عناصر الموضوع
الأرض
أولًا: المعنى اللغوي:
الهمزة والراء والضاد ثلاثة أصول، الأول كل شيء يسفل ويقابله السماء، والثاني الزكمة، يقال: رجل مأروض، أي: مزكوم، والثالث الرعدة، يقال: فلان به رعدة، أي: رعشة، والأصل الأول هو الذي يكثر تداوله، وأما الأصلان الآخران فلا ينقاسان بل يوضع كل واحد منهما حيث وضعته العرب، وكلمة أرض مفرد جمعها أرضون1.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
بتتبع تعريفات الأرض اصطلاحًا، يلاحظ وجود ارتباط وثيق بين التعريف اللغوي الأول للأرض والتعريف الاصطلاحي لها، فكلمة الأرض تعني التربة، وتعني كذلك المكان الذي تستقر عليه القدم2، وهذان المعنيان يرتبطان بالمعنى اللغوي الأول للأرض، فالتربة تقع في الأسفل بالنسبة للإنسان والحيوان والنبات وغيرهم، وكذا الأمر بالنسبة للمكان الذي تستقر عليه القدم، فالقدم لا تسقر إلا على ما هو أسفل منها.
وبالنظر في التعريفات الاصطلاحية للأرض يمكن القول أن أشمل هذه التعريفات هو ما ذكره علماء الجغرافيا والبيئة، وقد وضعوا لها التعريف الآتي:
«الأرض هي أحد الكواكب التسعة التي تدور حول الشمس، وهي الثالثة بالنسبة للقرب من الشمس، والثالثة من حيث درجة اللمعان إذا ما شوهدت من عند الشمس، والخامسة بين المجموعة الشمسية من حيث الحجم»3.
وعلى الرغم من شمولية هذا التعريف للأرض من الناحية الفلكية، إلا أنه يحتاج إلى إضافة بعض الأمور حتى يكون أدق وأشمل، وبالتالي فإن من الممكن القول بأن التعريف الأشمل والأدق للأرض اصطلاحًا هو: أحد الكواكب التي تدور حول الشمس، والذي هيأه الله تعالى ليكون الإنسان فيه خليفة، وليعيش عليه العديد من المخلوقات، وهو ثالث الكواكب من حيث القرب من الشمس، وهو الثالث من حيث درجة اللمعان، والخامس من حيث الحجم قياسًا بكواكب المجموعة الشمسية.
وردت كلمة (الأرض) في القرآن الكريم (٤٦١) مرة4.
والصيغ التي وردت هي:
الصيغة |
عدد المرات |
المثال |
معرفة |
٤٥٩ |
(ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ) [الفرقان:٦٣] |
منكرة |
٢ |
(ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [يوسف:٩] |
وجاءت كلمة الأرض في الاستعمال القرآني على وجهين5:
الأول: الجرم المعروف المقابل للسماء: ومنه قوله تعالى: (ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [يوسف:١٠٥].
الثاني: الجنة: ومنه قوله تعالى: (ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ) [الزمر:٧٤].
السماء:
السماء لغة:
السماء في اللغة: يقال لكل ما ارتفع وعلا قد سما يسمو، وكل سقف فهو سماء، ومن هذا قيل للسحاب: السماء، لأنها عالية6.
السماء اصطلاحًا:
سماء كلّ شيء: أعلاه، ومنه هذه السماء المعروفة التي فوقنا7.
الصلة بين الأرض والسماء:
صلة السماء بالأرض من حيث إن الأرض مهبط لما ينزل من السماء، والسماء مصعد لما يرفع إليها من الأرض، وقد ذكرتا مقترنتين في القرآن الكريم بألفاظ متقاربة في مواضع كثيرة.
قال ابن القيم: وأما الأرض فأكثر ما تجيء مقصودًا بها معنى التحت والسفل دون أن يقصد ذواتها وأعدادها، وحيث جاءت مقصودًا بها الذات والعدد أتى بلفظ يدل على البعد كقوله: (ﰈ ﰉ ﰊ) [الطلاق:١٢].
وفرق ثان وهو أن الأرض لا نسبة لها إلى السموات وسعتها، بل هي بالنسبة إليها كحصاة في صحراء فهي وإن تعددت وتكبرت فهي بالنسبة إلى السماء كالواحد القليل فاختير لها اسم الجنس8.
الفلك:
الفلك لغة:
كل شيء دائر، والفلك مجرى الكواكب وتسميته بذلك لكونه كالفلك، قال الله عز وجل: (ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ) [الأنبياء:٣٣] وفلكة المغزل ومنه اشتق فلك ثدي المرأة، وفلكت الجدي إذا جعلت في لسانه مثل فلكة يمنعه عن الرضاع9.
الفلك اصطلاحًا:
والفلك واحد أفلاك النجوم. وفي حديث ابن مسعود: (تركت فرسي كأنه يدور في فلك). كأنه لدورانه شبهه بفلك السماء الذي تدور عليه النجوم. قال ابن زيد: الأفلاك مجاري النجوم والشمس والقمر، وهي بين السماء والأرض10.
الصلة بين الفلك والأرض:
الفلك جزء كبير تحت السماء الدنيا فيه كل ما يزينها من نجوم وكواكب، والأرض كوكب من تلك الكواكب السيارة في الفلك.
إن من أبرز ما تميزت به الآيات القرآنية التي عنيت بذكر مخلوقات الله تعالى، وبعظيم صنعه جل وعلا في هذه المخلوقات هو الدعوة إلى الاعتقاد بمبادئ الدين الإسلامي الحنيف، وبالأخص ما يتعلق من هذه المبادئ بمسألة التوحيد بأنواعه الثلاث (الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات)، وفيما يأتي بيان لما ركزت على إبرازه وتقريره الآيات القرآنية التي ورد فيها ذكر الأرض من دلائل التوحيد:
١. دليل على ربوبيته.
قال تعالى: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ) [يونس: ٣].
وقد استدلت هذه الآية القرآنية الكريمة على وحدانية الله تعالى من خلال تقريرها:
وبذلك تكون الآية القرآنية قد بدأت بتقرير عقيدة توحيد الربوبية، ثم قررت بأنه سبحانه قد استوى على العرش، وأنه مالك التدبير، ثم ختمت بتوجيه الأمر للعباد بضرورة إفراد الله تعالى بكل صور العبادة11.
٢. دليل على قدرة الله تعالى على البعث والنشور.
قال تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒc ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝn ) [يس: ٣٣- ٣٤].
استدلت هاتان الآيتان الكريمتان على قدرة الله تعالى على البعث والنشور من خلال الاستدلال بما هو مشاهد على ما هو غيبي غير مشاهد، فاستدلت على عقيدة البعث والنشور الغيبية، بحقيقة إحياء الأرض الميتة التي لا نبات فيها ولا حياة بعد نزول الأمطار عليها، فتصبح ذات زرع وخضرة بعد أن كانت قاحلة لانبات فيها ولازرع.
وبالتالي فإن الآيتين الكريمتين قد استخدمتا الأرض لإثبات عقيدة البعث والإيمان بالآخرة استخدامًا يقنع ذوي الألباب بقدرة الله تعالى على الإحياء بعد الإماتة، فكما أن الله تعالى قد أحيا الأرض الميتة، فهو سبحانه سيحيي الأموات، وسيبعثهم من قبورهم للحشر والحساب.
قال تعالى: (ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴÇ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ. ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ; ) [الحج: ٥-٧].
تبرهن هذه الآيات الكريمة على عقيدة الإيمان بالآخرة من خلال وصف حالتي الأرض قبل نزول الأمطار وبعدها، فالأرض في موسم الجفاف قبل أن ينزل عليها الغيث تكون هامدة، أي: يابسة لا نبات فيها ولا حياة 12، أما بعد نزول الأمطار النافعة على ذات الأرض فإنها تصبح مصدرًا للحياة لما تخرجه من الزرع، وما تخزنه من الماء العذب، وعملية الإحياء هذه للأرض بعد موتها برهان على عملية البعث يوم القيامة؛ لأن الله تعالى الذي أخبر بأنه أحيا الأرض الميتة، وجعل ذلك واقعًا مشاهدًا للخلق هو الذي أخبر بأنه سيبعث الناس من قبورها للحساب في الآخرة، وهذا ما تم التأكيد عليه في قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [فصلت: ٣٩].
يقول ابن أبي زمنين في تفسير قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓﭔﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ)[الحج:٦]: «إن الذي أخرج من هذه الأرض الهامدة ما أخرج من النبات قادرٌ على أن يحيي الموتى»13.
٣. تسبيح الأرض.
مما لا شك فيه أن تسبيح المخلوقات جميعها لله سبحانه دليل على وحدانيته جل وعلا، فلو لم يكن سبحانه وحده الخالق الرازق المدبر لشؤون جميع المخلوقات لما سبحت له، ولما قدسته.
قال تعالى: (ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ) [الإسراء: ٤٤].
و الأرض من ضمن المخلوقات العظيمة الخلق التي تسبح بحمد الله تعالى كما هو مبينٌ في الآية الكريمة.
يقول سيد قطب في بيان معنى فاصلة الآية الكريمة (ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ): «وذكر الحلم هنا والغفران بمناسبة ما يبدو من البشر من تقصير في ظل هذا الموكب الكوني المسبح بحمد الله، بينما البشر في جحود وفيهم من يشرك بالله، ومن ينسب له البنات، ومن يغفل عن حمده وتسبيحه. والبشر أولى من كل شيء في هذا الكون بالتسبيح والتحميد والمعرفة والتوحيد. ولولا حلم الله وغفرانه لأخذ البشر أخذ عزيز مقتدر. ولكنه يمهلهم ويذكرهم ويعظهم ويزجرهم»14.
٤. الله هو المالك المتصرف في الأرض.
أثبتت آيات الذكر الحكيم أن الله تعالى هو المالك المتصرف في الأرض.
قال تعالى: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ) [آل عمران: ١٨٩].
وتعد ملكية الله تعالى للأرض والسماوات من أقوى الأدلة على وحدانيته جل وعلا؛ وذلك لأنه لو كان هنالك مالك لهما غير الله تعالى لفسدت أحوالهما.
قال تعالى: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ¦ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ¯ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ¿) [الأنبياء: ١٩-٢٢].
وبالتالي فإن صلاح أمر الأرض والسماوات يعني أن المتصرف فيهما هو واحد أحد لا شريك له 15.
٥. إحاطة علم الله تعالى بما في الأرض.
بينت آيات القرآن الكريم في غير موضع أن الله تعالى بكل شيء عليم، قال تعالى: (ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ) [النور: ٦٤].
وقال تعالى: (ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [الأعراف: ٨٩].
وقال تعالى: (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ) [البقرة: ٣٣].
وتعد هذه الآيات الكريمة غيض من فيض إذا ما كان المراد هو الحديث عن اهتمام القرآن الكريم بصفة العلم الثابتة لله تعالى، ويعد علم الله تعالى بالأمور كلها وبالأخص ما يحدث منها على وجه الأرض من أقوى الأدلة على وحدانية الله تعالى، فلو أنه سبحانه لم يكن يعلم ما يحدث على الأرض للزمه شريك يزوده بما يخفى عليه من المعلومات حتى لا يقع في الظلم عند تقسيم الأرزاق، أوعند التشريع، أوعند الحساب، أو....إلخ، وبالتالي فلما ثبت للعباد قطعًا عدم وقوع الظلم من الله تعالى في أي أمر من الأمور، تبين أنه سبحانه واحد لا شريك له ولا مثيل.
٦. وراثة الله تعالى للأرض.
يعد انفراد الله تعالى بميراث السماوات والأرض من أبرز ما يدلل على وحدانيته جل وعلا، إذ لو كان معه إله غيره لقاسمه هذا الميراث، وبالتالي فإن تقرير آيات القرآن بتفرد الله تعالى بميراث السماوات والأرض دليل على وحدانيته جل وعلا.
قال تعالى: (ﰋ ﰌ ﰍ ﰎﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ) [آل عمران: ١٨٠].
وتقديم الجار والمجرور (لله) يأتي بغرض التخصيص، وبالتالي فلا منازع ولا شريك له سبحانه في الإرث للسماوات والأرض16.
وقال تعالى: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ) [مريم: ٤٠].
يقول النسفي في تفسيره لهذه الآية الكريمة: «أي: نتفرد بالملك والبقاء عند تعميم الهُلْك والفناء»17.
خلق الله تعالى الأرض وجعلها مهيأةً ليعيش عليها عباده، فوفر لهم فيها كل ما يلزمهم من مأكل ومشرب ومسكن وملبس و.....إلخ، وهذه النعمة لا تقتصر على العباد المكلفين وإنما تتعدى ذلك لتعم كافة المخلوقات التي تعيش على الأرض، وقد ذكر القرآن الكريم عدة خصائص زود الله تعالى بها الأرض حتى تكون صالحة لمعيشة ما عليها من مخلوقات، ومن هذه الخصائص ما يأتي:
١. الرتق والفتق.
الرتق لغةً هو إصلاح الفتق18، أما الفتق فهو الشق19.
ذكر القرآن الكريم أن السماء والأرض كانتا رتقًا ففتقهما الله تعالى.
قال تعالى: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ) [الأنبياء: ٣٠].
وقد ذكر المفسرون ثلاثة أقوال في معنى الرتق والفتق هي:
أحدها: أن السماء كانت رتقًا لا تمطر، وأن الأرض كانت رتقًا لا تنبت، ففتق الله تعالى السماء بالمطر، وفتق الأرض بالنبات.
الثاني: أن السماء والأرض كانتا رتقًا، أي: متلاصقتين، ففتقهما الله تعالى.
الثالث: أن الله تعالى فتق الأرض من الأرض ست أرضين، فصار المجموع سبعًا، وأنه تعالى فتق من السماء ست سماوات، فصار المجموع سبعًا20.
وسواءٌ أكان المراد بالرتق والفتق هو واحد من المعاني الثلاثة السابقة الذكر، أو كان المراد بهما جميع المعاني الثلاثة السابقة، فإن الحاصل الآن هو أن السماء تمطر، والأرض تنبت، وأن السماوات سبعًا، وكذلك الأرض، وأن السماء والأرض منفصلتين، وهذه الأمور جميعها هي مما أنعم الله تعالى به على عباده.
٢. المد والبسط والدحو.
المد في اللغة يعني الجذب والمطل، يقال: رجل مديد الجسد، أي: طويل21، والبسط في اللغة يعني النشر22، والدحو في اللغة يعني البسط23.
ذكر القرآن الكريم أن الله تعالى قد مد الأرض، وأنه قد بسطها، وأنه قد دحاها.
قال تعالى: (ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ) [الرعد: ٣].
وقال تعالى: (ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ) [نوح: ١٩].
قال تعالى: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) [النازعات: ٣٠].
والألفاظ الثلاثة كلها تدور حول المد والبسط.
فأما مد الأرض؛ فهو بسطها طولًا وعرضًا24.
وأما بسطها؛ أي: جعلها ممهدة مهيأةً للاستقرار25.
وأما دحو الأرض؛ أي: بسطها26.
وهذا المد والبسط للأرض من أعظم النعم، فلولا أن الله جعلها مبسوطة لما تمكن سكانها من التنقل بسهولة ويسر بين الأماكن المختلفة لقضاء الحاجات المتعددة، لذلك قال الله تعالى: (ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [نوح: ١٩- ٢٠].
فجملة تسكنوا في قوله تعالى: (ﮎ ﮏ ﮐ) في محل نصب مفعول لأجله، أي: أن الله تعالى قد بسط الأرض بغرض تمكين الناس من اتخاذ المسالك والطرق التي تربط بين الأماكن ذات الصلة بحاجاتهم.
٣. التذليل.
التذليل في اللغة: هو التسهيل27.
ذكر القرآن الكريم أن الله عز وجل قد ذلل الأرض.
قال تعالى: (ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ) [الملك: ١٥].
وقد ذكر المفسرون أن معنى كلمة ذلولًا الواردة في الآية الكريمة، أي: سهلة مهيأةً للمشي في طرقاتها28.
وبالنظر في آية الملك يمكن القول بأن الله تعالى لما من على عباده بأن جعل لهم الأرض مذللة، أعقب ذلك بـ:
١. السعي لطلب الرزق بالحلال، وذلك امتثالًا لقوله تعالى: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) [الجمعة: ١٠].
٢. إعطاء الطرقات حقوقها التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (إياكم والجلوس على الطرقات)، فقالوا: ما لنا بدٌ، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها، قال: (فإذا أبيتم إلا المجالس، فأعطوا الطريق حقها)، قالوا: وما حق الطريق؟ قال: (غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، وأمرٌ بالمعروف، ونهيٌ عن المنكر)29.
٣. بالإضافة إلى لزوم التواضع أثناء المشي خلالها، وذلك تأدبًا بما أدب به لقمان الحكيم ابنه وهو يعظه.
قال تعالى حكاية لأحدى مواعظه لولده: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇÚ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔç ) [لقمان: ١٨ - ١٩].
٤. كما يضاف إلى ما تقدم ابتغاء العلوم النافعة من خلال السير في الطرقات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة)30.
٥. إماطة الأذى عن الطريق، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضعٌ وسبعون - أو بضعٌ وستون - شعبةً، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبةٌ من الإيمان)31.
٤. السعة.
السعة في اللغة هي خلاف الضيق، والغنى.
ذكر القرآن الكريم أن الله تعالى قد جعل في الأرض السعة.
قال تعالى: ( ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ) [النساء: ١٠٠].
والسعة في هذه الآية بمعنى وفرة في الرزق، وتمكين للدين32.
وتعد السعة من أعظم ما من الله تعالى به على عباده حيث تتيح الفرصة للمؤمنين للانتشار في الأرض والحصول على وسائل التمكين والعزة، وتوظيف هذه الوسائل في بناء المجمتع المسلم الملتزم بأحكام الشريعة السمحة، كما كان المجتمع الذي بناه الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة.
٥. الزخرف والتزيين.
الزخرف في اللغة هو الذهب، والشيء المزخرف هو الشيء المزين33، والتزيين في اللغة هو التجميل34.
ذكر القرآن الكريم أن الأرض تتزخرف وتتزين وتتجمل.
قال تعالى: (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ) [يونس: ٢٤].
ومعنى أخذت الأرض زخرفها وازينت، أي: تجملت بالنباتات والأزهار ذات الألوان الجميلة الزاهية35.
خلق الله تعالى الأرض وجعلها مأوى للإنسان، ووفر له فيها كافة مستلزماته ومتطلباته من مأكل ومشرب وكسوة، كما أودع فيها من الكنوز ما يكفل للبشرية الرفاهية والسعادة، ولا تتوقف علاقة الإنسان بالأرض عند حد المعيشة فحسب وإنما تربطه بها عدة عناصر سيأتي بيانها بإذن الله تعالى فيما يأتي من مطالب.
أولًا: النشأة والخلق:
خلق الله تعالى الإنسان من طين الأرض.
قال تعالى: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [ص:٧١].
وقد وصف الله تعالى الطين في موضع آخر من كتابه العزيز بأنه طين لازب، وذلك في قوله تعالى: (ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) [الصافات:١١].
والطين اللازب هو الطين اللزق36، ومعلوم أن التراب هو أصل الطين، وأن التراب جزء من الأرض، أي: أن أصل الإنسان ونشأته من الأرض.
قال تعالى: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) [النجم:٣٢].
يقول الخازن في بيان معنى قوله تعالى: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) : «يعني خلق أباكم آدم من التراب»37.
وقال تعالى في بيان أصل الخلقة للإنسان: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ) [السجدة:٧-٩].
والمعنى: أي أن الله تعالى قد خلق آدم من من طين فلما نفخ فيه الروح صار لحمًا ودمًا وعظمًا38، ثم صار نسله من الماء الضعيف وهو عبارة عن مني الرجل والمرأة39.
وهذه الخلقة العجيبة للإنسان تبرز مدى الارتباط بين الإنسان والأرض، فكما أن الأرض تحتوي على الماء والتراب، فإن الإنسان قد خلق من الطين الذي يحتوي على التراب والماء، وكما أن جسد الإنسان يحتوي على المواد الصلبة كالعظم، فإن الأرض تحتوي على أجزاء صلبة كالصخور، وكما أن جسد الإنسان يحتوي على المواد السائلة كالدماء، فإن الأرض تحتوي عناصر سائلة كالماء وهكذا، كما بينت نصوص السنة أن العلاقة بين الإنسان والأرض تمتد إلى حد التشابه والتقارب، وأن الاختلاف في خصائص وصفات البشر إنما يعود إلى الاختلاف في خصائص وصفات العناصر التي تتكون منها التربة، وقد جاء في الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله خلق آدم من قبضةٍ قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض: جاء منهم الأحمر، والأبيض، والأسود، وبين ذلك، والسهل، والحزن، والخبيث، والطيب»40.
والترابط بين الأرض والإنسان لا تقتصر على المنشأ فحسب، وإنما يتعدى الأمر ذلك إلى المنتهى والمستقر بعد الموت.
قال تعالى: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [طه: ٥٥].
يقول الإمام الطبري في تأويل قوله تعالى: ( ﮀ ﮁ): «وفي الأرض نعيدكم بعد مماتكم، فنصيركم ترابًا، كما كنتم قبل إنشائنا لكم بشرًا سويًا»41، كما يتعدى الأمر ذلك ليصل إلى الإخراج من القبور يوم القيامة للحساب، وهذا هو المراد بقوله تعالى: ( ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ )، يقول الإمام النسفي في بيان معنى الإخراج مرة أخرى: «والمراد بإخراجهم أنه يؤلف أجزاءهم المتفرقة المختلطة بالتراب ويردهم كما كانوا أحياء ويخرجهم إلى المحشر»42.
مما سبق يمكن القول بأن علاقة الإنسان بالأرض هي علاقة قديمة قدم الإنسان نفسه حيث إن نشأته كانت منها، ومرقده عند موته يكون في باطنها، وبعثته يوم القيامة يكون من مكان قبره فيها.
ثانيًا: تهيئتها للسكن والاستقرار:
إن من أقوى الأدلة على وجود الله تعالى ورحمته عنايته بسائر مخلوقاته، وتتجلى عنايته جل وعلا بخلقه توفيره لهم كل ما يحتاجون إليه لشؤون بقائهم ومعيشتهم، فعلى سبيل المثال لا الحصر خلق الله تعالى الجمل ووفر له ما يلزمه ليتمكن من العيش في البيئة الصحراوية القاسية كالسنام الذي يخزن فيه الغذاء، والأمعاء التي يخزن فيها المياه، والخف الذي يعينه على السير في الصحراء دون أن تغوص أقدامه في رمال الصحراء، وغير ذلك مما ييسر له المعيشة في الظروف الصحراوية القاسية، ومن الأمثلة أيضًا أن الله تعالى لما خلق الإنسان وفر له ما يحتاجه على هذه الأرض من مسكن وملبس ومأكل ومشرب ودواء وغير ذلك، وفيما يأتي تفصيل لبعض مظاهر تهيئة الله تعالى الأرض للإنسان:
أما عن المسكن والملبس.
فقد قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ; ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [النحل: ٨٠- ٨١].
والمعنى المستفاد من هاتين الآيتين هو أن الله تعالى يمن على عباده بأن جعل لهم من بيوتهم مأوًى ومكانًا يستقرون فيه، كما جعل لهم الجلود التي يأخذونها من الأنعام بعد ذبحها بيوتهًا كالخيام والفساطيط تنفعهم في حلهم وترحالهم، وجعل لهم كذلك من أشعار وأوبار هذه الأنعام أثاثًا وأمتعةً كالوسائد والبسط والأغطية وغير ذلك مما يعين الناس على قضاء حوائجهم المتعددة، كما يمن الله تعالى على عباده بأن جعل لهم مما خلق كالأشجار والأبنية والتلال أماكن يستظلون بها من شدة الحرارة، وأنه قد جعل لهم كذلك من الجبال مواضع يسكنونها، كما جعل لهم ملابس تقيهم شدة الحر والبرد، وذلك كالملابس القطنية والصوفية وغيرها، وملابس تقيهم إصابات الحروب كالدروع وغيرها مما يتقى به من ضربات الأعداء43.
وأما عن المأكل والمشرب .
فقد قال تعالى: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ) [النحل: ١٤].
وقال تعالى: (ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﮝ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ) [مريم: ٢٦].
وفي الآية الأولى يمن الله تعالى على عباده بأن يسر لهم اصطياد ما يقتاتون عليه من الأسماك وأنواع المأكولات البحرية من البحار44.
وفي الآيات الآتية يمن الله تعالى على مريم عليها السلام بأن رزقها ماء يسري تحتها لتشرب منه، ورطبًا غضًا مكتمل النضج لتأكله45، ومن تمام فضل الله تعالى على عباده أن أحل لهم الطيبات، وجعلها كثيرة، وحرم عليهم الخبائث، وجعلها قليلة محدودة.
قال تعالى: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) [الأعراف: ١٥٧].
ويعتبر قوله تعالى: (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) نصًا فيما يحل ويحرم من الأطعمة، فلا عبرة لمن تلذذ بأكل ما حرم الله تعالى من المطعومات46، وقال تعالى أيضًا: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) [المائدة: ١].
فالحلال لايحتاج إلى نص لمعرفة حله، بينما الحرام يحتاج إلى نص شرعي لمعرفة حرمته.
وتهيئة الله تعالى للأرض لا تقتصر عند توفيره جل علا المسكن والملبس والمأكل والمشرب بل تعدى الأمر ذلك ليشمل حتى الزينة.
قال تعالى: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) [الأعراف: ٣٢].
والمعنى أن الله تعالى يبين لعباده أنه ينبغي عليهم أن يتزينوا ويتجملوا بما أباح لهم من اللباس، وأن يتمتعوا بما أحله لهم مما يستطيبونه من المأكل والمشرب47، وهذا مما يدلل على عظيم ما أنعم الله تعالى به على عباده.
ثالثًا: الاستخلاف فيها وعمارتها:
خلق الله تعالى الأرض، وجعل الإنسان فيها خليفة.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ) [البقرة: ٣٠].
ولتحقيق الخلافة في الأرض لابد من تحقق أمرين هما:
١. العبادة الحقة.
ولا تتحقق العبادة الحقة إلا باخلاص النية فيها لله تعالى، وفي ذلك يقول الله تعالى: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [النساء: ٣٦].
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه»48، وباتباع الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ لأنهم مبعوثون من رب العزة جل وعلا منذرين ومبشرين.
قال تعالى: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ) [النساء: ١٦٥].
وقد أرسل الله تعالى رسله إلى أقوامهم خاصة، وأرسل رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، وقد جاء ذكر ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسًا لم يعطهن أحدٌ من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهرٍ، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأيما رجلٍ من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصةً، وبعثت إلى الناس كافةً، وأعطيت الشفاعة»49.
ويتصل دور الأنبياء والرسل عليهم السلام بتحقيق العبادة الحقة، من خلال قيامهم بدور المعلم الذي يعلم العباد كيفية أداء العبادات التي يريدها الله تعالى منهم، وأحكامها، ومواقيتها، وكل ما يتعلق بها من أمور شرعية، وذلك ما دعا النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى توجيه الأمر للمسلمين من أمته بالاقتداء به عند قيامهم بأداء العبادات، ومن ذلك على سبيل المثال، أنه لما أراد أن يحج دعا الناس إلى الاقتداء به قائلًا: «لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه»50، لذلك فإنه لا ينبغي لمسلم أن يؤدي شيئًا من العبادات بطريقة تختلف مع الطريقة التي أدى بها النبي صلى الله عليه وسلم تلك العبادات، وأمر الناس بالالتزام بها، كما لا يجوز لمسلم أن يبتدع عملًا لم يأت به الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يؤديه على أنه من العبادات، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه، فهو ردٌ»51، وبالتالي فإن الله تعالى لا يقبل من الأعمال ما كان غير موافق للشرع.
٢. عمارة الأرض.
وترتبط عمارة الأرض بطلب العلوم المختلفة، والله تعالى قد أودع في الأرض من السنن والقوانين التي يؤدي الكشف عنها، والتعرف على خصائصها، إلى ابتكار الصناعات والاختراعات المتعددة التي تعود بالنفع على البشرية، وقد أسند الله تعالى مهمة عمارة الأرض لعباده.
قال تعالى: (ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ) [هود: ٦١].
والمراد باستعمار الله تعالى عباده في الأرض أنه أوكل إليهم مهمة العمارة والبناء والقيام بما يجلب النفع والسعادة للبشرية52، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلمٍ يغرس غرسًا إلا كان ما أكل منه له صدقةً، وما سرق منه له صدقةٌ، وما أكل السبع منه فهو له صدقةٌ، وما أكلت الطير فهو له صدقةٌ، ولا يرزؤه أحدٌ إلا كان له صدقةٌ)53.
والحديث يفيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حث العباد على بذل الجهود من أجل العمل على ما يعود بالنفع على كافة ما يدب على وجه الأرض.
رابعًا: النهي عن الإفساد فيها:
من أشد الأصناف ذمًا في القرآن الكريم هم الذين يفسدون في الأرض، وينشرون فيها الخراب والدمار.
قال تعالى: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇX ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ`) [محمد: ٢٢-٢٣].
ويأتي هذا الذم الإلهي للمفسدين في الأرض؛ نظرًا لأن هؤلاء المفسدين يقومون بأعمال تتنافى مع الغاية التي خلق الله تعالى من أجلها الإنسان على هذه البسيطة وهي الإصلاح والتعمير والصلة، وقد ذكر المفسرون لقوله تعالى: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ) تفسيرات مفادها أن الخراب والفساد أمران مرتبطان بالمفسدين في الأرض، سواءٌ أكانوا ولاةً يحكمون، أو كانوا أناسًا عاديين، فإذا كانوا ولاةً فإنهم يفسدون من خلال أخذ الرشاوى، وظلم الناس بأكل الحقوق، وغير ذلك، وإذا كانوا أناسًا عاديين فإنهم يفسدون في الأرض من خلال أكل الربا، وتقطيع الأرحام، وسفك الدماء، وغير ذلك مما يغضب الله تعالى54.
وقد جاءت الآية التالية لتبين نتيجة الإفساد في الأرض وهي الإبعاد عن رحمة الله تعالى55، ولتجنب هذه العقوبة المريرة لابد من امتثال العباد لأمر الله تعالى لهم، والذي يقضي بعدم الإفساد في الأرض.
قال تعالى: (ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ) [الأعراف: ٥٦].
والمعنى أن الله تعالى ينهى عباده في هذه الآية الكريمة عن الإفساد في الأرض، سواءٌ بنشر الخراب والدمار، أو بالإعراض عن أحكام الشريعة الإسلامية، وذلك بعد أن أصلحها لهم بما أنعم به عليهم فيها من مأكل ومشرب وملبس ومسكن ومركب، وبما بينه لهم من الشرائع والأحكام التي تنظم حياتهم وتجلب سعادتهم56.
ومما يبرز مدى أهمية الإصلاح في الأرض ارتباط صلاح أحوال الأرض باصلاح من عليها، وفساد أحوالها بفساد من عليها، ومن الأدلة على ذلك ما يأتي:
قال تعالى: (ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ) [الروم: ٤١].
والمعنى أن الله تعالى يظهر لعباده أسباب سوء أحوال الأماكن التي يقع فيها ما حرم الله تعالى، وتتمثل هذه الأسباب باقتراف الناس للذنوب والمعاصي في تلك الأمكنة57.
٢- قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [الأعراف: ٩٦].
تبين هذه الآية الكريمة أن الإيمان والتقوى هما السبيل إلى جلب البركات من السماء والأرض، وذلك من خلال استعمال أسلوب الشرط الذي يفيد امتناع تحقق الجواب (جلب البركات من السماء والأرض) لامتناع تحقق الشرط (الإيمان والتقوى)، وقد الله تعالى على هذا الأمر في قوله: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ) [المائدة: ٦٦].
وبناءً على ما تقدم فإنه لابد للعباد من القيام بأمرين لتجنب سخط الله تعالى عليهم، وتبديل أحوالهم الحسنة بأحوال سيئة، وهذان الأمران هما:
١. تحقيق العبادة، وهو الغاية التي خلق الله تعالى الإنسان من أجلها، مع الإصلاح في الأرض وتعميرها، ومحاربة المفسدين فيها.
٢. المبادرة إلى التوبة.
قال تعالى: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞo ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ) [المائدة: ٣٣-٣٤].
تتحدث هاتان الآيتان الكريمتان عن أحد أشنع أصناف الذين يسعون في الأرض فسادًا، ويتمثل هذا الصنف في قطاع الطرق المحاربين لأولياء الله تعالى ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وذكرت الآية الأولى الحد الذي يقام على أولئك المفسدين في الأرض في حال القبض عليهم في الدنيا، كما ذكرت سوء عاقبتهم في الآخرة، ثم بينت الآية الثانية من يستثنى من أولئك المفسدين في الأرض، وهم التائبون الذين يبادرون إلى التوبة من قبل أن يلقى القبض عليهم ويقام عليهم حد الحرابة، فهؤلاء يقبل الله تعالى توبتهم، ويغفر لهم زلتهم58.
خامسًا: توريث الأرض للصالحين:
بينت آيات القرآن الكريم في غير موضع أن الله تعالى يورث الأرض لعباده الصالحين الذين يعلون كلمته، ويطبقون شرعه، ويناصرون أولياءه، ويحاربون أعداءه، ومن هذه المواضع ما يأتي:
قال تعالى: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ) [الأنبياء: ١٠٥].
ويتضح من هذه الآية الكريمة أن الله تعالى قد قرر في شرائعه أن وراثة الأرض أمر يتوقف على إيمان وتقوى وصلاح ورثتها، ومن الشواهد التي تدلل على ذلك قوله تعالى: (ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚk ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩz) [الأحزاب: ٢٦-٢٧].
ومفاد الآيتين الكريمتين أن الله تعالى قد أورث المؤمنين الأرض التي كان يهود بني قريظة يسكنونها، وذلك عقب غزوة بني قريظة والتي كان سببها خيانة بني قريظة للرسول صلى الله عليه وسلم وتآمرهم مع الأحزاب ضد المسلمين، وبالتالي فإن فساد بني قريظة أدى إلى انتزاع أرضهم منهم، وتوريثها للمؤمنين الصالحين.
ومن الشواهد أيضًا قوله تعالى: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ) [مريم: ٦٣].
ومفاد هذه الآية الكريمة أن العبد التقي هو الذي يحصل على الإقامة والخلود في الجنة 59.
٢- قال تعالى: (ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) [النور: ٥٥].
تتحدث هذه الآية الكريمة عن الوعد الإلهي للمؤمنين الثابتين على دينهم المداومين على عمل الصالحات بالتمكين في الأرض، وقد يكون التمكين للأفراد كما حصل لنبي الله تعالى يوسف.
قال تعالى: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) [يوسف: ٥٦].
وقد يكون للجماعات كما حدث مع الرسل وأتباعهم من المؤمنين لما صبروا على أذى الكافرين لهم.
قال تعالى: (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮝ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) [إبراهيم: ١٣-١٤].
سادسًا: السعي في الأرض:
من عناية الله تعالى بمن خلق على هذه الأرض أن جعلها ممهدةً مذللةً لهم.
قال تعالى: (ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ) [الملك: ١٥].
وأمر الإباحة الذي وجهه الله تعالى لعباده بقوله: فامشوا في مناكبها، عقب منه سبحانه عليهم بتذليله الأرض لهم فيه بيان ارتباط التذليل للأرض بإمكانية المشي والسعي فيها، فتذليل الأرض يسر للعباد السعي فيها والتنقل بين أرجائها، وبما أن الله تعالى قد خلق العباد على هذه الأرض وأسند إليهم مهمتي العبودية والاستخلاف، فلابد أن يكون سعيهم في الأرض مقيدًا بما يرضي الله تعالى.
وقد أثنى الله تعالى على الذين يسعون في الأرض لينشروا فيها الخير والفضيلة، وفي المقابل ذم الذين يسعون فيها لنشر الفساد والرذيلة، وفيما يأتي عرض لبعض الآيات التي مدحت السعاة للخير، وذمت السعاة للشر:
أولًا: من الآيات التي امتدحت السعاة في الأرض بالخير.
قال تعالى: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) [يس: ٢٠].
تذكر هذه الآية الكريمة حكاية رجل صالح أتى قومه ناصحًا لهم بأن يتبعوا هدي رسل الله تعالى، ويؤمنوا بربهم جل وعلا، فكانت عاقبته أن أكرمه الله بدخول الجنة جزاء سعيه بالخير.
قال تعالى: (ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﮝ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ) [يس: ٢٦، ٢٧].
قال تعالى: (ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [الإسراء: ١٩].
وتتحدث هذه الآية الكريمة عن العاملين في هذه الدنيا خيرًا، وشكر سعيهم يكون بقبول حسناتهم، والتجاوز عن سيئاتهم60.
قال تعالى في شأن المصلحين في الأرض: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [الأحقاف: ١٦].
ثانيًا: من الآيات التي ذمت السعاة في الأرض بالشر.
قال تعالى: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) [المائدة: ٣٣].
تتحدث هذه الآية الكريمة عن صنف ذميم من الناس، وهؤلاء هم الذين يحاربون أولياء الله تعالى، ويقطعون عليهم الطريق، فيروعونهم ويسلبونهم ويقتلونهم، وهؤلاء قد جعل الله تعالى لهم عقوبة في الدنيا وتتمثل في حد الحرابة، كما جعل لهم عقوبة في الآخرة وتتمثل في عذاب النار العظيم، وما ذلك إلا جزاءً على سوء سعيهم في الأرض61.
قال تعالى: (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ) [المائدة: ٦٤].
تتحدث هذه الآية الكريمة عن طغيان اليهود في الأرض، فهم الذين أساؤوا إلى ربهم جل وعلا، فنسبوا لله تعالى البخل على الرغم من أنهم يعيشون على أرضه، ويتقلبون في نعمه،كما تجاوزوا ذلك إلى نشر الفتن، والسعي في الأرض فسادًا، وهذا ما أدى إلى حلول الغضب الإلهي عليهم.
خلق الله تعالى الأرض لينعم الناس بالعيش عليها، مع العلم بأن العيش الطيب مشروط بالمداومة على الإخلاص في العبادة لله تعالى، والإحسان في العمل وفق ما أمر جل وعلا، يؤكد ذلك قوله تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [النحل: ٩٧].
وعلى الرغم من معرفة الناس لهذا الأمر إلا أن كثيرًا من الناس أعرضوا عن ذكر ربهم، فسلط الله تعالى عليهم المعيشة الضنك.
قال تعالى: (ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ) [طه: ١٢٤].
ومن الناس من تمادوا في ظلمهم وطغيانهم حتى حق عليهم عذاب الله تعالى، فأزال الله تعالى ما بهم من نعمة وأهلكهم، وفيما يأتي نصوص من القرآن تؤكد حصول النعيم للمتقين، والعذاب للمفسدين:
أولًا: نعيم الله في الأرض:
لقد ركزت آيات القرآن على بيان ما أعده الله تعالى لعباده المؤمنين من النعيم في الآخرة؛ وذلك لأن نعيم الدنيا لا يقارن أبدًا بنعيم الآخرة.
قال تعالى: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ) [الرعد: ٢٦].
ومع ذلك فإن آيات القرآن الكريم لم تغفل الحديث عما أكرم الله تعالى به عباده المؤمنين على الأرض في الدنيا، وفيما يأتي عرض لبعض تلك الآيات:
قال تعالى: (ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ) [الزمر: ٧٤].
تتحدث هذه الآية عن مصير المؤمنين الأتقياء، حيث يورثهم الله تعالى أرض الجنة جزاء حسن أعمالهم في الدنيا62.
وقد تكرر على ألسنة الأنبياء عليهم السلام الوعد لأقوامهم بالتنعم في خيرات الأرض إن آمنوا واتقوا، ومن الآيات التي ذكرت ذلك:
قال تعالى: (ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ) [هود: ٥٢].
وقد جاءت هذه الدعوة على لسان هود عليه السلام أثناء هدايته قومه 63، كما جاءت على لسان نوح عليه السلام دعوة مشابهة لقومه.
قال تعالى: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁÔ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [نوح: ١٠-١٢].
وقد بينت آيات القرآن الكريم أن التنعم في الأرض لا يقتصر على المؤمنين فحسب، وإنما يشمل غيرهم من الناس، ولكن الفرق بين تنعم المؤمنين وتنعم غيرهم أن الله تعالى يبدل نعمة غير المؤمنين إلى نقمة إذا استمروا وتمادوا في غيهم وطغيانهم، وذلك كما حدث لأصحاب القرون الأولى كعاد وثمود وغيرهم، بينما لا يحدث ذلك للمؤمنين، ولا يعني عدم حدوث النقمة للمؤمنين أن نعيم الدنيا دائم مستقر لهم، وإنما قد يصيبهم شيء من البلاء من باب الاختبار والامتحان لهم، وبيان صبرهم وثباتهم.
قال تعالى: (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮝ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) [العنكبوت:٢، ٣].
ولكن ما يميز المؤمنين في فترة بلائهم أنهم يكونون على ثقة ويقين بأن الله تعالى معهم ينصرهم ويؤيدهم، وذلك راجع إلى أمرين هما:
قال تعالى: (ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ ﭫ ﭬ= ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ H ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂS) [البقرة: ١٥٥-١٥٧].
وقد أخبر الله تعالى عن حال الصابرين في الآخرة في قوله: (ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ) [الزمر: ١٠].
يقول الشوكاني في تفسير هذه الفاصلة من الآية الكريمة من سورة الزمر: «أي: يوفيهم الله أجرهم في مقابلة صبرهم بغير حسابٍ»65.
ثانيًا: عذاب الله في الأرض:
كثيرًا ما تحدثت آيات القرآن الكريم عن عذاب الله تعالى في الأرض، وهذا يدل على كثرة من أهلك الله تعالى من الأقوام الظالمة.
قال تعالى: (ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ) [الإسراء: ١٧].
ومن المعلوم أن التعاطي السلبي مع عوامل الفساد في الأرض يؤدي بشكل حتمي إلى الظلم والفساد، وهذا الأمر هو الذي تسبب في فساد الأمم وغفلتها ومن ثم هلاكها، وقد بين الله تعالى أنه لا يرضى لعباده الفساد والكفر والفجور، بل يرضى لهم الصلاح والاستقامة.
قال تعالى: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [الزمر: ٧].
وقد حذر ربنا جل وعلا من اتباع أهل الغواية وعباد الشهوات.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ) [النساء: ٢٧].
وقال أيضًا: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) [النور: ٢١].
وعلى الرغم من ذلك البيان والتحذير إلا إن أكثر الناس يتركون ما يرضى الله تعالى لهم من الخير، واتبعوا من يأمرهم بما لا يرضى لهم ربهم جل وعلا.
قال تعالى: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ) [الإسراء: ٨٩].
فكانت النتيجة الحتمية نزول العذاب بهؤلاء الكفرة، وفيما يأتي صور من عذاب الله تعالى في الأرض:
١. خسف الله تعالى الأرض بقارون.
قال تعالى: (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ¹ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅØ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ? ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ U ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ f ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧx) [القصص: ٧٦ - ٨١].
وفيما يأتي عرض لما ذكرته الآيات الكريمة من عناصر الفساد التي خسف الله تعالى بسببها الأرض بقارون:
فكانت نتيجة ذلك كله أن خسف الله تعالى بقارون وبداره الأرض، والخسف هو: الذهاب في الأرض، وخسف الله الأرض بقارون وداره أي: غيبه فيها67.
وقد استثنى الله تعالى أهل الإيمان من العذاب لوجود الدعاة الصالحين الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وقد أفصح القرآن الكريم في غير موضع عن استثناء الله تعالى لأهل الورع والتقوى من العذاب الذي ينزل بالمفسدين من أقوامهم، فعلى سبيل المثال: فقد أهلك الله تعالى قوم نوح عليه السلام، وأنجى نوحًا عليه السلام ومن معه في الفلك، وقد أهلك الله تعالى قوم لوط عليه السلام، وأنجى لوطًا عليه السلام ومن معه من المؤمنين، ولكن ومع ذلك إلا إنه قد يهلك الله قومًا وفيهم الصالحون، وذلك إذا عم الفساد.
فعن أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج يومًا فزعًا محمرًا وجهه، يقول: (لا إله إلا الله ويلٌ للعرب من شرٍ قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه) وحلق بإصبعه الإبهام، والتي تليها، قالت فقلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: (نعم إذا كثر الخبث)68.
٢. ومن قصص العذاب في الأرض ما حدث مع ثمود قوم نبي الله صالح عليه السلام.
قال تعالى: (ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ Ï ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ; ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃT ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜm ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ) [الأعراف: ٧٣-٧٨].
وفيما يأتي عرض لما ذكرته الآيات الكريمة من عناصر الفساد التي أهلك الله تعالى بسببها ثمود بالصيحة:
وقد أدت هذه العوامل من الفساد إلى هلاك ثمود، كما أدت غيرها من العوامل إلى إهلاك أقوام آخرين، وبالتالي فإن الله تعالى قد أنعم على خلقه بوافر النعم، ولكنهم بدلوا هذه النعم بنقم أهلكتهم، وجعلتهم عبرة لمن بعدهم.
قال تعالى: (ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼÏ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸI) [الأنفال: ٥٢ - ٥٤].
ذكر الله تعالى في غير موضع من كتابه العزيز آيات كريمة بين فيها أحوال الأرض يوم القيامة حيث تطرأ عليها تغيرات كبرى تبدل معلمها؛ وذلك التغيير يأتي تناسبًا مع هول الحالة التي يكون عليها الموقف يوم القيامة.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ+ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ) [الحج: ١- ٢].
ومما ذكرته آيات القرآن الكريم من أحوال للأرض يوم القيامة ما يأتي:
١. الرج.
قال تعالى: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [الواقعة: ٤].
الرج لغةً: من رج الراء والجيم أصل يدل على الحركة المضطربة69.
من الأحداث المهولة التي تحدث للأرض يوم القيامة أنها تهتز وتضطرب من شدة ذلك اليوم العظيم.
يقول الخازن في تفسير الآية الكريمة: «أي: إذا حركت وزلزلت زلزالًا وذلك أن الله عز وجل إذا أوحى إليها اضطربت فرقًا وخوفًا»70.
٢. الدك.
قال تعالى: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ) [الفجر: ٢١].
الدك لغةً: من دك الدال والكاف أصلان أحدهما يدل على الانسطاح، يقال: الأرض الدكاء، أي: المنسطحة المستوية، والأصل الثاني يدل على الدق، يقال: دككت الشيء، أي: دققته71.
ومن أهوال يوم القيامة التي ذكرها الله تعالى في كتابه العزيز دك الأرض، أي: تحطيمها ودق أجزائها بأجزائها حتى تصير مستويةً72.
٣. المد.
قال تعالى: (ﭤ ﭥ ﭦ) [الانشقاق: ٣].
المد لغة: الميم والدال أصل واحد يدل على الزيادة والوصل والإطالة والجذب؛ يقال لما يكتب به مداد؛ لأنه يمد بالماء، ويقال أيضًا: رجل مديد الجسد، أي: طويل، وحرف المد هو الحرف الذي يزاد في صوته، والمدد للجيش هو ما يتم تزويد الجيش به من رجال وعتاد73.
ومما ذكر القرآن من أحوال الأرض يوم القيامة أنها تمد، وذلك بمعنى أنه تزداد مساحة سطحها.
يقول الطبري في تفسير قوله تعالى: (ﭤ ﭥ ﭦ): «وإذا الأرض بسطت، فزيد في سعتها»74.
٤. الزلزلة.
قال تعالى: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [الزلزلة: ١].
الزلزلة لغةً: هو الهز والاضطراب بشدة، يقال: زلزل الشيء زلزلةً أو زلزالًا، ويقال زلزل الشخص، أي: أزعجه وخوفه وحذره75.
وزلزلة الأرض تعني: أنها تتحرك وتضطرب بشدة حتى يتكسر كل ما عليها، ويخرج كل ما في باطنها76.
٥. إخراج الأثقال.
قال تعالى: (ﭮ ﭯ ﭰ) [الزلزلة: ٢].
الثقل في اللغة هو: ميزان الشيء، يقال: ثقل الشيء ثقلًا فهو ثقيل، وثقل المسافر هو ما يحمله معه من متاع، وثقل مفرد جمعها أثقال77.
وإخراج الأرض أثقالها يوم القيامة يعني: أن تقوم الأرض بإخراج ما فيها من أثقال وأحمال.
قال تعالى: (ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [الانشقاق: ٣- ٤].
إلقاء الأرض ما بداخلها يشمل الموتى من المخلوقات وبالذات المكلفين منهم؛ وذلك لمحاسبتهم على ما قدموا في الحياة الدنيا78.
وقد صرحت بذلك آيات القرآن الكريم في مواضع منها:
٦. التبديل.
قال تعالى: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [إبراهيم: ٤٨].
التبديل لغةً: الباء والدال واللام أصل واحد يدل على التغيير وقيام الشيء مقام شيء آخر، بدل فلان موقفه تجاه أمر، أي: غير موقفه تجاهه79.
تبديل الأرض يوم القيامة يعني: حدوث تغيرات كبرى تجعل منها أرضًا جديدةً غير الأرض التي عهدها الناس في الدنيا، وسواءٌ أكان التبديل للأرض بتغيير معالمها فقط، أو بتغيير ذاتها كليًا، وذلك على ما اختلف عليه المفسرون80، فإن الأمر بالنسبة للناس شديد الهول؛ لأنهم سيرون ما يجعلهم كالسكارى من شدة ما سيعاينون.
قال تعالى: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱB) [الحج: ٢].
من الله تعالى على البشرية بكتاب معجز فيه ما يدل على صدق الوحي والنبوة مما لا يدع مجالًا لأي منصف نزيه يبحث عن الحق في أمور الدين والعقيدة إلا أن يقر بعلو منزلة هذا الكتاب، ثم يتبع هذا الإقرار بالإيمان بالله تعالى الذي أنزل هذا الكتاب، وبرسوله الذي شرح ووضح للناس تعاليم هذا الكتاب، ولابد لمن أراد التطرق إلى موضوع الإعجاز القرآني، أو ما يتصل به من جوانب، من أن يسرد تعريفات أهمها ما يأتي:
الإعجاز: هو في اللغة من العجز الذي بمعنى الضعف81.
أما في الاصطلاح فهو بمعنى عدم قدرة القوم عن الإتيان بمثل المعجزة التي تحداهم بها نبيهم.
إعجاز القرآن: وهو عجز المكلفين جميعًا وفرادى عن معارضة معجزة القرآن الكريم82.
وقد سجل الله تعالى ذلك العجز بقوله: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ) [الإسراء: ٨٨].
ذكر العلماء للمعجزة عدة تعريفات منها:
وبالنظر في التعريفين السابقين يمكن القول بأنهما لم يشتملا على كافة الجوانب التي تتوافر في المعجزة، وبالتالي فإن أدق وأشمل تعريف للمعجزة هو أمر خارق للعادة، يجريه الله تعالى على يد مدع النبوة، على وفق مراده، تصديقًا له في دعواه، مقرون بالتحدي، سالم عن المعارضة، وذلك كله في زمن التكليف بالنبوات.
وفيما يأتي عرض لبعض المواضع القرآنية ذات اللمسة الإعجازية، والدلالات العلمية والغيبية المبرهنة على صدق الوحي والنبوة:
قال تعالى: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) [القمر: ١٢].
جاءت هذه الآية القرآنية الكريمة لتصف للعباد ما حدث لقوم نوح عليه السلام لما جاءهم عذاب الله تعالى في الدنيا عقب تكذيبهم لنبيهم.
وقد جاء الوصف القرآني في أبلغ صورة يمكن التعبير من خلالها عن الحالة التي كانت عليها الأرض حين حل العذاب بقوم نوح عليه السلام.
فالله تعالى قال: (ﭻ ﭼ ﭽ)، ولم يقل: (وفجرنا عيون الأرض)، والسر في ذلك أن تقديم الأرض على العيون يبين أن كل الأرض انفجرت بالمياه، ولو قال: وفجرنا عيون الأرض، لما تفجرت المياه إلا من المواضع التي جعلها الله تعالى في الأرض عيونًا من قبل أن يحل العذاب بقوم نوح عليه السلام، وبالتالي لكان وصف العذاب أخف في التأثير على السامع85.
وقال تعالى: (ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ) [طه: ٤].
وقال تعالى: (ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ) [الطلاق: ١٢].
تقدم ذكر الأرض على السماوات في الآية رقم (٤) من سورة طه، بينما تقدم ذكر السماوات على الأرض في الآية رقم (١٢) من سورة الطلاق، وتقدم ذكر السماوات على الأرض راجع إلى أن تتمة خلق السماوات كان قبل دحو الأرض، وتقدم ذكر الأرض على ذكر السماوات راجع إلى أن الله تعالى قد بدء خلق الأرض قبل أن يسوي السماوات.
وقد ذكر القرآن الكريم أن خلق السماوات والأرض قد كان على مراحل.
قال تعالى: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [فصلت: ٩ - ١١].
وقال تعالى: (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐa ﮒ ﮓ ﮔ e ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ j ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ o ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ t ﮥ ﮦ w) [النازعات: ٢٧ - ٣٢].
وقال تعالى: (ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [ق: ٣٨].
وخلاصة ما بينته الآيات الكريمة أن الأرض قد خلقت في أربعة أيام، وأن السماوات قد خلقت في يومين، أما التفصيل فإن الله تعالى قد خلق الأرض في يومين، ثم استوى إلى السماء فخلقها في يومين، ثم دحا الأرض في يومين86.
وقال تعالى: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ© ﯚﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ º ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱ ﯲÅ) [الروم: ٢-٥].
تتحدث الآية الثانية من سورة الروم عما جرى بين الفرس والروم حيث دخلتا في حرب غلبت على إثرها الروم مقابل الفرس، وقد انعكست هذه النتيجة إيجابيًا على نفوس المشركين فاستبشروا خيرًا، والسر في استبشارهم يرجع إلى نظرتهم لطبيعة طرفي القتال؛ فالفرس يعبدون النار وقد هزموا الروم وهم أهل كتاب، وبالتالي فقد رأى المشركون أن هذا الأمر يقاس عليهم، فهم عبدة أصنام والمسلمون حملة قرآن، وأي معركة ستدور بينهم وبين المسلمين ستكون النتيجة فيها لصالحهم كما حصل مع نظرائهم في المعتقد الفرس.
فجاءت هذه الآية لتخبر عما حدث، ثم جاءت الآية الثالثة لتخبر بما سيحدث بين الفرس والروم من جديد، وذلك أنه ستحدث معركة أخرى خلال سنوات معدودة وستكون النتيجة فيها لصالح الروم، فأبطل بذلك استنتاج المشركين، وخاب ظنهم، ثم جاءت الآيتان التاليتان من سورة الروم لتنسفا بشرى المشركين وتبدلانها بخيبة أمل كبيرة، حيث إنهما أخبرتا بأن الله تعالى سينصر عباده المؤمنين على أعدائهم المشركين من كفار قريش في المستقبل، وقد تحقق انتصار المسلمين فعلًا عقب نزول هذه الآيات حين حدثت غزوة بدر في السنة الثانية من الهجرة87.
وقد دلت آيات سورة الروم على صدق الوحي والنبوة من خلال أمور هي:
وقال تعالى: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) [النازعات: ٣٠].
تمثل هذه الآية الكريمة وصفًا علميًا لهيئة الأرض، فالأرض وإن كانت منبسطة فهي بيضاوية أيضًا، وانبساطها مع بيضاويتها راجع إلى اتساعها وكبر حجمها، وقد أثبت العلم أن الأرض تشبه البيضة، فهي عبارة عن كرة منبعجة من وسطها كما البيضة تمامًا89.
وقال تعالى: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ) [الأنبياء: ٣٠].
تتحدث هذه الآية الكريمة عن الأرض والسماوات حيث كانتا عبارة عن كتلة واحدة يتصل بعضها ببعض على هيئة دخان أو جزيئات غازية، ثم انفصلتا عن بعضهما البعض، وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة قبل أن يكتشف العلماء ذلك بقرون عديدة، وما يؤكد أن السماوات والأرض كانتا عبارة عن دخان أو سديم قوله تعالى في موضع آخر: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ) [فصلت: ١١].
وقد أثبت العلماء حديثًا أن الكون قد تكون من مواد غازية 90.
موضوعات ذات صلة: |
الآيات الكونية، البحر، الجبال، السماء، الماء، النبات |
1 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس١/٨٠، المحكم، ابن سيده ١/٣٦٩.
2 انظر: معجم اللغة العربية المعاصرة، د. أحمد عمر١/٨٤.
3 المدخل إلى علم الجغرافيا والبيئة، محمد محمود محمدين ص ١٠٩.
4 انظر: المعجم المفهرس، محمد فؤاد عبد الباقي، ص ٢٦- ٣٣، المعجم المفهرس الشامل، عبد الله جلغوم، باب الهمزة ص ٥٣- ٦٣.
5 انظر: بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي، ٢/٥٣- ٥٦، الوجوه والنظائر في القرآن العظيم، مقاتل بن سليمان، ص١٥٨، ١٦٠، الوجوه والنظائر، أبو هلال العسكري، ص٧٦- ٧٩.
6 تهذيب اللغة، الأزهري ١٣/١١٥.
7 المفردات، الراغب الأصفهاني ص٤٢٧.
8 بدائع الفوائد، ابن القيم ص ١٤٩.
9 انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني ص ٦٥٤، لسان العرب، ابن منظور ١٠/٤٧٨.
10 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١١/٢٨٦.
11 انظر: بيان التوحيد الذي بعث الله به الرسل، ابن باز ص١٧.
12 انظر: تحفة الأريب، أبو حيان الأندلسي ص٣٠٥.
13 تفسير القرآن العزيز٣/١٧٢.
14 في ظلال القرآن ٤/٢٢٣١.
15 انظر: معجم وتفسير لغوي لكلمات القرآن، حسن الجمل ٣/٢٦٠.
16 انظر: تأويلات أهل السنة، الماتريدي ٨/٣٧٣.
17 مدارك التنزيل٢/٣٣٧، والهلك بمعنى الهلاك.
18 انظر: تاج العروس، الزبيدي ٢٥/٣٣١.
19 انظر: الصحاح، الجوهري ٤/١٥٣٩.
20 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي، ٣/١٨٩.
21 انظر: المحكم، ابن سيده ٩/٢٨٧.
22 انظر: تاج العروس، الزبيدي ١٩/١٤٢.
23 انظر: لسان العرب، ابن منظور١٤/٢٥١.
24 انظر: جامع البيان، الطبري١٦/٣٢٨.
25 انظر: المصدر السابق ٢٣/٦٣٧.
26 انظر: فتح القدير، الشوكاني ٥/٤٥٨.
27 انظر: المصباح المنير، الفيومي١/٢١٠.
28 انظر: لباب التأويل، الخازن٤/٣٢٠.
29 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المظالم والغصب، باب أفنية الدور والجلوس فيها، والجلوس على الصعدات، رقم ٢٤٦٥، ٣/١٣٢.
30 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب العلم، باب فضل طلب العلم، رقم ٢٦٤٦، ٥/٢٨.
قال الترمذي: حديث حسن.
31 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب شعب الإيمان ، رقم ٥٨، ١/٦٣.
32 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي١/٤٥٧.
33 انظر: مجمع بحار الأنوار، محمد طاهر الكجراتي٢/٤٢٠.
34 انظر: مجعم اللغة العربية المعاصرة، أحمد عمر مختار ٢/١٠١٧.
35 انظر: تأويلات أهل السنة، الماتريدي٦/٣٠.
36 انظر: معجم وتفسير لغوي لكلمات القرآن الكريم، حسن الجمل٣/٦٧.
37 لباب التأويل٤/٢١٢.
38 انظر: تفسير مقاتل بن سليمان، ٣/٤٤٩.
39 انظر: المحرر الوجيز، ابن عطية ٥/٤١٨.
40 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب السنة، باب في القدر، رقم ٤٦٩٣، ٤/٢٢٢.
وصححه الألباني.
41 جامع البيان ١٨/٣٢١.
42 مدارك التنزيل٢/٣٦٩.
43 انظر: لباب التأويل، الخازن ٣/٩٣.
44 انظر: البحر المديد، ابن عجيبة٣/١١٤.
45 انظر: فتح القدير، الشوكاني٣/٣٨٩.
46 انظر: لباب التأويل، الخازن٢/١٢.
47 انظر: جامع البيان، الطبري١٠/١٥٦.
48 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله، ٤/٢٢٨٩، رقم٢٩٨٥.
49 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلاة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (جعل لي الأرض مسجدًا وطهورًا)، ١/٩٥، رقم ٤٣٨.
50 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا، وبيان قوله صلى الله عليه وسلم: (لتأخذوا مناسككم)، ٢/٩٤٣، رقم١٢٩٧.
51 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، ٣/١٨٤، رقم٢٦٩٧.
52 انظر: تأويلات أهل السنة، الماتريدي٦/١٤٩.
53 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساقاة، باب فضل الغرس والزرع، ٣/١١٨٨، رقم١٥٥٢.
54 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٦/٢٤٥.
55 انظر: معاني القرآن وإعرابه، الزجاج ٢/٦٢.
56 انظر: لباب التأويل، الخازن٢/٢١١.
57 انظر: تأويلات أهل السنة، الماتريدي ٦/٢٧.
58 انظر: صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني ١/٣١٤.
59 انظر: لباب التأويل، الخازن ٣/٢٤٦.
60 انظر: تفسير القرآن، السمعاني٣/٢٢٩.
61 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٢٢٩.
62 انظر: إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٧/٢٦٤.
63 انظر: جامع البيان، الإيجي ٢/١٨١-١٨٠.
64 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام ٤/٢٠١، رقم٣٦١٢.
65 فتح القدير٤/٥٢١.
66 انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب٥/٢٧١١.
67 انظر: مختار الصحاح، الرازي ص٩٠.
68 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب اقتراب الفتن وفتح ردم يأجوج ومأجوج، ٤/٢٢٠٨، رقم٢٨٨٠.
69 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس٢/٣٨٤، والمحكم، ابن سيده ٧/٢٠٢.
70 لباب التأويل٤/٢٣٤.
71 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس٢/٢٥٩، جمهرة اللغة، ابن دريد ١/١١٤.
72 انظر: أضواء البيان، الشنقيطي٨/٤٦٧، تفسير جزء عم، مساعد الطيار ص١٤٣.
73 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس٥/٢٦٩، المحكم، ابن سيده ٩/٢٨٧.
74 جامع البيان٢٤/٢٣٢.
75 انظر: جمهرة اللغة، ابن دريد ١/٢٠١، معجم اللغة العربية المعاصرة، د. أحمد عمر ٢/٩٩٠.
76 انظر: تفسير مقاتل بن سليمان، ٤/٢١٥، الوسيط، الواحدي ٤/٥٤٢.
77 انظر: كتاب العين، الفراهيدي ٥/١٣٧.
78 انظر: تأويلات أهل السنة، الماتريدي ١٠/٥٩٧.
79 انظر: جمهرة اللغة، ابن دريد ١/٣٠٠، مقاييس اللغة، ابن فارس ١/٢١٠.
80 انظر: لباب التأويل، الخازن ٣/٤٥.
81 انظر: كتاب العين، الفراهيدي ١/٢١٥.
82 انظر: نفحات من علوم القرآن، محمد أحمد معبد ص١٠١.
83 الإعجاز العلمي إلى أين؟ ص١٦.
84 نفحات من علوم القرآن ص١٠٢.
85 انظر: دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني ص١٠٢.
86 انظر: إرشاد الساري، القسطلاني ٧/٣٢٦.
87 انظر: جامع البيان، الطبري٢٠/٦٦.
88 انظر: معترك الأقران في إعجاز القرآن، السيوطي٢/٦٣٦.
89 انظر: الإعجاز العلمي إلى أين؟، مساعد الطيار ص١٢١.
90 انظر: المعجزة الكبرى القرآن، أبو زهرة ص٣٧١.