عناصر الموضوع
الإنصاف
أولًا: المعنى اللغوي:
(نصف) النون والصاد والفاء أصلان صحيحان، أحدهما: يدل على شطر الشيء، والآخر على جنس من الخدمة والاستعمال، فالأول نصف الشيء ونصيفه: شطره...، والإنصاف في المعاملة كأنه الرضا بالنصف، والنصف الإنصاف أيضًا1.
وأنصف الرجل أي: عدل2. يقال: أنصف ينصف إنصافًا فهو منصف.
وأنصفت الرجل إنصافًا إذا أعطيته الحق، وتناصف القوم إذا تعاطوا الحق بينهم.
والخلاصة: أن (أنصف) من الجذر (ن ص ف) الذي يدل على النصف والعدل والقسط والاستواء، يقال: أنصفت الرجل إنصافًا: عاملته بالعدل والقسط3.
وأنصف المظلوم من الظالم: استوفى له حقه منه4. ويقال: أنصف فلانًا من فلان استوفى له حقه منه، و(ناصفه) الشيء قاسمه نصفه5.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
الإنصاف بكسر الهمزة: العدل.
عرفه ابن الأعرابي بأنه: أن تعطيه من الحق كالذي تستحقه لنفسك6.
وعرفه المناوي بقوله: الإنصاف في المعاملة العدل، بأن لا يأخذ من صاحبه من المنافع إلا مثل ما يعطيه، ولا ينيله من المضار إلا كما ينيله، وقيل: هو استيفاء الحقوق لأربابها، واستخراجها بالأيدي العادلة، والسياسات الفاضلة، وهو والعدل توأمان، نتيجتهما علو الهمة، وبراءة الذمة، باكتساب الفضائل، واجتناب الرذائل7.
ولم يرد مصطلح (الإنصاف) في القرآن الكريم، ولكن القرآن تحدث عنه بعبارات بمختلفة، كما سيأتي معنا في ثنايا هذا البحث.
العدل:
العدل لغة:
العدل مصدر عدل يعدل عدلًا، وهو مأخوذ من مادة (ع د ل) التي تدل على معنيين متقابلين:أحدهما يدل على الاستواء، والآخر على الاعوجاج8، ويرجع لفظ العدل هنا إلى المعنى الأول.
العدل اصطلاحًا:
أصله ضد الجور9. قال في دستور العلماء: العدل: ضد الظلم، وإحقاق الحق، وإخراج الحق عن الباطل، أي: ممتازًا عنه، والأمر المتوسط بين الإفراط والتفريط10. وعرفه الجرجاني بقوله: العدل: عبارة عن الأمر المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط...، وقيل: العدل، مصدر بمعنى: العدالة، وهو الاعتدال والاستقامة، وهو الميل إلى الحق11.
الصلة بين العدل والإنصاف:
الإنصاف إعطاء النصف، والعدل يكون في ذلك وفي غيره، ألا ترى أن السارق إذا قطع قيل: إنه عدل عليه، ولا يقال: إنه أنصفه12.
والمقصود: أن الإنصاف بمعنى العدل -وإن كنا لا نعدم فرقًا طفيفًا بينهما- كما سبق، وكما هو مبين في كتب اللغة؛ ولهذا فسوف يكون الكلام في هذا البحث متداخلًا ومشتركًا بينهما، حيث يستدل للإنصاف بمثل ما استدل للعدل من آيات القرآن.
القسط:
القسط لغة:
القسط بالكسر: العدل، يقال أقسط يقسط؛ فهو مقسطٌ:إذا عدل، وقسط يقسط فهو قاسطٌ:إذا جار، والقسط أيضًا:مكيال، وهو نصف صاع13.
القسط اصطلاحًا:
«القسط بالكسر: النصيب بالعدل» 14.
الصلة بين القسط والإنصاف:
لفظ (الإنصاف) -كما سبق- يفيد معنى العدل، والقسط، والاستواء، والاستقامة؛ فهو على ارتباط وثيق بهذه المعاني كلها، فيشترك معها في كثيرٍ من الدلالات اللغوية، وإن كنا لا نعدم فرقًا طفيفًا بين كل واحدٍ منها، فالقسط هو:العدل البين الظاهر، ومنه سمي المكيال قسطًا، والميزان قسطًا؛ لأنه يصور لك العدل في الوزن حتى تراه ظاهرًا، وقد يكون من العدل ما يخفى؛ ولهذا قلنا:إن القسط هو النصيب الذي بينت وجوهه، وتقسط القوم الشيء تقاسموا بالقسط15.
الجور:
الجور لغة:
(جور) الجيم والواو والراء أصل واحد، وهو الميل عن الطريق16.
الجور اصطلاحًا:
قال السيوطي: الجور: الخروج عن الوسط بزيادة أو نقصان17، وقال بعضهم:الجائر من الناس هو الذي يمنع من التزام ما يأمر به الشرع18.
الصلة بين الجور والإنصاف:
الجور والإنصاف لفظان متقابلان، يدل أحدهما على ضد ما يدل عليه الآخر، فالإنصاف والنصف والنصفة: العدل، والجور: الظلم والتعدي.
وقيل:نقيض الظلم الإنصاف، ونقيض الجور العدل19.
الإنصاف قيمة عليا من قيم الإسلام، وخلق من أخلاقه الرئيسة السامية، والإنصاف كمفهوم شامل واجب مطلقًا مع كل أحد، والمسلم مأمورٌ بالإنصاف والعدل، وهو إعطاء كل أحد ما يستحقه دون حيف أو ظلم، ويدخل في الإنصاف خمسة أنواع:
أولًا: إنصاف العبد ربَه:
لما كان حقيقة الإنصاف هو استيفاء الحقوق لأربابها، والاعتراف لهم بها، دون بخس ولا هضم، وكان من أعظم الحقوق على العبد على الإطلاق حق الخالق سبحانه وتعالى، كان أعظم أنواع الإنصاف وأجلها قدرًا أن ينصف العبد ربه، بأن يوفيه حقه -قدر استطاعته- دون بخس أو نقص، وإلا فكيف يستقيم أن يؤمر العبد أن ينصف عبدًا مثله، ويترك إنصاف ربه سبحانه، الخالق المنعم، فهو أولى بالإنصاف، ويكون ذلك بعبادته، والقيام بأمره، والوفاء بحقوقه.
والله تعالى قد أمر بالعدل -وهو الإنصاف- أمرًا عامًا مطلقًا، دون تحديد مع من يكون هذا العدل؟ ولا تحديد بزمن معين، بل هو عدل مع كل أحد، وفي كل وقت، فقال تعالى: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ) [النحل:٩٠].
قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: إن الله يأمر في هذا الكتاب الذي أنزله إليك يا محمد بالعدل، وهو الإنصاف، ومن الإنصاف: الإقرار بمن أنعم علينا بنعمته، والشكر له على إفضاله، وتولي الحمد أهله، وإذا كان ذلك هو العدل ولم يكن للأوثان والأصنام عندنا يد تستحق الحمد عليها؛ كان جهلًا بنا حمدها وعبادتها، وهي لا تنعم فتشكر، ولا تنفع فتعبد، فلزمنا أن نشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له؛ ولذلك قال من قال: العدل في هذا الموضع: شهادة أن لا إله إلا الله20.
وتفسير العدل في هذه الآية بهذا النوع من العدل، وهو العدل مع الله، وهي شهادة التوحيد، قال به كثير من المفسرين، ولا جرم فهو أعظم أنواع العدل والإنصاف، وضده وهو الشرك، أعظم أنواع الظلم، وقد بدأ به السمعاني في الكلام عن المراد بالعدل في هذه الآية، حيث قال: في الآية أقوال:
أحدها: أن العدل هو: شهادة أن لا إله إلا الله، وهذا مروي عن ابن عباس وغيره، وقيل: إنه التوحيد، وهو في معنى الأول21. وكذا بدأ به ابن الجوزي، ثم قال: قال أبو سليمان: العدل في كلام العرب: الإنصاف، وأعظم الإنصاف: الاعتراف للمنعم بنعمته22.
وقال الشنقيطي بعد أن ذكر الأقوال في هذه الآية: فإذا عرفت هذا، فاعلم أن أقوال المفسرين في الآية الكريمة راجعة في الجملة إلى ما ذكرنا؛ كقول ابن عباس رضي الله عنهما: العدل: لا إله إلا الله، والإحسان: أداء الفرائض؛ لأن عبادة الخالق دون المخلوق هي عين الإنصاف والقسط، وتجنب التفريط والإفراط، ومن أدى فرائض الله على الوجه الأكمل فقد أحسن.
ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي حلف لا يزيد على الواجبات: (أفلح إن صدق)23.
وكقول علي رضي الله عنه: العدل: الإنصاف، والإحسان: التفضل24.
إلى غير ذلك من أقوال السلف25.
وقال ابن العربي: العدل بين العبد وربه: إيثار حقه تعالى على حظ نفسه، وتقديم رضاه على هواه، والاجتناب للزواجر، والامتثال للأوامر26.
والمقصود: أن هذه الآية من جوامع الكلم القرآنية الرائعة، فيما يجب أن يفعله المؤمن، وينتهي عنه.
فالمتبادر أن العدل في الآية في مقامه، وبخاصة والآية مكية لم يقصد به العدل في القضاء، أو لم يقصد به ذلك وحسب، بل قصد به العدل المطلق الذي يتناول معاني الإنصاف، وعدم الإجحاف، وعدم تجاوز الحق قولًا وفعلًا، في كل موقف ومناسبة، ومع كل أحد، ويدخل فيه إنصاف الرب سبحانه وتعالى27.
فمن أعظم الإنصاف المطالب به العبد إنصافه صاحب الفضل الأكبر عليه، وهو خالقه وموجده، والمنعم عليه بسائر النعم.
إذ العدل مطلوب في أمور التكليف كلها، في الأمور العقدية التي هي عمل القلب، وكذلك مطلوب في الأمور العملية التي هي أعمال الجوارح، وفي حركة الحياة كلها28.
ومن الأوامر الإلهية العامة بالعدل والإنصاف، والتي يدخل فيها هذا النوع من الإنصاف، وهو إنصاف الرب عز وجل قوله تعالى: (ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ) [الأعراف:٢٩].
والقسط: العدل، ويقع ذلك في حق الله تعالى، وفي حق الخلق، وفي حق النفس، فالعدل في حق الله الوقوف على حد الأمر، من غير تقصير في المأمور به، أو إقدام على المنهي عنه، ثم ألا تدخر عنه شيئًا مما خولك، ثم لا تؤثر عليه شيئًا فيما أحل لك29. فلا إنصاف ولا نصفة أجمل وأحق من الاعتراف بمن أنعم علينا بنعمه، والشكر له على إفضاله، وحمده، وهو أهل للحمد.
فلله تبارك وتعالى على العبد حقوقٌ عظيمة، ونعمٌ جسيمة، فهو من أنشأه من العدم، وأوجده حتى صار شيئًا مذكورًا، بعد أن كان عدمًا.
قال تعالى: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ) [الانفطار: ٦-٨].
فمن الإنصاف أن يعترف العبد بالخالق الموجد من العدم، ويقوم بعبادته على الوجه المأمور به شرعًا.
يقول ابن القيم في هذا النوع من الإنصاف، وهو إنصاف الخالق سبحانه وتعالى: فصل: طوبى لمن أنصف ربه، فأقر له بالجهل في علمه، والآفات في عمله، والعيوب في نفسه، والتفريط في حقه، والظلم في معاملته، فإن آخذه بذنوبه رأى عدله، وإن لم يؤاخذه بها رأى فضله، وإن عمل حسنة رآها من منته وصدقته عليه، فإن قبلها فمنة وصدقة ثانية، وإن ردها فلكون مثلها لا يصلح أن يواجه به، وإن عمل سيئة رآها من تخليه عنه، وخذلانه له، وإمساك عصمته عنه؛ وذلك من عدله فيه، فيرى في ذلك فقره إلى ربه، وظلمه في نفسه، فإن غفرها له فبمحض إحسانه، وجوده وكرمه30.
وقال: ولو أنصف العبد ربه، وأنى له بذلك! لعلم أن فضله عليه فيما منعه من الدنيا ولذاتها ونعيمها أعظم من فضله عليه فيما آتاه من ذلك، فما منعه إلا ليعطيه؛ ولا ابتلاه إلا ليعافيه، ولا امتحنه إلا ليصافيه، ولا أماته إلا ليحييه، ولا أخرجه إلى هذه الدار إلا ليتأهب منها للقدوم عليه؛ وليسلك الطريق الموصلة إليه31.
ثانيًا: إنصاف النبي صلى الله عليه وسلم:
إن أعظم نعم الله على هذه الأمة إظهار محمد صلى الله عليه وسلم لهم، وبعثته، وإرساله إليهم.
قال تعالى: (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) [آل عمران:١٦٤].
فإن النعمة على الأمة بإرساله أعظم من النعمة عليهم بإيجاد السماء والأرض، والشمس والقمر، والرياح، والليل والنهار، وإنزال المطر، وإخراج النبات، وغير ذلك؛ فإن هذه النعم كلها قد عمت خلقًا من بني آدم كفروا بالله، وبرسله، وبلقائه، فبدلوا نعمة الله كفرًا، وأما النعمة بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم فإن بها تمت مصالح الدنيا والآخرة، وكمل بسببها دين الله الذي رضيه لعباده، وكان قبوله سبب سعادتهم في دنياهم وآخرتهم32.
ولهذا كان من أعظم أنواع الإنصاف إنصاف المسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنصافه يكون بالإيمان به، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر.
قال تعالى: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ) [الأعراف:١٥٨].
ونظير هذه الآية آيات كثيرة، جاءت تأمر بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، ونلحظ منها: أن الله تعالى قرن الإيمان برسوله محمد صلى الله عليه وسلم مع الإيمان به، وفي هذا دليل على أن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم واجب متعين، بل لا يتم إيمان المرء إلا به، ولا يصح إسلام إلا معه.
قال الله تعالى: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) [الفتح:١٣].
ولما كان الإيمان بالله هو الأصل يتفرع عنه الإيمان بالرسول والنبي بدأ به، فقال: (ﯘ ﯙ) ثم أتبعه بالإيمان بالرسول، فقال: (ﯚ) ثم أتبع ذلك بالإشارة إلى المعجز الدال على نبوته، وهو كونه أميًا (ﯛ ﯜ) وظهر عنه من المعجزات في ذاته ما ظهر من القرآن الجامع لعلوم الأولين والآخرين، مع نشأته في بلد عارٍ من أهل العلم لم يقرأ كتابًا، ولم يخط، ولم يصحب عالمًا، ولا غاب عن مكة غيبة تقتضي تعلمًا33.
وفي نهاية الآية يخبر الله تعالى أن النبي الأمي- صلوات الله وسلامه عليه- يؤمن بالله وكلماته، ومع أن هذه بديهية، إلا أن هذه اللفتة لها مكانها، ولها قيمتها، فالدعوة لا بد أن يسبقها إيمان الداعي بحقيقة ما يدعو إليه، ووضوحه في نفسه، ويقينه منه؛ لذلك يجيء وصف النبي المرسل إلى الناس جميعًا بأنه: (ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) وهو نفس ما يدعو الناس إليه ونصه، ثم يتضمن أخيرًا لفتة إلى مقتضى هذا الإيمان الذي يدعوهم إليه، وهو اتباعه فيما يأمر به ويشرعه، واتباعه كذلك في سنته وعمله، وهو ما يقرره قول الله سبحانه: (ﯡ ﯢ ﯣ) فليس هناك رجاء في أن يهتدي الناس بما يدعوهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا باتباعه فيه، ولا يكفي أن يؤمنوا به في قلوبهم ما لم يتبع الإيمان الاتباع العملي، وهو الإسلام34.
ومن إنصافه صلى الله عليه وسلم وجوب طاعته.
قال الله تعالى: (ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) [الأنفال:٢٠].
وقال: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) [آل عمران: ٣٢].
وقال: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ) [آل عمران:١٣٢] .
والآيات في هذا كثيرة.
فجعل الله تعالى في هذه الآيات طاعة رسوله طاعته، وقرن طاعته بطاعته، ووعد على ذلك بجزيل الثواب، وأوعد على مخالفته بسوء العقاب، وأوجب امتثال أمره، واجتناب نهيه.
قال القاضي عياض رحمه الله: وأما وجوب طاعته فإذا وجب الإيمان به، وتصديقه فيما جاء به، وجبت طاعته؛ لأن ذلك مما أتى به35.
ولما كانت طاعة الرسول هي طاعة الله لأنه إنما يدعوه إليه، وإنما خلقه القرآن، وحد الضمير، فقال: (ﮒ ﮓ ﮔ) ولم يقل: عنهما، وهو كقوله تعالى: (ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ) [التوبة:٦٢].
والمراد: ولا تولوا عن الرسول في حال من الأحوال، وفي أمر من الأوامر، من الجهاد وغيره، ومن الغنائم وغيرها، خف أو ثقل، سهل أو صعب36.
وأصله: (ولا تتولوا) فحذف إحدى التاءين تخفيفًا (ﮕ ﮖ) أي: وأنتم تسمعونه، أو ولا تتولوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تخالفوا وأنتم تسمعون، أي: تصدقون؛ لأنكم مؤمنون لستم كالصم المكذبين من الكفرة37.
ونلحظ في قوله تعالى: (ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ) [النساء:٥٩]أنه كرر قوله: (ﯸ) ولم يقل: أطيعوا الله والرسول، وإنما أعيد فعل (ﯺ ﯻ) مع أن حرف العطف يغني عن إعادته؛ وذلك إظهارًا للاهتمام بتحصيل طاعة الرسول؛ لتكون أعلى مرتبة من طاعة أولي الأمر؛ ولينبه على وجوب طاعته فيما يأمر به، ولو كان أمره غير مقترن بقرائن تبليغ الوحي؛ لئلا يتوهم السامع أن طاعة الرسول المأمور بها ترجع إلى طاعة الله فيما يبلغه عن الله دون ما يأمر به في غير التشريع، فإن امتثال أمره كله خير، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا أبا سعيد بن المعلى وأبو سعيد يصلي، فلم يجبه، فلما فرغ من صلاته جاءه، فقال له: (ما منعك أن تأتيني؟) فقال: «كنت أصلي» فقال: (ألم يقل الله: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) [الأنفال:٢٤])38.
ولذلك كان الصحابة إذا لم يعلموا مراد الرسول من أمره ربما سألوه: أهو أمر تشريع أم هو الرأي والنظر؟ كما قال له الحباب بن المنذر يوم بدر حين نزل جيش المسلمين: أهذا منزل أنزلكه الله، ليس لنا أن نجتازه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: (بل الرأي والحرب والمكيدة..)39 الحديث40.
ومن إنصافه صلى الله عليه وسلم: امتثال سنته، والاقتداء بهديه.
قال تعالى: (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ) [آل عمران:٣١].
فجعل المحبة في اتباعه، وجعل جزاء اتباعه محبته لعباده، وهي أعلى الكرامة41.
نعم فحب الله ليس دعوى باللسان، ولا هيامًا بالوجدان، إلا أن يصاحبه الاتباع لرسول الله، والسير على هداه، وتحقيق منهجه في الحياة، وإن الإيمان ليس كلمات تقال، ولا مشاعر تجيش، ولا شعائر تقام، ولكنه طاعة لله والرسول، وعمل بمنهج الله الذي يحمله الرسول42.
ومن حقه صلى الله عليه وسلم عليهم أن يتحاكموا إليه؛ لأنه رسول الله، وهو مأمور بأن يحكم بين الناس بما أراه الله في وحيه، وما هداه إليه في اجتهاده.
قال تعالى: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ) [النساء:٦٥].
أي: ينقادون لحكمك، يقال: سلم واستسلم وأسلم إذا انقاد.
وقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) [الممتحنة:٦].
فالأسوة في الرسول الاقتداء به، والاتباع لسنته، وترك مخالفته في قول أو فعل.
ومن إنصافه صلى الله عليه وسلم: لزوم محبته، قال تعالى: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ) [التوبة:٢٤].
ففي هذه الآية الكريمة حض وتنبيه بالغ على وجوب محبته، وعظم شأنها، واستحقاقه لها؛ إذ قرع سبحانه وتعالى من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله، وأوعدهم بقوله تعالى: (ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ) ثم فسقهم بتمام الآية، وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله.
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: أمر تعالى رسوله أن يتوعد من آثر أهله وقرابته وعشيرته على الله ورسوله، وجهاد في سبيله، فقال: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) أي: اكتسبتموها وحصلتموها (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) أي: تحبونها لطيبها وحسنها، أي: إن كانت هذه الأشياء (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) أي: فانتظروا ماذا يحل بكم من عقابه ونكاله بكم؛ ولهذا قال (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ)43.
ومن إنصافه صلى الله عليه وسلم وجوب مناصحته، قال تعالى: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) [التوبة:٩١].
قال القرطبي: قوله تعالى: (ﮞ ﮟ) النصح: إخلاص العمل من الغش، ومنه التوبة النصوح، قال نفطويه: نصح الشيء إذا خلص، ونصح له القول أي أخلصه له، وفي صحيح مسلم عن تميم الداري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة) ثلاثًا، قلنا: لمن؟ قال: (لله ولكتابه ولرسوله)44 .
قال العلماء: النصيحة لرسوله: التصديق بنبوته، والتزام طاعته في أمره ونهيه، وموالاة من والاه، ومعاداة من عاداه، وتوقيره، ومحبته، ومحبة آل بيته، وتعظيمه، وتعظيم سنته، وإحياؤها بعد موته بالبحث عنها، والتفقه فيها، والذب عنها، ونشرها، والدعاء إليها، والتخلق بأخلاقه الكريمة صلى الله عليه وسلم 45.
وقال أبو بكر الآجري: النصح له يقتضي نصحين: نصحًا في حياته، ونصحًا بعد مماته، ففي حياته نصح أصحابه له بالنصر والمحاماة عنه، ومعاداة من عاداه، والسمع والطاعة له، وبذل النفوس والأموال دونه46.
ومن إنصافه صلى الله عليه وسلم توقيره، وبر آله، وذريته، وأمهات المؤمنين أزواجه.
قال تعالى: (ﯤ ﯥ) [الفتح:٩].
وقال عن أهل بيته: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) [الأحزاب:٣٣].
وقال تعالى: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ) [الأحزاب:٦].
قال القاضي: ومن توقيره وبره: بر آله وذريته وأمهات المؤمنين أزواجه، كما حض عليه، وسلكه السلف الصالح رضي الله عنهم 47.
ومن إنصافه صلى الله عليه وسلم: تنفيذ ما أمر به، واجتناب مخالفة أمره وتبديل سنته، قال تعالى: (ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) [:٦٣].
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: وقوله: (ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) أي: عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته، فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله، فما وافق ذلك قبل، وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله كائنًا من كان48.
وقال تعالى: (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) [النساء:١١٥].
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: وقوله: (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) أي: من سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم فصار في شق، والشرع في شق؛ وذلك عن عمد منه بعدما ظهر له الحق، وتبين له، واتضح له49.
والمقصود: أن حق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته عظيم، فالواجب إنصافه، وإعطائه حقه، من التعظيم والإجلال، والطاعة والاتباع، والمحبة والنصرة، وقد دل القرآن على كل ذلك في آيات كثيرة.
ثالثًا: إنصاف العبد نفسه من نفسه:
ومن أنواع الإنصاف: إنصاف المرء نفسه من نفسه.
ومما يدل على ذلك قوله تعالى: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) [النساء:١٣٥].
ففي هذه الآية أمر الله تعالى بالقسط، وهو العدل الذي من معانيه الإنصاف، ثم قال: (ﭚ ﭛ ﭜ) وهذا من الإنصاف للنفس، والنصح لها.
قال ابن كثير في قوله تعالى: (ﭚ ﭛ ﭜ): أي: اشهد الحق، ولو عاد ضررها عليك، وإذا سئلت عن الأمر فقل الحق فيه، وإن كان مضرة عليك50.
و(ﭖ) صيغة مبالغة، أي: ليتكرر منكم القيام بالقسط، وهو العدل في شهادتكم على أنفسكم، وهو الإقرار بما عليكم من الحقوق51.
وهنا يحاول المنهج الإلهي تجنيد النفس في وجه ذاتها، وفي وجه عواطفها، تجاه ذاتها أولًا، وتجاه الوالدين والأقربين ثانيًا، وهي محاولة شاقة، أشق كثيرًا من نطقها باللسان، ومن إدراك معناها ومدلولها بالعقل، إن مزاولتها عمليًا شيء آخر غير إدراكها عقليًا، ولا يعرف هذا الذي نقوله إلا من يحاول أن يزاول هذه التجربة واقعًا، ولكن المنهج يجند النفس المؤمنة لهذه التجربة الشاقة؛ لأنها لا بد أن توجد في الأرض، ولا بد أن يقيمها ناس من البشر.
ثم هو يجند النفس كذلك في وجه مشاعرها الفطرية أو الاجتماعية حين يكون المشهود له أو عليه فقيرًا، تشفق النفس من شهادة الحق ضده، وتود أن تشهد له معاونة لضعفه، أو من يكون فقره مدعاة للشهادة ضده بحكم الرواسب النفسية الاجتماعية، كما هو الحال في المجتمعات الجاهلية، وحين يكون المشهود له أو عليه غنيًا، تقتضي الأوضاع الاجتماعية مجاملته، أو قد يثير غناه، وتبطره النفس ضده، فتحاول أن تشهد ضده! وهي مشاعر فطرية، أو مقتضيات اجتماعية لها ثقلها حين يواجهها الناس في عالم الواقع، والمنهج يجند النفس تجاهها كذلك كما جندها تجاه حب الذات، وحب الوالدين والأقربين52.
ومما يدل على هذا النوع من الإنصاف -وهو إنصاف النفس- عموم الأمر بالعدل الذي من معانيه الإنصاف، كما في قوله تعالى: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ) [النحل:٩٠].
والعلماء يقسمون العدل إلى أربعة أنواع:
والعدل في حق النفس يكون بإدخال العتق عليها، وسد أبواب الراحة بكل وجه عليها، والنهوض بخلافها على عموم الأحوال53.
قال ابن القيم في هذا النوع من الإنصاف، وهو إنصاف العبد نفسه: ويدخل في هذا إنصافه نفسه من نفسه، فلا يدعي لها ما ليس لها، ولا يخبثها بتدنيسه لها، وتصغيره إياها، وتحقيرها بمعاصي الله، وينميها ويكبرها، ويرفعها بطاعة الله وتوحيده، وحبه وخوفه ورجائه، والتوكل عليه، والإنابة إليه، وإيثار مرضاته ومحابه على مراضي الخلق ومحابهم، ولا يكون بها مع الخلق...، ويكون بالله لا بنفسه في حبه وبغضه وعطائه ومنعه وكلامه وسكوته ومدخله ومخرجه، فينجي نفسه من البين، ولا يرى لها مكانة يعمل عليها...، فالعبد المحض ليس له مكانة يعمل عليها، فإنه مستحق المنافع والأعمال لسيده، ونفسه ملك لسيده، فهو عامل على أن يؤدي إلى سيده ما هو مستحق له عليه، ليس له مكانة أصلًا، بل قد كوتب على حقوق منجمة، كلما أدى نجمًا حل عليه نجم آخر، ولا يزال المكاتب عبدًا ما بقي عليه شيء من نجوم الكتابة.
والمقصود: أن إنصافه من نفسه يوجب عليه معرفة ربه، وحقه عليه، ومعرفة نفسه، وما خلقت له، وأن لا يزاحم بها مالكها وفاطرها، ويدعي لها الملكة والاستحقاق، ويزاحم مراد سيده، ويدفعه بمراده هو، أو يقدمه ويؤثره عليه، أو يقسم إرادته بين مراد سيده ومراده، وهي قسمة ضيزى، مثل قسمة الذين قالوا: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [الأنعام:١٣٦].
فلينظر العبد لا يكون من أهل هذه القسمة بين نفسه وشركائه، وبين الله لجهله وظلمه، وإلا لبس عليه وهو لا يشعر، فإن الإنسان خلق ظلومًا جهولًا، فكيف يطلب الإنصاف ممن وصفه الظلم والجهل؟ وكيف ينصف الخلق من لم ينصف الخالق؟...
ثم كيف ينصف غيره من لم ينصف نفسه، وظلمها أقبح الظلم، وسعى في ضررها أعظم السعي، ومنعها أعظم لذاتها من حيث ظن أنه يعطيها إياها، فأتعبها كل التعب، وأشقاها كل الشقاء، من حيث ظن أنه يريحها ويسعدها، وجد كل الجد في حرمانها حظها من الله، وهو يظن أنه ينيلها حظوظها، ودساها كل التدسية، وهو يظن أنه يكبرها وينميها، وحقرها كل التحقير وهو يظن أنه يعظمها، فكيف يرجى الإنصاف ممن هذا إنصافه لنفسه؟ إذا كان هذا فعل العبد بنفسه فماذا تراه بالأجانب يفعل.
والمقصود: أن قول عمار رضي الله عنه: «ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار»54 كلام جامع لأصول الخير وفروعه55.
رابعًا: إنصاف العباد:
ومن أنواع الإنصاف: إنصاف الخلق، ومما يدل على ذلك قوله تعالى: . (ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [المطففين:١-٣].
ففي هذه الآية تهديد شديد لمن لا ينصفون الناس في الكيل، ويقاس على الكيل غيره، قال الرازي: واعلم أنه سبحانه جمع في هذه الآية أنواعًا من التهديد:
فقال أولًا: (ﯖ ﯗ) وهذه الكلمة تذكر عند نزول البلاء.
ثم قال ثانيًا: (ﯦ ﯧ ﯨ) [المطففين:٤]وهو استفهام بمعنى الإنكار.
ثم قال ثالثًا: (ﯬ ﯭ) [المطففين:٥]والشيء الذي يستعظمه الله لا شك أنه في غاية العظمة.
ثم قال رابعًا: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) [المطففين:٦]وفيه نوعان من التهديد:
أحدهما: كونهم قائمين مع غاية الخشوع، ونهاية الذلة والانكسار.
والثاني: أنه وصف نفسه بكونه ربًا للعالمين، ثم ها هنا سؤال، وهو كأنه قال قائل: كيف يليق بك مع غاية عظمتك أي تهيئ هذا المحفل العظيم الذي هو محفل القيامة لأجل الشيء الحقير الطفيف؟ فكأنه سبحانه يجيب، فيقول: عظمة الإلهية لا تتم إلا بالعظمة في القدرة، والعظمة في الحكمة، فعظمة القدرة ظهرت بكوني ربًا للعالمين، لكن عظمة الحكمة لا تظهر إلا بأن أنتصف للمظلوم من الظالم؛ بسبب ذلك القدر الحقير الطفيف، فإن الشيء كلما كان أحقر وأصغر كان العلم الواصل إليه أعظم وأتم، فلأجل إظهار العظمة في الحكمة أحضرت خلق الأولين والآخرين في محفل القيامة، وحاسبت المطفف لأجل ذلك القدر الطفيف56.
ولفظ المطفف يتناول: الذي ينقص الكيل والوزن، وأراد بهذا الذين يعاملون الناس، فإذا أخذوا لأنفسهم استوفوا، وإذا دفعوا إلى من يعاملهم نقصوا، ويتجلى ذلك في الوزن والكيل، وفي إظهار العيب، وفي القضاء والأداء والاقتضاء، فمن لم يرض لأخيه المسلم ما لا يرضاه لنفسه فليس بمنصف، وأما الصديقون فإنهم كما ينظرون للمسلمين، فإنهم ينظرون لكل من لهم معهم معاملة، والصدق عزيز، وكذلك أحوالهم في الصحبة والمعاشرة؛ فالذى يرى عيب الناس ولا يرى عيب نفسه فهو من هذه الجملة -جملة المطففين-...، ومن اقتضى حق نفسه دون أن يقضي حقوق غيره مثلما يقتضيها لنفسه فهو من جملة المطففين، والفتى من يقضي حقوق الناس ولا يقتضي من أحد لنفسه حقًا57.
وهذه من حكمة وضع الميزان في الأرض، أن يقوم الناس بالقسط، وينصف بعضهم بعضًا.
قال تعالى: (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) [الرحمن:٧-٩].
قال الرازي: وذكر في منافع الميزان أن يقوم الناس بالقسط، والقسط والإقساط هو الإنصاف، وهو أن تعطي قسط غيرك كما تأخذ قسط نفسك58.
وسمي العدل ميزانًا لأن الميزان آلة الإنصاف، والتسوية بين الخلق، قال ابن عباس رضي الله عنهما: أمر الله تعالى بالوفاء، ونهى عن البخس59.
وفي قوله: (ﮌ ﮍ) قال مجاهد: أراد بالميزان العدل والإنصاف، والمعنى: أنه أمر بالعدل، يدل عليه قوله تعالى: (ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) أي: لا تجاوزوا العدل، وقال الحسن وقتادة والضحاك: أراد به الذي يوزن به ليوصل به إلى الإنصاف والانتصاف، وأصل الوزن التقدير، وقوله: (ﮏ ﮐ) يعني: لئلا تميلوا وتظلموا وتجاوزوا الحق في الميزان، (ﮔ ﮕ ﮖ) بالعدل، وقال أبو الدرداء وعطاء: معناه أقيموا لسان الميزان بالعدل، قال سفيان بن عيينة: الإقامة باليد، والقسط بالقلب (ﮗ ﮘ) ولا تنقصوا الميزان، ولا تطففوا في الكيل والوزن60.
والمقصود: أن من أنواع الإنصاف إنصاف الخلق بعضهم بعضًا، إذا تعاطوا الحقوق بينهم، فلا يبخس بعضهم بعضًا، ولا يأخذ ما ليس له، ولا يحيف ولا يجور، بل ينبغي أن تؤدى الحقوق كاملة كما أمر الله تعالى.
خامسًا: إنصاف المخالفين:
ومن أنواع الإنصاف التي حث عليها القرآن إنصاف المخالفين، وانظر كيف أنصف القرآن أهل الكتاب مع مخالفتهم الشديدة لدين الله.
قال تعالى: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ) [آل عمران:٧٥].
فهذا من إنصاف وعدل القرآن، ودقته في الحكم بالفساد على الأمم؛ إذ يحكم على الأكثر بالفساد، ثم يستثني الصالحين منهم بعد إطلاق الحكم العام، فمن إنصافه هنا أنه أخبر عن أهل الكتاب أن منهم من يؤدي الأمانة وإن كثرت، ومنهم من لا يؤديها وإن قَلَتْ.
فالآية فيها دلالة على إنصاف الرب تبارك وتعالى، وأن الله جل وعلا حكم عدل، فاليهود قوم بهت نعتوا ربهم بأقبح المعايب تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.
ومع ذلك يقرر الله في هذه الآية أن اليهود على ما فيهم من معايب منهم من لو أمنته فوضعت عنده قنطارًا -والقنطار: الآلاف من الدنانير- ثم طلبتها منه لردها إليك، رغم أنه يهودي، وإخبار الله بهذا دلالة على إنصاف الرب جل وعلا، وأن الله لا يظلم الناس مثقال ذرة.
فقول الله: (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) أي: إن وضعت عنده قنطارًا أمانة رده إليك تامًا، كما هو رغم أنه كتابي، يهودي وإما نصراني، فكفره لم يمنعه من تأدية الأمانة.
إنها خطة الإنصاف والحق، وعدم البخس والغبن، يجري عليها القرآن الكريم في وصف حال أهل الكتاب الذين كانوا يواجهون الجماعة المسلمة حينذاك، والتي لعلها حال أهل الكتاب في جميع الأجيال؛ ذلك أن خصومة أهل الكتاب للإسلام والمسلمين، ودسهم وكيدهم وتدبيرهم الماكر اللئيم، وإرادتهم الشر بالجماعة المسلمة، وبهذا الدين.
كل ذلك لا يجعل القرآن يبخس المحسنين منهم حقهم، حتى في معرض الجدل والمواجهة، فهو هنا يقرر أن من أهل الكتاب ناسًا أمناء، لا يأكلون الحقوق مهما كانت ضخمة مغرية (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) ولكن منهم كذلك الخونة الطامعين المماطلين، الذين لا يردون حقًا -وإن صغر- إلا بالمطالبة والإلحاح والملازمة.
ثم هم يفلسفون هذا الخلق الذميم، بالكذب على الله عن علم وقصد (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) .
وهذه بالذات صفة يهود، فهم الذين يقولون هذا القول، ويجعلون للأخلاق مقاييس متعددة، فالأمانة بين اليهودي واليهودي، أما غير اليهود ويسمونهم الأميين، وكانوا يعنون بهم العرب (وهم في الحقيقة يعنون كل من سوى اليهود) فلا حرج على اليهودي في أكل أموالهم، وغشهم وخداعهم، والتدليس عليهم، واستغلالهم بلا تحرج من وسيلة خسيسة، ولا فعل ذميم!
ومن العجب أن يزعموا أن إلههم ودينهم يأمرهم بهذا، وهم يعلمون أن هذا كذب، وأن الله لا يأمر بالفحشاء، ولا يبيح لجماعة من الناس أن يأكلوا أموال جماعة من الناس سحتًا وبهتانًا، وألا يرعوا معهم عهدًا ولا ذمة، وأن ينالوا منهم بلا تحرج ولا تذمم، ولكنها يهود! يهود التي اتخذت من عداوة البشرية والحقد عليها ديدنًا ودينًا61.
والحاصل: أن في هذا التعبير القرآني إنصافًا للنصارى فصفة الخير لهم لا ينكرها الله، بل يشيعها في قرآنه الذي يتلى إلى يوم الدين؛ وذلك ليصدق أيضًا أهل الكتاب أي أمر سيء تنزل فيه آيات من القرآن؛ لأن القرآن منصف مطلق الإنصاف، فما دام قد قال خصلة الخير فيهم فلا بد أن يكون صادقًا عندما يقول الأمور السيئة التي اتصفوا بها.
وهكذا عادة القرآن فهو لا يعمم حكمه إلا حيث يكون التعميم هو الحق الذي لا شك فيه، وإن كان في قوم من هم جديرون بالثناء ذكرهم، وكذلك كان الشأن في ذكر أهل الكتاب، وهم من أعظم الناس مخالفة لشرع الله، ففي هذه الآية يذكر بالخير طائفة من هؤلاء، فيقول الحكم العدل تعالت كلماته.
ومن نماذج إنصاف المخالف في القرآن أيضًا، قوله تعالى حكاية عن فرعون: . (ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ) [الشعراء:١٨-٢٠].
فقول موسى عليه السلام: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ) من أروع وأعظم نماذج الإنصاف في القرآن، حيث علق على الثانية، ولم يعلق ويرد على الأولى؛ لأن الأولى حق، فقد تربى وتغذى في بيت فرعون حقًا.
وفي هذه الآية إرشاد للعباد: أن الحق يقبل، ولو صدر من الخصم.
ومن إنصافه أنه قال: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ) أي: قال موسى في جوابه على فرعون: أنا لا أنكر أني قد فعلت هذه الفعلة التي تذكرني بها، ولكني فعلتها وأنا في ذلك الوقت من الضالين، أي: فعلت ذلك قبل أن يشرفني الله بوحيه، ويكلفني بحمل رسالته، وفضلًا عن ذلك فأنا كنت أجهل أن هذه الوكزة ستؤدي إلى قتل ذلك الرجل من شيعتك، لأني ما قصدت قتله، وإنما قصدت تأديبه، ومنعه من الظلم لغيره62.
ثم إنه لم ينكر تربيته في بيت فرعون، بل بين له أنه وإن أسدى النعمة إليه فقد أساء إلى شعبه عامة، فقال: (ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [الشعراء:٢٢].
أي: وما أحسنت إلي وربيتني إلا وقد أسأت إلى بني إسرائيل جملة، فجعلتهم عبيدًا وخدمًا، تصرفهم في أعمالك، وأعمال رعيتك الشاقة63.
ومن نماذج إنصاف المخالف في القرآن كذلك قوله تعالى حكاية عن المشركين: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) [الأعراف:٢٨].
فنلحظ هنا أن الله تعالى رد مقولتهم الثانية ونفاها، وسكت عن الأولى؛ لأنهم فعلًا وجدوا آباءهم يفعلون هذه الفاحشة، وهي كما ما ذكر أهل التفسير طوافهم بالبيت عراة64.
قال ابن عاشور: فأعرض عن رد قولهم: (ﮯ ﮰ ﮱ) لأنه إن كان يراد رده من جهة التكذيب فهم غير كاذبين في قولهم؛ لأن آباءهم كانوا يأتون تلك الفواحش، وإن كان يراد رده من جهة عدم صلاحيته للحجة فإن ذلك ظاهر؛ لأن الإنكار والنهي ظاهر انتقالهما إلى آبائهم؛ إذ ما جاز على المثل يجوز على المماثل65.
وقد يكون السكوت هنا أتى من باب الذم لهذا الاحتجاج بالآباء وتحقيره، قال الرازي: أما الحجة الأولى: فما ذكر الله عنها جوابًا؛ لأنها إشارة إلى محض التقليد، وقد تقرر في عقل كل أحد أنه طريقة فاسدة؛ لأن التقليد حاصل في الأديان المتناقضة، فلو كان التقليد طريقًا حقًا للزم الحكم بكون كل واحد من المتناقضين حقًا، ومعلوم أنه باطل؛ ولما كان فساد هذا الطريق ظاهرًا جليًا لكل أحد لم يذكر الله تعالى الجواب عنه66.
والمقصود: أن من الإنصاف أن ينصف المرء من يخالفه، ولا تكون المحالفة مدعاة لظلمه، أو هضم حقوقه، أو التعدي عليه، وستأتي في المطالب التالية أمثلة قرآنية كثيرة على إنصاف المخالفين.
من مجالات الإنصاف البارزة في القرآن مجال الحوار، والدعوة، والحكم على الناس، وقد أولى القرآن هذا الجانب أهمية كبيرة، فحث القرآن على الإنصاف في الحوار، والعدل في الحكم على الناس، والحكم على الأفكار.
أولًا: تحري القصد الحسن:
مما ينبغي على المحاور والداعية حتى يكون منصفًا أن يتحرى القصد الحسن من حواره ودعوته، بأن يكون هدفه إظهار الحق، والرغبة في الوصول إليه، وانظر إلى نبي الله شعيب عليه السلام بعد المحاورة الطويلة لقومه، كيف بين مقصوده من حواره، ودعوته لهم، حيث أخبر الله عنه أنه قال: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [هود:٨٨].
فقوله: (ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) يعني: هذا هدفي ومقصدي من دعوتي لكم، وهو قصد حسن، وهكذا ينبغي أن يكون قصد كل محاور وداعية ومتكلم، أن يكون قصده الإصلاح لا الإفساد، وإحقاق الحق، وإبطال الباطل.
يقول السمرقندي: في قوله: (ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) أي: ما أريد إلا العدل67. والعدل من معاني الإنصاف.
وقد فضح سوء نواياهم الداعية لهم إلى الإعراض عن دعوته عقب إظهار حسن نيته مما دعاهم إليه، بقوله: (ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [هود:٨٨].
مصادفًا محز جودة الخطابة؛ إذ رماهم بأنهم يعملون بضد ما يعاملهم به68.
ولما بين لهم حقيقة عمله، وكان في بيانه ما يجر الثناء على نفسه، أعقبه بإرجاع الفضل في ذلك إلى الله، فقال: (ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) [هود:٨٨].
فسمى إرادته الإصلاح توفيقًا، وجعله من الله، لا يحصل في وقت إلا بالله، أي: بإرادته وهديه69.
والمقصود: أن من متطلبات الإنصاف في الحوار تحري القصد الحسن من المحاورة، أو من الدعوة؛ وهذا من علامة الإخلاص لله، والرغبة في طلب الحق.
قال تعالى: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [البينة:٥].
فمن الإنصاف أن يكون الداعي مقصده صالحًا، وغرضه حسنًا، بالحرص على ظهور الحق، وهداية الخلق، فهذا له أثر عظيم في قبول الحق، فمتى علم الناس من الداعية حسن القصد، ونبل الهدف، أثر ذلك فيهم تأثيرًا عجيبًا.
ثانيًا: التثبت والتبين:
من لوازم الإنصاف التثبت والتبين، حتى لا يخرج المسلم عن العدل والإنصاف في قوله وحكمه، أو يتسرع في الحكم على قول أو فعل أو شخص دون تبين وتثبت.
قال تعالى: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ) [الحجرات:٦].
قال الشافعي رحمه الله: فأمر الله من يمضي أمره على أحد من عباده أن يكون مستبينًا قبل أن يمضيه70. حتى لا يجانب العدل والإنصاف.
وها هنا فائدة لطيفة، وهي أنه سبحانه لم يأمر برد خبر الفاسق وتكذيبه، ورد شهادته جملة، وإنما أمر بالتبين، فإن قامت قرائن وأدلة من خارج تدل على صدقه عمل بدليل الصدق، ولو أخبر به من أخبر، فهكذا ينبغي الاعتماد في رواية الفاسق وشهادته، وكثير من الفاسقين يصدقون في أخبارهم ورواياتهم وشهاداتهم، بل كثير منهم يتحرى الصدق غاية التحري، وفسقه من جهات أخر، فمثل هذا لا يرد خبره ولا شهادته، ولو ردت شهادة مثل هذا وروايته لتعطلت أكثر الحقوق، وبطل كثير من الأخبار الصحيحة، ولا سيما من فسقه من جهة الكذب، فإن أكثر منه وتكرر، بحيث يغلب كذبه على صدقه، فهذا لا يقبل خبره ولا شهادته، وإن ندر منه مرة أو مرتين ففي رد شهادته وخبره بذلك قولان للعلماء، وهما روايتان عن الإمام أحمد رحمهم الله71.
وخصص الفاسق بالتبين والتثبت في قوله لأنه مظنة الكذب، وحتى لا يشيع الشك بين الجماعة المسلمة في كل ما ينقله أفرادها من أنباء، فيقع ما يشبه الشلل في معلوماتها، فالأصل في الجماعة المؤمنة أن يكون أفرادها موضع ثقتها، وأن تكون أنباؤهم مصدقة مأخوذًا بها، فأما الفاسق فهو موضع الشك حتى يثبت خبره؛ وبذلك يستقيم أمر الجماعة وسطًا بين الأخذ والرفض؛ لما يصل إليها من أنباء، ولا تعجل الجماعة في تصرف بناء على خبر فاسق، فتصيب قومًا بظلم عن جهالة وتسرع، فتندم على ارتكابها ما يغضب الله، ويجانب الحق والعدل في اندفاع72.
ولهذا قال: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) لأن المؤمن إذا وقع في هذا المحظور المنهي عنه، وهو ظلم الناس، أو أذية الناس بسبب تناقل الأخبار يندم على ذلك، وبخاصة وأن قبول خبر الفاسق يؤدي إلى الرغبة في الانتقام من هذا الفاعل أو معاقبته أو أذيته، فإذا بادرت وعاقبته وتعجلت بناءً على هذا الخبر من الفاسق، فربما يتبين لك بعد ذلك أنه كان مظلومًا، فيملؤك الندم على ما فعلت من ترك التثبت، وعدم الحيطة، وقبول خبر الفاسق.
فلا يعجل من بلغه خبر، وبخاصة إن كان عن حميم أو قريب لمجرد قوله ذلك، فكم حدث في التاريخ القديم والحديث نتيجة أنباء الفسقة الكاذبين من قتل بظلم، وسجن بظلم، وأخذ مال بظلم، وحصل الندم، ولكن بعد فوات الأوان، فإن كان الأذى موتًا فلا حيلة في إحيائه مرة أخرى، وإن كان ضربًا وإيذاءً فلا حيلة في زوال ذلك الضرب، وقد أوذي المرء وأهين.
وهذه الآية ستبقى دستورًا للأخبار والمعاملات للرواة وللمحدثين ولأهل العلم وللحكومات وللقضاة وللمتتبعين للأخبار، بحيث يستوثقون من أي خبر جاء، خاصة إذا كان المخبر يأخذ مالًا، ويأخذ راتبًا على هذه الأخبار، فهو عندما لا يجد خبرًا، ولا يسمع نبأ، يذهب ويكذب ويخترع ليحوز المال، فهو كاذب، ولا يفرح لمثل هذا، فانتقام الله منه يكون عظيمًا في الدنيا قبل الآخرة73.
والمراد من التبين التعرف والتفحص، ومن التثبت: الأناة، وعدم العجلة، والتبصر في الأمر الواقع، والخبر الوارد حتى يتضح ويظهر...، وقوله: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) أي: كراهة أن تصيبوا، أو لئلا تصيبوا؛ لأن الخطأ ممن لم يتبين الأمر ولم يتثبت فيه هو الغالب وهو جهالة؛ لأنه لم يصدر عن علم، والمعنى: متلبسين بجهالة بحالهم، فتصبحوا على ما فعلتم بهم من إصابتهم بالخطأ نادمين على ذلك، مغتمين له، مهتمين به74.
والمقصود: إن من الإنصاف التثبت والتبين من خبر الفاسق قبل الحكم على الناس، أو اتهامهم، أو عقابهم، حتى لا يقع المسلم في الظلم والجور، ثم يندم حيث لا ينفع الندم.
ثالثًا: إحسان الظن:
ومن لوازم الإنصاف حسن الظن بالمسلم.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ) [الحجرات:١٢].
فنهى الله تعالى عن كثير من الظن السوء بالمؤمنين، فإن بعض الظن إثم؛ وذلك كالظن الخالي من الحقيقة والقرينة، وكظن السوء الذي يقترن به كثير من الأقوال والأفعال المحرمة، فإن بقاء ظن السوء بالقلب لا يقتصر صاحبه على مجرد ذلك، بل لا يزال به حتى يقول ما لا ينبغي، ويفعل ما لا ينبغي، وفي ذلك أيضًا إساءة الظن بالمسلم، وبغضه وعداوته، المأمور بخلاف ذلك منه75.
قال ابن كثير: يقول تعالى ناهيًا عباده المؤمنين عن كثير من الظن، وهو التهمة والتخون للأهل والأقارب والناس في غير محله؛ لأن بعض ذلك يكون إثمًا محضًا، فليجتنب كثير منه احتياطًا76.
فالآية تأمر المؤمنين باجتناب كثير من الظن، فلا يتركوا نفوسهم نهبًا لكل ما يهجس فيها حول الآخرين من ظنون وشبهات وشكوك، وتعلل هذا الأمر (ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ) وما دام النهي منصبًا على أكثر الظن، والقاعدة أن بعض الظن إثم، فإن إيحاء هذا التعبير للضمير هو اجتناب الظن السيئ أصلًا؛ لأنه لا يدري أي ظنونه تكون إثمًا؟! بهذا يطهر القرآن الضمير من داخله أن يتلوث بالظن السيئ، فيقع في الإثم، ويدعه نقيًا بريئًا من الهواجس والشكوك، أبيض يكن لإخوانه المودة التي لا يخدشها ظن السوء، والبراءة التي لا تلوثها الريب والشكوك، والطمأنينة التي لا يعكرها القلق والتوقع.
وما أروع الحياة في مجتمع بريء من الظنون! ولكن الأمر لا يقف في الإسلام عند هذا الأفق الكريم الوضيء في تربية الضمائر والقلوب، بل إن هذا النص يقيم مبدأ في التعامل، وسياجًا حول حقوق الناس الذين يعيشون في مجتمعه النظيف، فلا يؤخذون بظنة، ولا يحاكمون بريبة، ولا يصبح الظن أساسًا لمحاكمتهم، بل لا يصح أن يكون أساسًا للتحقيق معهم، ولا للتحقيق حولهم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا ظننت فلا تحقق)77.
ومعنى هذا أن يظل الناس أبرياء، مصونة حقوقهم وحرياتهم واعتبارهم، حتى يتبين بوضوح أنهم ارتكبوا ما يؤاخذون عليه، ولا يكفي الظن بهم لتعقبهم بغية التحقق من هذا الظن الذي دار حولهم! فأي مدى من صيانة كرامة الناس وحرياتهم وحقوقهم واعتبارهم ينتهي إليه هذا النص؟! وأين أقصى ما تتعاجب به أحسن البلاد ديمقراطية وحرية وصيانة لحقوق الإنسان فيها من هذا المدى الذي هتف به القرآن الكريم للذين آمنوا، وقام عليه المجتمع الإسلامي فعلًا، وحققه في واقع الحياة، بعد أن حققه في واقع الضمير78.
والمقصود: أن المسلم لكي يكون منصفًا مع الخصم أو مع الناس عمومًا لا بد أن يترك الظن السيئ بهم، بل لا بد من حسن الظن بالطرف الآخر واحترامه، وهذا مما يسهل الوصول إلى قلبه، وتملكه وإقناعه.
وسبب تحريم سوء الظن: أن أسرار القلوب لا يعلمها إلا علام الغيوب، فليس لك أن تعتقد في غيرك سوءًا إلا إذا انكشف لك بعيان لا يقبل التأويل، فعند ذلك لا يمكنك ألا تعتقد إلا ما علمت وشاهدت بنفسك، وما لم تشاهده بعينك ولم تسمعه بأذنك ثم وقع في قلبك، فإنما يلقيه إليك الشيطان.
وللأسف الشديد هذا شائع في مجتمعنا، أعني: سهولة تداول الطعن في الأعراض في المجالس، فما أن تقع خطوبة بين طرفين، أو يفتح الكلام على ذلك -ولو لم يتحقق- حتى تجد من يقبل هذا الكلام، وربما حققه وقطع به، وبنى عليه أحكامه، ثم يشيعها في الناس، هذا شائع وموجود! فهذا من الظلم، وهذا مما يخالف هذا التوجيه القرآني.
ومن الناس من يتلقى الخبر من الجرائد، ومن المشاهدة للإعلام، فيظل يروج بكلام كثير جدًا، فينبغي أن يتحرى المؤمن هذا الذي ينقله، أو يبني عليه أحيانًا، ولا بد من تجنب الظنون السيئة ما لم يشاهد بعينه، ولم يسمع بأذنه.
فليس لك أن تعتقد في غيرك سوءًا إلا إذا انكشف بعيان لا يقبل التأويل؛ لأننا نحن البشر، بل كل الخلق لا يستطيع أحد منهم أن يطلع على أسرار القلوب، فأسرار القلوب لا يعلمها إلا علام الغيوب سبحانه وتعالى، أما البشر فليس لهم إلا الظاهر، فإذا ظهر من شخص شيء، وبان لك عيانًا ببينة، فهنا يحق لك أن تظن ما يليق بهذا الذي ظهر منه، أما إذا لم يظهر منه شيء ولا أمارة صحيحة على ذلك، فليس من حقك أن تظن به، وإلا فقد ظلمته واستحققت عقاب الله تبارك وتعالى.
رابعًا: القول الحسن:
ومن آداب الإنصاف في الحوار والجدال الحرص على القول الحسن.
قال تعالى: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [النحل:١٢٥].
والمعنى: ادع أيها النبي الناس إلى دين الله، وشريعة ربك، وهي الإسلام، بالحكمة، أي: بالقول المحكم، والموعظة الحسنة، أي: بالعبرة والتوجيه والكلمة المؤثرة في القلوب، والتلطف بالإنسان، بإحلاله وتنشيطه؛ ليحذر الناس بأس الله تعالى، ويحققوا لأنفسهم النجاح، وجادلهم بالتي هي أحسن، أي: وحاججهم محاجة تتصف بالحسن، والإقناع والإنصاف، وبالرفق واللين، ولطف الخطاب، والصفح عن المسيء، وقابل الإساءة بالإحسان، واقصد من الجدال الوصول إلى الحق، دون رفع الصوت أو السب، أو التعيير، أو التهكم والاستهزاء79.
ومما يبين ذلك: قوله تعالى: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ) [العنكبوت:٤٦].
فقوله: (ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ) أي: ألطف وأرفق، وهو الجميل من القول، والدعاء إلى الله، والبينة على آيات الله وحججه80. كمعاملة الخشونة باللين، والغضب بالحلم، والمشاغبة، أي: تحريك الشر وإثارته بالنصح، أي بتحريك الخير وإثارته، والعجلة بالتأني والاحتياط على وجه لا يؤدي إلى الضعف، ولا إلى إعظام الدنيا الدنية81.
والجدال: هو الخصام، أي: لا تخاصموهم، ولا تناقشوهم، ولا تحاوروهم إلا بالكلمة الطيبة، فلا تعنيف، ولا شتيمة، ولا صراخ، ولا تقبيح، ولا شتم وذم.
فالله جل جلاله أمرنا عند محاورة أهل الكتاب من اليهود والنصارى أن نجادلهم، وأن نستدل عليهم بالتي هي أحسن، أي: بالكلمة الحسنة والطيبة، من غير أن يكون هناك خصام ولا شتيمة.
وأن ندعوهم إلى القرآن وإلى الإسلام وإلى رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بالكلمة الطيبة82.
ومن الآيات التي تدل على ذلك قوله تعالى: (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) [الإسراء:٥٣].
أي: وقل لعبادي يقولوا في مخاطباتهم ومحاوراتهم مع خصومهم من المشركين وغيرهم: الكلام الأحسن للإقناع، مع البعد عن الشتم والسب والأذى83.
وقوله: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) يقول: إن الشيطان يسوء محاورة بعضهم بعضًا، وينزغ بينهم، أي: يفسد بينهم، ويهيج بينهم الشر84.
قال ابن كثير: يأمر تبارك وتعالى عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباد الله المؤمنين أن يقولوا في مخاطبتهم ومحاوراتهم الكلام الأحسن، والكلمة الطيبة، فإنهم إن لم يفعلوا ذلك نزع الشيطان بينهم، وأخرج الكلام إلى الفعال، وأوقع الشر والمخاصمة والمقاتلة، فإنه عدو لآدم وذريته من حين امتنع عن السجود لآدم، وعداوته ظاهرة بينة؛ ولهذا نهى أن يشير الرجل إلى أخيه المسلم بحديدة، فإن الشيطان ينزع في يده، أي: فربما أصابه بها85.
ونظيره قوله: (ﯦ ﯧ ﯨ) [البقرة:٨٣]يعني: حقًا86 والحق فيه دلالة على الإنصاف.
والحاصل: أن كلمة حسنًا واسعة الدلالة، فهي ترمز لمعانٍ شتى، من أعظمها الإنصاف في القول، فالإنصاف في القول من أعظم المحاسن.
وكلمة الناس في قوله: (ﯦ ﯧ ﯨ) عامة، أي: للناس كلهم87.
والمقصود: أن من آداب الإنصاف اتخاذ هذا الأسلوب من الجدال، بالتي هي أحسن، كي يستخفه السمع، ويقبله الطبع، فالجدال والنقاش بالأسلوب الحسن، وبالحكمة والموعظة الحسنة أدعى عند العقلاء إلى توفير القناعة، والوصول إلى الإيمان، وتحقيق الهدف المقصود.
فالآيات السابقة تأمر بالجدال بالتي هي أحسن إذا لزم الجدال، وبالتزام الحكمة، والموعظة الحسنة في الدعوة إلى سبيل الله.
فالخير كل الخير هو في تلك الخطة، فإذا كان من الكفار من يشذ ويعنف، ورأى بعض المسلمين ضرورة للمقابلة، فلتكن في حدود المماثلة، والصبر مع ذلك هو الأفضل، وعلى المسلمين أن يملكوا زمام أنفسهم، فلا يخرجوا عن حد الاعتدال والإنصاف، ولا يحزنوا، ولا يضق صدرهم بما يرونه من مكر الكفار، ومواقفهم وتعنتهم، وعليهم بتقوى الله، والعمل الحسن الذي يرضيه، وإنه لمع المتقين المحسنين88.
فهؤلاء أهل الكتاب من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال، فليكن بالوجه الحسن، برفق ولين، وحسن خطاب، واصفح عمن أساء في القول، وترفق بهم في الخطاب، وقابل السوء بالحسنى، واقصد من الجدال الوصول إلى الحق، دون رفع الصوت، وسب الخصم أو الأذى، كما قال تعالى: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ) فهذا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بلين الجانب، ولطف الخطاب، كما أمر به موسى وهارون عليهما السلام حين بعثهما إلى فرعون في قوله: (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) [طه:٤٤].
فعلى كل داعية امتثال هذا الأمر الإلهي في دعوته89.
وهكذا دعا النبي صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب إلى كلمة سواء، ينصف فيها بعضهم بعضًا، كما حكى القرآن بقوله: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) [آل عمران:٦٤].
وإذا كان قد دعاهم إلى هذا الإنصاف، وإلى ترك التعصب جانبًا، وعدم الخضوع لأسبابه، فإن حال الذين يخاطبهم إحدى حالين: إما أن يخلصوا في طلب الحق، ويجيبوا داعيه، وتلك خير الخصلتين، وإما أن لا يجيبوا داعيه، وتلك هي السوأى، فإن كانت الأولى فتلك هداية الله، وإن كانت الثانية، فإن الله تعالى قد كتب عليهم الشقوة، ولا سبيل لأن يدخل قلوبهم، فإن من طلب منه الإنصاف، فأعرض عنه فلا سبيل إلى هدايته، والجدل معه لا يجدي؛ ولذا قال سبحانه وتعالى: (ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) أي: فإن أعرضوا، ونأوا بجانبهم عن إجابة داعي الإنصاف، والدعوة بالتي هي أحسن، فلا تجادلوهم، ولا تحاجوهم، فإن الجدل مع من لم يجب داعي العدالة لا يزيده إلا لجاجة وعنادًا؛ وإن الحقائق تتبعثر على ألسنة المتجادلين، ويتبدد رونقها، ويذهب بهاؤها، وتفقد النفس عند الجدل الإيمان بالحقائق، والإذعان لها.
بل أمرهم الله تعالى بقوله: (ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) أي: يقول النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين لأولئك الذين مردوا على الجدال، وبعثرة الحقائق في حومة الجدل: اشهدوا بأنا مسلمون، مذعنون لطلب الحق، فلا تحاولوا أن تغيرونا عما اعتقدنا، وقد أنصفناكم بالدعوة إلى كلمة الحق والإنصاف، فلم تجيبوا، والآن ننصفكم مرة أخرى بأن نشهدكم بأننا مخلصون في طلب الحق، مذعنون له.
ومن جانبنا فإن أذعنتم مثلنا فنعما هي، وإن لم تذعنوا فلنا ديننا، ولكم دينكم، والله يحكم بيننا، وهو خير الحاكمين، وإن إعلان الإذعان للحق من جانب المؤمنين فيه دعوة للحق بإعلان المثل الواضح البين السامي، وهو يؤثر في الدعوة إلى الحق أكثر من الجدل؛ إذ يكون فيه ذكرى لمن له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد، وإن الجدل يثير غبارًا يجعل الوصول إلى الحق عسيرًا وسط عجاجة المتجادلين.
وإن هذه الآية الكريمة صورة سامية من الدعوة إلى الحق؛ ولذا كان يتخذها النبي صلى الله عليه وسلم منهاجه في دعوته، فقد كانت في الصيغة التي اختارها في دعوة الملوك والحكام الكبراء إلى الإسلام90.
خامسًا: ترك الجدال المذموم:
ومن آداب الإنصاف ترك الجدال المذموم، والجدل لأجل دفع الحق ورده، بل متى استبان الحق، وظهرت معالمه، فمن الإنصاف قبوله، والتسليم له، وقد أمر الله بالمجادلة بالحسنى، قال تعالى: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [النحل:١٢٥].
قال القاسمي: دل قوله تعالى: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) على الحث على الإنصاف في المناظرة، واتباع الحق، والرفق والمداراة، على وجه يظهر منه أن القصد إثبات الحق، وإزهاق الباطل، وأن لا غرض سواه91.
فالمنصف إذا تجلت له الحجة، وبان له الحق لم يتوقف عن قبول الحق، ولم يستمر في العناد والجدال.
وقد ضرب لنا القرآن الكريم أمثلة كثيرة في الإنصاف حال الجدال والمناظرة مع الخصم، ومن ذلك قوله تعالى: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) [سبأ:٢٤].
وهذه ملاطفة، وتنزل في المجادلة، إلى غاية الإنصاف، كقولك: الله يعلم أن أحدنا على حق، وأن الآخر على باطل، ولا تعين بالتصريح أحدهما، ولكن تنبه الخصم على النظر، حتى يعلم من هو على الحق، ومن هو على الباطل، والمقصود من الآية: أن المؤمنين على هدى، وأن الكفار على ضلال مبين92.
قال السمين الحلبي بعد أن ذكر وجهين في تفسير هذه الآية: وهذان الوجهان لا ينبغي أن يحملا على ظاهرهما قطعًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشك أنه على هدى ويقين، وأن الكفار على ضلال، وإنما هذا الكلام جار على ما يتخاطب به العرب، من استعمال الإنصاف في محاوراتهم، على سبيل الفرض والتقدير، ويسميه أهل البيان: الاستدراج، وهو أن يذكر لمخاطبه أمرًا يسلمه، وإن كان بخلاف ما يذكر، حتى يصغي إلى ما يلقيه إليه؛ إذ لو بدأه بما يكره لم يصغ، ونظيره قولهم: أخزى الله الكاذب مني ومنك93.
ونظير الآية السابقة قوله تعالى: (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [سبأ:٢٥].
قال البيضاوي: هذا أدخل في الإنصاف، وأبلغ في الإخبات، حيث أسند الإجرام إلى أنفسهم، والعمل إلى المخاطبين94. فسمى فعله جرمًا -كما يزعمون- مع أنه مثاب مشكور، وسمى فعلهم عملًا، مع أنه مزجور عنه محظور95.
وفي هذا التعبير القرآني محاسنة للمشركين، ورفق بهم، وإطفاء لحمية الجاهلية التي تعمي عليهم السبيل إلى الهدى، وهذا هو الأسلوب الحكيم في مخاطبة الجاهلين، وهو أسلوب الدعوة الإسلامية، والصميم من رسالة رسولها، كما يقول سبحانه وتعالى لنبيه الكريم: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [النحل:١٢٥]96.
ومن الأمثلة على الإنصاف في المناظرة: قوله تعالى: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) [غافر:٢٨]فهذا أيضًا نوع من أنواع التنزل، أو ما يسمى باستدراج الخصم في المناظرة حتى يقر بالحق.
فلما صرح بالإنكار عليهم بقوله: (ﭻ ﭼ) غالطهم بعد ذلك، في أن قسم أمره إلى كذب وصدق، وأدى ذلك في صورة احتمال ونصيحة، وبدأ في التقسيم بقوله: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ) مداراة منه، وسالكًا طريق الإنصاف في القول، وخوفًا إذا أنكر عليهم قتله أنه ممن يعاضده ويناصره، فأوهمهم بهذا التقسيم والبداءة بحالة الكذب حتى يسلم من شرهم، ويكون ذلك أدنى لتسليمهم.
ومعنى: (ﮊ ﮋ) أي: لا يتخطاه ضرره (ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ)97. من العذاب، ولم يقل: كل الذي يعدكم، مع أنه وعد من نبي صادق القول، مداراةً لهم، وسلوكًا لطريق الإنصاف، فجاء بما هو أقرب إلى تسليمهم له، وليس فيه نفي إصابة الكل، فكأنه قال لهم: لعل ما يكون في صدقه أن يصيبكم بعض ما يعدكم، وهو العذاب العاجل، وفي ذلك هلاككم98.
قال الشهاب الخفاجي: ففيه من الإنصاف والأدب ما لا يخفى، فإنه نبي صادق، فلا بد أن يصيبهم كل ما وعد به لا بعضه؛ لكنه أتى بما هو أذعن لتسليمهم وتصديقهم؛ لما فيه من الملاطفة في النصح، بكلام منصف، غير مشتط مشدد، أراهم إنه لم يعطه حقه، ولم يتعصب له، ويحامي عنه، حتى لا ينفروا عنه؛ ولذا قدم قوله: (ﮉ)99.
والمقصود: أن هذا من أعظم الإنصاف في المجادلة والمناظرة، حيث فرض لهم أسوأ الفروض، ووقف معهم موقف المنصف أمام القضية، تمشيًا مع أقصى فرض يمكن أن يتخذوه (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ) أي: هو يحمل تبعة عمله، ويلقى جزاءه، ويحتمل جريرته، وليس هذا بمسوغ لهم أن يقتلوه على أية حال!
وهناك الاحتمال الآخر، وهو أن يكون صادقًا، فيحسن الاحتياط لهذا الاحتمال، وعدم التعرض لنتائجه (ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) وإصابتهم ببعض الذي يعدهم هو كذلك أقل احتمال في القضية، فهو لا يطلب إليهم أكثر منه، وهذا منتهى الإنصاف في الجدل والإفحام100.
ونظير ما سبق قوله تعالى: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ) [الأنعام:١٣٥].
ترديد بينه عليه السلام وبينهم، ومعلوم أن هذا التهديد والوعيد مختص بهم، وأن عاقبة الدار الحسنى هي له عليه السلام، ولكنه أجري مجرى قوله: فشركما لخيركما الفداء101.
وقد علم ما هو شر، وما هو خير؛ ولكنه أبرز في صورة الترديد؛ إظهارًا لصورة الإنصاف، ورميًا بالكلام على جهة الاشتراك؛ اتكالًا على فهم المعنى102.
والحاصل: أن على من اضطر إلى المناظرة والمجادلة فليكن منصفًا، عادلًا، قابلًا للحق، ممن جاء به، ولتكن مناظرته ومجادلته بالحسنى، فالجدال والحجاج غير مذموم مطلقًا، بل حسب كيفيته، والقصد منه، وقد قص لنا القرآن محاجة إبراهيم عليه السلام وغيره، حيث قال: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) [البقرة:٢٥٨].
قال القرطبي: وتدل الآية على إثبات المناظرة والمجادلة، وإقامة الحجة، وفي القرآن والسنة من هذا كثير لمن تأمله، قال الله تعالى: (ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ) [البقرة:١١١].
وقال: (ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) [يونس:٦٨].
أي: من حجة، وقد وصف خصومة إبراهيم عليه السلام قومه ورده عليهم في عبادة الأوثان، كما في سورة الأنبياء وغيرها.
وقال في قصة نوح عليه السلام: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ) [هود:٣٢] الآيات... إلى قوله: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ) [هود:٣٥].
وكذلك مجادلة موسى مع فرعون إلى غير ذلك من الآي، فهو كله تعليم من الله عز وجل السؤال والجواب والمجادلة في الدين؛ لأنه لا يظهر الفرق بين الحق والباطل إلا بظهور حجة الحق، ودحض حجة الباطل.
وفي قول الله عز وجل: (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [آل عمران:٦٦].
دليل على أن الاحتجاج بالعلم مباح شائع لمن تدبر، قال المزني صاحب الشافعي: ومن حق المناظرة أن يراد بها الله عز وجل، وأن يقبل منها ما تبين، وقالوا: لا تصح المناظرة، ويظهر الحق بين المتناظرين حتى يكونوا متقاربين، أو مستويين في مرتبة واحدة، من الدين والعقل والفهم والإنصاف، وإلا فهو مراء ومكابرة103.
وقد أخبر الله تعالى عن نبيه أنه دعى قومه إلى كلمة سواء، يكون فيها الإنصاف والعدل.
قال تعالى: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) [آل عمران:٦٤].
أي: قل لأهل الكتاب من اليهود والنصارى (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) أي: هلموا نجتمع عليها، وهي الكلمة التي اتفق عليها الأنبياء والمرسلون، ولم يخالفها إلا المعاندون والضالون، ليست مختصة بأحدنا دون الآخر، بل مشتركة بيننا وبينكم، وهذا من العدل في المقال، والإنصاف في الجدال104.
وقد كان عليه السلام حريصًا على إيمانهم، فكأنه تعالى قال: يا محمد اترك ذلك المنهج من الكلام، واعدل إلى منهج آخر، يشهد كل عقل سليم، وطبع مستقيم، أنه كلام مبني على الإنصاف، وترك الجدال، و(ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) أي: هلموا إلى كلمة فيها إنصاف من بعضنا لبعض، ولا ميل فيه لأحد على صاحبه، وهي (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ)105.
وكأنه لما أورد الدلائل عليهم أولًا، ثم باهلهم ثانيًا، عدل في هذا المقام إلى الكلام المبني على رعاية الإنصاف، وترك المجادلة، وطلب الإفحام والإلزام، ومما يدل عليه أنه خاطبهم ها هنا بقوله تعالى: (ﭫ ﭬ) وهذا الاسم من أحسن الأسماء، وأكمل الألقاب، حيث جعلهم أهلًا لكتاب الله.
ونظيره ما يقال لحافظ القرآن: يا حامل كتاب الله، وللمفسر: يا مفسر كلام الله، فإن هذا اللقب يدل على أن قائله أراد المبالغة في تعظيم المخاطب، وفي تطييب قلبه، وذلك إنما يقال عند عدول الإنسان مع خصمه عن طريقة اللجاج والنزاع إلى طريقة طلب الإنصاف.
أما قوله تعالى: (ﭮ ﭯ ﭰ)...، فالسواء هو العدل والإنصاف؛ وذلك لأن حقيقة الإنصاف إعطاء النصف، فإن الواجب في العقول ترك الظلم على النفس وعلى الغير؛ وذلك لا يحصل إلا بإعطاء النصف، فإذا أنصف وترك ظلمه أعطاه النصف، فقد سوى بين نفسه، وبين غيره، وحصل الاعتدال، وإذا ظلم وأخذ أكثر مما أعطى زال الاعتدال، فلما كان من لوازم العدل والإنصاف التسوية جعل لفظ التسوية عبارة عن العدل، ثم قال الزجاج: (ﭰ) نعت للكلمة، يريد: ذات سواء، أي: كلمة عادلة مستقيمة مستوية، فإذا آمنا بها نحن وأنتم كنا على السواء والاستقامة106.
والحاصل: أن الأمثلة القرآنية السابقة كلها تدل على استخدام الإنصاف أثناء المناظرة والمجادلة، واستخدام الملاطفة في النصح، والإتيان بكلام منصف غير مشدد، ولا متعصب.
قال ابن باديس: لما كان أهل الباطل لا يجدون في تأييد باطلهم إلا الكلمات الباطلة، يموهون بها، والكلمات البذيئة القبيحة يتخذون سلاحًا منها، ولا يسلكون في مجادلتهم إلا الطرق الملتوية المتناقضة، فيتعسفون فيها، ويهربون إليها؛ لما كان هذا شأنهم، أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجتنب كلماتهم الباطلة والقبيحة، وطرائقهم المتناقضة والملتوية، وأن يلتزم في جدالهم كلمة الحق، والكلمات الطيبة البريئة، وأن يسلك في مدافعتهم طريق الرفق والرجاحة والوقار والإنصاف، دون فحش ولا طيش ولا فظاظة.
وهذه الطريقة في الجدال هي التي هي أحسن من غيرها، في لفظها ومعناها، ومظهرها وتأثيرها، وإفضائها للمقصود من إفحام المبطل وجلبه، ورد شره عن الناس، وإطلاعهم على نقصه، وسوء قصده...، فالجدال يكون عند وجود ما يقتضيه؛ ولهذا كانت الدعوة بوجهيها محمودة على كل حال، وكان الجدال مذمومًا في بعض الأحوال.
وذلك فيما إذا استعمل عند عدم الحاجة إليه، فيكون حينئذٍ شاغلًا عن الدعوة، ومؤديًا في الأكثر إلى الفساد والفتنة، فإذا كان جدالًا لمجرد الغلبة والظهور فهو شر كله، وأشد شرًا منه إذا كان لمدافعة الحق بالباطل.
وفي هذه الأقسام الممنوعة جاء مثل قوله: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [الكهف:٥٦].
وقوله: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ) [الزخرف:٥٨].
فالمدافعة والمغالبة من فطرة الإنسان، ولهذا كان الإنسان أكثر شيء جدلًا، غير أن التربية الدينية هي التي تضبط خلقه، وتقوم فطرته، فتجعل جداله بالحق عن الحق.
فلنحذر من أن يطغى علينا خلق المدافعة والمغالبة، فنذهب في الجدل شر مذاهبه، وتصير الخصومة لنا خلقًا، ومن صارت الخصومة له خلقًا أصبح يندفع معها في كل شيء، ولأدنى شيء، ولا يبالي بحق ولا باطل، وإنما يريد الغلب بأي وجه كان...، فمن ضبط نفسه، وراقب ربه، لا يجادل إذا جادل إلا عن الحق، وبالتي هي أحسن107.
والحاصل: أن في هذه الأمثلة القرآنية حثًا على الإنصاف في المناظرة، واتباع الحق، والرفق والمداراة، على وجهٍ يظهر منه أن القصد إثبات الحق، وإزهاق الباطل، لا نصرة الرأي، وهزيمة الرأي الآخر.
سادسًا: الإقرار بالحق إذا قاله المخالف:
ومن الإنصاف أن يقر المرء بالحق، وإن صدر من الخصم، فالحق أحق أن يتبع، ومما يبين ذلك: ما جاء في قصة السحرة مع موسى عليه السلام حيث حكى الله قصتهم.
قال تعالى: . (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [طه:٧١-٧٣].
وما ذكره جل وعلا عنهم في هذا الموضع من ثباتهم على الإيمان، وإنصافهم للحق، وعدم مبالاتهم بتهديد فرعون ووعيده، رغبة فيما عند الله، قد ذكره في غير هذا الموضع، كقوله في الشعراء عنهم في القصة بعينها: (ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ) [الشعراء:٥٠]وقوله في الأعراف: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) [الأعراف:١٢٥-١٢٦].
فهؤلاء كانوا في الغداة كفارًا سحرة، وأمسوا أخيارًا بررة، لما عرفوا الحق اتبعوه وأنصفوه، ويا له من إنصاف عظيم! تحملوا معه التبعات العظام، هددهم فرعون بالقطع والقتل والصلب، ومع هذا ما خافوا وما استكانوا، بل آثروا الحق وقبلوه، مع أنه جاء عن طريق من كان خصمًا لهم في نظرهم.
قال الرازي: اعلم أنه تعالى لما حكى تهديد فرعون لأولئك حكى جوابهم عن ذلك بما يدل على حصول اليقين التام، والبصيرة الكاملة لهم في أصول الدين، فقالوا: لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات.
وذلك يدل على أن فرعون طلب منهم الرجوع عن الإيمان وإلا فعل بهم ما أوعدهم، فقالوا: (ﯓ ﯔ) جوابًا لما قاله، وبينوا العلة، وهي أن الذي جاءهم بينات وأدلة، والذي يذكره فرعون محض الدنيا، ومنافع الدنيا ومضارها لا تعارض منافع الآخرة ومضارها108.
والمقصود: أن هذه إجابة حاسمة قاطعة، تقطع أمله في رجوعهم، والإيمان إذا دخل القلب، وأشرب حبه كان أثبت من الرواسي، وهو إيمان بحجة وبينة وبرهان (ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) أي: لن نتركه لأجلك أيها الطاغي الباغي، وهذا معنى مؤكد، لأن (لن) تفيد النفي المؤكد...، فلا تطمع في رجوعنا عن الحق والإيثار والتفضيل، أي: لن نفضلك على البينات، وهي الدلالات الواضحات التي جاءتنا، وفي هذا إشارة إلى أن ما عنده باطل وأوهام، وكيف نفضل الأوهام على الدليل والبرهان؟!
وقوله تعالى: (ﯚ ﯛ) والذي فطرنا هو الله، يعني: لن نؤثرك على الحق الواضح، ولن نؤثرك على الله تعالى جل جلاله، فهو القادر على كل شيء، فلن نؤثر الضعيف الظاهر على الله القادر العادل القهار، ويجوز أن يكون قوله: (ﯚ ﯛ) أي: أنشأنا ولم نكن شيئًا، فتكون الواو للقسم لا للعطف، والمعنى: لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والله الذي أنشأنا من عدم، فمن تكون أنت أيها المخلوق الضعيف، ولو كنت فرعون الطاغي المتجبر بصلفك وعتوك؟!
وقد رتبوا على عزمتهم النابعة من قلوب مؤمنة تفويضهم الأمور إلى ربهم، والاستهانة بفرعون وبتهديده، فقالوا: (ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) لأنه قضاء الحياة الدنيا، وهي فانية، والآخرة هي الباقية.
وقالوا ما يدل على الاستهانة بحكمه القاصر (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ) والمعنى: إن قضاءك هو في هذه الحياة الدنيا فقط، فهو قضاء تنفيذه وقت قصير، ومن بعده خير طويل، فإنما الحياة الدنيا متاع قليل، والآخرة خير وأبقى، وإن هذا يدل على كمال الإيمان بالله، والاستهانة بفرعون وعذابه109.
والمقصود: أن هؤلاء لما عرفوا الحق أنصفوه واتبعوه وآثروه، فيا له من إيثار! وما أعظمه من إنصاف!
هددهم وتوعدهم بالقتل والصلب، وفنون من العذاب الصعب، وهكذا هي عادة المنهزم، إذا عجز عن الحجة لجأ إلى القوة.
فكان ردهم له أن قالوا له: لن نختارك يا فرعون، ولن نرضى بأن نكون من حزبك، ولن نقدم سلامتنا من عذابك، على ما ظهر لنا من المعجزات التي جاءنا بها موسى، والتي على رأسها عصاه التي ألقاها فإذا هي تبتلع حبالنا وعصينا.
وفى قول فرعون: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) إشارة إلى ما تهدد به موسى السحرة، قبل أن تبدأ المعركة، وذلك فى قوله: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ )[طه:٦١].
فالعذاب الذي تهددهم به موسى هو عذاب مؤجل ليوم القيامة، وهذا العذاب لا يدرك مداه إلا من يؤمنون بالله وباليوم الآخر.
أما العذاب الذي سيأخذهم به فرعون فهو عذاب حاضر واقع فى الحال، وهو عذاب -على تلك الصورة- فظيع مهول! ولهذا وازن فرعون بين عذابه، والعذاب الذي توعد موسى السحرة به، وأراهم أن عذابه أشد (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ) أعذابي الحاضر أم العذاب الذي يهددكم به موسى؟ وأنا أم موسى (أبقى) لكم، وأملك لأمركم، وأقدر على التسلط عليكم؟
فكان جوابهم هذه العبارة: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) وهكذا الإيمان إذا جاء إلى الإنسان، أو جاء إليه الإنسان عن طريق النظر والبحث والتحليل والتعليل، إنه حينئذٍ إيمان يخالط المشاعر، ويملك القلوب، ويأسر العقول، ويجعل من الإنسان الفقير الضعيف، قوة هائلة، تتحدى الجبابرة، وتستخف بأعظم الأهوال، وأشد الخطوب، وهل كان يقع في الحسبان أن جماعة من رعايا فرعون وعابديه الذين ولدوا -كما ولد آباؤهم- في ظل ربوبيته، وسلطان ألوهيته، هل كان يقع في الحسبان أن يجيء يوم يقف فيه هؤلاء (العباد) في وجه هذا (الإله) موقف التحدي، بل والاستخفاف والسخرية؟ ولكنه الإيمان، يفعل المعجزات، ويقلب الأوضاع والمواضعات!110.
ألقى الله جل وعلا في قلوبهم الإيمان واليقين، ووجدوا حلاوته، رغم أنه ليس لهم أيامًا، ولا شهورًا، ولا أعوامًا في الطاعة والإيمان والعمل الصالح، لكن تلك الحظوة الإلهية نالوها ببركة سجودهم، حتى يعلم أثر العمل الصالح على قلب العبد، ثم ردوا عليه بطريقته...، قد يكون الله أعطاك سلطانًا على الدنيا، لكن ليس لك سلطان على حياتنا في الآخرة والدنيا، وسواء قضيت علينا أو لم تقض علينا فمردنا أصلًا إلى الموت فلا نخوف بشيء، لكن العبرة بالحياة الأخروية.
وهل نفذ فيهم تهديده؟ الآيات لم تذكر ذلك، لكن ذكر المفسرون أنه أنفذ فيهم وعيده، فقطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم، فماتوا على الإيمان، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: كانوا في أول النهار سحرة، وفي آخر النهار شهداء بررة111.
الدعوة إلى الإنصاف، والحث على سلوكه مبدأ قرآني، فقد جاء في القرآن الكريم صور كثيرة، ونماذج عديدة في الإنصاف، ومن النماذج القرآنية البارزة في الإنصاف:
أولًا: إنصاف القرآن لطائفة من قوم موسى عليه السلام:
مع أن اليهود هم أشد الناس عداوة للإسلام وأهله، وقد جاءت آيات كثيرة في القرآن الكريم مبينةً كفرهم، وخبثهم، وعنادهم، وقتلهم الأنبياء، وقولهم على الله ما قالوا، حتى لعنهم الله بما قالوا، إلا أن هذه العداوة، وهذه الصفات التي حملوها، لم تمنع القرآن الكريم من إنصاف بعضٍ منهم.
ومن مظاهر هذا الإنصاف:
١. ثناؤه عز وجل على طائفة من قوم موسى.
قال تعالى: (ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ) [الأعراف:١٥٩].
فكونهم أشد الناس عداوة للمسلمين لم يمنع ذلك من إنصافهم، والإشادة بمن أحسن منهم.
وقوم موسى هم أتباع دينه من قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن بقي متمسكًا بدين موسى عليه السلام بعد بلوغ دعوة الإسلام إليه فليس من قوم موسى، ولكن يقال: هو من بني إسرائيل أو من اليهود؛ لأن الإضافة في قوم موسى تؤذن بأنهم متبعو دينه الذي من جملة أصوله ترقب مجيء الرسول الأمي صلى الله عليه وسلم 112.
والآية تبين أنهم جماعة؛ لأن لفظ (الأمة) يدل على الكثرة، وهم في الواقع قليل.
قال في اللباب: فإن قيل: إنهم كانوا قليلين في العدد، ولفظ (الأمة) ينبئ عن الكثرة، فالجواب: إنهم لما أخلصوا في الدين جاز إطلاق لفظ (الأمة) عليهم؛ كقوله تعالى: (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [النحل:١٢٠]113.
فمدحهم الله بقوله: (ﯩ ﯪ) أي: يهدون الناس من بني إسرائيل، أو من غيرهم، ببث فضائل الدين الإلهي، وهو الذي سماه الله بالحق، و(ﯫ ﯬ) أي: يحكمون حكمًا لا جور فيه...، والمعنى: أنهم يحكمون بالعدل على بصيرة وعلم، وليس بمجرد مصادفة الحق عن جهل، فإن القاضي الجاهل إذا قضى بغير علم كان أحد القاضيين اللذين في النار، ولو صادف الحق؛ لأنه بجهله قد استخف بحقوق الناس، ولا تنفعه مصادفة الحق؛ لأن تلك المصادفة لا عمل له فيها114.
والحاصل: أن الله أخبر عن صفة لقوم موسى الذين رغبهم الله تعالى باتباع ملة محمد صلى الله عليه وسلم، وهي أن بعضهم أمة مؤمنة يهدون بالحق، وبه يعدلون، وهذا فيه إنصاف لهم، وشهادة صريحة من الله تعالى، تبين أن من قوم موسى جماعة تهدي بالحق، وتؤمن بالإيمان الحق، وترشد الناس إلى الإيمان الصحيح والخير، وتدل على منهج الاستقامة، وتحكم بمقتضى العدل الإلهي الواجب اتباعه في القضاء، دون جور أو ظلم، هؤلاء الجماعة اهتدوا واتقوا وعدلوا، فأشاد القرآن بهم، وهذا من إنصاف القرآن وعدله.
٢. ثناؤه على طائفة من أهل الكتاب.
قال تعالى: (ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [آل عمران:١١٣-١١٥].
فقوله: (ﮬ ﮭ) هذا أيضًا من إنصاف القرآن، فهو لا يعمم حكمه إلا حيث يكون التعميم هو الحق الذي لا شك فيه، وإن كان في قوم من هم جديرون بالثناء ذكرهم...، ففي هذه الآية يذكر بالخير العظيم طائفة من هؤلاء، فيقول الحكم العدل تعالت كلماته: (ﮬ ﮭ) أي: ليسوا متساوين في هذه الأعمال، وتلك الأخلاق، أو ليسوا متساوين مطلقًا، فليسوا جميعًا أشرارًا، وإن الله سبحانه وتعالى لم يخلق طائفة كبيرة من الناس اجتمعت على الشر اجتماعًا مطلقًا، بحيث يرتضيه الجميع ويقصدونه ويريدونه ويبتغونه، عامدين مريدين معتدين، بل إن منهم الضال، ومنهم المضل، ومنهم الناطق بالحق الذي لا يجد داعيًا، أو يحمل على السكوت في وسط نكران الضالين...، وبعد أن ذكر سبحانه أنهم ليسوا سواء، وقد ذكر أحوال أشرارهم أخذ يبين أحوال أخيارهم، فقال: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) أي: من أهل الكتاب الذين ذكرنا أوصاف الكثرة منهم، طائفة قائمة...، وفسر الزمخشري كلمة (ﯔ) بمعنى مستقيمة عادلة، من قولك: أقمت العود فقام، بمعنى استقام115، وقد ذكر سبحانه وتعالى في هذا الجزء من الآية الكريمة وصفين اثنين:
الأول: أنهم يتلون آيات الله.
والثاني: أنهم يسجدون.
ومعنى يسجدون، أي: يخضعون ويتطامنون للحق، ولا يجحدون، ويتجهون إلى ربهم، يرجون رضاه، ولا يستكبرون عن نداء الحق إذا دعوا، فكنى بالسجود عن الخضوع المطلق الذي يعد السجود مظهره.
ويصح أن يراد به السجود الذي يقع في صلاة المسلمين.
وقد ذكر ذلك الوصف مصدرًا بـ(هم) إذ يقول: وهم يسجدون، فلم يقل: ويسجدون؛ للإشارة إلى أن الخضوع والإذعان للحق شأن من شئونهم، وليس حالًا تعرض لهم؛ إذ إن ذكر الضمير فيه تقوية الإسناد، وتوثيق لدوامه واستمراره116.
وفي الآية قولان ذكرهما ابن كثير، حيث قال:
عن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى: (ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ) قال: لا يستوي أهل الكتاب، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
والمشهور عند كثير من المفسرين كما ذكره محمد بن إسحاق وغيره، ورواه العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآيات نزلت فيمن آمن من أحبار أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام، وأسد بن عبيد وثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية وغيرهم، أي: لا يستوي من تقدم ذكرهم بالذم من أهل الكتاب، وهؤلاء الذين أسلموا؛ ولهذا قال تعالى: (ﮬ ﮭ) أي: ليسوا كلهم على حد سواء، بل منهم المؤمن، ومنهم المجرم؛ ولهذا قال تعالى: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ) أي: قائمة بأمر الله، مطيعة لشرعه، متبعة نبي الله، فهي قائمة، يعني: مستقيمة117.
وقد ذكر ابن جرير أن قوله: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ) إلى آخر الآيات الثلاث: أنها نزلت في جماعة من اليهود أسلموا فحسن إسلامهم118. ولا يمنع أن تشمل أيضًا النصارى.
فقد قال ابن عاشور: وعدل عن أن يقال: «منهم أمة قائمة» إلى قوله: (ﮯ ﮰ ﮱ) ليكون هذا الثناء شاملًا لصالحي اليهود وصالحي النصارى، فلا يختص بصالحي اليهود، فإن صالحي اليهود قبل بعثة عيسى كانوا متمسكين بدينهم، مستقيمين عليه، ومنهم الذين آمنوا بعيسى واتبعوه، وكذلك صالحو النصارى قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم كانوا مستقيمين على شريعة عيسى، وكثير منهم أهل تهجد في الأديرة والصوامع، وقد صاروا مسلمين بعد البعثة المحمدية119.
٣. ذكر أن عند بعضهم أمانة.
قال سبحانه: (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [آل عمران:٧٥].
قال أبو جعفر الطبري: هذا خبر من الله عز وجل أن من أهل الكتاب، وهم اليهود من بني إسرائيل، أهل أمانة، يؤدونها، ولا يخونونها، ومنهم الخائن أمانته، الفاجر في يمينه120.
فهذا مطلق الإنصاف الإلهي، فإذا كان الحق قد كشف للرسول بعضًا من مكر أهل الكتاب، فذلك لا يعني أن هناك حملة على أهل الكتاب، وكأنهم كلهم أهل سوء، لا، بل منهم من يتميز بالأمانة، وهذا القول إنما يؤكد إنصاف الإله المنصف العدل121.
والمقصود: أن هذا من إنصاف القرآن، وعدله في الحكم عليهم، فلم يخف بعض صفاتهم الحسنة، بل أشاد بها، وذكرها بكلام يتلى إلى قيام الساعة.
ثانيًا: إنصاف بعض النصارى:
ومن النماذج القرآنية في الإنصاف، إنصافه لبعض النصارى، فقد أثنى عليهم بقوله: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [المائدة:٨٢-٨٥].
أي: هم ألين عريكة، وأقرب ودًا، ولم يصفهم بالود إنما جعلهم أقرب من اليهود والمشركين...، واليهود ليسوا على شيء من أخلاق النصارى، بل شأنهم الخبث واللي بالألسنة، وفي خلال إحسانك إلى اليهودي يترقب ما يغتالك به، ألا ترى إلى ما حكى تعالى عنهم ذلك بأنهم قالوا: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) [آل عمران:٧٥].
وفي قوله تعالى: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) إشارة إلى أنهم ليسوا متمسكين بحقيقة النصرانية، بل ذلك قول منهم وزعم، ووصف العداوة بالأشد، والمودة بالأقرب دليل على تفاوت الجنسين بالنسبة إلى المؤمنين، فتلك العداوة أشد العداوات وأظهرها، وتلك المودة أقرب وأسهل.
فظاهر الآية يدل على أن النصارى أصلح حالًا من اليهود، وأقرب إلى المؤمنين مودة، وعلى هذا الظاهر فسرت هذه الآية122.
فالظاهر أن النصارى على الجملة أصلح حالًا من اليهود، وقد ذكر المفسرون ما فضل به النصارى على اليهود من كرم الأخلاق، والدخول في الإسلام سريعًا، وليس الكلام واردًا بسبب العقائد، وإلا فكلهم كفار، وإنما ورد بسبب الانفعال للمسلمين...
وصدر الآية يقتضي العموم؛ لأنه قال: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) .
ثم أخبر أن من هذه الطائفة علماء وزهاد ومتواضعين، وسريعي استجابة للإسلام، وكثيري بكاء عند سماع القرآن، واليهود بخلاف ذلك، والوجود يصدق قرب النصارى من المسلمين وبعد اليهود.
وذكر العلة في ذلك فقال: (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ) .
والإشارة بذلك إلى أقرب المودة عليه، أي: منهم علماء وعباد، وأنهم قوم فيهم تواضع واستكانة، وليسوا مستكبرين، واليهود على خلاف ذلك، لم يكن فيهم قط أهل ديارات ولا صوامع وانقطاع عن الدنيا، بل هم معظمون متطاولون لتحصيلها، حتى كأنهم لا يؤمنون بآخرة؛ ولذلك لا يرى فيهم زاهد123.
والآيات التي جاءت في إنصاف أهل الكتاب -غير ما سبق- كثيرة، منها: قوله تعالى: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [البقرة:١٢١]قال ابن الجوزي: قوله تعالى: (ﭴ ﭵ ﭶ) اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على قولين:
أحدهما: أنها نزلت في الذين آمنوا من اليهود، قاله ابن عباس.
والثاني: في المؤمنين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قاله عكرمة وقتادة124.
ومن الآيات: قوله تعالى: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) [العنكبوت:٤٧]قال ابن جرير في قوله: (ﭲ ﭳ ﭴ) من قبلك من بني إسرائيل (ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) يقول: ومن هؤلاء الذين هم بين ظهرانيك اليوم من يؤمن به كعبد الله بن سلام، ومن آمن برسوله من بني إسرائيل125.
وقوله: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ) [القصص:٥٢-٥٤].
قال ابن أبي حاتم: قوله: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) قال: يعني: من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب126.
ثالثًا: إنصاف ذي القرنين:
ومن النماذج القرآنية في الإنصاف إنصاف ذي القرنين، كما حكى الله تعالى عنه بقوله: . (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [الكهف:٨٦-٨٨].
يحكي الله عن ذي القرنين أنه لما وصل إلى هؤلاء القوم، ووجدهم كفارًا، خير في أمرهم (ﭰ ﭱ ﭲ) أي: تهلكهم، وتستأصلهم بكفرهم، بحيث لا يبقى منهم أحد (ﭳ ﭴ ﭵ) وتصنع (ﭶ ﭷ) شرعًا ودينًا، كما في سائر المؤمنين.
ثم لما خير ذو القرنين في أمرهم، وفوض أمرهم إليه، قال على مقتضى العدل والإنصاف، الذي قد جبله الحق عليه: أدعوهم أولًا إلى الإيمان، وألقي عليهم كلمة التوحيد، ثم بعد ذلك (ﭻ ﭼ) وتولى وأبى وأصر على ما عليه من الكفر والهوى (ﭽ ﭾ) أو نقتله حدًا بعد عرض الإسلام...، (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ) المثوبة العظمى، والدرجة العليا، والمقام الأسنى (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) قولًا سهلًا معتدلًا بين إفراط القتل، والاستئصال، وتفريط الإبقاء على الكفر والضلال مداهنة. وهذا غاية في العدل والإنصاف.
وهكذا أقام ذو القرنين العدل، بتعذيب الظالم، وتكريم المؤمن، صاحب العمل الصالح.
وفي الآية دلالة على أن من قدر على أعدائه وتمكن منهم فلا ينبغي له أن تسكره لذة السلطة بسوقهم بعصا الإذلال، وتجريعهم غصص الاستعباد والنكال، بل يعامل المحسن بإحسانه، والمسيء بقدر إساءته، فإن ما حكي عن الإسكندر ها هنا من قوله: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ)... إلى آخره، نهاية في العدل، وغاية الإنصاف127.
وبين الله تعالى اتصاف ذي القرنين بصفتي العدل والإنصاف ليحتذى حذوه، ويقتدى به في ذلك.
والمقصود: أن هذا هو قانون العدل والإنصاف، وهو أن يجازي المسيء على إساءته، والمحسن بإحسانه، هذا ما استقر عليه أمره واعتزمه؛ ولذا قال معتزمًا تنفيذه: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ)...، هذا هو جزاء المسيء في قانون العدل الذي سنه ذو القرنين لنفسه، لا يفلت المسيء، وكذلك لا ينقص المحسن من جزاء حسن128.
إنها سياسة العدل التي تورث التمكين في الحكم والسلطة، وفي قلوب الناس الحب والتكريم للمستقيمين، وإدخال الرعب في قلوب أهل الفساد والظلم، فالمؤمن المستقيم يجد الكرامة والود والقرب من الحاكم، ويكون بطانته وموضع عطفه وثقته، ورعاية مصالحه، وتيسير أموره، أما المعتدي المتجاوز للحد، المنحرف الذي يريد الفساد في الأرض، فسيجد العذاب الرادع من الحاكم في الحياة الدنيا، ثم يرد إلى ربه يوم القيامة ليلقى العقوبة الأنكى بما اقترفت يداه في حياته الأولى.
ولم يعين السياق القوم الذين اتخذ فيهم ذو القرنين هذه السياسة الحكيمة، كما أهمل ذكر المدة التي مكثها بينهم، والنتائج التي توصل إليها، وكأن الأمر المفروغ منه أن تثمر هذه السيرة العادلة، والمبادئ السامية حضارة ربانية، وتقدمًا، وسعادة وطمأنينة؛ لذا لا داعي لذكرها، والوقوف عندها129.
رابعًا: إنصاف موسى عليه السلام لصاحبه الخضر:
ومن النماذج القرآنية في الإنصاف إنصاف موسى لصاحبه الخضر، حيث قال له عندما اشترط عليه في مصاحبته له: ألا يسأله عن شيء حتى يخبره هو به: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) [الكهف:٧٦].
فقوله: (ﭢ ﭣ) أي قال منصفًا له: لك الحق بعد ذلك في ترك مصاحبتي، فإن فارقتني لا لوم عليك ألبتة؛ لوضوح العذر منك إلي.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد أنك قد أعذرت فيما بيني وبينك، وقد أخبرتني: أني لا أستطيع معك صبرًا، وهذا إقرار من موسى بأن الخضر قد قدم إليه ما يوجب العذر عنده، فلا يلزمه ما أنكره130.
فلما عاد موسى لنفسه وجد أنه خالف وعده مرتين، فاندفع وقطع على نفسه الطريق، وجعلها آخر فرصةٍ أمامه (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) أي: إن أنكرت عليك بعد هذه المرة، واعترضت على ما يصدر منك فلا تصحبني معك (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ) أي: قد أعذرت إلي في ترك مصاحبتي، فأنت معذورٌ عندي لمخالفتي لك ثلاث مرات، وهذا من إنصافه عليه السلام على نفسه، مع أن ذلك حرمه كثيرًا من العجائب التي كان سيراها في رحلته العجيبة تلك مع الخضر.
قال النيسابوري: ونهاه عن المصاحبة حينئذٍ، مع حرصه على التعلم لظهور عذره، كما قال: (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ) وهذا كلام نادم شديد الندامة، جره المقال، واضطره الحال إلى الاعتراف، وسلوك سبيل الإنصاف131.
وقال ابن عاشور: وأنصف موسى؛ إذ جعل لصاحبه العذر في ترك مصاحبته في الثالثة؛ تجنبًا لإحراجه132.
خامسًا: الإنصاف في القصاص:
أمر الله تعالى برعاية العدل والإنصاف في استيفاء الحقوق والحدود، وجعل القصاص بالمثل، قال تعالى: (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ) [البقرة:١٩٤].
وقال: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ) [النحل:١٢٦].
قال الرازي: اعلم أنه تعالى أمر برعاية العدل والإنصاف في هذه الآية، ورتب ذلك على أربع مراتب:
المرتبة الأولى: قوله: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ) يعني: إن رغبتم في استيفاء القصاص فاقنعوا بالمثل، ولا تزيدوا عليه، فإن استيفاء الزيادة ظلم، والظلم ممنوع منه في عدل الله ورحمته.
والمرتبة الثانية: الانتقال من التعريض إلى التصريح، وهو قوله: (ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [النحل:١٢٦].
وهذا تصريح بأن الأولى ترك ذلك الانتقام؛ لأن الرحمة أفضل من القسوة، والإنفاع أفضل من الإيلام.
المرتبة الثالثة: وهو ورود الأمر بالجزم بالترك، وهو قوله: (ﯯ) [النحل: ١٢٧]؛ لأنه في المرتبة الثانية ذكر أن الترك خير وأولى، وفي هذه المرتبة الثالثة صرح بالأمر بالصبر؛ ولما كان الصبر في هذا المقام شاقًا شديدًا ذكر بعده ما يفيد سهولته، فقال: (ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) [النحل:١٢٧]أي: بتوفيقه ومعونته، وهذا هو السبب الكلي الأصلي المفيد في حصول الصبر، وفي حصول جميع أنواع الطاعات133.
فالله تعالى أمر المحقين برعاية العدل في العقاب، وترك الزيادة فيه، فقال: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) أي: وإن عاقبتم أيها المؤمنون من ظلمكم فلكم فى العقاب إحدى طريقين:
والصبر خير للصابرين من الانتقام؛ لأن الله ينتقم من الظالم بأشد مما كان ينتقم منه لنفسه، فإن الزيادة ظلم، والظلم لا يحبه الله، ولا يرضى به، وإن تجاوزتم عن العقوبة، وصفحتم فذلك خير وأبقى، والله هو الذي يتولى عقاب الظالم، ويأخذ بناصر المظلوم.
وهذا كقوله: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [الشورى:٤٠] أمر الله برعاية العدل والإنصاف في باب استيفاء الحقوق، يعني: إن رغبتم في استيفاء القصاص فاقتصوا بالمثل، ولا تزيدوا عليه، فإن الزيادة ظلم134.
فوائد الإنصاف على الفرد والمجتمع
للإنصاف والعدل فوائد جليلة، وآثار عظيمة، وثمار كثيرة، سواء على مستوى الفرد، أو على مستوى المجتمع.
أولًا: ثمار الإنصاف على الفرد:
١. الإنصاف موصل للتقوى:
من ثمار وفوائد الإنصاف والعدل تحقيق التقوى التي هي مطلب كل مسلم، ومرغوب كل مؤمن، والتي أعد الله تعالى لأصحابها جنة عرضها السماوات والأرض.
قال تعالى: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ) [المائدة:٨].
والعدل هنا مطلق، يتناول معنى الإنصاف، وعدم الإجحاف، وعدم تجاوز الحق، قولًا وفعلًا، في كل موقف ومناسبة.
قال ابن جرير: وأما قوله: (ﯛ ﯜ ﯝ) فإنه يعني بقوله: (ﯛ) العدل عليهم، أقرب لكم أيها المؤمنون إلى التقوى، يعني: إلى أن تكونوا عند الله باستعمالكم إياه من أهل التقوى، وهم أهل الخوف والحذر من الله أن يخالفوه في شيء من أمره، أو يأتوا شيئًا من معاصيه، وإنما وصف جل ثناؤه العدل بما وصف به من أنه أقرب للتقوى من الجور؛ لأن من كان عادلًا كان لله بعدله مطيعًا، ومن كان لله مطيعًا كان لا شك من أهل التقوى، ومن كان جائرًا كان لله عاصيًا، ومن كان لله عاصيًا كان بعيدًا من تقواه، وإنما كنى بقوله: (ﯛ ﯜ) عن الفعل، والعرب تكني عن الأفعال إذا كنت عنها بـ(هو وبذلك) كما قال جل ثناؤه: (ﭬ ﭭ ﭮ) [البقرة:٢٧١].
(ﮞ ﮟ ﮠ) [البقرة:٢٣٢]135.
وفي الآية ثلاثة مؤكدات على العدل والإنصاف:
وفيه تنبيه على أن وجوب العدل مع الكفار الذين هم أعداء الله إذا كان بهذه الصفة من القوة، فما الظن بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه وأحباؤه136.
قال البيضاوي: صرح لهم بالأمر بالعدل، وبين أنه بمكان من التقوى بعد ما نهاهم عن الجور، وبين أنه مقتضى الهوى137.
والمقصود: أن من ثمار العدل والإنصاف في الفرد أنه يدخله مداخل التقوى، ويقيمه مقام المتقين.
قال السعدي: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ) [المائدة:٨]أي: كلما حرصتم على العدل، واجتهدتم في العمل به، كان ذلك أقرب لتقوى قلوبكم، فإن تم العدل كملت التقوى138.
٢. الإنصاف سبب في محبة الله للعبد:
ومن ثمار الإنصاف والعدل نيل محبة الله تعالى، التي هي أعظم العطايا، وأحب المطالب للمسلم، قال تعالى: (ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) [الحجرات:٩] والقسط من معاني الإنصاف.
قال الرازي: والقسط العدل والنصفة139.
والمعنى: أي: واعدلوا، إن الله يحب العادلين، ومحبته لهم تستلزم مجازاتهم بأحسن الجزاء140.
وفي الآية إظهار المحبة للمقسطين على شرف منزلتهم، وفضيلة أفعالهم.
وأي منزلة أعلى في الوجود من هذه المحبة التي تتضمن الرضا، ورضوان الله أكبر من كل شيء.
قال السعدي: فإن محبة الله للعبد هي أجل نعمة أنعم بها عليه، وأفضل فضيلة، تفضل الله بها عليه، وإذا أحب الله عبدًا يسر له الأسباب، وهون عليه كل عسير، ووفقه لفعل الخيرات، وترك المنكرات، وأقبل بقلوب عباده إليه بالمحبة والوداد141.
وقال ابن عطية: ومحبة الله للعبد أمارتها للمتأمل أن يرى العبد مهديًا مسددًا، ذا قبول في الأرض، فلطف الله بالعبد ورحمته إياه هي ثمرة محبته، وبهذا النظر يتفسر لفظ المحبة حيث وقعت من كتاب الله عز وجل142.
فالعبد إذا بلغ في الطاعة إلى حيث يفعل كل ما أمره الله، وكل ما فيه رضاه، وترك كل ما نهى الله، وزجر عنه، فكيف يبعد أن يفعل الرب الرحيم الكريم مرة واحدة ما يريده العبد، بل هو أولى؛ لأن العبد مع لؤمه وعجزه لما فعل كل ما يريده الله، ويأمره به فلأن يفعل الرب الرحيم مرة واحدة ما أراده العبد كان أولى؛ ولهذا قال تعالى: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) [البقرة:٤٠]143.
وفي الآية إثبات صفة المحبة لله عز وجل على الحقيقة، كما يليق بجلاله سبحانه؛ لقوله تعالى: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) قال ابن العثيمين: وهي محبة حقيقية على ظاهرها؛ وليس المراد بها الثواب؛ ولا إرادة الثواب خلافًا للأشاعرة، وغيرهم من أهل التحريف الذين يحرفون هذا المعنى العظيم إلى معنًى لا يكون بمثابته؛ فإن مجرد الإرادة ليست بشيء بالنسبة للمحبة؛ وشبهتهم أن المحبة إنما تكون بين شيئين متناسبين؛ وهذا التعليل باطل، ومخالف للنص، ولإجماع السلف، ومنقوض بما ثبت بالسمع والحس من أن المحبة قد تكون بين شيئين غير متناسبين؛ فقد أثبت النبي صلى الله عليه وسلم أن أحدًا -وهو حصى- (جبل يحبنا ونحبه)144.
والإنسان يجد أن دابته تحبه وهو يحبها؛ فالبعير إذا سمعت صوت صاحبها حنت إليه، وأتت إليه؛ وكذلك غيره من المواشي؛ والإنسان يجد أنه يحب نوعًا من ماله أكثر من النوع الآخر145.
والمقصود: أن من ثمار الإنصاف حصول المنصف على محبة الله تعالى، ويا لها من نعمة عظيمة! وثمرة جليلة، وهي صفة لله تعالى، تستلزم الرضا والرحمة والإكرام والثناء وعيرها من العطايا، ولا يجوز تعطيل صفة المحبة، وصرفها عن ظاهرها إلى الثواب، فيقال مثلًا: «يحببكم الله: بمعنى يثبكم الله» بل الصواب أن يقال: إن الله يحبكم، وإذا أحبكم يثبكم؛ لأن المثوبة من آثار المحبة لا عين المحبة.
٣. الإنصاف أمان للفرد من الضلال:
ومن ثمار الإنصاف والعدل الأمن من الوقوع في الضلال، واتباع الهوى، والميل عن الحق.
وقد قال تعالى لنبيه داود: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ) [ص:٢٦].
قال أبو جعفر: قوله: (ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) يعني: بالعدل والإنصاف (ﰁ ﰂ ﰃ) يقول: ولا تؤثر هواك في قضائك بينهم على الحق والعدل فيه، فتجور عن الحق (ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ) يقول: فيميل بك اتباعك هواك في قضائك على العدل، والعمل بالحق عن طريق الله الذي جعله لأهل الإيمان فيه، فتكون من الهالكين بضلالك عن سبيل الله146.
قال الواحدي: قوله: (ﰒ ﰓ) أي: تركوا القضاء بالعدل147.
(ﰄ) الهوى، فيكون سببًا لضلالك (ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ) عن دلائله التي نصبها في العقول، وعن شرائعه التي شرعها وأوحى بها148.
وقال الرازي: وتفسيره أن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل الله، والضلال عن سبيل الله يوجب سوء العذاب، فينتج أن متابعة الهوى توجب سوء العذاب.
أما المقام الأول: وهو أن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل الله، فتقريره: أن الهوى يدعو إلى الاستغراق في اللذات الجسمانية، والاستغراق فيها يمنع من الاشتغال بطلب السعادات الروحانية التي هي الباقيات الصالحات؛ لأنهما حالتان متضادتان، فبقدر ما يزداد أحدهما ينقص الآخر.
أما المقام الثاني: وهو أن الضلال عن سبيل الله يوجب سوء العذاب، فالأمر فيه ظاهر؛ لأن الإنسان إذا عظم إلفه بهذه الجسمانيات، ونسي بالكلية أحواله الروحانيات، فإذا مات فقد فارق المحبوب والمعشوق، ودخل ديارًا ليس له بأهل تلك الديار إلف، وليس لعينه قوة مطالعة أنوار تلك الديار، فكأنه فارق المحبوب، ووصل إلى المكروه، فكان لا محالة في أعظم العناء والبلاء، فثبت أن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل الله، وثبت أن الضلال عن سبيل الله يوجب العذاب، وهذا بيان في غاية الكمال149.
٤. الإنصاف سبب في صلاح العمل ومغفرة الذنوب:
ومن ثمار تحري الإنصاف والعدل في جميع الأقوال والأعمال، صلاح الأعمال وغفران الذنوب.
قال تعالى: (ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ) [الأحزاب:٧٠-٧١].
والقول السديد: هو القول العدل.
قال ابن الجوزي: «قوله تعالى: (ﮪ ﮫ ﮬ) فيه أربعة قوال:
أحدها: صوابًا، قاله ابن عباس رضي الله عنهما.
والثاني: صادقًا، قاله الحسن.
والثالث: عدلًا، قاله السدي.
والرابع: قصدًا، قاله ابن قتيبة.
ثم في المراد بهذا (القول) ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه (لا إله إلا الله) قاله ابن عباس وعكرمة.
والثاني: أنه العدل في جميع الأقوال والأعمال، قاله قتادة»150.
وهذه الأقوال كلها صحيحة، فالقول السديد هو القول الصواب، المستقيم، العدل، الصادق، القاصد، المنصف.
والمعنى: قولوا قولًا قاصدًا غير جائز، حقًا غير باطل151.
قال ابن حجر: «والسداد: بفتح أوله، العدل، المعتدل، الكافي، وبالكسر ما يسد الخلل»152.
وقوله: (ﮮ ﮯ ﮰ) يقول تعالى ذكره للمؤمنين: اتقوا الله، وقولوا السداد من القول، يوفقكم لصالح الأعمال، فيصلح أعمالكم (ﮱ ﯓ ﯔ) أي: ويعف لكم عن ذنوبكم، فلا يعاقبكم عليها153.
فيكون في قوله: (ﮮ ﮯ ﮰ) وجهان:
أحدهما: يصلحها بالقبول.
الثاني: بالتوفيق154.
والمقصود: أن في قوله: (ﮫ ﮬ) أي: عدلًا مستقيمًا، قاصدًا إلى الحق، والمآل واحد، يعني: صدقًا غير كذب، ولا مجازفة فيه، ولا ظلم ولا حيف، فإن الكذب يمحق، والصدق يبقى، فمن يلتزم السداد والإنصاف في أقواله كلها، فإنه يوفق لصلاح العمل، ومغفرة الذنوب، كما في هذه الآية (ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ) [الأحزاب:٧٠-٧١].
ثانيًا: ثمار الإنصاف على المجتمع:
كما أن للإنصاف ثمارًا وفوائد تعود في الفرد، فكذلك له ثمار في المجتمع، ومنها:
الأمن من العذاب والهلاك:
إن مجتمعًا يسوده الإنصاف، فينصف الناس بعضهم بعضًا، ينصف الرجل المرأة، والمرأة الرجل، وينصف الحاكم الرعية، والرعية تنصف الراعي، وهكذا، ويسود العدل والإنصاف بين أفراده جميعًا، فإنهم عند ذلك يأمنون من غضب الله وعقابه.
قال تعالى: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ) [هود:١١٧].
قوله: (ﰅ ﰆ) أي: فيما بينهم لا يتظالمون، ولكنهم يتعاطون الحق بينهم، وإن كانوا مشركين، إنما يهلكهم إذا تظالموا155.
فالله لم يكن ليهلكهم وهم يتعاطون الحق فيما بينهم، وإن كانوا مجرمين156.
فيكون معنى الآية على هذا: إنه لم يكن من شأن ربك أيها الرسول المصلح، ولا من سنته في خلقه أن يهلك العواصم والمدائن بظلم منه، أو بشرك من أهلها، والحال أنهم مصلحون في أحكامهم وأعمالهم...، وهؤلاء البقية لا تخلو منهم أمة، فهم حجة الله على الأقوام، ومتى قلوا في أمة غلب عليها الفساد، وقرب انتقام الله منها157.
والحاصل: أن للمفسرين في معنى الآية قولان:
أحدهما: أن الله تعالى لا يهلك القرى إلا إذا شذت عن الصلاح، فكفرت بالله، وكذبت الرسل، واقترفت المنكرات.
وثانيهما: أن الله لا يهلك القرى إذا كان أهلها مصلحين، يتعاطون الحق بينهم، ولا يتظالمون، وإن كانوا غير مؤمنين بالله ورسله، وإنما يهلكهم إذا تظالموا، وهذا القول هو المشهور، كما قال السمعاني كما سبق، والأثر السابق يؤيده، لكنه لم يرد في كتب السنة المعتمدة.
وهذا القول أيضًا هو الأوجه، كما هو المتبادر، ومضمون هذه الآية والآية التي قبلها يدعمه دعمًا قويًا، حيث اقتصر الكلام فيهما على الفساد في الأرض، والإجرام، والظلم، واتباع الشهوات، وأسباب الترف، وجملة: (ﮓ ﮔ) [هود:١٠٢] من السورة نفسها تدعم ذلك أيضًا.
وللسيد رشيد رضا قول سديد في ذلك، حيث يحمل الجملة على معنى الصلاح الاجتماعي والعلمي والعمراني، أو يجعل ذلك من ضمن ما يحمله معنى الجملة، ويعلل بذلك عدم تذكير الله تعالى الأمم الصالحة على هذا الوجه، مع كفرها وشركها، ويقول: إن الأمم تبقى مع الكفر، ولا تبقى مع الظلم، وشيء من مثل هذا ملموح في كلام بعض المفسرين القدماء، كالطبري وابن كثير والزمخشري158.
وقال أبو زهرة في معنى الآية: وأهلها مصلحون فيما بينهم، يتعاونون، ويقيم الحق في معاملاتهم، حتى لقد قال بعضهم: إن الشرك مع إقامة العدل لا يهلك، والإيمان مع ظلم التعامل يهلك الأمم.
وقال بعض المفسرين: إن المراد -والظاهر أنه مراد- أنه ما كان ربك ليهلك القرى ظالمًا لها، وأهلها مصلحون، يعدلون فيما بينهم، ولا يشركون بالله، ولا يكون منهم ظلم، بل نصفة وعدل، فما كان الله ظالمًا لعباده159.
موضوعات ذات صلة: |
الظلم، العدل |
1 مقاييس اللغة، ابن فارس ٥/٤٣١.
2 لسان العرب، ابن منظور ٩/ ٣٣٢.
3 المصباح المنير، الفيومي ٢/ ٦٠٨.
4 معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار ٣/ ٢٢٢٢.
5 المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية ٢/ ٩٢٦.
6 انظر: تاج العروس، الزبيدي ٢٤/ ٤١٣.
7 التوقيف ص ٦٥.
8 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس، ٤/٢٤٦، مجمل اللغة، ابن فارس، ١/٦٥١.
9 الكليات ص ٦٣٩.
10 دستور العلماء ٢/ ٢٢٠.
11 التعريفات ص ١٤٧.
12 الفروق اللغوية، العسكري ص ٢٣٤.
13 انظر: الصحاح، الجوهري ٣/١١٥٢، لسان العرب، ابن منظور، ٥/٣٦٢٦.
14 التوقيف، المناوي ص٢٧١.
15 انظر: الفروق اللغوية، العسكري، ص٢٣٤.
16 مقاييس اللغة، ابن فارس ١/ ٤٩٣.
17 مقاليد العلوم في الحدود والرسوم، ص ٢٠٧.
18 انظر: الموسوعة القرآنية، إبراهيم الأبياري ٨/١١٦.
19 انظر: الفروق اللغوية، العسكري ص ٤٩٣.
20 جامع البيان، ١٤/ ٣٣٤.
21 تفسيرالقرآن، السمعاني ٣/ ١٩٥.
22 زاد المسير ٢/ ٥٧٩.
23 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الزكاة من الإسلام، ١/١٨، رقم ٤٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام ١/٤٠، رقم ١١.
24 أخرجه أبو نعيم في الحلية ٧/٢٩١.
وانظر: الدر المنثور، السيوطي ٥/١٦٠.
25 أضواء البيان ٢/٤٣٧.
26 أحكام القرآن، ٣/ ١٥٤.
27 انظر: التفسير الحديث، محمد عزت دروزة ٥/١٦٨.
28 انظر: تفسير الشعراوي ١٣/٨١٥٨.
29 لطائف الإشارات، القشيري ١/٥٢٩.
30 الفوائد ص ٣٣.
31 المصدر السابق ص ٥٧.
32 تفسير ابن رجب الحنبلي ١/ ٢٢٢.
33 انظر: البحر المحيط، أبو حيان ٥/١٩٧.
34 انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب ٣/١٣٨٠.
35 الشفا بتعريف حقوق المصطفى ٢/ ١٦.
36 نظم الدرر، البقاعي ٨/ ٢٤٧.
37 مدارك التنزيل، النسفي ١/ ٦٣٨.
38 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: (ولقد آتيناك سبعًا من المثاني والقرآن العظيم)، ٦/٨١، رقم ٤٧٠٣.
39 انظر: السيرة النبوية، ابن هشام ١/٦٢٠.
40 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٥/ ٩٧.
41 لطائف الإشارات، التستري ص ٧٩.
42 انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب ١/٣٨٧.
43 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٤/١٢٤.
44 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، ١/٧٤، رقم ٥٥.
45 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/٢٢٧.
46 انظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض ٢/ ٣٣.
47 المصدر السابق ٢/ ١٠٤.
48 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٦/ ١١٩.
49 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٢/٤١٢.
50 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٢/ ٤٣٣.
51 فتح القدير، الشوكاني ١/ ٦٠٤.
52 في ظلال القرآن، سيد قطب ٢/ ٧٧٦.
53 انظر: لطائف الإشارات، القشيري ١/ ٥٢٩.
54 أخرجه البخاري في صحيحه معلقًا، كتاب الإيمان، باب إفشاء السلام من الإسلام، ١/ ١٥.
55 زاد المعاد ٢/ ٣٧٢-٣٧٤.
56 مفاتيح الغيب، ٣١/ ٨٥.
57 لطائف الإشارات، القشيري ٣/ ٦٩٩.
58 مفاتيح الغيب، ٢٩/ ٤٧١.
59 الوسيط، الواحدي ٤/ ٤٨.
60 معالم التنزيل، البغوي ٤/ ٣٣١.
61 في ظلال القرآن، سيد قطب ١/ ٤١٧.
62 التفسير الوسيط، طنطاوي ١٠/ ٢٣٩.
63 تفسير المراغي ١٩/ ٥٢.
64 انظر: جامع البيان، الطبري ١٠/ ١٣٧ وتفسير ابن أبي حاتم ٥/ ١٤٦١.
65 التحرير والتنوير ٨/ ٨٤.
66 مفاتيح الغيب، الرازي ١٤/ ٢٢٥.
67 تفسير السمرقندي ٢/ ١٦٧.
68 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٢/ ١٤٧.
69 المصدر السابق ١٢/ ١٤٥.
70 تفسير الإمام الشافعي ٣/ ١٢٧٠.
71 التفسير القيم ص ٤٧٩.
72 في ظلال القرآن، سيد قطب ٦/ ٣٣٤١.
73 تفسير المنتصر الكتاني ٣٥٣/ ٧.
74 فتح القدير، الشوكاني ٥/ ٧١.
75 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٨٠١.
76 تفسير القرآن العظيم، ٧/ ٣٧٧.
77 أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، ٣/٢٢٨، رقم ٣٢٢٧.
وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، ص ٣٧٢، رقم ٢٥٢٧.
78 في ظلال القرآن، سيد قطب ٦/ ٣٣٤٥.
79 انظر: التفسير الوسيط، الزحيلي ٢/ ١٣١٩.
80 الكشف والبيان، الثعلبي ٧/ ٢٨٤.
81 روح البيان، إسماعيل حقي ٦/ ٤٧٧.
82 انظر: تفسير المنتصر الكتاني ١٦٧/٢.
83 تفسير المراغي ١٥/ ٥٩.
84 جامع البيان، الطبري ١٧/ ٤٦٩.
85 تفسير القرآن العظيم، ٥/ ٨٠.
86 تفسير مقاتل بن سليمان ١/ ١١٩.
87 جامع البيان، الطبري ٢/ ٢٩٧.
88 انظر: التفسير الحديث، محمد عزت دروزة ٥/ ٢٠٥.
89 التفسير المنير، الزحيلي ١٤/ ٢٧٠.
90 زهرة التفاسير، أبو زهرة ٣/ ١٢٦٠.
91 محاسن التأويل، القاسمي ٦/٤٢٣.
92 التسهيل في علوم التنزيل، ابن جزي ٢/ ١٦٦.
93 الدر المصون ٩/ ١٨٣.
94 أنوار التنزيل، البيضاوي ٤/ ٢٤٧.
95 البحر المحيط، أبو حيان ٨/ ٥٤٨.
96 التفسير القرآني للقرآن، عبدالكريم الخطيب ١١/ ٨١٠.
97 البحر المحيط، أبو حيان ٩/ ٢٥٢.
98 مدارك التنزيل، النسفي ٣/ ٢٠٨.
99 حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي ٤/ ٤٦.
100 انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب ٥/ ٣٠٧٩.
101 البيت لحسان بن ثابت، في ديوانه ص٩، وصدر البيت: أتهجوه ولست له بكفو.
102 البحر المحيط، أبو حيان ٤/ ٦٥٤.
103 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٣/ ٢٨٦.
104 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ١٣٣.
105 مفاتيح الغيب، الرازي ٨/ ٢٥١.
106 المصدر السابق.
107 تفسير ابن باديس١/ ٣٢٤.
108 مفاتيح الغيب، ٢٢/٧٧.
109 انظر: زهرة التفاسير، أبو زهرة ٩/ ٤٧٥٣.
110 التفسير القرآني للقرآن، عبدالكريم الخطيب ٨/ ٨٠٧.
111 التفسير المنير، الزحيلي ١٦/٢٤١.
112 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٩/ ١٤٢.
113 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٩/ ٣٤٨.
114 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٩/ ١٤٢.
115 الكشاف، ١/ ٤٠٢.
116 انظر: زهرة التفاسير، أبو زهرة ٣/ ١٣٦٦.
117 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٢/ ٩٠.
118 جامع البيان، ٧/ ١٢٠.
119 التحرير والتنوير ٤/ ٥٧.
120 جامع البيان، ٦/ ٥١٩.
121 تفسير الشعراوي ٣/ ١٥٤٢.
122 انظر: جامع البيان، الطبري ٨/٥٩٤، معالم التنزيل، البغوي ٢/٧٥، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/ ١٥٠.
123 انظر: البحر المحيط، أبو حيان ٤/ ٣٤٣.
124 زاد المسير، ١/ ١٠٧.
125 جامع البيان، ٢٠/ ٥٠.
126 تفسير ابن أبي حاتم ٩/٢٩٨٨.
127 انظر: محاسن التأويل، القاسمي ٧/ ٦٨.
128 انظر: زهرة التفاسير، أبو زهرة ٩/ ٤٥٨٠.
129 انظر: مباحث في التفسير الموضوعي، مصطفى مسلم ص ٣٠٥.
130 الوسيط، الواحدي ٣/ ١٥٩.
131 غرائب القرآن ٤/ ٤٥٠.
132 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٦/ ٦.
133 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٠/ ٢٨٩.
134 لباب التأويل، الخازن ٣/ ١٠٨.
135 جامع البيان، ٨/ ٢٢٤.
136 انظر: مدارك التنزيل، النسفي ١/ ٤٣٢.
137 أنوار التنزيل، ٢/ ١١٧.
138 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٢٢٤.
139 مفاتيح الغيب، ٩/ ٤٨٥.
140 فتح القدير، الشوكاني ٥/ ٧٤.
141 تيسير الكريم الرحمن ص ٢٣٥.
142 المحرر الوجيز، ابن عطية ١/ ٤٢٢.
143 مفاتيح الغيب، الرازي ٢١/ ٤٣٥.
144 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب أحد يحبنا ونحبه، ٥/١٠٣، رقم ٤٠٨٣، ومسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب أحد جبل يحبنا ونحبه، ٢/ ١٠١١، رقم ١٣٩٢.
145 تفسير القرآن الكريم، الفاتحة والبقرة ٢/٣٩١.
146 جامع البيان، الطبري ٢١/ ١٨٩.
147 الوسيط، الواحدي ٣/ ٥٥٠.
148 الكشاف، الزمخشري ٤/٨٩.
149 مفاتيح الغيب ٢٦/ ٣٨٦.
150 زاد المسير ٣/ ٤٨٧.
151 انظر: جامع البيان، الطبري ٢٠/٣٣٥.
152 فتح الباري ١١/٣٠٠.
153 انظر: جامع البيان، الطبري ٢٠/٣٣٦.
154 النكت والعيون، الماوردي ٤/٤٢٨.
155 جامع البيان، ١٥/ ٥٣٠.
156 انظر: تفسير السمرقندي ٢/ ١٧٥.
157 المنار، محمد رشيد رضا ٩/ ٢٠.
158 انظر: التفسير الحديث، دروزة محمد عزت ٣/ ٥٥٣.
159 زهرة التفاسير ٧/ ٣٧٧٣.