عناصر الموضوع
الباطل
أولًا: المعنى اللغوي:
من المعلوم أن الباطل خلاف الحق وضده1، ويعني: ذهاب الشيء وزواله، وقلة مكثه في الوجود والواقع، قال ابن فارس: «(بطل) الباء والطاء واللام أصل واحد، وهو ذهاب الشيء وقلة مكثه ولبثه. يقال: بطل الشيء يبطل بطلًا وبطولًا. وسمي الشيطان: الباطل؛ لأنه لا حقيقة لأفعاله، وكل شيء منه فلا مرجوع له ولا معول عليه، والبطل الشجاع... لأنه يعرض نفسه للمتالف»2.
«وبطل الأجير بالفتح بطالةً، أي تعطل فهو بطال»3.
فالذي يربط تلك المعاني جميعها هو الزوال واللاقيمة؛ فالشيطان سرعان ما يزول شره، ويظهر وهنه، والبطل يزول بتعريض نفسه للخطر، والبطالة كذلك لا قيمة لصاحبها ولا أثر.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
الباطل هو: ما لا ثبات له، ولا خير فيه، سواء أكان اعتقادًا، أم فعلًا، أم كلامًا، أم غيره4.
وما يجمع هذه المصطلحات مع المعنى اللغوي هو الزوال والذهاب، فما كان غير صحيح فهو إلى ذهاب، وفي عرف الفقهاء: الباطل كأنه لم يكن، فهو زائل، حتى كلمة بطل التي تقال للشجاع فلأنه يعرض نفسه للموت، ودمه للهدر، أو لأنه يبطل دم من تعرض له أي يذهبه ويزيله.5
ومن ثم فإن الارتباط بين المعنيين - اللغوي والاصطلاحي - يعد ارتباطًا وثيقًا؛ يقوم على أن الباطل لا قيمة له، ولا دوام؛ فسرعان ما يتلاشى بلا أثر يذكر.
وردت مادة (بطل) في القرآن الكريم (٣٤)، مرة6.
والصيغ التي وردت هي:
الصيغة |
عدد المرات |
المثال |
الفعل الماضي |
١ |
(ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ) [الأعراف:١١٨] |
الفعل المضارع |
٤ |
(ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ) [الأنفال:٨] |
اسم فاعل |
٢٩ |
(ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ) [الإسراء:٨١] |
وجاء الباطل في الاستعمال القرآني على وجهين7:
الأول: بمعناه اللغوي، وهو ضد الحق، وما لا ثبات ولا صحة له، مثل: الشرك والكذب والظلم.
الثاني: الإحباط: ومنه قوله تعالى: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ) [البقرة:٢٦٤]. يعني: لا تحبطوا.
الضلال:
الضلال لغة:
مصدر (ضل)، والذي يعني الضياع والذهاب والغياب، وكل من زاغ عن المطلوب والقصد يسمى (ضالًا)، و(يَضَل ويَضِل) لغتان عند العرب8.
الضلال اصطلاحًا:
« كل عدول عن النهج عمدًا أو سهوًا قليلًا كان أو كثيرًا»9.
وهذا التعريف يشمل جميع المعاني، وهو أن الضلال خلاف الهدى، سواء كان في الاعتقاد أو في الأفعال، عامدًا الضلال أم جاهلًا؛ فالنتيجة واحدة وهو أنه ضال، ولذا فقد عرفه الراغب بقوله: «العدول عن الطريق المستقيم»10.
الصلة بين الباطل والضلال:
سبق القول: إن الضلال كل عدول عن النهج عمدًا أو سهوًا، قليلًا كان أو كثيرًا، وعلى هذا فهو صورة من صور الباطل، ونموذج من نماذجه؛ إذ إن ضلال المرء عن الطريق يبعده عن الوصول لمقصده أكثر فأكثر، وبالتالي لا يحقق المرء غايته أبدًا، وهكذا الباطل لا يرجى منه نفع ولا مقصود.
الحبوط:
الحبوط لغة:
يقول ابن فارس: «الحاء والباء والطاء أصل واحد يدل على بطلانٍ أو ألمٍ. يقال: أحبط الله عمل الكافر، أي أبطله... ومما يقرب من هذا الباب حبط الجلد، إذا كانت به جراحٌ فبرأت وبقيت بها آثار»11.
الحبوط اصطلاحًا:
فهو «إبطال عمل البر من الحسنات بالسيئات»12.
قال ابن الأثير: «(أحبط الله عمله) أي: أبطله. يقال: حبط عمله يحبط، وأحبطه غيره»13.
والملاحظ في الرابط بين المعنيين، أن الحبوط لغة انتفاخ في بطن الدابة، نتيجة لأكلها نباتًا يترك هذا الأثر، فيظن الناظر إلى الدابة أنها سمنة نافعة، غير أنه انتفاخ قاتل يسبب الألم والموت، وهكذا اصطلاحًا؛ حيث يظن الكافر أن عمله له قيمة وأجر، غير أنه لاقيمة له بسبب فساده وحبوطه.
الصلة بين الباطل والحبوط:
تظهر العلاقة بين الباطل والحبوط بشكل جلي؛ فالحبط : إبطال عمل البر من الحسنات بالسيئات، فالعمل أو القول الذي يكون باطلًا لا خير فيه، وكذلك العمل المحبط، لا نفع ولا أجر له، ويتحول هذا العمل بعد الحق إلى الباطل.
اللغو:
اللغو لغة:
اللغو هو: ما لا نفع ولا خير فيه، وقد يكون مضرًا، ثم اختلف أهل اللغة بين معممٍ له في الأقوال والأفعال14، وبين مخصص له في الأقوال دون غيرها15.
اللغو اصطلاحًا:
فقد عرفه الكفوي بأنه: «كل مطروح من الكلام لا يعتد به»16، وبما أنه مطروح ولا يعتد به، إذن فلا خير فيه ولا نفع.
الصلة بين الباطل واللغو:
لما أن كان اللغو يشمل كل مطروح من الكلام الذي لا يعتد به، فهو يشترك مع الباطل في عدم نفعه، وتضيع الوقت في الاشتغال فيه؛ إذن هو صورة من صور الباطل.
الحق:
الحق لغة:
هو نقيض الباطل وخلافه، وهو مصدر من حق الشيء إذا ثبت وكان واجبًا17، ولا يصح إنكاره، يقول ابن فارس: «يدل على إحكام الشيء وصحته»18.
الحق اصطلاحًا:
هو الحكم المطابق للواقع، في الأقوال والعقائد والأديان، ويقابله الباطل19.
الصلة بين الباطل والحق:
سبق القول إن الباطل هو: ما لا ثبات له، ولا خير فيه، سواء كان اعتقادًا أو فعلًا أو كلامًا أو غيره، وبالتالي فخلافه الحق الذي هو: الحكم المطابق للواقع، في الأقوال والعقائد والأديان؛ فالباطل زائل، وأما الحق فثابت راسخ.
ذكر القرآن الكريم كثيرًا من الأمور والشخصيات، وأثبت بطلان بعضها، ونفى البطلان عن البعض الآخر، وذلك بناء على ماهية وحقيقة تلك الأمور، وما يترتب عليها من آثار إيجابية أو سلبية على الواقع الديني والاجتماعي ونحوهما.
أولًا: الباطل المثبت:
هناك عدة أشياء وصفها القرآن الكريم بكونها باطلًا، منها:
١. عبادة غير الله تعالى.
تعددت المعبودات من دون الله بتعدد الأهواء والمصالح والأزمان؛ فمنهم من عبد الأوثان (الأصنام)، ومنهم من وله في عبادة الشمس والنار، ومنهم من نزل عن كرامته ليعبد الدواب -ومنها الأبقار التي يعبدها الهندوس-، وغيرها من المعبودات؛ كالهوى والمال والحب في غير ذات الله، عدا عن العبادات المعنوية.
ومن هنا نفهم قوله تعالى: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ)[الأنفال: ٨].
نعم، جاء ليثبت بطلان المعبودات الأخرى من دونه سبحانه، فهي لا تستحق العبادة، ولا تستحق أن يصرف جزء من العبادة لها، يقول الطبري: «يريد الله أن يقطع دابر الكافرين، كيما يحق الحق، كيما يعبد الله وحده دون الآلهة والأصنام، ويعز الإسلام، وذلك هو «تحقيق الحق»، (ﯡﯢ)، يقول: ويبطل عبادة الآلهة والأوثان والكفر»20.
وقد يتساءل عن سبب التأكيد في الآية الكريمة بإحقاق الحق وإبطال الباطل، وكان يكفي أن يكون حقًا ليتبع، لكنها حكمة الله في إحقاق الحق -وهو إظهاره وليس جعله حقًا- وإبطال الباطل -وهو محقه وطمسه-؛ إذ قد يظن الناس الحق باطلًا بتشابههما في عدم الظهور21.
ولقد أكثر القرآن العظيم من ذكر آيات كريمات تدل على وحدانية الله تعالى، واستحقاقه للألوهية وحده، وذلك بطرق عقلية مختلفة، منها:
حيث قال سبحانه: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ) [الأنبياء: ٢٢].
وفي آية أخرى يبين سبب الفساد؛ إذ يقول تعالى: (ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ) [المؤمنون: ٩١].
ولو ذهب كل إله بما خلق لحدث التزلزل
في نظام الكون، غير أن الاستقرار الحاصل في الكون دليل واضح على وجود مدبر واحد لا ثاني له.
قال سبحانه عن عجز الآلهة المزعومة المعبودة من دون الله: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [الحج: ٧٣].
وقال عز من قائل مستنكرًا عليهم عبادة غيره؛ لأن بطلانها مدرك بالعقل: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ) [النحل: ١٧].
أفمن العدالة أن ينسب الفضل لغير أهله، ويشكر على الفعل غير فاعله؟!.
كما في قصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه وقومه من الوثنيين، حيث يقول الله تعالى عنهم بعد أن حطم إبراهيم عليه السلام أوثانهم: (ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭ) [الأنبياء: ٥٩ -٦٧].
نعم والله إنه خلاف العقل، وانتكاس للفطرة التي خلقوا عليها.
٢. كل ما يصدر عن الشيطان.
لقد أثبت القرآن العظيم البطلان للشيطان؛ حيث وصفه الحق سبحانه بالباطل في قوله: (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ)[محمد: ٣].
ومن كان في ذاته باطلًا فكل ما يصدر عنه فهو باطل، واتباعهم لباطله يعني أنهم «اتبعوا وسوسته بالذي دعاهم إليه من عبادة الأوثان»22.
وإثبات بطلانه يكون بإثبات خطأ اعتقاده، الأول من أن خلقه من نار خير من خلق آدم عليه السلام من طين، ثم ما تبعه من بطلان رفضه السجود لآدم عليه السلام، ثم بطلان ما هو عليه إلى قيام الساعة من ضلال وإضلال للناس عن طريق الجادة.
قال تعالى: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ) [النساء: ٧٦].
وإثبات البطلان لما يعد أتباعه من نصرٍ وتأييد وعزة، حيث قال سبحانه: (ﯨ ﯩﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ) [النساء: ١٢٠].
يقول الطبري: «يعد الشيطان المريد أولياءه الذين هم نصيبه المفروض: أن يكون لهم نصيرًا ممن أرادهم بسوء، وظهيرًا لهم عليه، يمنعهم منه ويدافع عنهم، ويمنيهم الظفر على من حاول مكروههم والفلج23 عليهم».
ثم قال: (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ) يقول: «وما يعد الشيطان أولياءه الذين اتخذوه وليًا من دون الله(ﯮ ﯯ) يعني: إلا باطلًا. وإنما جعل عدته إياهم جل ثناؤه ما وعدهم(ﯯ)، لأنهم كانوا يحسبون أنهم في اتخاذهم إياه وليًا على حقيقةٍ من عداته الكذب وأمانيه الباطلة»24.
ولا أدل على بطلانه من آيتي لقمان والحج اللتان أثبت فيهما الحق سبحانه أن الشيطان باطل في كل ما يدعو إليه الناس، وأيضَا باطل فيما يوجهونه إليه من العبادة والخشية وغيرها من المصروفات، كما قال ربنا: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) [لقمان: ٣٠].
وقوله سبحانه: (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ) [الحج: ٦٢].
ونلحظ التأكيد في الآية بهو، وهذا يرجح أن يكون المقصود بالباطل هو الشيطان في جميع الأحوال.
ومن الأدلة أيضًا على ضعفه وبطلان سعيه وعدم قدرته على المواجهة: الوسائل التي استخدمها في إغواء الناس وإضلالهم، ومن ذلك -على سبيل الإيجاز-:
الأولى: الوسوسة.
فقد بدأ إبليس بالكيد لآدم وزوجه لإخراجهما من الجنة، ومن ذلك أكذوبته الأولى، قال سبحانه: (ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ)[الأعراف: ٢٠].
والوسوسة هي: «الكلام الخفي الذي لا يسمعه إلا المداني للمتكلم»25، غير أن الثعالبي يرى أن وسوسة إبليس لأبينا آدم عليه السلام يمكن أن تكون بمحاورة خفية أو بالإلقاء في النفس26، ولا شك في أن الله تعالى أمده بقدرات كبيرة لا نعلم كثيرًا منها.
ويلاحظ في اللفظ القرآني أنه استخدم (ﯖ ﯗ) بدل (وسوس إليهما)، فالأولى تعني: وسوس لأجلهما، أي لأجل أن يغويهما، أما الثانية فتفيد بأنه: ألقاها إليهما27.
يقول الطبري: «ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة أن تأكلا ثمرها، إلا لئلا تكونا ملكين، وأسقطت«لا» من الكلام، لدلالة ما ظهر عليها، كما أسقطت من قوله: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) [النساء: ١٧٦].
والمعنى: يبين الله لكم أن لا تضلوا»28.
وهكذا حصل لإبليس ما أراد، فما أن أكل آدم وزوجه من الشجرة التي نهيا عنها إلا وظهرت سوءاتهما؛ فبدأت نتيجة وسوسته بالارتباك والبحث عما يستر السوءة، فعصى آدم وزوجه ربهما، وكانت المعصية سببًا في إخراجهما من الجنة.
الثانية: الإلقاء في النفوس عند الأماني.
الإلقاء في النفوس عند الأماني وسيلة من وسائل إبليس التي تدل على ضعفه وبطلان فعله؛ ليبعد عن الطاعة، قال تعالى: (ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﮡ ﮢ ﮣ) [الحج: ٥٢].
نلحظ في الآية الكريمة كيف أن الله تعالى أبطل ما يلقي الشيطان، فكيده كما أسلفنا ضعيف.
ولقد ورد في الآية الكريمة لفظا التمني والإلقاء؛ فأما التمني فأسند إلى الرسول خاصة والرسل عامة صلى الله وسلم عليهم جميعًا، وأما الإلقاء فإلى الشيطان.
والتمني ينصرف على أحد معنيين:
الأول: التلاوة أو القراءة، وهو رأي جمهور العلماء29، وهو الراجح، والله أعلم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير التمني: «إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه، فيبطل الله ما يلقي الشيطان ويحكم آياته»30.
قال البخاري تعقيبًا عليه: «ويقال أمنيته قراءته»31.
ويكون المعنى: «أن الله ما أرسل قبل محمد (ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) أي: قرأ قراءته، التي يذكر بها الناس، ويأمرهم وينهاهم، (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ) أي: في قراءته، من طرقه ومكايده، ما هو مناقض لتلك القراءة، مع أن الله تعالى قد عصم الرسل بما يبلغون عن الله، وحفظ وحيه أن يشتبه، أو يختلط بغيره.
ولكن هذا الإلقاء من الشيطان، غير مستقر ولا مستمر، وإنما هو عارض يعرض، ثم يزول، وللعوارض أحكام، ولهذا قال: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) أي: يزيله ويذهبه ويبطله، ويبين أنه ليس من آياته، و(ﮝ ﮞ ﮟ) أي: يتقنها، ويحررها، ويحفظها، فتبقى خالصة من مخالطة إلقاء الشيطان»32.
الثاني: تمني القلب والخاطر33 الذي يرد عليه.
والمعنى حينئذ أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما يتمنى شيئًا من الأمور، يوسوس الشيطان إليه بالباطل، ثم إن الله تعالى ينسخ ذلك ويبطله ويهديه إلى ترك الالتفات إلى وسوسته34.
وهذا المعنى باطل، كما رد الرازي عليه سابقًا.
وأما الإلقاء فالأرجح فيه أنه وسوسة من الشيطان، إذ إنه لا يجوز أن يكون بمعنى الإدخال في كلام الله ما ليس منه، فالقرآن محفوظ بحفظ الله تعالى.
يقول الرازي: «الغرض من هذه الآية بيان أن الرسل الذين أرسلهم الله تعالى وإن عصمهم عن الخطأ مع العلم فلم يعصمهم من جواز السهو ووسوسة الشيطان؛ بل حالهم في جواز ذلك كحال سائر البشر»35.
وذهب الشعراوي مذهبًا قريبًا حيث رأى أنه «لا يمكن للشيطان أن يدخل في القرآن ما ليس منه، لكن يحتمل تدخل الشيطان على وجه آخر، فحين يقرأ رسول الله القرآن، وفيه هداية للناس... أتنتظر من عدو الله أن يخلي الجو للناس حتى يسمعوا هذا الكلام دون أن يشوش عليهم، ويبلبل أفكارهم، ويحول بينهم وبين سماعه؟ فإذا تمنى الرسول يعني: قرأ، ألقى الشيطان في أمنيته، وسلط أتباعه من البشر يقولون في القرآن: سحر وشعر وإفك وأساطير الأولين، فدور الشيطان... أن يلقي في طريق القرآن وفهمه والتأثر به العقبات والعراقيل التي تصد الناس عن فهمه والتأثر به، وتفسد القرآن في نظر من يريد أن يؤمن به»36.
فحقيقة الإلقاء أنه: «رمي الشيء من اليد، واستعير هنا للوسوسة وتسويل الفساد، تشبيهًا للتسويل بإلقاء شيء من اليد بين الناس. ومنه قوله تعالى: (ﰄ ﰅ ﰆ) [طه: ٨٧]»37.
وهكذا يظهر بطلان سعيه وضعفه واقتصاره على الوسوسة والإلقاء في النفس وغيرها من الوسائل، وهي بلا ريب تدل على بطلانه وبطلان نصرته لأوليائه.
قال الله تعالى: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ) [الأنفال: ٤٨.]
٣. أعمال الكفار.
من خلال استقراء للآيات الكريمة التي تتحدث عن بطلان أعمال الكافرين، يتبين أن البطلان له صورة رئيسة هي: حبوط أجر الأعمال وثوابها بسبب الكفر والرياء.
كثيرًا ما يتساءل عن أجر الكافر وثواب عمله، وهل له ثواب بعد الكفر؟
وهكذا يجيب الله تعالى على أسئلتهم بقوله: (ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ) [هود: ١٦].
والحبوط هو: «أن تكثر الأنعام من بعض المراعي التي تستطيبها حتى تنتفخ وتفسد أحشاؤها، فظاهر كثرة الأكل أنه سبب للقوة فكان في هذه الحالة سببًا للضعف»38.
وهكذا الذي يحبط عمله ويبطله.
يقول أبو السعود: «أي: ظهر في الآخرة حبوط ما صنعوه من الأعمال التي كانت تؤدي إلى الثواب لو كانت معمولةً للآخرة، أو حبط ما صنعوه في الدنيا من أعمال البر إذ شرط الاعتداد بها الإخلاص (ﮓ) أي: في نفسه... وقرىء: وبطل على الفعل ، أي: ظهر بطلانه؛ حيث علم هناك أن ذلك وما يستتبعه من الحظوظ الدنيوية مما لا طائل تحته أو انقطع أثره الدنيوي فبطل مطلقًا»39.
ثانيًا: الباطل المنفي:
لقد صرح القرآن العظيم بنفي البطلان عن بعض الأشياء، ومن ذلك:
١. نفي الباطل عن أفعال الله تعالى.
لا ريب في أن الله هو الحق، قال سبحانه: (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ) [الحج: ٦٢].
ولأنه صاحب الجلال والجمال والكمال؛ فإن كل ما يصدر عنه من أفعال هي حق مطلق، لا يأتيها الباطل ولا يعتريها في أي جانب منها، ومما كان يثيره الكفار من مزاعم واعتقادات باطلة: عبثية خلق السماوات والأرض؛ فلا يوجد بعد هذه الحياة من حياة بدليل الواقع، وبالتالي في تصورهم القاصر فإن خلق الكون بما فيه هو ضرب من العبث.
وقد جاء القرآن الكريم يفند هذه الترهات، حيث قال سبحانه: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [ص ٢٧].
يقول النحاس: «كانوا يقولون: ليست ثم عقوبة ولا نار، فالكافر والعاصي يسعدان باللذات وغصب الأموال، والمظلوم يشقى؛ لأنهما يصيران إلى شيء واحد، فرد الله جل وعز هذا عليهم بأنه ما خلق السماء والأرض وما بينهما باطلًا لأن الذي ادعوه باطل وذلك منهم ظن»40.
ومن ثم فقد ذكر الله تعالى في كتابه الحكيم صفاتًا ممدوحة لعباده المؤمنين منها: أنهم يقولون: أن خلق الله تعالى للسماوات والأرض كله حكمة، وأنه لا يصدر عنه سبحانه أي نقص ولا عيب كاللهو والعبث، كما في قوله: (ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [آل عمران: ١٩١].
قال الزمخشري: «المعنى: ما خلقته خلقًا باطلًا بغير حكمة، بل خلقته لداعي حكمة عظيمة، وهو أن تجعلها مساكن للمكلفين وأدلة لهم على معرفتك ووجوب طاعتك واجتناب معصيتك»41.
وقد أكد البيضاوي تلك الحكم وفصل بعضها قائلًا: «بل خلقته لحكم عظيمة من جملتها: أن يكون مبدأ لوجود الإنسان، وسببًا لمعاشه، ودليلًا يدله على معرفتك ويحثه على طاعتك لينال الحياة الأبدية والسعادة السرمدية في جوارك»42.
فمنشأ هذا الفساد في الاعتقاد عند الكفار: هو سوء ظنهم بالله تعالى؛ ولهذا جاء الله تعالى على لسانهم بالقول (ﮦ) بعد النفي السابق؛ لينزهوه وأفعاله عن سوء ظن الكافرين.
وبين الفينة والأخرى تطل هذه الأفكار المبطلة للدين علينا برأسها، فينجر خلفها من حدث سنه، ولم تجثو ركبتاه طويلًا في طلب العلم النافع، فيستزلهم الشيطان، بالرغم من أن دواءهم في بضع آيات ونصوص كريمة عظيمة.
٢. نفي الباطل عن القرآن العظيم.
قلنا فيما سبق إن القرآن الكريم نفى البطلان عن أفعال الله تعالى، ونفى كذلك الباطل عن القرآن نفسه، وسبب النفي لبطلانه قائم على نفس الأصل السابق، من كون القرآن كلام الله تعالى، وهو صفة من صفاته الكاملة؛ إذن كلماته التي هي جزء من صفة الكلام له كاملة.
قال تعالى: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ) [فصلت: ٤٢].
يقول ابن كثير: «أي: ليس للبطلان إليه سبيل؛ لأنه منزلٌ من رب العالمين؛ ولهذا قال: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ) أي: حكيم في أقواله وأفعاله، حميد بمعنى محمود، أي: في جميع ما يأمر به وينهى عنه الجميع، محمودة عواقبه وغاياته»43.
وقد ورد عن قتادة قوله في قوله تعالى: (ﮏ ﮐ ﮑ) في الآية التي قبلها تماما: «أعزه الله لأنه كلامه، وحفظه من الباطل»44.
ولقد ذكر الماوردي أنهم اختلفوا في الباطل على خمسة معاني هي: إبليس أو الشيطان أو التبديل أو التعذيب أو التناقض والاختلاف45.
ورجح الطبري أن معناها: «لا يستطيع ذو باطل بكيده تغييره بكيده، وتبديل شيء من معانيه عما هو به، وذلك هو الإتيان من بين يديه، ولا إلحاق ما ليس منه فيه، وذلك إتيانه من خلفه»46.
ولقد تكفل ربنا سبحانه بحفظ كتابه كما ذكر في مواضع كثيرة، منها قوله: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ) [الحجر: ٩].
إنا للقرآن حافظون من كل ما قد يزاد فيه أو ينقص منه من باطل سواء كان الشيطان أو غيره؛ فأحكامه وفرائضه محفوظة بحفظ الله الذي خص هذا الكتاب المجيد بها من دون الكتب الأخرى، التي أوكل حفظها للرهبان والقساوسة لحكمة بالغة47.
يتنوع الإبطال بين المدح والذم، فتارة يكون ممدوحًا، وتارة يكون مذمومًا، ومن ذلك:
أولًا: الإبطال المحمود:
١. إبطال الباطل.
يقول الحق تبارك وتعالى: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [الأنفال: ٨].
وقد سبق أن إبطال الباطل يكون بإعدامه ومحقه بكل أشكاله وصوره، كما قلنا إن إحقاق الحق يعني إظهاره48، بإظهار دلائله وتقويته، وقمع رؤساء الباطل وقهرهم49.
وهذا جواب لسؤال قد يعرض مفاده: إن الحق حقٌ لذاته، والباطل باطل لذاته، إذن ما المراد من تحقيق الحق وإبطال الباطل؟
فالكثير من الرعاع يغره انتفاخ الباطل، إذ إنه لا ينظر بعين الحق والعلم، بل بميزان المادة، وبالتالي فإنه من الضروري لمثل هؤلاء أن يبطل الباطل، وتطمس رايته وتنكس، وكثير من هؤلاء ينبغي الأخذ بأيديهم ببيان بطلان الباطل وأهله لهم، وإلا ضلوا وتاهوا في زخارف الباطل.
٢. إبطال السحر.
فهذا موسى صلى الله عليه وسلم يثق بموعود الله تعالى له بمنع آثار ما صنع الكفرة من السحرة، حيث قال الله تعالى عنه: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ) [يونس: ٨١].
«أي سيمحقه بالكلية بما يظهره على يدي من المعجزة فلا يبقى له أثرٌ أصلًا أو سيظهر بطلانه للناس، والسين للتأكيد»50.
والجملة «استئنافية لبيان ما يوقن به موسى من مآل هذا السحر، ويجوز أن تكون خبرًا لما قبلها، ويكون التقدير: ما جئتم به الذي هو السحر، إن الله سيبطله بما جئت به من الحق، وعلل حكمه بقوله: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ) وهو قاعدة عامة مبينةٌ لسنة الله في تنازع الحق والباطل، والصلاح والفساد، ويدخل فيها سحرهم فإنه باطلٌ وفساد، أي لا يجعل عمل المفسدين صالحًا، والسحر من عمل فرعون وقومه المفسدين»51.
وبمتابعة ما حدث مع موسى عليه السلام، وبمتابعة الآيات الأخرى لمعرفة صحة اليقين الذي اعتمد عليه سيدنا موسى عليه السلام، سنجد النصر والمعية الربانية الكاملة لموسى عليه السلام؛ فقد أخبرنا الله تعالى بخبر مفاده: (ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ) [الأعراف: ١١٨].
نعم إنه جندي الله المبعوث منه سبحانه، فكيف لا يؤيده بنصره، وهل يصح الإيمان ويبقى منه شيء إن لم يكن جازمًا بتلك المعية وذلك التأييد؟!.
فصفة الشك وعدم اليقين بنصر الله تعالى هي من صفات المنافقين، كما بينه تعالى في غزوة الخندق، عندما حوصر المؤمنون والمنافقون في المدينة، وازداد الخوف وبلغت القلوب الحناجر من شدة الخوف، حتى ظهرت صفات المنافقين فقال الله عنهم: (ﮒ ﮓ ﮔ) [الأحزاب: ١٠].
وهكذا يجب على المسلمين اليوم إزالة ما تلبد على مشاعرهم الإيمانية، فموعود الله تعالى بهزيمة الباطل وأهله مرتبطة بقوة إيمانهم، وتغييرهم ما فيهم من الباطل، وحينها سيكون النصر لا محالة حليفنا، قال سبحانه: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ) [الرعد: ١١].
ثانيًا: الإبطال المذموم:
الأعمال الصالحة:
جاء التوجيه الإلهي لعباده المؤمنين باجتناب ما يحبط ثواب عملهم من ترك طاعة الله ورسوله، وفعل ما يشبه فعل الكفار، ومن ذلك قوله سبحانه: (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [محمد: ٣٣].
ولقد ذكر العلماء بعض ما يبطل الثواب على اختلاف بينهم، من الكفر والرياء والسمعة والكبائر52.
فالله تعالى يخبر «عمن كفر وصد عن سبيل الله، وخالف الرسول وشاقه، وارتد عن الإيمان من بعد ما تبين له الهدى: أنه لن يضر الله شيئًا، وإنما يضر نفسه ويخسرها يوم معادها، وسيحبط الله عمله فلا يثيبه على سالف ما تقدم من عمله الذي عقبه بردته مثقال بعوضةٍ من خير، بل يحبطه ويمحقه بالكلية، كما أن الحسنات يذهبن السيئات»53.
ثم صرح سبحانه بمبطل لثواب الأعمال وخاصة الصدقات، وهو الرياء والمن والأذى عند التصدق، حيث قال: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ) [البقرة: ٢٦٤].
وفائدة هذا التمثيل البليغ في الآية لتقريب الصورة الذهنية لتصبح واقعًا محسوسًا، وبالتالي يقوم المؤمن بتجرع مرارته نفسيًا قبل حصوله، حتى لا يتذوقه واقعًا في آخرته.
يقول الخازن: «الرياء يبطل الصدقة ولا تكون النفقة مع الرياء من فعل المؤمنين، لكن من فعل المنافقين؛ لأن الكافر معلن بكفره غير مراء به (ﯴ) أي مثل هذا المرائي بصدقته وسائر أعماله (ﯵ ﯶ) هو الحجر الأملس الصلب، وهو واحد وجمع، فمن جعله جمعًا قال واحده صفوانة، ومن جعله واحدًا قال: جمعه صفي.(ﯷ ﯸ) أي: على ذلك الصفوان تراب (ﯹ ﯺ)يعني المطر الشديد العظيم القطر (ﯻ ﯼ) يعني ترك المطر ذلك الصفوان صلدًا أملسًا لا شيء عليه من ذلك التراب، فهذا مثل ضربه الله تعالى لنفقة المنافق والمرائي والمؤمن المنان بصدقته يؤذي الناس، يرى الناس أن لهؤلاء أعمالًا في الظاهر، كما يرى التراب على الصفوان، فإذا جاء المطر أذهبه وأزاله، وكذلك حال هؤلاء يوم القيامة، تبطل أعمالهم وتضمحل ؛ لأنها لم تكن لله تعالى كما أذهب الوابل ما على الصفوان من التراب»54.
لقد وصف القرآن الكريم مجموعة من السلوكيات الناتجة عن الأفراد أو الجماعات بالبطلان، سواء كانت صادرة من كافر أم من مسلم، فلا فرق بين الفاعلين في وصف بعض أفعالهم بالبطلان، ومن تلك السلوكيات:
أولًا: أكل أموال الناس بالباطل:
لقد نهى الله تعالى الناس عن الظلم فحرمه أشد تحريم، ورتب عليه العقوبات الجسيمة، والعذاب الشديد، وجعل ظلم العباد فيما بينهم لا يسقط فيه الحق بالتقادم، حتى يمتنع الإنسان عن ظلم أخيه؛ فقد فطر الإنسان على الأنفة من طلب المسامحة من الغير، والذي هو من شروط التوبة في الاعتداء على حقوق العبيد، ولقد بين القرآن العظيم إحدى صور الظلم بين الناس، ألا وهي: أكل أموالهم بينهم بالباطل والظلم.
وتتعدد طرق أكل الباطل من: «الإغارة ومن الميسر، ومن غصب القوي مال الضعيف، ومن أكل الأولياء أموال الأيتام واليتامى، ومن الغرر والمقامرة، ومن المراباة»55، والرشوة المحرمة والخيانة بأشكالها المختلفة، ومنها الغش والنصب، وغير ذلك56.
ومن خلال تتبع الآيات التي نهت عن الصور السابقة يتبين أنها ترتسم في ثلاث مراحل، هي:
المرحلة الأولى: بيان أن أكل الأموال بالباطل من صفات كفرة أهل الكتاب.
تعددت حالات أكل أهل الكتاب لأموال الناس بالباطل كما ذكر القرآن الكريم؛ حيث قال تعالى عنهم: (ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ) [النساء: ١٦١].
ومن تلك الحالات الكثيرة الرشاوى التي كانوا يأخذونها على الحكم، كما قال تعالى عنهم: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [المائدة: ٦٢].
يقول البغوي: «وأكلهم أموال الناس بالباطل، من الرشا في الحكم، والمآكل التي يصيبونها من عوامهم، عاقبناهم بأن حرمنا عليهم طيباتٍ، فكانوا كلما ارتكبوا كبيرةً حرم عليهم شيءٌ من الطيبات التي كانت حلالًا لهم»57.
ومن تلك الحالات أيضًا التي أكلوا فيها أموال الناس بغير حق: أنهم كانوا يكتبون الكتب ويقولون بأنها موحاة من الله تعالى؛ لتأخذ قدسية دينية، كما قال سبحانه عنهم: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) [البقرة: ٧٩].
«كان من أكلهم أموال الناس بالباطل، ما كانوا يأخذون من أثمان الكتب التي كانوا يكتبونها بأيديهم، ثم يقولون: (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ)، وما أشبه ذلك من المآكل الخسيسة الخبيثة، فعاقبهم الله على جميع ذلك، بتحريمه ما حرم عليهم من الطيبات التي كانت لهم حلالًا قبل ذلك»58.
المرحلة الثانية: التحذير من مشابهة أهل الكتاب في أكل الأموال بالباطل.
يقول الله تعالى مخاطبًا المؤمنين بخبر مفاده النهي عن المشابهة: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ) [التوبة: ٣٤].
ويلفت انتباهنا الشعراوي إلى مجموعة من اللطائف، منها: أن الأكل للمال يكون بشراء الطعام والشراب به، وليس أكل المال نفسه، وهذا من الاستعارة - والذي يظهر أنه لا يمنع من أنهم كانوا يأخذون أنواعًا من الأطعمة والأشربة جزاء الرشاوى، فهي أيضا تسمى مالًا-؛ كذلك يبين أن أكل المال قسمان: أكلٌ بالحق وأكلٌ بالباطل -كما هو حال بعض الأحبار والرهبان هنا-، ويبين ذلك قائلًا: «هناك أكلًا من أموال الناس بالحق في عمليات تبادل المنافع، فالتاجر يأخذ مالك ليعطيك بضاعة، ويذهب التاجر ليشتري بها بضاعة وهكذا، وقانون الاحتياط هنا في أن يكون هناك رهبان وأحبار محافظون على تعاليم الدين، ولا يأكلون أموال الناس بالباطل، وهذا ظاهر في قول الحق سبحانه وتعالى: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) ولم يقل جل جلاله: كل الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل، بل قال: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ)؛ لأنه قد يوجد عدد محدود من الأحبار والرهبان ملتزمون، والله لا يظلم أحدًا؛ لذلك جاء بالاحتمال»59.
المرحلة الثالثة: النهي بخطاب مباشر للمؤمنين من أكل أموالهم بالباطل.
يقول ربنا سبحانه: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [البقرة: ١٨٨].
كذلك ورد التحريم في الكثير من الأحاديث الشريفة، كحديث أبي بكرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فإن دماءكم وأموالكم - قال محمدٌ وأحسبه قال - وأعراضكم، عليكم حرامٌ، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب) 60.
ويجب علينا ابتداء أن ننتبه للفارق في اللفظ بين الآيتين الأوليين، وهذه الآية من حيث إضافة المال في الأوليين إلى الناس دون الآكلين من الأحبار والرهبان، بينما في الثانية إلى نفس المؤمنين، وذلك -والله أعلم- «لما كان كل واحد منهما منهيًا ومنهيًا عنه، كما قال: (ﭤ ﭥ)»61، صح أن يجمع حينئذ الآكل والمأكول، ولمحمد رشيد رضا كلام نفيس يعلل فيه ما سبق بوجه آخر يقول فيه: «واختار لفظ (ﮝ) وهو يصدق بأكل الإنسان مال نفسه للإشعار بوحدة الأمة وتكافلها، وللتنبيه على أن احترام مال غيرك وحفظه هو عين الاحترام والحفظ لمالك؛ لأن استحلال التعدي وأخذ المال بغير حق يعرض كل مال للضياع والذهاب، ففي هذه الإضافة البليغة تعليلٌ للنهي، وبيانٌ لحكمة الحكم، كأنه قال: لا يأكل بعضكم مال بعضٍ بالباطل؛ لأن ذلك جناية على نفس الآكل، من حيث هو جناية على الأمة التي هو أحد أعضائها، لا بد أن يصيبه سهم من كل جناية تقع عليها، فهو باستحلاله مال غيره يجرئ غيره على استحلال أكل ماله عند الاستطاعة... وفي الإضافة معنى آخر قاله بعضهم، وهو للتنبيه على أنه يجب على الإنسان أن ينفق مال نفسه في سبيل الحق، وألا يضيعه في سبيل الباطل المحرمة»62.
وهكذا يحذر الله المؤمنين من التعرض لأموال بعضهم البعض بالباطل؛ حتى لا يعم الفساد، ويضيع مقصود الشريعة في حفظ المال، ثم ختم ربنا التحذير ببيان تحريم الإدلاء بتلك الأموال المأكولة بالباطل إلى الحكام، والإدلاء بها إلى الحكام له معنيان: الأول: ليبرروا لهم أن هذا الباطل هو حق لهم، وذلك من خلال الرشوة، وهو باطل؛ لأن كل إنسان مسؤول عن فعله63.
وهذا القول رجحه ابن عطية وأشار لمعنى لطيف فيها مفاده: «ترشوا بها على أكل أكثر منها، فالباء إلزاق مجرد، وهذا القول يترجح؛ لأن الحكام مظنة الرشا إلا من عصم وهو الأقل، وأيضًا فإن اللفظتين متناسبتان، تدلوا من أرسل الدلو والرشوة من الرشا، كأنها يمد بها لتقضى الحاجة»64.
والثاني: أنهم يذهبون للتحاكم إلى الحكام إذا علموا أن الحجة تقوم لهم، كأن لا تكون على الجاحد بينة، أو يكون مال أمانة كاليتيم وغيره، والباء في كلمة (بها) باء السببية65.
ثانيًا: الجدال بالباطل:
يستخدم الكثير من الناس الجدال بالباطل وسيلةً لإثبات باطلهم، وهذا يدل على ضعف الحجة أو انعدامها؛ إذ لو كان الدليل الواضح حاضرًا لكان استحضاره من قبل المجادل غاية من الغايات، مصداق ذلك قوله سبحانه: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [الكهف: ٥٦].
وحتى تتضح صورة الموقف علينا أن نبين من المقصودين في الآية، ومن خلال النظر في كلام أهل التفسير نجد أنهم بين معمم ومخصص؛ فمنهم من يرى أنها عامة في الرسل الكرام في جدال أقوامهم لهم بالباطل، وأن الباطل الذي يجادلون به هو أنهم بعثوا من البشر، مع أن الأصل أن يكونوا من الملائكة66.
ومنهم من يرى أنها في كفار قريش وغيرهم من المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم، واعتبروا أن من الباطل الذي جادلوه به -تكذيبًا له وللحق ومنه القرآن - قولهم للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرنا عن حديث فتية ذهبوا في أول الدهر لم يعرف من شأنهم شيء، وعن رجل بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وعن الروح، وما أشبه ذلك من أمور67.
والراجح أنه لا مانع من الجمع بين القولين؛ فقد استخدم الكفار في كل حين كل وسيلة لإثبات الباطل ودحض الحق، وما كانت مجادلتهم للرسول صلى الله عليه وسلم بدعًا عمن سبقه من الرسل.
ويقصد بالدحض عدم إثبات الحق، بل وإزالته، وهو مأخوذ من (دحض) وهو الطين الذي يزهق فيه الإنسان؛ لذا يسمى المكان الذي تزل فيه القدم وتنزلق: مكان دحضٌ68.
وللباء في قوله تعالى: (ﭿ) معنيان:
الأول: أنها للملابسة، بمعنى أن الكفار وهم يجادلون الرسل كانوا ملابسين للباطل.
والثاني -وهو الأقرب-: أنها للآلة، وذلك بتنزيل الباطل منزلة الآلة69.
إذن هدف الكفار منذ سيدنا نوح عليه السلام وحتى خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم أن يبطلوا الحق ويدحضوه، ولا أدل على ذلك من قوله تعالى: (ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﮡ ﮢ ﮣ) [غافر: ٥].
قال الطبري: «وخاصموا رسولهم بالباطل من الخصومة ليبطلوا بجدالهم إياه ، وخصومتهم له الحق الذي جاءهم به من عند الله، من الدخول في طاعته، والإقرار بتوحيده، والبراءة من عبادة ما سواه، كما يخاصمك كفار قومك يا محمد بالباطل»70.
وحتى يومنا هذا تتضافر جهود أهل الباطل؛ فيظلمون الناس ويستعبدونهم، وخاصة أمة الإسلام التي تخلت عن منهج ربها سبحانه، فصارت كالقصعة التي يتنافسون على الأكل منها، كما قال حبيبنا الصادق المصدوق في حديث ثوبان رضي الله عنه: (يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)، فقال قائلٌ: ومن قلةٍ نحن يومئذٍ؟ قال: (بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن)، فقال قائلٌ: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: (حب الدنيا، وكراهية الموت)71.
ولا خلاص لنا إلا بالعودة إلى ديننا.
ثالثًا: خلط الحق بالباطل:
طريقة أخرى من طرق أهل الباطل في الاستدلال، وهي تزيين الباطل بشيء من الحق، وخلطه به مغبة أن يلتبس الأمر على السامعين، قال عز من قائل: (ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ) [البقرة: ٤٢].
واللبس له معنيان: الأول: مادي محسوس، وهو مأخوذ من اللباس، وهو الثوب؛ لأنه يستر الجسد، ويخفي حقيقته، والثاني: المعنوي، وهو الخلط بغيره حتى يخفى أمره،72 ويجمعهما إخفاء الشيء.
ومما يدل عليه، ما ورد عن ابن عباس من قوله: «(ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ)، قال: لا تخلطوا الصدق بالكذب»73، ويرى الماوردي أنه يصح في المقصود بالباطل المعاني الثلاثة، وهي: الكذب المختلط بالحق، أو اليهودية والنصرانية بالإسلام، أو الذي كتبوه بأيديهم بالتوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام.
والذي يظهر أن الحديث هنا عن بني إسرائيل، حيث يدعوهم ربنا إلى عدم خلط كتابه (التوراة) بشيء مما كتبته أيديهم من الباطل، والتصاق الباء بالباطل تجعله يحمل معنيين:
الأول: لا تكتبوا في التوراة شيئًا منكم، فتخلطوا الحق بالباطل.
والثاني: لا تجعلوا الحق ملتبسًا بالباطل الذي تكتبونه.
حيث يقول الزمخشري: «الباء التي في بالباطل إن كانت صلة مثلها في قولك: لبست الشيء بالشيء خلطته به، كأن المعنى: ولا تكتبوا في التوراة ما ليس منها ، فيختلط الحق المنزل بالباطل الذي كتبتم، حتى لا يميز بين حقها وباطلكم، وإن كانت باء الاستعانة كالتي في قولك: كتبت بالقلم، كان المعنى: ولا تجعلوا الحق ملتبسًا مشتبهًا بباطلكم الذي تكتبونه»74.
وقد ورد في آية أخرى على صورة الاستفهام الإنكاري، وليس كسابقتها على صورة النهي المباشر، حيث قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ) [آل عمران: ٧١].
والملاحظ هنا: التصريح بالمخاطبين وهم أهل الكتاب، والأرجح أنهم اليهود؛ حيث ورد عن ابن عباس قوله: «قال عبد الله بن الصيف، وعدي بن زيد، والحارث بن عوف، بعضهم لبعض: تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد وأصحابه غدوةً ونكفر به عشيةً، حتى نلبس عليهم دينهم، لعلهم يصنعون كما نصنع، فيرجعوا عن دينهم!»75.
وهكذا ترتسم صورة اليهود من الكذب والخلط والكيد للمسلمين، يقول ابن عاشور عن الآية السابقة والتي قبلها:«فيهما التفاتٌ إلى خطاب اليهود، والاستفهام إنكاري.
وإعادة ندائهم بقوله: يا أهل الكتاب ثانية لقصد التوبيخ وتسجيل باطلهم عليهم، ولبس الحق بالباطل تلبيس دينهم بما أدخلوا فيه من الأكاذيب والخرافات والتأويلات الباطلة، حتى ارتفعت الثقة بجميعه. وكتمان الحق يحتمل أن يراد به كتمانهم تصديق محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يراد به كتمانهم ما في التوراة من الأحكام التي أماتوها وعوضوها بأعمال أحبارهم وآثار تأويلاتهم، وهم يعلمونها ولا يعملون بها»76.
رابعًا: اتهام المؤمنين بالباطل:
مما تعارف عليه الناس أن خير وسيلة للدفاع الهجوم، وها هم أعداء الله والإسلام يتهمون المؤمنين بأنهم مبطلون، ولا نراه إلا من هذا الباب، كما ورد في قول ربنا سبحانه: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [الروم: ٥٨].
إنه فرط العناد وشدة في الخصومة وقسوة القلب؛ إذ إن قلوبهم متيقنة ببطلان ما يزعمون، بل ويوقنون بأنهم هم المبطلون، يقول ابن عطية: «ثم أخبر تعالى عن قسوة قلوبهم وعجرفة طباعهم في أنه ضرب لهم كل مثل، وبين عليهم بيان الحق، ثم هم مع ذلك الآية والمعجزة يكفرون ويلجون ويعمهون في كفرهم، ويصفون أهل الحق بالإبطال»77.
فمهما جاءهم الرسول صلى الله عليه وسلم به من «معجزةٍ، كفلق البحر والعصا وغيرهما (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) يا معشر المؤمنين. (ﯴ ﯵ) أي تتبعون الباطل والسحر»78.
ومهما ذكر لهم من آية فيها صفات الناس يوم القيامة وأحوالهم وشؤونهم «كصفة المبعوثين يوم القيامة، وقصتهم، وما يقولون وما يقال لهم، وما لا ينفع من اعتذارهم ولا يسمع من استعتابهم» 79، إلا أنهم يصرون على أنها أباطيل وأن القائلين بها مبطلون.
وتتناغم هذه الأساليب الشيطانية في الاحتجاج، ورد كلام الخصم في كل صولات الجدال بين المؤمنين وقائدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمشركين بقيادة إبليس -عليه من الله ما يستحق-، فها هم قد طلبوا منه أن يشق لهم القمر قسمين، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن طلب من الله تعالى ذلك، فانشق القمر، فماذا كان بعد ذلك؟
لم يؤمنوا؛ بل ازدادوا إثمًا على إثمهم، كما قال الله فيهم: (ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ)
[يونس: ٩٦-٩٧].
إذن فهو أسلوب رخيص من أساليبهم التي يعلنون فيها وبكل وضوح إفلاسهم الفكري، وانعدام حجتهم القائمة على البرهان، مع شدة حاجتهم لإظهارها لو ملكوها!.
كثيرًا ما يستخدم القرآن أسلوب التمثيل لكي يقرب الصورة إلى الأفهام، من صورة ذهنية مجردة إلى صورة حسية واقعية، وهكذا تؤثر في النفس، بعد استحضار الذهن لها.
ولقد بين القرآن العظيم أن ضرب المثل في القرآن طال كل شيء، وأنه ليس ضربًا من العبث المنزه تعالى عنه، بل له فائدة جليلة، ولا يغفل عنها إلا المختوم على قلبه، قال سبحانه: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [الروم: ٥٨].
يقول شيخ المفسرين في محضر تفسيره للآية: «ولقد مثلنا للناس في هذا القرآن من كل مثل احتجاجًا عليهم، وتنبيهًا لهم عن وحدانية الله. وقوله: (ﯬ ﯭ ﯮ) يقول: ولئن جئت يا محمد هؤلاء القوم بآية، يقول: بدلالة على صدق ما تقول (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) يقول: ليقولن الذين جحدوا رسالتك، وأنكروا نبوتك، إن أنتم أيها المصدقون محمدًا فيما أتاكم به إلا مبطلون فيما تجيئوننا به من هذه الأمور»80، هكذا ينظر السطحيون والمتربصون بالإسلام وأهله، الذي يأتي بالحق مبطل؛ لأنه يخالف هواهم، وما هم عليه من الملة الباطلة!.
ومن الأمثلة التي استحضرها القرآن الكريم للباطل:
١. الماء والزبد.
شبه الله تعالى الحق أو الإيمان أو القرآن بالماء الذي ينزل من السماء، يثبت في الأرض فينفع الزرع والضرع والخلق، وشبه الباطل بالزبد والرغوة والقش، التي طالما صعدت برهة على السطح، ثم سرعان ما تقذف إلى الشاطئ، فلا تنفع شيئًا، بل تكون عبئًا يتمنى الفرد الخلاص منه في أسرع وقت، كما جاء في قوله تعالى: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ) [الرعد: ١٧].
قال الطبري: «هذا مثل ضربه الله للحق والباطل، والإيمان به والكفر، يقول تعالى ذكره: مثل الحق في ثباته والباطل في اضمحلاله، مثل ماء أنزله الله من السماء إلى الأرض، (ﯓ ﯔ ﯕ)، يقول: فاحتملته الأودية بملئها، الكبير بكبره، والصغير بصغره، (ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚ)، يقول: فاحتمل السيل الذي حدث عن ذلك الماء الذي أنزله الله من السماء، زبدًا عاليًا فوق السيل... فالحق هو الماء الباقي الذي أنزله الله من السماء، والزبد الذي لا ينتفع به هو الباطل»81.
فعلينا التيقن بموعود الله لنا بالظفر والنصر على المبطلين، فهم كالزبد الذي سرعان ما يظهر أنه انتفاش خادع ليس إلا، ثم لا يلبث ويزول ولا يمكث ويطرد.
٢. الحلية وشوائبها.
في نفس الآية الكريمة نستشف مثالًا آخر ضربه الله تعالى للحق والباطل، ألا وهو صناعة الحلي ليتزين الناس بها، حيث شبه الله تعالى الذهب والفضة وغيرهما من المعادن بالحق الذي يثبت ويزداد قوة كلما عرض على النار، أما الشوائب فلا تمكث أمام النار؛ فسرعان ما تزول، ولا يبقى أثرها، كما هو الباطل.
قال تعالى في الآية السابقة: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) [الرعد: ١٧].
يقول ابن أبي زمنين تعليقًا على الآية: «يعني: الذهب والفضة، إذا أذيبا فعلا خبثهما، وهو الزبد، وخلص خالصهما تحت ذلك الزبد (ﯢ ﯣ) أي: وابتغاء متاع ما يستمتع به (ﯤ ﯥ) أي: مثل زبد الماء، والذي يوقد عليه ابتغاء متاعٍ هو الحديد والنحاس والرصاص إذا صفي ذلك أيضًا؛ فخلص خالصه، وعلا خبثه، وهو زبده (ﯭ ﯮ) زبد الماء، وزبد الحلي، وزبد الحديد والنحاس والرصاص (ﯯ ﯰﯱ) يعني: لا ينتفع به، فهذا مثل عمل الكافر، لا ينتفع به في الآخرة (ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹ) فينتفع بالماء ينبت عليه الزرع والمرعى، وينتفع بذلك الحلي والمتاع، فهذا مثل عمل المؤمن يبقى ثوابه في الآخرة»82.
ويحتاج المسلمون اليوم إلى غربلة، وعرض على النار لتمحيصهم، فبالتمحيص تظهر معادنهم، وتنجلي صفاتهم للعيان.
٣. إبطال الصدقات.
شبه الله تعالى إبطال الصدقات بالمن والأذى على الناس، كمثل الصخرة الملساء التي عليها تراب، فنزل عليها المطر، فلم يبق من التراب شيءٌ على الصخرة، وهكذا يفعل الرياء بأجر الصدقات، يبطلها فلا يبقى لها أثر.
قال الحق سبحانه: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ) [البقرة: ٢٦٤].
«فالله تعالى أمر عباده برأفته أن لا يمنوا بصدقاتهم، لكي لا يذهب أجرهم، ثم ضرب لذلك، مثلًا فقال تعالى: كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، يعني المشرك إذا تصدق، فأبطل الشرك صدقته، كما أبطل المن والأذى صدقة المؤمن، ثم ضرب لهما مثلًا جميعًا لصدقة المؤمن الذي يمن وبصدقة المشرك»83.
وفي بيان كلمة صفوان، يقول أبو عبيدة: «الصفوان: جمع، ويقال للواحدة: (صفوانة) فى معنى الصفاة، والصفا: للجميع، وهى الحجارة الملس. (صلدًا) والصلد: التي لا تنبت شيئًا أبدًا من الأرضين، والرؤوس... وهو الأجلح»84.
هكذا نلاحظ أن القرآن الحكيم لا يترك فرصة لترك كبير الأثر وتوضيح الموقف في نفس الإنسان إلا واهتبلها، منها ما يتعلق بالكفار ومنها ما يتعلق بالمؤمنين، مما يدل على أن إبطال العمل يشمل الجميع، فالواجب علينا الحذر من كل ما يبطل أعمالنا.
٤. دعاء الآلهة المزعومة من دون الله تعالى وعجزها.
قريب مما سبق ذكره التشبيه الذي أورده رب العزة سبحانه عن عجز الآلهة المزعومة في قضاء حوائج عابديها، فقد شبه الله تعالى عجزها بعجز من ورد الماء ليستقي منه، وليس معه شيء ليشرب به، فبسط يديه إلى الماء من بعيد، فماذا عساه أن يستقي، وكيف عساه أن يشرب؟!.
قال سبحانه: (ﭑ ﭒ ﭓﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) [الرعد: ١٤].
ذكر الفراء أن المقصود بـ (ﭒ ﭓ) هي كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، وأن المقصود ب (ﭗ ﭘ) هم: الأصنام85 .
وقد وضح ابن أبي زمنين وجه التشبيه الذي ضربه الله تعالى بشكل جميل قائلًا: «هذا مثل الذي يعبد الأوثان رجاء الخير في عبادتها هو كالذي يرفع بيده الإناء إلى فيه يرجو به الحياة، فمات قبل أن يصل إلى فيه؛ فكذلك المشركون، حيث رجوا منفعة آلهتهم ضلت عنهم (ﭨ ﭩ ﭪ) آلهتهم (ﭫ ﭬ ﭭ)»86.
شاءت حكمة الله تعالى في الابتلاء أن يطلق العنان لإبليس وحزبه في الدعوة إلى الباطل، لكنه سبحانه ما فتئ يدفع باطلهم بحقٍ أبلج، يحمله ثلة من خيرة الخلق، على رأسهم أنبياء الله ورسله صلى الله عليهم جميعًا، وقد بذلوا في هذه المعركة -التي لن يخمد لهيبها إلا مع صيحة إسرافيل عليه السلام الأولى -كل غالٍ ونفيس من دماء زكية، وأموال طائلة، ومهج عن ربها رضية.
ولولا هذا الدفع منه سبحانه بخيرة خلقه؛ لمنع الباطل ومروجيه، لما صلحت الحياة ولا الاستخلاف فيها، كما قال ربنا: (ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ) [البقرة: ٢٥١].
بعد حديثه عن قتل طالوت وهزيمة جنوده، على يد الثلة المؤمنة جالوت وجنوده، الذين اصطفاهم الله لهذا الواجب، فقد «أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لولا دفعه بالمؤمنين في صدور الكفرة على مر الدهر لفسدت الأرض؛ لأن الكفر كان يطبقها ويتمادى في جميع أقطارها، ولكنه تعالى لا يخلي الزمان من قائم بحق، وداع إلى الله ومقاتل عليه، إلى أن جعل ذلك في أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، له الحمد كثيرًا.
قال مكي: «وأكثر المفسرين على أن المعنى لولا أن الله يدفع بمن يصلي عمن لا يصلي وبمن يتقي عمن لا يتقي لأهلك الناس بذنوبهم»87.
وهكذا تتعدد حالات الإفساد بالباطل، ويتعدد لأجلها الدفع لها، ومن ذلك مجيء الإسلام -خاتم الرسلات- في دفع عبادة الأصنام، فنال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه صنوفًا من العذاب، لا تستطيع الجبال حملها، حتى أذن الله لهم بالدفع عن دينهم وأنفسهم.
قال سبحانه: (ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [الحج: ٤٠].
و«دفع الله بعض الناس ببعض إظهاره وتسليطه المسلمين منهم على الكافرين بالمجاهدة، ولولا ذلك لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة في أزمنتهم، وعلى متعبداتهم فهدموها، ولم يتركوا للنصارى بيعًا، ولا لرهبانهم صوامع، ولا لليهود صلوات، ولا للمسلمين مساجد. أو لغلب المشركون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على المسلمين وعلى أهل الكتاب الذين في ذمتهم وهدموا متعبدات الفريقين»88.
وهنا يأتي رب العزة سبحانه لبيان الحكمة من وراء هذا التدافع، وتلك الدماء التي تراق، والأنفس التي تزهق، ليقول: (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ) [الحج: ٦٢].
نعم! إن البعض يقاتل الناس ليسود الباطل بكل صوره وأشكاله، وأما أهل الحق فلا يعبدون إلا الحق، ويرخصون أنفسهم زكية في سبيله.
ولما تمكن حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم من دفع الباطل وأهله، وفتح مكة، ودخل إلى الكعبة، وجد الأصنام فيها وحولها، فأخذ يكسرها قائلًا: جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقًا.
قال سبحانه: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ) [الإسراء: ٨١].
جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: (وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبل إلى الحجر، فاستلمه ثم طاف بالبيت، قال: فأتى على صنمٍ إلى جنب البيت كانوا يعبدونه، قال: وفي يد رسول الله صلى الله عليه وسلم قوسٌ وهو آخذٌ بسية القوس89، فلما أتى على الصنم جعل يطعنه في عينه، ويقول: (ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ) [الإسراء: ٨١])90.
«لو ما رأيت محمدًا وجنوده بالفتح يوم تكسر الأصنام لرأيت دين الله أصبح بينًا والشرك يغشي وجهه الإظلام»91.
وقد أمر الله تعالى حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يصدع أمام كفار قريش بالقول: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ) [سبأ: ٤٩].
ورد عن قتادة القول: «(ﭑ ﭒ ﭓ) أي: القرآن (ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ) والباطل: إبليس، أي: ما يخلق إبليس أحدًا ولا يبعثه»92.
وعمم الطبري القول في الباطل فقال: «قل لهم يا محمد: جاء القرآن ووحي الله (ﭔ ﭕ ﭖ) يقول: وما ينشىء الباطل خلقًا»93.
وهكذا ستنتهي هذه المعركة بانتصار الحق على الباطل، كما صرح بذلك سبحانه: (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ) [الأعراف: ١٢٨].
وسيؤول حال الباطل إلى الزهوق والاندثار، كما نص على ذلك رب العزة قائلًا: (ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [الأنبياء: ١٨].
أي: «بل من عادتنا وموجب حكمتنا واستغنائنا عن القبيح أن نغلب اللعب بالجد، وندحض الباطل بالحق، واستعار لذلك القذف والدمغ تصويرًا لإبطاله وإهداره ومحقه، فجعله كأنه جرم صلب كالصخرة مثلًا، قذف به على جرم رخو أجوف فدمغه، ثم قال: ولكم الويل مما تصفون به مما لا يجوز عليه وعلى حكمته»94.
وعليه فإنه يجب على المؤمن أن يرتبط بالله القوي، وأن يحذوه الأمل في قرب انتصار الحق على الباطل ودحره، راضيًا بسنة الله تعالى الاجتماعية القائمة على الصراع الدائم بين الحق والباطل، وتشتمل في ثناياها بحرًا من الحكمة لا ينضب، ودليلًا على استحقاقه سبحانه بالألوهية لا ينتهي؛ فعلينا بالصبر والتصبر.
لكل بداية نهاية في هذه الحياة الدنيا؛ فكما أعطى الله تعالى الشيطان وحزبه القدرة على سلوك طريق الباطل، فهو كذلك بشرهم بمصير محتوم في الدنيا والآخرة، كنهاية حتمية لباطلهم، ولهم أنفسهم.
أولًا: مصير الباطل:
من خلال النظر في الآيات الكريمة السابقة وغيرها، يتبين لنا أن الله تعالى وعد الباطل بمصير محتم، ملؤه الخسران والمحو والزهوق والمحق، ولكل منها معنى يختص به، وهي كالآتي:
١. محو الباطل.
تكفل الحق تبارك وتعالى بمحو الباطل، كما في قوله: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) [الشورى: ٢٤].
والمحو عند أهل اللغة يعني ذهاب الشيء وأثره95، ويقال: محت الريح السحاب بمعنى: ذهبت به96، ومحى الطالب السبورة، أي: لم يترك عليها أثرًا للكتابة.
وأما أهل العلم الشرعي، فلم يذهبوا في معناه أبعد مما ذهب إليه أهل اللغة، فهذا الإمام أبو جعفر الطبري يقول: «(ﮀ ﮁ ﮂ) يقول: ويذهب الله بالباطل فيمحقه»97.
وكذا النحاس حيث قال: «معناه أن الله جل وعز يزيل الباطل ولا يثبته»98.
أما السمرقندي فيرى أنه «يعني: يهلك الله تعالى الشرك»99.
ومن مجموع ما ذكروه يتبين لنا أن المحو هو إزالة الباطل وإهلاكه حتى لا يبقى له أثر.
وبالاستدلال من كلام الله تعالى نجد أنه سبحانه استخدم المحو في إزالة الشيء وعدم بقاء شيء منه، كما في قوله تعالى: (ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [الإسراء: ١٢].
وكذا في قوله سبحانه: (ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ) [الرعد: ٣٩].
وكذلك ورد في كلام أفصح العرب صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه جبير بن مطعم رضي الله عنه حيث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لي خمسة أسماءٍ: أنا محمدٌ، وأحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب)100.
وهكذا كان حقًا صلى الله عليه وسلم.
وأما السياق الذي ورد فيه المحو للباطل في الآية السابقة، فهو في معرض الإقناع للمشركين بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم لن يفتري على الله تعالى شيئًا، وإلا لعذبه الله على مرأى من الجميع.
قال الطبري: «يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: لو حدثت نفسك أن تفتري على الله كذبًا، لطبعت على قلبك، وأذهبت الذي أتيتك من وحيي، لأني أمحو الباطل فأذهبه، وأحق الحق، وإنما هذا إخبار من الله الكافرين به، الزاعمين أن محمدًا افترى هذا القرآن من قبل نفسه، فأخبرهم أنه إن فعل لفعل به ما أخبر به في هذه الآية»101.
وفي إثبات ما سبق ذكره يقول النحاس: «ففيه احتجاج عليهم لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن معناه أن الله جل وعز يزيل الباطل ولا يثبته، فلو كان ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم باطلًا لمحاه الله جل وعز وأنزل كتابًا على غيره.
وهكذا جرت العادة في جميع المفترين أن الله سبحانه يمحو باطلهم بالحق والبراهين والحجج ويحق الحق بكلماته أي يبين الحق»102.
إذن فهو تعالى يبرهن للكفار على صدق الرسول والرسالة بمحو باطلهم، ولا أدل على ذلك من الواقع الذي خبروه من أسلافهم، في عاد وثمود وقرى لوط وغيرها الكثير.
٢. زهوق الباطل.
وأما النتيجة الثانية التي يتعرض لها الباطل كما وعد الله تعالى، فهو الزهوق، حيث قال عز من قائل: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ) [الإسراء: ٨١].
والزهوق له عند أهل اللغة أكثر من معنى، أهمها: الذهاب والهلاك والاضمحلال، يقال: «زهقت نفسه، وهي تزهق زهوقًا، أي: ذهبت، وكل شيء هلك وبطل فقد زهق»103.
وذهب ابن فارس إلى أن له أصلًا واحدًا يدل على: «تقدمٍ ومضيٍ وتجاوزٍ، من ذلك زهقت نفسه، ومن ذلك زهق الباطل، أي: مضى. ويقال: زهق الفرس أمام الخيل، وذلك إذا سبقها وتقدمها. ويقال: زهق السهم، إذا جاوز الهدف، ويقال: فرسٌ ذات أزاهيق، أي: ذات جريٍ وسبقٍ وتقدمٍ »104.
والذي يظهر أنها ترجع إلى معنى الذهاب، فإذا تقدم الشيء فقد ذهب، وكذلك إذا مضى وتجاوز غيره، ثم إن الرابط مع أقوال غيره من أهل العلم، أن الهالك والمضمحل نهايتهما الذهاب.
ومن ثم فإننا نتحدث عن مصير آخر للباطل، ألا وهو اضمحلاله وإهلاكه حتى يذهب بلا عودة.
ولقد عاين المسلمون الأوائل زهوق الباطل -من عبادة للأوثان والهوى وتقليد للآباء وغيرها-، حين بزغ فجر الإسلام، وأخذ هذا النور بالاتساع أكثر فأكثر، والباطل يضمحل شيئًا فشيئًا، كما وعد الله تعالى.
وسيبلغ النور الذي يذهب الباطل مشارق الأرض ومغاربها، كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم حيث قال في الحديث الذي رواه ثوبان رضي الله عنه مولى رسول الله: (إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنةٍ عامةٍ، وأن لا يسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنةٍ عامةٍ، وأن لا أسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم، يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها - أو قال من بين أقطارها - حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا، ويسبي بعضهم بعضًا)105.
يقول الإمام النووي: «أما زوي فمعناه جمع، وهذا الحديث فيه معجزاتٌ ظاهرةٌ وقد وقعت كلها بحمد الله كما أخبر به صلى الله عليه وسلم، قال العلماء: المراد بالكنزين الذهب والفضة، والمراد كنزي كسرى وقيصر ملكى العراق الشام، فيه إشارةٌ إلى أن ملك هذه الأمة يكون معظم امتداده في جهتي المشرق والمغرب، وهكذا وقع، وأما في جهتي الجنوب والشمال فقليلٌ بالنسبة إلى المشرق والمغرب، وصلوات الله وسلامه على رسوله الصادق الذي لاينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى.قوله صلى الله عليه وسلم:(فيستبيح بيضتهم) أي: جماعتهم وأصلهم»106.
وقد ورد عن قتادة في بيان معنى (ﮜ ﮝ): «هلك الباطل وهو الشيطان»107.
قال ابن كثير: «تهديدٌ ووعيد لكفار قريش؛ فإنه قد جاءهم من الله الحق الذي لا مرية فيه ولا قبل لهم به، وهو ما بعثه الله به من القرآن والإيمان والعلم النافع. وزهق باطلهم، أي اضمحل وهلك، فإن الباطل لا ثبات له مع الحق ولا بقاء (ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) [الأنبياء: ١٨]»108.
«ودل فعل كان على أن الزهوق شنشنة109 الباطل، وشأنه في كل زمانٍ أنه يظهر ثم يضمحل»110.
ثم نحن بعد هذا الظلم الذي تحياه الأمة، من تسلط أعدائها عليها، ترتفع أعناقنا أملًا في رؤية بزوغ فجر ذاك اليوم، الذي يزول فيه الباطل ويندحر بكل ملله.
٣. محق الباطل وقذفه.
توعد الله العزيز الكفر والباطل بالمحق، وهو جزء من الحرب التي تكفل الله تعالى فيها بنصرة الحق وأهله، قال سبحانه: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ) [آل عمران: ١٤١].
والمحق عند أهل اللغة ذهاب البركة ونقص الشيء بما يؤدي إلى تلفه، قال الخليل بن أحمد: « محق: محقه الله فانمحق وامتحق: أي ذهب خيره وبركته ونقص»111.
«وكل شيءٍ نقص وصف بهذا، والمحاق: آخر الشهر إذا تمحق الهلال، ومحقه الله: ذهب ببركته. وقال قومٌ: أمحقه، وهو رديءٌ»112.
إذن هو وعد منه سبحانه بأن يمحق الباطل، فيذهب بركته، وينقص منه ومن أهله.
وفي التفريق بين المحق والإذهاب، يلفت العسكري الانتباه إلى أن المحق يكون لمجموع الأشياء وليس للفرد، ومن ذلك أنه لا يقال: محق الدينار إذا أذهبه، بل محق الدنانير.113
ومحق الباطل -بإذهاب بركته وإنقاصه- له صور كثيرة منها:
قال تعالى: (ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [الأنبياء: ١٨].
فلله أجناد لا يعلم عددها إلا هو سبحانه، ومنهم خلص المؤمنين، الذين اشترى الله منهم أنفسهم، فأرخصوها في سبيل رضوانه، يذبون عن الحق، لا يهدأ لهم بال حتى يروا الكفر والباطل يتقلص شيئًا فشيئًا، حتى تعلو راية الحق.
٤. بطلان الباطل.
ومما توعد الله الباطل به (إبطاله)، كما صرح ربنا سبحانه وتعالى في قوله: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [الأنفال: ٨].
وقد ذكرنا في أن الباطل في اللغة هو خلاف الحق وضده، وأنه يعني: ذهاب الشيء وزواله، وقلة مكثه في الوجود والواقع.
وذكرنا أن الذي يربط تلك المعاني جميعها هو الزوال واللاقيمة؛ فالشيطان سرعان ما يزول شره، ويظهر وهنه.
يقول القرطبي: «أي: يستأصلهم بالهلاك. (ﯟ ﯠ) أي يظهر دين الإسلام ويعزه. (ﯡ ﯢ) أي الكفر. وإبطاله إعدامه، كما أن إحقاق الحق إظهاره» 114.
وبعد: فقد ظهر لنا من خلال ما سبق، أن الله تعالى تكفل بإعدام الباطل ومحقه وإذهابه وإبطاله ومحوه وعدم الإبقاء عليه، وهذا يجعل طمأنينة في صدر المؤمن لا نهاية لها، فمن الذي يقف في وجه الجبار سبحانه؟!.
ثانيًا: مصير المبطلين:
لا شك في أن مصير المبطلين تابع لمصير الباطل؛ فهم جنوده الأوفياء، ومن ذلك:
١. ارتياب المبطلين.
قال تعالى: (ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [العنكبوت: ٤٨].
الريبة خلق ذميم، يتصف به الشاك وضعيف اليقين والثقة، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن من أن يستحوذ عليه الريب، كما في الحديث الذي رواه الحسن بن علي رضي الله عنه: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينةٌ، وإن الكذب ريبةٌ)115.
وأما الريب فهو الشك والخوف، و«ما رابك من أمرٍ تخوفت عاقبته»116، والاسم منه: (الريبة)، وتعني التهمة والشك117.
ويفرق العسكري بكلام لطيف بين الريب والشك، حيث يقول: «الشك: هو تردد الذهن بين أمرين على حد سواء، وأما الريب فهو شك مع تهمة.
ودل عليه قوله تعالى: (ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ) [البقرة: ٢].
وقوله تعالى:
(ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ) [البقرة: ٢٣].
فإن المشركين - مع شكهم في القرآن -
كانوا يتهمون النبي بأنه هو الذي افتراه وأعانه عليه قوم آخرون! ويقرب منه (المرية) وهو بمعناه»118.
فأهل الباطل في ريبة دائمة، وخوف ينكد عليهم عيشهم، فكيف يستلذون بالعيش، والخوف من قرب مصيرهم المحتوم يؤرقهم ليلًا ونهارًا؟.
٢. إهلاك المبطلين.
من الأمور التي توعد الله تعالى فيها أهل الباطل الهلاك في الدنيا، قال تعالى: (ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) [الأعراف: ١٧٣].
ووجه الاستدلال في الآية الكريمة: أنه إذا كان اتباع المبطلين في أفعالهم يهلك غيرهم من الصالحين، فما بالنا بإهلاك المبطلين أنفسهم.
فإهلاك الله تعالى الكافرين المبطلين ومعهم الصالحين أمر طبيعي، إذا لم يقوموا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكثر الخبث، وانتشرت الفواحش.
فعن زينب بنت جحش، رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعًا يقول: (لا إله إلا الله، ويلٌ للعرب من شرٍ قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه) وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحشٍ: فقلت يا رسول الله: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: (نعم إذا كثر الخبث)119.
ومن السنن الاجتماعية التي بينها الله في كتابه: إهلاك المبطلين، ولا أدل على ذلك من إهلاكه سبحانه للقرى الظالمة، كقوم عاد وثمود وغيرهم.
قال الله تعالى: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ) [الكهف: ٥٩].
فتلك «القرى من عاد وثمود وأصحاب الأيكة أهلكنا أهلها لما ظلموا، فكفروا بالله وآياته، (ﯧ ﯨ ﯩ) يعني ميقاتًا وأجلًا حين بلغوه جاءهم عذاب فأهلكناهم به، يقول: فكذلك جعلنا لهؤلاء المشركين من قومك يا محمد الذين لا يؤمنون بك أبدًا موعدًا»120.
ولهذا كان من بين ما حذر به الله تعالى المشركين من عاقبة الكفر، هو تذكيرهم بعاقبة تلك القرون التي لا زالت مساكنهم شاهدة على حجم العذاب الذي تعرضوا له وهوله.
قال سبحانه: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) [طه: ١٢٨].
وقال تعالى: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ) [القصص ٥٨].
موضحًا لهم أن أرضهم ومساكنهم لم تسكن من بعدهم، وأن البقاء لله تعالى فهو الوارث.
٣. خسران المبطلين.
ذكرنا سابقًا أن الله تعالى توعد المبطلين بالهلاك في الدنيا، فصدقهم وأهلكهم أيما إهلاك، غير أن ذلك كان جزءًا من مصير مخيف ينتظرهم في الآخرة؛ فعذاب الآخرة أشد وأعظم من عذاب الدنيا، وكذلك فهو دائم لا ينقطع.
وهذا أمر تضطرب له القلوب التي فيها ولو ذرة من الحياة، ويشيب له الولدان، وبنظرة سريعة في وصف العذاب الذي أعده الله تعالى للمبطلين، سيتبين أنهم مغمورون عن هذه الحقائق والأهوال.
قال تعالى: (ﰒ ﰓ ﰔﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ) [الرعد: ٣٤].
وقال أيضا: (ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [طه: ١٢٧].
وقال سبحانه: (ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) [الزمر: ٢٦].
وقال تعالى: (ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) [فصلت: ١٦]؛ فهو أشق وأشد وأبقى وأكبر وأخزى، وكلها بالمقارنة بعذاب الدنيا، أيًا كان نوعه وحجمه وشدته.
فخسارة المبطلين يوم القيامة وفي الآخرة عمومًا شيء مجزوم به، لا راد له.
قال سبحانه: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) [غافر: ٧٨].
وقال في أخرى تأكيدًا لما سلف: (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [الجاثية: ٢٧].
«فإذا جاء أمر الله بالعذاب في الدنيا أو الآخرة قضي بالحق بإنجاء المحق وتعذيب المبطل، وخسر هنالك المبطلون المعاندون باقتراح الآيات بعد ظهور ما يغنيهم عنها»121.
وهكذا تنتهي فصول حياة طويلة نجح فيها أناس لم تغرهم الحياة الدنيا، وسقط فيها المبطلون، بما كانوا عن آيات الله يصدون ويستكبرون، فكانت نهايتهم خسرانًا مبينًا، لا رجعة فيها ولا ينفع معها الندم.
موضوعات ذات صلة: |
الافتراء، الحق، الزور، الكذب |
1 انظر: الصحاح الصحاح، للجوهري ٤/ ١٦٣٥، مختار الصحاح، الرازي ص ٣٦.
2 مقاييس اللغة، ابن فارس ١/ ٢٥٨، بتصرف يسير.
3 الصحاح، الجوهري ٤/ ١٦٣٥.
4 انظر: التعريفات، علي الجرجاني ص ٤٢، المفردات، الراغب ص ١٢٩، الكليات، الكفوي ص ٢٤٤، القاموس الفقهي، سعيد أبو حبيب ص ٣٩، معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار ١/ ٢١٩.
5 انظر: التوقيف على مهمات التعاريف، للمناوي ص ٦٩.
6 انظر: المعجم المفهرس، محمد فؤاد عبدالباقي ص ١٢٣- ١٢٤.
7 انظر: المفردات، الراغب ص١٢٩، الوجوه والنظائر، الدامغاني ص ١٣١- ١٣٢، نزهة الأعين النواظر، ابن الجوزي ص ١٩٦- ١٩٧.
8 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٣/ ٣٥٦، لسان العرب، ابن منظور ١١/ ٣٩٠، المصباح المنير، الفيومي ٢/ ٣٦٣.
9 الكليات، الكفوي ص ٥٦٧.
10 المفردات، الراغب ص ٥٠١.
11 مقاييس اللغة، ابن فارس ٢/ ١٢٩، ١٣٠ بتصرف.
12 الفروق اللغوية، العسكري ص ٢٣٦.
13 النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير ١/ ٣٣١.
14 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٥/ ٢٥٥، أحكام القرآن، الجصاص ٥/ ٩٢، أحكام القرآن، ابن العربي ٣/ ٤٥٤.
15 انظر: العين، الفراهيدي ٤/ ٤٤٩، مختار الصحاح، الفيومي ص ٢٨٣.
16 الكليات، الكفوي ص ٧٧٨.
وانظر: مجاز القرآن، أبو عبيدة ٢/ ٨٢.
17 انظر: العين، الفراهيدي ٣/ ٦، المصباح المنير، الفيومي١/ ١٤٣.
18 مقاييس اللغة، ابن فارس ٢/ ١٥، ١٧ بتصرف.
19 انظر: التعريفات، الجرجاني ص ٨٩، وأما أبو البقاء الكفوي فقد رأى أن اللفظ انتقل من القول المطابق للواقع إلى«اللفظ المستعمل فيما وضع له في اصطلاح التخاطب»، الكليات ص ٣٦٣.
20 جامع البيان، الطبري ١٣/ ٤٠٨.
21 انظر: إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٤/ ٧.
22 تفسير القرآن العزيز، ابن أبي زمنين ٤/ ٢٣٤، واعتبر الماوردي أنه يحتمل معنى الهوى حيث قال: «فيه قولان: أحدهما: أن الباطل الشيطان، قاله مجاهد. الثاني: إبليس، قاله قتادة، وسمي بالباطل لأنه يدعو إلى الباطل. ويحتمل ثالثًا: أنه الهوى»، النكت والعيون، الماوردي ٥/ ٢٩٢، والجامع بينها: أن إبليس الشيطان يستغل هوى الإنسان ورغباته لإغوائه؛ ولهذا يقال للهوى هوى؛ «لأنه يهوي بصاحبه في الباطل» إعراب القرآن، النحاس ١/ ٢٧٨، فلا تعارض إذن.
23 أي: الفوز والغلبة.
انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٤/ ٤٤٨.
24 جامع البيان، الطبري ٩/ ٢٢٤- ٢٢٥.
25 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٨/ ٥٦.
26 انظر: الجواهر الحسان، الثعالبي ٢/ ٢٤.
27 انظر: الكشاف، الزمخشري ٢/ ٢١٥.
28 جامع البيان، الطبري ١٢/ ٣٤٨.
29 انظر: معاني القرآن، الفراء ٢/ ٢٢٩، إعراب القرآن، النحاس ٣/ ٧٣، مفاتيح الغيب، الرازي ١١ / ١٣٤، ١٣٥، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٥/ ٤٤١، فتح القدير، الشوكاني ٣/ ٤٦٢، وغيرهم.
30 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب كما بدأنا أول خلق نعيده، سورة الحج ٦/ ٩٧.
31 المصدر السابق.
32 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ١/ ٥٤٢.
33 انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب ٤/٢٤٣٣.
34 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ١١/ ١٣٨.
35 المصدر السابق ١١/ ١٣٨.
36 تفسير الشعراوي ١/ ٦٠٦٦، بتصرف، وانظر: في ظلال القرآن، سيد قطب ٤/ ٢٤٣٣.
37 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٧/ ٢٩٨.
38 تفسير المنار، محمد رشيد رضا ١٢/ ٤٢.
39 إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٤/ ١٩٤، بتصرف.
40 إعراب القرآن، النحاس ٣/ ٣١٠.
41 الكشاف، الزمخشري ١/ ٤٥٤.
42 أنوار التنزيل، البيضاوي ٢/ ٥٤.
43 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٧/ ١٨٣.
44 جامع البيان، الطبري ٢١/ ٤٨٠.
45 النكت والعيون، الماوردي ٥/ ١٨٥.
46 جامع البيان، الطبري ٢١/ ٤٨٠.
47 انظر: جامع البيان، الطبري ١٧/ ٦٨، والكشاف، الزمخشري ٢/ ٥٧٢.
48 انظر: جامع الأحكام، القرطبي ٧/ ٣٧٠.
49 انظر: لباب التأويل، الخازن ٢/ ٢٩٦.
50 إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٤/ ١٧٠.
51 تفسير المنار، محمد رشيد رضا ١١/ ٣٨٢.
52 انظر: جامع البيان، الطبري ٢٢/ ١٨٧، والنكت والعيون، الماوردي، ٥/ ٣٠٦.
واختار الطبري عدم دخول الكبائر والمعاصي في محبطات الأعمال، وتبعه أبو السعود في إرشاد العقل السليم ٨/ ١٠١.
53 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٧/ ٣٢٢.
54 لباب التأويل، الخازن ١/ ٢٠٠.
55 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢/ ١٨٧.
56 انظر: التفسير الوسيط، الزحيلي ١/ ٤١١.
57 معالم التنزيل، البغوي ١/ ٧٢٠، وانظر: أنوار التنزيل، البيضاوي ٢/ ١٠٩.
58 جامع البيان، الطبري ٩/ ٣٩٢.
59 تفسير الشعراوي ٨/ ٥٠٥٨.
60 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العلم، باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب، رقم ١٠٥ ١/ ٣٣، ومسلم في صحيحه، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال رقم ١٦٧٩، ٣/ ١٣٠٦.
61 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٢/ ٣٣٨.
62 تفسير المنار، محمد رشيد رضا ٢/ ١٥٧، بتصرف.
63 انظر: تفسير الشعراوي ٢/ ٧٩٩.
64 المحرر الوجيز، ابن عطية ١/ ٢٦٠.
65 انظر: المصدر السابق ١/ ٢٦٠.
66 انظر: إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٥/ ٢٣٠، التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٤/ ٨٦.
67 انظر: جامع البيان، الطبري، ١٨/ ٥٠، تفسير السمرقندي ٢/ ٣٥٢.
68 انظر: المحرر الوجيز، ابن عطية ٣/ ٥٢٥، تفسير السمرقندي ٢/ ٣٥٢، مجاز القرآن ١/ ٤٠٨.
69 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٤/ ٨٦.
70 جامع البيان، الطبري ٢١/ ٣٥٣.
71 أخرجه أحمد في مسنده، عن أبي هريرة، مسند المكثرين من الصحابة، رقم ٨٧١٣، ١٤/ ٣٣١، وأبو داود في سننه،واللفظ له، كتاب الملاحم، باب في تداعي الأمم على الإسلام، رقم ٤٢٩٧، ٤/ ١١١، وصححه الألباني، مشكاة المصابيح، رقم ٥٣٦٩، ٣/ ١٤٧٤.
72 انظر: تفسير الراغب الأصفهاني ١/ ١٧١.
73 أخرجه الطبري في تفسيره ١/ ٥٦٨، وابن أبي حاتم في تفسيره ١/ ٩٨.
74 الكشاف ١/ ١٣٢، الزمخشري.
وانظر: تفسير القرآن، ابن المنذر ٥٨٩ ١/ ٢٤٩ عن محمد بن إسحاق.
75 أخرجه الطبري في تفسيره ٦/ ٥٠٤.
76 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٣/ ٢٧٩ بتصرف.
77 المحرر الوجيز، ابن عطية ٤/ ٣٤٤.
78 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٤/ ٤٩، وانظر: فتح القدير، الشوكاني ٤/ ٢٦٨.
79 الكشاف، الزمخشري ٣/ ٤٨٨.
80 جامع البيان، الطبري ٢٠/ ١٢٠.
81 جامع البيان، الطبري ١٦/ ٤٠٧ بتصرف.
82 تفسير القرآن العزيز، ابن أبي زمنين ٢/ ٣٥٢، وانظر: جامع البيان، الطبري ١٦/ ٤٠٨.
83 تفسير السمرقندي ١/ ١٧٦.
84 مجاز القرآن، أبو عبيدة ١/ ٨٢ بتصرف.
85 انظر: معاني القرآن، الفراء ٢/ ٦١.
86 تفسير القرآن العزيز ٢/ ٣٥٠.
87 المحرر الوجيز، ابن عطية ١/ ٣٣٧.
88 الكشاف، الزمخشري ٣/ ١٦٠.
89 هي ما انعطف من طرفي القوس، انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٣/ ١٢٣، ونيل الأوطار، الشوكاني ٨/ ٢٢.
90 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب فتح مكة، رقم ١٧٨٠، ٣/ ١٤٠٦.
91 ينسب إلى فضالة بن عمير بن الملوح الليثي، انظر: أخبار مكة، للفاكهي ٥/ ٢٠٤.
92 أخرجه الطبري في تفسيره ٢٠/ ٤٢٠، وابن أبي حاتم في تفسيره ١٠/ ٣١٦٨.
93 جامع البيان، الطبري٢٠/ ٤١٩.
94 الكشاف، الزمخشري ٣/ ١٠٧.
95 العين، الفراهيدي ٣/ ٣١٤، مقاييس اللغة، ابن فارس ٥/ ٣٠٢، تاج العروس، الزبيدي ٣٩/ ٥١٢.
96 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٥/ ٣٠٢، والمحكم، ابن سيده ٣/ ٤٥٤، ومعجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار ٣/ ٢٠٧٤.
97 جامع البيان، الطبري ٢١/ ٥٣٢.
98 إعراب القرآن، النحاس ٤/ ٥٦.
99 تفسير السمرقندي ٣/ ٢٤٣.
100 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب ما جاء في أسماء رسول الله، رقم ٣٥٣٢، ٤/ ١٨٥، واللفظ له،، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب ما في أسمائه صلى الله عليه وسلم، رقم ٢٣٥٤، ٤/ ١٨٢٨.
101 جامع البيان، الطبري ٢١/ ٥٣٢.
102 إعراب القرآن، النحاس ٤/ ٥٦.
وانظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٦/ ٢٥.
103 العين، الفراهيدي ٣/ ٣٦٣.
وانظر: لسان العرب، ابن منظور ١٠/ ١٤٧، القاموس المحيط، الفيروزآبادي ص ٨٩٢.
104 مقاييس اللغة، ابن فارس ٣/ ٣٢.
105 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعضٍ، رقم ٢٨٨٩، ٤/ ٢٢١٥.
106 المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، النووي ١٨/ ١٣.
107 جامع البيان، الطبري ١٧/ ٥٣٧.
108 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٥/ ١١٢.
وانظر: إعراب القرآن، النحاس ٢/ ٢٨١، تفسير السمرقندي ٢/ ٣٢٦.
109 أي: غريزته، انظر: العين، الفراهيدي ٦/ ٢٢٠.
110 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٥/ ١٨٨.
111 العين، الفراهيدي ٣/ ٥٦.
وانظر: جمهرة اللغة، ابن دريد ١/ ٥٦٠.
112 مقاييس اللغة، ابن فارس ٥/ ٣٠١.
113 انظر: الفروق اللغوية، العسكري ص ٣٠٥.
114 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٧/ ٣٧٠.
115 أخرجه أحمد في مسنده، مسند أهل البيت رضوان الله عليهم أجمعين، حديث الحسن بن علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنهما، رقم ١٧٢٣، ٢/ ٣٤٥، والترمذي في سننه، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع، باب منه، رقم ٢٥١٨، ٤/ ٦٦٨، واللفظ له.
وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، رقم ٢٧٧٣، ٢/ ٨٤٥.
116 العين، الفراهيدي ٨/ ٢٨٧.
117 انظر: الصحاح، الجوهري ١/ ١٤١، مقاييس اللغة، ابن فارس ٢/ ٤٦٣.
118 معجم الفروق اللغوية، العسكري ص ٢٦٤.
119 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قصة يأجوج ومأجوج، رقم ٣٣٤٦، ٤/ ١٣٨، واللفظ له، ومسلم في صحيحه، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب اقتراب الفتن وفتح ردم يأجوج ومأجوج، رقم ٢٨٨٠، ٤/ ٢٢٠٧.
120 جامع البيان، الطبري ١٨/ ٥٣
121 أنوار التنزيل، البيضاوي ٥/٦٤.