عناصر الموضوع
الاستهزاء
أولًا: المعنى اللغوي:
أصل مادة ( هزء) تدل على السخرية، يقال: هزأ واستهزأ: إذا سخر، واستهزأ بالقانون: خرقه ولم ينفذه، وهو بمعنى: السخرية، والاستخفاف، ويأتي بمعنى: التهكم1.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
لا يختلف كثيرًا المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغوي، فالاستهزاء يقتضي تصغير من قصد به، وتحقيره2.
ويكون بالقول أو بالفعل، بالعبارة أو الإشارة، بالخطابة أو بالكتابة، بالتصريح أو بالتلميح، بالتحقيق أو بالتلفيق، وقد يطابق الحال فيمن استهزئ به وقد يخالف.
وعرفه ابن جرير الطبري بأنه: «إظهار المستهزئ للمستهزأ به من القول والفعل ما يرضيه ظاهرًا، وهو بذلك من قيله وفعله به مورثه مساءة باطنًا»3.
وبإمعان النظر يظهر أن هذا التعريف غير دقيق، ذلك أن الاستهزاء قد وقع من الكفار في العهد المكي، وهو عهد الاستضعاف، ويؤكد ذلك مجيئه في السور المكية، ولم يكن من الكفار إظهار ما يرضى به النبي صلى الله عليه وسلم بل كانوا يظهرون له العداوة والسخرية والطعن فيه، ويسعون في إحراجه كثيرًا، وكون هذا فيهم يرد هذا التعريف، وقد ذكره الطبري في سورة البقرة عند الحديث عن المنافقين، لكنه حين وقف مع استهزاء الكافرين ذكر أنه كان منهم السخرية والإيذاء للنبي صلى الله عليه وسلم4.
والمختار في تعريف الاستهزاء هو: صدور ما يدعو لانتقاص شأن المقصود به من المستهزئ، بوجود المقتضي أو بعدمه، بغرض التحقير له، أو التنفير عنه، أو كليهما.
الاستهزاء في الاستعمال القرآني
وردت مادة (هزء) في القرآن الكريم (٣٤)5.
والصيغ التي وردت هي:
الصيغة |
عدد المرات |
المثال |
الفعل الماضي |
٣ |
(ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [الأنعام:١٠] |
الفعل المضارع |
١٧ |
(ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) [البقرة:١٥] |
فعل الأمر |
١ |
(ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [التوبة:٦٤] |
المصدر |
٥١ |
(ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ) [الكهف:١٠٦] |
اسم الفاعل |
٢ |
(ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [الحجر:٩٥] |
وجاء الاستهزاء في الاستعمال القرآني بمعناه اللغوي الذي يحمل معنى السخرية6.
الازدراء:
الازدراء لغة:
الاستخفاف، والاستهانة، والاحتقار7.
الازدراء اصطلاحًا:
قلة قدر المقصود به في نظر المزدري.
الصلة بين الاستهزاء والازدراء:
الازدراء يعدى بدون حرف، ويقع من الأعلى على الأدنى؛ لعدم بلوغه المكانة المقنعة للمزدري،، بينما الاستهزاء يعدى بالباء، ويكون من المماثل أو من الأدنى إلى الأعلى.
السخرية:
السخرية لغة:
«السين والخاء والراء أصل مطرد مستقيم يدل على احتقار واستذلال»8.
السخرية اصطلاحًا:
الاستهانة والتحقير والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه. وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول، وقد يكون بالإشارة والإيماء9.
الصلة بين الاستهزاء والسخرية:
السخرية تكون بعد صدور فعل من المقصود بها، بينما الاستهزاء قد يكون دون صدور ما يقتضيه من المراد به10.
التهكم:
التهكم لغة:
هو اقتحام المرء ما لا يعنيه، والتعرض للغير بالشر11.
التهكم اصطلاحًا:
هو ازدراء الغير بسبب في المزدري كالغيظ ونحوه.
الصلة بين التهكم والاستهزاء:
أن المقتضي للتهكم بغض المتهكم به من غير وجود سبب، أما الاستهزاء فإنه يحتمل وجود السبب، فالتهكم يكون من المتعالي وبدون أن يكون في المتهكم به ما يدعو للتهكم، وإنما فعله من قبيل الاستعلاء.
الهمز:
الهمز لغة:
هو الضغط والعصر، والتعييب والطعن والغمز في غياب المهموز، وكأن الذي يهمز الناس يضغط الحروف ويعصرها12.
الهمز اصطلاحًا:
عيب الناس والطعن فيهم حال غيبتهم.
الصلة بين الاستهزاء والهمز:
الاستهزاء يكون في الحضور والغيبة على حد سواء، بينما الهمز يكون في الغيبة غالبًا.
اللهمز:
اللمز لغة:
العيب في حضرة المقصود به لا في غيبته، بكلام ظاهر أو خفي، وأصله الإشارة بالعين ونحوها13.
اللمز اصطلاحًا:
العيب بشيء فيه تهمة14.
الصلة بين الاستهزاء واللمز:
أن الغرض من الاستهزاء التحقير، بينما الغرض من اللمز التشكيك والاتهام.
المزاح:
المزاح لغة:
المداعبة بكلام لا يقتضي التحقير15.
المزاح اصطلاحًا:
الكلام غير الجاد على سبيل الدعابة16.
الصلة بين الاستهزاء والمزاح:
الاستهزاء يكون بغرض التحقير، بينما المزاح غرضه المداعبة17.
الاستهانة:
الاستهانة لغة:
الإذلال، والاستخفاف18.
الاستهانة اصطلاحًا:
التهوين والتقليل من شأن المقصود بها.
الصلة بين الاستهزاء والاستهانة:
أن المقصود بالاستهزاء قد يكون شأنه عاديًا، بينما المقصود بالاستهانة الذي يظهر من شأنه أكبر مما يراه المستهين.
الغمز:
الغمز لغة:
العيب والذكر بغير الجميل19.
الغمزاصطلاحًا:
الإشارة بالعين والحاجب استهزاءً وتنقصًا20.
الصلة بين الاستهزاء والغمز:
الاستهزاء أعم من الغمز، فالغمز صورة من صور الاستهزاء حيث إنه يكون بالعين والحاجب فقط.
سنتعرض لقضية نسبة الاستهزاء لله عز وجل من خلال النقاط الآتية:
أولًا: إثبات صفات الله مع تنزيهه عن مشابهة المخلوقين:
عقيدة أهل الإسلام أهل السنة والجماعة هي أن الله سبحانه وتعالى هو العليم بذاته، والذي لا نعلم شيئًا عن ذاته أو أسمائه وصفاته وأفعاله، إلا ما أوحى به لرسله، وقد قال جل جلاله -مخبرًا عن الملائكة الذين كلمهم وكلموه-: (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ) [البقرة: ٣٢].
وذلك حين عرض عليهم أشياء رأوها بأعينهم، لكنه لم يعلمهم ما هذه الأشياء وما أسماؤها؟ وعلمها آدم فأمره ربه أن يخبرهم بأسمائها21، وكان هذا في أمر مشاهد، فكيف الحال مع ما غاب عنا وعنهم؟! لا يمكن لمخلوق أن يكون عنده أثارة من علم إلا أن يأذن الله بها، لذلك كان الأمر في عقيدتنا أن نؤمن بالله سبحانه وتعالى وما جاء عن الله على مراد الله، كما قال: الشافعي رحمه الله : «آمنت بالله وبما جاء عن الله، على مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله»22، فيكون إيماننا بما أخبرنا الله جل جلاله من أسمائه وصفاته إيمانًا بالغيب، الذي لا طاقة لنا بإدراك كيفيته، مع التسليم بأن المعاني التي أرادها الله منها حقيقتها، ولا يستقيم أن نصرف هذه المعاني عن ظاهرها، لا تكييفًا ولا تشبيهًا ولا تأويلًا ولا تعطيلًا ولا تمثيلًا، وقد كان الأصل الذي قرره القرآن في غير آية يبين لنا أن الله سبحانه وتعالى لا مثيل ولا شبيه له حصنًا لأفهامنا من الزيغ والانحراف، يقول الله سبحانه: (ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [الشورى: ١١]23.
وقال: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [الإخلاص:٤].
وقال أيضًا: (ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) [النحل: ٦٠].
وغيرها من الآيات التي يتحقق لنا العلم منها أن الله لا يمكن أن يتصف بما اتصف به خلقه، وإن تشابهت الكلمات والمعاني إلا أن الحقائق بخلاف ذلك.
في ضوء ذلك يمكننا البحث عما أراده الله من قوله: (ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ) [البقرة: ١٥].
محتاطين لأنفسنا مما وقع في بعض كتب التفسير التي سار المفسرون فيها على المنهج العقلي، ومنهج علم الكلام والجدل الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، في البحث في أسماء الله وصفاته، بل هو كماء البحر الذي إذا شرب منه العطشان ازداد عطشه، وتمزقت جدران حلقه، وهذا ما جناه من ذهب يبحث في أسماء الله وصفاته على تلك الطريقة المنحرفة، قد أدى إلى تحير كثير ممن خاضوا فيه، وقد صرحوا بذلك، وليس هذا مقام بيان ذلك، لكن جئنا به على سبيل التنبيه، وليكون مدخلًا للخوض في نسبة الاستهزاء إلى الله سبحانه وتعالى، على طريقة أهل الجدل والسفسطة، فتنزه وتقدس ربنا عن صفات النقص، وعز بصفات العز والكمال، وجل بنعوت الكبرياء والجلال، ونحن بذلك مؤمنون وله مثبتون.
ثانيًا: الاستهزاء ونسبته إلى الله:
يبين الله عز وجل كاشفًا وفاضحًا لحال المنافقين ومقالهم، حين يعتذرون لرؤوسهم ورؤسائهم، وأئمتهم وشياطينهم، بالأمر الذي حاق بهم، وأغراهم وغرهم بسوء فعلهم، يقول سبحانه: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ) [البقرة: ١٤- ١٥].
وقد وقف أهل العلم مع هذه الآية ونظيراتها في كتاب الله عز وجل وذلك أن إثبات صفة كالاستهزاء والخداع والمكر والسخرية لله سبحانه وتعالى، أمر يقتضي رفع الاشتباه الذي قد يترتب عليه الظن والاعتقاد بأن الله متصف بصفات لو كانت في حق البشر لكانت صفات نقص، فكيف يتصف الله بها؟! وقد قاموا بفضل الله جل جلاله بدفع الاشتباه، ورد الشبه التي أوردها أهل الانحراف والعقائد الضالة بأوضح العبارات24، وهذا ما يرجحه الإمام الطبري في قوله: (ﯬ ﯭ ﯮ) [البقرة: ١٥].
وهو أن استهزاء الله بالمنافقين هو من جنس فعلهم، وقد سبق أن ذكرنا تعريفه للاستهزاء في هذا المقام وهو: «إظهار المستهزئ للمستهزأ به من القول والفعل ما يرضيه ظاهرًا، وهو بذلك من قيله وفعله به مورثه مساءة باطنًا»25، فقابلهم الله جل جلاله على ما أظهروه من الإيمان والولاء للمؤمنين بألسنتهم، وإبطان نقيضه من التكذيب والعداء في قلوبهم، أن أظهر لهم في الدنيا أن لهم أحكام أهل الإيمان المصدقين ظاهرًا وباطنًا والذين يوالون الله ورسوله في الدنيا، مع علمه بكذبهم وخبث اعتقادهم، حتى ظنوا أنهم يوم القيامة سيحشرون في عداد المؤمنين، الذين كانوا في عدادهم في الدنيا، وقد أنزل الله في كتابه ذكرهم وذكر أحوالهم وسرائرهم الخبيثة، وما أعد لهم يوم القيامة من الخزي والمفاجآت والمواقف الفاضحة والعذاب الأليم على خلاف توقعاتهم، وذلك في مواقف نذكر منها ما يأتي:
ما جاء في قول الله سبحانه وتعالى (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ) [الحديد: ١٣ - ١٤].
يقول ابن عباس: «بينما الناس في ظلمة، إذ بعث الله نورًا، فلما رأى المؤمنون النور توجهوا نحوه، وكان النور دليلًا من الله إلى الجنة؛ فلما رأى المنافقون المؤمنين قد انطلقوا تبعوهم، فأظلم الله على المنافقين، فقالوا حينئذ: انظرونا نقتبس من نوركم، فإنا كنا معكم في الدنيا؛ قال المؤمنون: ارجعوا من حيث جئتم من الظلمة، فالتمسوا هنالك النور»26.
وموقف ثانٍ في قوله: (ﰝ ﰞ ﰟ ﰠ ﰡ ﰢ ﰣ ﰤ ﰥ) [القلم: ٤٢].
عن أبي سعيدٍ رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمنٍ ومؤمنةٍ، فيبقى كل من كان يسجد في الدنيا رياءً وسمعةً، فيذهب ليسجد، فيعود ظهره طبقًا واحدًا)27.
وهؤلاء هم المنافقون؛ ذلك أن الناس يوم القيامة يذهب كل قوم مع إلههم الذي عبدوه في الدنيا «ويبقى المؤمنون والمنافقون، فيقال لهم: ألا تذهبون فقد ذهب الناس؟ فيقولون: حتى يأتينا ربنا، فيقال لهم: أو تعرفونه؟ فيقولون: إن اعترف لنا عرفناه.
قال: فعند ذلك يكشف عن ساق ويتجلى لهم؛ فيخر من كان يعبده مخلصًا ساجدًا، ويبقى المنافقون لا يستطيعون كأن في ظهورهم السفافيد، فيذهب بهم إلى النار»28.
وموقف ثالث جاء ذكره في قول الله: (ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ ﰟ ﰠ ﰡ ﰢ ﰣ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ) [الجاثية: ٣٢ - ٣٧].
يبين الله جل جلاله في هذه الآيات استهزاء الكفار باليوم الآخر، والصورة التي كانوا يستهزئون بها، وموقفهم يوم القيامة حين يطبق عليهم سوء فعلهم، فيطوقهم ويحيط بهم، ويقال لهم استهزاءً: اليوم نترككم كما تركتم العمل بما جاءكم به النبي صلى الله عليه وسلم، وتركتم التفكر فيه؛ ليصبح يقينًا كما ترونه اليوم، وقنعتم بعملكم المنكر واستهزائكم بخبر هذا اليوم الذي أنتم فيه الآن.
فكان جزاؤهم من جنس عملهم؛ تركوا الإيمان والاستعداد ليوم الحساب، فحاق بهم ما استهزءوا به وتركوا في العذاب، وكان خطاب الله لهم بيانًا لعاقبة فعلهم، حيث أظهروا شيئًا من الاهتمام بالتساؤل حول خبر ما جاءهم به النبي صلى الله عليه وسلم ، وهم يقصدون بذلك تقرير بطلانه لعدم قوة الحجة التي جاءهم بها النبي صلى الله عليه وسلم، فيأتيهم الخطاب وهم ليسوا أهلًا لخطاب الله، لكنه خطاب تقنيط وتبكيت، كما كان خطابهم للنبي صلى الله عليه وسلم خطاب تقنيط وتكذيب، استهزاءٌ باستهزاء، والجزاء من جنس العمل.
وعليه فإن إثبات صفة الاستهزاء لله جل جلاله على ما أثبته له أهل السنة والجماعة، لا يورد أدنى اشتباه يكون مؤداه الاعتقاد بأن الله سبحانه وتعالى قد اتصف بصفات النقص، ولا يرد عليه أدنى إشكال بأن الله جل جلاله يشبه مخلوقاته في صفاتهم أو أفعالهم.
ثالثًا: الاستهزاء صفة من صفات الله:
بالتزام الأصل الذي تطرقنا له سابقًا، وبعد استعراض ما جاء في كلام العلماء فيما تلاه نخلص إلى ما يلي:
أن صفة الاستهزاء هي صفة لله على وجه الكمال لا على وجه النقص كما هي في حق الآدمي، وذلك أنه ليس كل صفة نقص في حق المخلوق إذا ما اتصف بها الخالق تكون صفة نقص فيه، فإنه (ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [الشورى: ١١].
فعدم النوم عند الإنسان يدل على مرض واعتلال، وهو بهذا الاعتبار يكون موصوفًا بعلة، وهي صفة نقص فيه، لكن الله عز وجل لا ينام؛ وهذا من كمال حياته وقيوميته، الإنسان الذي لا يولد له؛ يكون عقيمًا، وهي له صفة نقص، وكذا إن لم يكن له أهل يعرف أن أصله منهم، بينما الله سبحانه وتعالى (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) [الإخلاص: ٣].
الإنسان الذي لا يصلح له الزواج، كان هذا لنقص فيه، والله جل جلاله غني عن ذلك، وهذه والتي قبلها لكمال غناه سبحانه وتعالى وأحديته وصمديته، وعليه فالله عز وجل لا يجوز أن تضرب له الأمثال بمخلوقاته، وهناك صفات كمال لله عز وجل جعل الله سبحانه وتعالى منها صفات كمال للإنسان، وهي كثيرة: كالسمع والبصر، والكلام والرحمة، والعفو والرضا والغضب، والحب والبغض والوجه وغيرها كثير.
إثبات الصفات لله عز وجل ليس كإثباتها لغيره من خلقه، فنحن نثبت له منها المعنى الظاهر، ونثبت الكيف الذي يليق به، ونكل علم الكيفية له عز وجل، كما فعل الإمام مالك -رحمه الله تعالى-، حين جاء ذاك المبتدع وسأله قائلًا: «يا أبا عبد الله (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ) [طه: ٥].
كيف استوى؟ قال: فما رأينا مالكًا وجد من شيءٍ كوجده من مقالته، وعلاه الرحضاء29، وأطرق، وجعلنا ننتظر ما يأمر به فيه. قال: ثم سري عن مالكٍ، فقال: الكيف غير معقولٍ، والاستواء منه غير مجهولٍ، والإيمان به واجبٌ، والسؤال عنه بدعةٌ، وإني لأخاف أن تكون ضالًا، ثم أمر به فأخرج»30.
الكمال الذي للخالق سبحانه وتعالى ليس كالكمال الذي يكون للمخلوق، ولكي يقرب الأمر في أذهاننا نقول: إنه ليس كل كمال في مخلوق يصلح أن يكون كمالًا لمخلوق آخر؛ وإن كان مثله في الأصل والهيئة، فالكمال بالنسبة للمرأة ليس كالكمال بالنسبة للرجل، وإذا كان هذا التباين والاختلاف موجودًا بين مخلوقين خلقا من مادة واحدة، وعلى هيئة واحدة، فهو بالنسبة لله أعظم.
وهناك أمر آخر نبه له أهل العلم لابد من ذكره في هذا المقام؛ ألا وهو أن الله سبحانه وتعالى لا يشتق له من صفاته أسماء، فإن قلنا: إن الله جل جلاله له صفة الغضب، فلا يجوز لنا أن نقول: إن من أسماء الله سبحانه وتعالى الغضوب، أو إن له صفة البغض أن نقول: إن من أسماء الله عز وجل المبغض، وإن له صفة الرضا فيكون من أسمائه الراضي، فلا يجوز أن نسمي الله باسم لم يسم نفسه به، فأسماؤه توقيفية، وإثباتها لا يكون إلا بدليل من الكتاب أو السنة، ولا تكون اجتهادية بالمطلق.
بين القرآن الكريم الاستهزاء بالأنبياء وأتباعهم وأسبابه وهذا ما سنتناوله بالإيضاح فيما يأتي:
أولًا: الاستهزاء بالأنبياء والمرسلين:
لم يكن كتاب الله سبحانه وتعالى كتابًا غرضه التفكه والمسامرة، بل كان له غرض سامٍ، فهو كتاب هداية للعالمين يخاطب الله سبحانه وتعالى به أصحاب العقول، وقد أورد الله جل جلاله فيه أحسن القصص لهذا الغرض، ففيها من بيان ما لاقاه أهل الحق، وبيان أساليبهم ووسائلهم في مواجهة ما يعترضهم؛ ليكون المخاطبون به على بينة من أمرهم، فهم على نفس الطريق سائرون، ولنفس السبيل ناهجون، ومن جملة القصص التي أنزلها الله ما كان فيها ذكر استهزاء الأمم السابقة بأنبيائهم ورسلهم، وهذا ما سنعرض له في النقاط الآتية:
١. الغرض من ذكر الاستهزاء بالأنبياء والمرسلين.
يقول الله جل جلاله: (ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ) [هود: ١٢٠].
وهذا أمر علم الله سبحانه وتعالى أن له الأثر البالغ في تقوية عزم النبي صلى الله عليه وسلم على طريق دعوته، فهو طريق حافل بالابتلاءات، مكلل بكل ما من شأنه أن يثنيه عن دعوته، فيذكر الله جل جلاله لنبيه صلى الله عليه وسلم أخبار من كان قبله من الأنبياء، وأنهم لاقوا مثل الذي يلاقيه، ومن جملة ما لاقوه -بل هو أكثر ما استعمل معهم لصدهم عن رسالتهم- الاستهزاء31، وقد ذكر الله أن الأنبياء والرسل عامتهم لم يسلموا منه، وذلك في سبعة مواضع، وفي سبع سور من القرآن الكريم، وذلك أن الله سبحانه وتعالى نزل القرآن على نبيه صلى الله عليه وسلم منجمًا لذات الحكمة التي قص لأجلها عليه قصص الأنبياء والرسل، وهي تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليجتمع بذلك تكرار القصص مع تعاهد المولى جل جلاله لنبيه بالتثبيت على فترات متباعدة.
يقول الله سبحانه وتعالى: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ) [الفرقان: ٣٢].
وكان هذا أيضًا من جملة ما لم يسلم من اعتراضهم واتخاذه مطعنًا على النبي صلى الله عليه وسلم، أنه لم ينزل عليه القرآن كما نزلت الكتب على الأنبياء السابقين، فجاء الجواب في هذه الآية مبينًا حكمةً من الحكم التي نزل القرآن من أجلها منجمًا، وليس هذا محل عد هذه الحكم، لكن الذي هو محل بحثنا نزول القرآن بذكر استهزاء الأمم برسلها وأنبيائها والحكمة منه، وعلى نفس الطريقة جاء ذكر الاستهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم ففيه تذكير للنبي صلى الله عليه وسلم أن الله مطلع عليهم، وفيه بيان لأتباع النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ليطلعوا على ما مر به صلى الله عليه وسلم ليكون لهم أسوة، وفيه تسلية حتى لا يوقع الشيطان في قلوبهم أن الله عز وجل قد تخلى عنهم.
٢. ذكر استهزاء الأمم السابقة بالرسل والأنبياء.
الإنسان موصوف بالجهل والظلم، ومن كمال رحمة الله جل جلاله وعدله أنه لم يتركه فريسة لظلمه وجهله، فتفضل عليه بإرسال الرسل والأنبياء؛ ليخرجوه من ظلمات الجهل إلى نور الهدى، ومن خلف قضبان الظلم إلى سعة الرحمة والعدل، لكن من غلب عليه وصفه الأصلي بسبب ما استمرأه من المعيشة في الظلام، واستعذبه من حياة الأسر في قبضة عدوه، لما جاءه من يناديه؛ ليتحرر من أسر العدو، ويفتح عينيه ليبصر نور الحق، ظن أن ما يدعوه إليه هو الأسر، وهو ما سيصيبه بالعمى، فإن قال له: هلم إلى النور. سخر! وقال: وهل هناك من نور؟! وإن دعاه إلى دار السعة والنعيم، استهزأ وقال: وهل غير هذه الدار دار؟! فهو من جنس من عطلوا حواسهم؛ فهم عمي لا يبصرون، وصم لا يسمعون، وجهلة لا يهتدون، وأعملوا شهواتهم، واتبعوا أهواءهم، وفيهم يقول الله سبحانه وتعالى: (ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ) [يس: ٣٠].
وذلك أن غلبة الهوى على الحكمة، وغلبة الشهوة على العقل عندهم جعلتهم يقتنعون بصحة منهجهم، فدعاهم ذلك لأن يستهزئوا بمخالفيهم إلى غيره، ومن يدعوهم إلى ما فيه خيرهم، وأي حسرة هي أعظم من هذه الحسرة على من هذه حالهم، فوصف حالهم مع الحق جاء في قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [الأعراف: ١٧٩].
وقد جاءت على هذه الحال كل الأمم مع أنبيائها ورسلها، فلم يسلم نبي ولا رسول من مستهزئ32.
٣. نماذج من استهزاء الأمم السابقة بالأنبياء والمرسلين.
الرسول الأول الذي أرسله الله سبحانه وتعالى، والذي لم يسبق بمن سار على طريقه، ولم يأت بعده من مكث في قومه مثله، وبعد طول لبث، ومحاولة كل الطرق، وتجريب كل الوسائل، جاءه بعذابهم الخبر، وبصناعة السفينة قد أمر، فكانوا إذا مروا به استهزأوا ويقولون له: أصرت نجارًا بعد النبوة يا نوح، وتصنع السفينة في الصحراء وهي لا تجري إلا في البحر! فكان يجيبهم: إن تهزأوا منا اليوم فإنا سنهزأ بكم يوم القيامة، وقد أخبرنا بذلك كتاب الله عز وجل حيث يقول: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ) [هود: ٣٨].
وذاقوا وبال أمرهم، وسوء عاقبتهم في الدنيا، وما ينتظرهم يوم القيامة من الخزي أشد وأنكى33.
وقد جاء التعبير عن فعلهم في النص القرآني بلفظ السخرية؛ لأن نوح يفعل أمرًا يقتضيها، وذلك من وجهة نظرهم، والحقيقة أن ما قام به نبي الله نوح عليه السلام كان بوحي من الله، وعليه فإن حقيقة فعلهم استهزاء وليس سخرية؛ لعلمهم أن نوحًا ليس من العابثين.
وذلك حينما ذهب إبراهيم عليه السلام كسائر الناس ليأخذ الميرة من عند الملك، وكان العام وقتها عام جدب وقحط، يقول الله جل جلاله ذاكرًا الموقف: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ) [البقرة: ٢٥٨].
فقد كان الملك لا يعطي أحدًا إلا سأله: من ربك؟ فيقول له: أنت، فيعطيه، فلما جاء إبراهيم عليه السلام قال له: من ربك؟ قال إبراهيم عليه السلام : ربي الذي يحيي ويميت، فأجابه سفاهةً واستخفافًا -كما فعل فرعون وقومه، إذ قال الله عز وجل فيهم: (ﮟ ﮠ ﮡ) [الزخرف: ٥٤]-: وأنا أحيي وأميت، وأحضر رجلين حكم عليهما بالقتل، فقتل أحدهما، وأطلق الآخر! وقال: هذا أمته وهذا أحييته!، فجاءه إبراهيم عليه السلام بالرد المفحم بأن ربه يأتي بالشمس من المشرق، وتحداه أن يأتي بها من المغرب؛ فبهت الذي كفر34.
ذلك الطاغية الآخر الذي زعم أنه الرب الأعلى، كأنه قد قام باستفتاء في قومه يعرض عليهم أمره وأمر موسى عليه السلام ، ذاكرًا ما فضل به على موسى عليه السلام ، يقول الله جل جلاله في شأنه: (ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) [الزخرف: ٥٠- ٥٤].
يقول: أنتم ترون فأنا أملك مصر وأنهارها، وموسى فقير ليس له شيء، وأنا صحيح المنطق، واضح البيان، وموسى لا يكاد يفهم كلامه لما في لسانه من لثغ، فإن كان صادقًا فلماذا لا ينزل له أسورة وحلي وزينة ومال من السماء؟ أو لماذا لا يظهر معه ملائكة يصدقونه ويؤيدونه فيما يدعي؟ وهذا استخفاف بقومه واستهزاء بموسى عليه السلام ، فكان الرد من الله عليه وقومه أن الحمق الذي عندهم، كان سببًا لطاعتهم إياه، وهم في جملتهم فاسقون خارجون عن طريق الاستقامة35.
٤. الاستهزاء بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم هو النموذج الحي وقت نزول القرآن، ولأن الاستهزاء كان به وبما أنزله الله سبحانه وتعالى عليه، ولأن الاستهزاء به غالبًا ما يأتي بأسلوب استفهاميٍ ساخر، أو خطاب تهكميٍ سافر، وكان شأنه صلى الله عليه وسلم عند ربه عظيمًا، لم يرض سبحانه وتعالى أن يمره دون ردٍ عليه، وفضح قائليه، فيأتيهم الجواب من عند الجبار جل جلاله، بما يسوؤهم ويخزيهم، ويرفع قدره، ويجعل قدمه فوق نواصيهم، وسنعرض لثلاثة مواقف جاء خبرها في القرآن من الاستهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم وكيف جاء الرد القرآني عليها، وذلك فيما يأتي:
يقول الله تبارك وتعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) [الأنبياء: ٣٦].
كان المشركين إذا رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، استهزءوا به وقالوا: أهذا المحتقر-بزعمهم- الذي يسب آلهتكم ويذمها، ويقع فيها، هذا استهزاؤهم واحتقارهم له، يقرنونه بما هو سبب كماله صلى الله عليه وسلم ، ألا وهو دعوته إلى توحيد الله جل جلاله، والكفر بكل معبود سواه، فالذي فعله التوحيد والدعوة إليه هو الأكمل والأفضل، والأبهى والأجمل، وذلك أنه أخلص العبادة لله سبحانه وتعالى، وذم كل ما يعبد من دونه وتنقصه، وذكر محله ومكانته، وعليه فالذي يستحق الازدراء والاستهزاء هؤلاء الكفار، الذين جمعوا كل خلق مذموم، ولو لم يكن منهم إلا كفرهم بالله وعدائهم لرسوله صلى الله عليه وسلم لكانوا بذلك من أخس الخلق وأرذلهم، وأبشعهم وأقبحهم36.
فانظر كيف رد الله عليهم قولهم واستهزاءهم، فقد بين أن ما عابوا به النبي صلى الله عليه وسلم من ذكره لآلهتهم بسوء هو مدح له، وما يكون من فعلهم مقابلًا لفعله بكفرهم بالله أمر يستحقون به أفظع الشتم، وأشنع الذم، وأقذع الكلم.
يخبر الله عن خبث اليهود في التعريض بالكلام، من ذكر اللفظ المحتمل لأكثر من معنى -وإن لم يكن من لغتهم-؛ ليظهر للمستمع أنهم يريدون الحسن والمرضي من القول، والحقيقة أنهم يريدون القبيح الشنيع منه.
يقول الله عز وجل: (ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ) [البقرة: ١٠٤].
ذكر الله استعمال اليهود للفظة (ﯘ) التي يبدو منها أن مرادهم سؤال النبي صلى الله عليه وسلم الاستماع إليهم، فجعل المسلمون يستعملون هذه الكلمة، كما كان يستعملها أهل المدينة في هذا المعنى؛ لأنهم ظنوا أن اليهود يستعملونها على نفس المراد، غير أن الله نهاهم عن ذلك؛ لأن قصد اليهود التعريض واللمز بالرعونة التي هي ضد المروءة37، ثم توعدهم بشدة العذاب على ذلك، وكشف صفة اليهود التي يحملونها للمسلمين ألا وهي حسدهم لهم وعدم حب الخير، وفيه من الذم ما فيه، وذلك أن من أقبح الصفات التي قد يتلبس بها الإنسان هي الحسد، وقد وقع بسببه ما وقع من لعن لإبليس بسبب كبره مع حسده لآدم، وقتل أحد ابني آدم لأخيه، فمن تحلى بها-وليس بمثلها يحلو-كان في رتبة أحدهما، والعياذ بالله.
المنافقون هم قوم ظهر لهم الحق وعرفوه، لكنهم كانوا أسرى الشهوات، وأذناب الهوى، يقودهم لغير هدى، ويوردهم طرق الردى، ومع ذلك يسعون في فتنة من اتبع الهدى، يقول المولى جل جلاله -محذرًا من كيدهم، ومنبهًا على زيغهم وميدهم38-: (ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ) [النساء: ٢٧].
فقادهم الشيطان وهو إمامهم، واستنفرهم لمعاداة الأنبياء والمرسلين، واستفزهم ليسعوا في فتنة الهداة المصلحين، فكانوا إذا استمعوا إلى الحق استجهلوه سخريةً واستهزاءً39، وأظهروا كأنهم ما سمعوه لا يستحق الاهتمام، ولا هو جدير بالاعتبار.
يقول الله سبحانه وتعالى واصفًا هذا الموقف: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ) [محمد: ١٦].
وما كان منهم هذا التساؤل إلا على سبيل الاستهزاء، فأرجع الله استهزاءهم وعدم اعتبارهم، وقلة اهتمامهم إلى سفه عقولهم، وعقم فهومهم، والطبع على قلوبهم، واتباع شهواتهم، والانقياد لأهوائهم، فصدق فيهم قول المتنبي 40:
ومن يك ذا فمٍ مرٍ مريضٍ
يجد مرًا به الماء الزلالا
فكيف سيتلذذ بطعم العسل، من كان أصل المرار في فمه؟! وكيف سيبتلع الطعام الشهي من انتفخ بالورم الخبيث حلقه؟!
وفي قول آخر له 41:
وكم من عائبٍ قولًا صحيحًا
وآفته من الفهم السقيم
فكيف سيسوغ لهؤلاء الذين مرضت قلوبهم وانتكست فطرهم أن يعقلوا أو يفهموا أو ينتفعوا بأحسن القول، الذي هو أصدق الحديث، وفصل الخطاب.
ثانيًا: الاستهزاء بالدعاة والمصلحين:
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا إنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظٍ وافرٍ)42.
وجريًا على القاعدة الفقهية إن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، وهي قاعدة شرعية إسلامية، غير أن لسان حال شريعة المنافقين-إن كان لهم شريعة- يقررها في معاداة الحق وأهله، فإن العداء الذي حملته قلوب أعداء الله لأنبيائه ما كانت إلا للعلم الذي جاءهم من عند الله، وقد ورث العلماء والدعاة والمصلحون هذا من أنبيائهم، فورثوا معه العداء من أعدائهم، ويذكر الله سبحانه وتعالى موقفًا من المواقف التي استهزأ فيها المنافقون من أولئك الورثة الكرام.
يقول عز وجل: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ) [التوبة: ٦٤ - ٦٨].
يصف الله سبحانه حال المنافقين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن وقع منهم الاستهزاء بعلماء الصحابة رضي الله عنهم، وما فيه من الترقب لنزول القرآن بخبرهم، وذلك حين قالوا: «ما لقرائنا هؤلاء أرغبنا بطونًا وأكذبنا ألسنةً، وأجبننا عند اللقاء»43.
فتفضح كفرهم الذي أضمروه، ولئن سئلوا عن القدح في حق النبي صلى الله عليه وسلم وحق أصحابه ليقولن: إنما كنا نتحدث على سبيل المزاح والمرح، فيأتي البيان في قول الله عز وجل أنهم كانوا يستهزئون بالله عز وجل وآياته ورسوله، ولا ينفعهم الاعتذار ولا يبرئهم، فقد وقع الكفر منهم بسبب هذه المقالة، وإن تفضل الله جل جلاله بالعفو عن بعضهم؛ لتوبتهم، فعاقبة الآخرين هي العذاب، ثم يأتيهم ما عجل لهم من هذه العقوبة، في بيان وصفهم الذي يكرهون، فيقول: المنافقون والمنافقات على شاكلة واحدة، وسنة فيهم متبعة في إعلانهم الإيمان واستبطانهم الكفر، فهم يأمرون بالكفر ويزينون المعصية، وينهون عن الإيمان والعمل الصالح، ولا ينفقون في سبيل الله، تركوا أمر الله، فتركهم من الهداية والرحمة، فلم يوفقهم إلى خير، والمنافقون هم الخارجون عن الإيمان بالله ورسوله.
ويذكر الله أن لهم وعيدًا عنده، وهو أن المنافقين والمنافقات والكفار متوعدون بأن يكون مصيرهم إلى نار جهنم خالدين فيها أبدًا، عقابًا على كفرهم بالله، وأن الله عز وجل طردهم من رحمته، ولهم عذاب دائم؛ لأن أفعالهم من الاستهزاء والكفر كأفعال الأمم السابقة التي كانت على جانب أشد منهم من القوة والمال والأولاد، ولكنهم اطمأنوا إلى الحياة الدنيا، واستهزأوا بأنبيائهم وصالحي أممهم، واستمتعوا بما أغراهم من المتاع الزائل، واستمتع المنافقون بنصيبهم من الشهوات الفانية كاستمتاع الذين من قبلهم بحظوظهم الفانية، أولئك الموصوفون بهذه الأخلاق هم الذين ذهبت حسناتهم في الدنيا والآخرة، وأولئك هم الخاسرون ببيعهم نعيم الآخرة بحظوظهم من الدنيا44.
ثالثًا: الاستهزاء بالمؤمنين:
وهذا النوع من الاستهزاء هو الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة، حيث تقسيم الناس إلى مؤمن وكافر ومنافق.
يقول الله جل جلاله: (ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ) [البقرة: ٨ - ١٦].
هؤلاء هم الصنف الأخطر في المستهزئين جميعًا، ذلك أنهم على اتصال مباشر ودائم بالمؤمنين، يفسدون في الأرض وهم يدعون أنهم مصلحون، مما يفهم منه أنهم دعاة إلى منهج يزعمون أنه منهج إصلاحي، بل إنهم لشدة وقاحتهم حصروا أنفسهم وأعمالهم في الإصلاح، بقولهم: (ﮙ ﮚ ﮛ) ويزينون ذلك للمؤمنين، ويعلنون أنهم مؤمنون إعلانًا يحقنون به دماءهم من المسلمين45.
ولكنهم -على حد زعمهم- لهم رؤية مستنيرة حضارية متقدمة، ولا يقبلون لأنفسهم ما يتلبس به المؤمنون من حال ينعتونه بالرجعية والتخلف والسفه، فهم يريدون النهوض بالمسلمين، والتقدم والازدهار، والتمسك على طريقة المؤمنين -الذين هم في منظورهم سفهاء- مليء بالمعوقات التي يجب عليهم أن يتحرروا منها، فلا ينبغي للدين أن يحكم في كل شيء، فالدين لله والوطن للجميع، وحكم الشعب للشعب، وما دخل الدين في لباس المرأة الذي يجعل الغرب ينظرون إلينا نظرة تخلف، وطاعة العلماء والأمراء والرضا بحاكم واحد مستمر، هذا استبداد وقهر وظلم، وما دخل الدين في السياسة، وأخوة الإنسانية تجمعنا مع جميع الناس فلنترفع عن البغض.
وليكن الحب رحبًا برحابة السماء يسع الجميع، ولا فرق بين الناس في الجنس واللون والدين، والناس أحرار لهم الحرية المطلقة في فعل ما يشتهون، ولهم اليوم أن يدينوا بدين، ويغيرونه في الوقت الذي يحبون، وحرية الرأي والتعبير متاحة للجميع لا لتكميم الأفواه، ولا للحجر على العقول، والناس مختلفون في وجهات النظر، فلكل واحد أن يحكم على الله جل جلاله من وجهة نظره، وله أن يحاكم الرسول صلى الله عليه وسلم على دعوته وأفعاله وآرائه وأفكاره، فيخطئ ويصوب كيفما يحلو له، وينبغي أن نعتز بحضاراتنا القديمة، الفراعنة، والبابلية، والأمازيغية، والتركية،... وغيرها، وعدم المساواة بين الرجل والمرأة يعد ظلمًا، الفسق فن، والفجور كسب مشروع، والإباحية تنوير، والتمسك بنصوص الكتاب والسنة تعقيد وتشدد وتنطع، والآخر غير المسلم صالح، ولكن الخلل في نظرتنا له، كلنا نؤمن بالله عز وجل يهود ونصارى ومسلمين، الجميع مؤمنون، بل وكل صاحب فكر ومعتقد مؤمن بفكره ومعتقده، فلا نقول: الكافر، بل نقول: الآخر، لا يجوز التكفير، بل ينبغي إلغاء هذا المصطلح، وطمسه إن استطعنا من القرآن والسنة، وإن لم نستطع فلنحمل اللفظ مدلولًا آخر، كأن يراد به فقط أبو لهب وأبو جهل، وكلنا سواسية.
كلمات مزخرفة، وعبارات مبهرجة، فهؤلاء هم من قال الله فيهم: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ) [الأنعام: ١١٢].
لينخدع بها ضعاف الإيمان، وهم في حقيقة الأمر لا يخدعون المؤمنين بالله حقًا، كما أن الله سبحانه وتعالى لا يخادع، فالخداع يقع منهم على أنفسهم، فلا يقتنع به إلا من هو مثلهم، وأما الذين آمنوا فمتمسكون وثابتون على ما هداهم الله إليه من الحق، وهؤلاء المنافقون لهم زعماء ورؤساء يخلون بهم، ويثبتون ولاءهم لهم، فيقدمون لهم الدعم، ويعطونهم من ألوان المعونات والملذات؛ ما يفتنون به الناس، وإذا أصابهم خوف من الفضيحة أعلنوا الإيمان، وخنسوا كما يخنس الشيطان.
وإن خافوا من أوليائهم ورؤسائهم، أخبروهم أن هذا من قبيل الاستهزاء والسخرية والإغراء للمؤمنين؛ لينخدعوا بهم، والحقيقة التي لا يعلمونها، أن الله عز وجل قد يذلل لهم العقبات ويسهل لهم الصعاب؛ ليزدادوا غيًا إلى غيهم، وذنوبًا إلى ذنوبهم، وخسرانًا إلى خسرانهم؛ ليتبعهم من في قلبه مرض، وهو في صف المسلمين ظاهرًا.
لكنه يتخفى ويتكتم؛ ليظهر الله لهم حاله، كما أظهر كفر إبليس للملائكة بخلق آدم، فالله بهذا يستهزئ بهم بأن يريهم ما يرضونه، حتى إذا جاء وقت الحصاد وجدوا حصادهم هشيمًا، وألفوا جناهم نارًا؛ ليشتعل هشيمهم بنارهم فيزدادوا احتراقًا، ويجدوا أنفسهم في أسفل دركات النار، فقد اشتروا الضلال والانحراف والزيغ والهلاك وما هو الثمن، إنه الهدى والإيمان والاستقامة والأمان46، فهل بعد هذا الخسران من خسران؟ نسأل الله السلامة من الخذلان.
رابعًا: تنزيه الرسل عن الاستهزاء:
إنهم غلاظ الطباع، وقساة القلوب، الذين ما أدركوا نبيًا من أنبياء الله إلا ساموه ألوان الأذى، وقد ذكر الله من ذلك ما فعلوه بنبيه موسى عليه السلام أصنافًا، إنهم اليهود، الذين لا مواثيق لهم ولا عهود، أحوالهم مع أنبياء الله، لم يحفظوا للنبوة حقها ولا للرسالة قدرها، فظنوا أن الرسول يكون منه ما يكون من غيره من سفاهة العقل، وصلافة الهزل، وجلافة القول، كما يكون من أمثالهم، وخبر ذلك ما كان بينهم وبين نبي الله موسى الكليم الحليم عليه السلام في قصة البقرة.
يقول الله جل جلاله: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ) [البقرة: ٦٧].
يخبرهم بأمر جاءه من عند الله، فيرمونه بالاستهزاء، وهذا الأمر لو وقع من إنسان معيب لزاده عيبًا، ولما سكت عنه من سمعه، فكيف يتهمون به نبيًا كريمًا من أولي العزم، وله خاصية التكليم، ورأوا على يديه من الآيات ما رأوا، وخاض بهم البحر وأنجاهم الله عز وجل به من سوء عذاب فرعون، وأحياهم الله بدعائه بعد الموت، مواقف وآيات وعبر لا حصر لها، لكنهم لهم قلوب أشد قساوة من الحجارة، وأيبس من الصخر، فأجابهم عليه السلام بكل أدب، وسعة صدر وحلم، فقال: (ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ) [البقرة: ٦٧]47.
إنه موطنٌ الاستهزاء فيه يكون حماقة، فالواقعة واقعة قتل، والحال حال لا يسوغ أن يكون الاستهزاء فيها لائقًا بنبي؛ لأنه في معرض سؤال عن أمر لا يجوز الجواب عنه إلا بالحق، ولا يكون فيه العلم إلا من عند الله عز وجل، والاستهزاء بحالة كهذه استهزاء نقص، لا يليق بمقام النبوة، ولو كان المقام مقام بيان لحال عجز آلهة عبدت من دون الله، واعتقاد باطل لا يسوغ لعاقل أن يرضاه، لكان جائزًا كما حدث مع إبراهيم عليه السلام مع قومه وآلهتهم، في قول الله تعالى: (ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [الصافات: ٨٨ - ٩٣].
فهو يعتذر لهم بالسقم الذي لم يكن مصابًا به، كما أخبر بذلك أبو هريرة رضي الله عنه فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذباتٍ، ثنتين منهن في ذات الله عز وجل قوله: (ﮓ ﮔ) [الصافات: ٨٩].
وقوله: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) [الأنبياء: ٦٣]...)48.
فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن فعل إبراهيم في هذين المقامين إنما كان في ذات الله، أما في غير مثل هذه الحال فلا يليق بالرجل الكامل أن يستهزئ بشيء.
فالأول: استهزاء بالنجوم التي ليس بيدها الشفاء.
والثاني: استهزاء بالآلهة؛ لعلمه أنها لا تنطق، ولا تأكل ولا تشرب49.
والثالث: استهزاء بقومه ومعتقدهم في آلهة لا تستطيع أن تدافع عن نفسها، ولا أن تجيب من يسألها50، ليس من باب الهزل، أو لغو القول، بل من باب إيقاظ العقل، ودفع الجهل، وكشف الظلمة، وإزاحة العتمة عن حقيقة الألوهية، وما هم فيه من قبيح العبودية، بطريقة من الاستهزاء مرضية.
أولًا: الاستهزاء بالكتب المنزلة:
حينما يعجز المعاند للحق عن إقامة الدليل على صحة ما ينادي به وما يدعو إليه، تجده يلجأ إلى الحيل الدفاعية السلبية الرديئة، فيلجأ إلى الهروب والانسلاخ الوجداني والانفعالي من الموقف الذي يظهر فيه وضوح الحق، حتى لا يغلبه الحق على هواه، وهذه أولى خطواته، معززًا حاله بأسلوب السخرية والاستهزاء، ويكذب بالحق الذي يدعوه ما استقر في نفسه من اليقين بصدقه، لكنه يجحده، وينتهج أسلوب الغوغائية وإثارة غبار الكلام في عيون العقول؛ ليشوش بذلك على المستمعين بآذان الألباب؛ ليوقع الشكوك في نفوس أصحابها فيما جاءهم من الحق، وقد عرض القرآن استهزاءهم الذميم، والأحوال التي ترديهم في مهاوي الجحيم، وإن من صور استهزائهم ما يأتي:
الإعراض: وهو الأسلوب الذي أوصى به الله سبحانه وتعالى عند تطاول السفهاء فهو بلا أدنى شك أسلوب حكيم في مثل هذا الموطن، ولا يفعله العبد عن عجز، بل يترفع ويربأ بنفسه عن مجاراة السفيه في سفاهته، وفيه يقول الشاعر 51:
يخاطبني السفيه بكل قبحٍ
وأكره أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهةً وأزيد حلمًا
كعودٍ زاده الإحراق طيبا
وجاء ذلك في قول الله جل جلاله: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [الأعراف: ١٩٩].
لكنه في مواطن أخرى يكون من أقبح السفه، وذلك حين يفعله من يفعله إعراضًا عما ينفعه ويرفعه، حيث يجد من داخله انهزامًا في مواجهة الحق ورده، فيعرض عنه عجزًا عن مقاومته، وهو بذلك ينزل بنفسه إلى أحط مستويات الدونية، ويلقي بها في أسفل دركات الردية، ويخبر الله عز وجل عن فاعليه بقولهم: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ) [الشعراء: ٥ - ٦].
فإن الإعراض عما يأتيهم من رحمته سبحانه وتعالى مما يكون به محض منفعتهم شنيع قبيح؛ فما يأتيهم من المواعظ القرآنية تذكرهم أكمل تذكير، وتنبههم عن الغفلة أتم تنبيه، فإن الله سبحانه وتعالى بمقتضى رأفته الواسعة يجدد لهم تنزيله حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة، فيجددوا إعراضًا عنه على وجه التكذيب والاستهزاء وإصرارًا على ما كانوا عليه من الكفر والضلال52.
الجدال بالباطل: يعلم أعداء الله أن النبي صلى الله عليه وسلم صادق، وكل خبر يأتي به فإنه حتمًا واقع، لكن عنادهم طغى عليهم، فأرادوا أن يبطلوا ما جاءهم به بباطلهم، لكنهم لا يملكون الحجة على رده، فاستهزءوا به على سبيل الجدل، يقول سبحانه وتعالى في شأنهم: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [الكهف: ٥٦].
كان الذين جاء وصفهم في هذه الآية يريدون أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بالآيات على أهوائهم؛ ليبطلوا ما جاء به صلى الله عليه وسلم، وكان من جدالهم استهزاؤهم بالبعث، وبشجرة الزقوم، وبتحريم الميتة، وكذا بعدد خزنة جهنم53.
إنكار الفائدة من نزول القرآن: كان المنافقون إذا نزلت سورة من القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم لا ينتفعون بها؛ لأن مادة الخبث كلما زاد الخبث كانت أكثر نقصًا، أما مادة الخير كلما زاد الخير كانت أعظم زيادة وأوفر بركة؛ لذلك يقول الله سبحانه وتعالى فيهم: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [التوبة: ١٢٤ - ١٢٥].
فهم لفساد طبعهم وسوء مادتهم لا يجدون ما يجده المؤمنون من انتفاع تظهر آثاره عليهم، فيستهزئون بهم بالتساؤل عن زيادة الإيمان التي يعلنها المؤمنون ولم يجدوها، فبين القرآن أن هذا الاستهزاء من الرجس والخبث الذي ازداد به رجسهم فازدادوا نقصًا، وأعقبهم كفرًا حتى ماتوا على الكفر54.
الخوض: قد عد الله عز وجل عدم توقير الله جل جلاله عند قراءة كلامه كفر، وجعل الخوض فيها استهزاءً، فأمر المؤمنين بعدم مجالسة الفاعلين لهذا الأمر، ونهى عن القعود معهم، والذي لا يدفعه فعلهم هذا لمفارقتهم حاله مثل حالهم.
يقول المولى جل جلاله: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ) [النساء: ١٤٠].
ثانيًا: الاستهزاء بالبراهين والحجج:
ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه نموذجًا للمستهزئين، وهم الذين كانوا يستهزئون بالأدلة والبراهين القاطعة على صدق المرسلين، وقد مكن الله لهم في الأرض، وآتاهم أدوات الفهم والإدراك وأراهم الآيات ولكنهم اتخذوها هزوًا ولعبًا، يقول الله عز وجل مبينًا خبرهم: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ) [الأحقاف: ٢٦] 55.
وأخبر عن الذين يفعلون مثل فعلهم، ويتخذون رسل الله عليهم السلام الذين هم حجة الله على خلقه56 استهزاءً وسخريةً، يقول سبحانه: (ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ) [الكهف: ١٠٦].
فبين أن مصيرهم المحتوم ومآلهم المشئوم جهنم، وبئس المستقر الدائم جزاءً لهم على استهزائهم.
ثالثًا: الاستهزاء بالوعيد:
تجرأ أعداء أنفسهم لما اغتروا به من سعة حلم الله وإمهاله لهم، وظنوا أن بمقدورهم إعلان التحدي، وحسبوا أن الله يعجل بعجلة أحدهم، فتساءلوا لقد اقترفنا ما نستحق به حلول الوعيد الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، فأين هذا العذاب؟! وهذا ما جاء في قوله تعالى: (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [هود: ٨].
ويذكر الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم أن ما وقع من قومه من ذلك وقع مثله من الأمم السابقة، يقول جل جلاله: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ) [الأنبياء: ٤١].
وقد أحاط بهم ووقع ما كانوا يجعلونه محط سخريتهم واستهزائهم من العذاب الذي كانوا يستعجلون وقوعه57.
رابعًا: الاستهزاء بالأحكام الشرعية:
بين الله سبحانه وتعالى في كتابه حدود العلاقات بين الناس في القرآن الكريم، ورتب عليها أحكامًا؛ لمنع الخصومات وسدًا لباب الفساد، وذكر الله جل جلاله أن التلاعب بهذه الأحكام هو من الاستهزاء بآياته، خاصة إذا كان هذا في أمر وصف الله ميثاقه بأنه غليظ، وقد ترتكب بسبب التلاعب به الفواحش، واستحلال ما حرم الله عز وجل، والمقصود هنا النكاح والطلاق، وما يتعلق بهما من أحكام، يقول الله عز وجل: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [البقرة: ٢٣١].
وإن إنزال مثل هذه الأحكام في كتاب الله لهو من نعم الله عز وجل علينا والتي توجب علينا شكرها والقيام بحقها، لا أن يكون تعاملنا معها على سبيل الاستخفاف والتلاعب والاستهزاء58.
خامسًا: الاستهزاء بالعبادات:
كان المشركون والكفار المخالفون للمسلمين-ولا زالوا- يقدحون في دين المسلمين، ويتخذونه هزوًا ولعبًا، خصوصًا الصلاة التي هي أظهر شعائر المسلمين، وأجل عباداتهم، فإنهم إذا نادوا إليها اتخذوها هزوًا ولعبًا، وذلك لعدم عقلهم ولجهلهم العظيم، وإلا فلو كان لهم عقول لخضعوا لها، ولعلموا أنها أكبر من جميع الفضائل التي تتصف بها النفوس، ولقد علمتم -أيها المؤمنون- حال الكفار وشدة معاداتهم لكم ولدينكم، واستهزاءهم به، فمن لم يعادهم بعد هذا دل على أن الإسلام عنده رخيص، وأنه لا يبالي بمن قدح فيه أو قدح بالكفر والضلال، وأنه ليس عنده من المروءة والإنسانية شيء.
فكيف تدعي لنفسك دينًا قيمًا، وأنه الدين الحق وما سواه باطل، وترضى بموالاة من اتخذه هزوًا ولعبًا، وسخر به وبأهله، من أهل الجهل والحمق؟! وهذا فيه من التهييج على عداوتهم ما هو معلوم لكل من له أدنى مفهوم، وفيه يقول الله تبارك وتعالى: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕﰖ ﰗ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ) [المائدة: ٥٧ - ٥٨].
وكانوا يهزأون بالأذان، والقيام والركوع والسجود في الصلاة 59.
الاستهزاء الذي لا يكون له هدف سامٍ نبيل، ولا مسوغ لاستعماله، ولا هو من قبيل مكافأة المسيء من جنس إساءته، لاشك أنه عبثٌ وسفه وجهل وحمق، ولا يصدر إلا عن ناقص بوجه من الوجوه، هذا إن كان الاستهزاء في أمر غير ذي بال، فكيف إذا كان الاستهزاء بأقدس ما أظلت السماء وأقلت الغبراء، أو بمن يحمله، إنه لمن المسلم به أن يكون فاعله يتصف بأقبح النعوت، ويتلبس بأخس الأحوال، وأن السبب الحامل لهم على ذلك هو وجود هذه الصفات فيهم، ولم يغفل القرآن بيان تجليتهم وإظهار حالهم، تسليةً للمؤمنين، وتوبيخًا للفاعلين، وقد وصف القرآن المستهزئين تارةً بالكفر، وذكر الفعل في معرض النفاق أخرى، أو أن منبعه الجهل ثالثة، وقد يكون الحامل عليه الكبر أخرى.
أولًا: الكفر:
عرفنا ما هي الحال التي يكون عليها الجاحدون من الاستهزاء والجدال بالباطل، وذلك عند عجزهم عن دحض الحق الذي ليس من شأنه أن يدحض، وما حملهم على هذا الفعل إلا الكفر الذي هم به متمسكون، والإنكار الذي هم به متشبثون، يقول الله: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [الكهف: ٥٦].
وقد بين الله سبحانه وتعالى أن دحض الحق بالباطل لا يكون أبدًا، ولو عقل هؤلاء لخضعوا وأذعنوا للحق الذي جعله الله دامغًا للباطل، يقول تعالى: (ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [الأنبياء: ١٨].
وبه تكون حجتهم داحضةً، يقول الله تبارك وتعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [الشورى: ١٦].
وأن الحق هو الباقي فقال أيضًا: (ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ) [الصف: ٨ - ٩].
«وكل شيء ثابت غير زائل ولا مضمحل تسميه العرب حقًا»60، وكما هو معلوم أنه «ليس بعد الكفر ذنب»61، وهم بكفرهم هذا متلبسون بأعظم الظلم؛ لذلك أعقب الله جل جلاله ذكرهم فاعلين للاستهزاء بقوله تعالى: (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [الكهف: ٥٧].
فإنه لا يوجد أحد أظلم ممن ذكر بآيات الله فأعرض عنها، واستهزأ بها وصد عنها، وهذا ذنبهم وهذا وصفهم الذي يستحقون62.
ثانيًا: النفاق:
يفرح المنافقون بما انخدعوا به من إمهال الله عز وجل لهم، ومعاملتهم على وفق ما يريدون من معاملة في الدنيا، ظانين بذلك أنهم تمكنوا من خديعة المؤمنين، فيجرؤهم ذلك على التمادي في طغيانهم، فيصل بهم الأمر إلى الاستهزاء بالدين، والإعلان أنهم هم المصلحون على سبيل حصر أحوالهم وأفعالهم على الإصلاح، وأن ما عليه المؤمنون هو السفه، وما هم عليه هو الرشد، وذلك بمصانعة أعداء الله عز وجل وإثبات الولاء لهم، وإظهار شعائر الإيمان بين المؤمنين، وإعلان ما كتموه من الاستهزاء بالمؤمنين بين الكافرين.
يقول الله سبحانه وتعالى: (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ) [البقرة:٩-١٤].
وما علم هؤلاء أن ترك عقابهم هو جزاء من جنس العمل، كما يقول الله تعالى: (ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ) [البقرة: ١٥].
وهم لضعف نفوسهم تجدهم يترقبون نزول القرآن خشية أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم ما يفضحهم، يقول تعالى: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ) [التوبة:٦٤].
وهذا أمر كائن لا محالة، فإنه وإن لم ينزل بكشف أسمائهم، إلا أنه نزل ببيان ما يعرفون به من أحوالهم.
قال الله: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ) [محمد:٣٠].
والفائدة في كشف حقيقتهم، وبيان سلوكهم، وما يعرفون به أعظم من ذكر أسمائهم؛ لأنهم قوم يتكررون في كل زمان، فيصير الحال أن كل من ظهرت منه هذه الصفات علم نفاقه، ولحن القول: هو فلتات لسانه التي تكشف أحوالهم، وقديمًا قالوا: كاد المريب أن يقول: خذوني، وقد جاء من وصفهم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آية المنافق ثلاثٌ: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) 63.
ثالثًا: الكبر:
لا يسلم المتكبر من خصلة الاستهزاء أبدًا، فالكبر مرض، والاستهزاء عرض لازم، كما أن المزكوم الزكمة به مرض، والرشح لها عرض، وقد بين الله سبحانه وتعالى هذا الحال للمستهزئ، وأن استهزاءه هذا إنما هو عرض لداء مهلك موبق، ألا وهو الكبر الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه من موانع دخول الجنة، وذلك في الحديث الذي رواه عنه عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه، أنه قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كبرٍ)64.
وهذا حاله كغيره من أهل النار لا يجتهد إلا في هلكة نفسه، والله سبحانه وتعالى حين أمره بطاعته لم يأمره إلا وهو غني عنه، وكذلك حين اختار هو معصية الله عز وجل لم يفعلها مع عجز الله عن منعه من معاقرتها، بل ليزداد كفرًا وطغيانًا، فيزداد في العذاب والنار بعدًا وامتهانًا.
يقول الله جل جلاله: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) [لقمان: ٦ - ٧].
وهذا الأحمق المتكبر ما الذي استبدله بالقرآن؟ إنه السفه والعته والعمه والضلال المبين، استبدله بالغناء.
قال ذلك ابن مسعود وابن عباس ومجاهد رضي الله عنهم، فقد أقسم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن لهو الحديث هو الغناء، والمتأمل لحال كثير من الناس إن لم يكن أكثرهم يقبلون على سماع الغناء وتأمله وتدبره والتفكر في معانيه، وإذا ما عرض على أسماعهم القرآن تجده أثقل شيء على أسماعهم، وهو قوله تعالى: (ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ)، أي: ثقلًا لا يطيق تحمله وسماعه65.
ولا يحدث لهم هذا إلا لأنهم يرون أن ما يأتي به القرآن دون مستوى تطلعاتهم، وسيحول دون تحقيق مشروعاتهم، وسيحرمهم من خيرات أوليائهم، فيستصغرونه وأهله، ويتكبرون في أنفسهم.
رابعًا: الجهل:
يبقى الإنسان على أصله الذي خلقه الله سبحانه وتعالى عليه ما لم يرد الله عز وجل أن يكرمه بالعلم والهدى، وأعني بالأصل هنا: الجهل والضلال.
يقول الله جل جلاله: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) [الأحزاب: ٧٢].
وإن جهله بحقيقة نفسه يجعله يهزأ بما لا علم له به أيضًا، فلا عجب من أن يظن بنو إسرائيل الذين شاقوا الأنبياء منهم أن نبي الله موسى عليه السلام يهزأ بهم حين أخبرهم بما أمرهم الله به من ذبح البقرة؛ لأن الاستهزاء عادتهم وديدنهم، فعرض بهم بقوله: (ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ) الذين فيكم أمثالهم، فهم الذين يقع منهم الاستهزاء وخاصة في مثل هذه المواطن، ذلك أنه نبي ويعلم أن الاستهزاء على الشاكلة التي اتهموه بها لا يفعله إلا جاهل، وهذا ما ذكره الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ) [البقرة: ٦٧].
وفعل المستهزئين -أيضًا- بكونهم يشترون حديث الباطل واللهو، فإنه إن دل على شيء دل على أنهم ليس عندهم علم يفرقون به بين النافع والضار، والفاسد والصالح.
يقول تعالى: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [لقمان: ٦].
فيقبلون على ما يكون به هلاكهم، ويعرضون عما فيه خيرهم وصلاحهم، ولا يكون منهم هذا إلا لأنهم أهل جهل بلا علم، فهم أهل جهل حين يتفكهون بالاستهزاء بالخير وأهله، وأهل جهل حين ينفقون ويدفعون ثمنًا يشترون به الغرر والضرر، ويضيعون ما استخلفهم الله فيه شذر مذر، عابثين لاهين هازئين لاعبين66، وهم يسيرون في طريق يوصلهم إما إلى دار السلام أو إلى دار الجحيم.
أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن شفاءً للناس وهدى ورحمة، يقول تعالى: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [الإسراء: ٨٢].
وقد تبين لنا مما سبق أن الاستهزاء عرض وليس مرضًا، والعرض علاجه أسهل وأهون من علاج المرض، فبالإمكان تخفيض درجة حرارة المريض مع بقاء المرض حتى يبدو كأنه صحيح، أما الشفاء منه بالمطلق فإنه لا يتم حتى يزول سبب الداء وتستأصل شأفته، والأمراض التي يظهر معها هذا العرض هي أسبابه التي سبق أن بيناها، أما إذا لم نتمكن من استئصالها فيمكننا أن نخفف من أعراضها، والاستهزاء له علاجات يمكن أن يزول باستعمالها مع المستهزئين، فهم قوم مرضى النفوس، أغواهم الشيطان بتزيين الباطل لهم، وأغراهم بأن هذه الأفعال تجعل منهم أعلامًا ونجومًا، وتجمع الناس حولهم؛ لأنهم يجهلون حقيقة أنفسهم؛ لهذا فهم يجهلون السبب الذي جرأهم على فعل الاستهزاء، وإنهم لينزعجون من وصفهم بالجهل، ويصرعون بكشف حقيقتهم وفضح أسرارهم، ويفزعون إذا نفر الناس من حولهم، لذلك جاءت علاجاتهم مكافئة لهم بما يكرهون، ووضعهم في المكان الذي يستحقون، وقد أرشدنا القرآن إلى طرق إزالة هذا العرض إن استحكم بأصحابه أصل المرض، على ما سيأتي بيانه.
أولًا :معالجة أسباب الاستهزاء:
وهذا الأمر هو ما تم تناوله سابقًا، فقد جاء بيان أسباب الاستهزاء بيانًا شافيًا، فحين يعرف المستهزئ السبب الذي أوقعه في هذا الأمر فإنه -إن كان عاقلًا- سرعان ما يقلع عنه، ويتوب منه، ويعتذر عما بدر منه، يقول الله عز وجل: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ) [التوبة: ٦٥ - ٦٦].
ولا يقنطهم الله جل جلاله من توبته عليهم، بل يفتح لهم باب الرجاء للعودة عما قارفته أيديهم بقوله: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ) وأبقاهم على وجل من الإصرار عليه، أو العودة لمثله بقوله: (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ)، لما علم من فيهم خير أن هذا العمل من أعمال الكفر تركوه واعتذروا منه تائبين توبة صادقة، أما الآخرون فقد كفوا عنه، ولكن لسبب آخر، سيكون الحديث عنه فيما يأتي.
ثانيًا: فضح المستهزئين:
يقول الله جل جلاله: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ) [التوبة: ٦٤].
هذا أشد ما يحذروه؛ لأجل ذلك كان فضحهم بسوء أعمالهم هو أشد رادع لهم عن مقارفة استهزائهم، وذلك لقلة عقلهم، وشدة غفلتهم، فلو كانوا يعقلون لعلموا أن العذاب المدخر لهم بسبب ما يؤذون به المؤمنين أحرى بأن يكون لهم رادعًا عن الاستهزاء بأولياء الله عز وجل ، ومع ما يدخره الله لهم من العذاب المهين، إلا أنه يفضحهم ويطلع المؤمنين على سرائرهم67، في سورة جعل أحد أسمائها الفاضحة68، ويجلي صفاتهم كما سبق وبينا.
بقول الله تعالى: (ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ) [محمد: ٢٩ - ٣٠].
فاللسان ترجمان القلب، ويفصح عما أخفاه، خاصة مع الحذر والخوف من انكشاف ما تكون به الفضيحة، وأخبرهم الله سبحانه وتعالى أنهم يفضحون أنفسهم باستهزائهم، فكان في هذا الخبر كفٌ لاستهزائهم حذرًا من أن يفضحوا أنفسهم، فربما اطمأنوا لانقطاع الوحي بعدم نزول سورة كالتي نزلت فيها فضيحتهم، لكنهم بعد هذا الخبر لن ينعموا بالاطمئنان؛ حذرًا من خيانة ألسنتهم لهم.
ثالثًا: مقاطعة مجالس المستهزئين:
إن الهجر علاج أكيد لكثير من العادات السيئة، والأخلاق الذميمة، وقد شرعه الله جل جلاله في ديننا، ليتحقق به ردع المستهينين بحرمات الله عز وجل وأعراض المسلمين، والمستهزئين بالدين، يقول الله تبارك وتعالى: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ) [النساء: ١٤٠].
وقد بين الله جل جلاله فيما أنزل من القرآن حكمه الشرعي عند حضور مجالس الكفر والمعاصي التي يستهزأ فيها، ويستهان بآيات الله جل جلاله، وأحكام دينه، وذلك أن الواجب على كل مكلف الإيمان بآيات الله وتعظيمها وإجلالها وتفخيمها، وهذا المقصود بإنزالها، وهو الذي خلق الله الخلق لأجله، فضد الإيمان الكفر بها، وضد تعظيمها الاستهزاء بها واحتقارها، ويدخل في ذلك مجادلة الكفار والمنافقين لإبطال آيات الله ونصر كفرهم69.
وكذلك المبتدعون على اختلاف أنواعهم، فإن احتجاجهم على باطلهم يتضمن الاستهانة بآيات الله؛ لأنها لا تدل إلا على حق، ولا تستلزم إلا صدقًا، بل وكذلك يدخل فيه حضور مجالس المعاصي والفسوق التي يستهان فيها بأوامر الله ونواهيه، وتقتحم حدوده التي حدها لعباده، ومنتهى هذا النهي عن القعود معهم حتى يخوضوا في حديث غير الكفر بآيات الله والاستهزاء بها، وإن قعد أحد معهم في الحال المذكورة فهو مثلهم؛ لأنه رضي بكفرهم واستهزائهم، والراضي بالمعصية كالفاعل لها.
وقد جاء في حديث في سنده ضعف إلا أنه صحيح المعنى عن الحسين بن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من شهد أمرًا فكرهه كان كمن غاب عنه، ومن غاب عن أمرٍ فرضي به كان كمن شهده)70.
والحاصل أن من حضر مجلسًا يعصى الله فيه، فإنه يتعين عليه الإنكار عليهم مع القدرة، أو القيام مع عدمها، وإن لم يفعلوا فإن الله سبحانه وتعالى سيجمعهم في نار جهنم يوم القيامة كما اجتمعوا على الكفر والموالاة في الدنيا، ولا ينفعهم مجرد كونهم في الظاهر مع المؤمنين71.
من علم أن الحياة مغنم ومغرم، ما كان ينبغي في حقه أن يسخر منها، بل كان لابد له من اغتنام كل لحظة تمر به؛ ليحيى حياة الكرماء أهل الجد والعزم، وكان لزامًا عليه ألا يدع خبرًا ذا شأن إلا وقف معه، وتأمله، ونظر في الأدلة القائمة على ثبوته، فإن بلغت مرتبة الإقناع كان عليه أن يسير وفق ما تستقيم به حياته مع هذا الأمر، وإن لم يجدها قائمةً على وفق العقل السليم والفهم القويم، تركها وأعرض عنها، وليس ثمة داعٍ لأن يستهزئ بها فإن ذلك مضيعة للوقت وانشغال بالملهيات عن المهمات.
فكيف بمن جاءه الخبر عن أمر خطير بأدلته المقنعة الدامغة، فلم يكلف نفسه أن يتأمله أو يتدبره، بل واتخذه هزوًا، أليس حقيقًا بأن يذوق وبال أمره، وعاقبة خسره.
فكيف بالأمر وقد وصفه الله سبحانه وتعالى أنه عظيم.
يقول الله جل جلاله: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ) [ص: ٦٧ - ٦٨].
ولم يكن إعراضهم إعراض ترك فحسب، بل ركبوا عليه الاستهزاء كما أسلفنا.
وفي ذلك يقول الله عز وجل : (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ) [الشعراء: ٥-٦].
فماذا أخبر الله عز وجل عن العاقبة التي جعلها لهؤلاء؟ يقول الله تبارك وتعالى: (ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [الروم: ١٠].
والعاقبة هنا قد تعجل لهم في الدنيا مع بقية منها تسوؤهم أكثر في الآخرة، وقد يؤجلها الله لهم إلى يوم القيامة72.
أولًا: عاقبة المستهزئين في الدنيا:
١. نعتهم بأقبح الصفات.
إن من أشد ما يسوء الإنسان أن يوصف بالكفر بأمر تثبته الشواهد والآيات، وتقطع به البراهين، ويسلم له العقلاء، أو بالنفاق لإصراره على إبطان ما يعاب به من السوء، وكان أمرًا ينأى أهل الكمال بأنفسهم عنه، أو بالجهل بأمر هو من المسلمات، بما قام عليه من الدلائل والآيات، فكان من المعلومات بالضرورة لكل الكائنات حتى البهائم والحيوانات، والأحياء والجمادات، والمستهزئون بآيات الله ورسله، كانوا مستحقين لأن يدمغوا بتلك الوصمات، وأن يختم عليهم بتلك السمات، يقول الله سبحانه وتعالى: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ) [النساء: ١٤٠].
فقد جعلهم بين أن يكونوا منافقين أو كافرين باستهزائهم بآيات الله تبارك وتعالى73، وما أشينها من صفات، وما أبشعها من أخلاق؛ الكفر والنفاق، لكنهم بها جديرون وأهل استحقاق، وقد حكم نبي الله موسى عليه السلام على المستهزئين بأنهم جاهلون، وذلك حين ظنوا أنه يستهزئ بهم، فبين لهم أنه أمر لا يفعله إلا الجاهلون.
يقول الله عز وجل: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ) [البقرة: ٦٧]
٢. كثرة الوساوس والظنون، والحذر من فضحهم.
حين يظهر هؤلاء المستهزئون للمؤمنين الموافقة، إنهم يعلمون أنهم خاطئون بكتمان المخالفة، ولما رأوا ما في القرآن من إظهار الحقائق وصدق الأخبار، كانوا دائمًا على وجل وخوف من أن يهتك الله أستارهم، وقد كان القرآن ينزل بأخبارهم، فحين يقرع مسامعهم إخبارهم بما فعلوه فيما بينهم، يتساءلون كما أخبر الله عنهم بقوله جل جلاله: (ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) [التوبة: ١٢٧].
فحالهم كما بينها الله عز وجل: (ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ) [المنافقون: ٤].
يحسب هؤلاء المنافقون من خبثهم وسوء ظنهم، وقلة يقينهم كل صيحة عليهم؛ لأنهم على وجل أن ينزل الله فيهم أمرًا يهتك به أستارهم ويفضحهم، ويبيح للمؤمنين قتلهم74، فحياتهم حياة قلق دائم، واضطراب مستمر.
٣. استئصالهم وقطع دابرهم.
وقد ذكر الله صنيعه هذا بهم في كثير من الأمم السابقة، حين كانوا يستهزئون برسلهم وأنبيائهم.
يقول تعالى: (ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚﯛ ﯜ ﯝ ﯞ) [الرعد: ٣٢].
يذكر الله سبحانه وتعالى هذا الأمر تسليةً للنبي صلى الله عليه وسلم ببيان سنته مع من كانوا يستهزئون برسلهم من الأمم السابقة، وأن الله لم يعاجلهم بالعقوبة بل أمهلهم؛ ليؤمن منهم من سبق في علم الله إيمانه، ويستحق العقاب من أصر على عصيانه75، وكذلك حال المستهزئين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا الأمر ليس في الأمم الماضية فحسب؛ بل هو في الأمم اللاحقة أيضًا، فهو سنة ماضية باقية لا تتخلف، يقول الله عز وجل (ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) [الأنعام: ٥].
وقد جعل الله جل جلاله الحرف الدال على الاستقبال هنا بقوله: (سوف)، وفي موضع آخر جعله بـ(السين)؛ ليدل في هذا الموضع على بعد الزمان، أي: إنه مهما طال الزمان فإن سنة الله ماضية مع قانون العقوبات الرباني، فكلما حدث استهزاء أحدث الله له ما يتناسب معه من عقاب76، ونحن نرى اليوم من أساليب الاستهزاء ما يعتصر منه القلب ألمًا، ويتذوب منه كمدًا؛ لكونه يحدث من أبناء المسلمين، ولعل من أسباب حدوث هذا الأمر، اختلال الموازين ليس عندهم فحسب! بل وعند كثير ممن تلبسوا بثوب الدين، وهم على غير طريقة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ، من الدعوة إلى التوحيد والصراط المستقيم، فصارت أولوياتهم ومعاييرهم سياسية أو قومية أو عصبية طائفية لشيخ أو طريقة أو عقيدة منحرفة، أو غير ذلك من ألوان الانحراف، وليس ذلك أننا نقلل من أمرها، لكنها أولًا عن آخر لابد وأن تكون تبعًا للتوحيد وأساسها العقيدة الصحيحة، وليس المعنى أن سبب الاستهزاء محصور في هذا السبب، لكنه شرك وقد نصب للمتحمسين من أبناء المسلمين؛ ليقعوا فريسةً لأهل الاستهزاء، من الكفرة والملحدين.
ثانيًا: عاقبة المستهزئين في الآخرة:
الحال في يوم القيامة أن الناس بين مثاب بخير الجزاء، ومأواه دار الكرامة والنعيم المقيم، ومعاقب بشر الجزاء، ومأواه دار المهانة والخزي والجحيم، فالذين عرفوا الحق بأماراته، وآمنوا بالله وآياته.
ومن جملة ما آمنوا به اليوم الآخر هم المثابون المكرمون، أما الذين اتخذوا ما جاءهم به المرسلون سخريةً واستهزاءً، ومن جملته الإيمان باليوم الآخر، هم المعذبون المهانون.
يقول الحق جل جلاله: (ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ ﰟ ﰠ ﰡ ﰢ ﰣ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ) [الجاثية: ٣٢ - ٣٧].
يخبر الله عز وجل عنهم أنهم كانوا إذا دعوا إلى التصديق بوعد الله سبحانه وتعالى وأنه-وحده- المستحق التوحيد والعبادة، وإلى الإيمان باليوم الآخر، أظهروا التجاهل والشك فيما جاءهم به النبي صلى الله عليه وسلم، واستهزأوا بهذه الأخبار.
فيخبر الله سبحانه وتعالى أنهم سيعاينون ما تجاهلوه، وسيبدو لهم عاقبة استهزائهم بأمر واقع بهم لا محالة، وحينها يدخلون أشد العذاب، ويتركون كما تركوا77 اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وتصديق أخباره، واستهزأوا به وبما جاءهم به من ذكر هذا اليوم، وبما اغتروا به من زخرف الحياة الدنيا الزائل المخادع، فلا خروج لهم منه، ولا فرصة تمنح لهم؛ ليعتذروا عن أفعالهم القبيحة.
وغاية ما يخاطبون به توبيخهم وتقريعهم وتبكيتهم بتذكيرهم بما قارفوه من الفرح والاستهزاء، واغترارهم وفرحهم بما اعتقدوه من قدرتهم على الدنيا وتمكنهم منها، وأنها باقية لهم.
والله أكبر من أن يعجزه إيصال العقاب لمستحقيه، والله أكبر من كل ظن سيء فيه، والله أكبر وله الحمد في ربوبيته للكون وما فيه، والله أكبر بحلمه مع علمه بما يظن الخاطئون فيه، الله أكبر مع عزته وحكمته في إمهال الغاوين، والمستهزئين بآياته وأوليائه وأنبيائه ومرسليه.
موضوعات ذات صلة: |
الأذى، اللعب، اللهو |
1 انظر: تهذيب اللغة،الأزهري، ٦/٢٢، الصحاح،الجوهري،١/٨٤، مقاييس اللغة، ابن فارس، ٦/٥٢.
2 انظر: الفروق اللغوية،العسكري، ص٢٥٤.
3 جامع البيان، ١/٣٠٣.
4 انظر: المصدر السابق ١٧/١٥٣.
5 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبدالباقي ص ٧٣٦-٧٣٧.
6 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٦/٥٢، المفردات، الراغب الأصفهاني ص٨٤١، بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي ٥/ ٣٢٥.
7 مقاييس اللغة، ابن فارس ٣/١٤٤.
8 انظر: المصدر السابق ٣/٥٢.
9 انظر: إحياء علوم الدين، الغزالي، ص١٩٢. محاسن التأويل، القاسمي٨/٥٣١.
10 انظر: الفروق اللغوية، العسكري، ص٥٠.
11 مقاييس اللغة، ابن فارس ٣/١٤٤.
12 انظر: مقاييس اللغة،ابن فارس، ٦/٦٥، معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار، ٣/٢٣٦٤.
13 انظر: العين، الفراهيدي، ٧/٣٧٢، الصحاح،الجوهري، ٣/٨٩٥، مقاييس اللغة،ابن فارس،٥/٢٠٩.
14 انظر: الفروق اللغوية، العسكري، ص٥٣.
15 انظر: المصدر السابق، ص٢٥٤.
16 انظر: غريب الحديث،إبراهيم الحربي، ٢/٤٧٤.
17 انظر: الفروق اللغوية،العسكري، ص٢٥٤.
18 انظر: معجم لغة الفقهاء، قلعجي، ص٦٠.
19 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس، ٤/٣٩٤.
20 انظر: معجم اللغة العربية المعاصرة،أحمد مختار، ٢/١٦٤١.
21 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ١/٢٢٣.
22 لمعة الاعتقاد، ابن قدامة المقدسي، ص٧.
23 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٧٥٤.
24 الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم، ٢/١١٣.
25 جامع البيان، الطبري، ١/٣٠٣.
26 المصدر السابق، ٢٣/١٨٢.
27 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله تعالى: (يوم يكشف عن ساق)، ٦/١٥٩، رقم ٤٩١٩.
28 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ١٨/٢٥٠.
29 الرحضاء: عرق الحمى.
انظر: لسان العرب، ابن منظور، ٧/١٥٤.
30 الرد على الجهمية، الدارمي، ص٦٦.
31 انظر: إرشاد العقل السليم، أبو السعود، ٤/٢٤٨.
32 انظر: أضواء البيان، الشنقيطي، ٦/٢٩٥.
33 انظر: التفسير القرآني للقرآن، عبدالكريم الخطيب، ٦/١١٣٩.
34 انظر: التفسير المنير، الزحيلي، ٣/٢٩.
35 انظر: أنوار التنزيل، البيضاوي، ٥/٩٣.
36 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٥٢٣.
37 انظر: الوجيز، الواحدي، ص١٢٣.
38 الميد: الزيغ.
انظر: لسان العرب، ابن منظور، ٣/٤١١.
39 انظر: تفسير الجلالين، السيوطي والمحلي، ص٦٧٥.
40 الأمثال السائرة من شعر المتنبي، الصاحب ابن عباد، ص٢٨.
41 المصدر السابق ص٣٥.
42 أخرجه أحمد في مسنده، ٣٦/٤٦، رقم ٢١٧١٥، وأبو داود في سننه، كتاب العلم، باب الحث على طلب العلم، ٣/٣١٧، رقم ٣٦٤١، والترمذي في سننه، أبواب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، ٥/٤٩، وابن ماجه في مقدمة سننه، باب فضل العلماء، ١/٨١، رقم ٢٢٣، عن أبي الدرداء رضي الله عنه.
وصححه الألباني، صحيح الجامع ٢/١٧٩، رقم ٦٢٩٢.
43 جامع البيان، الطبري، ١٤/٣٣٣.
44 انظر: التفسير الميسر، مجمع الملك فهد ص١٩٧.
45 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٤٢.
46 انظر: محاسن التأويل، القاسمي، ١/٢٥٤.
47 انظر: جامع البيان، الطبري، ٢/١٨٢.
48 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ)، ٤/١٤١، رقم ٣٣٥٧.
49 انظر: إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٧/١٩٨.
50 انظر: تفسير المراغي، ١٧/٤٩.
51 مجاني الأدب في حدائق العرب، شيخو، ٢/١٠١.
52 انظر: إرشاد العقل السليم، أبو السعود، ٦/٢٣٤.
53 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي، ٣/٩٣.
54 انظر: مدارك التنزيل، النسفي، ١/٧١٨.
55 انظر: المنار، محمد رشيد رضا، ١٢/٢٤.
56 انظر: محاسن التأويل، القاسمي، ٣/٤٦٩.
57 انظر: جامع البيان، الطبري، ٢٢/١٣١.
58 انظر: المنار، محمد رشيد رضا، ٢/٣١٥.
59 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٢٣٧.
60 أضواء البيان، الشنقيطي، ٣/ ٣٠٧.
61 تفسير الشعراوي، ٩/٥٣٩٤.
62 انظر: أضواء البيان، الشنقيطي، ٣/ ٣٠٧.
63 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، ١/١٦، رقم ٣٣.
64 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الكبر وبيانه، ١/٩٣، رقم ٩١.
65 انظر: جامع البيان، الطبري، ٢٠/١٣١.
66 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٦٤٧.
67 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور، ١٠/ ٢٤٨.
68 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٣٤٢.
69 انظر: الكشاف، الزمخشري، ١/٥٧٨.
70 أخرجه أبو يعلى الموصلي في مسنده، ١٢/١٥٤، رقم ٦٧٨٥.
71 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص ٢١٠.
72 انظر: تفسير المراغي، ٢١/٣٢.
73 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٥/٤١٨.
74 انظر: جامع البيان، الطبري، ٢٣/٣٩٥.
75 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٩/٣٢٢.
76 انظر: المنار، محمد رشيد رضا، ٧/٢٥٤.
77 انظر: المنار، محمد رشيد رضا، ٧/٢٥٤.