عناصر الموضوع
الأمانة
أولًا: المعنى اللغوي:
الأمانة: ضد الخيانة1. وهي مصدر مشتق من مادة (أمن) قال في اللسان: «(أمن) الأمان والأمانة بمعنى»2. يقال: أمن: أمنًا وأمانًا وأمانةً وإمنًا وأمنةً، بمعنى: اطمأن ولم يخف، فهو آمن وأمن وأمين3.
فمادة (أمن) تدور حول معنيين:
أحدهما: الأمانة التي هي ضد الخيانة، ومعناها: سكون القلب.
والآخر: التصديق، والمعنيان متدانيان4.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
عرفت الأمانة بأنها: رعاية حقوق الله تعالى بتأدية المرء للفرائض والواجبات، وكذلك المحافظة على حقوق العباد، فلا يطمع الإنسان في وديعة اؤتمن عليها، ولا ينكر مالًا أو متاعًا أمنه الناس عليه5.
وعرفها الكفوي بقوله: «كل ما افترض على العباد فهو أمانة، كصلاةٍ وزكاة وصيام وأداء دين، وأوكدها الودائع، وأوكد الودائع كتم الأسرار»6.
وجاء معنى الأمانة بأنها: خلق يعف به الإنسان عما ليس له به حق، ويؤدي ما عليه من الحقوق7. وهي على هذا الأساس تشتمل على ثلاثة عناصر:
وردت مادة (أمن) في القرآن الكريم (٨٧٩) مرة، يخص موضوع البحث منها (٢١) مرة9.
والصيغ التي وردت هي:
الصيغة | عدد المرات | المثال |
الفعل الماضي | ١ | (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [البقرة:٢٨٣] |
الاسم | ٦ | (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [الأحزاب:٧٢] |
الصفة المشبهة | ١٤ | (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ) [الأعراف:٦٨] |
وجاءت الأمانة في الاستعمال القرآني بمعنى: كل ما عهد به إلى الإنسان وائتمن بالمحافظة عليه من فرائض أو طاعات، أو غير ذلك10.
العهد:
العهد لغةً:
هو الموثق الذي يعطيه الإنسان لغيره، ويقال: عهد إليه، أي: أوصاه. فهو: التزام بين اثنين، أو أكثر على شيء يعامل كل واحد من الجانبين الآخر به، وسمي عهدًا؛ لأنهما يتحالفان بعهد الله، أي: بأن يكون الله رقيبًا عليهما في ذلك11.
العهد اصطلاحًا:
قال الراغب: حفظ الشيء ومراعاته حالًا بعد حال12.
الصلة بين العهد والأمانة:
العهد من الأمانات التي يجب على المسلم حفظها، بينما الأمانة عامة، تشمل العهد وغيره، فهي تعم جميع وظائف الدين، فكل عهد أمانة، وليس العكس. وأحيانًا يقال للشيء المؤتمن عليه والمعاهد عليه: أمانة وعهدًا13.
الميثاق:
الميثاق لغةً:
هو مصدر بمعنى التوثقة14 وهو: العهد المؤكد بيمين أو نحوه، والفرق بين الميثاق والعهد: أن الميثاق توكيد العهد من قولك: أوثقت الشيء إذا أحكمت شده، وقال بعضهم: العهد يكون حالًا من المتعاهدين، والميثاق يكون من أحدهما15.
الميثاق اصطلاحًا:
حفظ الشيء ومراعاته حالًا بعد حال، فهو الموثق باليمين مما يلزم مراعاته.
الصلة بين الميثاق والأمانة:
الفرق بين الأمانة والميثاق كالفرق بين الأمانة والعهد من حيث العموم والخصوص، فالأمانة عامة، تشمل كل ما اؤتمن عليه الإنسان، والميثاق خاص بالعهد المؤكد باليمين.
تنوعت الأساليب القرآنية في الحث على الأمانة؛ حثًا للعباد على التمسك بها، وسوف نتناولها فيما يأتي:
أولًا: الأمر الصريح بأداء الأمانة:
أمر الله تعالى في كتابه الكريم بأداء الأمانات إلى أهلها، فقال تعالى: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [النساء:٥٨].
والمعنى: إن الله تعالى يأمركم بأداء مختلف الأمانات التي اؤتمنتم عليها إلى أصحابها، فلا تفرطوا فيها، ولا تضيعوها.
وتصدير الكلام بكلمة التحقيق (ﯙ) تأكيد لوجوب امتثال الأمر، والدلالة على الاعتناء بشأنه، وإضافة (الأمر) إلى الله سبحانه وتعالى يفيد معنى التأكيد أيضًا، كما يقال لتأكيد الأمر للعبد بالطاعة: سيدك يأمرك بكذا، ولله المثل الأعلى في أوامره ونواهيه.
وهذه الصيغة صيغة قوة وسلطان، فهو لم يقل: إني آمركم، إنما قال: (ﯙ ﯚ ﯛ) يأمركم بألوهيته وعظمته وهذا نحو: إن الرئيس يأمر بكذا، فهذا أبلغ وأقوى من قولنا: صدر قرار بكذا وكذا.
واسم الجلال (ﯚ) أيضًا يوحي بالخشية والرهبة على عقبى التفريط بها، ثم إن الخطاب المباشر منه تعالى للناس كافة (ﯛ) دون توسيط الرسول صلى الله عليه وسلم الذي تنتهي مهمته بالإبلاغ مما زاد الأمر تأكيدًا وأهمية.
فيكون قوله تعالى: (ﯙ ﯚ ﯛ) خبرًا في الظاهر، لكنه في حقيقته أمر وطلب، فهو كاسم فعل الأمر، وكصيغة (عليك) في قوله: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ) [المائدة: ١٠٥].
وكقوله سبحانه: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) [آل عمران: ٩٧].
وعلى هذا فجملة: (ﯙ ﯚ ﯛ) صريحة في الوجوب، مثل صراحة النهي في قوله في الحديث: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)16.
ثم هو تعالى يأمر الناس جميعًا من عنده الأمانة والمجتمع الذي يراقب ويتابع ويساعد على التنفيذ، ويأمر بالأداء بفعل المضارع المفيد استمرار الوفاء بحق الأمانة؛ لتظل شارة الأمة التي تريد لنفسها البقاء، ثم هو الأداء إلى أهل الأمانة فجارًا كانوا أم أبرارًا.
فالخطاب في قوله: (ﯙ ﯚ ﯛ) خطاب يعم حكمه المكلفين قاطبة، كما أن الأمانات تعم جميع الحقوق المتعلقة بذممهم من حقوق الله تعالى وحقوق العباد، سواء كانت فعلية أو قولية أو اعتقادية، وإن كان هذا الأمر قد ورد في شأن عثمان بن طلحة بن عبد الدار سادن الكعبة المعظمة.
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة يوم الفتح أغلق عثمان رضي الله عنه باب الكعبة، وصعد السطح، وأبى أن يدفع المفتاح إليه، وقال: «لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه»، فلوى علي بن أبي طالب رضي الله عنه يده، وأخذه منه وفتح، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم، وصلى ركعتين، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح، ويجمع له السقاية والسدانة، فنزلت الآية -وظاهر هذا أنها نزلت في جوف الكعبة-، فأمر عليًا أن يرده إلى عثمان، ويعتذر إليه، فقال عثمان لعلي: «أكرهت وآذيت، ثم جئت ترفو؟!»، فقال: «لقد أنزل الله تعالى في شأنك قرآنًا»، فقرأ عليه الآية، فقال عثمان: «أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله»، فهبط جبريل عليه السلام، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن السدانة في أولاد عثمان أبدًا17.
والمقصود أنه وإن كان هذا خطابًا للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أخذ مفتاح الكعبة من حجبتها، وهم بعض بني شيبة، فجاء الأمر من الله للنبي صلى الله عليه وسلم أن يرد لهم مفاتيح الكعبة إلا أن الآية أعم من ذلك، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقرر في الأصول.
فيكون الخطاب لكل من يصلح لتلقي هذا الخطاب والعمل به من كل مؤتمن على شيء، ومن كل من تولى الحكم بين الناس في الحقوق18.
فهو أمر عام للمؤمنين جميعًا، لا يختص به راع دون الرعية، ولا قوي دون ضعيف، ولا غني دون فقير، وهذا يدل على أهمية الأمانة، وتأكيد طلبها، وأنها فضيلة مطلقة.
وظاهر الآية أيضًا يفيد أن الأمر لعموم الناس مؤمنهم وكافرهم، ومن أهل العلم من قال: هو أمر لعموم المؤمنين.
وعبر بالأداء في قوله: (ﯜ ﯝ)؛ لأن الأداء: دفع الحق وتوفيته كاملًا، وهذا الموضع كقوله تعالى: (ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [البقرة:٢٨٣].
وقال: (ﮡ ﮢ ﮣﮤ) [البقرة:١٧٨].
قال السعدي: «وفي قوله: (ﯟ ﯠ) دلالة على أنها لا تدفع وتؤدى لغير المؤتمن، ووكيله بمنزلته؛ فلو دفعها لغير ربها لم يكن مؤديًا لها»19.
ولهذا أجمعوا على أن الأمانات مردودة إلى أربابها، الأبرار منهم والفجار، كما قال ابن المنذر20.
وفي حديث سمرة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك)21.
فإطلاق اسم الأمانة في الآية حقيقة؛ لأن عثمان سلم مفتاح الكعبة للنبي صلى الله عليه وسلم دون أن يسقط حقه، والأداء حينئذٍ مستعمل في معناه الحقيقي؛ لأن الحق هنا ذات يمكن إيصالها بالفعل لمستحقيها، فتكون الآية آمرة بجميع أنواع الإيصال والوفاءات، ومن جملة ذلك دفع الأمانات الحقيقة، فلا مجاز في لفظ: (ﯝ)22.
فيكون أداء الأمانة واجبًا عقلًا وشرعًا؛ لأن أداء الأمانة صفة من صفات الكمال، محبوبة بالذات؛ ولأن أداء الأمانة من أحد الجانبين سبب لأداء الأمانة من الجانب الثاني؛ قال بعض الصحابة: «رأيت أعرابيًا أتى باب المسجد، فنزل عن ناقته وتركها، ودخل المسجد، وصلى بسكينة ووقار، ودعا بما شاء، فتعجبنا، فلما خرج لم يجد ناقته، فقال: إلهي أديت أمانتك، فأين أمانتي؟ قال الراوي: فزدنا تعجبًا، فلم يمكث حتى جاء رجل على ناقته، وقد قطع يده، وسلم الناقة إليه، والسبب أنه لما حفظ أمانة الله، حفظ الله أمانته»23.
وجمع (الأمانات) هاهنا باعتبار تعدد أنواعها، وتعدد القائمين بالحفظ، تنصيصًا على العموم. فللأمانة معانٍ كثيرة مادية ومعنوية، تدور كلها على صون حقوق الله، وحقوق الناس، في سائر الأعمال والأحوال، كما تتسع دائرة الأمانة؛ لتشمل المؤمن والكافر والبر والفاجر.
قال السعدي: «الأمانات كل ما ائتمن عليه الإنسان، وأمر بالقيام به، فأمر الله عباده بأدائها، أي: كاملة موفرة، لا منقوصة ولا مبخوسة، ولا ممطولًا بها، ويدخل في ذلك أمانات الولايات، والأموال، والأسرار؛ والمأمورات التي لا يطلع عليها إلا الله، وقد ذكر الفقهاء على أن من اؤتمن أمانة وجب عليه حفظها في حرزٍ مثلها.
قالوا: لأنه لا يمكن أداؤها إلا بحفظها؛ فوجب ذلك»24.
ويدخل في ذلك: أمانات الطبيب أن يؤدي إلى المريض حقه من التشخيص، وأمانات أصحاب الصنائع أن يتقنوا صناعاتهم، وينصحوا للناس، كما علمهم الله تبارك وتعالى.
ومن الأمانات الأمانة العلمية، فالعالم استؤمن على العلم فعليه أن يؤديه إذا طلب منه.
ومن الأمانة تسخير الحواس والجوارح في طاعة الله، واستعمالها في مرضاته، ومن الأمانة أداء الحقوق، وحفظ الودائع، ثم تأديتها إلى أصحابها، برًا كان أم فاجرًا، وسواء كان مسلمًا أم كافرًا.
ومن الأمانة صيانة أعراض المسلمين، وستر عوراتهم، وحفظ المجالس، وتجنب إفشاء الأسرار، والمبالغة في سرد الأخبار، والتحديث بكل ما يسمع ويقال.
ومن الأمانة حفظ الأسرار الزوجية؛ وأمانة الزوجين القيام بواجباتهما الأسرية؛ وذلك بإلزام أهل البيت بالفرائض والواجبات، وتربيتهم على الفضائل والمستحبات، وتطهير البيت من المنكرات.
ومن الأمانة إتقان العمل المناط بالمسلم، فيؤدي المرء ما عليه على خير وجه، فالعامل يتقن عمله ويؤديه بإجادة وأمانة، وهكذا يؤدي كل امرئٍ واجبه بأمانة وجد واجتهاد.
والأمانة في الإسلام كالعدل مطلقة لا نسبية، وترتفع قيمة الأمانة إلى حد لا يغني بذل الحياة عنها.
وقد جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها إلا الأمانة، ثم قال: يؤتى بالعبد يوم القيامة وإن قتل في سبيل الله، فيقال: أد أمانتك، فيقول: أي: رب كيف وقد ذهبت الدنيا؟ قال: فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية، فينطلق به إلى الهاوية، وتمثل له أمانته كهيئتها يوم دفعت إليه، فيراها فيعرفها، فيهوي في أثرها حتى يدركها، فيحملها على منكبيه، حتى إذا نظر ظن أنه خارج زلت عن منكبيه، فهو يهوي في أثرها أبد الآبدين، ثم قال: الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والوزن أمانة، والكيل أمانة، وأشياء عدها، وأشد ذلك الودائع»25.
وبهذا ندرك سر حرص النبي صلى الله عليه وسلم على التذكير بها في كل موعظة، فقد جاء عن أنس رضي الله عنه أنه قال: ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال: (لا إيمان لمن لا عهد له)26.
ومن هنا اشترط فيمن يتولى أمور المسلمين أن يكون قادرًا على الوفاء بحق الأمانة، وليس كل مسلم صالحًا لها، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: (يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها)27.
والمقصود: أن الله أمر المؤمنين في هذه الآية بأداء الأمانات في جميع الأمور، سواء كانت من باب المذاهب والديانات، أو من باب الدنيا والمعاملات28.
ومعنى أدائها إلى أهلها توصيلها إلى ذويها كما هي، من غير بخس ولا تطفيف، وأهل الأمانة هم مستحقوها، يقال: أهل الدار، أي: أصحابها.
فالعالم يؤدي أمانة العلم من غير زيادة عليها ولا تحريف لها؛ لأن الزيادة طمس لمعالم العلم، والتحريف تبديل للحق، فمن أوتي علمًا بالقرآن لا يؤله لهوى في نفسه، بل يقدمه للناس من غير تحريف للكلم عن مواضعه، والحكم كذلك أمانة في أعناق الحكام، عليهم أن يؤدوا الأمانة فيه بإقامة العدل، وتوخي المصلحة، وتجنب الفساد، سواء أكان فسادًا معنويًا، أم كان فسادًا ماديًا، والأول أعلى أنواع الفساد، والثاني أدناها، ومن أمانة الحكم ألا يشقوا على الرعية، وألا يفسدوا ضمائرهم، ولا يزعجوهم بالتظنن والتتبع، ما داموا مؤمنين مذعنين...، وإذا كانت رعاية الأمانات وأداؤها واجبًا مفروضًا على الأمة كلها حاكمها ومحكومها، وأنها متفاوتة المراتب، فإن الحاكم قد اختص بواجب آخر هو العدل، وهو من نوع الأمانة التي اختص بها؛ ولذا قال سبحانه بعد الأمر بأداء الأمانات: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ) [النساء:٥٨]29.
ثانيًا: وصف جبريل عليه السلام بالأمين:
ومما يرغب في الأمانة أنها من صفات أشرف الملائكة المقربين، الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فقد أخبر الله تبارك وتعالى أن مما اتصف به جبريل من الصفات صفة الأمانة، فقال: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [الشعراء:١٩٣].
ففي قوله: (ﮛ) دلالة على أنه مؤتمن على ما أرسل به، لا يزيد فيه ولا ينقص منه؛ فإن الرسول الخائن قد يغير الرسالة، ويدل هذا على أنه لم يقع فيه تغيير ولا تبديل في طريق إنزاله؛ لأن الرسول المؤتمن على إنزاله قوي لا يغلب عليه حتى يغير فيه، أمين لا يغير ولا يبدل.
وفي هذه الآية إشادة بنزول القرآن من عند الله تعالى بواسطة جبريل الأمين، وحققت صدقه بأنه نزل به (ﮚ) ويطلق لفظ: (ﮚ) على الملك الذي ينزل بالوحي على الرسل، وهو جبريل عليه السلام.
وسمي روحًا من حيث إنه خلق من الروح، فهو روح كله، لا كالناس الذين في أبدانهم روح30. أو لأن نجاة الخلق في باب الدين متوقف على ما جاء به، فهو كالروح الذي تثبت معها الحياة، أو لأن الدين يحيى به، وقيل: سمي روحًا على المجاز لمحبته وتقريبه، كما تقول لحبيبك: روحي31.
وسماه أمينًا؛ لأنه مؤتمن على وحيه لأنبيائه32. فهو مقبول القول، مصدقٌ بقوله، مؤتمن على ما يرسل به، ويؤدي من وحي، وامتثال أمر33.
وقد كان لجبريل عليه السلام من الصفات الحميدة العظيمة من الكرم، والقوة، والقرب من الله تعالى، والمكانة والاحترام بين الملائكة، والأمانة، والحسن، والطهارة ما جعله أهلًا لأن يكون رسول الله تعالى بوحيه إلى رسله...، وقد بين الله تعالى لنا هذه الأوصاف في القرآن، وهي تدل على عظم القرآن وعنايته تعالى، فإنه لا يرسل من كان عظيمًا إلا بالأمور العظيمة.
قال عز وجل في صفته في الآية الأخرى: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ) [التكوير:١٩-٢١].
فنجد في هذه الآيات أن الله تعالى وصف جبريل عليه السلام بست من صفات الكمال، أحدها: كونه رسولًا لله، وثانيها: كونه كريمًا على الله تعالى، وثالثها: كونه ذا قوة عند الله، ورابعها: كونه مكينًا عند الله، وخامسها: كونه مطاعًا في عالم السموات، وسادسها: كونه أمينًا في كل الطاعات، مبرءًا عن أنواع الخيانات...، وكما وصف جبريل عليه السلام هاهنا بهذه الصفات الست وصف محمدًا صلى الله عليه وسلم أيضًا بصفات، وهي قوله: (ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [الأحزاب:٤٥-٤٦].
فالوصف الأول: كونه شاهدًا، والثاني: كونه مبشرًا، والثالث: كونه نذيرًا، والرابع: كونه داعيًا إلى الله تعالى بإذنه، والخامس: كونه سراجًا منيرًا.
والمقصود أن جبريل عليه السلام قوي شديد أمين كريم، لا يمكن أبدًا أن يفرط بهذا الوحي الذي نقله إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذه الصفات في مجموعها توحي بكرامة هذا القول وضخامته، وسموه كذلك وارتفاعه، كما توحي بعناية الله سبحانه بالإنسان؛ حتى إنه ليختار هذا الرسول صاحب هذه الصفة؛ ليحمل الرسالة إليه، ويبلغ الوحي إلى النبي المختار منه، وهي عناية تخجل هذا الكائن الذي لا يساوي في ملك الله شيئًا، لولا أن الله سبحانه يتفضل عليه، فيكرمه هذه الكرامة!
وكأن المعنى: هذه صفة الرسول الذي حمل القول وأداه، فأما الرسول الذي حمله إليكم فهو (ﮪ)[التكوير: ٢٢].
عرفتموه حق المعرفة، عمرًا طويلًا، فما لكم حين جاءكم بالحق تقولون فيه ما تقولون، وتذهبون في أمره المذاهب، وهو صاحبكم الذي لا تجهلون؟! وهو الأمين على الغيب الذي يحدثكم عنه عن يقين34.
وقد جاء في قوله: (ﮥ ﮦ ﮧ) أنه: أمين على سبعين حجابًا يدخلها بغير إذن35.
وهذا كله يدل على شرف القرآن عند الله تعالى، فإنه بعث به هذا الملك الكريم، الموصوف بتلك الصفات الكاملة، والعادة أن الملوك لا ترسل الكريم عليها إلا في أهم المهمات، وأشرف الرسائل. ويدل على أهمية صفة الأمانة؛ وصف جبريل بها، وأنه ينبغي الحرص على الاتصاف بها، والتشبه بالرسول الملكي والرسول البشري المتصفين بهذه الصفة.
ثالثًا: وصف الأنبياء عليهم السلام بالأمانة:
ومما يرغب في الأمانة أنها من صفات الأنبياء، ومن مستلزمات الرسالة؛ إذ كل رسول قال لقومه: (ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [الشعراء:١٠٧].
فإن الرسول لا يبعث إلا وهو معروف بالأمانة، وحسن الخلق قبل الرسالة.
فهذا نوح يقول لقومه: (ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [الشعراء:١٠٧].
وجملة (ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) تعليل للإنكار، أو للتحضيض، أي: كيف تستمرون على الشرك وقد نهيتكم عنه وأنا رسول لكم، أمين عنكم، وكان نوح موسومًا بالأمانة، لا يتهم في قومه، كما كان محمد صلى الله عليه وسلم يلقب الأمين في قريش؛ ولهذا قال النابغة الذبياني36:
فألفيت الأمانة لم تخنها
كذلك كان نوح لا يخون
وتأكيده بحرف التأكيد (ﯽ) مع عدم سبق إنكارهم أمانته؛ لأنه توقع حدوث الإنكار، فاستدل عليهم بتجربة أمانته قبل تبليغ الرسالة، فإن الأمانة دليل على صدقه فيما بلغهم من رسالة الله.
كما قال هرقل لأبي سفيان وقد سأله: «هل جربتم عليه، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم كذبًا؟» فقال أبو سفيان: «لا، ونحن منه في مدة، لا ندري ما يفعل فيها»، فقال له هرقل بعد ذلك: «قد علمت أنه ما كان ليترك الكذب على الناس ويكذب على الله!» ففي حكاية استدلال نوح بأمانته بين قومه في هذه القصة المسوقة مثلًا للمشركين في تكذيبهم محمدًا صلى الله عليه وسلم تعريض بهم إذ كذبوه بعد أن كانوا يدعونه الأمين، ويحتمل أن يراد به أمين من جانب الله على الأمة التي أرسل إليها37.
وقال نوح عليه السلام أيضًا في موضع آخر: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ)[الأعراف:٦٨].
فجاء بوصف الأمانة وهي الوصف العظيم الذي حمله الإنسان، ولا أمانة أعظم من أمانة الرسالة، وإيصال أعبائها إلى المكلفين، والمعنى: أني عرفت فيكم بالنصح، فلا يحق لكم أن تتهموني، وعرفت بالأمانة فيما أقول فلا ينبغي أن أكذب.
وقوله: (ﭗ) يحتمل أن يريد على الوحي والذكر النازل من قبل الله، ويحتمل أنه أمين عليهم وعلى غيبهم، وعلى إرادة الخير بهم، والعرب تقول: فلان لفلان ناصح الجيب، أمين الغيب، ويحتمل أن يريد به من الأمن، أي: جهتي ذات أمن لكم من الكذب والغش38.
والمعاني كلها متقاربة وصحيحة.
وقال موسى عليه السلام: (ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ)[الدخان: ١٨].
أي: على وحيه ورسالته، صادق في دعواه بالمعجزات، وهو علة للأمر بالتأدية، وفيه إشارة إلى أنه يلزم تأدية بني إسرائيل إلى موسى عليه السلام لكونه أمينًا.
وهكذا نجد أن الأمانة شرط أساس لاصطفاء الرسل، وهي من أبرز أخلاقهم، ولقد تجلى هذا الخلق العظيم في أبهى وأزهى صوره في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد عرف بالأمانة والصدق حتى لقبته قريش بالصادق الأمين، ويدل على ذلك قصة رفع الحجر الأسود عند بناء الكعبة المشرفة، عندما تنازعوا في استحقاق شرف رفعه، ووضعه في مكانه من البيت، حتى كادوا يقتتلون لولا أنهم احتكموا لأول من يدخل من باب الصفا، وكان صلى الله عليه وسلم هو أول من دخل، فقالوا: قبلنا به حكمًا، هذا هو الصادق الأمين، فرفعوه في ثوب، ثم أخذه صلى الله عليه وسلم بيديه، ووضعه في الركن المعد له في الكعبة المشرفة39.
فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان يعرف بالأمين قبل النبوة، وبعد حمله الرسالة مثل الأمانة حق تمثيل، حتى وكل عليًا رضي الله عنه في أداء الأمانات لأهل مكة، بعد أن طردوه منها40.
وكانت تلك شهادة أعدائه فيه، كما جاء في حوار أبي سفيان وهرقل، حيث قال هرقل: «سألتك ماذا يأمركم؟ فزعمت أنه يأمر بالصلاة، والصدق، والعفاف، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة. قال: وهذه صفة نبي»، وفي موضع آخر: «وسألتك هل يغدر؟ فزعمت أن لا، وكذلك الرسل لا يغدرون»41.
ولئن كانت هذه صفة أصحاب الدعوات فإن أتباعهم كذلك متميزون؛ ولذلك اقترن تعريف المؤمن بسلوكه المميز، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (المؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم)42.
أي: الإيمان والأمانة أخوان، بحيث لا وجود للإيمان بدون الأمانة، فمن كان أمينًا بحيث يأمنه الناس على أموالهم ونفوسهم ولا يخاف منه على مال أحد ولا على نفسه؛ فذلك الحقيق بأن يسمى مؤمنًا.
فالرسل أمناء الله على وحيه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟! يأتيني خبر السماء صباحًا ومساء)43.
وكذلك كل من جاء بعدهم من العلماء والدعاة فهم أمناء في تبليغ هذا الدين إلى الناس.
والمقصود أن الأمانة صفة وشعار كل الرسل والدعاة الصادقين الصالحين، في كل الأمم والعصور، فالرسل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- هم السفراء بين الله وبين خلقه في أداء ما حملوه من الرسالة، وإبلاغ الأمانة، وقد قاموا بذلك أتم القيام، ونصحوا الخلق، وبلغوهم الحق، وهذا يقتضي تعظيم الأمانة، والاقتداء بهم في هذه الصفة؛ لأن الاقتداء بالأنبياء مأمور به.
وكذلك كان للأمانة عند أتباع الأنبياء شأن عظيم، فقد رعوها حق رعايتها، وعظموا شأنها، وحثوا عليها، ففي فتوحات فارس غنم المسلمون غنائم كثيرة، وكان من أعجب ما أخذوا من الغنائم البساط -بساط كسرى-، وهذا البساط كان كبير الطول والعرض، وكان كسرى إذا جاء الشتاء يشتاق إلى الربيع، فأمر المهرة والمهندسين والفنيين، فصنعوا له هذا البساط العظيم، وجعلوا اليواقيت فيه مثلما تنبت الأزهار في الربيع ملونة بالألوان المعروفة، فأخذوا اللآلئ واليواقيت والجواهر ولونوها بلون الأزهار، وغرسوها في هذا البساط العظيم، فيجلس كسرى في إيوانه في وسط هذا البساط العجيب، ولم يكن لدى أحد من ملوك الأرض مثل هذا البساط، ولكن ماذا يفعل المسلمون؟ لابد أن يبعثوا بكل هذه الغنائم إلى بيت المال؛ ليقسمها عمر رضي الله عنه، ويعطي من شاء، كما فرض الله سبحانه وتعالى، فكيف كان العمل؟
ليس هناك من وسيلة لنقل هذا البساط كاملًا، فقالوا: لابد أن نقطعه، ويحمل كل جمل ما يستطيع، فقطعه سعد رضي الله عنه ومن معه، حتى أوصلوه إلى المدينة، وقالوا لأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: ألا نريك يا أمير المؤمنين كيف كان يجلس كسرى؟! ففرشوا ذلك البساط، وضموا كل قطعة إلى الأخرى، وعمر رضي الله عنه واقف يتأمل ويتفحص، ويتعجب حيث لم تنقص منه لؤلؤة واحدة، فقال: «إن قومًا أدوا هذا لأمناء» وقد قال ابن أبي نجيح: «لما أتي عمر بتاج كسرى وسواريه جعل يقلبه بعود في يده، ويقول: والله إن الذي أدى إلينا هذا لأمين، فقال رجل: يا أمير المؤمنين أنت أمين الله، يؤدون إليك ما أديت إلى الله، فإذا رتعت رتعوا. قال: صدقت»44.
أي: أن جيش المسلمين جيش أمين حين أدى ذلك؛ لأن ياقوتة واحدة يضعها في جيبه قيمتها بعشرة آلاف دينار! ولم يكن العرب قبل الإسلام يحلمون بألف ولا بمائة درهم أن يكسبها الواحد من أموال كسرى، لكن عمر رضي الله عنه وجد البساط كاملًا! فتعجب من هذه الأمانة! وكان بجواره أحد الصحابة فقال: «يا أمير المؤمنين عففت فعفوا، ولو رتعت لرتعوا» أي: لو أنك خنت لخانوا، فهؤلاء جيشك تربوا على الإيمان الذي تربيت عليه.
إنها الأمانة التي فقدتها الأمة الإسلامية؛ لأن هؤلاء القوم لم يخرجوا إلا ابتغاء وجه الله، وقاتلوا في سبيل الله، ولإعلاء كلمة الله، وماذا تساوي يواقيت كسرى بالنسبة إلى جنات النعيم؟!
وماذا يساوي أخذ شيء من هذه الدنيا الفانية إذا كان الإنسان متوعدًا عليه بغضب من الله عز وجل، ونارٍ في الدار الآخرة؛ فلذلك أدوا تلك الغنائم كاملة، وشهد لهم عمر رضي الله عنه بالأمانة.
ومما يدل على مكانة الأمانة عند السلف أتباع الأنبياء ما جاء عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول: «لا يغرنك صلاة امرئ ولا صومه، من شاء صام ومن شاء صلى، ولكن لا دين لمن لا أمانة له»45.
وقال نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما: «طاف ابن عمر سبعًا، وصلى ركعتين، فقال له رجل من قريش: ما أسرع ما طفت وصليت يا أبا عبد الرحمن! فقال ابن عمر: أنتم أكثر منا طوافًا وصيامًا، ونحن خير منكم بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وإنجاز الوعد»46.
رابعًا: وصف مكة المكرمة بالبلد الأمين:
وصف الله تعالى مكة بالبلد الأمين، بقوله: (ﭗ ﭘ ﭙ) [التين:٣].
والمراد: مكة باتفاق47. وسمي الأمين لأن من دخله كان آمنًا، فالأمين فعيل بمعنى: مفعل، ويجوز أن يكون بمعنى: مفعول، على وجه الإسناد المجازي، أي: المأمون ساكنوه.
قال تعالى: (ﭢ ﭣ ﭤ) [قريش: ٤].
والإشارة إليه بقوله: (ﭗ ﭘ) للتعظيم، ولأن نزول السورة في ذلك البلد، فهو حاضر بمرأى ومسمع من المخاطبين، نظير قوله: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ) [البلد:١]48.
والأمن أكبر شروط حسن المكان؛ لأن الساكن أول ما يتطلب الأمن وهو السلامة من المكاره والمخاوف، فإذا كان آمنًا في منزله كان مطمئن البال، شاعرًا بالنعيم الذي يناله.
وأمين للمبالغة، أي: آمن من فيه وما فيه من طير وحيوان...، وأمانته حفظه من دخله، كما وصف بالآمن، في قوله: (ﮪ ﮫ) [القصص: ٥٧].
بمعنى: ذي أمن.
وفائدة القسم بهاتيك البقاع المباركة المشحونة ببركات الدنيا والدين إبانة شرفها، وما ظهر فيها من الخير بسكنى الأنبياء والصالحين49. وفيه إشارة إلى موارد أعظم الشرائع الواردة للبشر، فـ (التين) إيماء إلى رسالة نوح، وهي أول شريعة لرسول، و(الزيتون) إيماء إلى شريعة إبراهيم...، و (ﭔ ﭕ) إيماء إلى شريعة التوراة، و (ﭘ ﭙ) إيماء إلى مهبط شريعة الإسلام، ولم يقع إيماء إلى شريعة عيسى؛ لأنها تكملة لشريعة التوراة، وقد يكون الزيتون على تأويله بالمكان وبأنه المسجد الأقصى إيماء إلى مكان ظهور شريعة عيسى عليه السلام؛ لأن المسجد الأقصى بناه سليمان عليه السلام، فلم تنزل فيه شريعة قبل شريعة عيسى، ويكون قوله: (ﭗ ﭘ ﭙ) [التين:٣]. إيماء إلى شريعة إبراهيم وشريعة الإسلام، فإن الإسلام جاء على أصول الحنيفية؛ وبذلك يكون إيماء هذه الآية ما صرح به في قوله تعالى: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [الشورى:١٣]50.
والمقصود أن مكة المكرمة هي البلد الأمين والآمن، وقد وردت آيات كثيرة تبين هذا غير ما سبق، منها:
قوله تعالى: (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ) [آل عمران: ٩٧].
وقوله تعالى: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [العنكبوت:٦٧].
وهو استجابة لدعاء إبراهيم عليه السلام، حيث قال: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [إبراهيم:٣٥].
فهو بلد أمن وسلام وسكينة وراحة.
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: «كان الرجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فلا يعترض له»، وقيل: آمنًا يعني: الأمان لكل أحد حتى الوحوش والجمادات والأشجار؛ لهذا كانوا في الجاهلية يحترمونه أشد الاحترام مع شركهم، ولما جاء الإسلام زاد حرمته تعظيمًا وشرفًا وتكريمًا51.
خامسًا: الثناء على الذين يؤدون أمانتهم:
أثنى الله تعالى على المحافظين على الأمانة، والموفين بالعهود، فقال: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [المؤمنون: ٨].
والآية تدل على أن من صفات المؤمنين المفلحين الوارثين الفردوس: أنهم راعون لأماناتهم وعهدهم، أي: محافظون على الأمانات والعهود.
وقوله: (ﮀ ﮁ) الأمانة هي في الأصل مصدر، لكن أريد بهاهنا ما ائتمن عليه؛ إذ الحفظ للعين لا للمعنى.
وهي تشمل: كل ما استودعك الله، وأمرك بحفظه، فيدخل فيها حفظ جوارحك من كل ما لا يرضي الله، وحفظ ما ائتمنت عليه من حقوق الله وحقوق الناس.
وكذا العهد مصدر أريد به ما عوهد عليه، ويشمل: كل ما أخذ عليك العهد بحفظه من حقوق الله وحقوق الناس.
وجمعت الأمانة دون العهد، قيل: لأنها متنوعة متعددة جدًا بالنسبة إلى كل مكلف من جهته تعالى، ولا يكاد يخلو مكلف من ذلك، ولا كذلك العهد.
ويجوز أن يراد بالأمانات ما ائتمنهم الله تعالى عليه من الأعضاء والقوى، والمراد برعيها حفظها عن التصرف بها على خلاف أمره عز وجل، وأن يراد بالعهد ما عاهدهم الله تعالى عليه، مما أمرهم به سبحانه بكتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، والمراد برعيه حفظه عن الإخلال به؛ وذلك بفعله على أكمل وجه، فحفظ الأمانات كالتخلية، وحفظ العهد كالتحلية، وكأنه جل وعلا بعد أن ذكر حفظهم لفروجهم ذكر حفظهم لما يشملها وغيرها52.
ولما كانت الأمانة غالبًا في الأمور النفيسة التي يخشى صاحبها عليها التلف والضياع، فيجعلها عند من يظن فيه حفظها، وفي الغالب يكون ذلك على انفراد بين المؤتمن والأمين، فهي لنفاستها قد تغري الإنسان على جحدها وعدم ردها إلى صاحبها، ولكون دفعها في الغالب يخلو من الإشهاد جعل الله ردها من شعب الإيمان.
وهذه الصفة من جلائل صفات المؤمنين، وهي تنحل إلى فضيلتين، هما فضيلة أداء الأمانة التي يؤتمنون عليها، وفضيلة الوفاء بالعهد، فلا خيانة ، ولا خلف.
فخيانة الأمانة، وعدم الوفاء بالعهد من الكبائر، ومن علامة النفاق، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)53.
وعن أنس رضي الله عنه قال: ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)54.
والمقصود أن الله مدح المؤمنين من عباده، فوصفهم بأنهم يرعون العهد، فلا يخونونه أو ينكثونه، ويحفظون الأمانة فلا يضيعونها أو يهملونها، وإنما يؤدونها إلى أهلها كاملة وافية.
وقد اعتبرت الأمانة صفة من صفات عباد الله المؤمنين من الجن والإنس.
قال تعالى على لسان أحد العفاريت الذين سخرهم لنبيه سليمان عليه السلام، عندما طلب سليمان إحضار عرش بلقيس من اليمن إليه: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ) [النمل ٣٨-٣٩].
وأخبر أن الأمانة من صفات الملائكة الأبرار، ومنهم جبريل الذي نزل بالقرآن على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الأمانة من صفات الأنبياء والمرسلين الذين ائتمنهم الله على رسالته إلى خلقه، والذين هم أمناء على ما يعود بالنفع على أمتهم، حريصون على هدايتهم وإرشادهم، وكل هذا ترغيب بهذه الصفة الكريمة، وحث على الاتصاف بها.
وحسبك من رفع شأن الأمانة أن صاحبها جدير بولاية أمر المسلمين؛ لأن ولاية أمر المسلمين أمانة لهم ونصح؛ ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو كان أبو عبيدة حيًا لاستخلفته، فإن سألني ربي قلت: سمعت نبيك صلى الله عليه وسلم يقول55: (إن لكل أمة أمينًا، وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح)56.
وحسبك من رفع شأن الأمانة أن من خانها قطعت يده، ولو في ربع دينار فقط، مع أنه عرف من الشرع أن اليد فيها نصف الدية، ودية الذهب ألف دينار، فتكون دية اليد خمسمائة دينار، فكيف تؤخذ في مقابلة ربع دينار؟ وما وجه العدالة والإنصاف في ذلك؟ وهذا النوع من اعتراضات الملحدين الذين لا يؤمنون بالله ورسوله قد نظمه المعري بقوله57:
يدٌ بخمس مئينٍ عسجدٍ وديت
ما بالها قطعت في ربع دينار؟
تناقض ما لنا إلا السكوت له
ونستعيذ بمولانا من النار
وقد رد عليه أحد الشعراء بقوله58:
قل للمعري عارٌ أيما عار
جهل الفتى وهو عن ثوب التقى عاري
يدٌ بخمس مئينٍ عسجدًا وديت
ما بالها قطعت في ربع دينار
صيانة النفس أغلاها وأرخصها
ذل الخيانة فافهم حكمة الباري
وقد قيل: لما كانت أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت. ومن الواضح أن تلك اليد الخسيسة الخائنة لما تحملت رذيلة السرقة، وإطلاق اسم السرقة عليها في شيء حقير كثمن المجن والأترجة، كان من المناسب المعقول أن تؤخذ في ذلك الشيء القليل، الذي تحملت فيه هذه الرذيلة الكبرى.
فالشرع إنما قطع يده بسبب أنه تحمل الدناءة والخساسة في سرقة ذلك القدر القليل، فلا يبعد أن يعاقبه الشرع بسبب تلك الدناءة هذه العقوبة العظيمة، فانظر ما يدعو إليه القرآن من مكارم الأخلاق، والتنزه عما لا يليق!
وقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدًا يدل على أن التشريع السماوي يضع درجة الخائن من خمسمائة درجة إلى ربع درجة، فانظر هذا الحط العظيم لدرجته بسبب ارتكاب الرذائل!
ولو أن الدية كانت ربع دينار لكثرت الجنايات على الأيدي، ولو كان نصاب القطع خمسمائة دينار لكثرت الجنايات على الأموال؛ فظهرت الحكمة في الجانبين، وكان في ذلك صيانة من الطرفين59.
تعددت مجالات الأمانة كما بينها القرآن الكريم، وسوف نتناولها بالبيان فيما يأتي:
أولًا: التكاليف الشرعية:
المجالات التي تدخل فيها الأمانة كثيرة ومتعددة؛ لأن الأمانة تدخل في جميع أعمال الإنسان التي يقوم بها في الحياة، وفي جميع التكاليف التي كلف بها، ومنها: الأمانة الكبرى أمانة الدين، وهي الخضوع لأوامر الله، والانتهاء عن زواجره، ومن هذه الأمانة الكبرى انبثقت سائر الأمانات، مثل: أمانة الشهادة لهذا الدين، وأمانة العلم، وأمانة الدعوة إلى الله تعالى، وأمانة المحافظة على حرمات المجتمع، وأمانة التعامل مع الناس، ورد أماناتهم إليهم، وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: «والأمانة في الصلاة، والأمانة في الصوم، والأمانة في الحديث، وأشد ذلك الودائع»60، فمفهوم الأمانة في الإسلام إذن شامل لدين الإنسان وطاقته في تحمل أعباء التكاليف التي فرضها الله تعالى عليه، وسنتناول في هذه السطور الأمانة في التكاليف الشرعية.
فمن أعظم مجالات الأمانة الأمانة في التكاليف الشرعية من صلاة وصيام وزكاة وحج وغسل من جنابة وغيرها.
قال تعالى: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) [الأحزاب: ٧٢].
وقد اختلف في هذه الأمانة المعروضة في هذه الآية. وأرجح الأقوال وأجمعها في المراد بالأمانة هنا: أنها التكاليف والفرائض الشرعية التي كلف الله تعالى بها عباده، من إخلاص في العبادة، ومن أداء للطاعات، ومن محافظة على آداب هذا الدين وشعائره وسننه. فالأمانة هنا تعم جميع وظائف الدين على الصحيح من الأقوال، وهو قول الجمهور، كما قاله القرطبي61.
قال ابن كثير بعد أن ذكر أقوالًا في المراد بالأمانة المعروضة هنا: «وكل هذه الأقوال لا تنافي بينها، بل هي متفقة، وراجعة إلى أنها التكليف، وقبول الأوامر والنواهي بشرطها، وهو أنه إن قام بذلك أثيب، وإن تركها عوقب، فقبلها الإنسان على ضعفه وجهله وظلمه، إلا من وفق الله»62.
وقد قيل: يجب أن يطرح منها صنف الشرائع؛ لأنها ليست لازمة لفطرة الإنسان، فقد خلت أمم عن التكليف بالشرائع، وهم أهل الفترة63. والصواب ما قدمناه.
وعرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال على سبيل الحقيقة، فلا مانع من أن يخلق الله تعالى إدراكًا ونطقًا للسماوات والأرض والجبال فتعرض عليها الأمانة، فتدرك وتنطق، ولكن هذا الإدراك والنطق لا يعلمه إلا الله سبحانه. قال بعض أهل العلم: ركب الله تعالى فيهن العقل والفهم حين عرض عليهن الأمانة، حتى عقلن الخطاب، وأجبن بما أجبن.
قال في اللباب: «إن الله عرض هذه الأمانة على السماوات والأرض والجبال، فقال لهن: أتحملن هذه الأمانة بما فيها؟ قلن: وما فيها؟ قال: إن أحسنتن جوزيتن، وإن عصيتن عوقبتن، فقلن: لا يا رب، نحن مسخرات لأمرك، لا نريد ثوابًا ولا عقابًا، وقلن ذلك خوفًا وخشية وتعظيمًا لله؛ خوفًا أن لا يقمن بها، لا معصية ومخالفة، وكان العرض عليهن تخييرًا لا إلزامًا، ولو ألزمهن لم يمتنعن من حملها، فالجمادات خاشعة لله عز وجل، ساجدة له، كما قال تعالى للسماوات والأرض: (ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [فصلت:١١].
وقال في الحجارة: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚﯛ) [البقرة:٧٤].
وقال: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [الحج:١٨]... الآية»64.
ويرى بعضهم أن العرض في هذه الآية الكريمة من قبيل ضرب المثل، أو من قبيل المجاز. قال القفال وغيره: العرض في هذه الآية ضرب مثل، أي: أن السماوات والأرض والجبال على كبر أجرامها لو كانت بحيث يجوز تكليفها لثقل عليها تقلد الشرائع لما فيها من الثواب والعقاب.
أو يكون العرض على من فيها من الملائكة. وقيل: عرضها على أهلها كلها دون أعيانها، وهذا كقوله: (ﮚ ﮛ) [يوسف:٨٢].
أي: أهلها65.
أو يكون المراد: المقابلة، أي: قابلنا الأمانة بالسماوات فرجحت الأمانة، والعرض أسهل من الفرض؛ ولهذا كفر إبليس بالإباء، ولم يكفر هؤلاء بالإباء؛ لأن هناك استكبارًا، وهاهنا استصغارًا؛ بدليل قوله: (ﯩ ﯪ)...، وإنما صير إلى هذا التكلف لاستبعاد طلب الطاعة من الجمادات، ولم يستبعده أهل البيان؛ لأن المراد تصوير عظم الأمانة، وثقل حملها، فمثلت حال التكليف في صعوبته، وثقل محمله بحالة المتحملة المفروضة لو عرضت على هذه الأجرام العظام66.
والصواب: أن حمل الكلام على الحقيقة أولى بالقبول؛ لأنه ما دام لم يوجد مانع يمنع منه فلا داعي لصرفه عن ذلك، ومما لا شك فيه أن قدرة الله تعالى لا يعجزها أن تخلق في السماوات والأرض والجبال إدراكًا وتمييزًا ونطقًا لا يعلمه إلا الله سبحانه.
قال في أضواء البيان: «ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه عرض الأمانة، وهي التكاليف مع ما يتبعها من ثواب وعقاب على السماوات والأرض والجبال، وأنهن أبين أن يحملنها، وأشفقن منها، أي: خفن من عواقب حملها أن ينشأ لهن من ذلك عذاب الله وسخطه، وهذا العرض والإباء والإشفاق كله حق، وقد خلق الله للسماوات والأرض والجبال إدراكًا يعلمه هو جل وعلا ونحن لا نعلمه، وبذلك الإدراك أدركت عرض الأمانة عليها، وأبت وأشفقت، أي: خافت»67.
وسمى سبحانه ما كلفنا به أمانة؛ لأن هذه التكاليف حقوق أمرنا سبحانه بها، وائتمننا عليها، وأوجب علينا مراعاتها والمحافظة عليها، وأداءها بدون إخلال بشيء منها.
و«عبر عن التكاليف الشرعية بالأمانة؛ لأنها حقوق مرعية أودعها الله المكلفين، وائتمنهم عليها، وأوجب عليهم تلقيها بحسن الطاعة والانقياد، وأمرهم بمراعاتها، والمحافظة عليها، وأدائها من غير إخلال بشيء من حقوقها»68.
وتخصيص (ﯣ ﯤ) بالذكر من بين الموجودات؛ لأنهما أعظم المعروف للناس من الموجودات، وعطف (ﯥ) على (ﯤ) وهي منها؛ لأن الجبال أعظم الأجزاء المعروفة من ظاهر الأرض، وهي التي تشاهد الأبصار عظمتها؛ إذ الأبصار لا ترى الكرة الأرضية، كما قال تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ) [الحشر:٢١]69.
ولما عرضت الأمانة على هذه الأجرام العظام من (ﯣ ﯤﯥ) أبين أن يحملنها؛ لثقلها وضخامتها (ﯩ ﯪ) أي: وخفن من عواقب حملها أن ينشأ لهن من ذلك ما يؤدي بهن إلى عذاب الله وسخطه؛ بسبب التقصير في أداء ما كلفن بأدائه.
وفائدة هذا تعظيم أمر هذه الأمانة؛ إذ بلغت أنه لا يطيق تحملها ما هو أعظم ما يبصره الناس من أجناس الموجودات.
وقوله: (ﯫ ﯬ) أي: قبل الإنسان حمل هذه الأمانة عند عرضها عليه، بعد أن أبت السماوات والأرض والجبال حملها، وأشفقن منها. والمراد بحمله إياها: تقبله لحمل هذه التكاليف والأوامر والنواهي مع ثقلها وضخامتها، والإنسان المعروضة عليه هذه الأمانة: إما أن يكون آدم عليه السلام أو جنس الإنسان.
قال في التحرير: «فحقيق بنا أن نقول: إن هذا العرض كان في مبدأ تكوين العالم ونوع الإنسان؛ لأنه لما ذكرت فيه السماوات والأرض والجبال مع الإنسان علم أن المراد بالإنسان نوعه؛ لأنه لو أريد بعض أفراده -ولو في أول النشأة- لما كان في تحمل ذلك الفرد الأمانة بتعذيب المنافقين والمشركين؛ ولما كان في تحمل بعض أفراده دون بعض الأمانة حكمة مناسبة لتصرفات الله تعالى، فتعريف الإنسان تعريف الجنس، أي: نوع الإنسان»70.
فتكون اللام في (ﯬ) للجنس، وحمل الشيء على بعض الجنس يكفي في صدقه على الجنس.
فلو قال قائل: لكن لو كانت الآية تعني التكاليف -على ما قاله الجمهور- لذكر الجن (الخلق المكلفين) ولو كانت تعني الإيمان والاختيار، فالجن مشتركون معنا في هذه الخاصية، وإن الآية فصلت حتى إنها ذكرت الجبال رغم تابعية الجبال للأرض، ثم إن الآية حددت من حمل الأمانة وهو الإنسان، ولم تقل: الجان، فما التوجيه؟
والجواب: أنه لابد للناظر في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأخذ العظة والعبرة منهما أن يكون صاحب فهم ومعرفة، وعليه أن لا يقتصر على نصٍ يستشكله ويترك نصوصًا أخرى.
فإذا لم تكن هذه الآية فيها بيان تكليف الجن، فأين نحن من الآيات الأخرى التي ذكر الله فيها أن الجن مكلفون؟ كقوله سبحانه: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) [الأحقاف: ٢٩-٣٢].
وأيضًا أول الآيات في سورة الجن.
وأيضًا فلفظ (ﯫ ﯬﯭ) ليس من صيغ الحصر التي تعني أنه لا يوجد لها متحمل إلا الإنسان، فلو قال: (ولم يحملها إلا الإنسان) لكان لهذا الاستشكال حظ من النظر حتى يبحث له عن جواب.
ثم إن الجن قد لا تكون عرضت عليهم أصلًا بل حملوها بغير عرض، والله جل وعلا له أن يكلف المخلوق قبل أن يأخذ رأيه، فهو (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) [الأنبياء: ٢٣].
وقد يكون تخصيص الإنسان بالذكر مع أن الجن مكلفون أيضًا وكذا الملائكة عليهم السلام؛ لأنه لم يكن في ذلك كلفة عليهم؛ لأنه ليس فيه ما يخالف طباعهم71.
وقوله: (ﯮ ﯯﯰ ﯱ) أي: إنه كان مفرطًا في ظلمه لنفسه، ومبالغة في الجهل؛ لأن هذا الجنس من الناس لم يلتزموا جميعًا بأداء ما كلفهم الله تعالى بأدائه، وإنما منهم من أداها على وجهها -وهم الأقلون-، ومنهم من لم يؤدها، وإنما عصى ما أمره به ربه، وخان الأمانة التي التزم بأدائها.
والضمير في قوله: (ﯮ) يعود على بعض أفراد جنس الإنسان، وهم الذين لم يؤدوا حقوق هذه الأمانة التي التزموا بحملها، ويكفي في صدق الحكم على الجنس بشيء وجوده في بعض أفراده فضلًا عن وجوده في غالبها.
وقال بعض العلماء: رجوع الضمير إلى مجرد اللفظ دون اعتبار المعنى التفصيلي معروف في اللغة التي نزل بها القرآن.
وقد جاء فعلًا في آية من كتاب الله، وهي قوله تعالى: (ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘﰙ) [فاطر:١١].
وهذه المسألة هي المعروفة عند علماء العربية بمسألة: عندي درهم ونصفه، أي: ونصف درهم آخر.
والمقصود أن من المجالات العظيمة للأمانة التكاليف الشرعية، وهي -بشكل أعم- ممارسة منهج الله في واقع حياة الإنسان على الأرض؛ ولهذا وهب الله الإنسان كل ما يلزمه لحمل هذه الأمانة، فتميز ببعض ذلك عن سائر المخلوقات.
ومن أهم ذلك السمع والبصر والفؤاد؛ لتكون المنافذ التي يستقبل بها آيات الله المبثوثة في الكون، ويستقبل بلاغ الأنبياء والرسل؛ فيعي الإنسان حقيقة الأمانة التي يحملها، فيؤمن بها، ويمضي للوفاء بها.
قال تعالى: (ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ ﰀ ﰁ ﰂ) [الملك:٢٣].
وقد استخدم هذا الأسلوب وهو تمثيل للأمانة في ضخامتها وعظمها وتفخيم شأنها بأنها من الثقل بحيث لو عرضت على السماوات والأرض والجبال -وهن من القوة والشدة بأعلى المنازل- لأبين أن يحملنها، وأشفقن منها، وهو تمثيل رائع لتهويل شأن الأمانة.
ثانيًا: العهود والمواثيق:
ومن مجالات الأمانة حفظ العهود والمواثيق، ومن أبرز وأقوى العهود ما التزم به العبد من عبادة الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله، والوفاء بذلك حتى الموت، زيادة على أمانات الناس والعهود لهم، فالكل واجب الحفظ والرعاية.
قال تعالى في سورة المؤمنون والمعارج: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [المؤمنون:٨]،[المعارج:٣٢].
أي: أن من صفات هؤلاء المفلحين أنهم يقومون بحفظ ما ائتمنوا عليه من أمانات، ويوفون بعهودهم مع الله تعالى، ومع الناس، ويؤدون ما كلفوا بأدائه بدون تقصير أو تقاعس؛ وذلك لأنه لا تستقيم حياة أمة من الأمم إلا إذا أديت فيها الأمانات، وحفظت فيها العهود، واطمأن فيها كل صاحب حق إلى وصول هذا الحق إليه.
قال الشنقيطي: «ففي هذه الآية الكريمة ذكر -جل وعلا- أن من صفات المؤمنين المفلحين الوارثين الفردوس: أنهم راعون لأماناتهم وعهدهم، أي: محافظون على الأمانات والعهود...، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من حفظ الأمانات والعهود جاء مبينًا في آيات كثيرة»72.
وقد جمع ها هنا الأمانة، فقال: (ﭾ ﭿ ﮀ)؛ وذلك لتعددها وتنوعها، فهي كثيرة جدًا -كما سبق-، ومنها ما جاء في الحديث: (المؤذن مؤتمن)73 يعني: أن المؤذن أمين الناس على صلاتهم وصيامهم، فصلاة الناس وصيامهم أمانة عنده.
وفي الحديث أيضًا: (المجالس بالأمانة)74.
وهذا ندب إلى ترك إعادة ما يجري في المجلس من قول أو فعل، فكان ذلك أمانة عند من سمعه أو رآه.
ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (المستشار مؤتمن)75 أي: أمين على المشورة، فإذا كان يعرف الصواب يجب أن يذكره من دون خداع، وإذا كان لا يعرف أحاله على من يعرفه واعتذر.
ولكن لو أنه عرف الصواب في النصيحة وأخفاه، وذكر سواه كان خائنًا، ويؤكد هذا قوله عليه الصلاة والسلام: (من أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه)76.
وأما تقديمها على العهد فلأهميتها، وحسب ذلك أن يكون الشرع كله كما مر أمانة، وحسبك من ذلك قوله: (لا إيمان لمن لا أمانة له)77.
الالتزام بالعهود والمواثيق:
ونلحظ هنا أن الله سبحانه وتعالى ذكر العهد بعد ذكر الأمانات، فقال: (ﮀ ﮁ) والعهد: التزام بين اثنين أو أكثر على شيء يعامل كل واحد من الجانبين الآخر به، وسمي عهدًا؛ لأنهما يتحالفان بعهد الله، أي: بأن يكون الله رقيبًا عليهما في ذلك.
والعهد شامل لعهد الله وعهد الناس، وهو ما عقده الإنسان على نفسه، وهو يضاف إلى المعاهد والمعاهد، فيجوز هنا الإضافة إلى الفاعل والمفعول78.
وقد بين سبحانه وتعالى أن له على عباده عهدًا ولهم عليه عهد، وبين أنهم متى ما وفوا بعهدهم فإنه سبحانه يفي أيضًا بعهده، فقال: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) [البقرة: ٤٠].
ثم في سائر الآيات أفرد عهد العباد بالذكر، وأفرد عهد نفسه أيضًا بالذكر، أما عهد العباد فقال فيه: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ) [البقرة:١٧٧].
وقال: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [المؤمنون:٨].
وأما عهده سبحانه وتعالى فقال فيه: (ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ) [التوبة: ١١١].
ثم بين عهده إلى أبينا آدم، فقال: (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [طه: ١١٥].
ثم بين عهده إلينا، فقال: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ)[يس:٦٠].
ثم بين عهده مع بني إسرائيل، فقال: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ)[آل عمران:١٨٣].
ثم بين عهده مع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فقال: (ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ) [البقرة:١٢٥].
ثم بين أن عهده لا يصل إلى الظالمين، فقال: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) [البقرة: ١٢٤].
وهذه المبالغة الشديدة في هذه العهود والمعاهدة تقتضي البحث عن حقيقة هذه العهود، فنقول: العهد المأخوذ عليك ليس إلا عهد العبودية، والعهد الذي التزمه الله تعالى من جهته ليس إلا عهد الرحمة والربوبية، ثم إن العاقل إذا تأمل في حال هذه المعاهدة لم يجد من نفسه إلا نقض هذا العهد، ومن ربه إلا الوفاء بالعهد.
والعهود التي بين العباد وبين بعضهم هي: كل عقدٍ يعقد لتوثيق أمرٍ وتوكيده، كعقد البيع والشركة، وعقد اليمين والنذر، وعقد الصلح، وعقد النكاح وغيرها، فمقتضى هذه الآية أن كل عهدٍ وعقدٍ يجري بين إنسانين فإنه يجب عليهما الوفاء بذلك العقد والعهد إلا إذا دل دليل منفصلٌ على أنه لا يجب الوفاء به.
والوفاء بالعهد من أعظم خلق الكريم؛ لدلالته على شرف النفس وقوة العزيمة.
قال تعالى: (ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [الإسراء:٣٤].
وقال تعالى: (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ) [المائدة:١].
وقوله: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [الفتح:١٠].
وقال تعالى: (ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [النحل:٩١].
ونقض العهد مع الله أو مع عباده من علامة النفاق، ومن شيم أهل البعاد والشقاق، والوفاء بالعهد من علامة الإيمان، ومن شيم أهل المحبة والعرفان.
وبهذه المحافظة على العهود والمواثيق سرًا وجهرًا امتازت الشريعة الإسلامية على غيرها، فشعار أهل الإسلام الوفاء بالعهود، والبعد عن الخيانة والغدر.
وقد ذم الله تعالى الذين ينقضون العهد، فقال تعالى: (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ) [الرعد: ٢٥].
والمراد من نقض عهد الله عدم الوفاء بما أمر وأوجب على عباده.
والمراد من قوله: (ﮫ ﮬ ﮭ) أي: من بعد أن وثق الله تلك الأدلة وأحكمها؛ لأنه لا شيء أقوى مما دل الله على وجوبه في أن ينفع فعله، ويضر تركه.
فإن قيل: إذا كان العهد لا يكون إلا مع الميثاق فما فائدة اشتراطه تعالى بقوله: (ﮫ ﮬ ﮭ) قلنا: لا يمتنع أن يكون المراد بـ (العهد): هو ما كلف الله العبد، والمراد بـ (الميثاق): الأدلة المؤكدة؛ لأنه تعالى قد يؤكد إليك العهد بدلائل أخرى، سواء كانت تلك المؤكدة دلائل عقلية أو سمعية79.
وقال في الآية الأخرى: (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) [آل عمران:٧٦].
فجمع بين الوفاء والتقى، وهما أصلان لجميع مكارم الأخلاق، فالوفاء بالعهد يشمل عهد الميثاق، وعهد الله تعالى بالتزام التكاليف الخاصة والعامة، والتقوى تتممها وتزينها؛ حتى يأتي بها على وجه الكمال من غير شائبة الاختلال، فكل متقٍ موفٍ بالعهد، ولا يلزم العكس؛ فلهذا اقتصر على قوله: (ﯪ ﯫ) دون أن يقول: يحب الموفين، أو الموفين والمتقين80.
والجمع بين رعي الأمانات ورعي العهد؛ لأن العهد كالأمانة؛ لأن الذي عاهدك قد ائتمنك على الوفاء بما يقتضيه ذلك العهد. إلا أن العهد أخص من الأمانة والأمانة أعم من العهد؛ لأنها قد تكون بعهد وبغير عهد متقدم81.
وذكرهما عقب أداء الزكاة؛ لأن الزكاة أمانة الله عند الذين أنعم عليهم بالمال؛ ولذلك سميت حق الله، وحق المال، وحق المسكين.
وقوله: (ﯫ) أي: قائمون على حفظ الأمانة والعهد، فالرعي: مراقبة شيء بحفظه من التلاشي، وبإصلاح ما يفسد منه، فمنه رعي الماشية، ومنه رعي الناس، ومنه أطلقت (المراعاة) على ما يستحقه ذو الأخلاق الحميدة من حسن المعاملة، والقائم بالرعي راع، فرعي الأمانة: حفظها؛ ولما كان الحفظ مقصودًا لأجل صاحبها كان ردها إليه أولى من حفظها، ورعي العهد مجاز، أي: ملاحظته عند كل مناسبة82.
أما اختيار كلمة (ﯫ) مع الأمانة والعهد دون (الحفظ) الذي استخدم مع الفروج فله سبب لطيف؛ وذلك أن (ﯫ) اسم فاعل من (رعى) وأصل الرعي: حفظ الحيوان، وتولي أمره، وتفقد شأنه، فالرعي ليس مجرد الحفظ، بل هو الحفظ والإصلاح والعناية، وما إلى ذلك، وليس مجرد الحفظ كافيًا.
فمن ائتمن عندك أهله وصغاره فلابد من أن تتفقد أمورهم، وتنظر في أحوالهم وحاجاتهم، علاوة على حفظهم، وكذلك من تولى أمر الرعية، ومثله من اؤتمن على زرع أو ضرع، وكذلك ما حمله الله للإنسان من أمر الشرع، يحتاج إلى قيام به، وتحرٍ للحق فيما يرضي الله، ومثل هذه الأمور لا يصح معها مجرد الحفظ، فالرعاية أشمل وأعم.
ثم إن هناك فرقًا آخر بين رعي الأمانة وحفظ الفروج، وهو أن الفروج جزء من الإنسان لا تند عنه، أما الأمانات فقد تكون في أماكن متعددة، وربما تكون أماكن حفظها نائية عنه، فهي تحتاج إلى تفقد ورعاية، كما يحتاج الحيوان إلى حفظه من الذئاب والوحوش الضارية، وقد يصعب على الإنسان المحافظة على الأمانة من العادين واللصوص، فيضطر إلى تخبئتها في أماكن لا ينالها النظر، ولا يطولها التفتيش، فكان على المؤتمن أن ينظر في حفظها، كما ينظر الراعي لها، وهو أنسب من الحفظ.
وهناك فائدة أخرى، وهي أن كلمة (الراعي) قد تكون بمعنى الصاحب، تقول: (من راعي هذه الديار؟) أي: من صاحبها ومتولي أمرها؟ فيكون المعنى على هذا: والذين هم أصحاب الأمانات والعهود، أي: هم أهلها ومتولوها، ولو قيل بدل ذلك: الذين يحفظون الأمانة والعهود لم تفد هذه الفائدة الجليلة.
ثم إن اختيار كلمة (ﯫ) بالصيغة الاسمية دون الفعلية له سببه، فإنه لم يقل: (يرعون)؛ وذلك ليدل على لزوم ثبات الرعي ودوامه، وعدم الإخلال به البتة.
وأما تقديم الأمانة والعهد على (ﯫ) فللاهتمام والعناية بأمرهما، وللدلالة على أنهما أولى ما يرعى في هذه الحياة،
وزيادة اللام في (ﯩ) تفيد الزيادة في الاختصاص والتوكيد.
فيكون في هذه الآية وغيرها دلالة على تعظيم أمر الوفاء بالعهد؛ وذلك لأن الطاعات مقصورة على أمرين: التعظيم لأمر الله تعالى، والشفقة على خلق الله، فالوفاء بالعهد مشتمل عليهما معًا؛ إذ ذلك سبب لمنفعة الخلق، فهو شفقة على خلق الله؛ ولما أمر الله به كان الوفاء به تعظيمًا لأمر الله83.
وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا ائتمن) أي: جعل أمينًا، ووضع عنده أمانة (خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر) أي: ترك الوفاء (وإذا خاصم فجر)84. أي: مال عن الحق.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بالوفاء بالعهد، فهذا حذيفة رضي الله عنه يقول: «ما منعنا أن نشهد بدرًا إلا أني وأبي أقبلنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذنا كفار قريش، فقالوا: إنكم تريدون محمدًا، فقلنا: ما نريده، إنما نريد المدينة، فأخذوا علينا عهد الله وميثاقه لتصيرن إلى المدينة، ولا تقاتلوا مع محمد صلى الله عليه وسلم، فلما جاوزناهم أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرنا له ما قالوا، وما قلنا لهم، فقال: (نستعين الله عليهم، ونفي بعهدهم) فانطلقنا إلى المدينة، فذاك الذي منعنا أن نشهد بدرًا»85.
فهذه صورة مشرقة في حرص النبي صلى الله عليه وسلم لحفظ العهود، وتربية أصحابه على تطبيق مكارم الأخلاق الرفيعة، وإن كان في ذلك إجحاف بالمسلمين، ومفوت لهم جهد بعض أفراد المجاهدين.
والمقصود أن من مجالات الأمانة المهمة الوفاء بالعهد والميثاق، ويبدأ ذلك من رعاية الأمانة الكبرى التي عرضها الله على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها، وحملها الإنسان، وهي أمانة العقيدة والاستقامة عليها اختيارًا لا اضطرارًا، ومن رعاية العهد الأول المقطوع على فطرة الناس وهم بعد في الأصلاب: أن الله ربهم الواحد، وهم على هذا العهد شهود، ومن رعاية تلك الأمانة وهذا العهد تنبثق رعاية سائر الأمانات والعهود في معاملات الأرض.
وقد شدد الإسلام في الأمانة والعهد وكرر وأكد؛ ليقيم المجتمع على أسس متينة من الخلق والثقة والطمأنينة، وجعل رعاية الأمانة والعهد سمة النفس المؤمنة، كما جعل خيانة الأمانة وإخلاف العهد سمة النفس المنافقة والكافرة، ورد هذا في مواضع شتى من القرآن والسنة، والتي لا تدع مجالًا للشك في أهمية هذا الأمر في الإسلام.
وجعل هذه الصفة من أخلاق المسلم الأصيلة والتي تنبع من عقيدته، وتدل على صدق اتجاهه، وشرف غايته، فهي صفة نفسية تملي على صاحبها سلوكًا يتبدل إزاء كل ما يعهد إليه القيام به، وكل ما يتحمل من مسئولية، وهي بهذا تحيط بكل تبعات الحياة الصغيرة والكبيرة، وتتناول كل الأعباء التي يتحملها الإنسان.
والجماعة المسلمة مسئولة عن أماناتها العامة، ومسئولة عن عهدها مع الله تعالى، وما يترتب على هذا العهد من تبعات، والنص يجمل التعبير، ويدعه يشمل كل أمانة، وكل عهد، ويصف المؤمنين بأنهم (ﯩ ﯪ ﯫ)، فهي صفة دائمة لهم في كل حين، وما تستقيم حياة الجماعة إلا أن تؤدى فيها الأمانات، وترعى فيها العهود، ويطمئن كل من فيها إلى هذه القاعدة الأساسية للحياة المشتركة الضرورية لتوفير الثقة والأمن والاطمئنان86.
ثالثًا: الأمانة في القضاء والحكم بين الناس:
ومن مجالات الأمانة: الأمانة في القضاء والحكم بين الناس، وتكون الأمانة في القضاء بإصدار الأحكام وفق أحكام العدل التي استؤمن القاضي عليها، وفوض الأمر فيها إليه؛ قال تعالى: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) فنلحظ هنا أن الله تعالى لما أمر بأداء الأمانة عمومًا عقب بعدها بقوله: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ) [النساء:٥٨].
وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في شأن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة87 الحجبي من بني عبد الدار، لما رد له النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة، وقد سبق ذكر قصته.
قال ابن كثير: «وهذا من المشهورات أن هذه الآية نزلت في ذلك، وسواء كانت نزلت في ذلك أو لا، فحكمها عام؛ ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنه ومحمد بن الحنفية: هي للبر والفاجر، أي: هي أمر لكل أحد»88.
وقال ابن تيمية رحمه الله: «قال العلماء: نزلت الآية الأولى في ولاة الأمور عليهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل...، وإذا كانت الآية قد أوجبت أداء الأمانات إلى أهلها، والحكم بالعدل، فهذان جماع السياسة العادلة، والولاية الصالحة»89. وقال الشوكاني رحمه الله: «ويدخل الولاة في هذا الخطاب دخولًا أوليًا، فيجب عليهم تأدية ما لديهم من الأمانات، ورد الظلامات، وتحري العدل في أحكامهم»90.
وفي الآية دلالة على أنه يجب أداء الأمانات إلى أهلها.
وفي حديث الحسن عن سمرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك)91.
فمن لم يفعل ذلك في الدنيا أخذ منه ذلك يوم القيامة، كما ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها حتى يقتص للشاة الجماء من القرناء)92.
ثم بعد هذا الأمر العام الذي يشمل جميع أنواع الأمانة، وجميع أنواع المخاطبين، عقب سبحانه بالأمر بالعدل في الحكم والقضاء بين الناس؛ إذ هو من أعظم الأمانات وأوجبها، فقال: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ) [النساء:٥٨].
أي: أنه تعالى يأمركم أيضًا إذا حكمتم بين الناس أن تجعلوا حكمكم قائمًا على الحق والعدل، فإن الله تعالى ما أقام ملكه إلا عليهما، ولأن الأحكام إذا صاحبها الجور والظلم أدت إلى شقاء الأفراد والجماعات.
ولما كانت هذه أوامر حسنة عادلة.
قال: (ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ)[النساء: ٥٨].
وهذا مدح من الله لأوامره ونواهيه؛ لاشتمالها على مصالح الدارين، ودفع مضارهما؛ لأن شارعها السميع البصير الذي لا تخفى عليه خافية، ويعلم بمصالح العباد ما لا يعلمون93.
وهذا الخطاب -وإن رأى بعضهم- أنه موجه إلى الذين يحكمون وهم الحكام من ولاة وقضاة وغيرهم ممن يلون الحكم إلا أنه لا مانع من أن يكون الخطاب موجهًا إلى الأمة كلها؛ لأن الأمة العزيزة التي تتولى أمور نفسها من غير تحكم من ملك أو طاغ قاهر هي محكومة ومحكمة، فهي التي تختار حاكمها وهي في هذا محكمة، مطلوب منها العدل، فلا تختار لهوى أو لعطاء أو لمصلحة شخصية أيًا كان نوعها، وهي محكمة في حاكمها فلا تقول فيه إلا حقًا، ولا تطالبه إلا بما هو حق لا جور فيه، ولا تشتط في نقده، ولا تسكت عن نصيحته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الدين النصيحة...، لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)94.
وأما الحكم بالعدل بين الناس فالنص يطلقه هكذا عدلًا شاملًا (ﯣ ﯤ) جميعًا، لا عدلًا بين المسلمين بعضهم وبعض فحسب، ولا عدلًا مع أهل الكتاب دون سائر الناس، وإنما هو حق لكل إنسان بوصفه (إنسانًا) فهذه الصفة -صفة الناس- هي التي يترتب عليها حق العدل في المنهج الرباني، وهذه الصفة يلتقي عليها البشر جميعًا، مؤمنين وكفارًا، أصدقاء وأعداء، سودًا وبيضًا، عربًا وعجمًا، والأمة المسلمة قيمة على الحكم بين الناس بالعدل -متى حكمت في أمرهم- هذا العدل الذي لم تعرفه البشرية قط -في هذه الصورة- إلا على يد الإسلام وإلا في حكم المسلمين وإلا في عهد القيادة الإسلامية للبشرية، والذي افتقدته من قبل ومن بعد هذه القيادة فلم تذق له طعمًا قط، في مثل هذه الصورة الكريمة التي تتاح للناس جميعًا؛ لأنهم (ناس) لا لأية صفة أخرى زائدة عن هذا الأصل الذي يشترك فيه الناس!
وهذا هو أساس الحكم في الإسلام، كما أن الأمانة -بكل مدلولاتها- هي أساس الحياة في المجتمع الإسلامي، والتعقيب على الأمر بأداء الأمانات إلى أهلها والحكم بين الناس بالعدل هو التذكير بأنه من وعظ الله سبحانه وتوجيهه، ونعم ما يعظ الله به ويوجه...، ثم إنها لم تكن (عظة) إنما كانت (أمرًا) ولكن التعبير يسميه عظة؛ لأن العظة أبلغ إلى القلب، وأسرع إلى الوجدان، وأقرب إلى التنفيذ المنبعث عن التطوع والرغبة والحياء!95.
وحديث القرآن عن وجوب إقامة العدل، ودفع الظلم، حديث مستفيض.
قال تعالى: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ) [النحل:٩٠].
وقال تعالى: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [ص:٢٦].
وقال تعالى: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ) [الأنعام:١٥٢].
وقال تعالى: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ) [المائدة:٨].
ثم إن قوله: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ) يشمل الحكم بينهم في الدماء، والأموال، والأعراض، القليل من ذلك والكثير، على القريب والبعيد، والبر والفاجر، والولي والعدو.
والمراد بالعدل الذي أمر الله بالحكم به: هو ما شرعه الله على لسان رسوله من الحدود والأحكام، وهو فصل الحكومة على ما في كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا الحكم بالرأي المجرد، فإن ذلك ليس من الحق في شيء، إلا إذا لم يوجد دليل تلك الحكومة في كتاب الله ولا في سنة رسوله فلا بأس باجتهاد الرأي من الحاكم الذي يعلم بحكم الله سبحانه، وبما هو أقرب إلى الحق عند عدم وجود النص، وأما الحاكم الذي لا يدري بحكم الله ورسوله، ولا بما هو أقرب إليهما، فهو لا يدري ما هو العدل؛ لأنه لا يعقل الحجة إذا جاءته، فضلًا عن أن يحكم بها بين عباد الله.
وهذا يستلزم من الحاكم معرفة العدل ليحكم به. فعناصر العدل في الحكم هي فهم الحادثة من جميع جوانبها، ثم معرفة الحكم من مصدره التشريعي، ثم تحري انطباق الحكم على الحادثة، كل ذلك مع التسوية بين الخصوم في مجلس القضاء96.
وعليه قبل أن يفصل في القضايا وقبل أن يبدأ في فض النزاع والقضاء بين المتخاصمين التذكير بالله تعالى، وقد كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، ففي قصة المتلاعنين قبل أن يقضي بينهما. قال لهما: (الله أعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما من تائب؟)97.
وفي سائر قضاياه كان يقول للمتخاصمين قبل الحكم: (إنكم تختصمون لدي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من أخيه، فأقضي له بحق أخيه، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقتطع له قطعة من نار)98 .
وهذا كله من باب التذكير بالله تعالى.
ولابد أن يكون قويًا في الحكم، والقوة في الحكم بين الناس ترجع إلى العلم بالعدل الذي دل عليه الكتاب والسنة وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام، والأمانة ترجع إلى خشية الله وألا يشتري بآياته ثمنًا قليلًا، وترك خشية الناس، وهذه الخصال الثلاث التي اتخذها الله على كل حاكم على الناس، في قوله تعالى: (ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) [المائدة:٤٤].
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (القضاة ثلاثة، واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة، فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم، فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار)99.
و(القاضي): اسم لكل من قضى بين اثنين وحكم بينهما، سواء كان خليفة أو سلطانًا أو نائبًا أو واليًا، أو كان منصوبًا ليقضي بالشرع، أو نائبًا له حتى يحكم بين الصبيان في الخطوط إذا تخايروا، هكذا ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ظاهر100.
والمقصود أن الحكم في الإسلام مسئولية عظيمة، وأمانة ثقيلة، يوجل منها الأقوياء فكيف بالضعفاء؟! وهو مبني على العدل، وقد جعله الإسلام من أعظم الأمانات، فثمة علاقة وثيقة بين العدل وأداء الأمانة؛ إذ هما أمران متلازمان، فأداء الأمانة إلى أهلها عين العدل، وجحدها على صاحبها هو عين الجور، وأيضًا فإن الحكم بين الناس بالعدل هو أداء للأمانة التي حملها الحاكم، وبالمقابل فإن ظلم العباد هو جحد للأمانة، وتفريط فيها.
والعدل في الحكم يعد من القيم الإنسانية الأساسية التي جاء بها الإسلام، وجعلها من مقومات الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية والسياسية، حتى جعل القرآن إقامة القسط - أي: العدل- بين الناس هو هدف الرسالات السماوية كلها، ومن هنا كان لابد من الرجوع إلى شرع الله في الحكم على كل أمر من هذه الأمور؛ حتى يتم تأدية الأمانات إلى أهلها دون أدنى تقصير، ويتم الحكم بين الناس بالعدل دون أدنى قدر من الجور أو الظلم.
والحاكم في الحقيقة أجير عند جمهور المسلمين، يرعى مصالحهم الدينية والمدنية، وحكمه بالحق يتطلب علمًا ويقينًا وإخلاصًا، كما يتطلب خبرة بالحياة والناس والأصدقاء والخصوم، وعليه أن يسمع النصيحة، ويستشير أهل الخبرة الأمناء، وألا يضيق صدره بالنقد البناء، وأن يستوعب كل الآراء، وألا يقصي أحدًا على حساب أحد، وألا يظلم أحدًا بسبب اختلاف العقيدة.
والحكم يحتاج إلى رجال أقوياء في الحق، رحماء بالناس، أمناء على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وقد جاء عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله ألا تستعملني؟ فضرب بيده على منكبي، ثم قال: (يا أبا ذر إنك رجل ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها)101.
ومن هو أبو ذر هذا؟! إنه الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم: (ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر)102.
وليعلم الحاكم أن الله سائله يوم القيامة عن رعيته، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)103.
والحاكم العادل وعده النبي صلى الله عليه وسلم أنه من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله104.
والناظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده ليعجب أشد العجب من تعاملهم مع تحمل المسئوليات، وكيف كانوا يعتبرونها حملًا ثقيلًا، وعبئًا يودون أن يرفع عنهم بأسرع وقت، وكيف كانوا يخافون من هذا الأمر أشد الخوف، ويزداد العجب عندما نسمع لواحد من هؤلاء الأفذاذ وهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه يرفض أن يستخلف ابنه من بعده، ويقول قولته المأثورة: «حسب آل الخطاب ما تحملوا منها! إن عبد الله لم يحسن يطلق امرأته»105.
ومن الأمانة في الحكم إقامته على الشريف والوضيع والضعيف، ولا يحل تعطيله لا بشفاعة ولا بهدية ولا بغيرهما، ولا تحل الشفاعة فيه، ومن عطله لذلك وهو قادر على إقامته فهو عاصٍ لله، وممن اشترى بآيات الله ثمنًا قليلًا.
والأولى للقاضي والحاكم ألا يقبل الهدايا التي قد تؤثر على حكمه، هكذا كان السلف رحمهم الله، فهذا عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى لما رد الهدية، قيل له: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية، فقال عمر: «كانت للنبي صلى الله عليه وسلم هدية، ولنا رشوة»106؛ لأن المسلمين كانوا يتقربون بهذه الهدية للنبي صلى الله عليه وسلم لنبوته؛ ولأنه صلى الله عليه وسلم معصوم مما يخاف من الهدية على غيره، ويقاس على الهدية كل منفعة يقدمها إليه أهل البلد الذي يقضي فيه.
وليس من الأمانة أن يؤثر القاضي والحاكم الأغرار الضعفاء والخائنين على الأقوياء الأمناء، فالحاكم يجب أن يتصف بصفتين، أن يكون قويًا حازمًا، وأن يكون أمينًا؛ إذ إن صفتي القوة والأمانة من المؤهلات الضرورية لمن يلي أمر الناس.
فهذا زياد ابن أبيه كان إذا ولى رجلًا قال له: «خذ عهدك، وسر إلى عملك، واعلم أنك مصروفٌ رأس سنتك، وأنك تصير إلى أربع خلال، فاختر لنفسك: إنا إن وجدناك أمينًا ضعيفًا استبدلنا بك؛ لضعفك، وسلمتك من معرتنا أمانتك، وإن وجدناك خائنًا قويًا استهنا بقوتك، وأحسنا على خيانتك أدبك، فأوجعنا ظهرك، وأثقلنا غرمك، وإن جمعت علينا الجرمين جمعنا عليك المضرتين، وإن وجدناك أمينًا قويًا زدناك في عملك، ورفعنا لك ذكرك، وكثرنا مالك، وأوطأنا عقبك»107.
فتولي الولايات العامة تكليف كبير، ومسئولية عظمى؛ لما يترتب عليها من عظم التبعة، ودقة المسئولية، فالمناصب العامة في الإسلام ليست وجاهة، ولا بابًا لكسب الأموال والثراء، وإنما هي أمانة ومسئولية هدفها خدمة الدين، وإعلاء الشريعة، وتحقيق مصالح المسلمين.
رابعًا: الأمانة في الودائع والمعاملات المالية:
ومن مجالات الأمانة: الأمانة في الأموال والودائع، فالأمانة في المال من أعظم الأمانات؛ لأن المال محبوبٌ للإنسان.
قال تعالى: (ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ) [العاديات:٨].
وقال عز وجل: (ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [الفجر:٢٠].
وقال تعالى: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ) [آل عمران:١٤].
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن لكل أمة فتنة، وإن فتنة أمتي المال)108.
ومما يدل على أن الإنسان فطر على حب المال ما ورد عن نبي الله أيوب عليه السلام أنه لما كان يغتسل خر عليه جراد من ذهب، فجعل أيوب يحتثي في ثوبه، فناداه ربه: (يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى وعزتك، ولكن لا غنى بي عن بركتك)109.
فالأموال تغري الإنسان على أخذها إذا تيسرت بين يديه، والأمانة ثقيلة وبخاصة في موطن الضعف في الأموال والشهوات.
ومما يدل على الحث على الأمانة في الجانب المالي قوله تعالى: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [النساء:٥٨].
فهي تتناول جميع الأمانات، ومن ضمنها ما يتعلق بالأمانات المادية.
وقوله تعالى: (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ) [آل عمران:٧٥].
فهذه الآية في الأمانة في الأموال، وقد قال أكثر المفسرين: إنها نزلت في اليهود كلهم، أخبر الله تعالى أن فيهم أمانة وخيانة.
فإن قيل: فأي فائدة في هذه الأخبار، وقد علمنا أن الناس كلهم لم يزالوا كذلك، منهم الأمين ومنهم الخائن؟
قلنا: تحذير من الله تعالى للمؤمنين أن يأتمنوهم على أموالهم، أو يغتروا بهم؛ لاستحلالهم أموال المؤمنين110.
فذكر الله هاهنا فريقين من أهل الكتاب، فريقًا يؤدي الأمانة تعففًا عن الخيانة، وفريقًا لا يؤدي الأمانة، ومن الفريق الأول: عبد الله بن سلام، ومن الفريق الثاني: فنحاص بن عازوراء، وكلاهما من يهود يثرب، والمقصود من الآية ذم الفريق الثاني؛ إذ كان من دينهم في زعمهم إباحة الخون.
قال تعالى: (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) [آل عمران:٧٥].
ولذلك طول الكلام فيه، وإنما قدم عليه قوله: (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ) [آل عمران:٧٥] إنصافًا لحق هذا الفريق؛ لأن الإنصاف مما اشتهر به الإسلام؛ وتقديم المسند في قوله: (ﮜ ﮝ ﮞ) في الموضعين للتعجب من مضمون صلة المسند إليهما، ففي الأول: للتعجب من قوة الأمانة مع إمكان الخيانة، ووجود العذر له في عادة أهل دينه، والثاني: للتعجب من أن يكون الخون خلقًا لمتبع كتاب من كتب الله، ثم يزيد التعجب عند قوله: (ﯔ ﯕ ﯖ) فيكسب المسند إليهما زيادة تعجب من حالهم.
وقد جعل القنطار والدينار مثلين للكثرة والقلة، والمقصود ما يفيده الفحوى من أداء الأمانة فيما هو دون القنطار، ووقوع الخيانة فيما هو فوق الدينار.
وقوله: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ) أطلق القيام هنا على الحرص والمواظبة، كقوله: (ﭮ ﭯﭰ) أي: لا يفعل إلا العدل، والدوام حقيقته استمرار الفعل، وهو هنا مجاز في طول المدة لتعذر المعنى الحقيقي، مع وجود أداة الاستثناء؛ لأنه إذا انتهى العمر لم يحصل الإلحاح بعد الموت111.
ومجال الأمانة في الأموال مجال واسع:
فمن أمانة الأموال: العفة عما ليس للإنسان به حق من المال، وتأدية ما عليه من حق لذويه، وتأدية ما تحت يده منه لأصحاب الحق فيه، وتدخل الأمانة في البيوع والديون والمواريث والودائع والرهون والعواري والوصايا وغير ذلك.
فكما أن الإنسان لا يحب أن يتعدى أحد على أمواله الخاصة فإنه كذلك يجب أن لا يتعدى على مال غيره دون إذنٍ منه.
قال سبحانه: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [البقرة: ١٨٨].
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئٍ مسلم إلا بطيب نفسٍ منه)112.
خاصةً أن صاحب المال لم يأته ماله بالراحة، بل في الغالب بعد تعب وجهد، فكيف يجوز أخذه منه بغير حق؟!
قال ابن عثيمين رحمه الله في الكلام على الأمانة في الأموال: «ومنها الأمانة المالية، وهي: الودائع التي تعطى للإنسان؛ ليحفظها لأهلها، وكذلك الأموال الأخرى التي تكون بيد الإنسان لمصلحته أو مصلحته ومصلحة مالكها؛ وذلك أن الأمانة التي بيد الإنسان إما أن تكون لمصلحة مالكها أو لمصلحة من هي بيده، أو لمصلحتهما جميعًا.
فأما الأول فالوديعة تجعلها عند شخص، تقول مثلًا: هذه ساعتي عندك، احفظها لي، أو: هذه دراهم، احفظها لي، وما أشبه ذلك، فهذه وديعة فيها بقيت عنده لمصلحة مالكها.
وأما التي لمصلحة من هي بيده فالعارية، يعطيك شخصٌ شيئًا يعيرك إياه من إناء أو فراش أو ساعة أو سيارة، فهذه بقيت في يدك لمصلحتك.
وأما التي لمصلحة مالكها ومن هي بيده فالعين المستأجرة، فهذه مصلحتها للجميع؛ استأجرت مني سيارة وأخذتها، فأنت تنتفع بها في قضاء حاجتك، وأنا أنتفع بالأجرة، وكذلك البيت والدكان، وما أشبه ذلك، كل هذه من الأمانات»113.
ومن أمانة الأموال: الأموال التي يؤتمن عليها الموظف في العمل، سواء كان مديرًا له حق التصرف في الميزانية، أو أمين صندوق، أو موظف حسابات أو غيرهم، فإنها وديعة بيده، يجب أن يحافظ عليها، ولا يتصرف فيها إلا فيما فيه مصلحة العمل، سواء كان العمل حكوميًا أو خاصًا.
ونجد كثيرًا من الناس يتساهلون في الأموال العامة التي تكون تحت تصرفهم من أموال الوزارات والمؤسسات العامة حكومية كانت أو غير حكومية، فترى بعض المسئولين كبارًا كانوا أو صغارًا يعتبرون أن المؤسسة أو المكتب الذي يعملون فيه كأنه ملكهم الشخصي، لهم حرية التصرف فيه كما يشاءون، أضف إلى ذلك استغلال المناصب للأمور الشخصية، وأمثال هؤلاء الموظفين الذين خانوا الأمانة يتجاهلون أن أعمالهم هذه ستكون وبالًا عليهم في الآخرة، فالأصل في الموظف أنه أجير، والأجير لابد أن يكون أمينًا.
وقد دلت الأدلة على حرمة الخوض في الأموال العامة، فعن خولة الأنصارية رضي الله عنها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن رجالًا يتخوضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة)114.
قال الحافظ ابن حجر: «قوله: (يتخوضون في مال الله بغير حق) أي: يتصرفون في مال المسلمين بالباطل»115.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بحقه، ووضعه في حقه، فنعم المعونة هو، ومن أخذه بغير حقه، كان كالذي يأكل ولا يشبع)116.
وليست بالضرورة أن تكون هذه الأموال نقودًا، بل كل مال ولو أعيانًا كالسيارات والأجهزة والأدوات والعدد وغيرها تعد أموالًا مملوكة للدولة أو المؤسسة لا يحق التصرف فيها إلا بإذن، قليلها وكثيرها، من القلم والورق وغيرها!
وهذا واضح من العموم في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه)117.
فلم يفرق بين القليل والكثير.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيم فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه)118.
ومن الآفات التي يجب أن تحارب: أن تتحول المصالح في القطاعات وفي المؤسسات وفي الوظائف لخدمة شخص أو مسئول، وليس لخدمة عامة الناس، ويزداد الجرم أن هذه الأموال تعتبر أموالًا لبيت مال المسلمين، فالذي يأكل، يأكل من مال الفقراء والمحتاجين واليتامى، فهو من أعظم السحت.
وقد قال الله سبحانه وتعالى في حق اليهود: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔﭕ) [المائدة: ٤٢].
ومن الأمانة في المال: إعطاء الموظف والأجير أجره دون حيف أو نقص، فأرباب العمل والمسئولون عليهم أن يؤدوا للموظفين حقوقهم المالية كاملة دون تأخير أو أذى؛ لأن المسئول قد يعطي الحق كاملًا، ولكنه يؤخره، ويماطل فيه، فيؤذي أخاه المسلم، وإذا كان الله تعالى قد منع الأذى في الصدقة، بقوله: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ) [البقرة: ٢٦٤].
مع أنها مبنية على المسامحة؛ لأنها تطوع فمن باب أولى منع الأذى في حقوق الآخرين.
والرشوة من المجالات التي يخطئ فيها الناس في الوظائف، فيتساهل الموظف بأخذ الرشوة ويسميها إكرامية، أو يسميها خدمة أو غيرها من المسميات، كما قالت بلقيس: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ) [النمل:٣٥].
سمتها هدية، وهكذا قد يتلمس لها الموظف اسمًا آخر؛ لكي يلتمس لنفسه العذر مع أنها رشوة، فلا يجوز تلقي الرشاوى في الوظائف العامة ولا الخاصة على العمل الذي يؤديه الإنسان، والذي هو مكلف به أساسًا، فهذا هو عمله ووظيفته فكيف يأخذ على ذلك أموالًا مقابل أن يؤدي العمل الواجب عليه؟!
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لعن الله الراشي والمرتشي)119.
وعن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا من الأزد، يقال له: ابن اللتبية على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم، وهذا أهدي لي، فقال صلى الله عليه وسلم: (فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه فينظر يهدى له أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منه شيئًا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرًا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر)120.
وقد يتوصل الإنسان إلى الرشوة عن طريق أهله وزوجته أو أبنائه، فهذا واحد من عمال عمر رضي الله عنه أهدى إلى امرأة عمر نمرقتين، فدخل عمر ووجد في البيت سجادة، فقال: «من أين هذه السجادة؟ هل اشتريتها؟ قالت: بعث بها إلي فلان. قال: قاتله الله؛ لما أراد حاجة فلم يستطعها من قبلي أتاني من قبل أهلي، فجبذها جبذًا شديدًا من تحت من كان جالسًا عليها، وأخرجها من بيته، وفرقها بين امرأتين فقيرتين من الأنصار»121.
ومن الأمانة في الأموال الأمانة في البيع والشراء، وهذا أدبٌ رفيع، وخلق اجتماعي، يقرب الناس من بعضهم؛ لأنه يوجد الراحة في النفوس، وللأمانة في البيع والشراء دورٌ كبيرٌ في طمأنينة النفس، واستتباب الأمن؛ لأن صدق التعامل مع الناس وسيلة لزيادة الحب والتآلف بينهم؛ لذلك أوصى صلى الله عليه وسلم التجار بالتزام الصدق والتقوى والأمانة؛ لينالوا درجة الصديقين والشهداء.
فعن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء)122.
ومن مجالات الأمانة في الأموال رد الودائع إلى أهلها، وأداء الحقوق لأصحابها.
قال صلى الله عليه وسلم: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله)123.
وقد ورد أن الشهيد يسأل عنها يوم القيامة، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها إلا الأمانة.
قال: يؤتى بالعبد يوم القيامة -وإن قتل في سبيل الله- فيقال: أد أمانتك، فيقول: أي رب كيف وقد ذهبت الدنيا؟ فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية، وتمثل له أمانته كهيئتها يوم دفعت له، فيراها فيعرفها، فيهوي في أثرها حتى يدركها، فيحملها على منكبيه، حتى إذا ظن أنه خارج نزلت عن منكبيه، فهو يهوي في أثرها أبد الآبدين، ثم قال: الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والوزن أمانة، والكيل أمانة، وأشياء عددها وأشد ذلك الودائع»124.
والوديعة: أن يودع أحد الأشخاص عند إنسان يثق به وديعة عينية من مال أو ذهب أو أوراق نقدية أو متاع أو نحوه مما يسمى أمانات، وحينئذٍ يجب على المسلم حفظ هذه الوديعة حتى يرجعها إلى صاحبها.
والمقصود أن من مجالات الأمانة الواسعة الأمانة في الأموال، فهي من الأمانات التي نسأل عنها يوم القيامة، ولنا الأسوة الحسنة في رسولنا الأمين صلى الله عليه وسلم، حينما استخلف عند هجرته ابن عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ ليسلم المشركين الأمانات والودائع التي استحفظها، مع أن هؤلاء المشركين كانوا قد خططوا لقتله أو سجنه أو طرده من الديار، وأرغموه على الهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة125.
الآثار المترتبة على أداء الأمانات
بين الوحي الإلهي الآثار المترتبة على أداء الأمانة في الدنيا والآخرة، وسوف نبينها فيما يأتي:
أولًا: الآثار الدنيوية:
١. الثقة بالأمين:
من أعظم آثار الأمانة الدنيوية أن الأمين يصبح موضع ثقة الناس واحترامهم، والخائن محط سخطهم وحقدهم؛ ولهذا نجد أن الإسلام قد شدد في الأمانة والعهد؛ ليقيم المجتمع على أسس متينة من الخلق، والثقة والطمأنينة، وجعل رعاية الأمانة والعهد سمة النفس المؤمنة، كما جعل خيانة الأمانة، وإخلاف العهد سمة النفس المنافقة والكافرة.
وكلما ازدادت الثقة بين أبناء المجتمع كان ذلك دليلًا على توافر أمانتهم، وسمو أخلاقهم، وشيوع الثقة والتعاون بينهم، وهذا يساعد على تحقيق التكافل الذي هو قاعدة المجتمع الإسلامي، وكذا الاحترام المتبادل لجهود الآخرين، وما يقدمونه من عطاء وإسهام يجعل المجتمع أمة واحدة.
والنفس البشرية تميل بالفطرة إلى التعامل مع الأمين الصادق حتى غير المسلمين يؤثرون الأمين، فقد ورد في قصة أهل نجران لما وافقوا على دفع الجزية.
قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: إنا نعطيك ما سألتنا، فابعث معنا رجلًا أمينًا، ولا تبعث معنا إلا أمينًا، فقال: (لأبعثن معكم رجلًا أمينًا حق أمين) فاستشرف لها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (قم يا أبا عبيدة بن الجراح)126 فأرسله معهم، وكان أمينًا لهذه الأمة.
ولولا وجود الأمانة لما حصلت الثقة بأي أحد، ففي باب الرسالات لولا صفة الأمانة في الرسل لما حصلت الثقة بما يبلغون عن ربهم، ولما اصطفاهم الله لحمل رسالاته للناس.
وفي باب العلاقة الزوجية لولا وجود الأمانة بين الزوجين لما حصل الثقة بينهما، ولما أمن أحدهما الآخر، ولما عاشا في سعادة وأمن؛ لهذا فالعلاقة بين الزوجين ينبغي أن تقوم على أساس الأمانة المتبادلة في حفظ الأعراض، والأسرار البيتية؛ لكي يتولد الإخلاص والثقة بينهما في كل عمل فيه مصلحة الأسرة، فإذا توفرت الأمانة والإيمان تنشأ الثقة بين الطرفين، ويزول الشك والريبة، ويصبح كل منهما عينًا ساهرة على الأسرة ومصالحها، وإذا فقدت الأمانة، ودخل مرض الشك والريبة بين الزوجين كان ذلك بداية دمار الأسرة، والتفريق بين الأبناء؛ لذلك حرص الإسلام على تعزيز عنصر الأمانة بين أفرادها، فالزوجة التي تحفظ زوجها في عرضها في غيابه، وترعى الأمانة في ماله من الضياع والتبذير، وتحفظ ولده وسائر شئون البيت تكون قد أدت الأمانة، ورعت المسئولية، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (والمرأة راعية في بيت زوجها، ومسؤولة عن رعيتها)127.
ولولا وجود الأمانة بين البائع والمشتري لما حصلت الثقة بينهما، ولخاف كل منهما من الآخر، وغش كل منهما الآخر؛ فلهذا كان للأمانة في البيع والشراء دور كبير في طمأنينة النفس، واستتباب الأمن؛ لأن صدق التعامل مع الناس وسيلة لزيادة الحب والتآلف بينهم؛ ولهذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم التجار بالتزام الصدق والتقـوى والأمانة؛ لينالوا درجة الشهداء -كما سبق- من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء)128.
وفي باب الشراكة لولا وجود الأمانة بين الشريكين لما حصل الثقة بينهما؛ ولما أمن أحدهما الآخر، ولضيع الشريك الأمانة وخان شريكه الذي ائتمنه، فسرق من مال صاحبه، ولم يخبره بحقيقة البيع والشراء والربح، وإذا فعل ذلك حلت العقوبة، ومحقت البركة.
والمقصود أن بالأمانة توجد الثقة بين الناس، وتشيع في المجتمع الطمأنينة على الأرواح والأعراض والأموال، ومما لاشك فيه أن الثقة روح العمران، وسر النجاح ولا عجب؛ فإنه بالثقة تحسن المعاملة، وتحفظ الحقوق، وتتبدد المطامع، وتكبح الشهوات، وتتلاشى الفوضى، ويسود النظام، وهذه هي ركائز النهوض، ووسائل التفوق، وأسس التبريز في مجالات الحياة، وينعكس الأمر إذا انعدمت الثقة بين الناس حيث تضطرب الأمور، وتشيع الفوضى، ويختل الأمن، ويفسد النظام، ويفقد الشخص أعز شيء يرتكز عليه في حياته؛ فالتاجر يخبو شرفه، وتبور تجارته، والصانع تنحط صناعته، وتسوء سمعته، والموظف تختل موازينه، وتهتز وظيفته، وبكل هذه السوءات تشقى الأمة، ويذهب ريحها.
ولأجل هذا كله أمر القرآن الكريم بما يحافظ على هذه الثقة في صفوف الناس وهو الأمانة؛ حفظًا للنوع الإنساني من التدهور، وصيانة للمجتمع الإسلامي من التفكك.
وقد جاء في الحديث أن مما ينزع الثقة بين الناس ضياع الأمانة حتى لا يكاد يثق الناس بأحد، فعن حذيفة رضي الله عنه.
قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين، رأيت أحدهما، وأنا أنتظر الآخر، حدثنا: (أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن، ثم علموا من السنة).
وحدثنا عن رفعها قال: (ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر الوكت129، ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل المجل130، كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرًا131، وليس فيه شيء، فيصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحدهم يؤدي الأمانة، فيقال: إن في بني فلان رجلًا أمينًا، ويقال للرجل: ما أعقله! وما أظرفه! وما أجلده! وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان).
ولقد أتى علي زمان، وما أبالي أيكم بايعت، لئن كان مسلمًا رده علي إسلامه، وإن كان نصرانيًا رده علي ساعيه، فأما اليوم فما كنت أبايع إلا فلانًا وفلانًا132.
وهذا الحديث علم من أعلام النبوة؛ لأن فيه الإخبار عن فساد أديان الناس، وقلة أمانتهم في آخر الزمان، ولا سبيل إلى معرفة ذلك قبل كونه إلا من طريق الوحي133.
وفي الحديث أيضًا دلالة أن هذه الأمانة سوف تنزع من قلوب الرجال، فيصبح الناس يتحدثون: إن في بني فلان رجلًا أمينًا، يعني: أنك لا تكاد تجد في القبيلة رجلًا واحدًا أمينًا، والباقي كلهم على خيانة لم يؤدوا الأمانة، وواقع الناس اليوم يصدق هذا الحديث؛ فإنك تستعرض الناس رجلًا رجلًا حتى تبلغ إلى حد المائة أو المئات لا تجد الرجل الأمين الذي يؤدي الأمانة كما ينبغي في حق الله وحق الناس، قد تجد رجلًا أمينًا في حق الله يؤدي الصلاة، ويؤدي الزكاة، ويصوم، ويحج ويذكر الله كثيرًا، لكنه في المال ليس أمينًا، إن وكل إليه عمل حكومي فرط وصار لا يأتي للدوام إلا متأخرًا، ويخرج قبل انتهاء الوقت، ويضيع الأيام الكثيرة في أشغاله الخاصة ولا يبالي، مع أنك تجده في مقدمة الناس في المساجد، وفي الصدقات، وفي الصيام، وفي الحج، لكنه ليس أمينًا من جهة أخرى134.
وقوله في الحديث: (يصبح الناس) أي: يدخلون في الصباح أو يصيرون (يتبايعون) أي: يجري بينهم التبايع، ويقع عندهم التعاهد، ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة، بل يظهر من كل أحد منهم الخيانة في المبايعة والمواعدة والمعاهدة، ومن المعلوم أن حفظ الأمانة أثر كمال الإيمان، فإذا نقصت الأمانة نقص الإيمان، وبطل الإيقان، وزال الإحسان، فيقال عند ذلك -بسبب قلة الأمانة في الناس-: إن في بني فلان رجلًا أمينًا، أي: كامل الإيمان، وكامل الأمانة، ويقال -أي: في ذلك الزمان- للرجل أي: من أرباب الدنيا، ممن له عقل في تحصيل المال والجاه، وطبع في الشعر والنثر وفصاحة وبلاغة وصباحة، وقوة بدنية، وشجاعة وشوكة: (ما أعقله! وما أظرفه! وما أجلده!) تعجبًا من كماله، واستغرابًا من مقاله، واستبعادًا من جماله، وحاصله: أنهم يمدحونه بكثرة العقل والظرافة والجلادة، ويتعجبون منه، ولا يمدحون أحدًا بكثرة العلم النافع، والعمل الصالح135.
فهذه الثقة وهذه الطمأنينة ينالها الأمين، أما فاقد الأمانة فيكفيه ما يلقاه في الدنيا من مهانة وصغار، حين ينكشف أمره، ويهتك ستره، ويجد الأمانة التي ضيعها وخانها متمثلة له يوم القيامة عند الصراط؛ لتهوي به من فوق الصراط إلى قعر جهنم -والعياذ بالله تعالى- جزاء ما ضيع منها، وفرط فيها، كما جاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الشفاعة العظمى: (وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبتي الصراط يمينًا وشمالًا) إلى أن قال: (ونبيكم قائم على الصراط، يقول: رب سلم سلم) قال: (وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة، مأمورة بأخذ من أمرت به، فمخدوش ناج، ومكدوس في النار) قال أبو هريرة راوي الحديث: «والذي نفس أبي هريرة بيده: إن قعر جهنم لسبعون خريفًا»136.
فهنيئًا لمن قام بحق الأمانة، فجرى على الصراط، ونجا من عذاب جهنم، والحسرة والندامة على من تساهل فخان أمانته، وضيع وسقط في الغدر، والشهوة العارضة، أو الحقد الأعمى الذي يحمله على الخيانة والغدر والنكث.
٢. انتشار الطمأنينة والسعادة في المجتمع:
ومن آثار الأمانة في الدنيا استقامة أحوال المسلمين ما ثبتوا عليها، وتخلقوا بها، فإن ضيعوها، ولم يؤدوها إلى أهلها، فسدت حياتهم، وساءت معاملاتهم، وعاشوا حياة الغدر والغش والخيانة، وعدم الطمأنينة.
والمجتمعات في ظل قيام أفرادها بأداء أماناتهم يعم فيها السعادة والطمأنينة، ويعيش الفرد فيها حياة طيبة، وحين تختفي الأمانة من حياتهم تفسد حياتهم، وتسوء معاملاتهم، ويعيشون حياة خالية من الطمأنينة والسعادة، وراحة البال، وواقع الناس اليوم خير دليل على ذلك، حيث عم التعامل بالغدر والخيانة والغش والخداع والكذب في سائر أحوالهم ومعاملاتهم إلا من رحم الله.
ومن علامات سوء الزمان، وفساد المجتمع، وخبث السرائر ضياع الأمانة، والتفريط في الرعاية، والتهاون في المسئولية، واتخاذ المصالح الخاصة الهدف والغاية، ونبذ المصالح العامة من أجل المصالح الخاصة، والمنافع الذاتية.
وتبرز آثار تضييع الأمانة في فساد أخلاق المجتمع، وانقلاب الموازين الصحيحة، وتزيين المحرمات، حتى تصبح بعض المجتمعات المسلمة لا تعرف معروفًا، ولا تنكر منكرًا، فيعم النفاق، ويكثر الزنا، وتنتشر الخمور والمخدرات، وما يتبع ذلك من ارتفاع أسافل الناس على خيارهم، بسبب توسيد الأمور لغير أهلها.
ولهذا فأداء الأمانة هو من الواجبات العظيمة على الفرد والمجتمع، والذي به يسعد المجتمع، وينتشر فيه الخير والطمأنينة، ومن أسباب المصائب والعقوبات الخاصة والعامة في المجتمع تضييع الأمانات، وعدم أدائها لأهلها، وكم من إنسان قد ابتلي بأنواع من الأمراض والأسقام والأوجاع بسبب تضييعه لما قد اؤتمن عليه من حقوق الناس.
وقد اعتبر ضياع الأمانة وفشو الغدر والخيانة من علامات الساعة وأشراطها؛ ولهذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم من إضاعتها، والتهاون فيها، وأشار إلى أن في إضاعتها انحلال أمر المسلمين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدث إذ جاء أعرابي، فقال: متى الساعة؟ قال: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة) قال: كيف إضاعتها؟ قال: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله، فانتظر الساعة)137.
قال العلماء رحمهم الله في بيان معنى هذا الحديث الشريف: معنى وسد الأمر إلى غير أهله: أن الأئمة والحكام قد ائتمنهم الله على عباده، وفرض عليهم النصيحة لهم، فيجب عليهم تولية الأمناء أهل الكفاءة والدين والأمانة والعلم، فإذا قلدوا غير هؤلاء، وقدموا عليهم أهل الفسق والفجور والجهالة فقد ضيعوا الأمانة التي حملهم الله إياها.
وفي ضياع الأمانة أيضًا اختلال الموازين، وفساد القيم، حيث تنقلب الموازين، وتضطرب المقاييس، وتفسد الأخلاق والقيم والتعاليم.
قال صلى الله عليه وسلم: (سيأتي على الناس سنوات خداعات، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة في أمر العامة) قيل: وما الرويبضة؟ قال: (الرجل التافه)138.
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يخون الأمين، ويؤتمن الخائن)139.
وفي هذا غاية في اختلال الموازين في المجتمع، نسأل الله السلامة والعافية.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف بكم بزمان يوشك أن يأتي يغربل الناس فيه غربلة -يعني: يذهب خيارهم ويبقى شرارهم-، ثم تبقى حثالة من الناس، قد مرجت عهودهم وأمانتهم، فاختلفوا هكذا -وشبك بين أصابعه- فقالوا: كيف بنا يا رسول الله إذا كان ذلك؟ قال: تأخذون بما تعرفون، وتدعون ما تنكرون، وتقبلون على خاصتكم، وتذرون عوامكم)140.
ويؤدي ضياع الأمانة في المجتمع إلى تفكك العلاقات، فحينما تفتقد الثقة بين أبناء المجتمع، وتتفشى منكرات القلوب من الغل والبغضاء والتناحر تتفكك العلاقات الاجتماعية، وتكثر مظاهر الخيانة، وإساءة الظن، وإنكار الحقوق، وغلبة الأنانية والفردية، وحب الأثرة، وبذا تنحل قاعدة المجتمع، وتنفصم عراه، وتكثر الإخفاقات، ويحدث التخلف الحضاري للمجتمع، وغياب العزة الإسلامية، وغلبة الذل على المسلمين، وتفرقهم، وتشتتهم وضعفهم اقتصاديًا، وتخلفهم علميًا، ووقوع فئات منهم في الهزيمة النفسية الداخلية؛ مما يسبب ذلك في تشويه صورة الإسلام والمسلمين، وغلبة الكذب والخيانة، والتناقض بين القول والعمل.
وقد صارت الأمة الإسلامية منذ زمن تعيش مسلسل السقوط والانحدار في إقصاء الأمناء والنصحاء من الحياة، وتملأ الفراغات في القيادات بالخائنين، وأصبح الناس يرون بأم أعينهم في كثير من بقاع العالم الإسلامي أن الأمور توسد إلى غير أهلها، ويؤتمن الخائن، ويخون الأمين، ويغدو الأمناء غرباء، نادرين يشار إليهم، ومع ندرة هؤلاء الأمناء يستبعدون ويولى غيرهم، وذلك من أسباب إضاعة الأمانة، وظهور الخيانة، وهو من علامات الساعة.
والمقصود أن الأمانة رمز السعادة، وعنوان الخير والمحبة؛ ولذا أمر الله بها عباده، وحلى بها ملائكته، وهي من أخص الفضائل والآداب التي يترتب عليها صيانة الأموال والأعراض، وحفظ المجتمع من غوائل الفوضى والفساد، فبين الأمانة والإيمان تلازم، فحيث يكون الإيمان تكون الأمانة، وحيث تكون الأمانة يكون الإيمان.
وإن القيام بأداء الأمانات فيه حفظ المجتمع من الزوال، وحفظ الأفراد من حلول العذاب، وبه يسود السلام، ويعم الأمن، وتنتشر الطمأنينة والسعادة في المجتمع، ولا يتسنى تعميق روح الأمانة في أفراد المجتمع، والوقاية من الخيانة إلا في ظل التقوى والإيمان، والالتزام الديني والأخلاقي.
وإن التزام الجميع بخلق الأمانة علامة على مكامن القوة في المجتمع، وإن تضييع الأمانة، وتوسيد الأمر إلى غير أهله علامة على مكامن الضعف والتفرقة وضياع طاقات ومقدرات الأمة؛ ولهذا فنحن في أمس الحاجة إلى التذكير بها في مجتمعاتنا المعاصرة.
٣. سعة الرزق ورغد العيش:
لاشك أن الصدق والأمانة في المعاملات سبب لحصول الرزق وبركته، وقد قال الله تعالى: (ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ) [الطلاق ٢- ٣].
فرتب على التقوى التي أساسها الصدق وأداء الأمانة في المعاملة التيسير، والخروج من كل ما ضاق على الناس، وفتح أبواب الرزق، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما)141.
وإنما كان الصدق والبيان وأداء الأمانة في جميع المعاملات سببًا للبركة وتيسير أبواب الرزق لأمرين مهمين:
أحدهما: وعد الله ووعد رسوله، والله لا يخلف الميعاد، أن من سلك الطرق التي أمر بها، وتجنب ما نهى عنه، بارك الله له في سعيه، ورزقه من حيث لا يحتسب، وفتح له من خزائن جوده وكرمه، ما لا يناله الناس بسعيهم وجدهم وحذقهم، وهذا أمر رباني، وجزاء إلهي، مشاهد معلوم بالتجربة.
والثاني: أن من عامل الناس، وعرفوا منه الصدق والنصح، اطمأنوا إليه، وركنوا إلى معاملته، ورغبوا في الأخذ منه وإعطائه؛ لأن قلوبهم إليه مطمئنة، ونفوسهم إلى أمانته منقادة واثقة، وحاز الاعتبار والشرف اللذين عليهما أسست المعاملات النزيهة الطيبة.
وكذلك العلاقة بين الشركاء إذا بنيت على الصدق والأمانة، أفادت أهلها خيرًا كثيرًا، فإنه من كان الله معه أيده بعونه وتوفيقه وتسديده؛ وكانت حركاته مقرونة بالنجاح مع ما في اتفاق الشريكين على مصالحهما، واجتماع رأيهما، وحصول التشاور الذي هو مدار الأعمال، مع ما يقترن بذلك من التعاون البدني، والسعي المشترك من المنافع، ودفع ما يخشى ضرره، كل هذه الأمور أسباب ومفاتيح لحصول الرزق وبركته ونمائه.
وضد ذلك إذا بنيت المعاملات والشركات على الكذب، وعدم النصح، وحصول الغش والخيانة، فإن الله ينزع بركته، ويحل المحق بدل ذلك، وتتأخر المعاملة، وتنحط بالخيانة والكذب، وهذا كله مشاهد مجرب 142.
وكذلك فالأمانة في العمل سبب في الاستمرار فيه، ومن ثم استمرار الرزق الذي يأتي منه، فبدون الأمانة لا يمكن للإنسان أن يستمر في عمله، وينجح فيه؛ ولهذا فكل عامل يجب أن يكون أمينًا على مصالح ومال من يستخدمه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والخادم في مال سيده راعٍ، وهو مسئول عن رعيته)143.
فالراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما اؤتمن على حفظه، فهو مطلوب بالعدل فيه، والقيام بمصالحه، فمن الأمانة ألا يستخدم ما تحت يده من أشياء تخص العمل في أغراضه الشخصية إلا بعد استئذان صاحب العمل، ويكون الأمر أشد فيما لو كان العامل موظفًا لدى الدولة؛ لأن ما تحت يده من أشياء هي أموال عامة تخص بيت مال المسلمين، ولا يجوز التصرف فيها إلا بالحق.
فلا يخفى إذن ما في الأمانة من فوائد للشخص نفسه من استمراره في العمل، وزيادة أجره، ورفع مرتبته، وزيادة الثقة فيه؛ لأن الجزاء من جنس العمل.
وإذا ضيع الشخص الأمانة محقت البركة منه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (يقول الله: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خان خرجت من بينهما)144.
قال المناوي: «بالمعونة، وحصول البركة والنماء، (ما لم يخن أحدهما صاحبه) بترك أداء الأمانة، وعدم التحرز من الخيانة (فإذا خانه) بذلك (خرجت من بينهما) يعني: نزعت البركة من مالهما»145.
فشركة الله لهما استعارة؛ كأنه جعل البركة بمنزلة المال المخلوط، فسمى ذاته ثالثًا لهما.
وقوله: (خرجت) ترشيح للاستعارة، وفيه ندب الشركة، وأن فيها البركة، بشرط الأمانة؛ وذلك لأن كلًا منهما يسعى في نفع صاحبه، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.
وقد ذكر الذهبي قصة تدل على فضل الأمانة، وما يجلب الله بها من أرزاق، حيث قال: «وقال أبو المظفر سبط ابن الجوزي: حكى ابن عقيل عن نفسه.
قال: حججت، فالتقطت عقد لؤلؤ، في خيط أحمر، فإذا شيخ أعمى ينشده، ويبذل لملتقطه مائة دينار، فرددته عليه، فقال: خذ الدنانير، فامتنعت، وخرجت إلى الشام، وزرت القدس، وقصدت بغداد، فأويت بحلب إلى مسجد، وأنا بردان جائع، فقدموني، فصليت بهم، فأطعموني، وكان أول رمضان، فقالوا: إمامنا توفي فصل بنا هذا الشهر، ففعلت، فقالوا: لإمامنا بنت، فتزوجت بها، فأقمت معها سنة، وأولدتها ولدًا ذكرًا، فمرضت في نفاسها، فتأملتها يومًا، فإذا في عنقها العقد بعينه، بخيطه الأحمر، فقلت لها: لهذا قصة! وحكيت لها، فبكت، وقالت: أنت هو والله، لقد كان أبي يبكي، ويقول: اللهم ارزق بنتي مثل الذي رد العقد علي، وقد استجاب الله منه، ثم ماتت، فأخذت العقد والميراث، وعدت إلى بغداد»146.
ثانيًا: الآثار الأخروية للأمانة:
من آثار أداء الأمانة الحصول على رحمة الله ومغفرته للأفراد والجماعات، فالعقبى الحميدة، والنهاية الرشيدة لمن يوفي الأمانة حقها، ويرعى لها مكانتها، فمن أدى الأمانة استحق من الله الرحمة والغفران، والثواب الجزيل، ومن لم يؤدها بل خانها استحق العقاب الوبيل، وصار خائنًا لله وللرسول ولأمانته، منقصًا لنفسه بكونها اتصفت بأخس الصفات، وأقبح السمات وهي الخيانة، مفوتًا لها أكمل الصفات وأتمها، وهي الأمانة.
وقد رتب الله على أداء الأمانات، والقيام بحقوقها أعظم الثواب، فقال: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) [المؤمنون:٨-١١].
فذكر الله في هذه الآيات صفات المؤمنين، الذين يرثون الفردوس، وهي أعلى منازل الجنة، ومن هذه الصفات أنهم يؤدون الأمانة، ويوفون بالعهد، فبين جزاءهم بقوله: (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) وهذا الجزاء بسبب ما اتصفوا من هذه الصفات.
وذكر في بداية هذه السورة أن هؤلاء الموصوفين بهذه الصفات التي منها حفظ الأمانة مفلحون، فقال: (ﭑ ﭒ ﭓ) [المؤمنون:١].
وغاية ما يطلبه المؤمنون هو الفلاح في الدنيا والآخرة، وليس بعدها غاية تمتد إليها عين أو خيال.
وفي هذا تنويه من الله بذكر عباده المؤمنين، وذكر فلاحهم وسعادتهم، وبأي شيء وصلوا إلى ذلك، وفي ضمن ذلك الحث على الاتصاف بصفاتهم، والترغيب فيها، فليزن العبد نفسه وغيره على هذه الآيات، يعرف بذلك ما معه، وما مع غيره من الإيمان، زيادة ونقصًا، كثرة وقلة.
ثم قال: (ﮊ) أي: الموصوفون بتلك الصفات (ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) الذي هو أعلى الجنة ووسطها وأفضلها؛ لأنهم حلوا من صفات الخير أعلاها وذروتها، أو المراد بذلك: جميع الجنة؛ ليدخل بذلك عموم المؤمنين على درجاتهم ومراتبهم، كل بحسب حاله (ﮑ ﮒ ﮓ) لا يظعنون عنها، ولا يبغون عنها حولًا؛ لاشتمالها على أكمل النعيم وأفضله وأتمه، من غير مكدر ولا منغص.
والمقصود أن جزاء الأمانة عند الله عز وجل في الآخرة النعيم المقيم، والنجاة من العذاب الأليم.
وفي موضع آخر أخبر الله تبارك وتعالى أن الملتزمين بالأمانة في جنات مكرمون، فقال: (ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) [المعارج:٣٢].
ثم قال: (ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ) [المعارج: ٣٥].
وقال تعالى: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ) [الرعد:٢٠].
إلى أن قال: (ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮜ) [الرعد:٢٢ – ٢٣].
فالله تبارك وتعالى هنا عدد صفات المؤمنين، وذكر من ضمنها الوفاء بالعهد، والمحافظة على الميثاق، والعهد والميثاق من الأمانات، والعهد يفهم منه أن الإنسان لن يكون مؤمنًا حق الإيمان ولن ينال الأجر الكبير، ولن يدخل جنات النعيم، ويكرم معه أهله حتى يكون أمينًا، ملتزمًا بشرع الله التزامًا شاملًا، من دون نقصان.
فالذين تحملوا الأمانة، وقاموا بها وجدوا واجتهدوا في تحقيقها هم أهل الإيمان، وأهل كرامة الله تبارك وتعالى في الدنيا والآخرة.
وقد بين سبحانه وتعالى بعد ذكر الأمانة جزاء هذه الأقسام تجاه الأمانة، فقال: (ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ) [الأحزاب:٧٣].
فالأمين بلا ريب سيجد أثر هذا الخلق النبيل في يوم القيامة، وقد جاء عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وترسل الأمانة والرحم، فتقومان جنبتي الصراط يمينًا وشمالًا)147 وخص الأمانة والرحم بالذكر لعظم أمرهما، وكثير موقعهما؛ حيث يصورهما الله على الصفة التي يريدها سبحانه وتعالى، فتقومان تطالبان بحقهما كل من يريد الجواز على الصراط؛ لذلك كان لا بد من التواصي بين المسلمين بحفظ أمانات الدين، وتبليغه للناس، وحفظ أمانة الأموال، والوفاء في الديون والحقوق، وكتمان أسرار المجالس، وغيرها من الأمانات.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خمس من جاء بهن مع إيمان دخل الجنة، من حافظ على الصلوات الخمس على وضوئهن وركوعهن وسجودهن ومواقيتهن، وصام رمضان، وحج البيت إن استطاع إليه سبيلًا، وأعطى الزكاة طيبة بها نفسه، وأدى الأمانة) قالوا: يا أبا الدرداء، وما أداء الأمانة؟ قال: «الغسل من الجنابة»148.
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اضمنوا لي ستًا أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا اؤتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم)149.
فالأمانة تعدل الدنيا وما فيها، فمن رزقه الله الأمانة هانت عنده الدنيا، ومتاعها الزائل، فلا يبيع أمانته بعرض من أعراضها.
فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طهر)150.
كما أن الأمانة سبيل الفلاح، ويبدو ذلك جليًا في قصة نبي الله يوسف عليه السلام، فقد كان أمة ومثالًا للأمانة والعفاف، ثم كان له بعد ذلك التمكين والفلاح، فبعد أن ذكرت امرأة العزيز براءته التي بلغت حاكم مصر.
قال: جيئوني به أجعله مقربًا لدي، ومن خلصائي، وأهل مشورتي.
قال تعالى: (ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ) [يوسف: ٥٤].
فأتوه به مكرمًا محترمًا، فلما جاء يوسف وكلمه الملك أعجبه كلامه، وعرف براءته، وعظيم أمانته، وحسن خلقه، وزاد موقعه عنده: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) [يوسف: ٥٤].
أي: إنك اليوم عندنا عظيم المكانة، أمين على الأسرار، ومؤتمن على كل شيء، فأراد يوسف أن ينفع العباد، ويقيم العدل بينهم، فقال للملك: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ) [يوسف: ٥٥].
أي: إني خازن أمين، ذو علم وبصيرة بما أتولاه، كما أن سلامة يوسف عليه السلام من الفاحشة مما يؤكد علاقة الأمانة بالدين. والله أعلم.
موضوعات ذات صلة: |
الخيانة، والوفاء |
1 مختار الصحاح، الرازي ص٢٦.
2 لسان العرب، ابن منظور ١٣/٢١.
3 المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية ١/ ٢٨.
4 مقاييس اللغة، ابن فارس ١/١٣٣.
5 انظر: موسوعة أخلاق القرآن، الشرباصي ٢/١٥.
6 الكليات ص ١٨٧.
7 انظر: الأخلاق الإسلامية، عبدالرحمن حبنكة الميداني ١/٦٤٥.
8 انظر: الأخلاق في الإسلام، كايد فرعوش وآخرون ص١٢٢.
9 انظر: المعجم المفهرس الشامل لألفاظ القرآن الكريم، عبد الله جلغوم، ٤/١٨٥-١٩٧.
10 انظر: الوجوه والنظائر، الدامغاني، ص٧٣، نزهة الأعين النواظر، ابن الجوزي، ص١٠٤، بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي ٢/١٥٢.
11 التحرير والتنوير ١/٢٨١٩.
12 المفردات ص٥٩١.
13 مفاتيح الغيب، الرازي ١١/١٦٦.
14 القاموس المحيط، الفيروزآبادي ص١١٩٧.
15 الفروق اللغوية، العسكري ١/٥٢٥.
16 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأيمان والنذور، باب لا تحلفوا بآبائكم، ٦/٢٤٤٩، رقم ٦٢٧٠.
17 انظر: إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٢/١٩٣.
18 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١/٩٦٩.
19 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص١٨٣.
20 الإجماع، ابن المنذر ص٣٦.
21 أخرجه أحمد في مسنده، ٢٤/١٥٠، رقم ١٥٤٢٤، وأبو داود في السنن، كتاب الإجارة، باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده ٣/٣١٣، رقم ٣٥٣٦، والترمذي في سننه، أبواب البيوع ٣/٥٦٤، رقم ١٢٦٤.
وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ١/٧٨٣، رقم ٤٢٣.
22 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١/٩٧٠.
23 مفاتيح الغيب، الرازي ١/٢٢٨.
24 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص١٨٣.
25 أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ٦/٢٨٨.
وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ٢/١٥٧، رقم ١٧٦٣.
26 أخرجه أحمد في مسنده، ٢٠/٣٢، رقم ١٢٥٦٧.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم ٧١٧٩.
27 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة بغير ضرورة، ٣/١٤٥٧، رقم ١٨٢٥.
28 غرائب القرآن، النيسابوري ٣/١٣.
29 انظر: زهرة التفاسير، أبو زهرة ١/١٧٢٤.
30 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ١٢/١.
31 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ١١/٥٠.
32 مفاتيح الغيب، الرازي ١٢/١.
33 المحرر الوجيز، ابن عطية ٧/٢.
34 انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب ٧/٤٧٣.
35 انظر: الدر المنثور، السيوطي ٨/٤٣٤.
36 انظر: ديوان النابغة الذبياني ص ٧٣.
37 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١/٣٠٢٧.
38 انظر: البحر المحيط، أبو حيان ٥/٣٧٦.
39 أخرجه أحمد ٢٤/٢٦١، رقم ١٥٥٠٤.
40 انظر: معرفة السنن والآثار، البيهقي ١٠/٤٩٢، رقم ٤٠٩٤.
41 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ١/٧، رقم ٧.
42 أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الفتن، باب حرمة دم المؤمن وماله، ٢/١٢٩٨، رقم ٣٩٣٤.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم ٦٦٥٨.
43 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب بعث علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد رضي الله عنهما إلى اليمن قبل حجة الوداع، ٤/١٥٨١، رقم ٤٠٩٤، ومسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، ٣/١١٠، رقم ٢٥٠٠.
44 أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ٦/٣٥٧.
45 أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ٦/٢٨٨.
46 انظر: أخبار مكة، الفاكهي ١/٣٧٢، الآداب الشرعية، ابن مفلح ١/ ٤٠.
47 التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي ٣/٣٣٩.
48 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١/٤٨٥٦.
49 البحر المحيط، أبو حيان ١٠/٤٩٨.
50 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١/٤٨٥٦.
51 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص١١١.
52 روح المعاني، الألوسي ١٣/١٧٠.
53 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، رقم ٣٤، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، رقم ٥٨.
54 أخرجه أحمد في مسنده، ٢٠/٣٢، رقم ١٢٥٦٧.
وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم ٧١٧٩.
55 انظر: تاريخ دمشق ٥٨ / ٤٠٤.
56 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، ٣/١٣٦٩، رقم ٣٥٣٤، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، رقم ٢٤١٩.
57 انظر: ديوان أبي العلاء المعري ١/٥٧٠.
58 البيتان منسوبان لعلم الدين السخاوي.
انظر: نكث الهميان، الصفدي ١/٣٧.
59 أضواء البيان، الشنقيطي ٣/٣٥.
60 جامع البيان، الطبري ٢٠/٣٤٠.
61 الجامع لأحكام القرآن ١٤/٢٥٣.
62 تفسير القرآن العظيم ٦/٤٨٩.
63 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٢/١٢٧.
64 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ١٣/١١٤.
65 الكشف والبيان، الثعلبي ١١/١٨٣.
66 انظر: غرائب القرآن، النيسابوري ٦/٢٧٠.
67 أضواء البيان ٦/٢٥٨.
68 إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٧/ ١١٨.
69 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٢/١٢٥.
70 المصدر السابق.
71 انظر: روح المعاني ٢٢/٩٦.
72 أضواء البيان ٢/٣٠.
73 أخرجه أحمد في مسنده، ١٤/٤٨٥، رقم ٨٩٠٩.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم ٢٧٨٧.
74 أخرجه أحمد في مسنده، ٢٣/٤٥، رقم ١٤٦٩٣، وأبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب في نقل الحديث، ٤/٢٦٨، رقم ٤٨٦٩، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما.
وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة رقم ١٩٠٩.
75 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب في المشورة، ٤/٤٩٥، رقم ٥١٣٠، والترمذي في سننه، أبواب الأدب، باب إن المستشار مؤتمن ٥/١٢٥، رقم ٢٨٢٢، وابن ماجه في سننه، كتاب الأدب، باب المستشار مؤتمن، ٢/ ٢٣٣، رقم ٣٧٤٥.
وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم ٦٧٠٠.
76 أخرجه الحاكم في المستدرك ١/١٨٤، رقم ٣٥٠.
وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم ٦٠٦٨.
77 أخرجه أحمد في مسنده، ٢٠/٣٢، رقم ١٢٥٦٧.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم ٧١٧٩.
78 روح البيان، إسماعيل حقي ١٠/١٢٦.
79 مفاتيح الغيب، الرازي ٩/١٧٦.
80 انظر: غرائب القرآن، النيسابوري ٢/٢٩٠.
81 التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي ٢/٢٣١.
82 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٨/١٧.
83 روح البيان، إسماعيل حقي ٢/٤١.
84 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق ١/٢١، رقم ٣٤، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، رقم ٥٨.
85 أخرجه الحاكم في المستدرك ٣/٢٠١، رقم ٢٠٢.
قال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد». ولم يتعقبه الذهبي.
86 انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب ٧/٣٣٦.
87 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٢/٣٤٠.
88 المصدر السابق.
89 السياسة الشرعية ص١٢.
90 فتح القدير ١/٧٢٥.
91 أخرجه أحمد في مسنده ٢٤/١٥٠، رقم ١٥٤٢٤، وأبو داود في سننه، كتاب الإجارة، باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده، ٣/٣١٣، رقم ٣٥٣٦، والترمذي في سننه، كتاب البيوع، ٣/٥٦٤، رقم ١٢٦٤.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم ٢٤٠.
92 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، ٤/١٩٩٧، رقم ٢٥٨٢.
93 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص١٨٣.
94 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، ١/٧٤، رقم ٥٥.
95 في ظلال القرآن، سيد قطب ٢/١٦٢.
96 غرائب القرآن، النيسابوري ٣/١٤.
97 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الطلاق، باب صداق الملاعنة، ٥/٢٠٣٥، رقم ٥٠٠٥، ومسلم في صحيحه، كتاب اللعان، باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها، ٢/١١٣١، رقم ١٤٩٣.
98 أخرجه مسلم في الأقضية، باب الحكم بالظاهر، ٣/١٣٣٧، رقم ١٧١٣.
99 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأقضية، باب في القاضي يخطئ، ٣/٣٢٤، رقم ٣٥٧٥، والترمذي في سننه، أبواب الأحكام، باب ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في القاضي ٣/٦١٢، رقم ١٣٢٢، وابن ماجه في سننه، كتاب الأحكام، باب الحاكم يجتهد فيصيب الحق، ٢/٧٧٦، رقم ٢٣١٥.
وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم ٤٤٤٧.
100 السياسة الشرعية ص٢٥.
101 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة بغير ضرورة، ٣/١٤٥٧، رقم ١٨٢٥.
102 أخرجه أحمد في مسنده، ١١/٢٠٦، رقم ٦٦٣٠، وابن ماجه في سننه، مقدمة السنن، باب فضل أبي ذر، ١/٥٥، رقم ١٥٦.
وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم ٢٣٤٣.
103 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار، ١/١٢٥، رقم ١٤٢.
104 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجماعة والإمامة، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد، رقم ٦٢٩، ومسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة، رقم ١٠٣١.
105 تاريخ اليعقوبي ص١٦٩.
106 انظر: الطبقات الكبرى، ابن سعد ٥/ ٣٧٧.
107 عيون الأخبار، ابن قتيبة ١/٢٣.
108 أخرجه أحمد في مسنده، ٢٩/١٥، رقم ١٧٤٧١، والترمذي في سننه، أبواب الزهد، باب ما جاء أن فتنة هذه الأمة في المال، ٤/٥٦٩، رقم ٢٣٣٦.
وصححه الألباني في صحيح الجامع ٢١٤٨.
109 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الغسل، باب من اغتسل عريانًا وحده في الخلوة، رقم ٢٧٥.
110 الكشف والبيان، الثعلبي ٣/١١٤.
111 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٣/٢٨٧.
112 أخرجه أحمد في مسنده، ٣٤/٢٩٩، رقم ٢٠٦٩٥، والبيهقي في السنن الكبرى، ٦/١٠٠، رقم ١١٨٧٧.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم ٧٦٦٢.
113 شرح رياض الصالحين ١/٢٣٣.
114 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الخمس، باب قول الله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه)، ٣/١١٣٥، رقم ٢٩٥٠.
115 فتح الباري ٦/٢٦٣.
116 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب الصدقة على اليتامى، رقم ١٣٩٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا، رقم ١٠٥٢.
117 سبق تخريجه قريبًا.
118 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب الزهد، باب في القيامة، ٤/٦١٢، رقم ٢٤١٧.
وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم ٩٤٦.
119 أخرجه أحمد في مسنده، ١٥/٨، رقم ٩٠٢٣.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم ٥٠٩٣.
120 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الهبة وفضلها، باب من لم يقبل الهدية لعلة، ٢/٩١٧، رقم ٢٤٥٧، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب تحريم هدايا العمال، ٣/١٤٦٣، رقم ١٨٣٢.
121 أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ١٠/ ١٣٨، رقم ٢٠٩٨١.
122 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب البيوع، باب ما جاء في التجار وتسمية النبي صلى الله عليه وسلم إياهم، ٣/٥١٥، رقم ١٢٠٩.
وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ٢/١٦٢، رقم ١٧٨٢.
123 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاستقراض، باب من أخذ أموال الناس يريد أداءها أو إتلافها، ٢/٨٤١، رقم ٢٢٥٧.
124 أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، رقم ٥٢٦٦.
وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ٢/١٥٧، رقم ١٧٦٣.
125 انظر: فقه السيرة، البوطي ص ١٧٨.
126 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب قصة أهل نجران، ٤/١٥٩٢، رقم ٤١١٩.
127 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى والمدن، ١/٣٠٤، رقم ٨٥٣.
128 سبق تخريجه قريبًا.
129 الوكت: أثر الشيء اليسير منه.
انظر: غريب الحديث، القاسم بن سلام ٤/١١٨.
130 المجل: أثر العمل في الكف إذا غلظ.
انظر: غريب الحديث، القاسم بن سلام ٤/١١٨.
131 منتبرًا: متنفطًا، وكل شيء رفع فقد نبر، ومنه: سمي المنبر؛ لارتفاعه.
انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين، الأزدي ص ٧٦.
132 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب رفع الأمانة، رقم ٢٣٨٢، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب رفع الأمانة والإيمان من بعض القلوب، رقم ١٤٣.
133 شرح ابن بطال ١٩/٤٦.
134 انظر: شرح رياض الصالحين، ابن عثيمين ١/٢٣٦.
135 انظر: مرقاة المفاتيح، الملا علي القاري ١٥/٣٣٨.
136 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، ١/١٦٨، رقم ١٩٥.
137 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العلم، باب من سئل علمًا وهو مشتغل في حديثه، ١/٢١، رقم ٥٩.
138 أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، ٢/١٣٣٩، رقم ٤٠٣٦.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم ٣٦٥٠.
139 أخرجه أحمد في مسنده، ١١/٤٥٧، رقم ٦٨٧٢.
وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ٥/٣٦٠، رقم ٢٢٨٨.
140 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي، ٤/٢١٦، رقم ٤٣٤٤، وابن ماجه في سننه، كتاب الفتن، باب التثبت في الفتنة ٢/١٣٠٧، رقم ٣٩٥٧.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم ٤٥٩٤.
141 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع، باب السهولة والسماحة في الشراء والبيع ومن طلب حقًا فليطلبه في عفاف، ٢/٧٣٢، رقم ١٩٧٣، ومسلم في صحيحه، كتاب البيوع، باب الصدق في البيع والبيان، رقم ١٥٣٢.
142 الرياض الناضرة، السعدي ص٢١٦.
143 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى والمدن، ١/٣٠٤، رقم ٨٥٣.
144 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب البيوع، باب في الشركة ٣/٢٦٤، رقم ٣٣٨٥.
وضعفه الألباني في إرواء الغليل، ٥/٢٨٨، رقم ١٤٦٨.
145 فيض القدير ٢/٣٩٠.
146 انظر: مرآة الزمان، سبط ابن الجوزي ٨/٥٢، سير أعلام النبلاء، الذهبي ١٩/٤٤٩.
147 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، ١/١٨٦، رقم ١٩٥.
148 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب في المحافظة على وقت الصلوات، رقم ٤٢٩.
وحسنه الألباني في صحيح أبي داود ١/٤٢٩.
149 أخرجه أحمد في مسنده، ٣٧/٤١٧، رقم ٢٢٧٥٧.
وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ٣/٨٦، رقم ٢٩٩٣.
150 أخرجه أحمد في مسنده، ١١/٢٣٣، رقم ٦٦٥٢.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم ٨٧٣.