عناصر الموضوع

مفهوم

في الاستعمال القرآني

الألفاظ ذات الصلة

المأمورون ب في القرآن

أنواع

عاقبة

مفهوم

أولًا: المعنى اللغوي:

قال ابن فارس: «العين والراء والضاد بناءٌ تكثر فروعه، وهي مع كثرتها ترجع إلى أصلٍ واحدٍ، وهو العرض الذي يخالف الطول»1.

يأتي في اللغة بعدة معان، منها:

  1. التولي والإضراب: إذا عدي بـ (عن)؛ فإذا قيل: أعرض عني، فمعناه: ولى مبديًا عرضه 2.
  2. تنحية الوجه وإشاحته: قال ابن الأعرابي: «أعرض بوجهه وأشاح أي: جد في »، وأعرض بوجهه: أي مال3.
  3. الصد: فتقول: أعرضت بوجهي عنه أي صددت، ويقال: أعرضت عن الأمر: صددت عنه. وقال الخليل بن أحمد: «وأعرضت بوجهي عنه، أي: صددت وحدت»4.

    مما سبق يتبين لنا: أن معاني في اللغة تدور حول الانصراف، والبعد عن الشيء.

    ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:

    لا يخرج تعريف اصطلاحًا عن أحد معانيه اللغوية.

    فقد عرف السمعاني بقوله: « صرف الوجه عن الشيء، أو إلى من هو أولى منه، أو لإذلال من يصرف عنه الوجه5.

    وعرفه الكفوي بقوله: « و الانصراف عن الشيء بالقلب»6.

    وقال ابن عاشور: «حقيقة عدم الالتفات إلى الشيء بقصد التباعد عنه»7.

في الاستعمال القرآني

  1. وردت مادة (أعرض) في القرآن (٥٣) مرة8.

    والصيغ التي وردت هي:

    الصيغة

    عدد المرات

    المثال

    الفعل الماضي

    ١٣

    ( ) [الإسراء:٦٧]

    الفعل المضارع

    ٦

    ( ) [القمر:٢]

    فعل الأمر

    ١٣

    ( ) [هود:٧٦]

    اسم الفاعل

    ١٩

    ( ) [الأحقاف:٣]

    المصدر

    ٢

    ( ) [النساء:١٢٨]

    وجاء في القرآن بمعناه اللغوي الذي يدور حول الانصراف عن الشيء.

الألفاظ ذات الصلة

  1. الانصراف:

    الانصراف لغة:

    هو: رد الشيء عن وجهه. صرفه يصرفه صرفًا فانصرف، وصارف نفسه عن الشيء صرفها عنه9.

    الانصراف اصطلاحًا:

    هو عن الشيء ورده والهروب عنه10.

    الصلة بين الانصراف و:

    بهذا المعنى تتبين لنا العلاقة بين الانصراف و؛ حيث إن كلًا من والانصراف يدل على رد الشيء، وعدم قبوله، ولكن أعم من الانصراف.

    التولي:

    التولي لغة:

    تولى عن الشيء، أي: أدبر عنه، و ولى عنه أي: أعرض عنه أو نأى11.

    فالتولي إذا عدي بنفسه اقتضى معنى الولاية، وحصوله في أقرب المواضع منه، يقال: وليت سمعي كذا: أقبلت به عليه، وإذا عدي بـ(عن) لفظًا أو تقديرًا؛ اقتضى معنى 12.

    التولي اصطلاحًا:

    قال المناوي: «التولي هو المتكلف بما يفهمه التفعل»13.

    وقول المناوي: « بما يفهمه التفعل» معناه أن صيغة تفعل هنا تفيد التكلف كما في قولهم: تحلم، أي تكلف الحلم14.

    وذهب الكفوي إلى أن التولي: مطلقًا، ولا يلزمه الإدبار والتولي بالإدبار، وعلل بذلك أن تولي الرسول صلى الله عليه وسلم عن ابن أم مكتوم رضي الله عنه لم يكن بالإدبار، وعنده كذلك قد يكون على حقيقة بالإدبار؛ كما في قوله تعالى ( ﯿ ) [الأنبياء:٥٧].

    وقد يكون كناية عن الانهزام، كما في قوله تعالى: ( ) [التوبة: ٢٥]. وعنده كذلك التولي قد يكون لحاجة تدعو إلى الانصراف مع ثبوت النية15.

    الصلة بين التولي و:

    نجد أن أهل العلم قد اختلفوا في التفريق بين والتولي:

    فذهب جماعة من أهل التفسير إلى أن كلًا من والتولي بمعنى واحد، وإن اختلفت الألفاظ.

    قال القرطبي: «و والتولي بمعنًى واحدٍ، مخالفٌ بينهما في اللفظ»16.

    وهناك من فرق فقال: إن التولي يكون بالجسم، و يكون بالقلب.

    فعلى هذا التفريق يكون كل من المعرض والمتولي يشتركان في ترك السلوك، إلا أن المعرض أسوأ حالًا؛ لأن المتولي متى ندم سهل عليه الرجوع، والمعرض يحتاج إلى طلب جديد وغاية الذم الجمع بينهما17.

    الصد:

    الصد لغة:

    الصد في اللغة يدور على معانٍ، وهي: الصرف والامتناع، وشدة الضحك والجلبة، وكذلك والعدول.

    قال ابن منظور في لسان العرب: « الصد والصدوف..... ويقال صده عن الأمر يصده صدًا منعه وصرفه عنه قال الله عز وجل: ( ﯼﯽ ﯿ ) [النمل:٤٣]»18.

    الصد اصطلاحًا:

    عرفه المناوي فقال: الصد المنع بالأعز الصارف عن الأمر ذكره بعضهم. وقال الحرالي: الصد صرف إلى ناحية بإعراض وتكره19.

    وعرفه أبوالبقاء الكفوي فقال: «والصد هو العدول عن الشيء عن قلىً يستعمل لازمًا بمعنى الانصراف والامتناع ( )[النساء:٦١]. ( )[النحل:٨٨]. ومتعديًا بمعنى الصرف والمنع....»20.

    الصلة بين الصد و:

    يتبين لنا وجه العلاقة بين والصد، فكل من والصد يوجد فيه معنى العدول عن الشيء من قبل الشخص ذاته، ويفترقان في أن الصد قد يصدر من الشخص تجاه الآخرين بحملهم على العدول والامتناع، وهي صفة مذمومة؛ لأنها غالبا لم تستعمل إلا في الصد عن سبيل الله، وأما فمنه ما هو إعراض محمود، وإعراض مذموم على حسب السياق والمعنى.

المأمورون ب في القرآن

  1. إن من رحمة الله تعالى بعباده المؤمنين أنه قد بيَن لهم طريقة التعامل مع المعرضين؛ لئلا يجرف المعرضون غيرهم إلى إعراضهم، فيصدوهم عن الحق، ويزينوا لهم الباطل، ورأس الأمر الرباني في التعامل مع المعرضين هو عنهم.

    وأمر الله تعالى بعض رسله وأهل الإيمان ب عن أهل الشرك والكفر والضلال، وكان هذا الأمر من الله تعالى لرسله عليهم السلام وعباده المؤمنين؛ من باب الجزاء من جنس العمل، فهم أعرضوا عن شرع الله واتباع طريقه المستقيم، فكان الجزاء لهم من جنس عملهم وهو أن يعرض عنهم رسل الله وعباد الله المؤمنين.

    أولًا: الرسل عليهم السلام:

    قد ورد في كتاب الله تعالى في بعض آيات الأمر من الله تعالى لبعض أنبيائه عليهم السلام ب وهو من المحمود، ومن هؤلاء الأنبياء:

    ١. إبراهيم عليه السلام.

    قال الله تعالى: ( ﮅﮆ ﮋﮌ ) [هود:٧٦].

    ففي هذه الآية الكريمة قد أمر الله تعالى نبيه إبراهيم عليه السلام بالأمر ب، وذلك كان في موضع المجادلة مع الملائكة عليهم السلام في شأن قوم لوط عليه السلام، فأمر ب عن تلك المجادلة، فقال له الملائكة: دع عنك الجدال في أمرهم والخصومة فيه؛ لأنه ( ﮋﮌ )، وهو قول عامة أهل التفسير، وكانت سبب مجادلة إبراهيم عليه السلام، إنما كانت في قوم لوطٍ؛ بسبب مقام لوطٍ فيما بينهم21.

    وقد ذكر أهل التفسير أن إبراهيم عليه السلام أمر بترك وترك المجادلة في قوم لوط؛ لأنه قد جاء التعليل في آخر الآية، وأنهم قد شارفهم وقع العذاب، وفسر بعضهم المجادلة بطلب الشفاعة، وقيل: هي سؤاله عن العذاب هل هو واقع بهم لا محالة أم على سبيل الإخافة؛ ليرجعوا إلى الطاعة؟22.

    ٢. يوسف عليه السلام.

    فقد ورد في كتاب الله تعالى الأمر لنبي الله يوسف عليه السلام، وكان ذلك في قول الله تعالى: ( ﯯﯰ ﯲﯳ ) [يوسف:٢٩].

    وكان الأمر ب ليوسف عليه السلام، كان عقب حادثة اتهامه بالفاحشة، ومع ذلم فقد أمر ب عن ذكر ما كان منها إليك فيما راودتك عليه؛ حيث قد ظهر صدقك ونزاهتك، فلا تذكره لأحدٍ؛ حرصًا على التستر عليها23.

    ٣. نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم.

    لقد تعددت الآيات التي وردت في حق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالأمر ب أو تذكر إعراضه، واختلفت وقائعها وكانت في مواقف عدة، ولقد وردت آيات عدة من الله تعالى تأمر النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم ب عن المشركين.

    ومن ذلك قول الله تعالى: ( ) [الحجر:٩٤أي: لا تبال بهم ولا تلتفت إليهم؛ إذا لاموك على إظهار الدعوة.

    ثم أكد هذا الأمر سبحانه وتعالى، وثبت قلب رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: ( ) [الحجر:٩٥].

    مع كونهم كانوا من أكابر الكفار، وأهل الشوكة فيهم؛ فإذا كفاه الله أمرهم بقمعهم وتدميرهم كفاه أمر من هو دونهم بالأولى24.

    فهذا هو التوجية الرباني لنبيه صلى الله عليه وسلم في أول الدعوة هو الصدع بالدعوة والجهر بالحق، و عن هؤلاء الكفار والمشركين؛ من أجل تحقيق الغاية التي من أجلها قد أرسله الله تعالى، وهي تعبيد الخلق لله تعالى، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، ويتأكد هذا الأمر ب عن أهل الشرك والكفر في مواقف كثيرة وآيات أخرى تدل على نفس المعنى، وهو الأمر ب عن أهل الشرك والكفر، وكان ذلك في خضم دعوتهم.

    قال الله تعالى: ( ﮑﮒ ﮖﮗ ) [الأنعام:١٠٦].

    ففي تلك الآية هو حث من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يترفع ويترك أقاويل هؤلاء الأصاغر من الكفار والمشركين.

    قال الطبري: «اتبع، يا محمد صلى الله عليه وسلم، ما أمرك به ربك في وحيه الذي أوحاه إليك، فاعمل به، وانزجر عما زجرك عنه فيه، ودع ما يدعوك إليه مشركو قومك من عبادة الأوثان والأصنام، فإنه لا إله إلا هو»25.

    مع التنبيه أن المراد ب عن المشركين هو: عن مكابرتهم وأذاهم لا عن دعوتهم، فإن الله لم يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بقطع الدعوة لأي صنفٍ من الناس، وكل آيةٍ فيها الأمر ب عن المشركين فإنما هو إعراضٌ عن أقوالهم وأذاهم26.

    وفي موضع آخر من كتاب الله تعالى يبين الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم كيف يتعامل مع هؤلاء الكفار والمشركين الذين لم يريدوا إلا الحياة الدنيا، وتولوا عن التذكير بالقرآن.

    قال الله تعالى: ( ) [النجم:٢٩].

    أي: اترك مجادلتهم فقد بلغت وأتيت بما عليك، ولا تهتم بشأنهم؛ فإن من غفل عن الله وأعرض عن ذكره، وانهمك في الدنيا بحيث كانت منتهى همته ومبلغ علمه؛ فلا تغتم وتتحسر على كفرهم27.

    وفي موضع آخر يأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ب عن الجاهلين، وعدم التبالي بأفعالهم وهذا من باب حسن العشرة مع الناس.

    قال الله تعالى: ( ) [الأعراف:١٩٩].

    فقوله تعالى: ( ) دخل فيه صلة القاطعين، والعفو عن المذنبين، والرفق بالمؤمنين، وغير ذلك من أخلاق المطيعين.

    وفي قوله: ( ) الحض على التعلق بالعلم، و عن أهل الظلم، والتنزه عن منازعة السفهاء، ومساواة الجهلة الأغبياء، وغير ذلك من الأخلاق الحميدة والأفعال الرشيدة28.

    وفي موضع آخر يخبر الله تعالى عن ما حدث من نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه قد أعرض عن بعض أزواجه، وهي حفصة رضي الله عنها.

    يقول الله تعالى: ( ﭿ ﮁﮂ ﮉﮊ ) [التحريم:٣].

    ففي تلك الآية الكريمة تبين مدى كرم خلق النبي صلى الله عليه وسلم بأن هذا منه صلى الله عليه وسلم لكرم خلقه وشدة حيائه وحسن عشرته صلى الله عليه وسلم.

    فقوله تعالى: ( ) قال كثير من المفسرين: هي حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها، أسر لها النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا، وأمر أن لا تخبر به أحدًا، فحدثت به عائشة رضي الله عنهما، وأخبره الله بذلك الخبر الذي أذاعته، فعرفها صلى الله عليه وسلم، ببعض ما قالت، وأعرض عن بعضه، كرمًا منه صلى الله عليه وسلم، وحلمًا، كما قال سفيان: «ما زال التغافل من فعل الكرام».

    وإعراض الرسول صلى الله عليه وسلم عن تعريف زوجه ببعض الحديث الذي أفشته من كرم خلقه صلى الله عليه وسلم في معاتبة المفشية وتأديبها إذ يحصل المقصود بأن يعلم بعض ما أفشته فتوقن أن الله يغار عليه. فـ () له: ( ) الخبر الذي لم يخرج منا؟ ( ) الذي لا تخفى عليه خافية، يعلم السر وأخفى29.

    وفي موضع آخر يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( ) [الإسراء:٢٨].

    ففي هذه الآية يخاطب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ( ): أي لا تعرض عنهم إعراض مستهين عن ظهر الغنى والقدرة فتحرمهم، وإنما يجوز له أن يعرض عنهم عند عجز يعرض، وعند عائق يعرض، وأنت عند ذلك ترجو من الله فتح باب الخير لتتوصل به إلى مواساة السائل، فإن قعد بك الحال عن المواساة ( )، يعمل في مسرة نفسه عمل المواساة فتقول: الله يرزق، والله يفتح بالخير30.

    وهذا تعليمٌ عظيمٌ من الله لنبيه لمكارم الأخلاق، وأنه إن لم يقدر على الإعطاء الجميل فليتجمل في عدم الإعطاء؛ لأن الرد الجميل خيرٌ من الإعطاء القبيح31.

    ثانيًا: المؤمنون:

    قد ذكر سبحانه وتعالى في كتابه العزيز عن المؤمنين وإعراضهم عن أهل الكفر والنفاق، ففي موضوعين يأتي البيان القرآني لإعراض المؤمنين من باب الإخبار عن حالهم، وأن إعراضهم عما لا يليق هو من دأب أهل الإيمان.

    قال الله تعالى: ( ) [المؤمنون:٣].

    أي: معرضون عن الباطل وما يكرهه الله من خلقه فهم معرضون عن كل باطل ولهو وما لا يحل من القول والفعل32. وكذلك قال الله تعالى في الإخبار عنهم: (ﭿ ) [القصص:٥٥].

    فأهل الإيمان يعرضون عن اللغو وهو مالا يليق من القول، ويقولون على جهة التبري: «لنا أعمالنا ولكم أعمالكم» أي: كلٌ سيجازى بعمله الذي عمله وحده، ليس عليه من وزر غيره شيء. ولزم من ذلك، أنهم يتبرءون مما عليه الجاهلون، من اللغو والباطل، والكلام الذي لا فائدة فيه.

    ( ) أي: لا تسمعون منا إلا الخير، ولا نخاطبكم بمقتضى جهلكم، فإنكم وإن رضيتم لأنفسكم هذا المرتع اللئيم، فإننا ننزه أنفسنا عنه، ونصونها عن الخوض فيه.

    ( ) من كل وجه33.

    وفي موضع آخر يأتي الأمر من الله تعالى لعباده المؤمنين ب عن المنافقين.

    قال الله تعالى: ( ﭹﭺ ﭿﮀ ) [التوبة:٩٥].

    ففي هذه الآية أمر من الله تعالى لأهل الإيمان ب عن المنافقين، وبيان حقيقتهم أنهم سيؤكدون لكم اعتذارهم بالأيمان الكاذبة إذا انقلبتم وتحولتم إليهم من سفركم؛ لأجل أن تعرضوا عن عتبهم وتوبيخهم على قعودهم مع الخالفين من النساء والأطفال والعجزة، وبخلهم بالنفقة، فأمر الله ب عنهم فقال تعالى: ( ) أي: إعراض إهانةٍ واحتقارٍ، لا إعراض صفحٍ وإعذارٍ.

    وهذا التعبير من الأسلوب الحكيم، وهو قبول ما يبغون من عنهم ولكن على غير الوجه الذي يرجونه منه بل على ضده، وقد علل الأمر بقوله: ( ﭿ) أي: قذرٌ معنويٌ يجب عنه تنزهًا عن القرب منه بأشد مما يتنزه الطاهر الثوب والبدن عن ملابسة الأرجاس والأقذار الحسية 34.

    «إن هؤلاء المنافقين رجس البواطن أخباث الاعتقادات، لا يقبلون التطهير؛ لأنهم منافقون، ومسكنهم جهنم، جزاء بما اكتسبوه في الدنيا من الآثام والخطايا، فلا ينفع معه التوبيخ أو اللوم في الدنيا والآخرة. وحقيقة أيمانهم الكاذبة أنها ليست لوجه الله، وإنما لمجرد استرضاء لكم معشر المؤمنين؛ لتستمروا في معاملتهم كالمسلمين. وإنكم إن رضيتم عنهم، فلا ينفعهم رضاكم، إذا كانوا في سخط الله، والله لا يرضى عن القوم الفاسقين، أي: الخارجين عن طاعة الله والرسول، فليكن همهم إرضاء الله ورسوله، لا إرضاؤكم، كما وصفهم الله بقوله: ( ﭿ ) [النساء:١٠٨].

    وقوله عز وجل: ( ) [الحشر:١٣].

    وهذا إرشاد ونهي للمؤمنين عن الرضا عن المنافقين، والاغترار بأيمانهم الكاذبة، وكفى بالله عليمًا ومعلمًا للمؤمنين منهج الحياة الاجتماعية وطريق معاملة المنافقين وغيرهم من أصحاب البدع المنكرة، فعلى المؤمنين أن يبغضوا المنافقين، وألا يرضوا عنهم لسبب دنيوي، من غير تفرقة بين منافق حضري أو بدوي»35.

أنواع

  1. تحدث القرآن الكريم عن نوعين من ؛ أحدهما محمود، والآخر مذموم، وسوف يتم الحديث عنهما في هذا المبحث..

    أولًا: المحمود:

    إن المحمود هو ما أمر الله به عباده المؤمنين؛ من أجل زجر هؤلاء الكفار المعرضين عن دين الله تعالى وشريعته، وتصديق رسله، والإيمان بهم، فأمر الله تعالى عباده المؤمنين ب عمن أعرض عن دين الله تعالى، وليس مساومته على شيء من الشريعة ليقبلها. فمن تولى عن ذكر الله تعالى، يعرض عنه بنص الكتاب؛ وذلك أن مهمة الرسل والدعاة من بعدهم هي البلاغ لا الهداية.

    قال الله تعالى: ( ) [الشورى:٤٨].

    وقوله تعالى: ( ﮨﮩ ) [آل عمران:٢٠].

    وقوله تعالى ( ) [السجدة:٣٠].

    وكذلك أمر الله عباده المؤمنين ب عن أهل النفاق؛ لأن هؤلاء المنافقين يظهرون الخير ويبطنون الشر لأهل الإيمان، وقد أمر الله تعالى عباده المؤمنين ب عنهم؛ خشية أن لا يتخذهم المؤمنين بطانة من دون المؤمنين، وينخدعوا فيهم وفي أفعالهم الظاهرة، فأوجب الله تعالى عن قولهم، وعدم أخذ نصيحتهم، ولا أن يتخذوا منهم بطانة؛ لأنهم أهل غش وخيانة، فإذا أعرض المؤمنون عنهم، وتوكلوا على الله تعالى لم يضرهم المنافقون شيئًا مهما بلغ كيدهم، وعظم مكرهم.

    قال الله تعالى: ( ﭪﭫ ﭯﭰ ﭵﭶ ) [النساء:٨١].

    ١. عن اليهود.

    فكما أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وعباده المؤمنين ب عن اليهود؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر للمدينة، كانت اليهود تسأل النبي صلى الله عليه وسلم من باب التعنت ولبس الحق بالباطل، فكان الله تعالى ينزل القرآن فيما كانوا يسألون عنه النبي صلى الله عليه وسلم.

    ومن ذلك قول الله تعالى: ( ﭔﭕ ﭜﭝ ﭣﭤ ﭩﭪ ) [المائدة:٤٢].

    فهذه الآية وإن كان ظاهر الخطاب أنه خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم إلا أن هذا الحكم باق، ويتناول حكام المسلمين وعلماءهم.

    قال ابن عطية: «قال القاضي أبو محمد: وقال كثير من العلماء هي محكمة وتخيير الحكام باق، وهذا هو الأظهر إن شاء الله، وفقه هذه الآية أن الأمة فيما علمت مجمعة على أن حاكم المسلمين يحكم بين أهل الذمة في التظالم، ويتسلط عليهم في تغييره وينفر عن صورته كيف وقع فيغير ذلك، ومن التظالم حبس السلع المبيعة وغصب المال وغير ذلك، فأما نوازل الأحكام التي لا ظلم فيها من أحدهم للآخر، وإنما هي دعاوى محتملة وطلب ما يحل وما لا يحل، وطلب المخرج من الإثم في الآخرة، فهي التي يخير فيها الحاكم، وإذا رضي به الخصمان، فلا بد مع ذلك من رضى الأساقفة أو الأحبار.

    قاله ابن القاسم في العتبية.

    قال: وأما إن رضي الأساقفة دون الخصمين أو الخصمان دون الأساقفة فليس له أن يحكم»36.

    ففي هذه الآية يخير الله تعالى نبيه وحكام المسلمين من بعده، وبين لهم أنهم مخيرون بأن يحكموا بينهم، أو يعرضوا عن الحكم بينهم؛ من أجل أن اليهود لا قصد لهم في الحكم الشرعي إلا أن يكون موافقًا لأهوائهم، وعلى هذا فكل مستفت ومتحاكم إلى عالم، يعلم من حاله أنه إن حكم عليه لم يرض، لم يجب الحكم ولا الإفتاء لهم، فإن حكم بينهم وجب أن يحكم بالقسط، ولهذا قال: ( ﭣﭤ ﭩﭪ ) حتى ولو كانوا ظلمة وأعداء، فلا يمنعك ذلك من العدل في الحكم بينهم37.

    وقد اختلف أهل العلم في التخيير الوارد في هذه الآية هل هو منسوخ أم باق؟

    وقد أجمع العلماء على أنه يجب على حكام المسلمين أن يحكموا بين المسلم والذمي إذا ترافعا إليهم. واختلفوا في أهل الذمة إذا ترافعوا فيما بينهم؛ فذهب قوم إلى التخيير، وذهب آخرون إلى الوجوب، وقالوا: إن هذه الآية منسوخة بقوله: ( )[المائدة:٤٩].

    وبه قال ابن عباس، ومجاهد وعكرمة، والزهري وعمر بن عبد العزيز والسدي: وهو الصحيح من قول الشافعي، وحكاه القرطبي عن أكثر العلماء 38.

    ولكن الصحيح هو التفصيل الذي ذكره ابن عاشور؛ حيث قال: «والذي يستخلص من الفقه في مسألة الحكم بين غير المسلمين دون تحكيمٍ: أن الأمة أجمعت على أن أهل الذمة داخلون تحت سلطان الإسلام، وأن عهود الذمة قضت بإبقائهم على ما تقتضيه مللهم في الشؤون الجارية بين بعضهم مع بعضٍ بما حددت لهم شرائعهم؛ ولذلك فالأمور التي يأتونها تنقسم إلى أربعة أقسامٍ:

    القسم الأول: ما هو خاصٌ بذات الذمي من عبادته كصلاته وذبحه وغيرها مما هو من الحلال والحرام. وهذا لا اختلاف بين العلماء في أن أئمة المسلمين لا يتعرضون لهم بتعطيله إلا إذا كان فيه فسادٌ عامٌ كقتل النفس.

    القسم الثاني: ما يجري بينهم من المعاملات الراجعة إلى الحلال والحرام في الإسلام، كأنواعٍ من الأنكحة والطلاق وشرب الخمر والأعمال التي يستحلونها ويحرمها الإسلام. وهذه أيضًا يقرون عليها.

    قال مالكٌ: لا يقام حد الزنا على الذميين، فإن زنى مسلمٌ بكتابيةٍ يحد المسلم ولا تحد الكتابية. قال ابن خويز منداد: ولا يرسل الإمام إليهم رسولًا ولا يحضر الخصم مجلسه.

    القسم الثالث: ما يتجاوزهم إلى غيرهم من المفاسد كالسرقة والاعتداء على النفوس والأعراض. وقد أجمع علماء الأمة على أن هذا القسم يجري على أحكام الإسلام؛ لأنا لم نعاهدهم على الفساد.

    وقد قال تعالى: ( ) [البقرة:٢٠٥]؛ ولذلك نمنعهم من بيع الخمر للمسلمين ومن التظاهر بالمحرمات.

    القسم الرابع: ما يجري بينهم من المعاملات التي فيها اعتداء بعضهم على بعضٍ: كالجنايات، والديون، وتخاصم الزوجين. فهذا القسم إذا تراضوا فيه بينهم لا نتعرض لهم، فإن استعدى أحدهم على الآخر بحاكم المسلمين. فقال مالكٌ: يقضي الحاكم المسلم بينهم فيه وجوبًا؛ لأن في الاعتداء ضربًا من الظلم والفساد، وكذلك قال الشافعي، وأبو يوسف، ومحمدٌ، وزفر. وقال أبو حنيفة: لا يحكم بينهم حتى يتراضى الخصمان معًا»39.

    ٢. عن المنافقين.

    ظاهرة النفاق قد ظهرت عندما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وقامت دولة الإسلام، وظهر من يكره الإسلام باطنًا ويظهر حبه وإيمانه، ولكن الله فضحهم وأظهر نفاقه، وبين للنبي صلى الله عليه وسلم ولعباده المؤمنين المخلصين كيف يتعاملوا مع هؤلاء المنافقين.

    قال الله تعالى: ( ) [النساء:٦٣].

    وقال ابن جرير الطبري: «هؤلاء المنافقون الذين وصفت لك، يا محمد، صفتهم ( ) في احتكامهم إلى الطاغوت، وتركهم الاحتكام إليك، وصدودهم عنك من النفاق والزيغ، وإن حلفوا بالله: ما أردنا إلا إحسانًا وتوفيقًا ( )، يقول: فدعهم فلا تعاقبهم في أبدانهم وأجسامهم، ولكن عظهم بتخويفك إياهم بأس الله أن يحل بهم، وعقوبته أن تنزل بدارهم، وحذرهم من مكروه ما هم عليه من الشك في أمر الله وأمر رسوله»40.

    ولكن كما نبه ابن العربي المالكي: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أعرض عنهم تألفًا ومخافةً من سوء المقالة الموجبة للتنفير»41.

    فكانت هذه السياسة التي أمر بها القرآن في التعامل مع أهل النفاق هي ماتقتضيه الحكمة والسياسة الرفيعة والأسلوب الرفيع للنبي صلى الله عليه وسلم ويتخذها أصحابه من بعده.

    وفي هذا المعنى يقول سيد قطب رحمه الله: «وكانت الخطة التي وجه الله إليها نبيه صلى الله عليه وسلم في معاملة المنافقين، هي أخذهم بظاهرهم- لا بحقيقة نواياهم- و والتغاضي عما يبدر منهم.. وهي خطة فتلتهم في النهاية، وأضعفتهم، وجعلت بقاياهم تتوارى ضعفًا وخجلًا»42.

    وفي آية آخرى يؤكد الله تعالى على هذا الأمر فقال تعالى: ( ﭪﭫ ﭯﭰ ﭵﭶ ) [النساء:٨١].

    أي: ويقولون لك إذا حضروا معك: أمرنا وشأننا طاعةٌ لك فيما تأمرنا به، ( ) أي: خرجوا من عندك ( ) أي: دبرت ليلًا وأخفت من النفاق غير الذي تقول لك من قبول الإيمان وإظهار الطاعة، أو زورت خلاف ما قلت لها من الأمر بالطاعة، ( ﭯﭰ) أي: يثبته في صحائفهم فيجازيهم عليه، ( ) أي: لاتبال بهم وبما صنعوا أو تجاف عنهم ولا تتصد للانتقام منهم. والفاء لسببية ما قبلها لما بعدها، ( ﭵﭶ) يكفك شرهم، ( ) عليهم، فسينتقم لك منهم43.

    ويتوالى التأكيد على عن هذه الفئة المنافقة في آية الخطاب فيها موجه لأهل الإيمان.

    وذلك في قوله تعالى: ( ﭹﭺ ﭿﮀ ) [التوبة:٩٥].

    فقوله: ( )، يقول جل ثناؤه للمؤمنين: فدعوا تأنيبهم، وخلوهم وما اختاروا لأنفسهم من الكفر والنفاق44.

    قال الشوكاني: «وأمر المؤمنين ب عنهم المراد به: تركهم والمهاجرة لهم، لا الرضا عنهم والصفح عن ذنوبهم، كما تفيده جملة إنهم رجسٌ الواقعة علةً للأمر ب. والمعنى: أنهم في أنفسهم رجسٌ لكون جميع أعمالهم نجسةٌ، فكأنها قد صيرت ذواتهم رجسًا، أو أنهم ذوو رجسٍ، أي: ذوو أعمالٍ قبيحةٍ، ومثله إنما المشركون نجسٌ وهؤلاء لما كانوا هكذا كانوا غير متأهلين لقبول الإرشاد إلى الخير، والتحذير من الشر، فليس لهم إلا الترك.

    وقوله ومأواهم جهنم من تمام التعليل فإن من كان من أهل النار لا يجدي فيه الدعاء إلى الخير»45.

    ٣. عن الجاهلين.

    فقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ب عن الجاهلين، وعدم التبالي بأفعالهم وهذا من باب حسن العشرة مع الناس.

    قال الله تعالى: ( ) [الأعراف:١٩٩].

    و«الجهل» هنا في الآية هو ضد الحلم والرشد، وهو أشهر إطلاق الجهل في كلام العرب قبل الإسلام، والمراد بالجاهلين السفهاء كلهم؛ لأن التعريف في كلمة () للاستغراق، وأعظم الجهل هو الإشراك، إذ اتخاذ الحجر إلهًا سفاهةٌ لا تعدلها سفاهةٌ، ثم يشمل كل سفيه رأيٍ46.

    وقد أكد الله تعالى هذا الأمر أنه من صفات عباد الرحمن، فقال الله تعالى: ( ) [الفرقان:٦٣].

    وكان هذا هو خلق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة، فنزل على ابن أخيه الحر بن قيسٍ، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولًا كانوا أو شبانًا، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي، هل لك وجهٌ عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه. قال: سأستأذن لك عليه.

    قال ابن عباسٍ: فاستأذن الحر لعيينة، فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب، فوالله، ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر، حتى هم أن يوقع به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( ) وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافًا عند كتاب الله47.

    وعن عبد الله بن الزبير قال: «أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس، أو كما قال»48.

    فقد أمر الله تعالى أن يقابل الجاهل ب عنه وعدم مقابلته بجهله، فمن آذاك بقوله أو فعله لا تؤذه، ومن حرمك لا تحرمه، ومن قطعك فصله، ومن ظلمك فاعدل فيه49.

    وقد جمعت هذه الآية مكارم الأخلاق؛ لأن فضائل الأخلاق لا تعدو أن تكون عفوًا عن اعتداءٍ فتدخل في خذ العفو، أو إغضاءً عما لا يلائم فتدخل في وأعرض عن الجاهلين، أو فعل خيرٍ واتسامًا بفضيلةٍ فتدخل في وأمر بالعرف50.

    ٤. عن اللغو.

    قال الله تعالى: (ﭿ ) [القصص:٥٥].

    نزلت هذه الآية في قوم كانوا مشركين فأسلموا، فكان قومهم يؤذونهم، فكانوا يصفحون عنهم، يقولون: ( )51.

    وقد عرف الإمام الطبري اللغو بأنه هو: «الباطل من القول» ثم اختار الإمام الطبري أن المراد باللغو في هذه الآية هو ماقاله مجاهد حيث قال: « وهذا يدل على أن اللغو الذي ذكره الله في هذا الموضع، إنما هو ما قاله مجاهد، من أنه سماع القوم ممن يؤذيهم بالقول ما يكرهون منه في أنفسهم، وأهم أجابوهم بالجميل من القول ( ) قد رضينا بها لأنفسنا، ( ) قد رضيتم بها لأنفسكم»52.

    ولكن الصحيح أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما هو قول جمهور أهل العلم53.

    فـ() هو: سقط القول والكلام العبث الذي لافائدة فيه، والقبيح من القول، فالفحش لغو، والسب لغو، والمراد من هذا في هذه الآية ما كان سبًا وأذى، فأدب أهل الإسلام عنه، والقول على جهة التبري ( )، ليس المراد سلام التحية ولكنه سلام المتارك، ومعناه: سلمتم منا لا نعارضكم بالشتم والقبح، ونظيره ( ) [الفرقان:٦٣].

    ثم أكد ذلك تعالى بقوله حاكيًا عنهم ( )، أي: دين الجاهلين، أي: لا نحب دينكم54.

    فهذه الآية تدل على حال أهل الإيمان عند سماعهم اللغو، وأنهم يعرضون عنه، «وإقامة مقام الترك ليدل على تباعدهم عنه رأسًا مباشرة وتسببًا وميلًا وحضورًا فإن أصله أن يكون في عرض أي ناحية غير عرضه»55.

    خامسًا: عن إيذاء من تاب من الفاحشة:

    قال الله تعالى: ( ﭬﭭ ﭲﭳ ) [النساء:١٦].

    وقد أمر الله تعالى عباده المؤمنين ب والستر وترك التعيير والضرب بالنعال لمن ارتكب جريمة الزنا.

    وقوله: ( ) أي: أقلعا ونزعا عما كانا عليه، وصلحت أعمالهما وحسنت ( ) أي: لا تعنفوهما بكلامٍ قبيح بعد ذلك؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له ( ) فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا زنت الأمة فتبين زناها فليجلدها، ولا يثرب ثم إن زنت فليجلدها، ولا يثرب ثم إن زنت الثالثة فليبعها ولو بحبلٍ من شعرٍ)56.

    أي: ثم لا يعيرها بما صنعت بعد الحد، الذي هو كفارةٌ لما صنعت57.

    وقد ذهب جماعة من أهل التفسير أن هذا والتوبيخ منسوخ بآية سورة النور، ولكن رجح القرطبي عدم النسخ فقال: وقيل وهو أولى: إنه ليس بمنسوخٍ، وأنه واجبٌ أن يؤدبا بالتوبيخ فيقال لهما: فجرتما وفسقتما وخالفتما أمر الله عز وجل58.

    ثانيًا: المذموم:

    إن من أشد الخذلان، وأفدح الخسران: عن الله تعالى، وذلك ب عن دينه وشريعته، أو عن كتابه، أو عن ذكره وعبادته. وبقدر إعراض العبد عن الله تعالى تكون خسارته وشقوته؛ فأهل الكفر والنفاق هم أهل الكامل، فكان لهم الخسران المبين، والشقاء الأبدي في الدنيا والآخرة.

    إن عن الله تعالى وعن اتباع طريقه المستقيم؛ سبب للعذاب في الدنيا والآخرة، ف يزيغ القلب، ويطمس البصيرة عن اتباع الحق.

    ١. عن القرآن.

    قد ذكر الله تعالى المعرضين عن القرآن والذكر في مواضع عدة من كتابه، ومع اختلاف أنواعهم، وعاقبتهم، وأحوالهم:

    فقال الله تعالى: ( ) [طه:١٠٠].

    ففي تلك الآية ذم الله تعالى من انصرف وهجر وأعرض عن قرآنه، ولم يعمل به، والذكر في هذا الموضع المراد به القرآن؛ حيث قال الفخر الرازي: «ثم في تسمية القرآن بالذكر وجوه: أحدها: أنه كتاب فيه ذكر ما يحتاج إليه الناس من أمر دينهم ودنياهم. وثانيها: أنه يذكر أنواع آلاء الله تعالى ونعمائه ففيه التذكير والمواعظ. وثالثها: فيه الذكر والشرف لك ولقومك على ما قال: ( ) [الزخرف:٤٤].

    ثم قال: «واعلم أن الله تعالى سمى كل كتبه ذكرًا فقال: ( ) [النحل:٤٣]»59. فمن أعرض عن هذا الذكر الذي هو القرآن العظيم، أي: صد وأدبر عنه، ولم يعمل بما فيه من الحلال، والحرام، والآداب، والمكارم، ولم يعتقد ما فيه من العقائد ويعتبر بما فيه من القصص، والأمثال، ونحو ذلك فإنه يحمل يوم القيامة وزرًا، والوزر هو: العقوبة الثقيلة الباهظة. سماها وزرًا تشبيهًا في ثقلها على المعاقب وصعوبة احتمالها، بالحمل الذي يفدح الحامل وينقض ظهره، ويلقي عليه بوزره. أو لأنها جزاء الوزر وهو الإثم60.

    وفي موضع آخر قال الله تعالى: ( ﯿ) [طه:١٢٤].

    ففي هذه الآية يبين الله سبحانه وتعالى حال وعاقبة المذموم، ومنها عن القرآن، فقوله تعالى: ( )أي: أعرض عن ديني، وتلاوة كتابي، والعمل بما فيه61.

    وفي موضع آخر بيَن الله تعالى عاقبة المذموم، حيث قال الله تعالى: ( ) [الجن:١٧] قال ابن جرير الطبري: «ومن يعرض عن ذكر ربه الذي ذكره به، وهو هذا القرآن؛ ومعناه: ومن يعرض عن استماع القرآن واستعماله، يسلكه الله عذابًا صعدًا: يقول: يسلكه الله عذابًا شديدًا شاقًا»62.

    وفي موضع آخر قال الله تعالى عن أهل المذموم: ( ) [الكهف:٥٧].

    أي: ( ) وهو القرآن العظيم ( ) ولم يتدبرها ولم يتذكر بها وهذا السبك وإن كان مدلوله الوضعي نفي الأظلمية من غير تعرضٍ لنفي المساواة في الظلم، إلا أن مفهومه العرفي أنه أظلم من كل ظالمٍ وبناء الأظلمية على ما في حيز الصلة من عن القرآن للإشعار بأن ظلم من يجادل فيه ويتخذه هزوًا خارجٌ عن الحد ( ) أي: عمله من الكفر والمعاصي التي من جملتها ما ذكر من المجادلة بالباطل والاستهزاء بالحق ولم يتفكر في عاقبتها»63.

    وفي موضع آخر بيَن سبحانه حال المعرضين عن الكتاب العظيم من كفار قريش، وذكر إعراضهم وتوبيخهم فقال الله تعالى: (ﭿ ﮃﮄ ) [ص:٦٧-٦٨].

    فالنبأ العظيم هو القرآن، فإنه نبأ عظيم؛ لأنه كلام الله. قال الزجاح: قل: النبأ الذي أنبأتكم به عن الله نبأ عظيم، يعني: ما أنبأهم به من قصص الأولين، وذلك دليل على صدقه، ونبوته؛ لأنه لم يعلم ذلك إلا بوحي من الله، وجملة ( ) توبيخ لهم، وتقريع لكونهم أعرضوا عنه، ولم يتفكروا فيه، فيعلموا صدقه، ويستدلوا به على ما أنكروه من البعث64.

    ٢. عن الآيات الكونية.

    فقد ذكر الله تعالى في مواضع عدة من كتابه المعرضين عن آيات الله الكونية، ولم يتدبروها ولم يتعظوا منها، ولم يتخذوها عبرة وعظة؛ ليؤمنوا بالله تعالى، بل أعرضوا عنها، وجحدوها.

    قال الله تعالى: ( ) [يوسف:١٠٥].

    قال الإمام الطبري: «يقول جل وعز: وكم من آية في السماوات والأرض لله، وعبرةٍ وحجةٍ، وذلك كالشمس والقمر والنجوم، ونحو ذلك من آيات السماوات، وكالجبال والبحار والنبات والأشجار وغير ذلك من آيات الأرض ( )، يقول: يعاينونها فيمرون بها معرضين عنها، لا يعتبرون بها، ولا يفكرون فيها وفيما دلت عليه من توحيد ربها، وأن الألوهية لا تنبغي إلا للواحد القهار الذي خلقها وخلق كل شيء، فدبرها»65.

    وفي موضع آخر يقول الله تعالى: ( ﯚﯛ ) [الأنبياء:٣٢].

    أي: وهؤلاء المشركون عن آيات السماء؛ كشمسها وقمرها ونجومها. () أي: يعرضون عن التفكر فيها، وتدبر ما فيها من حجج الله عليهم، ودلالتها على وحدانية خالقها، وأنه لا ينبغي أن تكون العبادة إلا لمن دبرها وسواها، ولا تصلح إلا له66.

    ويتأكد ذلك في موضع آخر يقول الله تعالى: ( ) [الأنعام:٤].

    أي: وما تأتي هؤلاء الكفار الذين بربهم يعدلون ( ) وحجة وعلامة ودلالة من حجج ربهم ودلالاته وأعلامه على وحدانيته، ونبوة رسوله صلى الله عليه وسلم، وصدقه، فما كان من حالهم ( )، عن هذه الآية، فصدوا عن قبولها والإقرار بما شهدت على حقيقته ودلت على صحته، جهلًا منهم بالله، واغترارًا بحلمه عنهم67.

    بل يؤكد سبحانه وتعالى ماكان عليه هؤلاء الكفار من الجحود و عن آيات الله ومعجزاته التي حصلت لنبيه صلى الله عليه وسلم وقد رأوها رأي العين، وكان ذلك في وجودهم وحضورهم، وهي معجزة انشقاق القمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

    قال الله تعالى: ( ﮰﮱ ) [القمر:١-٢].

    فانشقاق القمر أيام النبوة معجزةٌ لرسول صلى الله عليه وسلم.

    قال ابن كثير: «كان الانشقاق في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة».

    ثم قال: «وهذا أمرٌ متفقٌ عليه بين العلماء أن انشقاق القمر قد وقع في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات»68.

    وقد وردت أحاديث في ذلك:

  1. فعن أنس بن مالك؛ «أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، فأراهم القمر شقين، حتى رأوا حراء بينهما»69.
  2. عن أنس بن مالك قال: سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم آية، فانشق القمر بمكة مرتين، فقال: ( )70.

    ومع هذه المعجزة العظيمة التي حصلت في حضورهم ووجودهم إلا أنهم أعرضوا عن الإيمان بالله وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم وكذبوا وقالوا: سحرٌ شديدٌ يعلو كل سحرٍ71.

    وفي موضع آخر بيَن الله جل ثناؤه كثرة الآيات وتجددها على هؤلاء الكفار، ومع ذلك يعرضوا عنها ولم يلتفتوا لها. قال الله تعالى: ( ﭿ ) [يس:٤٦]فـ«ما» هنا في هذه الآية نافية، وأتت مع صيغة المضارع؛ للدلالة على التجدد. و( ) فـ() هنا؛ للتوكيد، و( ) فـ() هنا تفيد التبعيض. والمعنى: ما تأتيهم من آية دالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وعلى صحة ما دعا إليه من التوحيد في حال من الأحوال ( ) وظاهره يشمل الآيات التنزيلية والتكوينية، والمراد ب عدم الالتفات إليها وترك النظر الصحيح فيها72.

    وجملة ( ﭿ ) واقعة موقع التذييل لما قبلها، ففيها تعميم أحوالهم وأحوال ما يبلغونه من القرآن، فكأنه قيل: وإذا قيل لهم اتقوا أعرضوا، و دأبهم في كل ما يقال لهم.

    والمراد بالآيات: آيات القرآن التي تنزل فيقرؤها النبي صلى الله عليه وسلم، فأطلق على بلوغها إليهم فعل الإتيان، ووصفها بأنها من آيات ربهم؛ للتنويه بالآيات والتشنيع عليهم ب عن كلام ربهم كفرًا بنعمة خلقه إياهم73.

    ٣. عن التوحيد.

    فيخبر الله جل وعلا عن أهل الكفر والشرك، أنهم يلجؤون إليه سبحانه في الشدائد، ويوحدونه ويفردونه بالعبادة، ثم لما ينجيهم من الكرب والشدة، إذا هم يعرضون ويتركون ماكانوا عليه وقت الشدة من إفراده سبحانه بالعبادة، ثم يعودون لما كانوا عليه من الشرك والكفر.

    قال الله تعالى: ( ﭚﭛ ﭠﭡ ) [الإسراء:٦٧].

    فهذا إعراض جديد من أهل الكفر، وهو إن الكفار إذا مسهم الضر في البحر؛ أي: اشتدت عليهم الريح فغشيتهم أمواج البحر كأنها الجبال، وظنوا أنهم لا خلاص لهم من ذلك، ضل عنهم؛ أي: غاب عن أذهانهم وخواطرهم في ذلك الوقت كل ما كانوا يعبدون من دون الله جل وعلا، فلا يدعون في ذلك الوقت إلا الله جل وعلا وحده؛ لعلمهم أنه لا ينقذ من ذلك الكرب وغيره من الكروب إلا هو وحده جل وعلا، فأخلصوا العبادة والدعاء له وحده في ذلك الحين الذي أحاط بهم فيه هول البحر، فإذا نجاهم الله وفرج عنهم، ووصلوا البر رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر»74.

    ثم يخبر سبحانه أنهم بعد مانجاهم الله تعالى من الكرب، كان حالهم عن توحيده، فقال تعالى: () أي: عن الإخلاص لله وتوحيده، ورجعتم إلى دعاء أصنامكم والاستغاثة بها. ( ) أي: كثير الكفران لنعمة الله، وهو تعليلٌ لما تقدمه، والمعنى: أنهم عند الشدائد يتمسكون برحمة الله، وفي الرخاء يعرضون عنه75.

    ٤. عن شكر الله.

    فيخبر الله تعالى في مواضع متعددة من كتابه عن من يعرض عن شكر نعمته سبحانه وتعالى، ويكفر بها بعدما أنعم الله عليه بها، ومن هؤلاء قوم سبأ، حيث قال الله تعالى عنهم: ( ) [سبأ:١٦].

    وذلك لما أنعم الله تعالى على أهل سبأ كما في قوله تعالى: ( ﭖﭗ ﭛﭜ ﭢﭣ ) [سبأ:١٥].

    ثم ذكر سبحانه ما كان منهم بعد هذه النعمة التي أنعم بها عليهم، فقال:() أي: عن شكر نعمة الله تعالى، وكفروا بالله، وكذبوا أنبياءهم. ثم لما وقع منهم عن شكر النعمة؛ أرسل الله عليهم نقمة فسلب بها ما أنعم به عليهم76، فقال سبحانه: ( ) أي: الصعب والمطر الشديد- أو الوادي- أو السكر الذي يحبس الماء- أو هو البناء الرصين المبني بين الجبلين؛ لحفظ ماء الأمطار وخزنها. وقد ترك فيه أثقاب على مقدار ما يحتاجون إليه في سقيهم، فلما طغوا أهلكهم الله بخراب هذا البناء، فانهال عليهم تيار مائه، فأغرق بلادهم وأفسد عمرانهم وأرضهم. واضطر من نجا منهم للنزوح عنها. كما قال تعالى: ( ) أي: ثمر مر، أو بشع لا يؤكل () شجر يشبه الطرفاء من شجر البادية لا ثمر له ( ) وهو شجر النبق، أي قلة لا تسمن ولا تغني من جوع. فهذا تبديل النعم بالنقم لمن لم يشكر النعم»77.

    وفي موضعين اثنين من القرآن العظيم يخبر الله تعالى عن نقص جنس الإنسان من حيث هو، إلا من عصم الله تعالى في حالتي سرائه وضرائه، بأنه إذا أنعم الله عليه بمالٍ وعافيةٍ، وفتحٍ ورزقٍ ونصرٍ، ونال ما يريد، أعرض عن طاعة الله وعبادته ونأى بجانبه78.

    قال الله تعالى: ( ﯚﯛ ) [الإسراء:٨٣].

    ففي هذه الآية إشارة إلى السبب في وقوع جنس الإنسان في أودية الضلال، وهو حب الدنيا وإيثارها على الأخرى، وكفران نعمه تعالى ب عن شكرها، والجزع واليأس من الفرج عند مس شر قضى عليه، وكل ذلك مما ينافي عقد الإيمان، فإن المؤمن ينظر بعين البصيرة، ويشاهده قدرة الله تعالى في كلتا الحالتين. ويتيقن في الحالة الأولى أن الشكر رباط النعم. وفي الثانية أن الصبر دفاع النقم، فيشكر ويصبر، ويعلم أن المنعم يقدر فلم يعرض عند النعمة بطرًا وأشرًا، ولم يغفل عن ولم يجزع عند النقمة جزعًا وضجرًا79.

    وفي موضع آخر يقول سبحانه: ( ) [فصلت:٥١]وليس بين الآيتين تنافِ، فإن ذلك شأن بعض منهم غير بعض المذكور في الآية السابقة، فقد يكون مع شدة يأسه وكثرة قنوطه كثير الدعاء بلسانه80.

    ٥. عن حكم الله ورسوله.

    فيخبر سبحانه وتعالى عن أحوال أهل النفاق وإعراضهم عن حكم الله تعالى، قال الله تعالى: ( ) [النور:٤٨].

    يخبر تعالى عن صفات المنافقين، الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، يقولون قولًا بألسنتهم، وحال هؤلاء المنافقين ( ) أي: إذا طلبوا إلى اتباع الهدى، فيما أنزل الله على رسوله، أعرضوا عنه واستكبروا في أنفسهم عن اتباعه. وهذه كقوله: ( ﭯ ﭰ ﭿ) [النساء:٦٠-٦١]81.

    وهذا يدل على أنهم إنما يعرضون عن حكم الله متى عرفوا الحق لغيرهم أو شكوا. فأما إذا عرفوه لأنفسهم عدلوا عن وسارعوا إلى الحكم وأذعنوا ببذل الرضا82.

    ٦. إعراض الزوج عن زوجته.

    فيخبر سبحانه عن نوع معين من المباح، وهو إعراض الزوج عن زوجته، في حالة كراهيتها أو دمامة أو كبر في السن؛ مما يرغب الزوج عن زوجته، فيبين الله تعالى ما هو الحل والمخرج من ذلك الأمر.

    قال الله تعالى: ( ﭟﭠ ﭢﭣ ﭦﭧ ) [النساء:١٢٨].

    وكان سبب نزول هذه الآية عن عائشة رضي الله عنها، ( ) قالت: (الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثرٍ منها يريد أن يفارقها، فتقول: أجعلك من شأني في حلٍ فنزلت هذه الآية في ذلك)83.

    ففي هذه الآية حكم من الله تعالى في أمر المرأة التي تكون ذات سن ودمامة، أو نحو ذلك مما يرغب زوجها عنها، فيذهب الزوج إلى طلاقها، أو إلى إيثار شابة عليها، ونحو هذا مما يقصد به صلاح نفسه ولا يضرها هي ضررًا يلزمه إياها، بل يعرض عليها الفرقة أو الصبر على الأثرة، فتزيد هي بقاء العصمة، فهذه التي أباح الله تعالى بينهما الصلح، ورفع الجناح فيه، إذ الجناح في كل صلح يكون عن ضرر من الزوج يفعله حتى تعالجه، وأباح الله تعالى الصلح مع الخوف، وظهور علامات النشوز أو ، وهو مع وقوعها مباح أيضًا84.

    قال النحاس: الفرق بين النشوز و أن النشوز التباعد، و ألا يكلمها ولا يأنس بها85.

عاقبة

  1. إن عن الله تعالى سبب للعقوبات العاجلة والآجلة، وبه تزيغ القلوب، وتطمس البصائر، فتعمى عن الحق، وترتكس في الإثم، فيضيق الصدر، وتسود الدنيا عند المعرضين، وقد ذم النبي صلى الله عليه وسلم من أعرض عن تعلم شرع الله تعالى، فعن أبي واقدٍ الليثي (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالسٌ في المسجد والناس معه؛ إذ أقبل ثلاثة نفرٍ فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب واحدٌ، قال فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما أحدهما فرأى فرجةً في الحلقة فجلس فيها وأما الآخر فجلس خلفهم وأما الثالث فأدبر ذاهبًا، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم فأوى إلى الله، فآواه الله وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه)86.

    وقوله صلى الله عليه وسلم: (وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه)، أي: لم يرحمه وسخط عليه.

    وهو معنى من الله تعالى؛ لأن من أعرض عن نبيه وزهد فيه فليس بمؤمن، وإن كان هذا مؤمنًا وذهب لحاجة من حوائج الدنيا وضرورة دعته إلى ذلك، فيكون إعراض الله تعالى عنه ترك رحمته وعفوه، وتقريبه وقبوله الذى أعطاها صاحبيه، فلم يثبت له حسنة ولا نفى عنه سيئة؛ إذ لم يكن منه ما يثاب بذلك87.

    أولًا: عاقبة أهل في الدنيا:

    فكما مر بنا أن ينقسم في القرآن إلى إعراض محمود وإعراض مذموم.

    أولًا: عاقبة المحمود في الدنيا:

    ١. الكفاية والطمأنينة.

    فقد أخبر الله تعالى أنه سبحانه وتعالى كفى رسوله شر المستهزئين وكيدهم. قال الله تعالى: ( ﭤﭥ ) [الحجر:٩٤-٩٥].

    ٢. الأمن والحفظ والنصرة.

    قال الله تعالى: ( ﭔﭕ ﭜﭝ ﭣﭤ ﭩﭪ ) [المائدة:٤٢].

    فقوله تعالى: ( ) أي: إن اخترت عن الحكم بينهم، فلا سبيل لهم عليك؛ لأن الله حافظك وناصرك عليهم88.

    ٣. الفلاح.

    فقد أخبر الله تعالى بأن من صفات المؤمنين المفلحين هو عن اللغو.

    قال الله تعالى: ( ﭚﭛ ) [المؤمنون:١-٣].

    ثانيًا: عاقبة المذموم في الدنيا:

    ١. سبب لنزول العذاب في الدنيا، ورفع العافية، وإبدال النعم نقمًا.

    كما أخبر الله تعالى عن قوم سبأ وما هم فيه من نعيم الدنيا، ثم تحولت العافية عنهم، وأبدل حالهم من النعمة إلى النقمة بسبب إعراضهم ( ) [سبأ:١٦].

    ٢. وقوع الطمس على القلب.

    فيطمس الله على قلوب المعرضين، فلا تعي الذكر، ولا تبصر الحق، ولا يسير أصحابها فيما ينفعهم، بل يرتكسون في الكفر، ويرتمسون في النفاق والاستكبار، ويجادلون بالباطل.

    وفي هذا يقول الله تعالى: ( ﮕﮖ ﮠﮡ ) [الكهف:٥٧].

    ٣. الصرف عن الحق إلى الباطل، وعن الهدى إلى الضلال.

    المعرضون لا يستطيعون اتباع الحق؛ من الخذلان الذي حاق بهم؛ عقوبة لهم على إعراضهم ( ﭧ ﭨ ) [فصلت:٤-٥].

    ٤. العيش في ضيق وضنك.

    ومن العذاب العاجل ما يجدونه في صدورهم من ضيق بالشريعة وأحكامها، ومن ضنك يجعل عيشهم مرًا ولو كانوا في الظاهر منعمين ( ﯿ) [طه:١٢٤].

    قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: «رأيت سبب الهموم والغموم عن الله عز وجل، والإقبال على الدنيا»89.

    وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: «ومن أعظم أسباب ضيق الصدر عن الله تعالى، وتعلق القلب بغيره، والغفلة عن ذكره، ومحبة سواه؛ فإن من أحب شيئًا غير الله عذب به، وسجن قلبه في محبة ذلك الغير، فما في الأرض أشقى منه، ولا أكسف بالًا، ولا أنكد عيشًا، ولا أتعب قلبًا»90.

    ثانيًا: عاقبة أهل المذموم في الآخرة:

    ١. حمل الأوزار يوم القيامة:

    وأما عذاب الآخرة لأهل عن الله تعالى وعن شريعته فشديد أليم.

    قال الله تعالى في الكتاب العزيز: ( ﭪﭫ ) [طه:٩٩-١٠١].

    ٢. الوعيد لهم من الله بالانتقام.

    قال الله تعالى: ( ﭣﭤ ) [السجدة:٢٢].

    وانتقامه سبحانه منهم يكون في الدنيا بما يصيبهم في أنفسهم وأهلهم وأموالهم، ويكون في الآخرة بالعذاب الشديد ( ) [فصلت:١٦].

    ٣. يحشرون عميًا يوم القيامة.

    قال الله تعالى: ( ﯿ) [طه:١٢٤].

    فإنه لما أعرض عن الذكر الذي بعث الله به رسوله وعميت عنه بصيرته، أعمى الله به بصره يوم القيامة، وتركه في العذاب، كما ترك الذكر في الدنيا، فجازاه على عمى بصيرته عمى بصره في الآخرة، وعلى تركه ذكره، تركه في العذاب.

    وقال تعالى: ( ﭕﭖ ﭞﭟ ) [الإسراء:٩٧].

    موضوعات ذات صلة:

    الاستكبار، الطاعة، النفاق


1 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٤/٢٦٩.

2 انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني ص ٥٥٩، المصباح المنير، الفيومي ٢/٤٠٢.

3 انظر: تهذيب اللغة، الأزهري ٥/ ٩٦، مشارق الأنوار، القاضي عياض ٢/٧٤، الفائق في غريب الحديث، الزمخشري ٢/٢٣١، شمس العلوم، نشوان الحميري ٧/٤٤٩٧، لسان العرب، ابن منظور ٢/٥٠١، تاج العروس، الزبيدي ٦/٥١٥.

4 انظر: العين، الفراهيدي ١/٢٧٢، المنجد في اللغة، كراع النمل ١/١٢٩، جمهرة اللغة، ابن دريد ٢/٧٤٨.

5 انظر: تفسير القرآن، السمعاني ٣/٢٣٥.

6 انظر: الكليات، الكفوي ص ١٨.

7 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٤/١٧٤.

8 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، ص ٤٩٩-٥٠٣.

9 انظر: لسان العرب، ابن منظور ٩/١٨٩، المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية ١/٥١٣.

10 انظر: الكليات، الكفوي ص ١٨.

11 انظر: لسان العرب، ابن منظور ١٥/٤٠٥.

12 انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني ص ٨٨٧.

13 انظر: التوقيف، المناوي ص ٢١٦.

14 انظر: نضرة النعيم ٩/٤٣٠٨.

15 انظر: الكليات، الكفوي ص ٢٨.

16 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٢/١٧، وممن اختار هذا القول أبو حفص عمر بن عادل الحنبلي في تفسير اللباب ٢/٢٤٤، والآلوسي في روح المعاني ١/٣١٠، والشوكاني في فتح القدير ١/١٢٧.

17 انظر: الكليات، الكفوي ص ١٨.

18 لسان العرب، ابن منظور ٣/ ٢٤٥.

19 انظر: التوقيف، المناوي ص ٢١٦.

20 انظر: الكليات، الكفوي ص ٢٨.

21 انظر: جامع البيان، الطبري ١٥/ ٤٠٧، معالم التنزيل، البغوي ٤/١٩٠، مفاتيح الغيب، الرازي ١٨/ ٣٧٧، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٩/٧٢.

22 انظر: روح المعاني، الألوسي ٦/٢٩٩-٣٠٠، التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٢/١٢٣.

23 انظر: جامع البيان، الطبري ١٦/ ٦٠، معالم التنزيل، البغوي ٤/٢٣٥، إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٤/٢٧٠.

24 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ١٩/ ١٦٥، فتح القدير، الشوكاني ٣/١٧٣.

25 انظر: جامع البيان، ١٢/ ٣٢.

26 انظر: نظم الدرر، البقاعي ٧/٢٢٥، التحرير والتنوير، ابن عاشور ٧/٤٢٥.

27 انظر: اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ١٨/١٩١، روح المعاني، الألوسي ١٤/٦٠.

28 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٧/٣٤٤، اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٩/٤٣٢.

29 انظر: مدارك التنزيل، النسفي ٣/٥٠٥، إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٨/٢٦٧، التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٨/ ٣٥٣، تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٨٧٢.

30 انظر: أحكام القرآن،إلكيا الهراسي٢/ ٢٥٦.

31 انظر: أضواء البيان، الشنقيطي ٣/ ٨٦.

32 انظر: جامع البيان، الطبري ١٩/٩-١٠، معالم التنزيل، البغوي ٥/٤٠٩.

33 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٦٢٠.

34 انظر: المنار، محمد رشيد رضا ١١/٤.

35 انظر: الوسيط، الزحيلي ١/٩٠٥.

36 انظر: المحرر الوجيز، ابن عطية ٢/١٩٤.

وانظر: البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي ٤/٢٦٤، التحرير والتنوير، ابن عاشور ٦/٣٠٣.

37 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٢٣٢.

38 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٦/١٨٤-١٨٧، فتح القدير، الشوكاني ٢/٤٩، التحرير والتنوير، ابن عاشور ٦/٢٠٣-٢٠٦.

39 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٦/٢٠٣-٢٠٦.

40 انظر: جامع البيان، الطبري ٨/ ٥١٥.

41 انظر: أحكام القرآن ١/ ٢١.

42 انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب ٢/ ٧٢٠.

43 انظر: جامع البيان، الطبري ١٤/٤٢٥، إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٢/٢٠٧.

44 انظر: البحر المديد، ابن عجيبة ١/ ٥٣٤، إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٢/٢٠٧.

45 انظر: فتح القدير، الشوكاني ٢/ ٤٥٠.

46 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٩/ ٢٢٩.

47 أخرجه البخاري في صحيحه، رقم ٤٦٤٢.

48 أخرجه البخاري في صحيحه، رقم ٤٦٤٤.

49 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٣١٣.

50 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٩/ ٢٢٩.

51 انظر: جامع البيان، الطبري ١٩/ ٥٩٨.

52 انظر: المصدر السابق ١٩/ ٥٩٧.

53 انظر: قواعد الترجيح عند المفسرين، حسين الحربي ٢/ ٥٤٥.

54 انظر: المحرر الوجيز، ابن عطية الأندلسي ٤/ ٢٩٢، التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٠/١٤٤.

55 انظر: روح المعاني، الألوسي ٩/٢٠٨.

56 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع، باب بيع العبد الزاني، رقم ٢١٥٢، ومسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنا، رقم ٤٥٤٢.

57 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٢/٢٣٥.

58 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٥/٨٦.

59 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٢٢/٩٧، أضواء البيان، الشنقيطي ٤/٩٥.

60 انظر: أضواء البيان، الشنقيطي ٤/٩٥.

61 انظر: معالم التنزيل، البغوي ٥/٣٠٠، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١١/٢٥٨، محاسن التأويل، القاسمي ٧/١٥٣.

62 جامع البيان، ٢٣/٦٦٤.

63 انظر: إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٥/٢٣٠.

64 انظر: فتح القدير، الشوكاني ٤/ ٥٠٨.

65 جامع البيان ١٦/ ٢٨٥.

66 انظر: المصدر السابق ١٨/ ٤٣٦.

67 انظر: جامع البيان، الطبري ١١/ ٢٦٢.

68 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٧/ ٤٧٢.

69 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الصحابة، باب انشقاق القمر، رقم ٣٨٦٨.

70 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صفة القيامة، باب انشقاق القمر، رقم ٢٨٠٢.

71 انظر: فتح القدير، الشوكاني ٥/ ١٤٥.

72 انظر: فتح البيان، القنوجي ١١/ ٣٠١.

73 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٣/ ٣١.

74 انظر: أضواء البيان، الشنقيطي ٣/ ١٧١.

75 انظر: فتح القدير، الشوكاني ٣/ ٢٨٩.

76 انظر: المصدر السابق ٤/٣٦٧.

77 انظر: محاسن التأويل، القاسمي ٨/ ١٣٩.

78 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٥/١١٣.

79 انظر: محاسن التأويل، القاسمي ٦/٤٩٩.

80 انظر: فتح البيان، القنوجي ٧/ ٤٤٦.

81 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٦/٧٤.

82 انظر: اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ١٤/٤٢٧.

83 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المظالم، باب إذا حلله من ظلمه فلا رجوع فيه، رقم ٢٤٥٠، ومسلم في صحيحه، كتاب التفسير، رقم ٣٠٢١.

84 انظر: المحرر الوجيز، ابن عطية ٢/١١٩.

85 انظر: إعراب القرآن، أبو جعفر النحاس١/٢٤١.

86 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العلم، باب من قعد حيث ينتهي به المجلس، ١/٣٦، رقم ٦٦، ومسلم في صحيحه، كتاب السلام، باب من أتى مجلسًا فوجد فرجة فجلس فيها وإلا وراءهم، ٤/١٧١٣، رقم ٢١٧٦.

87 انظر: إكمال المعلم بفوائد مسلم، القاضى عياض ٧/٦٧.

88 انظر: فتح القدير، الشوكاني ٢/٤٩.

89 انظر: صيد الخاطر ص ٣٤١.

90 انظر: زاد المعاد ٢/٢٥.