عناصر الموضوع

مفهوم البحر

البحر في الاستعمال القرآني

الألفاظ ذات الصلة

البحر والقدرة الإلهية

البحر وأشراط الساعة

البحر والابتلاء

منافع البحر

البحر من جند الله سبحانه وتعالى

البحر في المثل القرآني

لمسات إعجازية في البحر

البحر

مفهوم البحر

أولًا: المعنى اللغوي:

الباء والحاء والراء أصل يدل على السعة والانبساط، قال الخليل: «سمي البحر بحرًا لاستبحاره وهو انبساطه وسعته»1، والبحر لغة: الشق، وإنما سمي البحر بحرًا؛ لأنه شق في الأرض شقًا، وجعل ذلك الشق لمائه قرارًا، والبحر: الماء الكثير، ملحًا كان أو عذبًا، وهو خلاف البر، سمي بذلك لعمقه واتساعه.

وقد غلب البحر على الملح حتى قل في العذب، وجمعه أبحرٌ وبحورٌ وبحارٌ، وماءٌ بحرٌ: ملحٌ، قل أو كثر، قال ابن سيده: «وكل نهرٍ عظيمٍ بحرٌ»، وقال الزجاج: «وكل نهرٍ لا ينقطع ماؤه فهو بحرٌ»2، قال الراغب في المفردات: «أصل البحر: كل مكانٍ واسعٌ جامعٌ للماء الكثير» 3، ويسمى الفرس الواسع الجري: بحرًا، ومنه قول النبي عليه الصلاة والسلام في مندوب فرس أبي طلحة: (إن وجدناه لبحرًا)4.

ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:

من المعاني اللغوية يتضح أن تعريف البحر اصطلاحًا لابد أن يشتمل على ثلاثة أمور: سعة المكان، وجمعه للماء، وأن يكون الماء كثيرًا، سواء كان هذا الماء ملحًا أو عذبًا، راكدًا أو جاريًا5، وقد عرف البحر خلق كثيرون، قال صاحب التوقيف على مهمات التعريف: «البحر: مستقر الماء الواسع بحيث لا يدرك طرفيه من كان في وسطه، وهو مأخوذ من الاتساع»6.

وقال بعضهم: «البحر يقال في الأصل للماء الملح دون العذب»7 .

البحر في الاستعمال القرآني

وردت مادة (بحر) في القرآن الكريم (٤٢) مرة، يخص موضوع البحث منها (٤١) مرة8.

والصيغ التي وردت هي:

الصيغة

عدد المرات

المثال

المفرد

٣٣

( ) [الكهف: ٤٢]

المثنى

٥

( ) [البقرة: ٢٧٢]

الجمع

٣

( ) [البقرة: ٢٥٤]

وجاء البحر في الاستعمال القرآني بمعناه اللغوي وهو: المكان الواسع الجامع للماء الكثير، سواء كان عذبًا أو مالحًا 9.

الألفاظ ذات الصلة

اليم:

اليم لغة:

الياء والميم: كلمةٌ تدل على قصد الشيء وتعمده وقصده، واليم: البحر10.

اليم اصطلاحًا:

متسع من الأرض أصغر من المحيط مغمور بالماء الملح أو العذب11.

الصلة بين البحر واليم:

اليم من الكلمات المرادفة للبحر، قال ابن منظور: «وقد أجمع أهل اللغة أن اليم هو البحر»12، لكن من الملاحظ أن القرآن لم يستعمل اليم إلا في مقام الخوف والعقوبة، ولم يستعمله في مقام النجاة، أما البحر: فقد يستعمله في مقام النجاة أو العقوبة13.

ويطلق اليم أيضًا على النهر العذب: كما في قوله تعالى: ( ) [طه: ٣٩].

قال القرطبي: « ( ) أي اطرحيه في البحر: نهر النيل»14

النهر:

النهر لغة:

النون والهاء والراء أصلٌ صحيحٌ يدل على تفتح شيءٍ أو فتحه، وسمي النهر؛ لأنه ينهر الأرض أي يشقها15.

النهر اصطلاحًا:

الماء الجاري المتسع، ثم أطلق على الأخدود مجازًا16.

الصلة بين البحر والنهر:

أطلق في القرآن البحر على النهر، ولم يطلق النهر على البحر.

البر:

البَرُ لغة:

خلاف البحر. والبرية من الأرضين، بفتح الباء: خلاف الريفية. والبرية: الصحراء نسبت إلى البر، ويقال: أفصح العرب أبرهم. معناه: أبعدهم في البر والبدو دارًا. وقوله تعالى: ( ﯿ ) [الروم: ٤١]، قال الزجاج: «معناه ظهر الجدب في البر والقحط في البحر أي: في مدن البحر التي على الأنهار»17.

والبر: الصادق. وفي التنزيل العزيز: ( ) [الطور: ٢٨].

والبر: من صفات الله تعالى وتقدس: العطوف الرحيم اللطيف الكريم18.

البر اصطلاحًا:

البر: خلاف البحر، وهو التراب واليابس19.

الصلة بين البحر والبر:

البحر: مستقر الماء الواسع، وكما ذكرنا في البر أنه خلاف البحر، فيمكننا القول: إن العلاقة بينهما تضاد.

البحر والقدرة الإلهية

أولًا: تسخير البحر:

البحر آية عظيمة من آيات الله تعالى الدالة على قدرته، وتسخير الله تعالى البحر للناس بما ينفعهم لمن أعظم الدلائل على ربوبية الله تعالى، والتي تستلزم الإقرار بوحدانيته جل وعلا.

وتأتي الآيات الكريمة لتذكير الناس بتلك النعمة العظيمة والآية الباهرة، قال تعالى: ( ) [النحل: ١٤].

وقال تعالى: ( ﯿ ) [الجاثية: ١٢].

ومعنى التسخير: التذليل، قال السمرقندي: «وهو الذي سخر البحر أي: ذلل لكم البحر»20، وقال ابن عطية: «وتسخير البحر: هو تمكين البشر من التصرف فيه وتذليله للركوب والإرفاق وغيره»21، وقال الماتريدي: «وتسخيره إياه لنا: هو ما بذل للخلق ما فيه من أنواع الأموال التي خلق الله فيه من الحلي والجواهر واللؤلؤ، وبذل ما فيه من الدواب السمك وغيره، فلولا تسخير الله إياه للخلق، وتعليمه إياهم الحيل التي بها يوصل إلى ما فيه من الأموال النفيسة، وإلا ما قدروا على استخراج ما فيه والوصول إليه؛ لشدة أهواله وأفزاعه»22.

وللبحر منافع كثيرة23، وقد ذكر الله تعالى في الآيات السابقة ثلاث منافع من جملة منافع تسخير البحر24:

المنفعة الأولى: أكل اللحم الطري منه: وهو السمك الذي يصطاد منه.

المنفعة الثانية: استخراج الحلي: وهو اللؤلؤ والمرجان.

المنفعة الثالثة: جريان الفلك فيه: وهذه المنفعة من أعظم مظاهر تسخير البحر، فالله تعالى قد خصها بالذكر والتسخير في غالب آيات البحر، فقال تعالى: ( ) [إبراهيم: ٣٢].

وقال تعالى: ( ) [الحج: ٦٥].

وقال تعالى: ( ﭿ ) [لقمان: ٣١].

والفلك هو السفن، واحده وجمعه بلفظ واحد، ويذكر ويؤنث، كما قال تعالى في تذكيره في آية أخرى: ( ) [يس: ٤١] فذكره25.

وسبب تسمية السفينة فلكًا لأنها تدور في الماء بسهولة26

والآية في الفلك تسخيره وجريها على وجه الماء، وهي موقرة مثقلة، لا ترسب تحت الماء بل تعلو على وجه الماء27.

فالسفينة طائر مقلوب، والماء في أسفلها نظير الهواء في أعلاها28.

وأما دلالة الفلك على وجود الإله، فلأنها أثقل من الماء، فحقها الرسوب فيها، فإمساكها فوق الماء من الله. ودخول الهواء فيها- وإن كان من الأسباب- فلا يتم عند امتلاء الفلك بالأمتعة الكثيرة، إذ يقل الهواء جدًا فيضعف أثره في إمساك هذا الثقيل جدًا، فلا ينبغي أن ينسب إلا إلى الله تعالى من أول الأمر وعلى التوحيد، فلأن إله الفلك لو كان غير إله البحر لربما منع أحدهما الآخر من التصرف في ملكه، وهو يفضي إلى اختلال نظام العالم؛ لاختلاف المنافع المنوطة بالفلك وعلى الرحمتين، فلأنه رحم المسافرين بالتجارات، والمسافر إليهم بالأمتعة التي يحتاجون إليها29.

وقد جاء وصف السفن بأنها مواخر في آيتين من كتاب الله، وهذا الوصف من كمال تسخير البحر.

قال تعالى: ( ) [النحل: ١٤].

وقال تعالى: ( ) [فاطر: ١٢].

وفي معنى () أقوال: فقال قتادة: «مقبلة ومدبرة، وهو أنك ترى سفينتين إحداهما تقبل والأخرى تدبر، تجريان بريح واحدة».

وقال الحسن: «() أي: مملوءة».

وقال الفراء والأخفش: «شواق تشق الماء بجناحيها».

قال مجاهد: «تمخر السفن الرياح».

وقال أبو عبيدة: «صوائخ، والمخر: صوت هبوب الريح عند شدتها»30.

ولا يحصل جريان الفلك على وجه الماء إلا بتسخير ثلاثة أشياء.

قال الرازي31: «أحدها: الرياح التي تجري على وفق المراد.

وثانيها: خلق وجه الماء على الملاسة التي تجري عليها الفلك.

ثالثها: خلق الخشبة على وجهٍ تبقى طافيةً على وجه الماء ولا تغوص فيه.

ولا شك أن الاطلاع على العجائب التي في البحر من دلائل توحيد الله تعالى، ولا يكون الاطلاع على عجائب البحر إلا بالفلك، ولذلك خصها الله تعالى بالذكر، قال الألوسي: «خص الفلك بالذكر مع أن مقتضى المقام حينئذ أن يقال: والعجائب التي في البحر- لأنه سبب الاطلاع على أحواله وعجائبه- فكان ذكره ذكرًا لجميع أحواله، وطريقًا إلى العلم بوجوه دلالته، ولذلك قدم على ذكر- المطر والسحاب- لأن منشأهما البحر في غالب الأمر»32.

والناظر في آيات البحر يلحظ قضية عقدية في خلق أفعال العباد في تسيير الله تعالى الفلك في البحر، فتسيير الفلك في البحر من الله تعالى، والسير: فعل العباد، فقوله تعالى: ( ﭯﭰ) [يونس: ٢٢].

دليل على أن الحوادث كلها مخلوقة لله تعالى، فأخبر تعالى بتسيير الفلك في البحر أنه خالق لسيرنا؛ فالتسيير فعله والسير فعل العباد وهو أثر التسيير، وفي هذا رد على القدرية الذين يقولون: إن الخلق هم الخالقون لسيرهم، وهذا رد منهم للقرآن.

قال ابن القيم: «فالتسيير فعله، والسير فعل العباد وهو أثر التسيير»33

وقال ابن عاشور: «ومن تسخير البحر خلقه على هيئةٍ يمكن معها السبح والسير بالفلك، وتمكين السابحين والماخرين من صيد الحيتان المخلوقة فيه والمسخرة لحيل الصائدين»34.

ثانيًا: شمول علم الله لما في البحر:

لا شك أن علم الله تعالى لا حد له، فهو بكل شيء عليم، قال تعالى: ( ﯿ ) [الأنعام: ٥٩].

قال جمهور المفسرين: «هو البر والبحر المعروفان؛ لأن جميع الأرض إما بر وإما بحر، وفي كل واحد منهما من عجائب مصنوعاته وغرائب مبتدعاته ما يدل على عظيم قدرته وسعة علمه »35.

يقول العلامة السعدي في تفسيره: «هذه الآية العظيمة من أعظم الآيات تفصيلًا لعلمه المحيط، وأنه شامل للغيوب كلها، التي يطلع منها ما شاء من خلقه، وكثير منها طوى علمه عن الملائكة المقربين، والأنبياء المرسلين، فضلًا عن غيرهم من العالمين، وأنه يعلم ما في البراري والقفار، من الحيوانات، والأشجار، والرمال والحصى، والتراب، وما في البحار من حيواناتها، ومعادنها، وصيدها، وغير ذلك مما تحتويه أرجاؤها، ويشتمل عليه ماؤها»36.

قال الطبري «قوله تعالى: ( )، وعنده علم ما لم يغب أيضًا عنكم؛ لأن ما في البر والبحر مما هو ظاهر للعين، يعلمه العباد، فكأن معنى الكلام: وعند الله علم ما غاب عنكم، أيها الناس، مما لا تعلمونه ولن تعلموه مما استأثر بعلمه نفسه، ويعلم أيضًا مع ذلك جميع ما يعلمه جميعكم، لا يخفى عليه شيء؛ لأنه لا شيء إلا ما يخفى عن الناس أو ما لا يخفى عليهم. فأخبر الله تعالى ذكره أن عنده علم كل شيء كان ويكون، وما هو كائن مما لم يكن بعد، وذلك هو الغيب»37.

وقوله تعالى: ( )، هذا يحتمل وجوهًا:

أولًا: أي يعلم ما في البر والبحر من الدواب، وما يسكن فيها من ذي الروح، كثرتها وعددها وصغيرها وكبيرها، لا يخفى عليه شيء.

والثاني: يعلم رزق كل ما في البر والبحر من الدواب ويعلم حاجته، ثم يسوق إلى كل من ذلك رزقه.

يذكر هذا -والله أعلم- ليعلموا أنه لما ضمن للخلق لكل منهم رزقه، يسوق إليه رزقه من غير تكلف ولا طلب، كما يسوق أرزاق كل ما في البر والبحر من غير طلب ولا تكلف، لا تضيق قلوبهم لذلك، فما بالكم تضيق قلوبكم على ذلك، وقد ضمن ذلك لكم كما ضمن لأولئك؟!

والثالث: يعلم ما في البر والبحر من اختلاط الأقطار بعضها ببعض، ومن دخول بعض في بعض، يخرج هذا على الوعيد: أنه لما كان عالمًا بهذا كله يعلم بأعمالكم ومقاصدكم38.

الرابع: يعلم ما يهلك في البر والبحر39.

وقال الواحدي: « ( ): القفار، () كل قرية فيها ماءٌ، لا يحدث فيهما شيء إلا بعلم الله»40.

وقد خصهما الله تعالى بالذكر؛ لأنهما أعظم المخلوقات المجاورة للبشر 41.

والله تعالى قدم ذكر البر؛ لأن الإنسان قد شاهد أحوال البر، وكثرة ما فيه من المدن والقرى والمفاوز والجبال والتلال، وكثرة ما فيها من الحيوان والنبات والمعادن.

وأما البحر فإحاطة العقل بأحواله أقل، إلا أن الحس يدل على أن عجائب البحار في الجملة أكثر، وطولها وعرضها أعظم، وما فيها من الحيوانات وأجناس المخلوقات أعجب42.

قال ابن كثير: «وقوله: ( ) أي: يحيط علمه الكريم بجميع الموجودات، بريها وبحريها لا يخفى عليه من ذلك شيءٌ»43.

وقال أبو السعود: «( ) بيان لتعلق علمه تعالى بالمشاهدات إثر بيان تعلقه بالمغيبات تكملةً له، وتنبيهًا على أن الكل بالنسبة إلى علمه المحيط، سواءٌ في الجلاء أي يعلم ما فيهما من الموجودات مفصلةً على اختلاف أجناسها وأنواعها وتكثر أفرادها»44.

قال العلامة محمد رشيد رضا: «وعلمه تعالى بما في البر والبحر من علم الشهادة المقابل لعلم الغيب، على أن أكثر ما في خفايا البر والبحر غائب عن علم أكثر الخلق، وإن كان في نفسه موجودًا يمكن أن يعلمه الباحث منهم عنه، وقدم ذكر البر على البحر على طريقة الترقي من الأدنى إلى ما هو أعظم منه، فإن قسم البحرمن الأرض أعظم من قسم البر، وخفاياه أكثر وأعظم»45.

ومناسبة ذكر علم الله تعالى على ما في البر والبحر بعد ذكر علمه تعالى مفاتيح الغيب، قال الرازي: «وقوله: ( ) قضية عقلية محضة مجردة؛ فالإنسان الذي يقوى عقله على الإحاطة بمعنى هذه القضية نادر جدًا.

والقرآن إنما أنزل لينتفع به جميع الخلق. فههنا طريق آخر: وهو أن من ذكر القضية العقلية المحضة المجردة، فإذا أراد إيصالها إلى عقل كل أحد ذكر لها مثالًا من الأمور المحسوسة الداخلة تحت القضية العقلية الكلية؛ ليصير ذلك المعقول بمعاونة هذا المثال المحسوس مفهومًا لكل أحد، والأمر في هذه الآية ورد على هذا القانون؛ لأنه قال أولًا: ( ) ثم أكد هذا المعقول الكلي المجرد بجزئي محسوس، فقال: ( ) وذلك لأن أحد أقسام معلومات الله هو جميع دواب البر، والبحر، الحس، والخيال، قد وقف على عظمة أحوال البر والبحر، فذكر هذا المحسوس يكشف عن حقيقة عظمة ذلك المعقول46.

ثالثًا: الحاجز بين البحرين:

سبق القول: إن البحر يطلق على الملح غالبًا، ويطلق على النهر العذب على سبيل التغليب، وتظهر قدرة الله تعالى في خلقه لحاجز بين البحرين: الملح والعذب، يمنع من اختلاط أحدهما بالآخر، فلا يفسد أحدهما الآخر، وقد ورد ذكر هذا الحاجز في ثلاث آيات من كتاب الله تعالى:

قال تعالى: ( ) [الفرقان: ٥٣].

وقال تعالى: ( ) [النمل: ٦١].

وقال تعالى: ( ) [الرحمن: ١٩- ٢٠].

قال الطبري: «وإنما عنى بذلك أنه من نعمته على خلقه، وعظيم سلطانه، يخلط ماء البحر العذب بماء البحر الملح الأجاج، ثم يمنع الملح من تغيير العذب عن عذوبته، وإفساده إياه بقضائه وقدرته؛ لئلا يضر إفساده إياه بركبان الملح منهما، فلا يجدوا ماء يشربونه عند حاجتهم إلى الماء، فقال جل ثناؤه: ( ) يعني حاجزًا يمنع كل واحد منهما من إفساد الآخر ( ) يقول: وجعل كل واحد منهما حرامًا محرمًا على صاحبه أن يغيره ويفسده»47.

وقال بعض المفسرين: إن الحاجز هو أرض يبس تفصل البحرين الملح والعذب، وهذا قول مرجوح.

قال الطبري48: «إنما اخترنا القول الذي اخترناه في معنى قوله: ( ) دون القول الذي قاله من قال معناه: إنه جعل بينهما حاجزًا من الأرض أو من اليبس؛ لأن الله -تعالى ذكره- أخبر في أول الآية أنه مرج البحرين، والمزج: هو الخلط في كلام العرب على ما بينت قبل، فلو كان البرزخ الذي بين العذب الفرات من البحرين، والملح الأجاج أرضًا أو يبسًا لم يكن هناك مزج للبحرين، وقد أخبر جل ثناؤه أنه مرجهما، وإنما عرفنا قدرته بحجزه هذا الملح الأجاج عن إفساد هذا العذب الفرات، مع اختلاط كل واحد منهما بصاحبه. فأما إذا كان كل واحد منهما في حيز عن حيز صاحبه، فليس هناك مرج، ولا هناك من الأعجوبة ما ينبه عليه أهل الجهل به من الناس، ويذكرون به، وإن كان كل ما ابتدعه ربنا عجيبًا، وفيه أعظم العبر والمواعظ والحجج البوالغ».

قال الزجاج: «فهما في مرأى العين مختلطان، وفي قدرة الله منفصلان لا يختلط أحدهما بالآخر»، قال أبو سليمان الدمشقي: «ورأيت عند عبادان من سواد البصرة الماء العذب ينحدر في دجلة نحو البحر، ويأتي المد من البحر، فيلتقيان، فلا يختلط أحد الماءين بالآخر، يرى ماء البحر إلى الخضرة الشديدة، وماء دجلة إلى الحمرة الخفيفة فيأتي المستقي فيغرف من ماء دجلة عذبًا لا يخالطه شيء، وإلى جانبه ماء البحر في مكان واحد، ونيل مصر في فيضه يشق البحر المالح شقًا بحيث يبقى نهرًا جاريًا أحمر في وسط المالح؛ ليستقي الناس منه، وترى المياه قطعًا في وسط البحر المالح فيقولون: هذا ماء ثلج فيسقون منه من وسط البحر»49.

قال ابن عطية: «إن المقصد بها التنبيه على قدرة الله تعالى وإتقان خلقه للأشياء في أن بث في الأرض مياها عذبة كثيرة من أنهار وعيون وآبار، وجعلها خلال الأجاج وجعل الأجاج خلالها، فتلقى البحر قد اكتنفته المياه العذبة في ضفتيه، وتلقى الماء العذب في الجزائر ونحوها قد اكتنفه الماء الأجاج فبثها هكذا في الأرض» 50.

قال الشوكاني: « ( ) مرج: خلى وخلط وأرسل، يقال: مرجت الدابة وأمرجتها: إذا أرسلتها في المرعى وخليتها تذهب حيث تشاء.

قال مجاهد: أرسلهما وأفاض أحدهما إلى الآخر، وسمي الماء الحلو فراتًا: لأنه يفرت العطش، أي: يقطعه ويكسره ( ) أي: بليغ الملوحة» 51.

والبرزخ حاجز معنوي، قال ابن عاشور: «وجعل الحاجز بين البحرين من بديع الحكمة، وهو حاجز معنوي حاصل من دفع كلا الماءين، أحدهما الآخر عن الاختلاط به، بسبب تفاوت الثقل النسبي لاختلاف الأجزاء المركب منها الماء الملح والماء العذب. فالحاجز حاجز من طبعهما وليس جسمًا آخر فاصلًا بينهما»52.

البحر وأشراط الساعة

لما كان البحر من أعظم آيات الله في الأرض، وقد أخبر الله تعالى أن الأرض تبدل يوم القيامة.

كما قال تعالى: ( ) [إبراهيم: ٤٨].

كان تغير البحر عن طبيعته من أشراط الساعة.

قال تعالى: ( ) [التكوير: ٦].

فيها ثمانية تأويلات 53:

أحدها: فاضت، قاله الربيع.

الثاني: يبست، قاله الحسن.

الثالث: ملئت، أرسل عذبها على مالحها، ومالحها على عذبها حتى امتلأت، قاله أبو الحجاج.

الرابع: فجرت فصارت بحرًا واحدًا، قاله الضحاك.

الخامس: سيرت كما سيرت الجبال، قاله السدي.

السادس: هو حمرة مائها حتى تصير كالدم، مأخوذ من قولهم عين سجراء، أي: حمراء.

السابع: يعني أوقدت فانقلبت نارًا، قاله علي رضي الله عنه وابن عباس وأبي بن كعب.

الثامن: معناه: أنه جعل ماؤها شرابًا يعذب به أهل النار، حكاه ابن عيسى.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو54 بتخفيف (سجرت) إخبارًا عن حالها مرة واحدة، وقرأ الباقون بالتشديد إخبارًا عن حالها في تكرار ذلك منها مرة بعد أخرى .

قال ابن عباس: «يرسل الله عليها الرياح الدبور فتسعرها وتصير نارًا تأجج»، وقال مجاهد: (): «أوقدت»55.

قال تعالى: ( ) [الانفطار: ٣].

قال الطبري: « يقول: فجر بعضها في بعض، فملأ جميعها»56.

وقال قتادة: «فجر عذبها في مالحها، ومالحها في عذبها».

وقال الحسن: «فجر بعضها في بعض، فذهب ماؤها».

وقال الكلبي: «ملئت»57.

قال الزمخشري: «فجرت: فتح بعضها إلى بعض، فاختلط العذب بالمالح، وزال البرزخ الذي بينهما، وصارت البحار بحرًا واحدًا»58.

واعلم أنه على جميع الوجوه، فالمراد أنه تتغير البحار عن صورتها الأصلية وصفتها، وهو كما ذكر الله تعالى: ( ) [إبراهيم: ٤٨]59.

البحر والابتلاء

لا شك أن الابتلاء من سنن الله تعالى في عباده، والناظر في كتاب الله تعالى يجد أن البحر كان محلَا للابتلاء في غير ما موضع، ويتضح ذلك في الآتي:

أولًا: اللجوء إلى الله عند مس الضر:

جاء البحر في القرآن مكانًا لابتلاء الناس واختبارهم من الله تعالى، قال تعالى: ( ) [الأنعام: ٦٣].

قال الطبري: «يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل: يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم، الداعين إلى عبادة أوثانهم: من الذين ينجيكم من ظلمات البر إذا ضللتم فيه فتحيرتم، فأظلم عليكم الهدى والمحجة، ومن ظلمات البحر إذا ركبتموه، فأخطأتم فيه المحجة، فأظلم عليكم فيه السبيل، فلا تهتدون له غير الله الذي إليه مفزعكم حينئذ بالدعاء ()، منكم إليه واستكانة جهرًا ()، يقول: وإخفاء للدعاء أحيانًا، وإعلانًا وإظهارًا تقولون: ( ) يا رب، أي من هذه الظلمات التي نحن فيها ( )، يقول: لنكونن ممن يوحدك بالشكر، ويخلص لك العبادة، دون من كنا نشركه معك في عبادتك.

( ) [الأنعام: ٦٤].

قل يا محمد: الله القادر على فرجكم عند حلول الكرب بكم، ينجيكم من عظيم النازل بكم في البر والبحر من هم الضلال وخوف الهلاك، ومن كرب كل سوى ذلك وهم لا آلهتكم التي تشركون بها في عبادته، ولا أوثانكم التي تعبدونها من دونه، التي لا تقدر لكم على نفع ولا ضر، ثم أنتم بعد تفضيله عليكم بكشف النازل بكم من الكرب، ودفع الحال بكم من جسيم الهم، تعدلون به آلهتكم وأصنامكم، فتشركونها في عبادتكم إياه، وذلك منكم جهل بواجب حقه عليكم، وكفر لأياديه عندكم، وتعرضٌ منكم لإنزال عقوبته عاجلَا بكم»60.

وابتلاء البحر أشد من ابتلاء البر، قال الرازي: «أما ظلمات البحر: فهي أن تجتمع ظلمة الليل، وظلمة البحر وظلمة السحاب، ويضاف الرياح الصعبة والأمواج الهائلة إليها، فلم يعرفوا كيفية الخلاص وعظم الخوف، وأما ظلمات البر فهي ظلمة الليل وظلمة السحاب والخوف الشديد من هجوم الأعداء، والخوف الشديد من عدم الاهتداء إلى طريق الصواب، والمقصود أن عند اجتماع هذه الأسباب الموجبة للخوف الشديد لا يرجع الإنسان إلا إلى الله تعالى، وهذا الرجوع يحصل ظاهرًا وباطنًا؛ لأن الإنسان في هذه الحالة يعظم إخلاصه في حضرة الله تعالى، وينقطع رجاؤه عن كل ما سوى الله تعالى .

فبين تعالى أنه إذا شهدت الفطرة السليمة والخلقة الأصلية في هذه الحالة بأنه لا ملجأ إلا إلى الله، ولا تعويل إلا على فضل الله، وجب أن يبقى هذا الإخلاص عند كل الأحوال والأوقات، لكنه ليس كذلك، فإن الإنسان بعد الفوز بالسلامة والنجاة يحيل تلك السلامة إلى الأسباب الجسمانية، ويقدم على الشرك»61.

وإن الله تعالى بين أنه لا ينجيهم مما يعرض لهم من شدائد من خارجهم، وما لا قبل لهم به وحسب، بل ينجيهم من ذلك، وينجيهم من الكروب التي تعتري نفوسهم من ضراء تنزل بهم، أو مرض يحل بأجسامهم، ومن كل شيء يكربهم ويلقي غمة النفس عليهم»62.

قال تعالى: ( ﭿ ) [يونس: ٢٢]

قوله تعالى: ( )، يعني: يحملكم في البر على الدواب، وفي البحر على السفن، ويقال: هو الذي يحفظكم إذا سافرتم في بر أو بحر.

قرأ ابن عامر63 ينشركم من النشر، يعني: يبثكم، ثم قال: ( ) بلفظ المغايبة، ( )، يعني: لينة ساكنة، ( ) بالريح الطيبة، () يعني: السفينة، ( ) يعني: شديدة، (ﭿ ) يعني: من كل ناحية ( )، يعني: علموا وأيقنوا أنه قد دنا هلاكهم.

وقال القتبي: «وأصل هذا أن العدو إذا أحاط بالقرية، يقال: دنا أهلها من الهلكة، فصار ذلك كناية عن الهلاك، ( )، يعني: إذا دنا هلاكهم أخلصوا لله تعالى، يعني: بالدعاء وقالوا: ( )، يعني: من هذه الريح العاصف، ويقال: من هذه الأهوال، ( ) يعني: من الموحدين المطيعين. ( ) ( )، يعني: يعصون ( )، يعني: الدعاء إلى غير عبادة الله تعالى، والعمل بالمعاصي والفساد»64.

واعلم أن الإنسان إذا ركب السفينة ووجد الريح الطيبة الموافقة للمقصود، حصل له الفرح التام والمسرة القوية، ثم قد تظهر علامات الهلاك دفعة واحدة:

فأولها: أن تجيئهم الرياح العاصفة الشديدة.

وثانيها: أن تأتيهم الأمواج العظيمة من كل جانب.

وثالثها: أن يغلب على ظنونهم أن الهلاك واقع، وأن النجاة ليست متوقعة.

ولا شك أن الانتقال من تلك الأحوال الطيبة الموافقة إلى هذه الأحوال القاهرة الشديدة يوجب الخوف العظيم، والرعب الشديد، وأيضًا مشاهدة هذه الأحوال والأهوال في البحر مختصة بإيجاب مزيد الرعب والخوف، ثم إن الإنسان في هذه الحالة لا يطمع إلا في فضل الله ورحمته، ويصير منقطع الطمع عن جميع الخلق، ويصير بقلبه وروحه وجميع أجزائه متضرعًا إلى الله تعالى.

ثم إذا نجاه الله تعالى من هذه البلية العظيمة، ونقله من هذه المضرة القوية إلى الخلاص والنجاة، ففي الحال ينسى تلك النعمة ويرجع إلى ما ألفه واعتاده من العقائد الباطلة والأخلاق الذميمة، فظهر أنه لا يمكن تقرير ذلك المعنى الكلي المذكور في الآية المتقدمة بمثال أحسن وأكمل من المثال المذكور في هذه الآية65.

ثانيًا: ابتلاء اليهود بمنع الصيد يوم السبت:

من سنن الله تعالى في كونه ابتلاء الناس والأمم لتمحيصهم واختبارهم، وقد ابتلي اليهود بابتلاءات كثيرة، وذلك لما علم من كثرة جدالهم أنبياءهم ومخالفتهم أوامر الله تعالى، ومن جملة ما ابتلي به اليهود: ابتلاء طائفة منهم وهم أهل قرية كانت مجاورة البحر وعلى شاطئه، ابتلاهم الله بمنع الصيد في البحر يوم السبت.

قال تعالى: ( ) [الأعراف: ١٦٣].

قال الطبري: «واسأل يا محمد هؤلاء اليهود، وهم مجاوروك، عن أمر القرية التي كانت بحضرة البحر، أي بقرب البحر وعلى شاطئه66، إذ يعتدون في السبت أمر الله، ويتجاوزونه إلى ما حرمه الله عليهم، وكان اعتداؤهم في السبت: أن الله كان حرم عليهم السبت، فكانوا يصطادون فيه السمك؛ ( ) ( ) الذي نهوا فيه عن العمل شارعة ظاهرةً على الماء من كل طريق وناحية، كشوارع الطرق، ( ) أي: وباقي الأيام التي لا يعظمونها، وهي سائر الأيام غير يوم السبت لا تأتيهم الحيتان.

ثم قال الله تعالى: ( ) الاختبار والابتلاء الذي ذكرنا، بإظهار السمك لهم على ظهر الماء في اليوم المحرم عليهم صيده، وإخفائه عنهم في اليوم المحلل صيده، وذلك بفسقهم عن طاعة الله وخروجهم عنها»67.

وقد خالف اليهود أمر الله تعالى واعتدوا في السبت فمسخهم الله تعالى قردة، قال تعالى: ( ) [البقرة: ٦٥].

قال السمرقندي: «مسخهم الله تعالى قردة وأبعدهم عن رحمته لما اعتدوا في السبت، وهذه الآية على معنى التحذير والتهديد، فكأنه يقول: إنكم تعلمون ما أصاب الذين اعتدوا في السبت، فاحذروا كيلا يصيبكم مثل ما أصابهم»68.

وقد بين الله تعالى أنه جعل عقاب أهل القرية وهو المسخ والإبعاد من رحمة الله نكالًا وعقوبة لما قدم اليهود من الذنوب، وزجرًا لمن يفعل مثل فعلهم، وموعظة للمتقين69، قال تعالى: ( ) [البقرة: ٦٦].

ثالثًا: ابتلاء يونس عليه السلام:

لا شك أن أشد الناس ابتلاءً هم الأنبياء، بوب البخاري رحمه الله باب : أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل70، وإن نبي الله يونس عليه السلام ابتلي بتكذيب قومه له، فأنذرهم وحذرهم من عذاب الله، فلم يستجيبوا له، فخرج مغاضبًا لله عز وجل، قال تعالى: ( 71 ) [الأنبياء: ٨٧].

وقال تعالى: ( ﮏﮐ ﮞ ﮟ) [الصافات: ١٣٩-١٤٢].

قال أهل التفسير: «وإن يونس لمرسل من المرسلين إلى أقوامهم حين فر إلى الفلك، وهو السفينة، المشحون: وهو المملوء من الحمولة الموقر، فاحتبست السفينة، فعلم القوم أنما احتبست من حدث أحدثوه، فتساهموا، فقرع يونس، فرمى بنفسه، فالتقمه الحوت وهو مكتسب اللوم على صنعه، إذ عجل ترك قومه.

قال تعالى: ( ) [الصافات: ١٤٧].

فلولا أنه كان من المصلين قبل ذلك والمسبحين في بطن الحوت للبث في بطن الحوت إلى يوم القيامة، ثم أمر الله الحوت فألقى يونس بالعراء، وأنبت الله عليه شجرة من يقطين، ثم اجتباه ربه فجعله من الصالحين»72.

منافع البحر

للبحر منافع كثيرة، منها ما ذكره القرآن ومنها ما لم يذكره، بل هو داخل في عموم نفع البحر للإنسان، وسنقتصر على المنافع التي ذكرها الله تعالى في كتابه.

أولًا: أكل صيده وطعامه:

من نعم الله على عباده أن من عليهم بصيد البحر وطعامه، قال تعالى: ( ) [المائدة: ٩٦].

فقد أجمع أهل العلم أن صيد البحر وطعامه حلال، أكله وبيعه وشراؤه، للمقيم والمسافر73، وقد قال عمر بن الخطاب: «صيده: ما اصطيد، وطعامه: ما رمى به»74.

وقد جاء وصف صيد البحر الذي سخره الله لعباده بالطري، وهذا يدل على حكمة الله وقدرته، من جهة إظهار الضد من الضد، فيخرج الله لنا لحمًا طريًا عذبًا من البحر المالح، كما في قوله تعالى: ( ) [النحل: ١٤].

وقوله تعالى: ( ) [فاطر: ١٢].

قال الرازي: «واعلم أن في ذكر الطري مزيد فائدة، وذلك لأنه لو كان السمك كله مالحًا، لما عرف به من قدرة الله تعالى ما يعرف بالطري؛ فإنه لما خرج من البحر الملح الزعاق الحيوان الذي لحمه في غاية العذوبة علم أنه إنما حدث لا بحسب الطبيعة، بل بقدرة الله وحكمته؛ حيث أظهر الضد من الضد»75.

ولحم البحر طري عذب، والطري: الناعم الغض76.

وقال ابن منظور: «الغض: الطري الذي لم يتغير»77.

وقال الراغب: «الغض: الطري الذي لم يطل مكثه»78.

وقال المناوي: «الشيء الغض، ومنه الطراوة»79.

وعلى هذا يكون معنى اللحم الطري: الناعم الطازج الغض الذي لم يطل مكثه.

وميتة البحر جائزٌ أكلها، كما جاء في حديث النبي.

عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحلت لنا ميتتان، ودمان، فأما الميتتان: فالحوت والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطحال)80 .

وقوله عن البحر: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته)81.

وجاء في صحيح مسلم: «باب إباحة ميتات البحر»، وذكر حديث جابر رضي الله عنه وفيه: «انطلقنا على ساحل البحر، فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم، فأتيناه فإذا هي دابةٌ تدعى العنبر، قال: قال أبو عبيدة: ميتةٌ، ثم قال: لا، بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله، وقد اضطررتم فكلوا، قال: فأقمنا عليه شهرًا ونحن ثلاث مائةٍ حتى سمنا، قال: ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينه بالقلال الدهن، ونقتطع منه الفدر كالثور، أو كقدر الثور، فلقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلًا، فأقعدهم في وقب عينه، وأخذ ضلعًا من أضلاعه فأقامها ثم رحل أعظم بعيرٍ معنا، فمر من تحتها وتزودنا من لحمه وشائق، فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرنا ذلك له، فقال: (هو رزقٌ أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيءٌ فتطعمونا؟)، قال: فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله»82.

ثانيًا: حلية البحر:

الحلية: اسم لما يتحلى به83، وسميت حلية لأنها تحلي الجوارح في أعين الناظرين.

وقد امتن الله على عباده بتسخير البحر، ومن تسخيره استخراج الحلية منه، قال تعالى: ( ) [النحل: ١٤]

والمراد بالحلية في الآية: قال الطبري «اللؤلؤ والمرجان»؛ وذلك لقوله تعالى: ( ) [الرحمن: ٢٢-١٩].

«الحلية ههنا: اللؤلؤ وما يتحلى به مما يخرج من البحر»، وقال الواحدي: «الحلية الدر والجواهر».

وقال الرازي: «المعهود في القرآن في لفظ الحلي: اللآلئ».

وهل تخرج الحلية من المالح والعذب، أم من المالح فقط؟

قيل: إن الحلية لا تخرج إلا من البحر المالح دون العذب.

فكيف قال الله تعالى: ( ) [فاطر: ١٢

قال ابن جزي: «فالجواب من ثلاثة أوجه:

الأول: أن ذلك تجوز في العبارة كما قال: ( ) [الأنعام: ١٣٠].

والرسل إنما هي من الإنس.

الثاني: أن المرجان إنما يوجد في البحر الملح؛ حيث تنصب أنهار الماء العذب، أو ينزل المطر فلما كانت الأنهار والمطر، وهي البحر العذب تنصب في البحر الملح كان الإخراج منهما جميعًا.

الثالث: زعم قوم أنه يخرج اللؤلؤ والمرجان من الملح والعذب، وهذا قول يبطله الحس»84.

قال الشنقيطي: «قوله: ( ) دليل قرآني واضح، على بطلان دعوى من ادعى من العلماء أن اللؤلؤ والمرجان لا يخرجان إلا من الملح خاصة»85.

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: «نأخذ بما يوافق ظاهر القرآن، فالله عز وجل يقول: ( ) وهو خالقهما وهو يعلم ماذا يخرج منهما، فإذا كانت الآية ظاهرها أن اللؤلؤ يخرج منهما جميعًا وجب الأخذ بظاهرها، لكن لا شك أن اللؤلؤ من الماء المالح أكثر وأطيب، لكن لا يمنع أن نقول بظاهر الآية، بل يتعين أن نقول بظاهر الآية.

وهذه قاعدة في القرآن والسنة: إننا نحمل الشيء على ظاهره، ولا نؤول، اللهم إلا لضرورة، فإذا كان هناك ضرورة، فلابد أن نتمشى على ما تقتضيه الضرورة، أما بغير ضرورة فيجب أن نحمل القرآن والسنة على ظاهرهما»86.

أما العلم الحديث فإن الموسوعات العلمية تؤكد استخراج الحلي من الأنهار والمياه العذبة87، ففي تعليق علمي على قوله تعالى: ( ): قد يستبعد بعض الناس أن تكون المياه العذبة مصدرًا للحلي، ولكن العلم والواقع أثبتا غير ذلك، أما اللؤلؤ فإنه كما يستخرج من أنواع معينة من البحر، يستخرج أيضًا من أنواع معينة أخرى من الأنهار، فتوجد اللآلئ في المياه العذبة في إنجلترا وأسكتلندا وويلز وتشيكوسلوفاكيا واليابان وغيرها، بالإضافة إلى مصايد اللؤلؤ البحرية المشهورة. ويدخل في ذلك ما تحمله المياه العذبة من المعادن العالية الصلادة، كالماس الذي يستخرج من رواسب الأنهار الجافة المعروفة باليرقة. ويوجد الياقوت كذلك في الرواسب النهرية في موجوك بالقرب من بانالاس في بورما العليا. أما في سيام وفي سيلان فيوجد الياقوت غالبًا في الرواسب النهرية. ومن الأحجار شبه الكريمة التي تستعمل في الزينة حجر التوباز، ويوجد في الرواسب النهرية في مواقع كثيرةٍ ومنتشرةٍ في البرازيل وروسيا (الأورال وسيبريا)، وهو فلورسيليكات الألمونيوم، ويغلب أن يكون أصفر أو بنيًا88.

وروي عن الزجاج أنه قال: «إنما تستخرج الحلية منهما إذا اختلطا لا من كل واحد منهما على انفراده»89.

والحلية لها منافع كثيرة، والذي ورد في الآية: اللبس، وهو تنيبه على غاية الحلية90.

واللباس: اسم لما يلبس، وقوله: (): تلبسون كل شيء منها بحسبه، كالخاتم في الأصبع، والسوار في الذراع، والقلادة في العنق والخلخال في الرجل، ومما يلبس حلية السلاح الذي يحمل كالسيف والدرع ونحوهما91.

قال ابن عاشور: «واللباس: اسم لما يلبسه الإنسان، أي يستر به جزءًا من جسده، فالقميص لباس، والإزار لباس، والعمامة لباس، ويقال: لبس التاج، ولبس الخاتم»92.

ثالثًا: التجارة لطلب الرزق:

من نعم الله على الإنسان: أن كرمه وحمله في البر والبحر، قال تعالى: ( ) [الإسراء: ٧٠].

وركوب الإنسان البحر متعدد المقاصد، منها التجارة، وطلب الرزق، كما يذكر المفسرون في قوله تعالى: ( ) [النحل: ١٤].

قال الطبري: «وقوله: ( ) يقول -تعالى ذكره-: ولتتصرفوا في طلب معايشكم بالتجارة»93، وبنحوه قال الثعلبي94، وقال السمرقندي: «لكي تطلبوا رزقه، حين تركبون السفينة للتجارة»95، وقال الزمخشري: «قوله: ( ) يريد تجارة البحر»96.

وقد ذكر الله تعالى في قصة موسى والخضر عليهما السلام، قصة القوم المساكين الذين يعملون في البحر، قال تعالى: ( ) [الكهف: ٧٩].

قال السمرقندي: «قوله: ( ): أي يؤاجرون في البحر ويكسبون قوتهم»97.

فائدة: استدل الإمام الشافعي بهذه الآية على أن الفقير أسوأ حالًا من المسكين98.

وقد ذكر البخاري: «باب التجارة في البحر»99، وكان تميم الداري رضي الله عنه عظيم التجارة في البحر.

رابعًا: ركوبه للحج والغزو والعلم:

قال البغوي في قوله تعالى: ( ) « قوله: ( )، يعني: بما ينفع الناس من ركوبها والحمل عليها في التجارات والمكاسب وأنواع المطالب»100.

ذكر مالك رحمه الله أن عمر بن الخطاب كان يمنع الناس من ركوب البحر، فلم يركبه أحد طوال حياته، فلما مات استأذن معاوية عثمان بن عفان في ركوبه فأذن له، فلم يزل يركب حتى كان أيام عمر بن العزيز رحمه الله فمنع الناس من ركوبه، ثم ركب بعده حتى الآن.

وقال ابن عبد البر: «وهذا إنما كان من عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما ما في التجارة وطلب الدنيا، والله أعلم»101.

وعن ابن عمر: «أنه كان يكره ركوب البحر إلا لثلاث: غازٍ، أو حاج، أو معتمر»102.

وفي حديث أبي هريرة: جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته)103.

قال ابن عبد البر: «وفي حديث هذا الباب من الفقه: إباحة ركوب البحر؛ لأنه لو كرهه لنهى عنه الذين قالوا: إنا نركب البحر، وقولهم هذا يدل على أنهم كثيرًا ما كانوا يركبون البحر لطلب الرزق من أنواع التجارة وغيرها وللجهاد وسائر ما فيه إباحة أو فضيلة، والله أعلم، فلم ينههم عن ركوبه»104.

وقال الجصاص في قوله تعالى: ( ) [البقرة: ١٦٤]: «دلالة على إباحة ركوب البحر غازيًا وتاجرًا ومبتغيًا لسائر المنافع؛ إذ لم يخص ضربًا من المنافع دون غيره»105.

وقد امتن الله على عباده بجريان الفلك في البحر.

قال تعالى: ( ) [الإسراء: ٦٦].

قال ابن عاشور: «وفي امتنان الله تعالى بجريان الفلك في البحر دليل على جواز ركوب البحر من غير ضرورة، مثل: ركوبه للغزو والحج والتجارة»106.

عقد البخاري في صحيحه: «باب ركوب البحر»، وبوب الإمام مسلم في صحيحه: «باب فضل الغزو في البحر» ثم ساقا حديث أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخل على أم حرامٍ بنت ملحان فتطعمه، وكانت أم حرامٍ تحت عبادة بن الصامت، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، فأطعمته، ثم جلست تفلي رأسه، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: (ناسٌ من أمتي عرضوا علي، غزاةً في سبيل الله، يركبون ثبج هذا البحر، ملوكًا على الأسرة)، أو (مثل الملوك على الأسرة) -يشك أيهما- قال: قالت: فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها، ثم وضع رأسه، فنام، ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: (ناسٌ من أمتي عرضوا علي، غزاةً في سبيل الله)، كما قال في الأولى، قالت: فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، قال: (أنت من الأولين)، فركبت أم حرامٍ بنت ملحان البحر في زمن معاوية، فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر، فهلكت107.

نخلص مما سبق أن ركوب البحر جائز في طلب شتى المنافع من التجارة، والجهاد، والغزو، والحج، وطلب العلم، وغيرها.

البحر من جند الله سبحانه وتعالى

إن الله تعالى قويٌ عزيزٌ لا يغالب، له جنود السموات والأرض، قال تعالى: ( ) [الفتح: ٧].

وجنوده تعالى لا يعلمها إلا هو، كما قال تعالى: ( ) [المدثر: ٣١].

وقد ذكر الله تعالى البحر في آيات متعددة، تبرز البحر كونه جندًا من جنده يسلطه على من يشاء من خلقه، وقد تجلى البحر بهذا المعنى في قصة نبي الله موسى -عليه السلام -وذلك في مراحل دعوته:

أولًا: البحر من جند الله، بحفظه لنبي الله موسى عليه السلام:

فقد أوحى الله تعالى لأم موسى عليه السلام إذا خافت عليه من بطش فرعون، أن تضعه في تابوت، ثم تلقيه في اليم، قال تعالى: ( ﭮ ﭯ) [طه: ٣٨-٣٩].

فسخر الله تعالى اليم جندًا من جنوده لحفظ نبيه وهو طفل صغير، قال السمعاني: «اليم: هو البحر، ويقال: إن اليم ها هنا هو النيل، والعرب تسمي الماء الكثير بحرًا»108.

وفي قوله تعالى: ( ) جزاء أخرج مخرج الأمر، وكأن اليم هو المأمور109.

ثانيًا: البحر من جند الله ينفلق لموسى، ويغرق فرعون وجنده:

لما أمر الله تعالى موسى أن يخرج ببني إسرائيل، فرارًا بدينهم من فرعون وجنده، قابلهم البحر، فكان البحر من أمامهم وفرعون من خلفهم، قال تعالى: ( ) [الشعراء: ٦١].

فقال موسى: ( ) [الشعراء: ٦٢].

فأوحى الله جل ثناؤه إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر، وأوحى إلى البحر أن اسمع لموسى وأطع إذا ضربك110، فضربه موسى فانفلق فكان فيه اثنا عشر طريقًا، كل طريق كالطود العظيم، قال تعالى: ( ) [الشعراء: ٦٣].

وقال تعالى: ( ) [طه: ٧٧]

فسار موسى وأصحابه، حتى خرجوا من البحر، ودخل فرعون وقومه في البحر، فلما دخل آخر قوم فرعون، وجاز آخر قوم موسى، أراد موسى أن يضرب البحر بعصاه ثانية لينطبق حتى لا يمر فرعون وجنده، فأمر الله موسى أن يترك البحر «رهوًا»: أي ساكنًا فهو مأمورٌ بإغراقهم111.

قال تعالى: ( ) [الدخان: ٢٤].

فأطبق البحر على فرعون وقومه فأغرقوا، قال تعالى: ( ) [يونس: ٩٠].

وقال جل وعلا: ( ) [البقرة: ٥٠].

وقال تعالى: ( ) [الأعراف: ١٣٨].

ولما كان البحر جنديًا مأمورًا من الله تعالى، أمره بأن يحفظ جثة فرعون ويلقيها على الساحل، وأن يبقيها حتى يكون آية لمن خلفه من الطغاة.

قال السمرقندي: «قوله تعالى: ( ): نخرجك من البحر بجسدك».

وقال أبو عبيدة: «نلقيك على نجوة من الأرض، والنجوة من الأرض: ما ارتفع منها ببدنك» 112.

قال تعالى: ( ) [يونس: ٩٢].

ثالثًا: البحر المكان الذي نسف فيه موسى عجل بني إسرائيل:

إن موسى عليه السلام لما ذهب لمواعدة ربه إياه، واستخلف هارون على بني إسرائيل، وكان فيهم السامري، فأخرج السامري لهم عجلًا له خوار، وقال لبني إسرائيل: هذا إلهكم، فلما رجع موسى سأل السامري فأخبره خبر العجل، قال -تعالى حكاية عن موسى-: ( ) [طه: ٩٧].

قال الطبري: «قوله تعالى: ( ) أي: ثم لنذرينه في البحر تذرية»113.

وقال الكلبي: «( ) أي: نلقيه في البحر»114.

وقال البغوي: «( )، أي: لنذرينه، ( ): في البحر» 115.

البحر في المثل القرآني

جاءت الآيات القرآنية بضرب المثل بالبحر، وذلك في آيتين:

الأولى: قوله تعالى: ( ﯿ ) [الكهف: ١٠٩].

وذلك أنه لو كان البحر مدادًا - والمداد: اسم لما يمد الشيء كالحبر للدواة- للقلم الذي يكتب به كلمات الله تعالى وحكمه وآياته، من وعد بالثواب والعقاب، وذكره ما خلق وما هو خالق، وعلم القرآن، ومواعظه تعالى وعلمه وحكمته، لنفد البحر، وما نفدت كلمات الله تعالى116.

ولو أن شجر الله كلها بريت أقلامًا، والبحر لهذه الأقلام مدادًا، ومن بعده سبعة أبحر، تكتب هذه الأقلام كلام الله تعالى بذلك المداد من البحار، لتكسرت تلك الأقلام، ولنفد ذلك المداد ولم تنفد كلمات الله تعالى وعلمه117.

الثانية: قوله تعالى: ( ﯿ ) [لقمان: ٢٧].

قال البيضاوي: «وإيثار جمع القلة للإشعار بأن ذلك لا يفي بالقليل، فكيف بالكثير! فإن الله عزيزٌ لا يعجزه شيء، حكيمٌ لا يخرج عن علمه وحكمته أمر»118.

وهل إذا نفدت البحار هل تنفد كلمات الله تعالى؟

قال الزركشي: «ليس المراد أن كلمات الله تنفد بعد نفاد البحر، بل لا تنفد أبدًا، لا قبل نفاد البحر ولا بعد نفاده، وحاصل الكلام: لنفد البحر ولم تنفد كلمات ربي»119.

والبحار السبع التي تمد البحر، هي بحار غير موجودة.

قال الرازي: «قوله تعالى: ( ﯿ) إشارة إلى بحار غير موجودة، يعني لو مدت البحار الموجودة بسبعة أبحر أخر»120.

وحصر البحار بالسبعة غير مراد، بمعنى لو كانت أكثر من سبعة بحار تمد البحر هل تنفد كلمات الله؟

قال الرازي: «وقوله: سبعة، ليس لانحصارها في سبعة، وإنما الإشارة إلى المدد والكثرة ولو بألف بحر، والسبعة خصصت بالذكر من بين الأعداد؛ لأنها عدد كثير يحصر المعدودات في العادة، والذي يدل على ذلك وجوه: ... فصارت السبعة كالعدد الحاصر للكثرات الواقعة في العادة، فاستعملت في كل كثير»121.

لمسات إعجازية في البحر

لما كان كتاب الله تعالى بحر درر، لا تنقضي عجائبه، ولما كانت البحار والمحيطات تشغل الحيز الأكبر من سطح الأرض فتبلغ نحو ثلاثة أرباعه122، كانت عناية الباحثين والعلماء عناية فائقة في استنباط دلائل صدق النبوة في الآيات التي ذكرت البحر وما تحمل في طياتها من إعجاز علمي أبهر كبار العلماء والباحثين الغربيين.

أولًا: ظلمات البحر:

( ) [النور: ٤٠].

تتحدث الآية الكريمة عن أولئك الذين كفروا بآيات الله وأنكروا لقاءه وجحدوا برسوله، فهؤلاء مثل أعمالهم التي قاموا بها في الدنيا كمثل إنسان يركض وراء سراب، يلهث وراءه فإذا ما وصل إليه لم يجده شيئًا، ووجد عنده عمله السيئ، ومثل هذا الكافر كإنسان يعيش في ظلمات بحر عميق لا يكاد يرى شيئًا بسبب الظلمات المتراكمة.

يقول الإمام القرطبي رحمه الله: «( ): وهو الذي لا يدرك قعره، واللجة معظم الماء، والجمع لجج، واللج هو البحر إذا تلاطمت أمواجه»123.

وتبرز الحقيقة العلمية124: عندما نزل العلماء إلى أعماق المحيطات وجدوا أن البحار العميقة تتمتع بظلام دامس، وعلى عمق كيلو متر واحد لا يكاد الإنسان يرى شيئًا، وتزداد الظلمة إذا كانت أمواج البحر السطحية عالية الارتفاع؛ لأنها تساهم في حجب ضوء الشمس.

وكذلك وجدوا أن البحار العميقة في أعماقها هناك أمواج داخلية لا يمكن لأحد أن يراها إلا إذا نزل إلى أعماق أكثر من ألف متر، وهذه الأمواج قد تكون أشد من الأمواج السطحية.

وجه الإعجاز في هذا الآية يتمثل في إشارتين علميتين:

تحدثت عن الظلمات في البحار العميقة، وهو ما كشفه العلماء حديثًا، ولم يكن معلومًا زمن التنزيل.

أشارت إلى الأمواج الداخلية العميقة، وهو ما كشفه العلماء أيضًا، وهو ما أشارت إليه الآية في قوله تعالى: ( ).

ثانيًا: الحاجز بين البحرين:

قال تعالى: ( ) [الرحمن: ١٩-٢٠].

العَذْب هو النهر، وصفه القرآن الكريم بوصفين () و ()، ومعناهما أن ماء هذا البحر شديد العذوبة، ويدل عليه وصف ()، وبهذا الوصف خرج ماء المصب، الذي يمكن أن يقال: إن فيه عذوبة، ولكنه لا يمكن أن يوصف بأنه فرات، وما كان من الماء ملحًا أجاجًا فهو ماء البحار.

ووصفه القرآن الكريم بوصفين: () و() أي: شديد الملوحة.

وبهذا خرج ماء المصب؛ لأنه مزيج بين الملوحة والعذوبة، فلا ينطبق عليه وصف ( ).

وبهذه الأوصاف الأربعة تحددت حدود الكتل المائية الثلاث:

١ - ( ) ماء النهر.

٢ - ( ) ماء البحر.

٣ - ( )، البرزخ هو الحاجز المائي المحيط بالمصب.

الحجر والحجر هو المنع والتضييق، يسمى العقل حجرًا؛ لأنه يمنع من إتيان ما لا ينبغي، قال تعالى: ( ) [الفجر: ٥].

فمن يقرأ قوله تعالى: ( ) [الرحمن: ١٩].

فقط يتصور أن امتزاجًا واختلاطًا كبيرًا يحدث بين هذه البحار، يفقدها خصائصها المميزة بها، ولكن العليم الخبير يقرر في الآية بعدها ( ) .

ومع حالة الاختلاط والاطراد هذه التي توجد في البحار، فإن حاجزًا يحجز بينهما، يمنع كلًا منهما أن يطغى ويتجاوز حده، وهذا ما شاهده الإنسان بعدما تقدم في علومه وأجهزته، فقد وجد ماءٌ ثالث يختلف في خصائصه عن خصائص كلٍ من البحرين، ويفصل كل من البحرين الملحين المتمايزين في خصائصهما من حيث الملوحة والحرارة، والكثافة، والأحياء المائية، وقابلية ذوبان الأكسجين، ووجد أن هذا الحاجز المائي متحرك بين البحرين على اختلاف فصول السنة، وهذا المعنى يندرج أيضًا تحت قوله تعالى: () الذي يعني أيضًا الذهاب، والإياب، والاختلاط، والاضطراب125.

وفي قوله تعالى: ( ) [الفرقان: ٥٣].

يقول الشيخ النابلسي: «إن بين البحرين برزخًا وحجرًا محجورًا، هذا الماء العذب يسير داخل الماء المالح، ومع ذلك لا يختلطان، ولا يتمازجان، لأن: ( )، فهناك بين الماء العذب، والماء المالح حجرٌ محجورٌ، والحجر المحجور يعني: أن معظم أسماك المياه العذبة لا تدخل في المياه المالحة، وأسماك المياه المالحة لا تدخل في المياه العذبة، ففي الحجر المحجور حجرٌ على هذه الأسماك من أن تنتقل إلى الماء المالح، وحجرٌ على تلك الأسماك أن تنتقل إلى الماء العذب»126.

ثالثًا: البحر المسجور:

من أكثر الآيات الباهرة في البحار والمحيطات: ما جاء به القرآن الكريم في مطلع سورة الطور في وصف البحر بأنه مسجورٌ، قال تعالى: ( ) [الطور: ٦].

يقسم الله تبارك وتعالى بهذا البحر المسجور، وهو تعالى غنيٌ عن القسم لعباده، ولكنه يلفت نظرهم إلى عظمة المقسم به، فإنه تعالى لا يقسم إلا بعظيمٍ، والمسجور في اللغة: هو الذي أوقد عليه حتى أصبح حارًا، والماء يتناقض مع النار؛ لأن وجود أحدهما ينقض وجود الآخر، حيث إننا نطفيء النار بالماء، فكيف يكون البحر مسجورًا؟ بعضهم قال: ألا تتألف ذرة الماء من الأوكسجين والهيدروجين؟ والأوكسجين غازٌ مشتعلٌ، والهيدروجين غازٌ يعين على الاشتعال، فلو أن الله فك هذه العلاقة الباردة بينهما لأصبح البحر كتلةً من اللهب، هذا معنًى، بيد أن عالمًا معاصرًا قال: «ثبت أن في قاع المحيطات براكين تقذف باللهب من الصدوع»، وهذه آيةٌ من آيات الله في خلقه، حيث إنه لولا هذه النار لما استطاعت الكائنات الحية في قاع المحيط أن تعيش في هذه الظلمة الحالكة، والعلماء في أواخر الستينيات من القرن العشرين، أي بعد أكثر من ألفٍ وأربعمئة عامٍ من نزول هذا القرآن يقررون أن جميع المحيطات، وعديدًا من البحار قيعانها مسجورةٌ بالنيران، وهي الحقيقة التي ذكرها القرآن قبل ألفٍ وأربعمئة عام، وسماها: البحر المسجور127.

موضوعات ذات صلة:

الأرض، الأنهار، الجبال، الماء


1 أنوار التنزيل، البيضاوي ٥/ ٦٤.

2 مقاييس اللغة، ابن فارس، ١/٢٠١.

3 انظر: تاج العروس، الزبيدي، ١٠/١١٤، مختار الصحاح، الرازي ١/٢٩.

4 المفردات، الراغب الأصفهاني، ١/١٠٨.

5 المحكم، ابن سيده ٣/٣١٩.

6 انظر: لسان العرب، ابن منظور ٤/٤٢، ٤١

7 التوقيف على مهمات التعريف، المناوي ١/٧١.

8 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٦/١١٧.

9 انظر: نزهة الأعين النواظر، ابن الجوزي ص١٩٧.

10 مقاييس اللغة، ابن فارس، ٦/١٥٢.

11 انظر: المحكم، ابن سيده، ١٠/٥٧٩.

12 لسان العرب، ابن منظور، ٤/٤٢.

13 لمسات بيانية في نصوص التنزيل، فاضل السامرائي، ١/٩٣.

14 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ١١/١٩٥.

15 مقاييس اللغة، ابن فارس، ٥/٣٦٢.

16 التوقيف على مهمات التعريف، الميناوي، ١/٣٣١

17 لسان العرب، ٤/٥٢، ابن منظور، وانظر: مقاييس اللغة، ابن فارس، ١/١٧٩.

18 لسان العرب ٤/٥٢، ابن منظور.

19 انظر: لسان العرب، ابن منظور، ٤/٤٤، الكليات، أبو البقاء الكفوي، ١/٢٢٥.

20 تفسير السمرقندي، ٢/٢٦٨.

21 المحرر الوجيز، ابن عطية، ٣/٣٨٣.

22 تأويلات أهل السنة، للماتريدي، ٦/٤٨٥.

23 سيأتي الحديث عن منافع البحر مفصلًا في مبحث مستقل.

24 جامع البيان، الطبري، ١٧/١٨٠.

25 جامع البيان، الطبري، ٣/٢٧٣.

26 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل، ٣/١٢٢.

27 تفسير القرآن، السمعاني، ١/١٦٣.

28 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٢/١٩٤.

29 محاسن التأيل، القاسمي، ١/٤٦٠.

30 معالم التنزيل، البغوي، ٥/١٣.

31 مفاتيح الغيب٢٧/٦٧٣.

32 روح المعاني١/٤٣٠.

33 شفاء العليل ١/٥٨.

34 التحرير والتنوير، ١٤/١١٩.

35 لباب التأويل، الخازن، ٢/١١٩.

36 تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ١/٢٥٩.

37 جامع البيان، الطبري، ١١/٤٠٢.

38 تأويلات أهل السنة، الماتريدي، ٤/٩٨.

39 تفسير السمرقندي، ١/٤٥٣.

40 الوجيز، الواحدي، ١/٣٧٥.

41 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٧/٤.

42 مفاتيح الغيب، الرازي، ١٣/٩.

43 تفسير القرآن العظيم ٣/٢٦٥.

44 إرشاد العقل السليم ٣/١٤٣.

45 تفسير المنار ٧/٣٨١.

46 مفاتيح الغيب، الرازي، ١٣/٩.

47 جامع البيان، الطبري، ١٩/٢٨٣.

48 المصدر السابق.

49 زاد المسير، ابن الجوزي، ٣/٣٢٥، البحر المحيط، أبو حيان، ٨/١١٨.

50 المحرر الوجيز، ابن عطية، ٤/٢١٤.

51 فتح القدير، الشوكاني، ٤/٩٥.

52 التحرير والتنوير، ٢٠/١٣.

53 النكت والعيون، الماوردي، ٦/٢١٣.

54 البدور الزاهرة، عبد الفتاح القاضي، ١/٣٣٨.

55 مختصر تفسير ابن كثير، الصابوني، ٢/٦٠٥.

56 جامع البيان، الطبري، ٢٤/٢٦٨.

57 هذه الآثار أخرجها الطبري في تفسيره ٢٤/٢٦٨.

58 الكشاف، الزمخشري، ٤/٧١٤.

59 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي، ٣١/٧٣.

60 جامع البيان ١١/٤١٤.

61 مفاتيح الغيب، الرازي، ١٣/٢٠.

62 زهرة التفاسير، محمد أبو زهرة ٥/٢٥٣٢.

63 البدور الزاهرة، القاضي ١/١٤٣.

64 تفسير السمرقندي ٢/١١٠.

65 انظر: مفاتيح الغيب، ١٧/٢٣٢.

66 ورد ذكر أصحاب السبت في خمسة مواضع من القرآن الكريم وهي: البقرة: آية ٦٥، النساء: الآيتين: ٤٧، ١٥٤، الأعراف: آية: ١٦٣، النحل: آية: ١٢٤، وفي جميعها ذكرت مجملة وفي موضع الأعراف ذكرت مفصلة وفيها ذكر البحر.

67 جامع البيان، الطبري، ١٣/١٨٤.

68 تفسير السمرقندي، ١/٦١.

69 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ١/٤٤٣.

70 صحيح البخاري، ٧/١١٥.

71 النون: الحوت، وذا نون: لقب نبي الله يونس بن متى، عليه السلام.

انظر: جامع البيان، الطبري ١٨/٥١١.

72 جامع البيان، الطبري، ٢١/١٠٥، تفسير السمرقندي، ٣/١٥٠، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ١٥/١٢١.

73 شرح صحيح البخاري، ابن بطال، ٤/٤٨٢، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ابن رشد، ١/٢٦٥، المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، ابن قدامة، ٣/١٦٥.

74 جامع البيان، الطبري، ١١/٦١.

75 مفاتيح الغيب، الرازي، ٢٠/١٨٨.

76 تفسير غريب ما في الصحيحين، الحميدي، ١/٤٦٧، طلبة الطلبة، النسفي، ١/١٧١.

77 لسان العرب، ابن منظور، ٧/١٩٦.

78 المفردات، الراغب الأصفهاني، ١/٣٦١.

79 التوقيف على مهمات التعاريف، المناوي، ١/٤٨٢.

80 أخرجه أحمد في مسنده، مسند عبد الله بن عمر، ١٠/١٦ ، وعبد بن حميد في المنتخب، رقم ٨٢٠، وابن ماجه رقم ٣٢١٨ و ٣٣١٤.

قال الألباني: «صحيح». انظر: المشكاة ٤١٣٢.

81 أخرجه مالك في موطأه، باب ما جاء في صيد البحر، رقم ١٨١٩، وأحمد في مسنده، مسند أبي هريرة، رقم ٧٢٣٣.

قال الألباني: «صحيح». انظر: صحيح الجامع ٢٨٧٧.

82 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب إباحة ميتات البحر، رقم ١٩٣٥.

83 اللباب في علوم الكتاب، ابن عدال الحنبلي، ١٢/٢٩.

84 التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي، ٢/١٧٣.

85 أضواء البيان، الشنقيطي، ٦/٢٨٢.

86 تفسير القرآن الكريم من سورة الحجرات حتى سورة الحديد، العثيمين، ص٣١٠.

87 انظر: موسوعة بريتانيكا العلمية، الطبعة الرابعة عشرة موضوع رقم ٤٤٧٩٧٤.

88 التعليقات العلمية على المنتخب في تفسير القرآن الكريم، لنخبة من علماء الأزهر، ٢/٢٥٣.

89 فتح البيان، القنوجي، ١١/٢٣٣.

90 البحر المحيط، أبو حيان ٦/٥١٣.

91 فتح البيان، القنوجي، ١١/٢٣٣.

92 التحرير والتنوير، ابن عاشور، ٢٢/٢٨١.

93 جامع البيان، الطبري، ١٧/ ١٨٢.

94 الكشف والبيان، الثعلبي، ٦/٢٦٨.

95 تفسير السمرقندي، ٢/٢٦٨.

96 الكشاف، الزمخشري، ٣/٤٨٩.

97 تفسير السمرقندي، ٢/٣٥٧

98 غرائب القرآن، النيسابوري ٤/٤٥١.

99 صحيح البخاري، باب التجارة في البحر، ٣/٥٥.

100 معالم التنزيل، البغوي، ١/١٩٥.

101 التمهيد، ابن عبد البر، ١/٢٣٣.

102 أخرجه عبدالرزاق الصنعاني في مصنفه، ٥/٢٨٤.

103 أخرجه مالك في موطأه، باب الطهور للوضوء، رقم ١٢.

104 التمهيد، ابن عبد البر، ١/٢٣٣.

105 أحكام القرآن، الجصاص، ١٣١.

106 التحرير والتنوير، ابن عاشور، ٢/٨١.

107 أخرجه البخاري في صحيحه، باب ركوب البحر، رقم ٢٨٩٤، ومسلم في صحيحه، باب فضل الغزو في البحر، رقم ١٩١٢.

108 تفسير القرآن، السمعاني، ٣/٣٢٩.

109 جامع البيان، الطبري، ١٨/٣٠٢.

110 المصدر السابق ٢٠/٥٤.

111 الكشاف، الزمخشري، ٤/٢٧٥.

112 تفسير السمرقندي، ٢/١٣١.

113 جامع البيان، الطبري، ١٨/٣٦٣.

114 التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي ٢/١٣.

115 معالم التنزيل، البغوي، ٥/٢٩٣.

116 جامع البيان، الطبري، ١٨/١٣٣.

117 معالم التنزيل، البغوي، ٦/٢٩٢ بتصرف.

118 أنوار التنزيل، البيضاوي، ٤/٢١٦.

119 البرهان في علوم القرآن، الزركشي، ٣/٣٩٩.

120 مفاتح الغيب، الرازي، ٢٥/١٣٨.

121 مفاتيح الغيب، الرازي، ٢٥/١٣٨.

122 موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة المطهرة، يوسف الحاج أحمد، ١/٤٢٧.

123 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ١٢/٢٨٣.

124 آيات الله في المحيطات والبحار والأنهار، ماهر أحمد الصوفي، ١/٢٦١.

125 الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، مناهج جامعة المدينة العالمية، ١/٣٩٣.

126 موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، محمد راتب النابلسي، ٢/٩٦ بتصرف.

127 المصدر السابق.