عناصر الموضوع
الإكراه
أولًا: المعنى اللغوي:
«الكاف والراء والهاء أصلٌ صحيحٌ واحد، يدل على خلاف الرضا والمحبة، يقال: كرهت الشيء أكرهه كَرْهًا. والكُره الاسم. ويقال: بل الكُره: المشقة، والكَره: أن تكلف الشيء فتعمله كارهًا، ويقال من الكره الكراهِيَة والكراهِيَة. والكريهة: الشدة في الحرب»1.
وقيل: «الكُره بالضم: هو فعل المختار، والكَره بالفتح: هو فعل المضطر»2، «والإكراه عبارةٌ عن إثبات الكره»3.
فمعنى الإكراه لغة يدور حول المشقة والشدة، وعدم الرضا والمحبة وعدم الاختيار.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
قال الجرجاني: «حمل الغير على ما يكرهه بالوعيد والإلزام والإجبار على ما يكره الإنسان طبعًا أو شرعًا، فيقدم على عدم الرضا ليرفع ما هو أضر»4، وقيل: «الإكراه حمل الغير على ما يكرهه بالوعيد الشديد»5.
وقيل: «والكره معنى قائم بالمكره ينافي المحبة والرضا، ولهذا يستعمل كل واحد منهما مقابل الآخر. قال تعالى: (ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ) [البقرة: ٢١٦]»6.
وكلا المعنيين اللغوي والاصطلاحي فيهما الإلزام وعدم الاختيار مع عدم الرضا والمحبة.
وردت مادة (أكره) في القرآن (٧) مرات7:
والصيغ التي وردت هي:
الصيغة |
عدد المرات |
المثال |
الفعل الماضي |
٢ |
(ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [النحل:١٠٦] |
الفعل المضارع |
٣ |
(ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ) [النور:٣٣] |
المصدر |
٢ |
(ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ) [البقرة:٢٥٦] |
وجاء الإكراه في الاستعمال القرآني بمعناه اللغوي، وهو: حمل الإنسان على ما يكرهه، أي أنه بمعنى الإجبار8.
الغصب:
الغصب لغةً:
(غصب)، «الغصب: أخذ الشيء ظلمًا، غصب الشيء يغصبه غصبًا واغتصبه فهو غاصبٌ، وغصبه على الشيء: قهره، وغصبه منه والاغتصاب مثله، والشيء غصبٌ»9.
الغصب اصطلاحًا:
«الاستيلاء على حق الغير عدوانًا»10.
الصلة بين الإكراه والغصب:
بينهما افتراق واتفاق، إذ إن الغصب أخذ الشيء وسلبه بقوة السلطان وقهره، والإكراه حمل الغير على فعل الشيء بقوة السلطان وقهره، فهما يتفقان في إتيان الشيء بالقوة والسلطان، ويفترقان في فقدان ما يغتصب منه في حالة الغصب، وبقاء الشيء المكره عليه في حالة الإكراه.
الإلجاء:
الإلجاء لغةً:
«التلجئة: الإكراه، وألجأه إلى كذا: اضطره إليه، وألجأ أمره إلى الله: أسنده»11.
الإلجاء اصطلاحًا:
«والإلجاء ما تشتد دواعي الانسان إليه على وجه لا يجوز أن يقع مع حصول تلك الدواعي، والإلجاء يكون فيما لا يجد الانسان منه بدًا من أفعال نفسه»12.
الصلة بين الإكراه والإلجاء:
بينهما فرق دقيق، فالإكراه يقع على المكره من خارج إرادته فيستعمل الإجبار مع الإكراه، بينما الإلجاء يقع بإرادة الملجأ ذاتيًا.
الإلزام:
الإلزام لغةً:
«لزم الشيء يلزمه لزمًا ولزومًا ولازمه ملازمةً ولزامًا، والتزمه وألزمه إياه فالتزمه، ورجل لزمةٌ: يلزم الشيء فلا يفارقه، ألزمه الشيء فالتزمه»13.
الإلزام اصطلاحًا:
وهو نفس التعريف اللغوي عند الفقهاء والمفسرين.
الصلة بين الإكراه والإلزام:
يتفقان في أنهما على الحق والباطل فيقال: أكرهته على الوقوع في المعصية، وفي الإلزام يقال: ألزمته الباطل، وفي الحق كذلك، «وبينما يختلفان في أن الإلزام أخص من الإكراه، حيث إن المكره يأتي المكره عليه ثم يفارقه، بينما في الإلزام تنعدم مفارقة الملزم عليه»14.
التراضي:
التراضي لغةً:
«الراء والضاد والحرف المعتل أصلٌ واحد يدل على خلاف السخط. تقول: رضي يرضى رضىً. وهو راضٍ»15.
التراضي اصطلاحًا:
«قصد الفعل دون أن يشوبه إكراه»16.
الصلة بين الإكراه والتراضي:
هما نقيضان فلا يجتمعان.
السياق القرآني من خلال عرضه لمصطلح الإكراه في ثنايا السور والآيات الكريمة بين أن الإكراه ينقسم إلى أنواع مادية ومعنوية، وذلك باختلاف الأمر المكره عليه المكره.
أولًا: الإكراه على الإيمان:
أورد ربنا سبحانه وتعالى من خلال السياق القرآني في معرض نفيه الإكراه على الإيمان، الآية الكريمة التي جاءت في سورة يونس.
يقول تعالى: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) [يونس: ٩٩].
يقول الشيخ سيد طنطاوي رحمه الله في تفسيره للآية: «والهمزة في قوله تعالى: (ﭱ) للاستفهام الإنكاري، والفاء؛ للتفريع، والمراد بالناس: المصرين على كفرهم وعنادهم.
والمعنى: تلك هي مشيئتنا لو أردنا إنفاذها لنفذناها، ولكننا لم نشأ ذلك فهل أنت يا محمد في وسعك أن تقهر الناس الذين لم يرد الله هدايتهم على الإيمان؟ لا، ليس ذلك في وسعك ولا في وسع الخلق جميعًا، بل الذي في وسعك هو التبليغ لما أمرناك بتبليغه»17.
فالمعنى الظاهر للآية الكريمة: أن الإيمان لا يمكن أن يكون بالإكراه، ولا يمكن للإكراه أن ينشئ مؤمنًا، وأن أمر الايمان والكفر بمشيئته سبحانه وتعالى، بعد أن أرسل رسله ليبينوا للناس الحق، ويبلغوا الناس عن ربهم.
يقول الحق جل وعلا: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) [النحل: ٣٥].
وأورد سبحانه وتعالى آية أخرى في سورة البقرة في معرض نفيه أن دخول الإسلام يكون إجبارًا، وهي قوله تعالى: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕﰖ ﰗ ﰘ ﰙ) [البقرة: ٢٥٦].
يقول الإمام ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: «لا تكرهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام؛ فإنه بين واضح جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهًا مقسورًا»18.
ويقول شيخ المفسرين الطبري رحمه الله: «ومعنى قوله: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ) لا يكره أحد في دين الإسلام عليه، وإنما أدخلت (الألف واللام) في (ﰂ)، تعريفًا للدين الذي عنى الله بقوله: (لا إكراه فيه)، وأنه هو الإسلام»19.
ويقول سيد قطب في الظلال: «وفي هذا المبدأ يتجلى تكريم الله للإنسان، واحترام إرادته وفكره ومشاعره، وترك أمره لنفسه فيما يختص بالهدى والضلال في الاعتقاد وتحميله تبعة عمله وحساب نفسه»20.
ويقول المفسر العلامة السعدي في تفسيره: «يخبر تعالى أنه (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ) لعدم الحاجة إلى الإكراه عليه؛ لأن الإكراه لا يكون إلا على أمر خفية أعلامه، غامضة آثاره، أو أمر في غاية الكراهة للنفوس، وأما هذا الدين القويم والصراط المستقيم فقد تبينت أعلامه للعقول، وظهرت طرقه، وتبين أمره، وعرف الرشد من الغي، ولا تدل الآية الكريمة على ترك قتال الكفار المحاربين، وإنما فيها أن حقيقة الدين من حيث هو موجب لقبوله لكل منصف قصده اتباع الحق»21.
ومن هذا الاستدلال التفسيري لبيان معنى الآيتين يتضح لنا أن الإكراه غير معتبر في الإيمان والإسلام، وأن الدخول في الإسلام قائم على الحجة والعقل والمنطق، والاعتناق برغبة ذاتية كاملة من المكلفين، وأما دعوة الناس للإيمان والتزام أوامر الدين بالسنان وحملهم عليها فهذا مما لا يقبله الإسلام.
يقول الشيخ الزرقاني: «أما السيف ومشروعية الجهاد في الإسلام فلم يكن لأجل تقرير عقيدة في نفس، ولا لإكراه شخص أو جماعة على عبادة، ولكن لدفع أصحاب السيوف عن إذلاله واضطهاده، وحملهم على أن يتركوا دعوة الحق حرة طليقة، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله»22.
وورد في نزول قوله تعالى: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ) أكثر من سبب للنزول، منها:
الأول: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كانت المرأة تكون مقلاتًا23، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا! فأنزل الله تعالى ذكره: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ)»24.
الثاني: قال السدي قوله: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ) إلى (ﰓ ﰔ ﰕ) قال: نزلت في رجل من الأنصار يقال له أبو الحصين: كان له ابنان، فقدم تجار من الشام إلى المدينة يحملون الزيت، فلما باعوا وأرادوا أن يرجعوا أتاهم ابنا أبي الحصين، فدعوهما إلى النصرانية، فتنصرا فرجعا إلى الشام معهم، فأتى أبوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن ابني تنصرا وخرجا، فأطلبهما؟ فقال: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ)، ولم يؤمر يومئذ بقتال أهل الكتاب، وقال: أبعدهما الله! هما أول من كفر! فوجد أبو الحصين في نفسه على النبي صلى الله عليه وسلم حين لم يبعث في طلبهما، فنزلت: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ) [النساء: ٦٥]25.
الثالث: قال مسروق: «كان لرجل من الأنصار من بني سالم بن عوف ابنان فتنصرا قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم ثم قدما المدينة في نفر من النصارى يحملون الطعام فأتاهما أبوهما فلزمهما وقال: والله لا أدعكما حتى تسلما فأبيا أن يسلما، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر؟ فأنزل الله عز وجل قوله: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ) فخلى سبيلهما»26.
القول الراجح في آية الإكراه على الدين:
في المسألة أقوال ثلاثة:
الأول: ذهب جمهرة من العلماء والمفسرين27 بأن هذه الآية منسوخة، وناسخها قوله تعالى: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) [التوبة: ٥].
قاله الصحابي زيد بن أسلم رضي الله عنه، ونقله الإمام ابن حزم رحمه الله، وابن سلامة، والكرمي، والمقري، -رحمهم الله تعالى-.
الثاني: ذهبت جمهرة أخرى من العلماء، «بأن الآية ليست منسوخة، ولكن (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ) نزلت في أهل الكتاب، لا يكرهون على الإسلام إذا أدوا الجزية، والذين يكرهون أهل الأوثان»28، فهم الذين نزلت فيهم: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ) [التوبة: ٧٣].
الثالث: ذهب فريق ثالث إلى أن هذه الآية مخصوصة، وممن قال إنها مخصوصة ابن عباس رضي الله عنهما.
وقال أبو جعفر: «قول ابن عباس في هذه الآية أولى الأقوال؛ لصحة إسناده، وأن مثله لا يأخذ بالرأي، فلما أخبر أن الآية نزلت في هذا وجب أن تكون أولى الأقوال، وأن تكون الآية مخصوصة نزلت في هذا، وحكم أهل الكتاب كحكمهم»29.
وبهذا وبه قال شيخ المفسرين الإمام الطبري، وجمهرة كبيرة من العلماء.
هذا حاصل أقوال المتقدمين في الجمع بين هذه الآية؛ والواقع فإن الناظر في كتب التفسير المتقدمة عمومًا، يجد أن المفسرين لم يخرجوا عن هذه الأقوال في الأغلب، ورجح أكثرهم القول بأن آية البقرة خاصة بأهل الكتاب.
ثانيًا: الإكراه على الكفر:
تعتبر الدعوات السماوية مصدر إزعاج للماديين الدنيويين؛ فذلك لا يتوانون لحظة في إلحاق الأذى بأتباعها وأشياعها، ولما كان الإسلام دعوة الحق الذي ارتضاه لنا ربنا سبحانه وتعالى، وأرسل به النبي صلى الله عليه وسلم لمنح العباد الحرية من طواغيت الأرض، زاد الماديين نفورًا وعنادًا واستكبارًا وصدًا عن سبيل الله تعالى وايذاءً للمؤمنين، فكانت المنحة الإلهية لهم بجواز الأخذ بالرخصة في الكفر باللسان بعد الإيمان تفاديًا لأذاهم، وبشرط اطمئنان القلب بالإيمان.
فقال تعالى: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [النحل: ١٠٦].
قال شيخ المفسرين الإمام الطبري: «(ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) على الكفر، فنطق بكلمة الكفر بلسانه (ﮆ ﮇ ﮈ) موقن بحقيقته، صحيح عليه عزمه، غير مفسوح الصدر بالكفر، لكن من شرح بالكفر صدرًا فاختاره وآثره على الإيمان، وباح به طائعًا، (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ)»30.
إن الإسلام العظيم يعنى بداخل الإنسان: القلب والجوهر والعقل، فإذا تهذب القلب واطمأن لحول الله وقوته وآمن لربه، واقتنع العقل والفكر؛ فإنه لا يمكن لقوة في الأرض أن تثني الإنسان عن ربه؛ ولو حصل فإنه يكون باللسان والفعل لا بالقلب والاقتناع، ولذا فقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم أن ما استكره عليه الإنسان من الأقوال والأفعال، مما تجاوز عنه ربنا سبحانه وتعالى في حق أمة محمد صلى الله عليه وسلم: فعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)31.
يقول الشيخ سيد قطب رحمه الله في سياق عرضه للآية الكريمة في الظلال: «والنص هنا يغلظ جريمة من كفر بالله من بعد إيمانه؛ لأنه عرف الإيمان وذاقه، ثم ارتد عنه إيثارًا للحياة الدنيا على الآخرة، فرماهم بغضب من الله، وبالعذاب العظيم، والحرمان من الهداية؛ ووصمهم بالغفلة وانطماس القلوب والسمع والأبصار؛ وحكم عليهم بأنهم في الآخرة هم الخاسرون. ذلك أن العقيدة لا يجوز أن تكون موضع مساومة، وحساب للربح والخسارة، ومتى آمن القلب بالله فلا يجوز أن يدخل عليه مؤثر من مؤثرات هذه الأرض؛ فللأرض حساب، وللعقيدة حساب ولا يتداخلان، وليست العقيدة هزلًا، وليست صفقة قابلة للأخذ والرد فهي أعلى من هذا وأعز، ومن ثم كل هذا التغليظ في العقوبة، والتفظيع للجريمة»32.
إن الله سبحانه وتعالى إذ أعطى الإنسان المسلم رخصة النطق بكلمة الكفر إكراهًا واضطرارًا وجوز له فيها؛ إلا أنها تحت شروط معينة، فقال تعالى: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ) [آل عمران: ٢٨].
ولقد أجزل الله تعالى في العطاء لمن صبر في سبيل الله ولم يساوم على دينه وعقيدته من أجل دنيا فانية، ولنا خير مثال في أصحاب الأخدود الذين ما ساوموا على الكفر بعد الإيمان، فأجزل لهم العطاء الأخروي، وسجل الله عز وجل موقفهم في قرآن يتلى إلى يوم القيامة.
يقول تعالى: (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ) [البروج: ٩- ١٠].
وسجل ربنا سبحانه وتعالى أنهم انتصروا على عدوهم مع أنه رماهم في النار وحرقهم، إلا أن المبدأ انتصر وفاز على جبروت الطاغية وجلاوزته، ومن هنا فإنه على أهل الإيمان في شتى بقاع الأرض أن يأخذوا بالعزيمة في الثبات على الإيمان والمبادئ والثوابت وانتزاع الحرية، وتحرير العباد من عبادة العباد، لعبادة رب العباد، وإن الثبات على الحق وتجرع المر أفضل مائة مرة من الهوان والعيش في ذلة وخنوع، «وهذا الصحابي الجليل حبيب بن زيد الأنصاري يعلمنا درسًا في الصمود والثبات على المبادئ، ولو على نفسه حينما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم برسالته إلى مسيلمة الكذاب، فقيده مسيلمة الكذاب وجعل يقول له: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ فيقول: نعم. فيقول: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع. فجعل يقطعه عضوًا عضوًا حتى مات في يديه، لا يزيده على ذلك»33.
وأورد الواحدي في كتابه (أسباب النزول) روايتين لسبب نزول الآية الكريمة، نذكر منها واحدًا، «فعن ابن عباس: نزلت في عمار بن ياسر، وذلك أن المشركين أخذوه وأباه ياسرًا وأمه سمية وصهيبًا وبلالًا وخبابًا وسالمًا، فأما سمية فإنها ربطت بين بعيرين ووجئ قبلها بحربة، وقيل لها: إنك أسلمت من أجل الرجال، فقتلت وقتل زوجها ياسر وهما أول قتيلين قتلا في الإسلام، وأما عمار فإنه أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهًا، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن عمارًا كفر، فقال: كلا إن عمارًا ملئ إيمانًا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه، فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي، فجعل رسول الله عليه الصلاة والسلام يمسح عينيه، وقال: (إن عادوا لك فعد لهم بما قلت)، فأنزل الله تعالى هذه الآية»34.
الحد الذي إذا بلغه الشخص عد مكرهًا:
إذا كان الشارع قد أباح للإنسان المسلم النطق بكلمة الكفر كارهًا ومضطرًا، إلا أن الأمر ليس على إطلاقه؛ ولكن للضرورة أحكامًا، ولقد حدد العلماء شروطًا إذا بلغها الشخص عد مكرهًا، فقال ابن حجر: «شروط الإكراه أربعة»35:
ولا فرق بين الإكراه على القول والفعل عند الجمهور، ويستثنى من الفعل ما هو محرم على التأبيد كقتل النفس بغير حق، وقال الخازن: «قال العلماء: يجب أن يكون الإكراه الذي يجوز له أن يتلفظ معه بكلمة الكفر أن يعذب بعذاب لا طاقة له به مثل التخويف بالقتل والضرب».
ثالثًا: الإكراه على الكبائر:
ذكر القرآن الكريم بعض الكبائر والمعاصي التي قد يقع فيها الإكراه، ومن ذلك:
١. الإكراه على الزنا.
يقول سبحانه وتعالى: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) [النور: ٣٣].
أورد الشيخ الواحدي في كتابه أسباب النزول سببًا لنزول هذه الآية، فقال: «كانت جارية لعبد الله بن أبي بن سلول، يقال لها مسيكة، فآجرها أو أكرهها، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فشكت ذلك إليه، فأنزل الله: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) [النور: ٣٣]. يعني بهن»36.
يقول الشيخ سيد طنطاوي في معرض تفسيره للآية: «ولا تكرهوا -أيها الأحرار- فتياتكم اللائي تملكوهن على الزنا إن كرهنه وأردن العفاف والطهر، لكي تنالوا من وراء إكراههن على ذلك بعض المال الذي يدفع لهن نظير افتراشهن، ومن يكره إماءه على البغاء فإن الله تعالى بفضله وكرمه- (ﮔ ﮕ) إكراهكم لهن، (ﮗ ﮘ) لهن، أما أنتم يا من أكرهتموهن على الزنا فالله وحده هو الذى يتولى حسابكم، وسيجازيكم بما تستحقون من عقاب»37.
إن القرآن الكريم وهو يضع دعائم المجتمع المسلم، يعالج فيه مظاهر وظواهر نشأت في ظلمة الجاهلية الأولى، فيضع الشارع الحكيم من الأحكام والتشريعات والتوجيهات ما يحفظ المجتمع المسلم من كل دخائل وشوائب.
فبعد أن أمر بإنكاح الأيامي للتحصين البيوت والمجتمع، وأمر الذين لا يجدون نكاحًا بالعفاف حتى يغنيهم الله من فضله بالمال والنكاح، فقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ) [النور: ٣٢-٣٣].
فكان النداء بعدها للأحرار الأطهار بأن المجتمع المسلم يجب أن يتطهر من كل النقائص، وألا يغرق في أوحال الشهوات الجاهلية؛ بل إن الإسلام الحنيف كرم الإيماء في تعبير الله سبحانه وتعالى بذكره لهن الفتيات، وحض الإسلام على المزيد من تحصينهن وخوف الذين يكرهونهن بالعقاب في الآخرة، مستثنيًا المكرهات من العقوبة مع عظم الجريمة؛ ليتبقى أمام المكرهة على الزنا فرصة الرجوع والإنابة والثبات على المنهج القويم.
ثم إن الإسلام جفف منابع هذه الظاهرة المنتشرة (الاسترقاق) وحصرها في الحروب المشروعة التي تقوم بين المسلمين والكفار، ووسع أبواب العتق من خلال الكفارات، ثم إن الله أمر بالإحسان إلى الرقيق والتعامل معهم وفق أخلاق الإسلام.
وختامًا فإن الله سبحانه جعل البشر كلهم إخوة بينهم نسبٌ واحدٌ، وتسري في أوصالهم نفخة من روح الله، وأنهم سواسيةٌ في الحقوق والواجبات، وأنهم خلقوا ليتعارفوا ويتحابوا، فقال سبحانه وتعالى: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ) [الحجرات: ١٣].
٢. الإكراه على السحر.
أخبر القرآن الكريم أن سحرة فرعون بعد إيمانهم قالوا: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ) [طه: ٧٣].
يقول العلامة ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: «قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيره للآية: أخذ فرعون أربعين غلامًا من بني إسرائيل فأمر أن يعلموا السحر بالفرما، وقال: علموهم تعليمًا لا يعلمه أحد في الأرض. قال ابن عباس: فهم من الذين آمنوا بموسى، وهم من الذين قالوا: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ) [طه: ٧٣]»38.
مما لاشك فيه أن السحر المتعارف عليه بين الناس والذهاب للسحرة من كبائر الذنوب، والسحرة كذبة دجالون، ولقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من السحرة ومن التصديق والإيمان بأكاذيبهم.
وروى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى عرافًا فسأله عن شيء، لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)39.
وإن الإنسان المسلم مطالب باجتناب السحر بأنواعه المتعددة ووسائله المتنوعة؛ لأن الأصل في أهداف السحرة هو التفرقة، سواء بين المرء ودينه أو المرء وزوجه وعائلته وأهله وعشيرته.
يقول سبحانه وتعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ) [البقرة: ١٠٢].
بعد بيانه سبحانه وتعالى لمن اتبع الشياطين في سحرهم من اليهود والسحر الذي يعلمه الملكان، فتركوا علم الأنبياء والمرسلين وأقبلوا على علم الشياطين، وكل يصبو إلى ما يناسبه، «ذكر مفاسد السحر فقال: (ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ) مع أن محبة الزوجين لا تقاس بمحبة غيرهما؛ لأن الله قال في حقهما: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ) [الروم: ٢١].
وفي هذا دليل على أن السحر له حقيقة، وأنه يضر بإذن الله، أي: بإرادة الله، والإذن نوعان: إذن قدري، وهو المتعلق بمشيئة الله، كما في هذه الآية، وإذن شرعي كما في قوله تعالى في الآية السابقة: (ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) [البقرة: ٩٧].
وفي هذه الآية وما أشبهها أن الأسباب مهما بلغت في قوة التأثير، فإنها تابعة للقضاء والقدر ليست مستقلة في التأثير، ولم يخالف في هذا الأصل من فرق الأمة غير القدرية في أفعال العباد، زعموا أنها مستقلة غير تابعة للمشيئة، فأخرجوها عن قدرة الله، فخالفوا كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الصحابة والتابعين»40.
رابعًا: الإكراه في المعاملات:
١. الإكراه على النكاح.
يقول سبحانه وتعالى: (ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ) [النساء: ١٩].
روى البخاري «عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها، وإن شاءوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية: (ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ) [النساء: ١٩]»41.
يقول الإمام القرطبي في تفسيره لهذا الآية: «لا يحل لكم أن ترثوهن من أزواجهن فتكونوا أزواجًا لهن، فالمقصود إذهاب ما كانوا عليه في جاهليتهم، وألا تجعل النساء كالمال يورثن عن الرجال كما يورث المال، وقرأ حمزة والكسائي»42.
وقوله تعالى: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ)، يعني: ميراث نكاح النساء.
وقيل: أن ترثوا أموالهن كرهًا يعني وهن كارهات.
( ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) أي: لا تحبسوهن عندكم وتمنعوهن وكانوا إذا كانت جميلة تزوجوها وإذا كانت دميمة حبوسها حتى تموت فيرثونها، وتفعلون ذلك، (... ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ...)، كأن هذا حكم آخر، لا ترثوا النساء كرهًا هذا حكم، و أيضًا لا تعضلوهن حكم ثانٍ.
والمثال: عندما يكون الرجل كارهًا لامرأته فيقول لها: والله لن أطلقك، أنا سأجعلك موقوفة ومعلقة لا أكون أنا لك زوجًا ولا أمكنك أيضًا من أن تتزوجي؛ وذلك حتى تفتدي نفسها فتبرئ الرجل من النفقة ومؤخر الصداق، فيحمي الإسلام المرأة ويحرم مثل تلك الأفعال.
(ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ)، فحينئذٍ يحل لكم إضرارهن ليفتدين منكم واختلفوا في الفاحشة المبينة، فقيل: هي النشوز وسوء الخلق وإيذاء الزوج وأهله، وقيل الفاحشة: هي الزنى، يعني: أن المرأة إذا نشزت أو زنت حل للزوج أن يسألها الخلع، وقيل: كانت المرأة إذا أصابت فاحشة أخذ منها زوجها ما ساق إليها وأخرجها فنسخ الله ذلك بالحدود، ( ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ).
قال ابن عباس: «الخير الكثير: أن يعطف عليها، فيرزق الرجل ولدها، ويجعل الله في ولدها خيرًا كثيرًا»43.
وقيل: في الآية ندب إلى إمساك المرأة مع الكراهية لها؛ لأنه إذا كره صحبتها وتحمل ذلك المكروه طلبًا للثواب وأنفق عليها وأحسن هو صحبتها استحق الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في العقبى، وقيل في معنى الآية: إنكم إن كرهتموهن ورغبتم في فراقهن فربما جعل الله في تلك المفارقة لهن خيرًا كثيرًا؛ وذلك بأن تخلص من هذا الزوج الكاره لها وتتزوج غيره خيرًا منه44.
٢. الإكراه في البيوع.
أصل القرآن الكريم لحرمة أكل المال وبين الاستثناء في تداول وتبادل المال في ذلك، فقال تعالى: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [النساء: ٢٩].
يقول العلامة ابن عاشور45 في تفسيره للآية: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ)، وهو يقتضي أن الاستثناء قد حصر إباحة أكل الأموال في التجارة، و (ﭵ) فيه للمجاوزة، (ﭶ ﭷ) أي: صادرة عن التراضي وهو الرضا من الجانبين بما يدل عليه من لفظ أو عرف، والتراضي يحصل عند التبايع بالإيجاب والقبول، وهذه الآية أصل عظيم في حرمة الأموال، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئٍ يعني مسلمًا إلا بطيبٍ من نفسه)46.
من الملاحظ أن الله عز وجل لم يذكر صيغة التراضي في القرآن الكريم سوى أربع مرات، ثلاثة في الأحوال الشخصية وواحدة في المعاملات، والتراضي: «هو الرضا من الجانبين بما يدل عليه من لفظ أو عرف، وهو أساس العقود بصفة عامة، وأساس المبادلات المالية بصفة خاصة، فلا بيع ولا شراء ولا إجارة ولا شركة ولا غيرها من عقود التجارة ما لم يتحقق الرضا»47.
ويعطينا ذلك دلالة كافية وواضحة على أهمية تحقق شرط التراضي في المعاملات الشخصية والمالية، بحيث يتحقق التراضي من المتعاقدين؛ وذلك لما يترتب عليه من آثار ونتائج، والتراضي هو الحالة المقابلة للإكراه فلا يمكن في حالة البيوع والتداول والتجارة أن يكون أحد الأطراف المتعاقدة مكرهًا، بل إن التراضي بينهم شرط أساسي لصحة عقد البيع والتجارة.
كما بين السياق القرآني أنواع الإكراه ووضحته فيما سبق، فإن السياق القرآني بين الأسباب والأمور التي تدفع بالمكره؛ ليأخذ حكم الإكراه في المسألة الحاصلة، وكذلك بين السياق القرآني الأسباب التي تبين سبب إكراه المكره للمكره، وسبب كونه أكرهه على فعل المكره عليه وجعله مكرهًا عليه:
أولًا: الفتنة في الدين:
من المعلوم أنه لا فتنة، ولا فساد أعظم من الفتنة في الدين والفساد فيه، ولقد حذرنا الحق سبحانه وتعالى من هذه الفتنة، وحرضنا لتجنبها، ولأن الفتنة في الدين لها صور وأشكال متعددة، فقد عالجها القرآن الكريم من خلال عرض السياق القرآني لمسألة الفتنة في الدين بالإكراه باختلاف نوع المكرَهين أو المكرِهين، وهذا ما سنتناوله فيما يأتي:
١. الفتنة في الدين بالإكراه في حق المؤمنين.
وفيه حالتان:
الحالة الأولى: إكراه الله عز وجل للمؤمنين في فريضة الجهاد، وتكريهه لهم الكفر والفسوق والعصيان:
لقد ابتلى الله سبحانه أهل الإيمان بأحكام وتكليفات، وإن كانت أنفسهم غير راضية عن أدائها والصب على مشاقها، ولكنها تحمل الخير لهم.
يقول سبحانه وتعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [البقرة: ٢١٦].
يقول الشيخ سيد طنطاوي في تفسيره للآية الكريمة: «أي: أن القتال لشدة ويلاته، وما فيه من إزهاق الأرواح كأنه الكراهة نفسها فهو من وضع المصدر موضع اسم المفعول مبالغة، وقرئ (وهو كَرْهٌ لكم) -بفتح الكاف- فيكون فيه معنى الإكراه؛ لأن الكره بالفتح ما أكرهت عليه، وقيل: هما لغتان بمعنى واحد وهو الكراهية»48.
وتتجلى رحمته سبحانه وتعالى في حبه الخير للمؤمنين بتكريهه لهم الكفر والفسوق والعصيان، وتحبيبه إليهم الإيمان، وجعله قناديل مضيئة تتزين به قلوب العابدين، فقال تعالى: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ) [الحجرات: ٧].
وزاده الله سبحانه وتعالى في تكريهه لأهل الإيمان عديد النواهي التي بينها في سورة الإسراء، ختمها بقوله تعالى: (ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ) [الإسراء: ٣٨].
تبيانًا منه سبحانه وتعالى لعدم إتيانها من المؤمنين، وأنها سيئات مكروهة عند الله تعالى، فالأولى بكم يا أهل الإيمان الانتهاء عنها.
الحالة الثانية: إكراه الكافرين للمؤمنين لصدهم عن سبيل الله:
إن أهل الكفر والضلال لا يتوانون لحظة في إكراه المؤمنين لصدهم عن دينهم وإغوائهم بشتى الطرق والوسائل وتتعدد وسائلهم وطرقهم وأساليبهم للصد عن سبيل الله بالترغيب تارة وأخرى بالترهيب، بما يتلاءم مع كل زمان ومكان، وهما في هذا وذاك إخوة وأولياء متفقون على صد الناس عن دين الله ولهم وسائلهم وأساليبهم في ذلك.
ولما علم الله سبحانه وتعالى كيد الكافرين وحربهم على أهل الإيمان فقد رخص رخصًا قولية لرفع أذاهم عن المؤمنين، واشترط أن يكون القلب مطمئنًا بالإيمان.
يقول تعالى: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [النحل: ١٠٦].
«وهذا يعد رخصة للمسلمين الذين يتعرضون للبلاء الشديد على يد الكفار، فمن ثبت وراغم الكفار كما فعل بلال فهو أفضل، ومن أخذ بالرخصة كما فعل عمار فإنه لا إثم عليه مادام قلبه مطمئنًا بالإيمان، ولله الحمد والفضل، وفي اطمئنان القلب دلالة على أهمية صيانة الفكر من أن يتطرق إليه شيء من الشبهات التي يثيرها الكفار»49.
ولم يقتصر أهل الشرك والكفر على إكراههم الناس بأنفسهم واتباعهم، بل إنهم أكرهوا وأجبروا كل الإمكانات المتاحة لإكراه أصحاب الاختصاصات المتعددة، في تسخيرها للصد عن سبيل الله تعالى، ففي قصة سيدنا موسى عليه السلام مع فرعون وسحرته، يتجلى القهر والتسلط الذي مارسه فرعون على السحرة؛ لسحر أعين الناس وصدهم عن الدعوة الجديدة، وحينما انكشف الأمر وبانت الحقيقة نطقوا بالحقيقة المرة.
فقال تعالى حكاية عنهم بعد إيمانهم: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ) [طه: ٧٣].
تتعدد الصور وتتنوع الوسائل التي يستخدمها الكافرون وأعوانهم في حربهم على الإسلام وأهله، فهم في صراع دائم مع المصلحين الداعين لوحدانية الله من دون نقص أو شوائب، ولكل عصر عناوينه وصوره المتعددة في فتنة الذين آمنوا، وهذه ضريبة طبيعة يدفعها أهل الإيمان في سبيل الله تعالى.
يقول سبحانه وتعالى: (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) [العنكبوت: ٢].
إن الإكراه الذي يمارسه الطغاة والمستكبرون في حق المؤمنين، يؤثر على عوام الناس وضعفاء الإيمان، والذين يجهلون حقيقة الحياة الدنيا.
ومن ذلك ما ذكره الله عن حال بني إسرائيل مع فرعون، فقال تعالى: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ) [يونس: ٨٣-٨٦].
ولقد حث ربنا سبحانه وتعالى المؤمنين على الصبر والجلد في وجه الطغاة والعتاة، وعدم الركون إليهم والاستسلام لمخططاتهم للقضاء على الإسلام وأهله، وأمر المؤمنين الموحدين بالإعداد لهم وقتالهم، يقول تعالى: (ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ) [البقرة: ١٩٣].
والأمر بقتال المشركين من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين حتى لا تكون هناك محاولة من المشركين والكافرين لصرف الناس عن دين الله بالقوة والقهر والسيف؛ ولذلك لابد من مواجهتهم بالقوة ردًا لاعتدائهم على المسلمين، وخوفًا من صرفهم الناس عن دين الله، حتى إذا انتهوا عن معاندتهم ولزموا حدودهم فقد تم المراد (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [البقرة: ١٩٣].
٢.الفتنة في الدين بالإكراه في حق الناس عامة.
إن الإسلام دين الرحمة والسماحة، شرعه يطابق العقل والمنطوق، ينسجم مع الفطر السليمة والنفوس الزاكية، يسمو بالبشرية إلى أرقى المراتب، ويعلو بالإنسان إلى أعلى الدرجات، فيه من الأخلاق ما يسع الناس جميعًا بدون تشدد ولا عسر وعنف ولا غلو ولا تنطع، فهو دين وسطي شامل لجميع نواحي الحياة، يصلح لكل زمان ومكان.
ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى أنزل في كتابه الكريم وفي حق عامة الناس بأنه لا إكراه في الدين: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕﰖ ﰗ ﰘ ﰙ) [البقرة: ٢٥٦].
فهذا دين واضح المعالم والمسالك، لا إكراه فيه ولا إجبار في اعتناقه والإيمان به.
ولما أراد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من حبه لأمته أن يكره بعضًا من الناس على الإيمان، استنكر عليه ربنا سبحانه وتعالى ذلك، وأنزل في ذلك قرآنًا يتلى إلى يوم القيامة.
يقول تعالى: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) [يونس: ٩٩].
وكأن الله سبحانه وتعالى يعلمنا أن الفتنة في الدين وإكراه الناس على الدخول فيه، لا تنشئ المجتمع المسلم الذي يتحمل أعباء الدعوة إلى الله، ويلتزم بالتكاليف الإلهية، ولا تربي الأمة المجاهدة التي تدافع عن دينها وتذود عن حياضه، ولا تزهو الحضارة المنشودة بهم، إذن لابد أن لا يفتتن الناس في الدخول لهذا الدين، بل لهم الحرية في الدخول واعتناق هذا الدين، والتعرف عليه والإيمان بمعتقداته بالبحث والدراسة والتعمق والتأمل.
«فالإيمان إذن متروك للاختيار، لا يكره الرسول صلى الله عليه وسلم عليه أحدًا؛ لأنه لا مجال للإكراه في مشاعر القلب وتوجهات الضمير»50.
٣. الفتنة في الدين بالإكراه في حق المنافقين.
الفتنة في الدين بالإكراه في حق المنافقين ناتجة عن أمرين، علم الله بحقيقة ما في صدورهم، وخبايا أنفسهم، فكره الله نصرتهم للدين فثبطهم عنها، وكذلك فإنهم يكرهون الحق ويحرضون ضده، ويعملون بكل ما أوتوا من قوة مادية ومعنوية، وكراهية مستديمة لطمس الحق ومحاربته، وسأوضح الحالتين وفق التالي:
الحالة الأولى: كراهة الله عز وجل للمنافقين في الخروج لنصرة الدين:
لـما علم الله سبحانه وتعالى من طبيعة وسجية المنافقين، ونواياهم المنطوية على السوء للمسلمين، لم يبعث فيهم الهمة للخروج لنصرة الدين، فكره الله جهادهم مع المجاهدين، فقال تعالى: (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ) [التوبة: ٤٦].
ولعل السبب في تثبيط الله عز وجل للمنافقين في عدم خروجهم لنصرة الدين، يوضحه ربنا سبحانه وتعالى بقوله تعالى في الآية التي تلي آية الإكراه مباشرة، يقول تعالى: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) [التوبة: ٤٧].
«فالقلوب الحائرة تبث الخور والضعف في الصفوف، والنفوس الخائنة خطر على الجيوش؛ ولو خرج أولئك المنافقون ما زادوا المسلمين قوة بخروجهم بل لزادوهم اضطرابًا وفوضى، ولأسرعوا بينهم بالوقيعة والفتنة والتفرقة والتخذيل، وفي المسلمين من يسمع لهم في ذلك الحين»51.
وهذا يبين ويوضح حجم تلك الفتنة في دين الله عز وجل من قبل هؤلاء المنافقين، الذين ينصبون أنفسهم دعاة للحق والفضيلة وهم في كينونتهم يمارسون التضليل الممنهج، والفساد الكبير في إفسادهم للمجتمع المسلم، ولهذا حذرنا القرآن الكريم في مواطن شتى من المنافقين وبين لنا صفاتهم في القرآن الكريم، وحذر من اتباعهم، وبين عاقبتهم يوم القيامة.
الحالة الثانية: كراهة المنافقين أنفسهم للحق أو نصرته:
وهنا المشهد الثاني للمنافقين حيث إن ذواتهم الخاوية من الإيمان، وطبائعهم الغير سليمة، وقلوبهم المنحرفة، تجعلهم يكرهون الحق وأهله، وحتى الحق -جل وعلا- يكرهونه والعياذ بالله، يقول تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) [التوبة: ٤٨].
«لقد ابتغى هؤلاء المنافقون إيقاع الشرور والمفاسد في صفوف المسلمين، من قبل ما حدث منهم في غزوة تبوك، ومن مظاهر ذلك أنهم ساءهم انتصاركم في غزوة بدر، وامتنعوا عن مناصرتكم في غزوة أحد، متبعين في ذلك زعيمهم عبد الله بن أبي بن سلول، ثم واصلوا حربهم لكم سرًا وجهرًا حتى كانت غزوة تبوك التي فضح الله فيها أحوالهم»52.
وأكد ذلك قوله سبحانه وتعالى عن فرحهم في التخلف عن نصرة الدين والحق، وكراهتهم لبذل النفس والمال في سبيل الله تعالى، واختلقوا أعذارًا وهمية لعدم الخروج للجهاد.
يقول سبحانه وتعالى: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) [التوبة: ٨١].
ولذلك فقد بين الله سبحانه وتعالى بأن المنافقين لو أنفقوا بالرضا أو الإكراه، لن تقبل منهم لعلم الله المسبق بحقيقتهم، فقال تعالى: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [التوبة: ٥٣].
ثانيًا: طلب الرياسة أو الإكراه عليها:
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن طلب الإمارة والرياسة للنفس، لما لها من تبعات ومساءلات في الدنيا والآخرة، فعبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة، فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أوتيتها من غير مسألة أُعِنت عليها)53.
وعن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله: ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: (يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها)54.
وطلب الرئاسة والإمارة مما يختلف حكمه، بحسب نية صاحبه وغايته، فقد يحمد وقد يذم، والله يعلم المفسد من المصلح، وهذا لا يعني أن يزهد المصلحون في الرياسة والسياسة ويتركوها للمفسدين، ولقد بين ذلك ربنا سبحانه وتعالى في السياق القرآني في قصة سيدنا يوسف عليه السلام، حينما طلب سيدنا يوسف عليه السلام من ملك مصر أن يوليه وزارة الاقتصاد، لما علم في نفسه الأمانة والدراية.
يقول تعالى: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ) [يوسف: ٥٥].
١. الإكراه على الرياسة من قبل المفوض.
لربما تتحقق في مسلم ضوابط ومواصفات تؤهله لتولي رياسة أمر من أمور المسلمين في أي موقع كان، ويكره عليها من قبل أولي الأمر أو أهل الشورى والحل والعقد، وهذا المسلم الذي يمتلك شروط الكفاءة التي تؤهله لخدمة المسلمين في موقع رياسته واجبٌ عليه خدمة الناس؛ لأن تولية أهل الصلاح والاختصاص لأمور المسلمين فيه صلاح للدين والدنيا، وهذا مما تراعيه الشريعة الغراء.
يقول تعالى: (ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ) [الأنعام: ١٦٥].
فالله سبحانه وتعالى وحتى يتحقق التوازن والتكامل في الحياة جعل بين الناس اختلاف تنوع، فمن يجيد شيئًا لا تجده عند آخر، وهكذا دورة الحياة تكتمل، يقول الإمام السعدي في تفسيره للآية الكريمة: «يخلف بعضكم بعضًا، واستخلفكم الله في الأرض، وسخر لكم جميع ما فيها، وابتلاكم، لينظر كيف تعملون»55.
فالإنسان خليفة الله في الأرض لعمارتها وتعبيد الإنسان لله تعالى، والمسلم المصلح أحق الناس بهذه الرياسة والخلافة، وأن يكره أهل الصلاح والاختصاص على رياسة أمور المسلمين، فهذا مما فيه الخير للجميع.
٢. إكراه الناس للاستيلاء الدائم على الرياسة والإمارة.
حذر النبي صلى الله عليه وسلم أيما تحذير من طلب الإمارة والرياسة لهوى في النفس أو غرض شخصي، وأنذر من عواقبها الوخيمة، وبين أنها خزيٌ وندامة في الدنيا والآخرة، وهذا لمن طلبها لنفسه أو صدر نفسه لهذا الأمر، فكيف بمن أكره الناس وأجبرهم على تولي مقاليد أمورهم وهم له كارهون، وأكره الناس على انتخابه، أو الرضا به في موقع الرياسة والإمارة، أو حتى طلب تفويض منهم، وجاء بقوة السلاح والنار.
ولقد بين القرآن الكريم هذا الأمر في حالتين:
الحالة الأولى: الظاهرة الفرعونية في إكراه الناس للحفاظ على الرياسة.
أخبر الله عز وجل عن سحرة فرعون أنهم قالوا: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ) [طه: ٧٣].
يقول الإمام الألوسي في تفسيره للآية الكريمة: «أي: ويغفر لنا السحر الذي تعملناه في معارضة موسى عليه السلام، بإكراهك وحشرك إيانا من المدائن القاصية خصُوه بالذكر مع اندراجه في خطاياهم إظهارًا لغاية نفرتهم عنه ورغبتهم في مغفرته، وذكر الإكراه للإيذان بأنه مما يجب أن يفرد بالاستغفار مع صدوره عنهم بالإكراه، وفيه نوع اعتذار لاستجلاب المغفرة، وقيل: إن رؤساءهم كانوا اثنين وسبعين، اثنان منهم من القبط والباقي من بني إسرائيل وكان فرعون أكرههم على تعلم السحر»56.
فهذا فرعون لما أراد ان يحافظ على سلطانه وعلى طغيانه، أكره أصحاب الاختصاص من السحرة؛ لتعلم ما يسحر أعين الناس ويبطل سحر موسى عليه السلام على حد زعمه، ولكن الله سبحانه وتعالى أبطل كيده، وكان قد هلك فرعون الأصل، إلا أن هذه الظاهرة الفرعونية موجودة في كل عصر وحين، حيث يستخدم الطغاة كل وسائل الإكراه المادي والمعنوي، الترغيبي والترهيبي؛ لإقناع الناس بسحرهم، إلا أن الله سبحانه وتعالى سيبطله.
الحالة الثانية: استكبار أشراف قوم سيدنا شعيب عليه السلام على الدعوة وإكراههم له.
يقول تعالى: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [الأعراف: ٨٨].
يقول الشيخ سيد طنطاوي في تفسيره لهذه الآية: «قال الأشراف المستكبرون من قوم شعيب له ردًا على مواعظه لهم: والله لنخرجنك يا شعيب أنت والذين آمنوا معك من قريتنا بغضًا لكم، ودفعًا لفتنتكم المترتبة على مساكنتنا ومجاورتنا، أو لتعودن وترجعن إلى ملتنا وما نؤمن به من تقاليد ورثناها عن آبائنا ومن المستحيل علينا تركها، فعليك يا شعيب أنت ومن معك أن تختاروا لأنفسكم أحد أمرين: الإخراج من قريتنا أو العودة إلى ملتنا، هكذا قال المترفون المغرورون لشعيب وأتباعه باستعلاء وغلظة وغضب»57.
وهذا ديدن المستكبرين المجرمين في الأرض ينهبون ثروات الناس، ويسلبون حقوقهم المعنوية والمادية، فيصادرون الحريات ويكممون الأفواه، وإذا بعث الله تعالى مخلصًا مصلحًا ليصلح البلاد والعباد، تنادوا فيما بينهم ليحاربوه أو يخرجوه من أرضهم، وصدق سبحانه وتعالى حينما قال حكاية عن قوم سيدنا لوط عليه السلام: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) [النمل: ٥٦].
فيعتمدون سياسة القهر والاستبداد لكل من يتطهر ويتبنى فكرًا مخالفًا لفكرهم المادي الدنيوي، ولكل من يريد أن يوقظ ضمير الناس، ويستنهض همتهم للدين، يبعدونه ويخرجونه ويسجنونه، آملين ألا يسمع له صوتًا، ولا يرى له تابع، وهذا كله إكراه للناس والمصلحين؛ ليحافظوا على سلطانهم ورياستهم، التي سرعان ما ستزول منهم حالما يكتشف الناس حقيقتهم وما سلبوه من شعوبهم، وما تسببوا به من آلام لهذه الامة.
ثالثًا: طلب المال:
قد بين الله تعالى أن المال قوام الحياة، وأن معايش الناس، وقيامهم بالمال، فقال تعالى: (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ) [النساء: ٥].
ولقد حذر الإسلام من مغبة الانجرار وراء زخرف المال، وأن يصبح هدفًا في حياة الإنسان، وحدد طرق مشروعة لجلب المال والرزق، وبين كيفيات صرف هذه الأموال بما يجعله ذخرًا للمرء في الدنيا والآخرة، ونهى سبحانه وتعالى عن طلب المال من طرق غير مشروعة.
فقال سبحانه وتعالى: (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ) [النور: ٣٣].
«لتلتمسوا بإكراهكم إياهن على الزنا عرض الحياة الدنيا، وذلك ما تعرض لهم إليه الحاجة من رياشها وزينتها وأموالها»58، لقد كان من فعل الجاهلية وصدر الإسلام أن يسترزق بأبضاع الإيماء والجواري، فيطلب المال بالبغاء والزنا والعياذ بالله، وهذه طريق غير مشروع في كسب المال نهى ربنا سبحانه وتعالى عنه، فكان يطلب المال بالإكراه منهن وهذا مما لا شك ينفي عنهن الاختيار في ذلك.
فعقب سبحانه وتعالى على ذلك بقوله: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) [النور: ٣٣].
لقد حدد الإسلام الحنيف ضوابط للمال جلبه وصرفه، وبين القرآن الكريم أن المال ما هو إلا وسيلة في الدنيا لا ترتقي لأن تصبح غايةً وهدفًا، ولذلك خص ربنا سبحانه وتعالى المال في الآخرة بسؤالين من أين اكتسب؟ وفيم أنفق؟
فعن أبي برزة الاسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسئل عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه فيم فعل؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟)59.
وبهذا يكون الشرع قد بين للناس وظيفة المال في الدنيا، وأهمية أن يكون هذا المال طيبًا حلالًا، لصلاح الدين والدنيا للناس.
الإكراه الذي قدره الله تعالى في علمه، وقضاه في حكمه، ومن ذلك إكراه الخلق على الشدائد من العبادات وغيرها، والإكراه بالانقياد له جل جلاله .سنتناوله من خلال النقاط التالية:
أولًا: الإكراه على الشدائد:
إن الخلق جميعًا سواء أكانوا في السماوات السبع، أم في الأرضين السبع مأمورون أن يستسلموا لربهم طوعًا وكرهًا.
قال تعالى: (ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ) [آل عمران: ٨٣].
تبين هذه الآية الكريمة على وجه الإنكار والتهديد عطفًا على ما دل عليه السياق من خلال تساؤلٍ، وهو قوله: أتولى هؤلاء الفاسقون، فتسبب عن ذلك أنهم على غير دين الله تعالى، مع أن الحال أن كل من في السماوات والأرض من مخلوقات، تخضع وتنقاد لربها، وتجري تحت مراده وقضائه، ولا تقدر على مغالبة قدرته بوجهٍ من الوجوه.
وكل هذا يكون طوعًا بالإيمان، أو بما وافق أغراضهم، ويكون أيضًا كرهًا بالتسليم لقهره في إسلامهم، وإن كثرت أعوانهم وعز سلطانهم، وتأتي الفاصلة القرآنية؛ لتبين أن كل هذه المخلوقات سوف ترجع إلى ربها بالحشر، ومن ثم الانتقال إلى الثواب أو العقاب60، ويجوز أن يكون الإكراه هنا بمعنى كل ما فيه من مشقة، كمن أسلم مخافة القتل، فيكون إسلامه استسلامًا منه61.
وقد تناولت آية أخرى نفس المقصد من بيان أن جميع المخلوقات في السماوات والأرض تسجد طوعًا وكرهًا، وظلالهم بالغدو والآصال.
قال تعالى: (ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ) [الرعد: ١٥].
فإن المؤمن المخلص يسجد لله طائعًا، وأما الكافر المنافق فيسجد لله كرهًا بقدر الله تعالى؛ بل تسجد ظلال جميع المخلوقات بدوران تلك الظلال، وهذا يكون أول النهار وآخره62.
ثانيًا: الانقياد لله تعالى:
إن الله تعالى قد بين في كتابه العزيز أن المخلوقات تأتي إلى ربها، وتنقاد لأمره، طوعًا أو كرهًا، فقال تعالى: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [فصلت: ١١].
وإن هذه الآية جاءت في سياق الخطاب القرآني للنبي صلى الله عليه وسلم حتى يقول الكفار: أئنكم لتكفرون بالله تعالى، الذي قدر وجود الأرض في يومين، وتجعلون له الند والشريك، وهو منزه عن ذلك.
فالله تعالى أسماؤه رب العالمين، رب كل من السماوات والأرضين، الذي جعل فوق الأرض الجبال الرواسي الشامخات، وبارك فيها، وبين كميتها وأقدارها، التي تتناسب مع سكانها وأبنائها، وكل ذلك حصل في أربعة أيام استوت استواءً بلا نقصان ولا زيادة، يومان في خلق الأرض، ويومان في جعل الرواسي، وتقدير الأقوات، فتلك أربعة كاملة، ثم يومان آخران للسماوات السبع، فتلك ستة أيام، كما نطقت الآيات.
وتبين هذه الآية التي هي شاهد الكلام أن الله تعالى استوى إلى السماء وقصد إليها بعد خلقها وخلق الأرض، وحال السماء سعة الاستواء إليها من الله تعالى كانت دخانًا بما لا يعلم كنهه وحقيقته إلا الله تعالى، فقال عند ذلك رب العالمين للسماء والأرض: انقادا لأمري مختارتين أو مجبرتين على وجهٍ معين، وفي وقت مقدر، فقالتا: أتينا مذعنين لك، ليس لنا إرادة تخالف إرادتك63.
وهذا تمثيل لسرعة الانقياد، وتصوير لكون وجودهما كما هما عليه جاريًا على مقتضى الحكمة البالغة، والإرادة السامية64.
أثر الإكراه في الأحكام الشرعية
إن مصطلح الإكراه قد أخذ مساحةً لا بأس بها في الأحكام الشرعية، التي وردت في الخطاب القرآني، ومن ثم فإن الحديث الآتي عن أثر ذلك المصطلح في هذه الأحكام، من خلال دراسة أمثلة من هذه الآثار، وذلك فيما يأتي:
أولًا: الأثر الشرعي المترتب على الإكراه في الإيمان:
إن الإسلام دينٌ يحترم العقل، وينسجم مع الفطرة السليمة؛ ولذلك فهو يرفض المنهج الإكراهي والإجباري في اعتناقه، وفي مسألة الإيمان والدين لا يعتبر الإكراه لا شرعًا ولا عرفًا بأدلة واضحة من كتابه سبحانه وتعالى، بل إن الله سبحانه وتعالى استنكر على نبيه صلى الله عليه وسلم إصراره على إكراه المصرين على الكفر والعناد للدخول في الإيمان، فقال تعالى: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) [يونس: ٩٩].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فلا يصح كفر المكره بغير حق، ولا إيمان المكره بغير حق؛ كالذمي الموفي بذمته، كما قال تعالى فيه: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ) [البقرة: ٢٥٦].
بخلاف المكره بحق، كالمقاتلين من أهل الحرب، حتى يسلموا إن كان قتالهم إلى الإسلام، أو إعطاء الجزية، إن كان القتال على أحدهما»65.
وقال ابن قدامة: «وإذا أكره على الإسلام من لا يجوز إكراهه كالذمي والمستأمن، فأسلم: لم يثبت له حكم الإسلام حتى يوجد منه ما يدل على إسلامه طوع»66.
وأختم هذه المسألة بما قاله الدكتور محمد الغزالي: «الإكراه على الفضيلة لا يصنع الإنسان الفاضل، كما أن الإكراه على الإيمان لا يصنع الإنسان المؤمن؟ فالحرية النفسية والعقلية أساس المسئولية، والإسلام يقدر هذه الحقيقة ويحترمها، وهو يبنى صرح الأخلاق»67.
ثانيًا: الأثر الشرعي المترتب على الإكراه في البيوع:
إن شرط التراضي بين المتعاقدين في البيوع يكتسب أهمية عظيمة، وعليه فقد ذهب الشافعية والحنابلة والظاهرية68، إلى إبطال بيع المكره؛ لانعدام الرضا وهو الشرط الأساسي لأي تصرف، واستدلوا بذلك من القرآن الكريم بقوله تعالى: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [النساء: ٢٩].
ومن السنة النبوية الشريفة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما البيع عن تراض)69.
وهذا يكفينا ويعطينا دلالة واضحة على أن الإكراه في البيوع غير جائز شرعًا وعرفًا، ولا تنبني عليه أية أحكام في الدنيا والآخرة.
ثالثًا: الأثر الشرعي المترتب على الإكراه في النكاح:
أما بخصوص الأثر الشرعي المترتب على الإكراه في النكاح، ففيه حالتان:
الحالة الأولى: مثلما وردت في سياق الآية الكريمة السابقة في سورة النساء، من فعل الناس في العصر الجاهلي وصدر عصر الإسلام، من التحفظ على الزوجة المتوفى عنها زوجها، للزواج منها إذا كان لديها ميراث أو كانت جميلة أو حجبها عن الزواج، وهذا مما نهى القرآن الكريم عنه.
قال الشافعي رحمه الله: «فأباح عشرتهن على الكراهية بالمعروف وأخبر أن الله عز وجل قد يجعل في الكره خيرًا كثيرًا»70.
الحالة الثانية: أن يكره ولي الأمر المكره على الزواج، وفي هذه الحالة ذهب جمهور العلماء ومنهم المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن الإكراه يؤثر في التصرفات الشرعية التي لا تحتمل الفسخ كالنكاح، فإذا أجري عقد النكاح تحت الإكراه فإنه يفسده؛ إذ الرضا من العاقدين شرط صحة العقد، فإذا فقد الرضا فقد فسد العقد71.
رابعًا: الآثار الشرعية المترتبة على الإكراه في ارتكاب كبيرة:
١. الأثر الشرعي المترتب على المكره على كبيرة السحر.
إن السحر والسحرة شديدو الخطر، وإذا كان السحر جريمة وكبيرة يترتب عليها آثار شرعية في الدنيا والآخرة تصل لحد خروج مرتكب هذه الكبيرة من ملة الإسلام، والسحر من أعظم الذنوب جرمًا وأشدها حرمة، وقد ثنى به النبي صلى الله عليه وسلم بعد الشرك بالله تعالى، فعن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات). قيل يا رسول الله وما هن قال: (الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)72.
وقد حكم الله تعالى بأن الساحر ليس له في الآخرة من نصيب فقال تعالى: (ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ) [البقرة: ١٠٢].
فإن القرآن الكريم والسنة النبوية قد بينا خطورة مرتكب كبيرة السحر وأنه لا نصيب له في الآخرة، فكيف بمن يكره الناس على السحر؛ لصد الناس عن دينهم وسلخهم عن عقيدتهم؛ فإن العقوبة ستكون بالتأكيد أشد وأقسى.
٢. الأثر الشرعي المترتب على المكره على كبيرة السحر.
إذا بلغ الـمكره على السحر الحد الذي يعد فيه مكرهًا بحيث إنه لو لم ينفذه السحر لقتله الـمكره، فإنه في ذلك على حالتين:
الحالة الأولى: إذا كان السحر الـمكره عليه يعود بالضر على أناس في تلبيس دينهم عليهم، أو تفرقة زوجين، أو الإضرار بمسلمين، فإنه لا يجوز للمكره فعل هذا السحر مطلقًا ولو أدى لهلاكه، والقاعدة الفقهية المعروفة تقول: يتحمل الضرر الخاص لدفع ضرر عام، الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف.
الحالة الثانية: إذا كان المكره عليه من السحر يعود بالضر على نفس الـمكره، فإنه يعمل بقاعدة: يختار أهون الشرين، والقاعدة الفقهية: الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف.
ولا يجب أن نغفل أن الإكراه يسقط التكليف عن الـمكره إذا بلغ معه الحد الذي يعد فيه مكرهًا.
٣.الأثر الشرعي المترتب على ناتج كبيرة السحر بالإكراه.
إذا وقع السحر على أحد من المسلمين فإنه لا تثريب عليه ولا يؤاخذ، ولا تقع أفعاله ولا يؤاخذ عليها كالطلاق ونحوه، ويجب أن يسارع إلى علاج نفسه من خلال القرآن الكريم والرقية الشرعية الصحيحة الثابتة في الكتاب والسنة، بل إن المسلم الذي يقع عليه السحر ويصبر ويحتسب له أجر كبير عند ربه.
فعن عطاء بن أبي رباح قال: «قال لي ابن عباس رضي الله عنهما: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى. قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني أصرع وإني أتكشف فادع الله لي. قال: (إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله أن يعافيك). فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف؛ فدعا لها»73.
خامسًا: الآثار الشرعية المترتبة على الإكراه على ارتكاب كبيرة الزنا:
١. الأثر الشرعي المترتب على المكره على كبيرة الزنا.
يقول الشيخ سيد طنطاوي في تعقيبه على الآية الكريمة: (ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) [النور: ٣٣].
«فمغفرة الله تعالى ورحمته إنما هي للمكرهات على الزنا، لا للمكرهين لهن على ذلك، وقال بعض العلماء: قوله تعالى: (ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) [النور: ٣٣].
قيل: غفور لهن: وقيل: غفور لهم. وقيل: غفور لهن ولهم.
والأظهر: أن المعنى لهن؛ لأن المكره لا يؤاخذ بما يكره عليه، بل يغفره الله له، لعذره بالإكراه. فالموعود بالمغفرة والرحمة، هو المعذور بالإكراه دون المكره؛ لأنه غير معذور بفعله القبيح»74.
٢. الأثر الشرعي المترتب على المكره على كبيرة الزنا.
بنص الآية الكريمة فإن من يكره إيماءه على كبيرة الزنا، ويبلغن الحد الذي يعتبر معه الإنسان مكرهًا، فإنه بفضل من الله ورحمته عليهن أن الله (ﮗ ﮘ)، يقول سبحانه: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) [النور: ٣٣].
٣.الأثر الشرعي المترتب على ناتج كبيرة الزنا بالإكراه.
أخرج الإمام الترمذي في سننه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أيما رجل عاهر بحرة أو أمة فالولد ولد زنا لا يرث ولا يورث)75.
سادسًا: الآثار الشرعية المترتبة على الكفر بعد الإيمان:
مما لا شك فيه أن أفعال المكلفين يترتب عليها آثار سواءٌ في الدنيا أو في الآخرة، وفي مسألة الإكراه على الكفر بعد الإيمان هل يؤاخذ عليها الإنسان وينبني عليها أحكام على المكره في الدنيا والآخرة؟ يجيب الإمام العز بن عبد السلام بقوله: «وأما الكفر القولي والفعلي فيجوزان بالإكراه؛ لا لكونهما كفرًا؛ بل لتحصيل مصلحة حفظ الحياة؛ فهو مفسدة جازت لتحصيل مصلحة؛ ثم يجبر المكره ذلك بإيمانه فيما بقي من زمانه؛ ويثاب على كراهته الكفر بلسانه؛ لأنه مطيع بذلك، وكذلك يثاب على كراهته؛ لترك جميع الواجبات بالإكراه»76.
١. الآثار المترتبة على الكفر باللسان بعد الإيمان في الدنيا.
يقول جلا وعلا: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [النحل: ١٠٦].
قال الإمام الشافعي بعد ذكر هذه الآية: «وللكفر أحكامٌ. يعني: إذا تلفظ بالكفر، فللكفر أحكامٌ إذا كفر وهو مسلمٌ يحكم بفراق الزوجة إن كانت مسلمة هذا يترتب على الكفر، وأن يقتل الكافر لقوله صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)77، ويغنم ماله، فلما وضع الله تعالى عنه ذلك سقطت أحكام الإكراه عن القول كله. يعني: لما تكلم بكلمة الكفر من جهة الإكراه سقطت عنه الأحكام المترتبة على الكفر وهو فراق الزوجة وقتله؛ لأنه كفر، وكذلك غنم ماله»78.
٢. الآثار المترتبة على الكفر باللسان بعد الإيمان في الدار الآخرة.
قياسًا على سقوط الأحكام المترتبة عن الإكراه على الكفر في الدنيا، فإنه يسقط في الآخرة فلا يعاقب الإنسان عليها، وفي الجملة فإن الإكراه مسقطٌ للتكليف، بل زاده العز بن عبد السلام بقوله: «ويثاب على كراهته الكفر بلسانه؛ لأنه مطيع بذلك، وكذلك يثاب على كراهته لترك جميع الواجبات بالإكراه»79.
موضوعات ذات صلة: |
الاضطرار، الكره |
1 مقاييس اللغة، ابن فارس ٥/١٧٢.
2 لسان العرب، ابن منظور ١٣/٥٣٤.
3 بدائع الصنائع، الكاساني ٧/١٧٥.
4 التعريفات ص٥٠.
5 التوقيف، المناوي ص٨٤.
6 بدائع الصنائع، الكاساني ٧/١٧٥.
7 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبدالباقي ص ٦٠٣.
8 انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني ص٧٠٨، الوجوه والنظائر، الدامغاني ص ٣٧٩.
9 لسان العرب، ابن منظور ١/٦٤٨.
10 التوقيف، المناوي ص٥٣٨.
11 مختار الصحاح، الرازي ص٦١٢.
12 الفروق اللغوية، العسكري ص٤٤.
13 انظر: لسان العرب، ابن منظور ١٢/٥٤١، مختار الصحاح، الرازي ص٦١٢.
14 الفروق اللغوية، العسكري ص٤٥.
15 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٢/٤٠٢.
16 انظر: الموسوعة الكويتية الفقهية ٣٠/٢٢٠.
17 انظر: الوسيط ٧/١٣٦.
18 تفسير القرآن العظيم ١/٦٨٢.
19 جامع البيان، ٥/٤١٥.
20 في ظلال القرآن ١/٢٧٠.
21 تيسير الكريم الرحمن ص١١٠.
22 مناهل العرفان، ٢/٤٠٦.
23 هي المرأة التي لا يعيش لها ولد، أو ليس لها إلا ولد واحد.
تاج العروس، الزبيدي٥/٤٢.
24 جامع البيان، الطبري ٥/٤٠٨.
25 انظر: المصدر السابق ٥/٤١٠.
26 انظر: أسباب النزول، الواحدي ص٤٩.
27 انظر: قلائد المرجان في بيان الناسخ والمنسوخ، مرعي الكرمي ص٧٥.
28 انظر: الناسخ والمنسوخ، النحاس ص٢٥٨.
29 جامع البيان، ١٢/٤١٤.
30 المصدر السابق ١٧/٣٠٥.
31 أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، رقم ١١٧٨٧، ٦/٨٤.
وصححه النووي في المجموع ٦/٣٠٩، والألباني في إرواء الغليل ١/١٢٣.
32 في ظلال القرآن٤/٤٩١.
33 السيرة النبوية،ابن كثير٢/٢١٢.
34 انظر: أسباب النزول ص١٩٠.
35 فتح الباري ١٢/٣١١.
36 انظر: أسباب النزول ص٢٤٤.
37 التفسير الوسيط ١/٣٠٧٩.
38 انظر: تفسير القرآن العظيم ٥/٣٠٥.
39 أخرجه مسلم في صحيحه، باب تحريم الكهانة، ٧/٣٧، رقم٢٢٣٠.
40 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٦١.
41 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإكراه، باب من الإكراه، ٦/٢٥٨٤، رقم ٦٩٤٨.
42 الجامع لأحكام القرآن ٥/٩٤.
43 أخرجه الطبري في تفسيره ٨/١٢٣.
44 انظر: لباب التأويل، الخازن ١/٤٩٩، تفسير الشعراوي ١/١٤١٧.
45 انظر: التحرير والتنوير ٥/٢٤.
46 أخرجه أحمد في مسنده، ٣٤/٥٦٠، رقم ٢١٠٨٢، عن عمرو بن يثربي.
وصححه الألباني في إرواء الغليل، رقم ١٤٥٩.
47 الوسيط، سيد طنطاوي١/٩٢٣.
48 المصدر السابق ١/٣٧٢.
49 المصدر السابق ١/٣٧٢.
50 في ظلال القرآن، سيد قطب٤/١٨٤.
51 المصدر السابق ٤/٣٥.
52 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير٤/١٦٠، التفسير الوسيط، طنطاوي ١/١٩٦٩.
53 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأيمان والنذور، باب من سأل الإمارة، ٦/٢٦١٣، رقم ٦٦٢٢.
54 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة، ٣/١٤٥٧، رقم ١٨٢٥.
55 تيسير الكريم الرحمن ص٢٨٢.
56 روح المعاني١٢/٢٢١.
57 التفسير الوسيط١/١٦٤٨.
58 جامع البيان، الطبري ١٩/١٤٧.
59 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب صفة القيامة، باب في القيامة، ٤/٦١٢، رقم ٢٤١٧.
وصححه الألباني في صحيح الجامع ٢/١٢٢٠، رقم ٧٢٩٩.
60 انظر: نظم الدرر، البقاعي ٤/٤٧٢.
61 انظر: فتح البيان، القنوجي، ٢/٢٧٦.
62 انظر: تفسير السمرقندي ٢/٢٢٢.
63 انظر: التفسير الميسر، مجمع الملك فهد ص٤٧٧.
64 انظر: التفسير الواضح، الحجازي ٣/٣٢٩.
65 الاستقامة ٢/٣٢٠.
66 المغني ١٠/٩٦.
67 خلق المسلم ١/١٩.
68 انظر: المحلى، ابن حزم ٨/٣٣١، نهاية المحتاج، الرملي ٣/٣٨٧، شرح منتهى الإرادات، البهوتي ٣/١٢٥.
69 أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الإجارات، باب بيع الخيار، ٢/٧٣٧، رقم٢١٨٥.
وصححه الألباني في إرواء الغليل، ٥/١٢٥، رقم ١٢٨٣.
70 الأم ٥/١١٧.
71 انظر: مغني المحتاج، لشربيني ٣/٢٨٩، المغني، ابن قدامة ٦/٤٧٣، الشرح الصغير، الدردير ٢/٥٤٦.
72 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، ١/٦٤، رقم ٢٧٢.
73 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المرضى، باب فيمن يصرع من الريح، ٥/٢١٤٠، رقم ٥٦٥٢.
74 انظر: الوسيط، سيد طنطاوي ٦/٣٠٨٠.
75 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب الفرائض، باب إبطال ميراث ولد الزنا٤/٤٢٨، رقم ٢١١٣، وابن ماجه في سننه، كتاب الفرائض، باب في ادعاء الولد، ٢/٩١٧، رقم ٢٧٤٥.
وصححه الألباني في صحيح الجامع ١/٥٢٨، رقم ٢٧٢٠.
76 القواعد الكبرى ٢/٢٦٩.
77 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب لا يعذب بعذاب الله، ٤/٦١، رقم ٣٠١٧.
78 الأم ٥/١١٧.
79 القواعد الكبرى ٢/٢٦٩.