلم: ٣٢].
راغبون في الأجر، راغبون في العوض، راغبون في العفو.
موضوعات ذات صلة: |
الإيمان، التقوى، الخشية، الخوف |
1 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٢/٤٩٤.
2 انظر: تهذيب اللغة، الأزهري ١١/١٢٤.
3 انظر: الصحاح، الجوهري ٦/٢٣٥٢.
4 المفردات، ص ٣٤٦.
5 الكليات ص ٤٦٨.
6 التعريفات ص ١٠٩.
7 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي ص٣٠٤.
8 انظر: الوجوه والنظائر، مقاتل بن سليمان ص١٧٧، نزهة الأعين النواظر، ابن الجوزي ص٣٠٨، الوجوه والنظائر، الدامغاني ص٢٢٧-٢٢٩.
9 انظر: فتح القدير، الشوكاني ١/٢٥١.
10 جامع البيان، الطبري ١٢/١٢١.
11 انظر: الأضداد، ابن الأنباري ص٩.
12 مقاييس اللغة، ابن فارس ١/١٤٠.
13 العين، الخليل بن أحمد ٨/٣٤٧.
14 مقاييس اللغة، ابن فارس ١/١٤٠.
15 التوقيف على مهمات التعاريف ص ٦٢.
16 المصدر السابق ص ١٧٤.
17 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٥/٢٧٦- ٢٧٧.
18 الكليات، الكفوي ص ٤٦٨.
19 انظر: التعريفات، الجرجاني ص ٦٦، التوقيف على مهمات التعاريف، المناوي ص ١٠٩.
20 الروح، ابن القيم ص ٢٤٥.
21 مقاييس اللغة، ابن فارس، ٢/٢٣٠.
22 الوجوه والنظائر، أبو هلال العسكري، ص ٢٠٣.
23 التوقيف على مهمات التعاريف، المناوي ص ١٦١.
24 الكليات ص ٤٦٨.
25 إرشاد العقل السليم، ٧/٣٠.
26 فتح القدير، الشوكاني ٤/٢٢٢.
27 فتح القدير، الشوكاني ٤/٢٢٢.
28 الجامع لأحكام القرآن، ١٣/٣٢٧.
29 تيسير الكريم الرحمن، ص ٦٢٦.
30 في ظلال القرآن، سيد قطب ٥/٢٥٥٨.
31 التحرير والتنوير ٢٠/٢٠٨.
32 مدارج السالكين ٢/٤٣.
33 المصدر السابق ٢/٥٤.
34 جامع البيان، الطبري ٢٠/٣٤.
35 إرشاد العقل السليم ٧/٣٩.
36 روح البيان، إسماعيل حقي ٦/٤٦٨.
37 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٠/٢٤٧.
38 في ظلال القرآن، سيد قطب ٥/٢٧٣٤.
39 تفسير ابن أبي حاتم ٢/٣٨٨.
40 أخرجه أحمد في مسنده، ١٨/٢٩٧، رقم ١١٧٧٤.
وحسنه الألباني في صحيح الجامع، ١/٤٩٨، رقم ٢٥٤٣.
41 انظر: زهرة التفاسير، أبو زهرة ٢/٦٩٤.
42 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، باب قوله تعالى: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ)، ٦/١٣٨، رقم ٤٨٥٠، ومسلم في صحيحه، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء، ٤/٢١٨٦، رقم ٢٨٤٦.
43 تفسير القرآن الكريم، ابن عثيمين، الفاتحة والبقرة ٣/٦٤.
44 انظر: تفسير مقاتل بن سليمان ١/١٨٧، تفسير ابن أبي حاتم ٢/٣٨٨.
45 أخرجه أحمد في مسنده، ٢٨/٣٥٠، رقم ١٧١٢٣، والترمذي في سننه، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع، ٤/٦٣٨، رقم ٢٤٥٩، وابن ماجه في سننه، كتاب الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له، ٢/١٤٢٣، رقم ٤٢٦٠.
وضعفه الألباني في ضعيف الجامع ص ٦٢٥، رقم ٤٣٠٥.
46 تفسير الراغب الأصفهاني ١/٤٤٩.
47 مفاتيح الغيب، الرازي ٦/٣٩٥.
48 مدارك التنزيل، النسفي ٢/٢٦٢-٢٦٣.
49 جامع البيان ١٤/٦٢٧.
50 أنوار التنزيل، البيضاوي ١/١٣٧.
51 محاسن التأويل ٢/١٠٩.
52 التفسير القرآني للقرآن، الخطيب ١/٢٤٢.
53 في ظلال القرآن، سيد قطب ١/٢٢٨.
54 تفسير مقاتل بن سليمان ١/٤٠٤.
55 معالم النزيل، البغوي ١/٦٩٨.
56 البحر المحيط، أبو حيان ٣/٣٥٣.
57 مفاتيح الغيب، الرازي ٩/٣٩٠.
58 زهرة التفاسير، أبو زهرة ٤/١٨٣٧.
59 محاسن التأويل ٣/٣١٨.
60 تفسير القرآن، السمعاني ٤/٣٥٧.
61 تفسير يحيى بن سلام ٢/٧٨٧.
62 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٦/٢٣٧.
63 المصدر السابق ٢٦/٢٣٦.
64 لباب التأويل، الخازن ١/٤٢٣.
65 تفسير المراغي ٥/١٤٥.
66 تفسير مقاتل بن سليمان ٣/٨٣٧.
67 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٧٧٦.
68 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٥/٣٤٠.
69 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، باب قوله تعالى: (ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والمشركين أذى كثيرًا)، ٦/٣٩، رقم ٤٥٦٦.
70 انظر: زاد المسير ٤/٣٩٠.
71 تفسير القرآن، السمعاني ٦/١٤٠.
72 تفسير مقاتل بن سليمان ٤/٥٦٣.
73 انظر: جامع البيان، الطبري ٢٤/١٦٨.
74 مفاتيح الغيب، الرازي ٣١/١٨.
75 تيسير الكريم الرحمن، ص ٣٥٨.
76 تفسير الشعراوي ٩/٥٧٤٩.
77 مفاتيح الغيب، ١٧/٢٢٤.
78 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١١/٩٩.
79 تفسير القرآن ٤/١٨٠.
80 تفسير مقاتل بن سليمان ٣/٣٨٢.
81 البحر المحيط، أبوحيان ٨/٣٥٦.
82 السراج المنير، الشربيني ٣/١٤٠.
83 إرشاد العقل السليم ٧/٣٩.
84 مراح لبيد، الجاوي ٢/٢١٧.
85 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: (ﯳ ﯴ ﯵ)، ٩/١٢١، رقم ٧٤٠٥، ومسلم في صحيحه، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب الحث على ذكر الله تعالى، ٤/٢٠٦١، رقم ٢٦٧٥.
86 كشف المشكل من حديث الصحيحين ٣/٣٢٣.
87 شرح النووي على صحيح مسلم ١٧/٢١٠.
88 جامع البيان، الطبري ٤/٣٢٠.
89 تفسير القرآن الكريم، ابن عثيمين، الفاتحة والبقرة ٣/٦٤.
90 أنوار التنزيل، البيضاوي ١/١٣٧.
91 الكشاف، الزمخشري ٣/٢٨١.
92 انظر: الفصول في الأصول، الجصاص ٢/١٠١.
93 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ١٨٩.
94 أخرجه أحمد في مسنده، ٢٨/٣٥٠، ١٧١٢٣، الترمذي في سننه، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع، ٤/٦٣٨، رقم ٢٤٥٩، وابن ماجه في سننه، كتاب الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له، ٢/١٤٢٣، رقم ٤٢٦٠.
قال الترمذي: هذا حديث حسن.
وضعفه الألباني في ضعيف الجامع ص ٦٢٥، رقم ٤٣٠٥.
95 تفسير التستري ص ١٧٢.
96 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٤٨٩.
97 المصدر السابق ص ٤٠٤.
98 تفسير مقاتل بن سليمان ٤/٤٠٧.
99 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٤٦١.
100 المصدر السابق ص ٧٢٠.
101 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٤٠٥.