عناصر الموضوع

مفهوم الاستئذان

الاستئذان في الاستعمال القرآني

الألفاظ ذات الصلة

الاستئذان لدخول البيوت

الاستئذان في النكاح

الاستئذان في الجهاد

الاستئذان للانصراف عن الأمر الجامع

الاستئذان

مفهوم الاستئذان

أولًا: المعنى اللغوي:

الهمزة والذال والنون أصلان أحدهما أذن كل ذي أذنٍ، والثاني العلم، وهو من استأذن يستأذن استأذانًا، والاستئذان يعني طلب الحصول على الإذن، واسم الفاعل مستأذِن، واسم المفعول مستأذَن، وإذن مفرد جمعها أذون، يقال: أذن له في الدخول أي: سمح وأباح له الدخول، والأذان هو الإعلام، وبالتالي فالمقصود بالاستئذان هو طلب السماح والإباحة والرخصة والإعلام1.

ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:

قال الجرجاني في تعريف الإذن: هو «فك الحجر وإطلاق التصرف لمن كان ممنوعًا شرعًا»2.

والتعريف الأدق للإذن هو: السماح باعتقاد الشيء، أو قوله، أو فعله مع إمكانية ترتب ثواب أو عقاب على إتيان المأذون به، أو تركه.

وبالتالي يكون تعريف الاستئذان اصطلاحًا: طلب السماح باعتقاد الشيء، أو قوله، أو فعله مع إمكانية ترتب ثواب أو عقاب على إتيان المأذون به، أو تركه.

مما سبق يظهر الترابط الوثيق بين تعريفي الاستئذان اللغوي والاصطلاحي، فكلاهما ضمن إطار السعي للحصول على الرخصة، والإباحة، وعدم الممانعة.

الاستئذان في الاستعمال القرآني

ورد الجذر (أ ذ ن) في القرآن الكريم (١٣٣) مرة، يخص موضوع البحث منها (١٢) مرة3.

والصيغ التي وردت هي:

الصيغة

عدد المرات

المثال

الفعل الماضي

٣

( ﯿ ) [التوبة:٨٦]

الفعل المضارع

٩

( ) [الأحزاب:١٣]

وجاء الاستئذان في القرآن بمعناه في اللغة وهو: طلب الإذن 4.

الألفاظ ذات الصلة

الإباحة:

الإباحة لغة:

من بوح، والباء والواو والحاء أصل واحد وهو الظهور، والإباحة مفرد، وهي ضد المحظور، وهي مصدر أباح، يقال: أباح الشيء: أي أحله، ويقال: أباح السر: أي أظهره ونشره وجهر به، ويقال: أباح الفعل: أي سمح وأجاز الإتيان به، والإباحة: هي التخيير بين الفعل والترك5.

الإباحة اصطلاحًا:

هي السماح بإتيان الفعل دون قيد أو شرط6.

الصلة بين الاستئذان والإباحة:

تستخدم كلمة استئذان لكل ما يتم طلب السماح به عن طريق السماع، أما كلمة إباحة فتستخدم لما يسمح به عقلًا أو سماعًا7.

الإجازة:

الإجازة لغة:

من جوز الجيم والواو والزاء أصلان أحدهما يدل على قطع الشيء والآخر يدل على وسطه، والإجازة مصدر أجاز، والإجازة مفرد وجمعها إجازات، والمقصود بها: الإذن أو الرخصة8.

الإجازة اصطلاحًا:

هي رفع الحرج عن إتيان الفعل9.

الصلة بين الاستئذان والإجازة:

الاستئذان: هو طلب السماح بالفعل قبل إيقاعه، أما الإجازة: فهي السماح بالفعل بعد إيقاعه10.

الاستئناس:

الاستئناس لغة:

من أنس الهمزة والنون والسين أصلٌ واحد، والاستئناس من أنس يأنس فهو آنس، وهو طلب الأنس، ومعنى أنس: ظهر، وألف، واطمأن، يقال: أنس بفلان، أي: اطمأن إليه11.

الاستئناس اصطلاحًا:

هو عبارة عن السكينة الحاصلة من جهة المجالسة12.

الصلة بين الاستئذان والاستئناس:

يظهر من خلال تعريفي الاستئذان والاستئناس أن الاستئذان هو طلب الإذن، بينما الاستئناس هو طلب الطمأنينة، وإذا أريد بالاستئناس طلب الإذن، فهذا يعني أن يكون الطلب مصحوبًا بالطمأنة للمستأذن.

المنع:

المنع لغة:

من منع الميم والنون والعين أصل واحد، والمنع من منع يمنع منعًا، أي: حرم، يقال: منعه من السفر، أي: حرمه إياه، ويقال: منع الشرع التدخين، أي: حرم الشرع التدخين، والمقصود بالمنع الحرمان والتحريم والصد والحجب والإمساك13.

المنع اصطلاحًا:

هو عدم السماح بإتيان الممنوع14.

الصلة بين الاستئذان والمنع:

بالنظر في تعريفي الاستئذان والمنع يمكن القول بأن الفارق بينهما هو أن الاستئذان هو طلب السماح بإتيان المأذون فيه، بينما المنع فهو عدم السماح بإتيان الممنوع.

الاستئذان لدخول البيوت

مما يدركه كل عاقل أن البيت هو مكان الراحة والسكون والتستر وقضاء الحاجات المتعددة، وبالتالي فإن الإنسان يعمل في بيته الكثير مما يواريه عن أنظار الآخرين؛ لذلك فقد جعل الله تعالى أحكامًا وآدابًا خاصة تضمن عدم التعدي على خصوصيات الآخرين عند دخول بيوتهم، وبيان ذلك كما يأتي:

أولًا: الاستئذان لدخول بيوت الآخرين:

١. البيوت المسكونة.

شرع الله تعالى لعباده جملة من آداب الاستئذان عند الرغبة في دخول بيوت الآخرين، وذلك في قوله تعالى: ( ﯻﯼ ﯿ Ô ﭚﭛ ﭠﭡ ﭤﭥ :) [النور: ٢٧-٢٨].

ينهى الله تعالى في هاتين الآيتين الكريمتين عباده عن دخول بيوت الآخرين إلا بعد الحصول على الإذن منهم للدخول إلى بيوتهم، والتسليم عليهم، ثم يوجه الله تعالى عباده إلى عدم الدخول في حال لم يجدوا أحدًا في البيوت التي قصدوها للزيارة أو غير ذلك، ويوجههم كذلك إلى الرجوع في حال طلب أصحاب تلك البيوت منهم ذلك15.

ويستفاد من الآيتين السابقتين جملةً من الآداب، منها:

  1. عدم جواز دخول بيوت الغير إلا بعد الحصول على موافقتهم.
  2. السلام قبل الاستئذان أو بعده.

    قال تعالى: ( ﯻﯼ ﯿ ) [النور: ٢٧].

    والمعنى أن الله تعالى ينهى عباده عن دخول بيوت الآخرين إلا بعد الاستئذان والسلام على أهل تلك البيوت16.

    ويلاحظ أن الله تعالى قد عطف جملة (تسلموا) على جملة (تستأنسوا) باستخدام حرف العطف (الواو)، ومن المعلوم أن الواو كحرف عطف إنما تفيد العطف والمشاركة17، وهذا يعني أن السلام قد يسبق الاستئذان، وقد يلحقه، فمن ذهب إلى أن الاستئذان يسبق السلام يكون قد وافق الترتيب الوارد في الآية الكريمة من سورة النور.

    ومن ذهب إلى أن السلام يسبق الاستئذان يكون قد وافق ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه فيمن يستأذن قبل أن يسلم قال: (لا يؤذن له حتى يبدأ بالسلام)18.

    وقيل: إذا وقع بصر المستأذن على أحد أفراد البيت المقصود قدم السلام، وإلا فيقدم الاستئذان19.

  3. عدم جواز النظر إلى عورات البيوت، وقد حرص الإسلام على التيسير على الناس عند قضائهم لحوائجهم المختلفة دون التسبب بالأذى أو الإحراج للآخرين، ومن ذلك تشريعه خلق غض البصر عما لا يليق بالمؤمن أن ينظر إليه.

    قال تعالى: ( ﭿ ﮄﮅ ﮈﮉ _ ) [النور: ٣٠-٣١].

    ومما لا يخفى على أحد ما لغض البصر من فوائد جمة، أهمها: تهذيب النفس، وتوطيد العلاقات بين أفراد المجتمع، وتعويد الأفراد على المحافظة على خصوصية الآخرين، وعدم التسبب بالإحراج لهم.

    والمناسبة بين آيتي غض البصر وما قبلها من الآيات التي فصلت أحكام الاستئذان هي:

    لما شرع الله تعالى أحكام الاستئذان لدخول بيوت الآخرين، ناسب أن يضبط الاستئذان بآداب، منها: غض البصر عن النظر إلى ما لا ينبغي للمؤمن أن ينظر إليه حين دخوله إلى بيوت الغير.

    وجاء في السنة المطهرة عن سهل بن سعدٍ، قال: اطلع رجلٌ من جحرٍ في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، ومع النبي صلى الله عليه وسلم مدرًى يحك به رأسه، فقال: (لو أعلم أنك تنظر، لطعنت به في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر)20.

    والحجر هو الثغر، والحجر جمع حجرة، والمدري حديدة يمشط بها الشعر21.

    يقول البقاعي: «إياكم ومشتبهات الأمور، فإذا وقفتم للاستئذان فلا تقفوا تجاه الباب، ولكن على يمينه أو يساره؛ لأن الاستئذان إنما جعل من أجل البصر، وتحاموا النظر إلى الكوى التي قد ينظر منها أحد من أهل البيت ليعرف من على الباب: هل هو ممن يؤنس به فيؤذن له، أو لا فيرد»22 .

  4. عدم جواز تخويف الآخرين عند قصد بيوتهم، يفهم ذلك من قوله تعالى: ( ).

    والاستئناس هو طلب الأنس23، وحصول الأنس إنما يكون في التلطف عند الاستئذان، والتسليم على من في البيوت المدخول فيها، وبالتعريف بالذات، وبتحديد الغرض من الزيارة وغير ذلك من الأمور التي تدخل الأنس لأصحاب البيوت المراد دخولها، وقد علم الله تعالى هذا الأدب الرفيع للملائكة عليهم السلام حين أرسلهم إلى نبيه إبراهيم عليه السلام.

    قال تعالى: ( × * ﭿ Y ` ﮓﮔ ) [الحجر: ٥١-٦٠].

    توضح هذه الآيات أن الملائكة عليهم السلام سلموا على إبراهيم عليه السلام حينما أرسلهم إليه ربهم جل وعلا، ثم ساقوا له البشرى، ثم عرفوه بما أسند إليهم من مهمات بخصوص قوم لوط المجرمين، وطمأنوه على سلامة نبي الله لوط عليه السلام من العذاب الذي سيحل بقومه24.

  5. وجوب الإحسان إلى الضيف الذي أحسن الاستئذان، ويتمثل ذلك الإحسان فيما يأتي:
    • وجوب رد التحية بمثلها أو بما هو أحسن منها.

      قال تعالى: (ﯿ ﰆﰇ ) [النساء: ٨٦].

      وقد علم ربنا جل وعلا عباده حسن الرد على التحية من خلال بيان أفضلية سلام نبيه إبراهيم عليه السلام من سلام الملائكة الذين أرسلوا إليه على هيئة ضيوف.

      قال تعالى: ( ﯤﯥ ) [الذاريات: ٢٥].

      فسلام الملائكة يقدر بـ (نسلم سلامًا) فجاء على تقدير وجود الفعل (نسلم)، بينما رد إبراهيم عليه السلام للتحية فجاء بالاسم (سلام) أي: سلامٌ ثابتٌ، ومن المعلوم أن الخطاب بالاسم يدل على الثبوت بينما الخطاب بالفعل يدل على التجدد25.

    • وجوب إكرام الضيف، وقد علمنا ذلك ربنا جل وعلا من خلال بيان سلوك نبيه إبراهيم عليه السلام مع ضيفه.

      قال تعالى: ( ° ﯤﯥ ¼ Ã) [الذاريات: ٢٤ - ٢٦].

      كما علمنا ذلك الخلق الرفيع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت)26.

    • في حال عدم التمكن من استقبال الضيف فيجب أن يكون رده حسنًا.
  6. في حال عدم حصول المستأذن على الإذن لدخول البيت المقصود بالزيارة فعليه أن يرجع، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المقام: (إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له، فليرجع)27.
  7. عدم جواز الدخول إلى البيوت المأهولة بالسكان أثناء فترة غيابهم عنها.
  8. مراعاة حال أهل البيت عند الاستئذان، ومما لا شك فيه أن أحوال العباد في تقلب مستمر، وبالتالي فقد يكون المرء في حال لا يمكنه من مخالطة الناس ومجاملتهم، وقد حصل ذلك فعلًا مع نبي الله لوط عليه السلام.

    وقد حكى القرآن الكريم قصة ذلك في قوله تعالى: ( ﭿ ﮃﮄ ) [العنكبوت: ٣٣].

    والمعنى أنه قد أصاب لوط عليه السلام الهم والضيق لما بعث الله تعالى إليه الملائكة على هيئة ضيوف؛ لخوفه من أن يخزيه قومه في ضيفه، فما كان من الملائكة إلا أن طمأنوه وبشروه بالنجاة هو ومن صلح من أهله من الهلاك الذي سيحل بقومه الفجرة28.

    ويفهم من قصة لوط عليه السلام أنه ينبغي على الناس مراعاة الظروف التي يمر بها الآخرين والتي قد تكون عصيبة في كثير من الأحيان.

    ومن هذا الباب دعا القرآن الكريم الزائرين إلى عدم الإلحاح على الآخرين عند الاستئذان منهم لدخول بيوتهم، وذلك في قوله تعالى: ( ﭚﭛ ﭠﭡ ﭤﭥ ) [النور: ٢٨].

    ويفهم من الآية الكريمة أنه في حال لم يُسمح للمستأذن بالدخول وطلب منه الرجوع، فعليه أن يلبي دون انزعاج؛ وذلك مراعاة لأحوال أهل البيت المقصود بالزيارة29.

    يقول سيد قطب رحمه الله: «ارجعوا دون أن تجدوا في أنفسكم غضاضة، ودون أن تستشعروا من أهل البيت الإساءة إليكم، أو النفرة منكم. فللناس أسرارهم وأعذارهم. ويجب أن يترك لهم وحدهم تقدير ظروفهم وملابساتهم في كل حين»30.

    وقد علم رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم أصحابه الكرام رضوان الله تعالى عليهم أدب مراعاة أحوال الناس عند زيارتهم فقد جاء في الحديث الصحيح عن أبي سعيدٍ الخدري، قال: كنت في مجلسٍ من مجالس الأنصار، إذ جاء أبو موسى كأنه مذعورٌ، فقال: استأذنت على عمر ثلاثًا، فلم يؤذن لي فرجعت، فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثًا فلم يؤذن لي فرجعت، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له فليرجع). فقال: والله لتقيمن عليه ببينةٍ، أمنكم أحدٌ سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبي ابن كعبٍ: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم، فكنت أصغر القوم فقمت معه، فأخبرت عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك31.

    ويفهم من هذا الحديث الشريف أنه لا بد من أن يراعى عند الاستئذان أمران، هما:

  1. أن يكون الاستئذان مسمعًا؛ ولذا كان التكرار ثلاثًا.
  2. عدم الإلحاح في طلب الإذن؛ ولذا كان الأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجوع في عدم إعطاء الإذن بعد الاستئذان ثلاثًا.

    ٢. البيوت غير المسكونة.

    قال تعالى: ( ﭵﭶ ) [النور: ٢٩].

    يبين الله تعالى لعباده أنه يباح لهم الدخول إلى البيوت الغير مسكونة بسبب ترك أصحابها لها، وذلك للانتفاع بها من خلال النوم فيها، أو تناول الطعام بداخلها أو غير ذلك من الحاجيات المأذون بها شرعًا32.

    ويستفاد من الآية السابقة جملةً من الآداب، منها:

    • يجب تحري المباحات في حال طلب الانتفاع بالبيوت غير المسكونة، والحذر من استخدامها في المحرمات، يفهم ذلك من قوله تعالى في فاصلة الآية التي تحدثت عن جواز الانتفاع بالبيوت غير المسكونة: ( )، فذكر الله تعالى ذلك ليحذر المؤمنون من استغلال تلك البيوت لارتكاب المحرمات33.
    • من الأدب المحافظة على البيوت الغير مسكونة صالحة لانتفاع الآخرين بها بعد الانتفاع بها لقوله تعالى: ( ).
    • جواز الدخول إلى الأماكن العامة دون استئذان؛ لكون هذه الأماكن معدة لاستقبال الزوار في جميع الأوقات التي تفتح هذه الأماكن أبوابها.

      ثانيًا: الاستئذان داخل البيت بين أفراد الأسرة وخدمهم:

      ١. إذا كانت الأبواب مفتوحة قبل البلوغ.

      علم الله تعالى عباده ضرورة المحافظة على نعمة الولد، ومن ذلك تعويدهم على عدم النظر إلى العورات، وعلى التأدب عند دخول الغرف، فقال تعالى: ( ﯚﯛ ﯨﯩ ﯬﯭ ﯳﯴ ﯹﯺ ﯿﰀ ) [النور: ٥٨].

      يوجه الله تعالى في هذه الآية الكريمة عباده المؤمنين إلى ضرورة تعليم العبيد والإماء والأطفال الصغار الذين لم يبلغوا سن الاحتلام أدب الاستئذان في أوقات ثلاث، الأول وقت ارتداء الثياب قبل صلاة الفجر، والثاني وقت القيلولة حين يكون تخفيف الملابس وقت الظهيرة، والثالث في موعد النوم بعد صلاة العشاء، ثم بين الله تعالى أن الأوقات الثلاثة المذكورة هي أوقات عورة، أما في غير هذه الأوقات فلا داعي للاستئذان عند الدخول إلى الغرف ما دامت الأبواب مفتحة، فهي أوقات حركة وتنقل ومخالطة بين الآباء وأولادهم، وكذا بين الأسياد وعبيدهم.

      ويستفاد من الآية السابقة ما يأتي:

    1. جواز دخول العبيد والإماء والأطفال الصغار الذين لم يبلغوا سن الحلم على أسيادهم وأوليائهم دون استئذان في جميع الأوقات عدا الأوقات الثلاث التي ذكرتها الآية الكريمة.
    2. ضرورة تعويد الأطفال على عدم النظر إلى العورات والمحرمات عمومًا حتى يسهل عليهم التحلي بخلق غض البصر عند البلوغ، وهذا ما عود عليه النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين، فعن عبد الله بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم الفضل بن عباسٍ يوم النحر خلفه على عجز راحلته، وكان الفضل رجلًا وضيئًا، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم للناس يفتيهم، وأقبلت امرأةٌ من خثعم وضيئةٌ تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطفق الفضل ينظر إليها، وأعجبه حسنها، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم والفضل ينظر إليها، فأخلف بيده فأخذ بذقن الفضل، فعدل وجهه عن النظر إليها، فقالت: يا رسول الله، إن فريضة الله في الحج على عباده، أدركت أبي شيخًا كبيرًا، لا يستطيع أن يستوي على الراحلة، فهل يقضي عنه أن أحج عنه؟ قال: (نعم)34 .
    3. ضرورة عدم إزعاج الغير في الأوقات التي تخصص للراحة بالعادة، فإذا كان من الواجب على الأطفال والعبيد والإماء أن يستأذنوا قبل الدخول على أوليائهم، فكيف بغيرهم من الناس.
    4. ضرورة مخالطة الآباء لأبنائهم، والأسياد لعبيدهم وإمائهم؛ من أجل تربيتهم على الأخلاق الطيبة، يفهم ذلك من قوله تعالى: ( )، وكيف للطفل أن يتعلم آداب الاستئذان إذا لم يتلق ذلك عن والديه، وكذا الأمر بالنسبة للعبد والأمة فيجب على الأسياد أن يخصصوا الأوقات الكافية لتعليمهم وتعويدهم على محاسن الأخلاق.
    5. ضرورة الإحسان عند اختيار الزوج أو الزوجة، فكيف للأب والأم أن يعلما الأبناء محاسن الأخلاق إذا لم يكونا ذوي أخلاق حسنة، وفي هذا المقام يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض، وفسادٌ عريضٌ)35. هذا عند اختيار الزوج، أما عند اختيار الزوجة، فقال صلى الله عليه وسلم: (تنكح المرأة لأربعٍ: لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين، تربت يداك)36، فكلا الحديثين الشريفين يحثان على اختيار ذي الخلق للزواج، وذلك حرصًا على إنتاج جيل صالح.

      ٢. إذا كانت الأبواب مفتوحة بعد البلوغ.

      قال تعالى: ( ﭛﭜ ﭡﭢ ) [النور: ٥٩].

      يبين الله تعالى في هذه الآية الكريمة أنه يجب على الأبناء الذين بلغوا سن الحلم أن يلتزموا خلق الاستئذان قبل دخولهم إلى غرف آبائهم أو إخوانهم، سواءٌ أكانت الأبواب مفتوحة أو مغلقة، وذلك في جميع الأوقات37.

      ويستفاد من الآية السابقة ما يأتي:

    1. وجوب استئذان الأطفال والرقيق على آبائهم وأسيادهم إذا بلغوا سن الحلم.
    2. وجوب استئذان البالغين من أفراد الأسرة عند دخولهم على بعضهم البعض، فقد جاء عن عطاءٍ قال: سألت ابن عباسٍ فقلت: أستأذن على أختي؟ فقال: نعم. فأعدت فقلت: أختان في حجري وأنا أمونهما وأنفق عليهما أستأذن عليهما؟ قال: نعم أتحب أن تراهما عريانتين؟! ثم قرأ قوله تعالى: ( ﯚﯛ ﯨﯩ )[النور: ٥٨]. قال: فلم يؤمر هؤلاء بالإذن إلا في هذه العورات الثلاث. قال: ( ) [النور: ٥٩]. قال ابن عباسٍ: فالإذن واجبٌ. زاد بن جريج: على الناس كلهم 38.
    3. من السنة للزوج أن يعلم زوجته بإرادته الدخول عليها من خلال التنحنح أو الطرق على الباب أو ذكر الله تعالى أو غير ذلك من سبل الإعلام، وذلك كي تستعد الزوجة لاستقبال زوجها بصورة تدخل السرور إلى قلب الزوج، وقد جاء عن الإمام أحمد بن حنبل أنه استحب لمن دخل على زوجته أن يتنحح39.
    4. ضرورة الإقرار بكمال علم الله تعالى وحكمته من خلال التأمل في عظمة تشريعاته، والتي منها خلق الاستئذان.

      ٣. إذا كانت الأبواب مغلقة في أي وقت، وفي أي سن، قبل البلوغ أو بعده.

      شرع الله تعالى خلق الاستئذان حتى لايقع البصر على ما لا يحل النظر إليه من العورات، وقد جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما جعل الاستئذان من أجل البصر)40.

      ومن المعلوم أن الفرد من الأسرة إذا أغلق باب غرفته على نفسه، فإنه يقصد بذلك منع الآخرين من باقي أفراد الأسرة والمتواجدين في البيت من النظر إليه، أو إلى ما ينوي القيام به، لذلك فإنه من الواجب على جميع من في البيت صغارًا كانوا أو كبارًا ألا يدخلوا إلى الغرف المغلقة إلا بعد الاستئذان والسماح لهم بالدخول.

    الاستئذان في النكاح

    1. حث الله تعالى عباده المؤمنين على النكاح، فقال تعالى: ( ﮖﮗ ) [الروم: ٢١].

      وقال تعالى: ( ﭗﭘ ﭟﭠ ) [النور: ٣٢].

      كما حث عليه أيضًا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: (من استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاءٌ)41.

      ومعنى الباءة هو القدرة على القيام باستحقاقات الزواج، أما معنى الوجاء فهو الوقاية42، وحتى يؤدي النكاح الأغراض المرجوة منه يجب أن يبنى على أصول وقواعد راسخة، ومن ضمن تلك الأصول والقواعد، النكاح بالاستئذان، أي: بطلب الإذن بنكاح المرأة من وليها، لذلك قال الله تعالى في كتابه العزيز: ( ﮑﮒ ﮕﮖ ﮙﮚ ﮦﮧ ﯔﯕ ﯚﯛ ﯟﯠ ) [النساء: ٢٥].

      يبيح الله تعالى في هذه الآية الكريمة لمن لا يستطيع نكاح الحرائر من النساء بسبب قلة ذات اليد، ويخشى على نفسه الفتنة أن ينكح المؤمنات من الإماء، شريطة أن يكن عفيفات غير عاهرات ولا متسترات بالزنا مع أصدقائهن السريين، وأن يطلبهن الراغب في نكاحهن من أهلهن، وأن تدفع إليهن مهورهن بالمعروف.

      ثم يبين الله تعالى حكم الأمة إذا ارتكبت فاحشة الزنا وهو خمسون جلدة، ثم يعقب الله تعالى بحث المؤمنين على الصبر والتريث حتى يتمكنوا من نكاح الحرائر43.

      ويستفاد من الآية السابقة مجموعة من الأحكام، وهي كما يأتي:

    1. من أهم وأولى أولويات التشريع الإسلامي صيانة المجتمع المسلم من انتشار الرذيلة بين أفراده.
    2. يجوز للمؤمن أن ينكح الأمة إذا خاف على نفسه العنت، أي: في حال خشي على نفسه الفتنة.
    3. وجوب دفع المهور للإماء في حال نكاحهن، ويجب ألا يقل المهر عن المتعارف عليه من مهور مثيلاتها من الإماء.
    4. وجوب الاستئذان من أهل الأمة وأخذ موافقتهم في حال الرغبة في نكاحها.
    5. تجلد الأمة خمسين جلدة إن ارتكبت الزنا.
    6. الأولى بالمؤمن أن يصبر ويتريث حتى يأتي الوقت الذي يتمكن فيه من نكاح الحرة، فنكاحها أفضل من نكاح الأمة.

      ولا يقتصر الاستئذان في النكاح على استئذان ولي المرأة المراد الزواج بها، وإن كان ذلك أمرًا ضروريًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأةٍ نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطلٌ، فنكاحها باطلٌ، فنكاحها باطلٌ)44.

      وإنما يتعدى ذلك إلى ضرورة الحصول على موافقة المرأة نفسها بكرًا كانت أم ثيبًا، وفي ذلك يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر يستأذنها أبوها في نفسها، وإذنها صماتها)45.

    الاستئذان في الجهاد

    1. يهدف الإسلام العظيم إلى إخراج الناس من الظلام إلى النور، ومن الجور إلى العدل، وليس لذلك أن يتحقق إلا بالقضاء على أعداء الإسلام، ولا يكون القضاء على أعداء الإسلام إلا بالجهاد في سبيل الله تعالى بالمال والنفس.

      أولًا: ليس من صفات المؤمنين الاستئذان في الجهاد:

      المؤمنون الأتقياء هم أكرم العباد عند الله تعالى.

      قال تعالى: ( ﭿﮀ ﮅﮆ ) [الحجرات: ١٣].

      وليس من المتوقع أبدًا من المؤمن التقي الذي شرفه الله تعالى، ورفع قدره من بين العباد أن يتخلف عن المشاركة في الجهاد في سبيل الله تعالى، ونصرة الحق، ثم يرضى بحياة الذلة والهوان، وهذا ما أقره الحق جل وعلا في قوله: ( ﭤﭥ ﭨﭩ = ﭷﭸ L) [التوبة: ٨٨-٨٩].

      وهذا الإخلاص الذي ترجمته فعال المؤمنين في كل المواطن التي كانت تتطلب البذل والفداء هو السبب الذي أكسبهم رضا الله تعالى عنهم.

      قال تعالى: ( ) [الفتح: ١٨].

      وفي سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ما يشهد للمؤمنين الأتقياء بالمسارعة والمسابقة في ميدان الجهاد في سبيل الله تعالى، وعدم خذلان الحق وأهله، ومن ذلك ما يأتي:

      ١. في غزوة بدر.

      في غزوة بدر لما طلب النبي صلى الله عليه وسلم المشورة من الصحابة الكرام وكان يريد رأي الأنصار منهم، (فقام سعد ابن معاذ رضي الله تعالى عنه، وقال: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: (أجل)، قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فو الذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجلٌ واحدٌ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصبرٌ في الحرب، صدقٌ في اللقاء. لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله)46.

      ٢. في غزوة مؤتة.

      في غزوة مؤتة لما علم جيش المسلمين بما أعده لهم الروم، وأخذ المسلمون يتشاورون في أمرهم، فأشار عليهم الصحابي الجليل عبد الله بن رواحة رضي الله عنه بقوله: «يا قوم والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهورٌ وإما شهادةٌ»47.

      فعلت حينها همم المسلمين، وانطلقوا لمواجهة عدوهم ذو العدد والعدة، غير مبالين بما قد يصيبهم في سبيل الله تعالى.

      ٣. في غزوة تبوك.

      في غزوة تبوك لما حرض النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين على الإنفاق في سبيل الله تعالى، أخذ الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم بالتسابق للبذل والفداء، فجاء عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بنصف ماله، وجاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه بكل ماله، ولم يبق لأهله شيئًا من المال وأوكل أمرهم لله تعالى، وجاء عثمان رضي الله تعالى عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بألف دينار، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها في حجره ويقول: (ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم مرتين)48.

      وجاء فقراء المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم راجين منه صلى الله عليه وسلم أن يحملهم معه إلى الجهاد في سبيل الله تعالى، فلما اعتذر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حملهم تولوا عنه وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا على ما ظنوا أنه قد فاتهم من الأجر عند الله تعالى49.

      قال تعالى: ( ﮡﮢ ﮧﮨ | ) [التوبة: ٩١-٩٢].

      ولا يقتصر بذل وعطاء المؤمنين على الرجال فقط، بل تعدى الأمر ذلك ليشمل الصغار والنساء أيضًا، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عليه الغلمان يوم أحد ليأذن لهم بالمشاركة بالغزو فيردهم لصغر سنهم، فيؤتى برافع بن خديج رضي الله عنه، وكان أحد الغلمان، فيقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنه رامٍ، ويتطاول رافع رضي الله عنه على خفيه، فيأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمشاركة في الغزوة، ثم يؤتى بسمرة بن جندب رضي الله عنه وكان أيضًا صغير السن، فيقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن سمرة يصرع رافعًا، فيطلب منهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتصارعا فيصرع سمرة رافعًا، فيأذن الرسول صلى الله عليه وسلم لكليهما بالمشاركة في الجهاد في سبيل الله تعالى50.

      وهذه الصحابية الجليلة أم سليم رضي الله عنها تأتي يوم حنين ومعها خنجر، فيسألها أبو طلحة رضي الله عنه عن هذا الخنجر الذي تحمله، فتقول له: «خنجرٌ أخذته معي، إن دنا مني أحدٌ من المشركين بعجته به»51.

      فهؤلاء هم المؤمنون الذين جمعوا بين الإيمان، والتقوى، والإحسان في طاعة الله تعالى، والتقرب إليه، والجهاد في سبيله، وذلك امتثالًا لما أمرهم الله تعالى به في قوله: ( ) [المائدة: ٣٥].

      وما كان ذلك الإقبال على الله تعالى من قبل المؤمنين الصادقين، إلا سعيًا منهم لنيل رضا الله تعالى، وإلا ليكون تعالى معهم ناصرًا ومؤيدًا، وذلك مصداقًا لقوله تعالى: ( ﮤﮥ ) [العنكبوت: ٦٩].

      ثانيًا: استئذان المنافقين عن الجهاد:

      تحدثت آيات القرآن الكريم عن أساليب المنافقين في المرواغة للتنصل من تنفيذ ما يصدره الشارع الحكيم من أوامر وتشريعات، خصوصًا ما كان منها يعلي منزلة المؤمنين، ويحط مكانة الكافرين، وفي مقدمة تلك التشريعات الجهاد في سبيل الله تعالى الذي يعد من أبرز ما يظهر المنافقين على حقيقتهم، ويكشف زيفهم، فهم يبتكرون دائمًا الآليات التي تعفيهم من المشاركة في جهاد أعداء الله تعالى.

      وقد وضع القرآن الكريم حدًا لهؤلاء المنافقين الذين يستأذنون للتخلف عن الجهاد بأعذار واهية تارة، وأخرى يتظاهرون برغبتهم المشاركة في الجهاد، فبين أحوالهم، وحذر منهم، وبيان ذلك كما يأتي:

      استئذان المنافقين للتخلف عن الجهاد:

      شرع الله تعالى الجهاد في سبيله لتبقى كلمته هي العليا، وليبقى أهل الإيمان في عزة وكرامة، ولما كان الجهاد بذل وتضحية وعطاء فقد لزم معه التمييز بين المؤمن الصادق المطمئن، وبين المنافق الكاذب المضطرب، فالمؤمن الصادق الواثق بنصر الله تعالى يقدم على البذل والتضحية في سبيل الله تعالى بلا تردد، فكان بذلك جديرًا بشهادة الله تعالى على صدقه وثباته.

      قال تعالى: ( ﭘﭙ ﭠﭡ ) [الأحزاب: ٢٣].

      وأما المنافق الكاذب المرتاب فيبحث له عن مخرج ينفذ من خلاله إلى التهرب من البذل والتضحية في سبيل الله تعالى، كما تظهر على قسمات وجهه علامات الجبن والخوف لمجرد سماعه لآيات الدعوة إلى القتال في سبيل الله تعالى، وفي هذا يقول الله تعالى: ( ﭖﭗ ﭞﭟ ﭫﭬ ) [محمد: ٢٠].

      وهؤلاء توعدهم الله تعالى بالعذاب الأليم في الآخرة كما في قوله تعالى: ( ﭟ ﭠ ﭦ ﭧ) [يونس: ٧- ٨].

      ومن الأعمال التي يعكف هذا الصنف السيئ من الناس عليها الاستئذان لعدم مشاركة المؤمنين في الجهاد في سبيل الله تعالى، وقد ذكرت غير آية من كتاب الله تعالى ذلك العمل السيء.

      ١. إبراز تخاذل منافقي المدينة عن الخروج للجهاد في سبيل الله تعالى مع المؤمنين في غزوة الخندق.

      قال تعالى: ( ﯕﯖ ﯡﯢ ﯿﰀ ﭯﭰ ﭿ ﮄﮅ ﮍﮎ ﮛﮜ ﮥﮦ ﮬﮭ ) [الأحزاب: ١٢- ١٩].

      يذكر الله تعالى لعباده ما كان من المنافقين يوم الخندق حيث إنهم أخذوا بالتشكيك بوعد الله تعالى لعباده المؤمنين بنصرهم وتمكينهم، كما أنهم قاموا ببث الفتنة بين صفوف المؤمنين من خلال تحريضهم على التراجع عن مواجهة الأحزاب، كما أنهم قاموا بالاستئذان من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسمح لهم بملازمة بيوتهم بحجة أن بيوتهم منكشفة للأعداء.

      ثم بيَن الحق جل وعلا أن بيوتهم ليست كذلك، وأن القضية أنهم يسعون للفرار من المشاركة مع المؤمنين في الجهاد في سبيل الله تعالى، ثم يكشف الله تعالى عن جاهزية المنافقين التامة لاعتناق أي معتقد شركي في حال كان هذا هو السبيل للنجاة من بطش الأحزاب، وذلك مع أنهم سبق لهم وأن عاهدوا الله تعالى أن يثبتوا أمام الأعداء، وألا يفروا أبدًا.

      ثم يبين سبحانه أن هؤلاء المنافقين سيسألون عن عهودهم يوم القيامة، وسيحاسبون عليها أشد الحساب، ثم يبين الله تعالى أن الفرار من ملاقاة الأعداء لا يطيل عمرًا، ولا يرد سوءًا، وأنه لا راد لأمره أبدًا، سواءٌ أراد لعباده شرًا من هزيمةٍ أو هلاكٍ أو نحو ذلك، أو أراد لهم خيرًا من نصرٍ أو نجاةٍ أو نحو ذلك؛ فهو سبحانه الولي والنصير.

      ثم يبين سبحانه أنه على علم تام بأعمال المنافقين الخبيثة وصفاتهم القذرة والتي تتمثل بتثبيط المؤمنين عن الجهاد في سبيل الله تعالى، واعتذارهم عن المشاركة فيه بأعذار واهية أو كاذبة، وعدم قتالهم للمشركين إذا تواجدوا في الغزوات مع المؤمنين، وارتعابهم الشديد عند ملاقاة الأعداء، وتعمدهم الإساءة للمؤمنين ورسولهم صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك فضلًا عن كفرهم بالله تعالى.

      ثم بيَن سبحانه أن عقوبة أولئك المنافقين هي إحباط العمل في الآخرة، وأن تنفيذ هذه العقوبة هو أمر يسير عليه سبحانه؛ فهو على كل شيءٍ قدير52.

      ومما يستفاد من الآيات الكريمة ما يأتي:

    1. يعكف المنافقون على تشكيك المؤمنين بوعد الله تعالى لهم بالنصر والتمكين، ومن أبرز الشواهد على ذلك ما كان من المنافقين يوم الأحزاب حين قاموا بعملين أساسيين هما:
      • تثبيط المؤمنين عن الرباط مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرب من الخندق.
      • الاستئذان من رسول الله صلى الله عليه وسلم للمكوث في البيوت بحجة أنها عورة، والحق أنها ليست بعورة.
    2. المنافقون على أتم الجاهزية لاعتناق أي معتقد مخالف للعقيدة الإسلامية في حال تم عرض ذلك عليهم من قبل أعداء الإسلام.
    3. المنافقون كاذبون فيما يصدر عنهم من عهود ومواثيق في عدم التولي عن نصرة الإسلام.
    4. الفرار من أرض المعركة لا يطيل عمرًا، والبقاء فيها لا يقصر أجلًا.
    5. النفع والضرر بيد الله تعالى وحده، وليس لأحد أن يدفع ضررًا أو نفعًا كتبه الله تعالى. ويؤكد هذا المعنى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في قوله ابن عباس رضي الله عنهما: (يا غلام إني أعلمك كلماتٍ، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيءٍ لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)53.
    6. يعمد المشركون إلى تثبيط المسلمين عن نصرة الدين، وذلك من خلال تحقير إمكانات قوى الإيمان، مقابل تعظيم إمكانات قوى الكفر.
    7. المنافقون إما أن تظهر عليهم علامات الخوف والجبن الشديدين في أوقات الشدة، وإما أن يسلطوا ألسنتهم الحادة للسخرية من الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وكيل الشتائم لهم.

      ٢. إبراز تخاذل منافقي الأعراب عن الخروج للجهاد في سبيل الله تعالى مع المؤمنين، والتعذر لذلك باعذار كاذبة.

      قال تعالى: ( ﭿ ﮇﮈ ) [التوبة: ٩٠].

      يبين الله تعالى موقف الأعراب السلبي من الخروج للجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث إنهم كانوا يقدمون له الأعذار الواهية ليقعدوا عن الجهاد في سبيل الله تعالى ونصرة الدين، ثم توعدهم الله تعالى بالعذاب الأليم لكفرهم وفجورهم54.

      ويستفاد من الآية الكريمة ما يأتي:

      • ضعفاء الإيمان يختلقون الأعذار للتخاذل عن نصرة الحق، وهذا ليس من صفات المؤمنين الصادقين.
      • يسلب الله تعالى ضعفاء الإيمان الحكمة في القول، فتكون عباراتهم مضطربة، وحججهم واهية.
      • العذاب الأليم هو المصير الذي ينتظر الكاذبين على الله تعالى، ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.

        ٣. إبراز تخاذل منافقي المدينة عن الخروج للجهاد في سبيل الله تعالى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.

        قال تعالى: ( ﭬﭭ ﭿ ﮓﮔ ﮦﮧ ﯧﯨ ﭨﭩ ﭭﭮ ﭷﭸ ﭿ ﮄ ﮅ) [التوبة: ٤٢-٥٠].

        يبين الله تعالى لعباده أن المنافقين لا يترددون في الخروج إلى الأسفار التي يجنون منها المرابح الدنيوية، أما الأسفار التي يبتغى فيها وجه الله تعالى ونصرة الدين فيختلقون الأعذار الواهية لعدم الخروج فيها رغبةً منهم في خذلان الحق، وفرارًا من البذل والتضحية في سبيل الله تعالى، ثم يعاتب الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم على سماحه للمنافقين بالتخلف عن الخروج في غزوة تبوك وكان الأولى هو عدم السماح لهم بالتخلف؛ لأن في ذلك كشفًا لنفاقهم، ثم يبين الله تعالى أن المؤمنين الصادقين لا يختلقون الأعذار للتخلف عن الخروج للجهاد في سبيل الله تعالى، وأن الاستئذان للتخلف عن الجهاد في سبيل الله تعالى هو سمة المرتابين من الذين لايؤمنون بالله تعالى ولا باليوم الآخر، كما يبين أن هؤلاء المرتابين يبيتون النية لعدم المشاركة مع المؤمنين في الجهاد، والدليل على ذلك هو امتناعهم عن الإعداد للخروج مع المجاهدين.

        ويبين أيضًا أن عدم خروج المنافقين إلى الجهاد يصب في مصلحة المؤمنين؛ لأن وجود المنافقين في صفوف المؤمنين من أبرز عوامل الاضطراب والخلل لتلك الصفوف.

        ثم يحذر الله تعالى المؤمنين من الانجرار خلف هؤلاء المتخاذلين عن نصرة الحق من خلال الاستماع أو التداول والنقل لأقوالهم التي يعمدون من خلالها إلى بث الفتن، وتثبيط العزائم أثناء فترات الصراع بين الإيمان والكفر من قبل أن يأذن الله تعالى للحق أن ينصر، ولكلمته أن تعلو.

        ثم يبرز الله تعالى خبث المنافقين من خلال عرضه لما قاله بعضهم ليستأذنوا للتخلف عن الخروج للجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن أحد المنافقين قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ائذن لي في التخلف عن المشاركة في جهاد الروم؛ لئلا أفتتن في نسائهم الجميلات فأقع في المحظور، ثم يبين الله تعالى أن المنافقين قد وقعوا أكثر المحظورات خطورة، وأشدها عقوبة حين أبطنوا الكفر وأظهروا الإيمان 55.

        ويستفاد من الآيات السابقة ما يأتي:

      1. المنافقون لا يترددون في الخروج إلى الأسفار التي يجنون منها المرابح الدنيوية، أما الأسفار التي يبتغى فيها وجه الله تعالى ونصرة الدين فيختلقون الأعذار الواهية لعدم الخروج رغبةً في خذلان الحق، وفرارًا من البذل والتضحية في سبيل الله تعالى.
      2. المنافقون يحلفون بالله تعالى الأيمان الكاذبة ليعتذروا عن الخروج للجهاد في سبيل الله تعالى.
      3. الأولى ألا يأذن القائد المسلم للمتخاذلين عن الجهاد في سبيل الله تعالى ونصرة الحق، يفهم ذلك من معاتبة الله تعالى لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم على إعطائه الإذن للمنافقين للقعود عن الخروج للجهاد في سبيل الله تعالى في غزوة تبوك، وذلك في قوله تعالى: ( ﭿ ).
      4. المؤمن لا يستأذن للقعود عن نصرة دين الله تعالى وإعلاء كلمته.
      5. التردد في اتخاذ قرار الخروج للجهاد في سبيل الله تعالى ونصرة الحق علامة من علامات النفاق.
      6. استئذان المنافقين لعدم الخروج للجهاد أمر ناجم عن حيرتهم وشكهم المصحوب بالقلق.
      7. ترك الإعداد للجهاد في سبيل الله تعالى ماديًا ومعنويًا دليل واضح على نيتهم المبيتة لخذلان الحق وأهله وهذا ما يفهم من قوله تعالى: ( ) فلو هي أداة امتناع لامتناع، فامتنع الجواب (إعداد العدة) لامتناع الشرط (إرادة الخروج).
      8. يكره الله تعالى خروج المنافقين في صفوف المؤمنين الصادقين المجاهدين، للأسباب الآتية:
        • لخبث نواياهم تجاه الإسلام والمسلمين.
        • لأن موقفهم يكون متخاذلًا عند المواجهة مع الأعداء، وهذا قد يؤدي إلى انكشاف ظهر المسلمين، وربما يؤدي إلى انهزامهم أمام أعدائهم.
        • لأنهم يبثون روح الهزيمة في نفوس المؤمنين، وربما يؤدي ذلك إلى تقاعس البعض ممن لم يستقر الإيمان في قلوبهم.
      9. المنافقون لا يفترون من السعي للقضاء على الدولة الإسلامية، يفهم ذلك من قوله تعالى: ( )، في هذه الآية الكريمة يذكر الله تعالى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بموقف المنافقين في غزوة أحد، حيث رجع رأس النفاق عبد الله بن سلول بجزء من الجيش رغبةً منه في انهزام المسلمين والقضاء على دولتهم.
      10. المنافقون يستاؤون من انتصار المؤمنين، وحصول المسرات لهم، وفي المقابل يفرحون بانهزام المسلمين، وحصول المكاره لهم.

        وقال تعالى في موضع آخر: ( ﯭﯮ ﭕﭖ ﭡﭢ ﭹﭺ ﭼﭽ ﭿﮀ ﮋﮌ ) [التوبة: ٩٣ - ٩٦].

        يبين الله تعالى لعباده أن الإثم في الاستئذان عن الجهاد إنما يكون على الذين يستأذنون للتخلف عن الجهاد في سبيل الله تعالى مع قدرتهم على البذل والعطاء، ليقعدوا في بيوتهم كما يقعد النساء والصبيان، ثم يعقب سبحانه ببيان أن تخلف أولئك الأغنياء مرتبط بالكفر والطغيان والغفلة عن وخامة العاقبة المترتبة على تخلف المقتدرين عن الجهاد في سبيل الله تعالى.

        ثم يبين سبحانه أن المنافقين يستقبلون المؤمنين العائدين من الغزو بالاعتذارات لعدم مشاركتهم في الجهاد في سبيل الله تعالى، ثم أعقب سبحانه بتلقين المؤمنين الرد على هؤلاء المنافقين، والمتمثل في تكذيبهم وإعلامهم بأن الله تعالى قد كشف أمرهم وكذبهم، وأن الله تعالى مطلع على أعمالهم في الدنيا، وأن مردهم إليه في الآخرة وحينها سيخبرهم بما قدموا من أعمال في الدنيا، ثم سيحاسبهم عليها.

        ثم يبين سبحانه للمؤمنين أن هؤلاء المنافقين المتخلفين عن الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سيحلفون للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الأيمان الكاذبة لتبرير تخلفهم عن الغزو معهم، وبالتالي عدم حصول التأنيب لهم، فأرشد الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إلى ترك تأنيبهم، وتخليتهم وما اختاروا لأنفسهم من النفاق، وسوء العاقبة.

        ثم يؤكد الله تعالى أن علة الأيمان التي يحلفها المنافقون هي محاولة كسب رضا المؤمنين عنهم، ثم عقب سبحانه ببيان أنه لو رضي المؤمنون عن المنافقين، فإن ذلك الرضى لا يستلزم رضاه جل وعلا عن أولئك المتخاذلين المتخلفين عن الجهاد والبذل والتضحية56.

        ومما يستفاد من الآيات السابقة ما يأتي:

      1. لا عذر عند الله تعالى للذين يتخلفون عن الجهاد في سبيله بأموالهم وأنفسهم وهم قادرون على البذل والتضحية نصرة للإسلام والمسلمين.
      2. الكفر بالله تعالى، والغفلة عن جزائه، والجهل بعذابه، هي الأسباب التي أدت بالمنافقين إلى التخلف عن الجهاد في سبيل الله تعالى.
      3. اختلاق الاعتذارات الكاذبة أو الواهية هو من طباع المنافقين لتبرير تخلفهم عن الجهاد في سبيل الله تعالى.
      4. أنسب الردود على المنافقين هو مطالبتهم بالكف عن تقديم الأعذار، ومقاطعتهم، والإعراض عنهم.
      5. الغاية من الأيمان التي يحلفها المنافقون للمؤمنين هي محاولة نيل رضاهم.
      6. لا يرضى الله تعالى عن المنافقين؛ لأنهم كفروا به، وتخلفوا عن نصرة دينه.

        ولا تقتصر أعمال المنافقين الخبيثة على التخلف عن الجهاد في سبيل الله تعالى، بل تتعدى ذلك إلى محاولة حث المؤمنين على التخلف عن الجهاد في سبيل الله تعالى، ومن الآيات التي تحدثت عن ذلك قوله تعالى: ( ﭿﮀ ﮅﮆ ) [التوبة: ٨١].

        ومما يستفاد من الآية السابقة ما يأتي:

      1. ينتاب المنافقين حالةٌ من الفرح حينما يقعدون عن المشاركة في الجهاد في سبيل الله تعالى، وعلة ذلك أنهم كارهون للإسلام الذي يحمل أتباعه مسؤولية المحافظة على أمن وعزة وكرامة المجتمع الذي وضعت أسسه، وأرست دعائمه أحكام الشريعة الإسلامية، وبالتالي فهم يبخلون على المؤمنين مع امتلاكهم لمقومات الدعم والنصرة.

        قال تعالى: ( ﯧﯨ ﯿ ﰇ ﰈ) [التوبة: ٨٥- ٨٦].

        يبين الله تعالى في هاتين الآيتين الكريمتين عدم انتفاع المجرمين بأموالهم، ولا أولادهم ففي الدنيا يكونون عليهم همًا وغمًا، وعند الموت حسرةً، ويوم القيامة عند السؤال ندامةً، كما يبين الله تعالى أن موقف زعماء ووجهاء المنافقين عند نزول سورة تأمر بالإيمان والجهاد في سبيل الله تعالى، وهو الاستئذان من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسمح لهم بالقعود عن الجهاد في سبيل الله تعالى على الرغم من كثرة أموالهم، ورجاحة عقولهم57.

      2. يكره المنافقون أن يكون هنالك أيًا من مصادر الدعم المادي أو المعنوي، ويسعون جاهدين لقطع كافة سبل الإمداد عنهم، يظهر ذلك جليًا من خلال أمرين، هما:
        • الإمساك عن توفير أي دعم للمؤمنين من أجل تقوية شوكتهم.
        • تحريض من يمكنهم تحريضه من المسلمين لعدم المشاركة في الجهاد في سبيل الله تعالى.

          فرح المنافقون بتخلفهم عن الجهاد في سبيل الله تعالى في غزوة تبوك، وشعروا أنهم قد حققوا إنجازًا عظيمًا على صعيد محاربة الإسلام، وزعزعة صفوف المسلمين، ولكن سرعان ما فضحت آيات سورة التوبة خباياهم، ووصفتهم بما يميزهم عن المؤمنين، وعاقبتهم على تخلفهم عن غزوة تبوك.

          فقال تعالى: ( ﭿﮀ ﮅﮆ ﮤﮥ ﮭ ﮮ) [التوبة: ٨١ - ٨٣].

          تبيَن الآيات الكريمة موقف المنافقين الذين تخلفوا عن الخروج مع الرسول صلى الله عليه وسلم من الجهاد والمجاهدين، أما موقفهم من الجهاد فهو الكراهية، سواءٌ أكان الجهاد بالمال أو بالنفس، أما موقفهم من المجاهدين فهو السعي لتثبيطهم عن الخروج للجهاد في سبيل الله تعالى، فردت عليهم الآيات ببيان أن فرحهم وضحكهم سيعقبه الوبال والهلاك لهم في الآخرة، كما أمرت الآيات النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم ألا يسمح لهم بالخروج للجهاد في سبيل الله تعالى بسبب تخلفهم عن الجهاد في غزوة تبوك بدون أي عذر مقبول 58.

          ويستفاد من الآيات ما يأتي:

        1. الفرح بالتخلف عن الجهاد في سبيل الله تعالى بالمال والنفس من أظهر علامات النفاق.
        2. الصبر على مشقة الجهاد في سبيل الله تعالى في الدنيا خير من الصبر على عذاب الله في الآخرة، كما أن الله تعالى يؤمِن المجاهد في سبيل الله تعالى من نار جهنم في الآخرة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمع غبارٌ في سبيل الله عز وجل ودخان جهنم في منخري مسلمٍ أبدًا)59.
        3. العذاب الأليم هو المصير الذي سيلقاه المنافقون يوم القيامة، يفهم ذلك من قوله تعالى: ( ).
        4. عاقب الله تعالى المنافقين الذين تخلفوا عن الخروج في غزوة تبوك بعدم السماح لهم بالخروج للجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبدًا.

          قال تعالى: ( ﮤﮥ ) [التوبة: ٨٣].

          ثانيًا: من يشرع لهم بالاستئذان عن الجهاد:

          على الرغم من أن الشريعة الإسلامية قد حثت على المشاركة في الجهاد في سبيل الله تعالى، وحذرت من مغبة ترك هذه العبادة العظيمة، إلا أنها سمحت لفئات من المؤمنين بعدم المشاركة في ما لا يطيقونه من أعمال الجهاد التي يقوى عليها غيرهم من الأقوياء، وهؤلاء الأصناف هم المذكورون في قوله تعالى: ( ﮡﮢ ﮧﮨ ) [التوبة: ٩١ - ٩٢].

          كما جاء ذكر أصناف أخرى في قوله تعالى: ( ﭻﭼ ﭿ ﮆﮇ ) [الفتح: ١٧].

          وتفصيل هذه الأصناف كما يأتي:

          ١. الضعفاء.

          يشمل لفظ الضعفاء عدة أصناف منها: صغار السن لضعف أبدانهم، والمجانين لضعف عقولهم، والطاعنين في السن لوهن أجسادهم، والنساء لعدم قدرتهن على حمل السلاح ومواجهة الأعداء، وأصحاب العاهات التي تحول دون القدرة على القيام بأعمال الجهاد الشاقة60.

          وقد جاء عن البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال: لما نزل قوله تعالى: ( ) [النساء: ٩٥].

          دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت فكتبها، فجاء عبد الله ابن أم مكتوم، فشكا ضرارته61، فأنزل الله تعالى: ( ) [النساء: ٩٥]62.

          ٢. المرضى.

          والمراد هنا بالمرضى هم أصحاب الأمراض التي تحول بينهم وبين القدرة على القيام بأعمال الجهاد في سبيل الله تعالى63.

          وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن بالمدينة لرجالًا ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا، إلا كانوا معكم، حبسهم المرض)64.

          ٣.الذين لا يجدون ما ينفقون.

          وهؤلاء هم الفقراء الذين لا يملكون التكاليف التي تمكنهم من المشاركة في الجهاد في سبيل الله تعالى، فهؤلاء معذورون شرعًا لعدم المشاركة في الجهاد حتى وإن كانت لديهم القدرة البدنية على مواجهة الأعداء.

          يقول سيد طنطاوي في شرح معنى قوله تعالى: ( ) «هم الفقراء القادرون على الحرب، ولكنهم لا يجدون المال الذين ينفقونه في مطالب الجهاد، ولا يجدون الرواحل التي يسافرون عليها إلى أرض المعركة»65.

          ٤. الذين اعتذر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اصطحابهم للجهاد في غزوة تبوك لعدم توفر ما يحملهم عليه من الركوبة.

          وهؤلاء قوم جاؤوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل غزوة تبوك ليحملهم معه لغزو الروم فاعتذر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدم قدرته من توفير الركوبة لهم، فتولوا وهم يبكون، وهذا ما ورد في سبب نزول قوله تعالى: ( ) [التوبة: ٩٢]66.

          فهؤلاء لا إثم عليهم لعدم مشاركتهم في الجهاد في سبيل الله تعالى.

          وقد ذكر الله تعالى هذه الأصناف لتمييزهم عن الذين لم يقبل الله تعالى أعذارهم الواهية للقعود عن الجهاد في سبيل الله تعالى، ولطمئنة هؤلاء المؤمنين الصادقين الذين حبسهم العذر عن الخروج للجهاد في سبيل الله تعالى على أجرهم عند الله تعالى.

          وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال وهو راجع من غزوة تبوك: (إن بالمدينة أقوامًا، ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم)، قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة؟ قال: (وهم بالمدينة، حبسهم العذر)67.

          وقوله صلى الله عليه وسلم: (إلا كانوا معكم) فيه دليل على أنه من حبسه العذر عن القيام بأعمال الخير مع نيته فيها، فقد وقع أجره على الله تعالى 68.

        الاستئذان للانصراف عن الأمر الجامع

        1. الإسلام هو دين الجماعة فهو أمر عظيم لا يقوى على تحمل أعبائه وتحقيق مقاصده الأفراد، وللحفاظ على الجماعة وصيانة حقوقها فقد حث الإسلام على لزومها، وحذر من مفارقتها، وجعل الاستئذان شرطًا للانسحاب منها لقضاء بعض الحاجيات المختلفة.

          قال تعالى: ( ﭠﭡ ﭩﭪ ﭵﭶ ) [النور: ٦٢].

          يبين الله تعالى أن الأدب هو الصفة الأبرز للمؤمنين، فهم لا يغادرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعد أخذ الإذن والموافقة منه صلى الله عليه وسلم، ثم يذكر الله تعالى أن التربية الإيمانية هي السبب في تأدب أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يوجه الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم لإعطاء الإذن للمؤمنين إذا أراد ذلك، كما يحثه على الاستغفار للمؤمنين، ثم يعلل الله تعالى حثه نبيه صلى الله عليه وسلم على الاستغفار للمؤمنين بأنه تعالى متصفٌ بالمغفرة والرحمة69.

          ويستفاد من الآية السابقة ما يأتي:

        1. وجوب المحافظة على النظام عند حضور الجماعة، وهذا يقتضي عدم الانسحاب من الجماعة إلا بموافقة زعيمها.
        2. وجوب مراعاة ظروف أفراد الجماعة من قبل سيدهم، وهذا يقتضي إعطاءهم الإذن حال استئذانهم لقضاء بعض مصالحهم.
        3. وجوب اتصاف المسؤول عن الجماعة بالرحمة، وهذا يقتضي الدعاء لهم بالخير، وكذلك الاستغفار لهم.

          كما ذم الله تعالى المنافقين لانسحابهم من مجالس النبي صلى الله عليه وسلم وجعل من هذا الخلق الذميم علامة فارقة تميز بين المؤمن والمنافق.

          قال تعالى: ( ﭿ ﮃﮄ ﮋﮌ ) [النور: ٦٣].

          ينهى الله تعالى عباده عن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم كدعاء بعضهم لبعض، ثم يبين الله تعالى عادة المنافقين المنافية للأدب الواجب التزامه مع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وهو التسلل للانسحاب من مجالسه صلى الله عليه وسلم خفية من دون أن يطلبوا الإذن لذلك، ثم يعقب الله تعالى بتحذير أولئك الذين يخالفون أمر الله تعالى بوجوب لزوم الأدب مع رسوله صلى الله عليه وسلم، من مغبة غضبه، وقسوة عقوبته70.

          ويستفاد من هذه الآية ما يأتي:

        1. وجوب توقير رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذكره، سواءٌ بالقول أو بالكتابة أو بالإشارة، وذلك بنعته برسول الله أو بأي نعت يليق به صلى الله عليه وسلم وكذا بالصلاة عليه.
        2. الذهاب من مجالس العلماء والدعاة دون استئذانهم أمر فيه سوء أدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فالعلماء هم ورثة الأنبياء، وكذا الأمر بالنسبة للدعاة، فالرسول صلى الله عليه وسلم داعية إلى الله تعالى، يشهد لذلك ما قاله الله تعالى مخاطبًا الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ﭨ ﭩ) [الأحزاب: ٤٥-٤٦].
        3. إهانة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد أبرز الأسباب الموجبة لغضب الله تعالى.

          موضوعات ذات صلة:

          البيوت، الجهاد، العلاقات الاجتماعية


1 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ١/٧٥، معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد عمر ١/٧٧- ٧٩.

2 التعريفات، ص١٦.

3 انظر: المعجم المفهرس، محمد فؤاد عبد الباقي، ص ٢٥- ٢٦.

4 انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني، ص٧١.

5 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس١/٣١٥، تاج العروس، الزبيدي٦/٣٢٣، معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد عمر ١/٢٦٠.

6 انظر: التعريفات، الجرجاني، ص٨.

7 انظر: الفروق اللغوية، العسكري١/٢٢٨.

8 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس١/٤٩٤، معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد عمر٢/٤٢٠.

9 انظر: فصول البدائع، شمس الدين الفناري ٢/٣٥.

10 انظر: الفروق اللغوية، العسكري، ص٣٣.

11 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ١/١٤٥، معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد عمر ١/١٢٨.

12 انظر: الكليات، الكفوي، ص١١٥.

13 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس٥/٢٧٨، معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد عمر ٣/٢١٢٨.

14 انظر: تفسير ابن عرفة، ٣/٧٧.

15 انظر: تأويلات أهل السنة، الماتريدي ٧/٥٤٠- ٥٤٢.

16 انظر: تفسير السمرقندي٢/٥٠٧.

17 انظر: أوضح المسالك إلى ألفية بن مالك، ابن هشام ٣/٣١٧.

18 أخرجه البخاري في الأدب المفرد، باب الاستئذان غير السلام ص٣٦٦، رقم ١٠٦٦.

وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد.

19 انظر: لباب التأويل، الخازن٣/٢٩١.

20 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاستئذان، باب الاستئذان من أجل البصر ٨/٥٤، رقم ٦٢٤١.

21 انظر: الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري، الكرماني ٢٢/٨٣.

22 نظم الدرر، ١٣/٢٥٢.

23 انظر: معجم وتفسير لغوي لألفاظ القرآن، حسن الجمل ١/١٢٠.

24 انظر: تفسير الشعراوي ١١/٦٥٤٩.

25 انظر: المصدر السابق ١١/٦٥٤٩.

26 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره، ٨/١١، رقم ٦٠١٨.

27 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الآداب، باب الاستئذان، ٣/١٦٩٤، رقم٢١٥٣.

28 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٢٥/٥٢، فتح البيان، القنوجي ١٠/١٨٩.

29 انظر: تفسير القرآن، السمعاني ٣/٥١٨، لباب التأويل، الخازن٣/٢٩١.

30 في ظلال القرآن ٤/٢٥٠٨.

31 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاستئذان، باب التسليم والاستئذان ثلاثًا، ٨/٥٤، رقم٦٢٤٥.

32 انظر: لباب التأويل، الخازن ٣/٢٩١.

33 انظر: تأويلات أهل السنة، الماتريدي ٧/٥٤٣.

34 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاستئذان، باب ٨/٥١، رقم٦٢٢٨.

35 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب النكاح، باب إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه، ٣/٣٨٦، رقم١٠٨٤.

وحسنه الألباني.

36 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب الأكفاء في الدين، ٧/٧، رقم٥٠٩٠.

37 انظر: تفسير مقاتل بن سليمان، ٣/٢٠٨-٢٠٧.

38 أخرجه البخاري في الأدب المفرد، باب يستأذن على أخته، رقم١٠٦٣، ص ٥٩٥.

وصحح إسناده الألباني في صحيح الأدب المفرد.

39 انظر: الآداب الشرعية، ابن مفلح، ١/٤٠٠.

40 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاستئذان، باب الاستئذان من أجل البصر، ٨/٥٤، رقم٦٢٤١.

41 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصوم، باب الصوم لمن خاف على نفسه العزبة، ٣/٢٦، رقم١٩٠٥.

42 انظر: الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري، الكرماني ٩/٨٩-٨٨.

43 انظر: لباب التأويل، الخازن ١/٣٦٤، تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص١٧٤.

44 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب النكاح، باب ما جاء لا نكاح إلا بولي، ٢/٣٩٨، رقم١١٠٢.

قال الترمذي: حديث حسن.

45 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب النكاح، باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق، والبكر بالسكوت، ٢/١٠٣٧، رقم١٤٢١.

46 السيرة النبوية، ابن هشام ١/٦١٥.

47 السيرة النبوية، ابن كثير ٣/٤٥٩.

48 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب المناقب، باب في مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه، وله كنيتان، يقال: أبو عمرو، وأبو عبد الله، ٦/٦٧، رقم٣٧٠١.

قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.

49 انظر: دلائل النبوة، البيهقي٥/٢١٨.

50 انظر: المغازي، الواقدي١/٢١٦.

51 المصدر السابق ٣/٩٠٤.

52 انظر: لباب التأويل، الخازن ٣/٤١٦- ٤١٨.

53 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع، باب رقم٥٩، رقم٢٥١٦، ٤/٢٤٨.

قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

54 انظر: جامع البيان، الطبري ١٤/٤١٦، الكشف والبيان، الثعلبي ٥/٨٠.

55 انظر: لباب التأويل، الخازن ٢/٣٦٩.

56 انظر: لباب التأويل، الخازن ٢/٣٩٥- ٣٩٧.

57 انظر: جامع البيان، الطبري ١٤/٤١١، تأويلات أهل السنة، الماتريدي ٥/٤٤٢، لباب التأويل، الخازن ٢/٣٩٤.

58 انظر: تأويلات أهل السنة، الماتريدي ٥/٤٣٩-٤٤٠.

59 أخرجه النسائي في المجتبى، كتاب الجهاد، باب فضل من عمل في سبيل الله على قدمه، ٦/١٤، رقم٣١١٣.

وصححه الألباني.

60 انظر: تفسير القرآن العزيز، ابن أبي زمينين ٢/٢٢٦، الكشف والبيان، الثعلبي ٥/٨٠.

61 شكا ضرارته أي: فقدانه البصر الذي يمنعه من الجهاد في سبيل الله تعالى.

62 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله تعالى: ( )، ٦/٤٨، رقم٤٥٩٣.

63 انظر: التفسير الوسيط، محمد سيد طنطاوي ٦/٣٧٩.

64 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب ثواب من حبسه عن الغزو مرض أو عذر آخر، ٣/١٥١٨، رقم١٩١١.

65 التفسير الوسيط، محمد سيد طنطاوي ٦/٣٧٩.

66 انظر: أسباب النزول، الواحدي ص٢٦٢.

67 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، ٦/٨، رقم٤٤٢٣.

68 انظر: شرح صحيح البخاري، ابن بطال ٥/٤٨.

69 انظر: جامع البيان، الطبري ١٩/٢٢٨، مدارك التنزيل، النسفي ٢/٥٢١.

70 انظر: لباب التأويل، الخازن ٣/٣٠٧، اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل الحنبلي ١٤/٤٦٨.