عناصر الموضوع

مفهوم الإنجيل

الإنجيل في الاستعمال القرآني

الألفاظ ذات الصلة

اقتران الإنجيل بالتوراة في القرآن

الإيمان بالكتب السماوية

إيتاء عيسى عليه السلام الإنجيل

صفات الإنجيل في القرآن

الأحكام التشريعية في الإنجيل

أتباع عيسى عليه السلام في القرآن

تحريف الإنجيل

صفات الرسول وأتباعه في الإنجيل

الإنجيل

مفهوم الإنجيل

أولًا: المعنى اللغوي:

قال ابن منظور: «الإنجيل: كتاب عيسى، على نبينا وعليه -الصلاة والسلام-، يؤنث ويذكر، فمن أنث أراد الصحيفة، ومن ذكر أراد الكتاب»1. ويجمع على أناجيل.

وقد اختلف العلماء في أصله اللغوي وهل هو عربي أو معرب، والراجح هو أن كلمة الإنجيل معربة، وإن اختلف في أصلها هل هي سريانية أو عبرية أو رومية أو يونانية، وهو الأظهر كما ذهب الطاهر بن عاشور رحمه الله وهي تعني: البشارة، أو الخبر الطيب، أو الخبر السار. وهذه البشارة عند المسلمين هي عبارة عن بشارة المسيح بنبي آخر الزمان محمد صلى الله عليه وسلم.

ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:

كلمة إنجيل إذا أطلقت فلها معنيان:

الأول: الكتاب المنزل من عند الله تعالى على المسيح عليه السلام، وهو مفقود، ولم يبق منه إلا نتف قليلة مما بين أيدي النصارى الآن، قال الطاهر بن عاشور في تعريفه بهذا المعنى: «اسمٌ للوحي الذي أوحي به إلى عيسى عليه السلام فجمعه أصحابه» 2.

الثاني: الإنجيل الذي تعظمه النصارى الآن، وهو عبارة عن «أربعة كتبٍ تعرف بالأناجيل الأربعة، وعلى ما يسمونه العهد الجديد، وهو هذه الكتب الأربعة مع كتاب أعمال الرسل (أي الحواريين) ورسائل بولس وبطرس ويوحنا ويعقوب ورؤيا يوحنا، أي: على المجموع، فلا يطلق على شيءٍ مما عدا الكتب الأربعة بالانفراد، والأناجيل الأربعة عبارةٌ عن كتبٍ وجيزةٍ في سيرة المسيح عليه السلام وشيءٍ من تاريخه وتعليمه؛ ولهذا سميت أناجيل وليس لهذه الكتب سندٌ متصلٌ عند أهلها، وهم مختلفون في تاريخ كتابتها على أقوالٍ كثيرة» 3.

الإنجيل في الاستعمال القرآني

ورد (الإنجيل) في القرآن الكريم (١٢) مرة 4.

والصيغ التي وردت هي:

الصيغة

عدد المرات

المثال

الاسم

١٢

( ) [المائدة:٤٧]

وجاء الإنجيل في القرآن بمعنى: كتاب عيسى عليه السلام، يذكر ويؤنث، فمن أنث أراد الصحيفة، ومن ذكر أراد الكتاب 5.

الألفاظ ذات الصلة

القرآن:

القرآن لغة:

القاف والراء والياء أصل صحيح يدل على الشيء المجموع، وقرأت الشيء قرآنًا: جمعته، وضممت بعضه على بعض، وقرأت الكتاب قراءةً وقرآنًا، ومنه سمي القرآن؛ لأنه يجمع السور فيضمها6.

القرآن اصطلاحا:

كلام الله تعالى، المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، بواسطة سيدنا جبريل عليه السلام، المتعبدٌ بتلاوته، المنقولٌ إلينا بالتواتر، المقروءٌ في المصاحف، المبدوء بسورة الفاتحة والمنتهي بسورة الناس» 7.

الصلة بين الإنجيل والقرآن:

كلاهما كتابان من الكتب السماوية، إلا أن القرآن أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، والإنجيل أنزل على عيسى عليه السلام .

التوراة:

التوراة لغة:

قال أبو حيان: «التوراة: اسمٌ عبرانيٌ، وقد تكلف النحاة في اشتقاقها، وفي وزنها، وذلك بعد تقرير النحاة أن الأسماء الأعجمية لا يدخلها اشتقاقٌ، وأنها لا توزن، يعنون اشتقاقًا عربيًا» 8.

وقال الطاهر بن عاشور: «هو اسمٌ عبرانيٌ أصله (طورا) بمعنى الهدى، والظاهر أنه اسمٌ للألواح التي فيها الكلمات العشر التي نزلت على موسى عليه السلام في جبل الطور؛ لأنها أصل الشريعة التي جاءت في كتب موسى، فأطلق ذلك الاسم على جميع كتب موسى، واليهود يقولون (سفر طورا) فلما دخل هذا الاسم إلى العربية أدخلوا عليه لام التعريف التي تدخل على الأوصاف والنكرات لتصير أعلامًا بالغلبة: مثل العقبة» 9.

التوراة اصطلاحا:

«التوراة اسمٌ للكتاب المنزل على موسى عليه السلام »10.

ويراد بها في اصطلاح اليهود: خمسة أسفار يعتقدون أن موسى عليه السلام كتبها بيده ويسمونها (بنتاتوك) نسبة إلى (بنتا)، وهي كلمة يونانية تعني خمسة، أي: الأسفار الخمس، وهذه الأسفار هي: سفر التكوين، سفر الخروج، سفر اللاويين، سفر العدد، سفر التثنية، وقد يطلق النصارى اسم التوراة على جميع أسفار العهد القديم.

أما في اصطلاح المسلمين فهي: الكتاب الذي أنزله الله على موسى عليه السلام نورًا وهدى لبني إسرائيل11.

قال الشيخ محمد رشيد رضا: «كلمةٌ عبرانيةٌ معناها المراد: الشريعة أو الناموس، وهي تطلق عند أهل الكتاب على خمسة أسفارٍ يقولون إن موسى كتبها، وهي سفر التكوين وفيه الكلام عن بدء الخليقة وأخبار بعض الأنبياء، وسفر الخروج، وسفر اللاويين أو الأخبار، وسفر العدد، وسفر تثنية الاشتراع، ويقال التثنية فقط. ويطلق النصارى لفظ التوراة على جميع الكتب التي يسمونها العهد العتيق، وهي كتب الأنبياء وتاريخ قضاة بني إسرائيل وملوكهم قبل المسيح ومنها ما لا يعرفون كاتبه، وقد يطلقونه عليها وعلى العهد الجديد معًا، وهو المعبر عنه بالإنجيل وسيأتي تفسيره. أما التوراة في عرف القرآن فهي ما أنزله الله تعالى من الوحي على موسى عليه الصلاة والسلام؛ ليبلغه قومه لعلهم يهتدون به »12.

الصلة بين الإنجيل والتوراة:

كلاهما كتابان من الكتب السماوية، إلا أن الإنجيل أنزل على عيسى عليه السلام، والتوراة أنزل على موسى عليه السلام.

الزبور:

الزبور لغةً:

قال ابن فارس: (زبر) « الزاي والباء والراء أصلان: أحدهما يدل على إحكام الشيء وتوثيقه، والآخر يدل على قراءة وكتابة وما أشبه ذلك، زبرت الكتاب، إذا كتبته، ومنه الزبور»13. وقال الكفوي: «كل كتاب غليظ الكتابة يقال له زبور»14.

الزبور اصطلاحًا:

هو كلام الله المنزل وحيًا على رسوله داود عليه السلام ليبلغه لقومه.

الصلة بين الزبور والإنجيل:

كلاهما كتابان من الكتب السماوية، إلا أن الزبور نزل على داود عليه السلام، والإنجيل نزل على عيسى عليه السلام .

الصحف:

الصحف لغةً:

قال ابن فارس: (صحف)» الصاد والحاء والفاء أصل صحيح يدل على انبساط في شيء وسعة. يقال: إن الصحيف: وجه الأرض، ومن الباب: الصحيفة، وهي التي يكتب فيها، والجمع: صحائف، والصحف أيضًا، كأنه جمع صحيف»15.

الصحف اصطلاحًا:

وهي كلام الله الذي أنزله على نبيه إبراهيم، وتسمى صحف إبراهيم، وكلام الله المنزل على موسى وهو التوراة، وتسمى صحف موسى، وهو مذهب أكثر المفسرين، والله أعلم.

عن ابن عباس رضي الله عنهما، (قال: لما نزلت سبح اسم ربك الأعلى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلها في صحف إبراهيم وموسى)16.

الصلة بين الإنجيل والصحف:

مما سبق يتضح أن الإنجيل وصحف موسى كلاهما كتابان من الكتب السماوية، إلا أن الإنجيل أنزل على عيسى عليه السلام وصحف موسى أنزل على موسى عليه السلام .

أما صحف إبراهيم؛ فهو من الكتب السماوية كذلك، إلا أنه أنزل على إبراهيم عليه السلام قال ابن عاشور: « وأما صحف إبراهيم فكان المأثور منها أشياء قليلة، وقدرت بعشر صحف، أي مقدار عشر ورقات بالخط القديم، تسع الورقة قرابة أربع آيات من آي القرآن بحيث يكون مجموع صحف إبراهيم مقدار أربعين آية»17.

اقتران الإنجيل بالتوراة في القرآن

ورد ذكر الإنجيل في القرآن مقترنًا بالتوراة في ثمانية مواضع، وذلك لعدة أسباب:

أولًا: أن كلا الكتابين أنزل في بني إسرائيل، فالتوراة أنزلت على موسى والإنجيل أنزل على عيسى، وكلاهما مرسل في بني إسرائيل وإليهما خاصة.

ثانيًا: أن الإنجيل جاء مصدقًا لما بين يديه من التوراة ومكملًا بعض ما فيها من أحكام، كما جاء في القرآن الكريم على لسان المسيح عليه السلام: ( ﯗﯘ) [آل عمران: ٥٠]

قال الشيخ رشيد رضا: «أي: أنه لم يأت ناسخًا للتوراة بل مصدقًا لها عاملًا بها، ولكنه نسخ بعض أحكامها كما قال: ( ﯗﯘ) فقد كان حرم على بني إسرائيل بعض الطيبات بظلمهم وكثرة سؤالهم فأحلها عيسى»18.

الإيمان بالكتب السماوية

يتميز الإسلام بأنه يؤمن بجميع الرسالات السماوية السابقة عليه ويأمر به أتباعه، فالمسلم يجب عليه أن يؤمن بكل من أرسلهم الله من الأنبياء والرسل، وبكل ما جاءوا به من البينات والهدى، ولذلك فقد أوجب الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم الإيمان بالكتب السماوية.

أولًا: وجوب الإيمان بالكتب المنزلة والكفر بإحداها كفر بها:

من المقرر في عقيدة الإسلام الإيمان بكل الكتب التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه ورسله سواء في ذلك ما عرفناه منها كالقرآن والتوراة والإنجيل والزبور والصحف، أو ما لم نعرفه منها، بل إن الإيمان بهذه الكتب السماوية ركن من أركان الإيمان الستة، المنصوص عليها في قوله تعالى في محكم التنزيل: ( ﮞﮟ ﮫﮬ) [البقرة: ٢٨٥].

وقوله سبحانه: ( ) [البقرة: ١٧٧].

وقوله عز وجل: ( ﭿ ﮊﮋ ) [النساء: ١٣٦].

وكذلك ما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جبريل عليه السلام، حينما سأله قائلا: فأخبرني عن الإيمان، فقال صلى الله عليه وسلم: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره) 19.

قال ابن كثير: «فالمؤمنون يؤمنون بأن الله واحدٌ أحدٌ، فردٌ صمدٌ، لا إله غيره، ولا رب سواه، ويصدقون بجميع الأنبياء والرسل، والكتب المنزلة من السماء على عباد الله المرسلين والأنبياء، لا يفرقون بين أحدٍ منهم، فيؤمنون ببعضٍ ويكفرون ببعضٍ، بل الجميع عندهم صادقون بارون راشدون مهديون هادون إلى سبل الخير، وإن كان بعضهم ينسخ شريعة بعضٍ بإذن الله، حتى نسخ الجميع بشرع محمدٍ صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي تقوم الساعة على شريعته، ولا تزال طائفةٌ من أمته على الحق ظاهرين»20.

وقال السعدي: «فهذا كله من الإيمان الواجب الذي لا يكون العبد مؤمنًا إلا به، إجمالًا فيما لم يصل إليه تفصيله، وتفصيلًا فيما علم من ذلك بالتفصيل، فمن آمن هذا الإيمان المأمور به، فقد اهتدى وأنجح. ( ) وأي ضلال أبعد من ضلال من ترك طريق الهدى المستقيم، وسلك الطريق الموصلة له إلى العذاب الأليم؟

واعلم أن الكفر بشيء من هذه المذكورات كالكفر بجميعها؛ لتلازمها وامتناع وجود الإيمان ببعضها دون بعض»21.

«ومعنى الإيمان بالكتب: التصديق الجازم بأن كلها منزلٌ من عند الله عز وجل على رسله إلى عباده بالحق المبين والهدى المستبين، وأنها كلام الله عز وجل لا كلام غيره، وأن الله تعالى تكلم بها حقيقةً كما شاء وعلى الوجه الذي أراد، فمنها المسموع منه من وراء حجابٍ بدون واسطةٍ، ومنها ما يسمعه الرسول الملكي ويأمره بتبليغه منه إلى الرسول البشري، ومنها ما خطه بيده عز وجل، والإيمان بكل ما فيها من الشرائع، وأنه كان واجبًا على الأمم الذين نزلت إليهم الصحف الأولى الانقياد لها والحكم بما فيها، وإن كل من كذب بشيءٍ منها أو أبى عن الانقياد لها مع تعلق خطابه به، يكفر بذلك,.

قال تعالى: ( ﮟﮠ ) [الأعراف: ٤٠]»22.

«فتقرر بهذا وجوب الإيمان بالكتب والتصديق بها جميعها، واعتقاد أنها كلها من الله تعالى أنزلها على رسله بالحق والهدى و والضياء، وأن من كذب بها أو جحد شيئًا منها فهو كافر بالله خارج من الدين»23.

ثانيًا: الإيمان بأن الإنجيل كتاب منزل من عند الله سبحانه و تعالى:

ومن جملة هذه الكتب التي يجب على المسلم أن يؤمن بها وأنها منزلة من عند الله: الإنجيل الذي أنزله الله على نبيه ورسوله عيسى بن مريم، لهداية بني إسرائيل وإعادتهم إلى شريعة التوراة التي خالفوها وضل كثير منهم عنها، وليبشر بنبوة ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم من بعده.

ومن ثم يجب الإيمان بالإنجيل ككتاب سماوي أنزل من عند الله مصدقًا لما بين يديه من التوراة، وأن فيه هداية ونورًا وموعظة لمن نزل إليهم.

قال تعالى: ( ﭜﭝ ) [المائدة: ٤٦].

فمن أنكر الإنجيل أو جحده، فقد كفر24؛ لأنه جحد ركنًا من أركان الإيمان وهو الإيمان بالكتب، وقد سبق بيان أن من جحد شيئًا منها كان كمن جحدها جميعًا، ولإنكاره كذلك معلومًا من الدين بالضرورة.

ثالثًا: تصديق القرآن للإنجيل:

إن الكتب السماوية كلها مصدرها واحد هو الله عز وجل، فكلها كلام الله تعالى، ووحيه الذي أوحاه إلى أنبيائه ورسله؛ ليبلغوه إلى أقوامهم، فيكون لهم به الهداية والسعادة في الدنيا والآخرة، والفوز برضا الرحمن والنجاة من العذاب والنيران.

فكلامه سبحانه يصدق بعضه بعضًا، فلا يمكن أن يقع في هذه الكتب تناقض أو تضارب بينها وبين بعضها، لكن قد يقع فيها الاختلاف فيما يتعلق بالشرائع والأحكام، بحسب زمان كل أمة نزل إليهم الكتاب، وبحسب ما يناسبهم، أما ما يتعلق بالعقيدة والأخلاق فلا يقع فيه اختلاف بين هذه الكتب فكلها تدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، قال تعالى: ( ) [الأنبياء: ٢٥].

ومن ثم فالقرآن بما أنه كتاب الله وكلامه وهو خاتم الكتب السماوية التي أنزلها الله على أنبيائه ورسله ومن بينها الإنجيل فهو مصدق لها، ومهيمن عليها، وقد قرر القرآن الكريم هذه الحقيقة في أكثر من موضع، قال تعالى مخاطبًا نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم: ( ) [آل عمران: ٣].

فالذي أنزل القرآن وما قبله من الكتب كالإنجيل هو الله تعالى، وكلام الله تعالى يصدق بعضه بعضًا، ولا يقع فيه تناقض أو اختلاف.

قال أبو جعفر بن جرير الطبري: «يقول جل ثناؤه: يا محمد، إن ربك ورب عيسى ورب كل شيء، هو الرب الذي أنزل عليك الكتاب، يعني بـ()، القرآن () يعني: بالصدق فيما اختلف فيه أهل التوراة والإنجيل، وفيما خالفك فيه محاجوك من نصارى أهل نجران وسائر أهل الشرك غيرهم ( )، يعني بذلك القرآن، أنه مصدق لما كان قبله من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه ورسله، ومحقق ما جاءت به رسل الله من عنده؛ لأن منزل جميع ذلك واحد، فلا يكون فيه اختلاف، ولو كان من عند غيره كان فيه اختلاف كثير»25.

وقال تعالى: (ﭿ ﮊﮋ) [المائدة: ٤٨].

فقد أشارت الآية إلى حالتي القرآن بالنسبة لما قبله من الكتب، فهو مؤيدٌ لبعض ما في الشرائع مقررٌ له من كل حكمٍ كانت مصلحته كليةً لم تختلف مصلحته باختلاف الأمم والأزمان، وهو بهذا الوصف مصدقٌ، أي محققٌ ومقررٌ؛ لأنه شهد لها ووافقها، وطابقت أخباره أخبارها، وشرائعه الكبار شرائعها، وأخبرت به، فصار وجوده () لخبرها، ( ﮊﮋ) أي: مشتملًا على ما اشتملت عليه الكتب السابقة، وزيادة في المطالب الإلهية والأخلاق النفسية. فهو الكتاب الذي تتبع كل حق جاءت به الكتب فأمر به، وحث عليه، وأكثر من الطرق الموصلة إليه، وهو الكتاب الذي فيه نبأ السابقين واللاحقين، وهو الكتاب الذي فيه الحكم والحكمة، والأحكام التي عرضت عليه من الكتب السابقة، فما شهد له بالصدق فهو المقبول، وما شهد له بالرد فهو مردود، قد دخله التحريف والتبديل، وإلا فلو كان من عند الله، لم يخالفه، وهو أيضًا مبطلٌ لبعض ما في الشرائع السالفة وناسخٌ لأحكامٍ كثيرةٍ من كل ما كانت مصالحه جزئيةً مؤقتةً مراعًى فيها أحوال أقوامٍ خاصةٍ» 26.

رابعًا: القرآن مكذب للإنجيل المحرف:

تعرض الإنجيل في الأزمنة التالية لرفع المسيح عليه السلام للتحريف والتغيير والتبديل، حتى لقد صار الإنجيل الحقيقي المنزل من عند الله مفقودًا، اللهم إلا من عبارات قليلة مبثوثة في ثنايا تلك الأسفار التي بين أيديهم الآن والتي يسمونها الإنجيل وهي من تأليفهم، فحاشا لله أن يكون القرآن الكريم مصدقًا لما في الإنجيل المحرف من الكذب والتدليس والتزوير والتزييف، بل هو مبين لذلك كله فاضح له، فالقرآن نزل ليقيم الملة العوجاء، وقد جاء في معنى قوله تعالى ( ﮊﮋ) ما قاله الشيخ محمد رشيد رضا: «أما قوله: ( ﮊﮋ) أي: على جنس الكتاب الإلهي، فمعناه: أنه رقيبٌ عليها وشهيدٌ، بما بينه من حقيقة حالها في أصل إنزالها، وما كان من شأن من خوطبوا بها، من نسيان حظٍ عظيمٍ منها وإضاعته، وتحريف كثيرٍ مما بقي منها وتأويله، والإعراض عن الحكم والعمل بها، فهو يحكم عليها ؛ لأنه جاء بعدها، روى ابن جريرٍ عن ابن عباسٍ أنه قال: ( ﮊﮋ) يعني: أمينًا عليه، يحكم على ما كان قبله من الكتب، وفي روايةٍ عنه عند الفريابي وسعيد بن منصورٍ والبيهقي ورواة التفسير المأثور قال: مؤتمنًا عليه، وفي روايةٍ أخرى قال: شهيدًا على كل كتابٍ قبله»27.

فالحاصل أن القرآن جاء مصدقًا لما بين يديه من الكتاب، وأن الله تعالى أنزل كتبًا على الأمم السابقة ومنها التوراة والإنجيل، وأمر بالإيمان بها، ولكنه في الوقت نفسه نبه على ما طالها من تحريف وتغيير وتبديل من الأمم التي أنزلت عليهم؛ ليصوب لهم أخطاءهم ويعيدهم إلى صوابهم، فإن المراد بتصديقها هو تصديق الأصل النازل من عند الله إجمالًا وما ثبت منها أنه حق، دون ما بين بطلانه، أو هو تصديق لمجموعها ولا يلزم منه تصديق جميعها.

قال الشيخ محمد رشيد رضا: «( ) أي مبينًا صدق ما تقدمه من الكتب المنزلة على الأنبياء، أي كونها وحيًا من الله تعالى، وذلك أن أثبت الوحي وذكر أنه تعالى أرسل رسلًا أوحى إليهم، فهذا تصديقٌ إجماليٌ لأصل الوحي لا يتضمن تصديق ما عند الأمم التي تنتمي إلى أولئك الأنبياء من الكتب بأعيانها ومسائلها، ومثاله تصديقنا لنبينا صلى الله عليه وسلم في جميع ما أخبر به فهو لا يستلزم تصديق كل ما في كتب الحديث المروية عنه، بل ما ثبت منها عندنا فقط» 28.

«والأحكام الذي عرضت عليه في الكتب السابقة، فما شهد له بالصدق فهو المقبول، وما شهد له بالرد فهو مردود، قد دخله التحريف والتبديل، وإلا فلو كان من عند الله، لم يخالفه»29.

إيتاء عيسى عليه السلام الإنجيل

ورد ذكر إيتاء عيسى عليه السلام الإنجيل في القرآن الكريم في مواضع عدة منها قوله تعالى: ( ﭜﭝ ). [المائدة: ٤٦].

وقال عز وجل: ( ) [الحديد: ٢٧].

وإيتاء الإنجيل لعيسى عليه السلام عبارة عن إنزاله إليه بوحي من الله تعالى، قال الطبري: «( ) يقول: وأنزلنا إليه كتابنا الذي اسمه الإنجيل»30، وهذا الإيتاء إنما هو منة من الله تعالى للرسول الموحى إليه به، ولأمته التي أنزل إليهم الكتاب، «وفيه تعظيم عيسى عليه السلام بأن الله آتاه كتابًا إلهيًا»31.

فآتيناه «أي: أعطيناه الإنجيل مشتملًا على هدًى من الضلال في العقائد والأعمال؛ كالتوحيد النافي للوثنية التي هي مصدر الخرافات والأباطيل، ونورٌ يبصر به طالب الحق طريقه الموصل إليه من الدلائل والأمثال والفضائل والآداب، ومصدقًا للتوراة التي تقدمته ؛ أي: مشتملًا على النص بتصديق التوراة » 32.

واستشكل في معنى قول المسيح وهو في المهد آتاني الكتاب: قال ابن الجوزي: «وفي معنى الآية قولان:

أحدهما: أنه آتاه الكتاب وهو في بطن أمه، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وقيل: علم التوراة والإنجيل وهو في بطن أمه.

والثاني: قضى أن يؤتيني الكتاب، قاله عكرمة.

وفي الكتاب قولان:

أحدهما: أنه التوراة.

والثاني: الإنجيل» 33.

وجزم القرطبي بالقول الثاني وهو أن المراد بالكتاب هنا الإنجيل34.

وقال تعالى: ( ﮭﮮ ﯗﯘ) [البقرة: ٨٧].

وقوله سبحانه: ( ﭗﭘ ﭜﭝ ﭠﭡ ﭩﭪ) [البقرة: ٢٥٣].

وقد اختلفوا في ():

فقال البغوي: «(): الدلالات الواضحات، وهي ما ذكر الله في سورة آل عمران والمائدة، وقيل: أراد الإنجيل» 35.

ومال الرازي إلى القول بأن الكل يدخل فيه؛ لأن المعجز يبين صحة نبوته كما أن الإنجيل يبين كيفية شريعته فلا يكون للتخصيص معنى36.

وكذلك اختلفوا في الروح القدس التي أيد الله المسيح به إلى ثلاثة أقوال:

«أحدها: أنه جبريل. والقدس: الطهارة، وهذا قول ابن عباس، وقتادة، والضحاك، والسدي في آخرين. . .

والقول الثاني: أنه الاسم الذي كان يحيي به الموتى، رواه الضحاك عن ابن عباس.

والثالث: أنه الإنجيل، قاله ابن زيد» 37.

ووجه تسمية الإنجيل بالروح القدس عند من فسره به أن «الإنجيل سببٌ لظهور الشرائع وحياتها»38.

صفات الإنجيل في القرآن

وصف القرآن الكريم الإنجيل الصحيح الذي أنزل على المسيح من عند الله تعالى بوحي منه بعدة أوصاف تدعو المسلمين إلى الإيمان به واحترامه وتوقيره ككتاب سماوي أنزل على نبي ورسول من أنبياء الله ومن أولي العزم من الرسل، لهداية من أنزل إليهم الكتاب من الأمم، وهذه الصفات جمعت في قوله تعالى: ( ﭜﭝ ). [المائدة: ٤٦].

فيتضح من هذه الآية «أنه تعالى وصف الإنجيل بصفاتٍ خمسةٍ فقال: فيه هدىً، ونورٌ، ومصدقًا لما بين يديه من التوراة، وهدىً، وموعظةً للمتقين »39.

ونبين كلا من هذه الصفات:

١.فيه هدى:

«والهدى: الإرشاد والدعاء إلى توحيد الله وإحياء أحكامه »40.

قال تعالى: ( ) [آل عمران: ٣ - ٤]

وكون الإنجيل () أي: «هاديًا لمن تبعه » 41، وقيل: ( ) معناه: دعاء، والناس بنو إسرائيل في هذا الموضع؛ لأنهم المدعوون بهما لا غير، وإن أراد أنهما هدىً في ذاتهما. . فالناس عام في كل من شاء حينئذ أن يستبصر» 42.

فالإنجيل كتاب هداية من الله لبني إسرائيل شامل لكل أمورهم الدينية في أمر العقيدة والشريعة، فمعنى قوله تعالى: ( ): «أي: أعطيناه الإنجيل مشتملًا على هدًى من الضلال في العقائد والأعمال ؛ كالتوحيد النافي للوثنية التي هي مصدر الخرافات والأباطيل»43، «وهو بيان ما جهله الناس من حكم الله في زمانه»44.

وبذلك يتضح أن«معنى كونه فيه هدًى أنه يشتمل على دلائل التوحيد، وتنزيه الله عن الولد والصاحبة والمثل والضد، وعلى الإرشاد والدعاء إلى الله تعالى، وإلى إحياء أحكام التوراة»45.

٢. نور:

«وأما كونه نورًا، فالمراد به كونه بيانًا للأحكام الشرعية ولتفاصيل التكاليف»46.

فهو هدى من رب العالمين «ونورٌ يبصر به طالب الحق طريقه الموصل إليه من الدلائل والأمثال والفضائل والآداب»47، فهو نور «وضياء من عمى الجهالة»48.

فالمراد بكون الإنجيل نورًا: «ما فيه مما يستضاء به؛ إذ فيه بيان أحكام الشريعة وتفاصيلها»49.

ف من شأنه أنه يزيل الظلمة ويوضح الطريق، ولهذا سمي الإنجيل به، قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: ( ) أي: «هدًى إلى الحق، ونورٌ يستضاء به في إزالة الشبهات وحل المشكلات»50.

٣. مصدق لما قبله:

قال تعالى في وصف الإنجيل: ( ) «أي: ومصدقًا للتوراة التي تقدمته؛ أي: مشتملًا على النص بتصديق التوراة»51.

وتصديقه للتوراة له معنيان:

الأول: ما ذكره أبو حيان بقوله: «وتصديقه إياها هو بكونه مقرًا أنها كتابٌ منزلٌ من الله حقًا واجبٌ العمل به قبل ورود النسخ، إذ شريعته مغايرةٌ لبعض ما فيها»52.

الثاني: ما فسره ابن كثير بقوله: «أي: متبعًا لها، غير مخالفٍ لما فيها، إلا في القليل مما بين لبني إسرائيل بعض ما كانوا يختلفون فيه»53.

«وهذا التصديق لا ينافي أنه نسخ بعض أحكام التوراة كما حكى الله عنه ( ﯗﯘ) [آل عمران: ٥٠]»54.

ويلاحظ أيضًا في هذه الآية ورود عبارة ( ) فيها مرتين، «وهذا ليس بتكرار للأول؛ لأن في الأول: الإخبار بأن عيسى مصدق لما بين يديه من التوراة. وفي الثاني- الإخبار بأن الإنجيل مصدق للتوراة، فظهر الفرق بين اللفظين وأنه ليس بتكرار»55.

وفرق الطاهر بن عاشور بين تصديق المسيح نفسه للتوراة وبين تصديق الإنجيل لها بقوله: «فتصديق عيسى التوراة: أمره بإحياء أحكامها، وهو تصديقٌ حقيقيٌ، وتصديق الإنجيل التوراة: اشتماله على ما وافق أحكامها، فهو تصديقٌ مجازيٌ»56.

«والمعنى: أن عيسى وكتابه الذي أنزل عليه هما مصدقان لما تقدمهما من التوراة، فتظافر على تصديقه الكتاب الإلهي المنزل، والنبي المرسل المنزل عليه ذلك الكتاب»57.

٤. هدى:

وقد وصف الإنجيل بكونه هدى من وجهين:

الوجه الأول: وصف لما في الإنجيل من الآيات والأحكام بتفصيلاتها بأنها هدى.

الوجه الثاني: وصف للإنجيل بذاته وجملته أنه هدى.

فالملاحظ في آية المائدة التي ذكرت صفات الإنجيل أن لفظ الهدى قد تكرر فيها مرتين، وليس الهدى الثاني عين الأول، وحاشا لله أن يقع في كلامه تكرار لا فائدة منه، فالهدى الأول هو ما ذكر المفسرون معناه بما سبق، «وأما كونه هدًى مرةً أخرى فلأن اشتماله على البشارة بمجيء محمدٍ صلى الله عليه وسلم سببٌ لاهتداء الناس إلى نبوة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ولما كان أشد وجوه المنازعة بين المسلمين وبين اليهود والنصارى في ذلك لا جرم أعاده الله تعالى مرةً أخرى، تنبيهًا على أن الإنجيل يدل دلالةً ظاهرةً على نبوة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فكان هدًى في هذه المسألة التي هي أشد المسائل احتياجًا إلى البيان والتقرير»58.

قال الألوسي: «وجعل كله هدى -بعد ما جعل مشتملًا عليه-؛ مبالغة في التنويه بشأنه لما أن فيه البشارة بنبينا صلى الله عليه وسلم أظهر»59.

وقد اعتنى الإنجيل ببيان صفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أكثر من غيره من الكتب السابقة عليه، والحكمة من ذلك أنه أقرب الكتب عهدًا بمبعثه صلى الله عليه وسلم، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى في موضعه.

وقيل: معنى كونه () أنه جاء «بيانًا لحكم الله الذي ارتضاه لعباده المتقين في زمان عيسى»60.

٥. موعظة:

وهذه خاتمة الصفات المذكورة للإنجيل في هذه الآية، قال تعالى: ( )، وقد تحدثنا عن الهدى الثاني وذكرنا المراد به والفرق بينه وبين الهدى الأول.

«وأما كون الإنجيل موعظة فلاشتماله على النصائح والمواعظ والزواجر البليغة المتأكدة، وإنما خصها بالمتقين؛ لأنهم هم الذين ينتفعون بها، كما في قوله: هدىً للمتقين»61.

قيل في معنى كون الإنجيل موعظة، أي: «زجرًا لهم عما يكرهه الله إلى ما يحبه من الأعمال، وتنبيهًا لهم عليه»62.

«ولعله ما انفرد به من المسائل الروحية والمواعظ الأدبية، وزلزلة ذلك الجمود الإسرائيلي المادي، وزعزعة ذلك الغرور الذي كان الكتبة والفريسيون من اليهود مفتونين به، وخص هذا النوع بالمتقين؛ لأنهم هم الذين ينتفعون به ؛ إذ لا يفوتهم شيءٌ من الكتاب لحرصهم عليه وعنايتهم به، والحكمة من هذا النوع من الهدى والموعظة: فقه أسرار الشريعة ومعرفة حكمتها والمقصد منها، والعلم بأن وراء تلك التوراة وهذا الإنجيل هدايةً أتم وأكمل، ودينًا أعم وأشمل، وهو الذي يجيء به النبي الأخير (البارقليط) الأعظم، ولولا زلزال الإنجيل في جملته لتلك التقاليد، وزعزعته لذلك الغرور، وأنس الناس بما حفظ من تعاليمه عدة قرونٍ، لما انتشر الإسلام بين أهل الكتاب في سورية ومصر وبين النهرين بتلك السرعة»63.

الأحكام التشريعية في الإنجيل

أولًا: الأحكام التشريعية في الإنجيل:

أودع الله في الإنجيل أحكامًا وتشريعات لهداية من أنزل إليهم، وأمرهم بأن يأخذوا بها، ويعملوا بأحكامها، ويحكموا بمقتضاها.

قال تعالى ( ﭳﭴ ) [المائدة: ٤٧].

وهذه الآية تبين أمرين:

أولًا: الحكمة من إيتاء المسيح عليه السلام الإنجيل الذي وصفه الله تعالى بالصفات السابق بيانها في الآية التي قبلها مباشرة هي: أن يعملوا بما فيه.

ثانيًا: وجوب العمل بما أنزل الله في الإنجيل على أمة المسيح عليه السلام قبل مبعث نبينا صلى الله عليه وسلم.

والآية تدل على أن الإنجيل مشتمل على الأحكام، وأن عيسى عليه السلام كان مستقلًا بالشرع مأمورا بالعمل بما فيه من الأحكام قلت أو كثرت لا بما في التوراة خاصة، وأن اليهودية منسوخة ببعثة عيسى عليه الصلاة والسلام64.

ويشهد لذلك أيضًا حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أوتي أهل التوراة التوراة، فعملوا حتى إذا انتصف النهار عجزوا، فأعطوا قيراطًا قيراطًا، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل، فعملوا إلى صلاة العصر، ثم عجزوا، فأعطوا قيراطًا قيراطًا...) الحديث65.

وخالف في ذلك بعض الفضلاء، قال الشهرستاني: «وجميع بني إسرائيل كانوا متعبدين بذلك، مكلفين بالتزام أحكام التوراة، والإنجيل النازل على المسيح عليه السلام لا يتضمن أحكامًا، ولا يستبطن حلالًا ولا حرامًا؛ ولكنه: رموز، وأمثال، ومواعظ، ومزاجر؛ وما سواها من الشرائع والأحكام فمحالة على التوراة، فكانت اليهود لهذه القضية لم ينقادوا لعيسى ابن مريم عليه السلام، وادعوا عليه أنه كان مأمورًا بمتابعة موسى عليه السلام، وموافقة التوراة، فغير وبدل، وعدوا عليه تلك التغييرات، منها: تغيير السبت إلى الأحد، ومنها: تغيير أكل لحم الخنزير، وكان حرامًا في التوراة، ومنها: الختان، والغسل، وغير ذلك، والمسلمون قد بينوا أن الأمتين: قد بدلوا، وحرفوا؛ وإلا فعيسى عليه السلام كان مقررًا لما جاء به موسى عليه السلام»66.

«وحمل المخالف هذه الآية على وليحكموا بما أنزل الله تعالى فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة، وهو خلاف الظاهر كتخصيص ما أنزل فيه نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم»67.

وقال الألوسي: «أمر مبتدأ لهم بأن يحكموا ويعملوا بما فيه من الأمور التي من جملتها دلائل رسالته صلى الله عليه وسلم وما قررته شريعته الشريفة من أحكامه، وأما الأحكام المنسوخة فليس الحكم بها حكمًا بما أنزل الله تعالى بل هو إبطال وتعطيل له إذ هو شاهد بنسخها وانتهاء وقت العمل بها؛ لأن شهادته بصحة ما ينسخها من الشريعة الأحمدية شاهدة بنسخها، وأن أحكامه ما قررته تلك الشريعة التي تشهد بصحتها»68.

وقد ورد في القرآن الكريم ما يدل على بعض ما فرض على النصارى من الأحكام الشرعية، كما في قوله تعالى حكاية عن المسيح عليه السلام: ( ) [مريم: ٣١].

قال الطبري: «وقوله ( ) يقول: وقضى أن يوصيني بالصلاة والزكاة، يعنى: المحافظة على حدود الصلاة وإقامتها على ما فرضها علي. وفي الزكاة معنيان، أحدهما: زكاة الأموال أن يؤديها. والآخر: تطهير الجسد من دنس الذنوب؛ فيكون معناه: وأوصاني بترك الذنوب واجتناب المعاصي، وقوله ( ) يقول: ما كنت حيًا في الدنيا موجودًا، وهذا يبين عن أن معنى الزكاة في هذا الموضع: تطهير البدن من الذنوب؛ لأن الذي يوصف به عيسى صلوات الله وسلامه عليه أنه كان لا يدخر شيئًا لغد، فتجب عليه زكاة المال، إلا أن تكون الزكاة التي كانت فرضت عليه الصدقة بكل ما فضل عن قوته، فيكون ذلك وجهًا صحيحًا»69.

فلا شك أنه قد فرض الله على النصارى صلاة وزكاة لا نعلم كيفيتها ولا عددها، ولا هي نفس التي كانت عند اليهود أو غيرها، ولا نعلم هل الصلاة والعشور التي عندهم الآن هي الصحيح النازل من عند الله أو هي مما حرفوا وبدلوا.

وقد أخبرنا القرآن الكريم بأن الله قد فرض الصيام على الأمم السابقة، ولا شك أن منها النصارى أمة المسيح عليه السلام.

قال تعالى: ( ) [البقرة: ١٨٣].

وقد اختلف المفسرون في المقصود بمن قبلنا في الآية.

قال ابن الجوزي: «وفي الذين من قبلنا ثلاثة أقوال:

أحدها: أنهم أهل الكتاب، رواه عطاء الخراساني عن ابن عباس، وهو قول مجاهد.

والثاني: أنهم النصارى، قاله الشعبي، والربيع.

والثالث: أنهم جميع أهل الملل، ذكره أبو صالح عن ابن عباس»70.

فعلى الأقوال الثلاثة فالنصارى معنيون بهذه الآية، فلا شك أنهم كانوا قد فرض عليهم الصيام.

كما لا شك أن الإنجيل قد أمرهم بمكارم الأخلاق وبر الوالدين وحسن معاملة القريب والغريب، وأنه نهاهم عن كل قبيح كالقتل والزنا والسرقة والعقوق والكذب وسائر الأخلاق الذميمة.

وقد أورد الفخر الرازي سؤالًا على هذه الآية وهو: «فإن قيل: كيف جاز أن يؤمروا بالحكم بما في الإنجيل بعد نزول القرآن؟

قلنا: الجواب عنه من وجوهٍ:

الأول: أن المراد: ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه من الدلائل الدالة على نبوة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وهو قول الأصم.

والثاني: وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه، مما لم يصر منسوخًا بالقرآن.

والثالث: المراد من قوله وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه: زجرهم عن تحريف ما في الإنجيل وتغييره مثل ما فعله اليهود من إخفاء أحكام التوراة، فالمعني بقوله: (وليحكم) أي: وليقر أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه على الوجه الذي أنزله الله فيه من غير تحريفٍ ولا تبديلٍ»71.

وإنا لنجد بعض النصارى يحتج علينا بهذه الآية بدعوى أنها تأمرهم بالعمل بالإنجيل وما فيه، مما يعني في نظرهم ترك العمل بالقرآن واتباع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الدين والأحكام، وقد ذكرنا الجواب عن ذلك من أقوال المفسرين وما تحتمله الآية مما لا يتفق مع دعواهم.

قال الشيخ محمد رشيد رضا: «كيفما قرأت وفسرت لا تجد الآية تدل على أن الله تعالى يأمر النصارى في القرآن بالحكم بالإنجيل، كما يزعم دعاة النصرانية بما يغالطون به عوام المسلمين، ولو فرضنا أنه أمرهم بذلك بعبارةٍ أخرى لتعين أن يكون الأمر للتعجيز وإقامة الحجة عليهم ؛ فإنهم لا يستطيعون العمل بالإنجيل، ولن يستطيعوه»72.

والسبب في ذلك أنهم حرفوه وضيعوه وغيروه وبدلوه، فكيف يمكنهم العمل به بعد ذلك؟

وأما قوله تعالى: ( ) أي: المتمردون الخارجون عن حكمه أو عن الإيمان،. . والجملة تذييل مقرر لمضمون الجملة السابقة ومؤكدة لوجوب الامتثال بالأمر73.

ثانيًا: أثر إقامة الإنجيل:

قال تعالى في بيان الأثر الإيجابي من إقامة أهل الكتاب لكتبهم وتنفيذهم لوصاياها ( ﭭﭮ ﭱﭲ ) [المائدة: ٦٦].

وفي معنى الإقامة قال الطاهر بن عاشور: «يجوز أن يكون معنى إقامة التوراة والإنجيل إقامة تشريعهما قبل الإسلام، أي: لو أطاعوا أوامر الله وعملوا بها سلموا من غضبه فلأغدق عليهم نعمه. ويحتمل أن يكون المراد: لو أقاموا هذه الكتب بعد مجيء الإسلام، أي: بالاعتراف بما في التوراة والإنجيل من التبشير ببعثة محمدٍ صلى الله عليه وسلم حتى يؤمنوا به وبما جاء به، فتكون الآية إشارةً إلى ضيق معاشهم بعد هجرة الرسول إلى المدينة»74.

قال الطبري: «فإن قال قائل: وكيف يقيمون التوراة والإنجيل وما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم، مع اختلاف هذه الكتب، ونسخ بعضها بعضًا؟ قيل: إنها وإن كانت كذلك في بعض أحكامها وشرائعها، فهي متفقة في الأمر بالإيمان برسل الله، والتصديق بما جاءت به من عند الله، فمعنى إقامتهم التوراة والإنجيل وما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم: تصديقهم بما فيها، والعمل بما هي متفقة فيه، وكل واحد منها في الحين الذي فرض العمل به»75.

وأما قوله تعالى: ( ) فقد ذكر الفخر الرازي فيه عدة وجوهٌ:

«الأول: أن المراد منه المبالغة في شرح السعة والخصب، لا أن هناك فوقًا وتحتًا، والمعنى لأكلوا أكلًا متصلًا كثيرًا، وهو كما تقول: فلانٌ في الخير من فرقه إلى قدمه، تريد تكاثف الخير وكثرته عنده.

الثاني: أن الأكل من فوق نزول القطر، ومن تحت الأرجل حصول النبات، كما قال تعالى في سورة الأعراف: ( ) [الأعراف: ٩٦].

الثالث: الأكل من فوق: كثرة الأشجار المثمرة، ومن تحت الأرجل: الزروع المغلة.

والرابع: المراد أن يرزقهم الجنان اليانعة الثمار، فيجتنون ما تهدل من رءوس الشجر، ويلتقطون ما تساقط على الأرض من تحت أرجلهم.

والخامس: يشبه أن يكون هذا إشارةً إلى ما جرى على اليهود من بني قريظة وبني النضير من قطع نخيلهم، وإفساد زروعهم، وإجلائهم عن أوطانهم»76.

أتباع عيسى عليه السلام في القرآن

وصف الله تبارك وتعالى أتباع المسيح عليه السلام الذين أقاموا دينه واتبعوه ولم يحرفوا ولم يغيروا ولم يبدلوا بصفات عظيمة فيها إشادة وإكبار، وسماهم الحواريين، فقال تعالى: ( ﯵﯶ ﯿ ) [آل عمران: ٥٢ - ٥٣].

أولًا: معنى الحواريين:

وفي معنى الحواريين أقوال:

أحدها: أنهم الخواص الأصفياء، وقال صلى الله عليه وسلم للزبير: (إنه ابن عمتي، وحواري من أمتي)77، فعلى هذا الحواريون هم صفوة الأنبياء الذي خلصوا وأخلصوا في التصديق بهم وفي نصرتهم.

والثاني: أنهم البيض الثياب، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنهم سموا بذلك؛ لبياض ثيابهم، وعلى هذا فالحواري أصله من الحور، وهو شدة البياض، وقيل: لأن قلوبهم كانت نقيةً طاهرةً من كل نفاقٍ وريبةٍ فسموا بذلك مدحًا لهم، وإشارةً إلى نقاء قلوبهم، كالثوب الأبيض، وهذا كما يقال: فلانٌ نقي الجيب، طاهر الذيل، إذا كان بعيدًا عن الأفعال الذميمة، وفلانٌ دنس الثياب: إذا كان مقدمًا على ما لا ينبغي.

والثالث: أنهم القصارون، سموا بذلك؛ لأنهم كانوا يحورون الثياب، أي: يبيضونها، وهو كالذي قبله مبني على أن الحواري أصله من الحور، وهو شدة البياض، وإذا عرفت أصل هذا اللفظ فقد صار بعرف الاستعمال دليلًا على خواص الرجل وبطانته، قال الضحاك: مر عيسى عليه السلام بقومٍ من الذين كانوا يغسلون الثياب، فدعاهم إلى الإيمان فآمنوا، والذي يغسل الثياب يسمى بلغة النبط هواري، وهو القصار، فعربت هذه اللفظة فصارت حواري.

والرابع: المجاهدون.

والخامس: الصيادون، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. فقد روي أنه عليه السلام مر بهم وهم يصطادون السمك، فقال لهم: «تعالوا نصطاد الناس» قالوا: من أنت؟ قال: «أنا عيسى ابن مريم، عبد الله ورسوله» فطلبوا منه المعجز على ما قال، فلما أظهر المعجز آمنوا به، فهم الحواريون.

والسادس: الحواريون: الملوك.

والسابع: أنهم المنيرة وجوههم، قال ابن المبارك: الحوار ، ونسبوا إليه لما كان في وجوههم من سيما العبادة ونورها. وقال تاج القراء: الحواري: الصديق»78.

والثامن: الحواري: الناصر، قال ابن كثير: «والصحيح أن الحواري الناصر، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ندب الناس يوم الأحزاب، فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدب الزبير [ثم ندبهم فانتدب الزبير]. فقال: (إن لكل نبيٍ حواريًا وحواريي الزبير)»79.

وقال ابن عاشور: «والحواريون: لقبٌ لأصحاب عيسى، عليه السلام: الذين آمنوا به ولازموه، وهو اسمٌ معربٌ من النبطية ومفرده حواريٌ، قاله في الإتقان عن ابن حاتمٍ عن الضحاك، ولكنه ادعى أن معناه الغسال أي: غسال الثياب، وفسره علماء العربية بأنه من يكون من خاصة من يضاف هو إليه ومن قرابته، وغلب على أصحاب عيسى، وقد أكثر المفسرون وأهل اللغة في احتمالات اشتقاقه واختلاف معناه، وكل ذلك إلصاقٌ بالكلمات التي فيها حروف الحاء والواو والراء لا يصح منه شيءٌ، والحواريون اثنا عشر رجلًا وهم: سمعان بطرس، وأخوه أندراوس، ويوحنا بن زبدي، وأخوه يعقوب- وهؤلاء كلهم صيادو سمكٍ- ومتى العشار وتوما وفيليبس، وبرثو لماوس، ويعقوب بن حلفي، ولباوس، وسمعان القانوي، ويهوذا الأسخريوطي»80.

ويمكن الجمع بين هذه الأقوال بأنهم كانوا حائزين على كل هذه الصفات، فهم الأتباع المخلصون للمسيح، وهم بيض القلوب والثياب، منيرة وجوههم، ناصرون لربهم ونبيهم.

«قال القفال: ويجوز أن يكون بعض هؤلاء الحواريين الاثني عشر من الملوك، وبعضهم من صيادي السمك، وبعضهم من القصارين، والكل سموا بالحواريين؛ لأنهم كانوا أنصار عيسى عليه السلام، وأعوانه، والمخلصين في محبته، وطاعته، وخدمته»81.

ثانيًا: صفات الحواريين:

من صفات هؤلاء الحواريين أتباع المسيح عليه السلام التي وصفهم الله تعالى بها:

الصفة الأولى: أنهم أنصار الله.

وقد جاء ذلك في قوله تعالى في أكثر من موضع من كتابه: ( =) [آل عمران: ٥٢]، [الصف: ١٤].

قال الطبري: «فلما وجد عيسى من بني إسرائيل الذين أرسله الله إليهم جحودًا لنبوته، وتكذيبًا لقوله، وصدًا عما دعاهم إليه من أمر الله، قال: ( )؟، يعني بذلك: قال عيسى: من أعواني على المكذبين بحجة الله، والمولين عن دينه، والجاحدين نبوة نبيه، ( ) عز وجل؟ ويعني بقوله: ( )، مع الله»82.

وفي سبب استنصاره بالحواريين قال ابن الجوزي: «واختلفوا في سبب استنصاره بالحواريين، فقال مجاهد: لما كفر به قومه، وأرادوا قتله، استنصر الحواريين. وقال غيره: لما كفر به قومه، وأخرجوه من قريتهم، استنصر الحواريين. وقيل: استنصرهم؛ لإقامة الحق، وإظهار الحجة»83.

قال ابن كثير: «والظاهر أنه أراد من أنصاري في الدعوة إلى الله؟ كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مواسم الحج، قبل أن يهاجر: (من رجل يئويني على أن أبلغ كلام ربي، فإن قريشًا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي)حتى وجد الأنصار فآووه ونصروه، وهاجر إليهم فآسوه ومنعوه من الأسود والأحمر. وهكذا عيسى ابن مريم، انتدب له طائفةٌ من بني إسرائيل فآمنوا به وآزروه ونصروه واتبعوا الذي أنزل معه، ولهذا قال تعالى مخبرًا عنهم: ( ﯿ )»84.

قال الرازي: «والمراد من قوله تعالى ( ) أي: نحن أنصار دين الله وأنصار أنبيائه؛ لأن نصرة الله تعالى في الحقيقة محالٌ، فالمراد منه ما ذكرناه»85.

وقد بلغ من منزلة الحواريين أتباع المسيح عليه السلام في نصرتهم وإخلاصهم وصدقهم في ذلك أن الله تعالى خاطب المؤمنين من هذه الأمة بقوله: ( ﯿ ﰋﰌ ﰑﰒ ﰙﰚ ) [الصف: ١٤].

«يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين أن يكونوا أنصار الله في جميع أحوالهم، بأقوالهم وأفعالهم وأنفسهم وأموالهم، وأن يستجيبوا لله ولرسوله، كما استجاب الحواريون لعيسى حين قال: ( ) ؟ أي: معيني في الدعوة إلى الله عز وجل ؟ ( ) -وهم أتباع عيسى عليه السلام: ( ) أي: نحن أنصارك على ما أرسلت به وموازروك على ذلك؛ ولهذا بعثهم دعاةً إلى الناس في بلاد الشام في الإسرائيليين واليونانيين. وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في أيام الحج: (من رجلٌ يئويني حتى أبلغ رسالة ربي، فإن قريشًا قد منعوني أن أبلغ رسالة ربي) حتى قيض الله عز وجل له الأوس والخزرج من أهل المدينة، فبايعوه ووازروه، وشارطوه أن يمنعوه من الأسود والأحمر إن هو هاجر إليهم، فلما هاجر إليهم بمن معه من أصحابه وفوا له بما عاهدوا الله عليه؛ ولهذا سماهم الله ورسوله: الأنصار، وصار ذلك علمًا عليهم، رضي الله عنهم وأرضاهم»86.

«والتشبيه بدعوة عيسى ابن مريم للحواريين وجواب الحواريين تشبيه تمثيلٍ، أي كونوا عندما يدعوكم محمد صلى الله عليه وسلم إلى نصر الله كحالة قول عيسى ابن مريم للحواريين واستجابتهم له، والتشبيه لقصد التنظير والتأسي، فقد صدق الحواريون وعدهم وثبتوا على الدين، ولم تزعزعهم الفتن والتعذيب»87.

الصفة الثانية: أنهم مؤمنون مسلمون.

أما قوله تعالى: ( ) فهذا يجري مجرى ذكر العلة، والمعنى يجب علينا أن نكون من أنصار الله، لأجل أنا آمنا بالله، فإن الإيمان بالله يوجب نصرة دين الله، والذب عن أوليائه، والمحاربة مع أعدائه، ثم قالوا: ( ﯿ ) وذلك؛ لأن إشهادهم عيسى عليه السلام على أنفسهم، إشهادٌ لله تعالى أيضًا، ثم فيه قولان:

الأول: المراد واشهد أنا منقادون لما تريده منا في نصرتك، والذب عنك، مستسلمون لأمر الله تعالى فيه.

الثاني: أن ذلك إقرارٌ منهم بأن دينهم الإسلام، وأنه دين كل الأنبياء صلوات الله عليهم88.

وقد جاء ذكر الحواريين أيضًا مقرونا بإقرارهم بالإيمان والإشهاد عليه، قال تعالى: ( ) [المائدة: ١١١].

وقد جاءت هذه الآية في معرض ذكر الله عز وجل لنعمه على عبده ورسوله المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، «أي: واذكر نعمتي عليك حين ألهمت الحواريين أن يؤمنوا بك، وقد كذبك جمهور بني إسرائيل، فجعلتهم أنصارًا لك يؤيدون حجتك وينشرون دعوتك. والوحي في أصل اللغة: الإشارة السريعة الخفية، أو الإعلام بالشيء بسرعةٍ وخفاءٍ»89.

وفي المراد بالوحي إلى الحواريين في هذه الآية قال ابن عطية: «وبالجملة فهو إلقاء معنى في خفاء، أوصله تعالى إلى نفوسهم كيف شاء»90.

«وهذا الإيحاء إلى الحواريين هو من نعم الله على عيسى بأن جعل له أتباعًا يصدقونه ويعملون بما جاء به»91.

«وإنما ذكر هذا في معرض تعديد النعم؛ لأن صيرورة الإنسان مقبول القول عند الناس محبوبًا في قلوبهم من أعظم نعم الله على الإنسان»92.

«وقد حكى الله عنهم هنا أنهم قالوا: آمنا، أي: بالله ورسوله عيسى عليه السلام، وأشهدوا الله على أنفسهم أنهم مسلمون أي: مخلصون في إيمانهم، مذعنون لما يترتب عليه من الأمر والنهي»93.

«وقول الحواريين، () يحتمل أن يكون مخاطبة منهم لله تعالى، ويحتمل أن يكون لعيسى عليه السلام»94.

«وذكر تعالى أنه لما ألقى ذلك الوحي في قلوبهم، آمنوا وأسلموا، وإنما قدم ذكر الإيمان على الإسلام؛ لأن الإيمان صفة القلب والإسلام عبارةٌ عن الانقياد والخضوع في الظاهر، يعني: آمنوا بقلوبهم وانقادوا بظواهرهم»95.

«وسمى إيمانهم إسلامًا؛ لأنه كان تصديقًا راسخًا قد ارتفعوا به عن مرتبة إيمان عامة من آمن بالمسيح غيرهم، فكانوا مماثلين لإيمان عيسى، وهو إيمان الأنبياء والصديقين»96.

الصفة الثالثة: أنهم متبعون لرسولهم.

ويدل عليه «ما حكاه القرآن من قولهم: ( ) [آل عمران: ٥٣].

وذلك أن القوم آمنوا بالله حين قالوا: في الآية المتقدمة آمنا بالله، ثم آمنوا بكتب الله تعالى حيث قالوا: آمنا بما أنزلت، وآمنوا برسول الله حيث قالوا: واتبعنا الرسول، فعند ذلك طلبوا الزلفة والثواب، فقالوا ( ) وهذا يقتضي أن يكون للشاهدين فضلٌ يزيد على فضل الحواريين، ويفضل على درجته؛ لأنهم هم المخصوصون بأداء الشهادة»97.

الصفة الرابعة: أنهم قريبون من المؤمنين.

وقد دل عليها قوله تعالى: ( ﯡﯢ) [المائدة: ٨٢].

وقد اختلف فيمن نزلت فيهم هذه الآية على أقوال:

الأول: أنها نزلت في النجاشي ملك الحبشة وأصحابٍ له أسلموا معه.

قال عطاء: هم ناس من الحبشة آمنوا، إذ جاءتهم مهاجرة المؤمنين98.

قال أبو حيان: «قيل: هو النجاشي وأصحابه تلا عليهم جعفر بن أبي طالبٍ حين هاجر إلى الحبشة سورة مريم فآمنوا وفاضت أعينهم من الدمع99.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباسٍ: نزلت هذه الآيات في النجاشي وأصحابه، الذين حين تلا عليهم جعفر بن أبي طالبٍ بالحبشة القرآن بكوا حتى أخضلوا لحاهم.

قال ابن كثير: وهذا القول فيه نظرٌ؛ لأن هذه الآية مدنيةٌ، وقصة جعفرٍ مع النجاشي قبل الهجرة100.

الثاني: قيل: إن هذه الآية والتي بعدها نزلت في نفرٍ قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصارى الحبشة، فلما سمعوا القرآن أسلموا واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم101.

وقال سعيد بن جبير: بعث النجاشي قومًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلموا، فنزلت فيهم هذه الآية والتي بعدها102.

قال أبو حيان: «وقيل: هم وفد النجاشي مع جعفرٍ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانوا سبعين بعثهم إلى الرسول عليهم ثياب الصوف، اثنان وستون من الحبشة، وثمانيةٌ من الشام، وهم بحير الراهب، وإدريس، وأشرف، وثمامة، وقثم، ودريدٌ، وأيمن، فقرأ عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم يس، فبكوا وآمنوا وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى، فأنزل الله فيهم هذه الآية»103.

وقال سعيد بن جبير والسدي وغيرهما: نزلت في وفد بعثهم النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليسمعوا كلامه، ويروا صفاته، فلما قرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم القرآن أسلموا وبكوا وخشعوا، ثم رجعوا إلى النجاشي فأخبروه.. ثم اختلف في عدة هذا الوفد، فقيل: اثنا عشر، سبعة قساوسةٍ وخمسة رهابين. وقيل بالعكس. وقيل: خمسون. وقيل: بضعٌ وستون. وقيل: سبعون رجلًا. فالله أعلم104.

الثالث: روي عن مقاتلٍ والكلبي أنهم كانوا أربعين من بني الحارث بن كعبٍ من نجران، واثنين وثمانين من الحبشة، وثمانيةً وستين من الشام105.

وقال قتادة: هم قومٌ كانوا على دين عيسى ابن مريم، فلما رأوا المسلمين وسمعوا القرآن أسلموا ولم يتلعثموا106.

قال ابن الجوزي: «فأما الذين قالوا: إنا نصارى، فهل هذا عام في كل النصارى أم خاص؟ فيه قولان:

أحدهما: أنه خاص، ثم فيه قولان:

أحدهما: أنه أراد النجاشي وأصحابه لما أسلموا، قاله ابن عباس وابن جبير.

والثاني: أنهم قوم من النصارى كانوا متمسكين بشريعة عيسى، فلما جاء محمد عليه السلام أسلموا، قاله قتادة.

والقول الثاني: أنه عام. قال الزجاج: يجوز أن يراد به النصارى؛ لأنهم كانوا أقل مظاهرةً للمشركين من اليهود»107.

قال أبو جعفر الطبري: «والصواب في ذلك من القول عندي: أن الله تعالى وصف صفة قوم قالوا: إنا نصارى، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم يجدهم أقرب الناس ودادًا لأهل الإيمان بالله ورسوله، ولم يسم لنا أسماءهم، وقد يجوز أن يكون أريد بذلك أصحاب النجاشي، ويجوز أن يكون أريد به قومٌ كانوا على شريعة عيسى، فأدركهم الإسلام فأسلموا لما سمعوا القرآن وعرفوا أنه الحق، ولم يستكبروا عنه»108.

ومعنى قوله تعالى: ( ﯡﯢ) «أي: هم ألين عريكةً وأقرب ودًا، ولم يصفهم بالود؛ إنما جعلهم أقرب من اليهود والمشركين، وهي أمةٌ لهم الوفاء والخلال الأربع التي ذكرها عمرو بن العاص في صحيح مسلمٍ، ويعظمون من أهل الإسلام من استشعروا منه دينًا وإيمانًا، ويبغضون أهل الفسق، فإذا سالموا فسلمهم صافٍ، وإذا حاربوا فحربهم مدافعةٌ؛ لأن شرعهم لا يأمرهم بذلك، وحين غلب الروم فارس سر رسول الله صلى الله عليه وسلم لغلبة أهل الكتاب لأهل عبادة النار، ولإهلاك العدو الأكبر بالعدو الأصغر؛ إذ كان مخوفًا على أهل الإسلام، واليهود ليسوا على شيءٍ من أخلاق النصارى، بل شأنهم الخبث واللي بالألسنة، وفي خلال إحسانك إلى اليهودي يترقب ما يغتالك به، ألا ترى إلى ما حكى تعالى عنهم ذلك بأنهم قالوا: ليس علينا في الأميين سبيلٌ...

وظاهر الآية يدل على أن النصارى أصلح حالًا من اليهود وأقرب إلى المؤمنين مودةً، وعلى هذا الظاهر فسر الآية من وقفنا على كلامه، وقد ذكر المفسرون فيما تقدم ما فضل به النصارى على اليهود من كرم الأخلاق، والدخول في الإسلام سريعًا، وليس الكلام واردًا بسبب العقائد، وإنما ورد بسبب الانفعال للمسلمين»109.

وقال ابن كثير: «وقوله: ( ﯡﯢ) أي: الذين زعموا أنهم نصارى من أتباع المسيح وعلى منهاج إنجيله، فيهم مودةٌ للإسلام وأهله في الجملة، وما ذاك إلا لما في قلوبهم، إذ كانوا على دين المسيح من الرقة والرأفة، كما قال تعالى: ( ) [الحديد: ٢٧]. وفي كتابهم: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر. وليس القتال مشروعًا في ملتهم»110.

وقال ابن عطية: «وفي قوله تعالى: ( ﯡﯢ) إشارةٌ إلى أن المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم من النصارى ليسوا على حقيقة النصرانية، بل كونهم نصارى قول منهم وزعم»111.

قال الشيخ محمد رشيد رضا: «لما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم كتب الدعوة الإسلامية إلى الملوك ورؤساء الشعوب، كان النصارى منهم أحسنهم ردًا؛ فهرقل ملك الروم في الشام حاول إقناع رعيته بقبول الإسلام، فلما لم يقبلوا لجمودهم على التقليد، وعدم فقههم حقيقة الدين الجديد، اكتفى بالرد الحسن.

والمقوقس عظيم القبط في مصر كان أحسن منه ردًا، وإن لم يكن أكثر إلى الإسلام ميلًا، وأرسل للنبي صلى الله عليه وسلم هديةً حسنةً.

ثم لما فتحت مصر والشام عرف أهلها مزية الإسلام، دخلوا في دين الله أفواجًا، وكان القبط أسرع له قبولًا»112.

الصفة الخامسة: الخشية والانقطاع للعبادة.

«ثم أخبر أن من هذه الطائفة علماء وزهادًا ومتواضعين، وسريعي استجابةٍ للإسلام، وكثيري بكاءٍ عند سماع القرآن، واليهود بخلاف ذلك، والوجود يصدق قرب النصارى من المسلمين وبعد اليهود، ولهذا قال تعالى: ( ) [المائدة: ٨٢].

أي: يوجد فيهم القسيسون، وهم خطباؤهم وعلماؤهم، واحدهم: قسيسٌ وقس أيضًا، وقد يجمع على قسوسٍ-والرهبان: جمع راهبٍ، وهو: العابد. مشتقٌ من الرهبة، وهي الخوف، كراكبٍ وركبانٍ، وفارسٍ وفرسانٍ»113.

«وقوله تعالى: ( ) معناه: ذلك بأن منهم أهل خشية وانقطاع إلى الله وعبادة وإن لم يكونوا على هدى، فهم يميلون إلى أهل العبادة والخشية»114.

قال الشيخ رشيد رضا: «أي: ذلك الذي ذكر من كون النصارى أقرب مودةً للذين آمنوا بسبب أن منهم () يتولون تعليمهم وتربيتهم الدينية، () يمثلون فيهم الزهد، وترك نعيم الدنيا، والخوف من الله عز وجل، والانقطاع لعبادته، وأنهم لا يستكبرون عن الإذعان للحق إذا ظهر لهم أنه الحق،؛ لأنه أشهر آداب دينهم التواضع والتذلل، وقبول كل سلطةٍ والخضوع لكل حاكمٍ.

بل من المشهور فيها: الأمر بمحبة الأعداء، وإدارة الخد الأيسر لمن ضرب الخد الأيمن.

فتداول هذه الوصايا ووجود أولئك القسيسين والرهبان، لا بد أن يؤثر في نفوس جمهور الأمة وسوادها، فيضعف صفة الاستكبار عن قبول الحق فيها، وقد عهد من النصارى قبول سلطة المخالف لهم طوعًا واختيارًا، والرضاء بها سرًا وجهارًا»115.

«فإن قيل: كيف مدحهم الله تعالى بذلك مع قوله ( ) [الحديد: ٢٧].

وقوله عليه الصلاة والسلام: (لا رهبانية في الإسلام) قلنا: إن ذلك صار ممدوحًا في مقابلة طريقة اليهود في القساوة والغلظة، ولا يلزم من هذا القدر كونه ممدوحًا على الإطلاق»116.

قال ابن عاشور: «وإنما كان وجود القسيسين والرهبان بينهم سببًا في اقتراب مودتهم من المؤمنين لما هو معروفٌ بين العرب من حسن أخلاق القسيسين والرهبان وتواضعهم وتسامحهم. وكانوا منتشرين في جهاتٍ كثيرةٍ من بلاد العرب يعمرون الأديرة والصوامع والبيع، وأكثرهم من عرب الشام الذين بلغتهم دعوة النصرانية على طريق الروم، فقد عرفهم العرب بالزهد ومسالمة الناس»117.

الصفة السادسة: التواضع وعدم الاستكبار.

قوله تعالى: ( ) [المائدة: ٨٢].

«والاستكبار: السين والتاء فيه؛ للمبالغة. وهو يطلق على التكبر والتعاظم، ويطلق على المكابرة وكراهية الحق، وهما متلازمان.

فالمراد من قوله: ( ) أنهم متواضعون منصفون، وضمير وأنهم لا يستكبرون يجوز أن يعود إلى ما عاد إليه ضمير بأن منهم، أي: وأن الذين قالوا إنا نصارى لا يستكبرون.

فيكون قد أثبت التواضع لجميع أهل ملة النصرانية في ذلك العصر، وقد كان نصارى العرب متحلين بمكارم من الأخلاق.

وظاهر قوله: ( ﯡﯢ) أن هذا الخلق وصفٌ للنصارى كلهم من حيث إنهم نصارى، فيتعين أن يحمل الموصول على العموم العرفي، وهم نصارى العرب، فإن اتباعهم النصرانية على ضعفهم فيها ضم إلى مكارم أخلاقهم العربية مكارم أخلاقٍ دينيةٍ، كما كان عليه زهيرٌ ولبيدٌ وورقة بن نوفل وأضرابهم»118.

الصفة السابعة: الانقياد للحق واتباعه.

«ثم وصفهم بالانقياد للحق واتباعه والإنصاف، فقال: ( ﭟﭠ ) [المائدة: ٨٣٨٤]. أي: مما عندهم من البشارة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم ( ) أي: مع من يشهد بصحة هذا ويؤمن به»119.

وقال الشيخ محمد رشيد رضا: «( ) أي: وإذا سمع أولئك الذين قالوا إنا نصارى ما أنزل إلى الرسول الكامل محمدٍ صلى الله عليه وسلم الذي أكمل به الدين، وبعث رحمةً للعالمين، ترى أيها الناظر إليهم أعينهم تفيض من الدمع، أي: تمتلئ دمعًا حتى يتدفق الدمع من جوانبها لكثرته، أو حتى كأن الأعين ذابت وصارت دمعًا جاريًا، ذلك من أجل ما منع غيرهم من العتو والاستكبار، قوله: ( ) بيانٌ لقوله: ( ) وقيل: إن (من) فيه للتبعيض، أي: إن أعينهم فاضت عبرةً ودموعًا، عبرةً منهم وخشوعًا؛ لمعرفتهم بعض الحق، إذ سمعوا بعض الآيات دون بعضٍ، فكيف لو عرفوا الحق كله بسماع جميع القرآن، ومعرفة ما جاءت به السنة من الأسوة الحسنة البيان، وهذا القول إنما يصح بتطبيقه على واقعةٍ معينةٍ كالذي يسمع في النجاشي وجماعته، وأما ظاهر الجملة الشرطية فهو بيان ما يكون من شأنهم عند سماع القرآن، وهو العبرة والاستعبار، والدموع الغزار»120.

قال أبو حيان: «هذا وصفٌ برقة القلوب والتأثر بسماع القرآن، والظاهر أن الضمير يعود على ( ) فيكون عامًا، ويكون قد أخبر عنهم بما يقع من بعضهم كما جرى للنجاشي، حيث تلا عليه جعفرٌ سورة مريم إلى قوله: ( ) [مريم: ٣٤وسورة طه إلى قوله: ( ) [طه: ٩] فبكى، وكذلك قومه الذين وفدوا على الرسول حين قرأ عليهم (يس) فبكوا»121.

قال الرازي: «وأما قوله ( ) ففيه وجهان:

الأول: المراد أن أعينهم تمتلئ من الدمع حتى تفيض؛ لأن الفيض أن يمتلئ الإناء وغيره حتى يطلع ما فيه من جوانبه.

الثاني: أن يكون المراد المبالغة في وصفهم بالبكاء، فجعلت أعينهم كأنها تفيض بأنفسها»122.

«ثم بين تعالى ما يكون من مقالهم، بعد بيان ما يكون من حالهم فقال: ( ) أي: يقولون هذا القول يريدون به إنشاء الإيمان، والتضرع إلى الله تعالى بأن يقبله منهم ويكتبهم مع أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، الذين جعلهم الله تعالى كالرسل شهداء على الناس، وإنما يقولون ذلك؛ لأنهم كانوا يعلمون من كتبهم، أو مما يتناقلونه عن سلفهم، أن النبي الأخير الذي يكمل الله به الدين يكون متبعوه شهداء على الناس، أو المعنى أنهم بدخولهم في هذه الأمة يكتبون من الشاهدين، فذكر الله الأمة بأشرف أوصافها.

قال ابن عباسٍ رضي الله عنه: إن الشاهدين هنا هم الشهداء في قوله تعالى: ( ) [البقرة: ١٤٣]»123.

قال ابن الجوزي: «قوله تعالى: ( )، أي: مع من يشهد بالحق.

وللمفسرين في المراد بالشاهدين هاهنا أربعة أقوال:

أحدها: محمد وأمته، رواه علي بن أبي طلحة، وعكرمة عن ابن عباس.

والثاني: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

والثالث: الذين يشهدون بالإيمان، قاله الحسن.

والرابع: الأنبياء والمؤمنون، قاله الزجاج»124.

( ) «هذا تتمة قولهم، والمعنى: أي مانعٍ يمنعنا من الإيمان بالله وحده وبما جاءنا من الحق على لسان هذا الرسول، بعد أن ظهر لنا أنه البارقليط روح الحق الذي بشر به المسيح، والحال أننا نطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين، والذين صلحت أنفسهم بالعقائد الصحيحة، والفضائل الكاملة، والعبادات الخاصة، والمعاملات المستقيمة، وهم أتباع هذا النبي الكريم، الذين رأينا أثر صلاحهم بأعيننا بعد ما كان فسادهم في جاهليتهم ما كان؟ أي: لا مانع من هذا الإيمان بعد تحقيق موجبه، وقيام سببه، فسروا القوم الصالحين بأصحاب الرسول، وهو متعينٌ بالنسبة إلى من آمن من نصارى الحبشة، وكل من سار على طريقهم يعد منهم ويحشر معهم»125.

قال ابن كثير: «وهذا الصنف من النصارى هم المذكورون في قوله عز وجل ( ﯝﯞ ﯣﯤ ) [آل عمران: ١٩٩].

وهم الذين قال الله فيهم: ( ﭿ ) [القصص: ٥٢-٥٥]»126.

الصفة الثامنة: الرأفة والرحمة ورقة القلب.

وقد جاء في وصف أتباع عيسى عليه السلام أيضًا قوله تعالى: ( ﮟﮠ ﮥﮦ ) [الحديد: ٢٧].

قال الشوكاني: «الذين اتبعوه هم الحواريون، جعل الله في قلوبهم مودةً لبعضهم البعض، ورحمةً يتراحمون بها، بخلاف اليهود فإنهم ليسوا كذلك، وأصل الرأفة: اللين، والرحمة: الشفقة، وقيل: الرأفة أشد الرحمة»127.

«ومعنى جعل الرأفة والرحمة في قلوب الذين اتبعوه: أن تعاليم الإنجيل الذي آتاه الله عيسى أمرتهم بالتخلق بالرأفة والرحمة فعملوا بها، أو أن ارتياضهم بسيرة عيسى عليه السلام أرسخ ذلك في قلوبهم وذلك بجعل الله تعالى ؛ لأنه أمرهم به ويسره عليهم، ذلك أن عيسى بعث؛ لتهذيب نفوس اليهود واقتلاع القسوة من قلوبهم التي تخلقوا بها في أجيالٍ طويلةٍ.

قال تعالى: ( ) [البقرة: ٧٤].

والرأفة: الرحمة المتعلقة بدفع الأذى والضر فهي رحمةٌ خاصةٌ. . والرحمة: العطف والملاينة، فعطف الرحمة على الرأفة من عطف العام على الخاص لاستيعاب أنواعه بعد أن اهتم ببعضها»128.

«قال مقاتلٌ: المراد من الرأفة والرحمة هو أنهم كانوا متوادين بعضهم مع بعضٍ، كما وصف الله أصحاب محمدٍ عليه الصلاة والسلام بذلك في قوله: ( ) [الفتح: ٢٩]»129.

وقال الألوسي: «والرأفة في المشهور: الرحمة، لكن قال بعض الأفاضل: إنها إذا ذكرت معها يراد بالرأفة ما فيه درء الشر ورأب الصدع، وبالرحمة ما فيه جلب الخير ولذا ترى في الأغلب تقديم الرأفة على الرحمة وذلك؛ لأن درء المفاسد أهم من جلب المصالح»130.

«وقيل: هذا إشارةٌ إلى أنهم أمروا في الإنجيل بالصلح وترك إيذاء الناس وألان الله قلوبهم لذلك، بخلاف اليهود الذين قست قلوبهم وحرفوا الكلم عن مواضعه»131.

«وخصت الرهبانية بالابتداع؛ لأن الرأفة والرحمة في القلب لا تكسب للإنسان فيها، بخلاف الرهبانية، فإنها أفعال بدنٍ مع شيءٍ في القلب، ففيها موضعٌ للتكسب.

قال قتادة: الرأفة والرحمة من الله، والرهبانية هم ابتدعوها.

والرهبانية: رفض الدنيا وشهواتها من النساء وغيرهن واتخاذ الصوامع.

وجعل أبو عليٍ الفارسي () مقتطعةً من العطف على ما قبلها من ( )، فانتصب عنده ورهبانيةً على إضمار فعلٍ يفسره ما بعده، فهو من باب الاشتغال، أي: وابتدعوا رهبانيةً ابتدعوها»132.

تحريف الإنجيل

سبق أن ذكرنا أن الإنجيل المنزل من عند الله على المسيح عليه السلام قد تعرض للتحريف والتغيير والتبديل، حتى لقد صار الآن مفقودا كله أو أكثره، وأن النصارى بعد زمن المسيح قد استبدلوه بصحائف وكتب كتبوها بأيديهم سموها أناجيل، وادعوا أنها وحي من الله إلى كاتبيها، وهم في زعمهم قديسون من تلاميذ المسيح أو تلاميذ تلاميذه.

والأناجيل المعتبرة عندهم أربعة: إنجيل متى، وإنجيل مرقس، وإنجيل لوقا، وإنجيل يوحنا، بالإضافة إلى سفر أعمال الرسل الذي كتبه لوقا كما يزعمون، ومن هذه الأناجيل الأربعة وهذا السفر يتكون ما يعرف بالأسفار التاريخية من العهد الجديد، تليها إحدى وعشرين رسالة من بولس إلى المدن النصرانية تعرف بالأسفار التعليمية، وفي النهاية تأتي رؤيا يوحنا اللاهوتي، وهي عبارة عن رؤيا يقظة أو نبوءات منسوبة إلى يوحنا، ومن كل ما سبق يتكون ما يعرف عندهم بالعهد الجديد133.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وأما الأناجيل التي بأيدي النصارى: فهي أربعة أناجيل؛ إنجيل متى ويوحنا ولوقا ومرقس، وهم متفقون على أن لوقا ومرقس لم يريا المسيح، وإنما رآه متى ويوحنا، وأن هذه المقالات الأربعة التي يسمونها الإنجيل، وقد يسمون كل واحدٍ منهم إنجيلًا، إنما كتبها هؤلاء بعد أن رفع المسيح، فلم يذكروا فيها أنها كلام الله، ولا أن المسيح، بلغها عن الله، بل نقلوا فيها أشياء من كلام المسيح، وأشياء من أفعاله ومعجزاته، وذكروا أنهم لم ينقلوا كل ما سمعوه منه ورأوه، فكانت من جنس ما يرويه أهل الحديث والسير والمغازي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أقواله وأفعاله التي ليست قرآنًا، فالأناجيل التي بأيديهم شبه كتاب السيرة وكتب الحديث، أو مثل هذه الكتب، وإن كان غالبها صحيحًا»134.

وهذه الأناجيل الأربعة التي يقدسها النصارى الآن تسوق قصة المسيح من ولادته إلى صلبه في زعمهم، ومن غير المعقول أن تكون تلك القصة وحيًا تلقاه المسيح من ربه، وعلمه حوارييه واستكتبهم إياه، إن كل عاقل يجزم أن المسيح لم يقرأ هذه الأناجيل في حياته، فكيف يقال بعد ذلك إنها مقدسة؟ وتلك الأناجيل المزعومة مقطوعة السند إلى مؤلفيها، بل إن نسبتها إليهم قائمة على الظن وهو لا يغني من الحق شيئا135.

«ومكان الأناجيل في النصرانية مكان القطب والعماد، وإذا كانت شخصية المسيح وما حاطوها به من أفكار هي شعار المسيحية، فإن هذه الأناجيل هي المشتملة على أخبار تلك الشخصية، من وقت الحمل إلى وقت صلبه في اعتقادهم وقيامته من قبره بعد ثلاث ليال، ثم رفعه بعد أربعين ليلة، وهي بهذا تشتمل على عقيدة ألوهية المسيح في زعمهم، والصلب والفداء، أي: إنها تشتمل على لب المسيحية في نظرهم بعد المسيح ومعناها، وهذه الأناجيل الأربعة هي التي تعترف بها الكنائس، وتقرها الفرق المسيحية وتأخذ بها، ولكن التاريخ يروى لنا أنه كانت في العصور الغابرة أناجيل أخرى، قد أخذت بها فرق قديمة، وراجت عندها، ولم تعتنق كل فرقة إنجيلها، فعند كل من أصحاب مرقيون، وأصحاب ديسان إنجيل يخالف بعضه هذه الأناجيل، ولأصحاب ماني إنجيل يخالف هذه الأربعة، وهو الصحيح في زعمهم، وهناك إنجيل يقال له إنجيل السبعين ينسب إلى تلامس، والنصارى ينكرونه، وهناك إنجيل اشتهر باسم التذكرة، وإنجيل سرن تهس، ولقد كثرت الأناجيل كثرة عظيمة، وأجمع على ذلك مؤرخو النصرانية، ثم أرادت الكنيسة في آخر القرن الثاني الميلادي، أو أوائل القرن الرابع أن تحافظ على الأناجيل الصادقة -في اعتقادها- فاختارت هذه الأناجيل الأربعة من الأناجيل الرائجة إبان ذلك، ولكن يذكر بعض المؤرخين إنه لم توجد عبارة تشير إلى وجود أناجيل متى ومرقس ولوقا ويوحنا قبل آخر القرن الثالث. وأول من ذكر هذه الأناجيل الأربعة أرينيوس في سنة ٢٠٩. ثم جاء من بعده كليمنس اسكندريانوس في سنة ٢١٦، وأظهر أن هذه الأناجيل الأربعة واجبة التسليم، ولم تكتف الكنيسة باختيار هذه الأناجيل الأربعة، بل أرادت الناس على قبولها؛ لاعتقادها صحتها، ورفض غيرها، وتم لها ما أرادت؛ فصارت هذه الأناجيل هي المعتبرة دون سواها»136.

وقد أخبر الله عز وجل في القرآن الكريم أن أهل الكتاب قد غيروا في كتبهم وبدلوا وحرفوا.

قال تعالى: ( ﭣﭤ ﭻﭼ ﭿ ﮋﮌ ) [المائدة: ١٤ ١٦].

قال الفخر الرازي: «المراد أن سبيل النصارى مثل سبيل اليهود في نقض المواثيق من عند الله، وإنما قال: ( ) ولم يقل: ومن النصارى، وذلك؛ لأنهم إنما سموا أنفسهم بهذا الاسم ادعاءً لنصرة الله تعالى، وهم الذين قالوا لعيسى: نحن أنصار الله، فكان هذا الاسم في الحقيقة اسم مدحٍ، فبين الله تعالى أنهم يدعون هذه الصفة، ولكنهم ليسوا موصوفين بها عند الله تعالى، وقوله: ( ) أي: مكتوبٌ في الإنجيل أن يؤمنوا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وتنكير الحظ في الآية يدل على أن المراد به حظٌ واحدٌ، وهو الذي ذكرناه من الإيمان بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم»137.

قال الشيخ محمد رشيد رضا: «وقد أخبرنا سبحانه وتعالى أن النصارى نسوا حظًا مما ذكروا به كاليهود، وهم أجدر بذلك، فإن التوراة كتبت في زمن نزولها، وكان الألوف من الناس يعملون بها، ثم فقدت، والكثير من أحكامها محفوظٌ معروفٌ، ولا ثقة بقول بعض علماء الإفرنج: إن الكتابة لم تكن معروفةً في زمن موسى عليه السلام.

وأما كتب النصارى فلم تعرف وتشهر إلا في القرن الرابع للمسيح؛ لأن أتباع المسيح كانوا مضطهدين بين اليهود والرومان، فلما أمنوا باعتناق الملك قسطنطين النصرانية سياسةً ظهرت كتبهم، ومنها تواريخ المسيح المشتملة على بعض كلامه الذي هو إنجيله، وكانت كثيرةً، فتحكم فيها الرؤساء حتى اتفقوا على هذه الأربعة. فمن فهم ما قلناه في الفرق بين عرف القرآن وعرف القوم في مفهوم التوراة والإنجيل يتبين له أن ما جاء في القرآن هو الممحص للحقيقة التي أضاعها القوم، وهي ما يفهم من لفظ التوراة والإنجيل، ويصح أن يعد هذا التمحيص من آيات كون القرآن موحًى به من الله.

ولولا ذلك لما أمكن ذلك الأمي الذي لم يقرأ هذه الأسفار والأناجيل المعروفة ولا تواريخ أهلها؛ أن يعرف أنهم نسوا حظًا مما أوحي إليهم وأوتوا نصيبًا منه فقط، بل كان يجاريهم على ما هم عليه ويقول: الأناجيل لا الإنجيل. ثم إن من فهم هذا لا تروج عنده شبهات القسيسين الذين يوهمون عوام المسلمين أن ما في أيديهم من التوراة والأناجيل هي التي شهد بصدقها القرآن»138.

فالنصارى قد أخفوا ما عندهم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم.

قال تعالى: ( ﭗﭘ ) [البقرة: ١٤٦].

قال السعدي: «يخبر تعالى: أن أهل الكتاب قد تقرر عندهم، وعرفوا أن محمدًا رسول الله، وأن ما جاء به، حق وصدق، وتيقنوا ذلك، كما تيقنوا أبناءهم بحيث لا يشتبهون عليهم بغيرهم، فمعرفتهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وصلت إلى حد لا يشكون فيه ولا يمترون، ولكن فريقًا منهم - وهم أكثرهم - الذين كفروا به، كتموا هذه الشهادة مع تيقنها، وهم يعلمون»139.

كما حرفوا عقيدة التوحيد إلى التثليث، ولهذا بين القرآن الكريم عقب هذه الآيات فساد قولهم بألوهية المسيح وبنوته لله وحلول الله فيه، وبأن فيه جزءا إلهيًا أو طبيعة إلهية، إلى آخر ما لفقوه في إنجيلهم ونسبوه للمسيح، ورد على هذه الفرية بما يؤكد عبودية المسيح وأمه ومن في الأرض جميعًا لله.

قال تعالى: ( ﮡﮢ ﯕﯖ ﯜﯝ ﯠﯡ ) [المائدة: ١٧].

كما بين في موضع آخر من نفس السورة أن المسيح ما ادعى الألوهية أو البنوة لله، ولا قاله ولا نسبه إلى نفسه، ولا أمرهم بعبادته من دون الله أو مع الله، بل كل ما أمرهم به هو أن يعبدوا الله الذي هو ربه وربهم ورب العالمين، وتوعد من يشرك بالله بالحرمان من الجنة ودخول النار.

قال تعالى: ( ﭯﭰ ﭸﭹ ﭿ ﮄﮅ ﮋﮌ ﮒﮓ ﮙﮚ ) [المائدة: ٧٢ ٧٣].

قال القرطبي: «وهذا قول فرق النصارى من الملكية والنسطورية واليعقوبية؛ لأنهم يقولون: أبٌ وابنٌ وروح القدس إلهٌ واحدٌ، ولا يقولون: ثلاثة آلهةٍ، وهو معنى مذهبهم، وإنما يمتنعون من العبارة وهي لازمةٌ لهم. وما كان هكذا صح أن يحكى بالعبارة اللازمة، وذلك أنهم يقولون: إن الابن إلهٌ، والأب إلهٌ، وروح القدس إلهٌ.. فأكفرهم الله بقولهم هذا»140.

كما فند القرآن دعواهم ألوهية المسيح وأمه بما يثبت بشريتهما ويتعارض مع دعواهم ألوهيتهما من أحوالهما.

قال تعالى: ( ﯞﯟ ﯢﯣ ) [المائدة:٧٥].

قال الفخر الرازي: «واعلم أن المقصود من ذلك: الاستدلال على فساد قول النصارى، وبيانه من وجوهٍ:

الأول: أن كل من كان له أمٌ فقد حدث بعد أن لم يكن، وكل من كان كذلك كان مخلوقًا لا إلهًا.

والثاني: أنهما كانا محتاجين؛ لأنهما كانا محتاجين إلى الطعام أشد الحاجة، والإله هو الذي يكون غنيًا عن جميع الأشياء، فكيف يعقل أن يكون إلهًا.

الثالث: قال بعضهم: إن قوله كانا يأكلان الطعام كنايةٌ عن الحدث؛ لأن من أكل الطعام فإنه لا بد وأن يحدث. .

وبالجملة ففساد قول النصارى أظهر من أن يحتاج فيه إلى دليلٍ»141.

كما بين القرآن فساد زعمهم أن المسيح قد صلب، وقبر ومات وقام من بين الأموات في اليوم الثالث من دفنه، إلى آخر هذه العقائد الفاسدة والتحريفات التي بين القرآن زيفها وتحريفها.

قال تعالى: ( ﭿﮀ ﮇﮈ ﮋﮌ ﮐﮑ ﮙﮚ ) [النساء: ١٥٧ ١٥٨].

قال الشوكاني: «وما ادعوه من أنهم قتلوه قد اشتمل على بيان صفته وإيضاح حقيقته الإنجيل، وما فيه هو من تحريف النصارى، أبعدهم الله، فقد كذبوا، وصدق الله القائل في كتابه العزيز: ( ﭿﮀ) أي: ألقي شبهه على غيره وقيل: لم يكونوا يعرفون شخصه وقتلوا الذي قتلوه وهم شاكون فيه وإن الذين اختلفوا فيه أي: في شأن عيسى، فقال بعضهم: قتلناه، وقال من عاين رفعه إلى السماء: ما قتلناه، وقيل: إن الاختلاف بينهم هو: أن النسطورية من النصارى قالوا: صلب عيسى من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته، وقالت الملكانية: وقع القتل والصلب على المسيح بكماله ناسوته ولا هوته، ولهم من جنس هذا الاختلاف كلامٌ طويلٌ لا أصل له، ولهذا قال الله: وإن الذين اختلفوا فيه لفي شكٍ منه، أي: في ترددٍ لا يخرج إلى حيز الصحة، ولا إلى حيز البطلان في اعتقادهم، بل هم مترددون مرتابون في شكهم يعمهون، وفي جهلهم يتحيرون»142.

وقال تعالى: ( ﭷﭸ ﭿ ) [آل عمران: ٥٥].

قال ابن عاشور: «هذا حكايةٌ لأمر رفع المسيح وإخفائه عن أنظار أعدائه. وقدم الله في خطابه إعلامه بذلك استئناسًا له، إذ لم يتم ما يرغبه من هداية قومه، مع العلم بأنه يحب لقاء الله، وتبشيرًا له بأن الله مظهرٌ دينه؛ لأن غاية هم الرسول هو الهدى، وإبلاغ الشريعة»143.

صفات الرسول وأتباعه في الإنجيل

أولًا: تبشير الإنجيل بالرسول عليه السلام:

نص القرآن الكريم على أن الكتب السابقة ومن بينها الإنجيل قد بشرت بمبعث النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، وأن المسيح عليه السلام قد بشر أمته صراحة به ودلهم على اسمه وصفته، ذلك؛ لأن المسيح هو آخر رسول قبل رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وليس بينهما نبي.

قال تعالى: ( ﭨﭩ ) [الصف: ٦].

«يقول تعالى مخبرًا عن عناد بني إسرائيل المتقدمين، الذين دعاهم عيسى ابن مريم، وقال لهم: ( ) أي: أرسلني الله لأدعوكم إلى الخير وأنهاكم عن الشر، وأيدني بالبراهين الظاهرة، ومما يدل على صدقي كوني ( ) أي: جئت بما جاء به موسى من التوراة والشرائع السماوية، ولو كنت مدعيًا للنبوة، لجئت بغير ما جاءت به المرسلون، ومصدقًا لما بين يدي من التوارة أيضًا، أنها أخبرت بي وبشرت، فجئت وبعثت مصداقًا لها ( ) وهو: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب النبي الهاشمي، فعيسى عليه الصلاة والسلام، كالأنبياء يصدق بالنبي السابق، ويبشر بالنبي اللاحق، بخلاف الكذابين، فإنهم يناقضون الأنبياء أشد مناقضة، ويخالفونهم في الأوصاف والأخلاق، والأمر والنهي ( ) محمد صلى الله عليه وسلم الذي بشر به عيسى () أي: الأدلة الواضحة، الدالة على أنه هو، وأنه رسول الله حقًا»144.

«فعيسى، عليه السلام، وهو خاتم أنبياء بني إسرائيل، وقد أقام في ملأ بني إسرائيل مبشرًا بمحمدٍ، وهو أحمد، خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي لا رسالة بعده ولا نبوة، وما أحسن ما أورد البخاري الحديث الذي قال فيه: حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيبٌ، عن الزهري قال: أخبرني محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن لي أسماء: أنا محمدٌ، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب) 145 .

ورواه مسلمٌ، من حديث الزهري، به نحوه، وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا المسعودي، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن أبي موسى قال: سمى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه أسماءً، منها ما حفظنا فقال: (أنا محمدٌ، وأنا أحمد، والحاشر، والمقفي، ونبي الرحمة، والتوبة، والملحمة) 146»147.

وعن عرباض بن سارية، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إني عند الله مكتوبٌ لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدلٌ في طينته، وسأخبركم بأول ذلك: دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، والرؤيا التي رأت أمي، وكذلك أمهات النبيين يرين، إنها رأت حين وضعتني أنه خرج منها نورٌ أضاءت منه قصور الشام) 148.

وقد «بشر كل نبي قومه بنبينا صلى الله عليه وسلم، وأفرد الله سبحانه عيسى بالذكر في هذا الموضع؛ لأنه آخر نبي قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، فبين بذلك أن البشارة به عمت جميع الأنبياء واحدًا بعد واحد، حتى انتهت بعيسى عليه السلام»149.

قال ابن عاشور: «وإنما أخبرهم بمجيء رسولٍ من بعده؛ لأن بني إسرائيل لم يزالوا ينتظرون مجيء رسولٍ من الله يخلصهم من براثن المتسلطين عليهم، وهذا الانتظار ديدنهم، وهم موعودون لهذا المخلص لهم على لسان أنبيائهم بعد موسى، فكان وعد عيسى به كوعد من سبقه من أنبيائهم، وفاتحهم به في أول الدعوة اعتناءً بهذه الوصية، وفي الابتداء بها تنبيهٌ على أن ليس عيسى هو المخلص المنتظر، وأن المنتظر رسولٌ يأتي من بعده، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، ولعظم شأن هذا الرسول الموعود به أراد الله أن يقيم للأمم التي يظهر فيها علامات ودلائل ليتبينوا بها شخصه، فيكون انطباقها فاتحةً لإقبالهم على تلقي دعوته، وإنما يعرفها حق معرفتها الراسخون في الدين من أهل الكتاب؛ لأنهم الذين يرجع إليهم الدهماء من أهل ملتهم.

قال تعالى: ( ﭗﭘ ) [البقرة: ١٤٦].

وقال: ( ) [الرعد: ٤٣]»150.

«أما اسم أحمد فقد قال بعض المفسرين: إنه علمٌ منقولٌ من المضارع للمتكلم، أو من أحمد أفعل التفضيل»151

وقال بعضهم: «هو علمٌ منقولٌ من الصفة، وهي تحتمل أن تكون مبالغةً من الفاعل، فيكون معناها: أنه أكثر حمدًا لله من غيره، أو من المفعول، فيكون معناها: أنه يحمد بما فيه من خصال الخير أكثر مما يحمد غيره»152.

وقد مال القرطبي إلى القول الثاني ورجحه بقوله: «وأحمد: اسم نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو اسم علمٍ منقولٍ من صفةٍ لا من فعلٍ، فتلك الصفة أفعل التي يراد بها التفضيل. فمعنى أحمد أي: أحمد الحامدين لربه. والأنبياء -صلوات الله عليهم- كلهم حامدون الله، ونبينا أحمد أكثرهم حمدًا.

وأما محمدٌ فمنقولٌ من صفةٍ أيضًا، وهي في معنى محمودٍ، ولكن فيه معنى المبالغة والتكرار، فالمحمد هو الذي حمد مرةً بعد مرةٍ. كما أن المكرم من الكرم مرةً بعد مرةٍ، وكذلك الممدح ونحو ذلك، فاسم محمدٍ مطابقٌ لمعناه.

والله سبحانه سماه قبل أن يسمي به نفسه، فهذا علمٌ من أعلام نبوته، إذ كان اسمه صادقًا عليه، فهو محمودٌ في الدنيا لما هدي إليه ونفع به من العلم والحكمة، وهو محمودٌ في الآخرة بالشفاعة، فقد تكرر معنى الحمد كما يقتضي اللفظ، ثم إنه لم يكن محمدًا حتى كان أحمد، حمد ربه فنبأه وشرفه، فلذلك تقدم اسم أحمد على الاسم الذي هو محمدٌ، فذكره عيسى عليه السلام فقال: اسمه أحمد. وذكره موسى عليه السلام حين قال له ربه: تلك أمة أحمد، فقال: اللهم اجعلني من أمة أحمد. فبأحمد ذكره قبل أن يذكره بمحمدٍ؛ لأن حمده لربه كان قبل حمد الناس له، فلما وجد وبعث كان محمدًا بالفعل، وكذلك في الشفاعة يحمد ربه بالمحامد التي يفتحها عليه، فيكون أحمد الناس لربه ثم يشفع فيحمد على شفاعته»153.

وفي الصحيح: (لي خمسة أسماء: أنا محمدٌ، وأحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي تحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب) 154.

ومما يدل على ذكره صلى الله عليه وسلم والتبشير به في الإنجيل ووجوب اتباعه على من أدرك زمنه واستحقاقه للمدح.

ثانيًا: صفات الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم:

قوله تعالى: ( ﭿ ﮑﮒ ﮜﮝ ) [الأعراف: ١٥٧].

وقد نصت هذه الآية على أن التوراة والإنجيل قد ورد فيهما ذكر النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، ووصفه بصفات يعرفها بها كل من رآه ونظر في شرعه، كما نصت على الأمر باتباعه، ومدح من اتبعوه.

وقد فصل الفخر الرازي هذه الصفات تفصيلًا فقال: إنه تعالى وصف محمدًا صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بصفاتٍ تسعٍ:

الصفة الأولى: كونه رسولًا، وقد اختص هذا اللفظ بحسب العرف بمن أرسله الله إلى الخلق لتبليغ التكاليف.

الصفة الثانية: كونه نبيًا، وهو يدل على كونه رفيع القدر عند الله تعالى.

الصفة الثالثة: كونه أميًا.

قال الزجاج: معنى الأمي الذي هو على صفة أمة العرب، قال عليه الصلاة والسلام: (إنا أمةٌ أميةٌ لا نكتب ولا نحسب)155.

فالعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون ولا يقرءون، والنبي عليه الصلاة والسلام كان كذلك، فلهذا السبب وصفه بكونه أميًا، قال أهل التحقيق وكونه أميًا بهذا التفسير كان من جملة معجزاته.

الصفة الرابعة: قوله تعالى: ( ﭿ) وهذا يدل على أن نعته وصحة نبوته مكتوبٌ في التوراة والإنجيل؛ لأن ذلك لو لم يكن مكتوبًا لكان ذكر هذا الكلام من أعظم المنفرات لليهود النصارى عن قبول قوله؛ لأن الإصرار على الكذب والبهتان من أعظم المنفرات، والعاقل لا يسعى فيما يوجب نقصان حاله، وينفر الناس عن قبول قوله، فلما قال ذلك دل هذا على أن ذلك النعت كان مذكورًا في التوراة والإنجيل وذلك من أعظم الدلائل على صحة نبوته.

الصفة الخامسة: قوله: ( ) استئنافًا، ويجوز أن يكون المعنى: يجدونه مكتوبًا عندهم أنه يأمرهم بالمعروف.

الصفة السادسة: قوله: ( ) والمراد منه: عبادة الأوثان، والقول في صفات الله بغير علمٍ، والكفر بما أنزل الله على النبيين، وقطع الرحم، وعقوق الوالدين.

الصفة السابعة: قوله تعالى: ( ) من الناس من قال: المراد بالطيبات الأشياء التي حكم الله بحلها، وهذا بعيدٌ لوجهين، الأول: أن على هذا التقدير تصير الآية ويحل لهم المحللات وهذ محض التكرير. الثاني: أن على هذا التقدير تخرج الآية عن الفائدة؛ لأنا لا ندري أن الأشياء التي أحلها الله ما هي وكم هي؟ بل الواجب أن يكون المراد من الطيبات الأشياء المستطابة بحسب الطبع؛ وذلك لأن تناولها يفيد اللذة، والأصل في المنافع الحل فكانت هذه الآية دالةً على أن الأصل في كل ما تستطيبه النفس ويستلذه الطبع الحل إلا لدليلٍ منفصلٍ.

الصفة الثامنة: قوله تعالى: ( ) قال عطاءٌ عن ابن عباسٍ: يريد الميتة والدم وما ذكر في سورة المائدة إلى قوله: ذلكم فسقٌ، وأقول: كل ما يستخبثه الطبع وتستقذره النفس كان تناوله سببًا للألم، والأصل في المضار الحرمة، فكان مقتضاه أن كل ما يستخبثه الطبع فالأصل فيه الحرمة إلا لدليلٍ منفصلٍ.

الصفة التاسعة: قوله تعالى: ( ).

الإصر: الثقل الذي يأصر صاحبه، أي: يحبسه من الحراك لثقله، والمراد منه: أن شريعة موسى عليه السلام كانت شديدةً.

وقوله: ( ) المراد منه: الشدائد التي كانت في عباداتهم كقطع أثر البول، وقتل النفس في التوبة، وقطع الأعضاء الخاطئة، وتتبع العروق من اللحم وجعلها الله أغلالًا؛ لأن التحريم يمنع من الفعل، كما أن الغل يمنع عن الفعل، وقيل: كانت بنو إسرائيل إذا قامت إلى الصلاة لبسوا المسوح، وغلوا أيديهم إلى أعناقهم تواضعًا لله تعالى156.

وهذه الصفات غاية في إظهار صفة الرسول صلى الله عليه وسلم لكل من رآه وأدركه من أهل الكتاب، حتى كان أحدهم إذا رآه عرفه بصفاته المذكورة في كتبهم كما يعرف ابنه الذي من صلبه.

قال تعالى: ( ﭗﭘ ) [البقرة: ١٤٦].

فقد دلت هذه الآية على «أنهم يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم بما في كتبهم من البشارة به، ومن نعوته وصفاته التي لا تنطبق على غيره، وبما يظهر من آياته وآثار هدايته، كما يعرفون أبناءهم الذين يتولون تربيتهم وحياطتهم حتى لا يفوتهم من أمرهم شيءٌ. قال عبد الله بن سلامٍ رضي الله عنه - وكان من علماء اليهود وأحبارهم: - أنا أعلم به مني بابني، فقال له عمر رضي الله عنه: لم؟ قال: لأني لست أشك في محمدٍ أنه نبيٌ، فأما ولدي فلعل والدته خانت. فقد اعترف من هداه الله من أحبارهم كهذا العالم الجليل، وتميمٍ الداري من علماء النصارى أنهم عرفوه - صلى الله عليه وسلم- معرفةً لا يتطرق إليها الشك»157.

ثالثًا: صفات أتباعه:

وقد وصف الله أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في الإنجيل بصفات عظيمة، فقال تعالى: ( ﭿ ﮁﮂ) [الفتح: ٢٩].

«والمثل يطلق على الحالة العجيبة، ويطلق على النظير، أي المشابه»158.

«وقوله: ( ) يقول: وصفتهم في إنجيل عيسى صفة زرع أخرج شطأه، وهو فراخه، يقال منه: قد أشطأ الزرع: إذا فرخ، فهو يشطي إشطاء، وإنما مثلهم بالزرع المشطئ؛ لأنهم ابتدأوا في الدخول في الإسلام، وهم عدد قليلون، ثم جعلوا يتزايدون، ويدخل فيه الجماعة بعدهم، ثم الجماعة بعد الجماعة، حتى كثر عددهم، كما يحدث في أصل الزرع الفرخ منه، ثم الفرخ بعده حتى يكثر وينمي»159.

وهذا مثلٌ ضربه الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ إذ خرج وحده، فأيده بأصحابه، كما قوى الطاقة من الزرع بما نبت منها، حتى كبرت وغلظت واستحكمت، وقال قتادة: في الإنجيل: سيخرج قومٌ ينبتون نبات الزرع.

«وقوله تعالى: ()، هو على كل الأقوال وفي أي كتاب منزل: فرض مثل للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، في أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث وحده، فكان كالزرع حبة واحدة، ثم كثر المسلمون فهم كالشطء، وهو فراخ السنبلة التي تنبت حول الأصل، يقال: أشطأت الشجرة إذا خرجت غصونها، وأشطأ الزرع: إذا خرج شطأه»160.

وقوله تعالى: ( )، أي: وصفوا في الكتابين به ومثلوا بذلك؛ وإنما جعلوا كالزرع لأنه أول ما يخرج يكون ضعيفًا وله نموٌ إلى حد الكمال، فكذلك المؤمنون، والشطء الفرخ، و () يحتمل أن يكون المراد أخرج الشطء وآزر الشطء، وهو أقوى وأظهر، والكلام يتم عند قوله يعجب الزراع161.

«والضمير المنصوب في آزره عائدٌ على الزرع؛ لأن الزرع أول ما يطلع رقيق الأصل، فإذا خرجت فراخه غلظ أصله وتقوى، وكذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أقلةً ضعفاء، فلما كثروا وتقووا قاتلوا المشركين. وقال الحسن: آزره: قواه وشد أزره. وقال السدي: صار مثل الأصل في الطول. فاستغلظ: صار من الرقة إلى الغلظ. فاستوى: أي: تم نباته. على سوقه: جمع ساقٍ، كنايةٌ عن أصوله»162.

«أي: فكذلك أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم آزروه وأيدوه ونصروه، فهم معه كالشطء مع الزرع»163.

«وقال قتادة: مثل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الإنجيل مكتوبٌ أنه سيخرج من أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم قومٌ ينبتون نباتًا كالزرع، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر»164.

«( ): جملةٌ في موضع الحال، وإذا أعجب الزراع فهو أحرى أن يعجب غيرهم؛ لأنه لا عيب فيه، إذ قد أعجب العارفين بعيوب الزرع، ولو كان معيبًا لم يعجبهم، وهنا تم المثل. وليغيظ: متعلقٌ بمحذوفٍ يدل عليه الكلام قبله تقديره: جعلهم الله بهذه الصفة؛ ليغيظ بهم الكفار»165.

«قوله تعالى: (ﭿ ﮁﮂ) أي: إنما كثرهم وقواهم ليغيظ بهم الكفار، وقال مالك بن أنس: من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية. وقال ابن إدريس: لا آمن أن يكونوا قد ضارعوا الكفار، يعني الرافضة؛ لأن الله تعالى يقول: (ﭿ ﮁﮂ) »166.

وقال القرطبي: «وهذا مثلٌ ضربه الله تعالى لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: أنهم يكونون قليلًا ثم يزدادون ويكثرون، فكان النبي صلى الله عليه وسلم حين بدأ بالدعاء إلى دينه ضعيفًا، فأجابه الواحد بعد الواحد حتى قوي أمره، كالزرع يبدو بعد البذر ضعيفًا، فيقوى حالًا بعد حالٍ حتى يغلظ نباته وأفراخه. فكان هذا من أصح مثلٍ وأقوى بيانٍ»167.

فالصحابة رضي الله عنهم خلصت نياتهم وحسنت أعمالهم، فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم، وقال مالكٌ، رحمه الله: بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة الذين فتحوا الشام يقولون: «والله لهؤلاء خيرٌ من الحواريين فيما بلغنا». وصدقوا في ذلك، فإن هذه الأمة معظمةٌ في الكتب المتقدمة، وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نوه الله بذكرهم في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة168.

موضوعات ذات صلة:

أهل الكتاب، التوراة، عيسى عليه السلام، القرآن، الكتب المنزلة، النصارى


1 لسان العرب، ١١/٦٤٨.

2 التحرير والتنوير، ٣/١٤٩.

3 المصدر السابق.

4 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، ص ٦٨٨.

5 انظر: مختار الصحاح، الرازي، ص٣٠٥.

6 انظر: الصحاح، الجوهري، ١/٦٤، مجمل اللغة، ابن فارس، ١/٧٥٠.

7 انظر: التعليقات المختصرة على متن العقيدة الطحاوية، صالح الفوزان، ص٦٦.

8 البحر المحيط، أبو حيان، ٣/٥.

9 التحرير والتنوير، ٣/١٤٨.

10 المصدر السابق.

11 دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية، سعود الخلف، ص٧٤.

12 تفسير المنار، ٣/١٢٩.

13 مقاييس اللغة ٣/ ٤٥.

14 الكليات، ص٤٨٦.

15 مقاييس اللغة ٣/ ٣٣٤.

16 أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين، رقم ٢٩٣٠، ٢/ ٢٥٨.

17 التحرير والتنوير ٢٧/ ١٣٠.

18 تفسير المنار، ٣/٢٥٧.

19 أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة الإيمان، والإسلام، والقدر وعلامة الساعة، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، رقم ٨ .

20 تفسير القرآن العظيم، ١/ ٧٣٦.

21 تيسير الكريم الرحمن، ص٢٠٩.

22 معارج القبول، الحكمي، ٢/٦٧٢.

23 أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة، نخبة من العلماء، ص١٢٩.

24 انظر: معارج القبول، الحكمي، ٢/٦٧٢.

25 جامع البيان، الطبري، ٦/١٦٠.

26 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٦/٢٢١، تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٢٣٤.

27 تفسير المنار، ٦/٣٤٠.

28 المصدر السابق ٣/١٢٩.

29 تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص ٢٣٤.

30 جامع البيان، ١٠/٣٧٣.

31 البحر المحيط، أبو حيان، ٤/٢٧٨.

32 تفسير المنار، محمد رشيد رضا ٦/٣٣٢.

33 زاد المسير، ابن الجوزي ٣/١٣٠.

34 انظر: الجامع لأحكام القرآن، ١١/ ١٠٢

35 معالم التنزيل ١/١٤٠.

36 انظر: مفاتيح الغيب، ٣/٥٩٥.

37 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي، ١/٨٦.

38 مفاتيح الغيب، الرازي، ٣/٥٩٦.

39 مفاتيح الغيب، الرازي، ١٢/٣٧٠.

40 المحرر الوجيز، ابن عطية، ٢/١٩٩.

41 معالم التنزيل، البغوي، ١/٤٠٨.

42 المحرر الوجيز، ابن عطية، ١/٣٩٩.

43 تفسير المنار، ٦/٣٣٢.

44 جامع البيان، ١٠/٣٧٣.

45 مفاتيح الغيب، الرازي، ١٢/٣٧٠.

46 البحر المحيط، أبو حيان، ٤/٢٧٨.

47 تفسير المنار، محمد رشيد رضا، ٦/٣٣٢.

48 جامع البيان، الطبري، ١٠/٣٧٣.

49 انظر: المحرر الوجيز، ابن عطية، ٢/١٩٩، البحر المحيط، أبو حيان، ٤/٢٧٨.

50 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٣/١٢٦.

51 تفسير المنار، محمد رشيد رضا، ٦/٣٣٢.

52 البحر المحيط، أبو حيان، ٤/٢٧٨.

53 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٣/١٢٦.

54 التحرير والتنوير، ابن عاشور، ٦/٢١٩.

55 لباب التأويل، الخازن، ٢/٥٠.

56التحرير والتنوير ٦/٢١٩.

57 البحر المحيط، أبو حيان، ٤/ ٢٧٨.

58 مفاتيح الغيب، الرازي، ١٢/٣٧٠.

59 روح المعاني، ٣/٣١٩.

60 جامع البيان، الطبري، ١٠/٣٧٣.

61 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ١٢/٣٧٠، لباب التأويل، الخازن ٢/٥٠.

62 جامع البيان، الطبري، ١٠/٣٧٣.

63 تفسير المنار، محمد رشيد رضا ٦/٣٣٢.

64 انظر: روح المعاني، الألوسي ٣/٣٢٠، أنوار التنزيل، البيضاوي، ٢/١٢٩.

65 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مواقيت الصلاة، باب من أدرك ركعة من العصر قبل الركوع، رقم ٥٥٧.

66 الملل والنحل، ٢/١٥.

67 روح المعاني، ٣/٣٢٠.

68 المصدر السابق، ٣/٣١٩

69 جامع البيان، ١٨/١٩١.

70 زاد المسير، ١/١٤٠.

71 مفاتيح الغيب، ١٢/٣٧١.

72 تفسير المنار، ٦/٣٣٢.

73 روح المعاني، الألوسي، ٣/٣١٩.

74 التحرير والتنوير، ٦/٢٥٣.

75 جامع البيان، ١٠/٤٦٢- ٤٦٣.

76 مفاتيح الغيب، الرازي، ١٢/٣٩٨.

77 أخرجه أحمد في مسنده، ٢٢/٢٧٢، رقم ١٤٣٧٤.

وصححه الألباني في صحيح الجامع، ١/٦٦٩، رقم ٣٥٨٣.

78 زاد المسير، ابن الجوزي، ١/٢٨٦.

79 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٢/٤٥.

80 التحرير والتنوير، ٣/٢٥٥- ٢٥٦.

81 مفاتيح الغيب، ٨/٢٣٤.

82 جامع البيان، ٦/٤٤٣.

83 زاد المسير، ١/٢٨٥.

84 تفسير القرآن العظيم، ٢/٤٦.

85 مفاتيح الغيب، ٨/٢٣٤.

86 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٨/١١٣.

87 التحرير والتنوير، ابن عاشور، ٢٨/١٩٩.

88 المصدر السابق، ٨/٢٣٤.

89 انظر: تفسير المنار، محمد رشيد رضا، ٧/٢٠٧.

90 المحرر الوجيز، ٢/٢٥٩.

91 البحر المحيط، أبو حيان، ٤/٤٠٨.

92 مفاتيح الغيب، الرازي ١٢/٤٦١.

93 تفسير المنار، محمد رشيد رضا، ٧/٢٠٨.

94 المحرر الوجيز، ابن عطية، ٢/٢٥٩.

95 مفاتيح الغيب، الرازي، ١٢/٤٦١.

96 التحرير والتنوير، ابن عاشور، ٧/١٠٤.

97 المصدر السابق، ٨/٢٣٤.

98 انظر: جامع البيان، ١٠/٤٩٩.

99 البحر المحيط، ٤/٣٤٢.

100 تفسير القرآن العظيم، ٣/١٦٦.

101 جامع البيان، الطبري، ١٠/٤٩٩.

102 زاد المسير، ابن الجوزي، ١/٥٧٤.

103 البحر المحيط، ٤/٣٤٢.

104 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٣/١٦٦.

105 انظر: البحر المحيط، ٤/٣٤٢.

106 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٣/١٦٦.

107 زاد المسير، ١/٥٧٤.

108 جامع البيان، ١٠/٥٠١.

109 البحر المحيط، أبو حيان، ٤/٣٤٣.

110 تفسير القرآن العظيم، ٣/١٦٧ .

111 المحرر الوجيز، ٢/ ٢٢٦

112 تفسير المنار، ٧/٤،٧.

113 البحر المحيط، أبو حيان، ٤/٣٤٤.

114 المحرر الوجيز، ابن عطية، ٢/٢٢٦.

115 تفسير المنار، ٧/٧.

116 مفاتيح الغيب، الرازي، ١٢/٤١٤.

117 التحرير والتنوير، ٧/٧.

118 المصدر السابق، ٧/٨.

119 تفسير القرآن العظيم، ٣/١٦٨.

120 تفسير المنار، ٧/١١، ١٢.

121 البحر المحيط، ٤/٣٤٥.

122 مفاتيح الغيب، ١٢/٤١٤.

123 تفسير المنار، محمد رشيد رضا، ٧/١١.

124 زاد المسير، ١/٥٧٦.

125 تفسير المنار، ٧/١١، ١٢.

126 تفسير القرآن العظيم، ٣/١٦٨.

127 فتح القدير، ٥/٢١٣.

128 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٧/٤٢١.

129 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي، ٢٩/٤٧٣.

130 روح المعاني، ١٤/١٨٩.

131 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ١٧/٢٦٢.

132 البحر المحيط، أبو حيان، ١٠/١١٥.

133 انظر: المسيحية، أحمد شلبي، ص١٦٩.

134 الجواب الصحيح، ٣/٢١.

135 أصول النصرانية في الميزان، محمد سيد المسير، ص١١٧.

136 محاضرات في النصرانية، محمد أبو زهرة، ص٤٠-٤١.

137 مفاتيح الغيب، ١١/٣٢٦.

138 تفسير المنار، ٣/١٣٢.

139 تيسير الكريم الرحمن، ص٧٢.

140 الجامع لأحكام القرآن، ٦/٢٤٩- ٢٥٠.

141 مفاتيح الغيب، ١٢/٤٠٩- ٤١٠.

142 فتح القدير، ١/٦١٥- ٦١٦.

143 التحرير والتنوير، ٣/٢٥٧.

144 تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٨٥٩.

145 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب ما جاء في أسماء رسول الله،صلى الله عليه وسلم، رقم ٣٥٣٢، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب في أسمائه صلى الله عليه وسلم، رقم ٢٣٥٤.

146 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب في أسمائه صلى الله عليه وسلم، رقم ٢٣٥٥.

147 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٨/١٠٩.

148 أخرجه أحمد في مسنده، ٢٨/٣٢٥، رقم ١٧١٦٣.

وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، ١/٣٠٥، رقم ٢٠٩١.

149 لطائف الإشارات، القشيري، ٣/٥٧٧.

150 التحرير والتنوير، ٢٨/ ١٨١

151 البحر المحيط، أبو حيان، ١٠/١٦٦.

152 فتح القدير، للشوكاني، ٥/٢٦٣.

153 الجامع لأحكام القرآن، ١٨/٨٣.

154 أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب ما جاء في أسماء رسول الله،صلى الله عليه وسلم، عن جبير بن مطعم،رضي الله عنه، رقم ٣٥٣٢.

155 أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا نكتب ولا نحسب، رقم ١٩١٣، ومسلم في صحيحه، كتاب الصيام، باب فضل شهر رمضان، عن عبد الله بن عمر،رضي الله عنهما، رقم ١٠٨٠.

156 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ١٥/٣٨٠.

157 تفسير المنار، محمد رشيد رضا، ٢/١٧.

158 التحرير والتنوير، ابن عاشور، ٢٦/٢٠٧.

159 جامع البيان، الطبري، ٢٢/٢٦٥.

160 المحرر الوجيز، ابن عطية، ٥/١٤٢.

161 مفاتيح الغيب، الرازي، ٢٨/٨٩.

162 البحر المحيط، أبو حيان، ٩/٥٠٢.

163 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٧/ ٣٦٢

164 البحر المحيط، أبو حيان، ٩/٥٠١.

165 المصدر السابق، ٩/٥٠٣.

166 زاد المسير، ابن الجوزي، ٤/١٣٩، ١٤٠ .

167 الجامع لأحكام القرآن، ١٦/٢٩٥.

168 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٧/٣٦٢.