عناصر الموضوع
الأذى
أولًا: المعنى اللغوي:
الأذى: كل ما تأذيت به، ورجل أذيٌ، أي: شديد التأذي، وآذى الرجل فعل الأذى، والأذي كغني؛ الشديد التأذي، ومصدره؛ أذىً، وكذلك أذاةً، وأذيةً1.
و«منه الأذى؛ وهو الموج المؤذي لركاب البحر»2.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
قال الراغب الأصفهاني: «الأذى ما يصل إلى الحيوان من الضرر؛ إما في نفسه، أو جسمه، أو تبعاته؛ دنيويًا كان أو أخرويًا»3.
وذكر المناوي قريبًا من ذلك؛ فقال في التوقيف: «الأذى ما يصل إلى الحيوان من ضرر، أو مكروه في نفسه، أو بدنه، أو فئته؛ دنيويًا أو أخرويًا»4.
وعرفه الدكتور أحمد مختار في المعجم الموسوعي لألفاظ القرآن وقراءته؛ بأنه الضرر5.
ويظهر من تعريف الأصفهاني والمناوي أنهما قصراه على الحيوان، ولعلهما يقصدان بالحيوان كل ما كان حيًا؛ وخاصة الإنسان، في حين أن الآيات التي ذكرت الأذى، تحدثت عن الأذى الذي يقع على الإنسان، وعليه فإن الأذى هو الضرر الذي يلحق بالإنسان في نفسه، أو جسمه، أو تبعاته.
فالعلاقة بين المعنيين للفظ: أنه خص في الاصطلاح بالضرر الذي يقع على الإنسان أو الحيوان، بخلاف المعنى اللغوي فإنه يعم كل ضرر.
وردت مادة (أذي) في القرآن الكريم (٢٤) مرة6.
والصيغ التي وردت هي:
الصيغة |
عدد المرات |
المثال |
الفعل الماضي |
٢ |
(ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [الأحزاب:٦٩] |
الفعل المضارع |
٩ |
(ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [التوبة:٦١] |
فعل الأمر |
٤ |
(ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [النساء:١٦] |
المصدر |
٩ |
(ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) [البقرة:٢٢٢] |
وجاء الأذى في القرآن بمعناه اللغوي، وهو: ما يصل إلى الإنسان من الضرر7.
السوء:
السوء لغةً:
الشر والفساد وكل آفة، قال الكفوي في معناه: السوء جرى مجرى الشر، ويحمل معنى الشدة والذنب والضر والفقر والزنا والشرك والهزيمة8.
السوء اصطلاحًا:
«كل ما يغم الإنسان من الأمور الدنيوية، والأخروية، ومن الأحوال النفسية، والبدنية، والخارجة، من فوات مال، وجاه، وفقد حميم»9.
الصلة بين السوء والأذى:
السوء نوع من أنواع الأذى الذي يمكن أن يتعرض له الإنسان.
المصيبة:
المصيبة لغةً:
تعني النائبة وكل أمر مكروه10،وجاء في لسان العرب أنها تعني الشدة11.
المصيبة اصطلاحًا:
هي البلية وكل أمر مكروه12.
الصلة بين المصيبة والأذى:
أن المصيبة لا تكون إلا ضراء، والضر قد يلحق الإنسان الأذى أو لا يلحقه.
الضرر:
الضرر لغة:
ضد النفع من ضر يضر ضرًا، وهو سوء الحال13.
الضرر اصطلاحًا:
«كل ما كان من سوء حال وفقر أو شدة»14.
الصلة بين الضرر والأذى:
لا يلزم من الأذية الضرر؛ فالإنسان يتأذى بسماع القبيح أو مشاهدته، ولكنه قد لا يتضرر بذلك، ويتأذى بالرائحة الكريهة كالبصل والثوم ولا يتضرر بذلك15.
بيَن سبحانه في كتابه العزيز الهدف من هذه الحياة، والحكمة من تقدير الموت والحياة، فقال عز وجل: (ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [الملك:٢].
ولن يكون ابتلاء وامتحان دون معاناة، فكانت الحياة البشرية شاقة كما أخبر سبحانه في قوله: (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [البلد:٤].
فيعيش الإنسان في «مشقة يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة»16، التي يصدق على كثير منها مسمى الأذى، الذي يعود بعضه إلى طبيعة الإنسان، ويحدث بعضه الآخر تحت ظروف صحية، أو نتيجة لسلوك معين يصدر من الإنسان نفسه.
أولًا: الأذى الطبيعي:
الأذى الطبيعي: هو ما كان من طبيعة الأشياء، ومن لوازمها، ومثاله: ما نراه من طبيعة البشر، حيث خلق الله الإنسان، وجعل منه الذكر والأنثى، وجعل من طبيعة الأنثى؛ وبما يتوافق مع دورها في الحياة، أن يأتيها الحيض في فترات محددة، «فالحيض خلقة في النساء، وطبع معتاد معروف منهن»17.
وهو أذى كما أخبر القرآن في قوله تعالى: (ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [البقرة:٢٢٢]؛ فهو أي: الحيض من «دواعي الصفات البشرية، والحاجات الإنسانية»18، ولأنه أذىً وقذر؛ وجدنا أن النفس السوية تتحاشاه، بل كانت الأمم السابقة تغالي في الأمر؛ فلا تخالط الحائض، وتبعدها؛ فعن أنس رضي الله عنه (أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوهن في البيوت...)19.
فجاء الإسلام ليهذب هذا الأمر الطبعي، فحيث إنه من طبيعة الأشياء فإن خالق الأشياء «أراد أن تكون عملية الحيض في المرأة عملية كيماوية ضرورية لحياتها، وحياة الإنجاب، وأمر الرجال أن يعتزلوا النساء وهن حوائض»20.
فبيَن بذلك كيفية التعامل المتزن مع هذا الأمر الطبيعي، الذي هو في حقيقته أذى للزوج والزوجة، وعقب سبحانه بتأكيد محبته للتائبين وللمتطهرين، فجمع بذلك بين طهارة الباطن، وطهارة الظاهر، لترسم الآيات منهجًا تربويًا في تهذيب النفوس وتقويم السلوك.
ثانيًا: الأذى المرضي:
الأذى المرضي: والحديث هنا عن الأذى الذي يصيب الإنسان نتيجة مرض طارئ؛ فيسبب له الألم، والمعاناة، ومن هنا فهذا الأذى طارئ، يصيب الجميع الصالح والسيء، الصغير والكبير، الرجل والمرأة، الغني والفقير، إذا توافرت مسببات المرض، من إهمال بالنظافة، أو استهتار بطرق الوقاية من الأمراض، أو غير ذلك من أسباب قد تكون خارجة عن إرادة الإنسان، وتحدث القرآن عن جانب من هذا الأذى الذي قد يحدث أثناء أداء عبادة الحج، وذلك في قوله تعالى: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [البقرة:١٩٦].
«والمراد بالأذى من الرأس ما فيه من قمل أو جراح ونحو ذلك»21، فالآية بينت فيما بينت بعضًا من محظورات الإحرام، ومنها حلق الرأس، «وإنما منع تبارك وتعالى من ذلك، لما فيه من الذل والخضوع لله والانكسار له، والتواضع الذي هو عين مصلحة العبد، وليس عليه في ذلك من ضرر، فإذا حصل الضرر بأن كان به أذى من مرض، ينتفع بحلق رأسه له، أو قروح، أو قمل ونحو ذلك فإنه يحل له أن يحلق رأسه، ولكن يكون عليه فدية»22، على تفصيل في ذلك، فالأذى الذي يصيب الإنسان من هذا الباب هو من الأذى المرضي.
ثالثًا: الأذى المشروع:
الأذى المشروع: يقع الإنسان تحت طائلة المسائلة نتيجة تصرفاته الخاطئة، وحسب حجم الخطأ الذي ارتكبه يتلقى عقابًا مكافئًا، وهو وسيلة تأديبية أباح الإسلام اللجوء إليها؛ لتقويم سلوك معوج، ومن المؤكد أنها تسبب أذى للإنسان، ولكنه أذى مشروع؛ لأنه من باب التأديب، ومع ذلك فالأمر ليس على إطلاقه، إنما يتم وفق ضوابط شرعية؛ ومن الأمثلة على الأذى المشروع قوله تعالى: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ) [النساء:١٦].
حيث بينت الآية أن من يرتكب فاحشة الزنى؛ «يؤذى بالشتم والتعيير والضرب بالنعال، فكان الحكم كذلك حتى نسخه الله بالجلد والرجم»23.
فهذا سلوك خاطئ أباح الشرع إيذاء صاحبه تأديبًا له، وزجرًا، «فالأذية بالقول والفعل والحبس، قد شرعه الله تعزيرًا لجنس المعصية الذي يحصل به الزجر»24، وكل أذىً يتعرض له الإنسان -تأديبًا وعقوبة وفق الضوابط الشرعية-هو من الأذى الشرعي.
رابعًا: الأذى غير المشروع:
الأذى غير المشروع: هو الأذى الذي يصيب الإنسان دون وجه حق، ولا يقره الإسلام؛ ولهذا اعتبر غير مشروع، فقد يتعرض الشخص للأذى من قبل أقرانه، أو منافسيه، أو خصومه، وقد يناله الأذى بسبب مواقفه، ومبادئه، وكل هذا أذىً غير مشروع، ومن أمثلته في القرآن الكريم قوله تعالى: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ) [آل عمران:١٩٥] فهؤلاء المهاجرون كل جريرتهم أنهم آمنوا بالله وحده؛ فتعرضوا «للأذية من المشركين بسبب إيمانهم بالله، وعملهم بما شرعه لعباده»25، ومثلهم عبر التاريخ الإنساني كثير؛ تعرضوا للأذى والاضطهاد بسبب مواقفهم الإيمانية، ومبادئهم النبيلة.
ومن أمثلته أيضًا قوله تعالى: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ) [البقرة:٢٦٤] فترى المنفق يعتد على من أحسن إليه بإحسانه، ويريه أنه اصطنعه، وأوجب عليه حقًا له، ويتطاول عليه بسبب ما أعطاه26؛ مما يسبب له الأذى، فالمتصدق وإن كان قدم مساعدة لغيره؛ إلا أنه بمنه، وتطاوله في الكلام سبب أذىً لصاحبه، وهو أذى غير مشروع؛ بدليل التحذير الإلهي ببيان أن ذلك السلوك يضيع، ويبطل أجر الصدقة.
وخلاصة القول أن مثل هذا النوع من الأذى؛ الواقع على الإنسان -كما في المثالين المذكورين- يعد من الأذى غير المشروع، الذي توعد الله فاعله بالعقاب.
الآثار المترتبة على الأذى في العبادة
إن الأذى الذي يتعرض له المكلف، أو يصدر منه في حق الآخرين؛ ينعكس على عبادته، فينقلها حينًا من العزيمة إلى الرخصة، ويحولها في حين آخر من الصحة إلى البطلان.
ومن الآثار المترتبة على الأذى ما يأتي:
أولًا: التخفيف والتيسير:
يترتب من وقوع الأذى على المكلف؛ التخفيف والتيسير في العبادة، فمثلًا: «يحرم على المتلبس بالإحرام أن يزيل شعر رأسه بالحلق، أو القص أو غيرهما»27.
لكن إذا أصابه أذىً في رأسه من قمل أو غيره؛ جاز له أن يحلق أو يقصر، فترتب التخفيف والتيسير بسبب الأذى، وقد جاء بيان ذلك في قوله تعالى: ( ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [البقرة:١٩٦].
و يؤكد هذا الفهم ما جاء في الصحيحين من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لعلك آذاك هوامك)28، قال: نعم يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احلق رأسك، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك بشاة)29.
فكان التخفيف والتيسير بسبب العذر، وهو الأذى الذي أصاب الصحابي رضي الله عنه.
ثانيًا: بطلان العمل:
يترتب على الأذى غير المشروع؛ إذا وقع من المكلف، بطلان عمله، وهذا ما نص عليه القرآن الكريم في قوله سبحانه: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ) [البقرة:٢٦٤].
فحذرت الآية المؤمن المتصدق من المن وهو «أن يعتد بإحسانه على من أحسن إليه»30، وكذلك حذرت من الأذى، والمقصود به هنا «أن يتطاول عليه بسبب ما أنعم إليه»31.
وقد سبق بيان الفرق بينهما حيث إن الأذى أعم من المن؛ لأن المن جزء من الأذى؛ لكنه نص عليه لكثرة وقوعه.
وبينت الآية أنه يؤدي إلى بطلان أجر الصدقة، تمامًا كذلك المنافق الذي ينفق ماله رياءً، وسمعةً؛ فلا أجر له.
والرياء هو «القول أو الفعل الذي لا يقصد معه الإخلاص، وإنما يقصد به التظاهر وحب الثناء»32، والعلاقة بينها أن النتيجة واحدة وهي بطلان العمل، «فالمن والأذى والرياء تكشف عن النية في الآخرة؛ فتبطل الصدقة؛ كما يكشف الوابل عن الصفوان، وهو الحجر الكبير الأملس»33.
ولقد بينت السنة فداحة هذا الفعل من المن، وما يترتب عليه من أذى، فكان العقاب أن الله يعرض عنهم ولا يكلمهم يوم القيامة.
كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم). قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرار، قال أبوذر رضي الله عنه: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟ قال: (المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)34.
إن الأذى في سبيل الله سنة إلهية ثابتة مع الأنبياء وأتباعهم ليمحص إيمانهم، ويزيد في درجاتهم، ولا بد من مواجهة الأذى سواء بالصبر أو التوكل والاحتساب، أو بالإعراض عن سفاهة المؤذين، وبيان ذلك فيما يأتي:
أولًا: الأذى في سبيل الله سنة إلهية:
من اللحظة الأولى التي بعث فيها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم اتضحت أبعاد هذه الرسالة، ولقد صرح ورقة بن نوفل بذلك وهو يقول: (يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزله الله على موسى، يا ليتني فيها جذع ليتني أكون حيًا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجي هم، قال: نعم؛ لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي)35.
فهي إذن سنة ثابتة فطن لها ورقة بن نوفل، وأدركها الرسول صلى الله عليه وسلم.
وتتابعت الآيات بعد ذلك تؤكد عظم هذه الأمانة، وتبعاتها الثقيلة فقال سبحانه: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [المزمل:٥].
كما بينت وجود المستهزئين، والحماية الإلهية منهم، فقال سبحانه: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [الحجر:٩٤-٩٥].
ووجه النبي صلى الله عليه وسلم صحابته الكرام إلى هذا الفهم؛ فلقد روى البخاري في صحيحه عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة؛ قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال: (كان الرجل في من قبلكم؛ يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب؛ وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر؛ حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت؛ لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)36.
فهذه النصوص وأمثالها تؤكد أن تعرض مسيرة الصالحين للأذى سنة إلهية، فمهمتهم ثقيلة والمستهزئون كثر، والمتتبع لمواقف الأذى في سبيل الله -الواردة في القرآن- يدرك ذلك، حيث يقرر المولى عز وجل هذه السنة التي لا تتبدل ولا تتغير، فيقول سبحانه: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) [آل عمران:١٨٦].
فالآية تؤكد أن وقوع الأذى حتمي، وتستعرض أصنافًا منه «كالبلاء في الأنفس؛ مثل: القتل والأسر والجراح، وما يرد عليها من أنواع المخاوف والمصائب، وفي الأموال؛ كالإنفاق في سبيل الخير، وما يقع فيها من الآفات، وكذلك ما يسمعون من أهل الكتاب من المطاعن في الدين الحنيف، وصد من أراد الإيمان، وتخطئة من آمن»37، كما وضحت الأطراف التي يقع منها الأذى، سواء من المشركين، أو أهل الكتاب، وكيفية مواجهته.
وفي موضع ثانٍ تبين الآيات كذلك؛ أن تكذيب الرسل هو ديدن الأمم السابقة؛ حيث يقول سبحانه: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ) [الأنعام:٣٤].
«وهذا تسلية من الله تعالى ذكره؛ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وتعزيةٌ له عما ناله من المساءة بتكذيب قومه إياه؛ على ما جاءهم به من الحق من عند الله»38.
فأكد لنبيه صلى الله عليه وسلم أنه قد كذبت رسلٌ من قبله أرسلهم إلى أممهم، فنالوهم بمكروه، فصبروا على تكذيب قومهم إياهم، ولم يثنهم ذلك من المضي لأمر الله الذي أمرهم به من دعاء قومهم إليه، حتى حكم الله بينهم وبينهم39.
وفي موضع آخر تؤكد الآيات تعرض الرسل للأذى على يد أقوامهم، فقال سبحانه: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ) [إبراهيم:١٢].
وفي بيان إصرار هؤلاء الأقوام على محاربة رسلهم قال تعالى: (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ) [إبراهيم:١٣].
فهذه أنواع من الأذى الذي تعرض له الرسل عبر مسيرة الدعوة إلى الله فبين سبحانه «أن الكفار توعدوا الرسل بالإخراج من أرضهم، والنفي من بين أظهرهم إن لم يتركوا ما جاءوا به من الوحي»40، وهذا ما فصلته الآيات في مواضع أخرى، فقوم شعيب عليه السلام هددوه بالطرد، وأخبر القرآن عن ذلك في قوله تعالى: ( ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [الأعراف:٨٨].
والموقف ذاته مع لوط عليه السلام كما أخبر سبحانه: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [النمل:٥٦].
وتكرر الموقف نفسه من كفار قريش فوصفت الآيات ذلك في قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [الإسراء:٧٦].
وذكرت به تارة أخرى في قوله تعالى: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ) [الأنفال:٣٠].
وموسى عليه السلام من قبل يتهم ويشهر به في محاولة لتلويث سمعته؛ حتى يعجز عن تبليغ دعوة الله، وأشار القرآن إلى ذلك في قوله تعالى: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ) [الصف:٥].
إن الأمثلة السابقة تبين بوضوح أن الأمم السالفة كذبت المرسلين، وأتباعهم، وتناولتهم بصنوف الأذى المختلفة، فهي سنة الله التي تتمثل في دعوة صادقة؛ تتعرض للأذى من المدعوين، ويقابل أصحابها ذلك بالصبر، والتقوى، والتوكل على الله؛ حتى تكتمل أركانها بالنصر الموعود منه سبحانه.
ثانيًا: أسباب الأذى في سبيل الله:
يمكن استعراض أسباب الأذى الذي يتعرض له الدعاة المصلحون فيما يلي:
١. الأذى بسبب الإيمان بالله.
قال الله تعالى: (ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ) [البروج:٨].
ولعله من أبرز الأسباب؛ حيث ينقم الطغاة دومًا من المؤمنين؛ بسبب إيمانهم بالله عز وجل، ومن هنا يتفننون في أساليب الأذى، التي قد تصل إلى حد الإبادة الجماعية، وحفر الخنادق للحرق والتنكيل، كما صورت ذلك سورة البروج؛ فبعد أن ذكرت فظائع المجرمين؛ بينت بوضوح سبب ذلك التنكيل في قوله سبحانه: (ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ) [البروج:٨].
«فهؤلاء الكفار الجبابرة ما أنكروا عليهم ذنبًا إلا إيمانهم، ولا عابوا على المؤمنين إلا أنهم صدقوا بالله»41، وهذا الفعل منهم «- أي: حضورهم الإحراق- دليل على أنهم قوم غلاظ الأكباد، قساة القلوب، تمكن الكفر والباطل منهم، وتجردوا عن الإنسانية، وفقدوا الرحمة»42، وقد جاءت الآيات تبين ذلك في مواضع أخرى، وقرنتها بالأذى الواقع على المؤمنين، ففي معرض الحديث عن سحرة فرعون، وردهم على تهديداته بالصلب والتنكيل، يقول سبحانه على لسانهم: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) [الأعراف:١٢٦].
فما أنكر منهم فرعون، وما وجد عليهم، إلا من أجل أن آمنوا43، فبينوا بقولهم السابق أن عقاب فرعون لا غضاضة عليهم منه، لأنه لم يكن عن جنايةٍ تصمهم؛ بل كان على الإيمان بآياتٍ؛ لما ظهرت لهم44.
وهذا يؤكد بجلاء سبب الأذى الواقع على المؤمنين، وهو إيمانهم بالله عز وجل.
وكذلك عند بيان سبب عداء أهل الكتاب للمؤمنين وضحت الآيات ذلك في قوله تعالى: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) [المائدة:٥٩].
فهذا هو سبب النقمة، وحقيقة العداء بينهم وبين المسلم، الذي يتولد عنه الأذى بكافة أشكاله فهم «يعادونه لعقيدته ودينه، قبل أي شيء آخر، وهم يعادونه هذا العداء الذي لا يهدأ؛ لأنهم هم فاسقون عن دين الله، ومن ثم يكرهون كل من يستقيم على دين الله»45.
وتمثل الأذى في هذه الحالة في الاستهزاء بشعائر الدين، ويبين ذلك قوله تعالى: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ) [المائدة:٥٧-٥٨].
«والدين هو ما عليه المرء من عقائد وأعمالٍ ناشئةٍ عن العقيدة، فهو عنوان عقل المتدين، ورائد آماله، وباعث أعماله، فالذي يتخذ دين امرئٍ هزؤًا؛ فقد اتخذ ذلك المتدين هزؤًا، ورمقه بعين الاحتقار؛ إذ عد أعظم شيءٍ عنده سخريةً، فما دون ذلك أولى»46.
وهذا الاستهزاء في حقيقته محاولة لتشويه الإسلام، كخطوة أولى في الصد عنه.
٢. الأذى بسبب العجز عن مواجهة منطق الدعاة.
قال تعالى: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) [يس:١٨].
يتصور العصاة دومًا أن بإمكانهم مواجهة منطق الحق؛ الذي ينادي به المصلحون؛ فيعمدون في البداية إلى مقارعة الحجة بالحجة، إما اعتقادًا بصواب منطقهم؛ نتيجة الغفلة التي عاشوا فيها تحت موروثات الآباء والأجداد؛ كما وصفهم سبحانه: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [يس:٦].
أو اغترارًا بأنفسهم، كما حدث مع أصحاب القرية الذين ضربهم الله مثلًا في سورة يس، بل قد يصل الأمر بهم إلى تهيئة الأجواء لتلك المناظرة الفكرية، كشأن فرعون عندما دعا الناس وحشرهم في يوم الزينة ليروا فشل موسى عليه السلام حسب ظنه.
فأما أصحاب القرية فقد حاججوا الرسل؛ اعتقادًا منهم بأن الله لا يبعث رسلًا من البشر، وتصوروا بهذا الفهم المغلوط أن حجتهم قوية، ونقلت الآيات هذا في قوله تعالى: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ) [يس:١٥].
فحاججوا الرسل قائلين: «ما أنتم أيها القوم إلا أناس مثلنا، ولو كنتم رسلًا كما تقولون، لكنتم ملائكة»47، «وهذه شبهة كثيرٍ من الأمم المكذبة»48، فرد عليهم الرسل ببيان أن الله سبحانه يعلم حقيقتهم، وأكدوا من جديد أنهم لمرسلون، وبينوا بكل تواضع، ومنطق سليم، أن مهمتهم تقتصر على البلاغ، والبلاغ المبين، كما أخبر القرآن عنهم في قوله تعالى: (ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [يس:١٦-١٧].
«فراجعتهم الرسل بأن ردوا العلم إلى الله وقنعوا بعلمه، وأعلموهم أنهم إنما عليهم البلاغ فقط، وما عليهم من هداهم وضلالهم»49، دون أن يسألوهم أجرًا، أو مقابلًا ماليًا، أو شيئًا من الزعامة أو السلطان أو الجاه، كما حاجج عنهم الرجل الصالح؛ الذي جاء من أقصى المدينة، تاركًا مصالحه؛ لينافح عن الدعاة، «فوصفهم بما يرغبهم في اتباعهم من التنزه عن الغرض الدنيوي»50.
وذكرت الآيات ذلك في قوله تعالى: (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [يس:٢١].
وهنا عندما أدرك أصحاب القرية أنهم عاجزون عن مواجهة منطق الحق، لجأوا -وبدون مواربة- إلى منطق القوة، فكان التهديد الواضح، والتصريح بالرجم، والعذاب الأليم؛ إن لم يتوقف الرسل عن ممارسة مهمتهم، كما أخبر سبحانه عنهم: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) [يس:١٨].
«أي: لئن لم تتركوا هذه الدعوى، وتعرضوا عن هذه المقالة؛ لنرجمنكم بالحجارة، وليمسنكم منا عذابٌ شديدٌ فظيعٌ»51.
وهكذا «لما ضاقت بهؤلاء المكذبين الحيل، وأعيتهم الحجج؛ لجئوا إلى التهديد والوعيد»52، فهذا هو أسلوب المخالفين العاجزين دومًا، إذا شعروا بعجزهم عن مواجهة منطق الحق الصارخ، تحولوا دون وازع من ضمير، أو خلق، أودين، أو حتى مبادئ - تعارفوا عليها بينهم- إلى القمع والقتل والتنكيل.
وهذا المشهد يتكرر مع فرعون؛ الذي صور له صلفه، وغروره، أنه قادر على دحض منطق موسى عليه السلام فحشد الناس وجمعهم، «لميقات يوم معلوم وهو يوم الزينة، وجلس فرعون على سرير مملكته، واصطف له أكابر دولته، ووقفت الرعايا يمنة ويسرة وأقبل موسى، عليه السلام، يتوكأ على عصاه، ومعه أخوه هارون، ووقف السحرة بين يدي فرعون صفوفًا، وهو يحرضهم ويحثهم، ويرغبهم في إجادة عملهم في ذلك اليوم، ويتمنون عليه، وهو يعدهم ويمنيهم»53.
في مشهد سجله القرآن في قوله تعالى: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ) [طه:٥٨-٦٠].
ثم كانت المواجهة الحاسمة التي اجتثت ما يأفكون، كما أخبر سبحانه: (ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﯾ) [الأعراف:١١٧-١١٨].
«فلما عجز فرعون عن دفع الحجة بالبرهان؛ عدل إلى البطش والفتك بالسنان، وهكذا حال كل ضال مبتدع؛ إذا أعيته الحجة مال إلى التهديد والوعيد»54، فكشر عن أنيابه، وتوعد السحرة بالصلب والتنكيل، وحرضته حاشيته على قتل المسلمين بقولهم: «أتترك موسى وجماعته ليفسدوا في الأرض؛ بالخروج عن دينك، وترك عبادة آلهتك!! وفي هذا إغراءٌ لفرعون بموسى وقومه، وتحريضٌ له على قتلهم، وتعذيبهم»55، فوعدهم بأن يطالهم البطش، وبيَن القرآن هذا التعنت والطغيان في قوله تعالى: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ) [الأعراف:١٢٧].
إن هذه المشاهد وغيرها تبين أن العجز عن مواجهة حجة الأنبياء والمصلحين كان سببًا من أسباب الأذى الذي وقع، ولا زال يقع على الدعاة والمصلحين في كل زمان ومكان.
٣. الأذى بسبب تأييد أهل الحق.
قال تعالى: ( ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [غافر:٢٥].
إن من الأسباب التي تدفع الطغاة إلى إيقاع الأذى بالناس؛ تأييدهم لأهل الحق، حيث كان الأذى عقابًا لهم على مواقفهم النبيلة، ومحاولة لدفعهم للتخلي عن هذه المواقف، وكذلك للحيلولة دون أن يلحق بهم آخرون.
وهذه المعاني واضحة في النموذجين السابقين، نموذج أصحاب القرية ونموذج فرعون، ففي نموذج فرعون كان التنسيق بينه وبين حاشيته على تعذيب من آمن مع موسى عليه السلام بتقتيل الأبناء واستحياء النساء، عقابًا لهم على مواقفهم، كما أخبر سبحانه: (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ) [غافر:٢٥].
فقالوا غيظًا وحنقًا وعجزًا عن المعارضة: أعيدوا عليهم ماكنتم تفعلونه بهم أولًا؛ كي تصدوهم عن مظاهرة موسى عليه السلام56.
إذن هي المظاهرة لموسى عليه السلام وتأييده، التي أججت حقد فرعون وحاشيته، ودفعتهم إلى هذا الكيد، والتآمر، المحكوم بالضلال والفشل.
وكذلك في ذات النموذج، ومع السحرة كان العقاب بسبب تأييدهم لموسى -عليه السلام- كما قال سبحانه على لسان فرعون وهو يتوعد السحرة: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ) [الأعراف:١٢٤]. «فرجع فرعون في مقالته هذه إلى الخذلان، والغشم57، وعادة ملوك السوء إذا غولبوا»58، فيلجأون إلى «التعذيب والتشويه والتنكيل، وسيلة الطواغيت في مواجهة الحق، الذي لا يملكون دفعه بالحجة والبرهان، وعدة الباطل في وجه الحق الصريح»59.
وأما في نموذج أصحاب القرية؛ كان الصدح بالحق من الرجل المؤمن؛ متمثلًا في الدفاع عن الرسل، وبيان صواب موقفهم، حتى ارتفع بمستوى التأييد إلى تبني رأيهم، ومواصلة مهمتهم، كما أخبر سبحانه عنه؛ وهو يكمل رسالتهم: (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ) [يس:٢١-٢٥].
فناله منهم ما ناله؛ عقابًا له على موقفه الداعم للحق، فكان الأذى في واحدة من أشنع صور التنكيل، كما ذكر الطبري في تفسيره أنهم «وثبوا عليه، فوطئوه بأقدامهم حتى مات»60.
وفي مثال ثالث: يتضح كيف يتفنن الحاقدون على الإسلام في إلحاق الأذى بكل من يساند الحق ويتبناه، فيقدمون - في أسلوب خسيس- على محاصرة الصالحين؛ بمحاربتهم في أرزاقهم، عقابًا لهم على تبنيهم للحق، فكان حصار قريش الجائر لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم في شعب أبي طالب، وامتد الحصار ليشمل كل من يتوقع منه مساندة المسلمين من الكفار أنفسهم، واستمر هذا الأسلوب الخسيس يستخدم على مدى الأيام؛ في محاولة لتجويع المسلمين؛ ليسهل من ثم تركيعهم، فكان تواصي المنافقين بعدم الإنفاق، فكانوا يقولون لأهل المدينة: لا تنفقوا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من فقراء المسلمين، ومن كانوا في رعايته من أهل الصفة، ومن كانوا يلحقون بالمدينة من الأعراب 61.
كما أخبر سبحانه وتعالى عنهم في قوله: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [المنافقون:٧].
فكانت هذه المحاولات عقابًا للمسلمين على مواقفهم وتأييدهم للحق.
إن هذه الأمثلة -وكثير غيرها- لتبين بجلاء، أن من أسباب الأذى الواقع على المسلمين؛ مساندتهم وتأييدهم لأهل الحق من الدعاة والمصلحين، فالداعية أوذي بسبب دعوته، وأتباعه أوذوا بسبب اتباعهم للحق الذي يدعو إليه.
٤. الأذى بهدف تشويه الدعوة والداعية.
قال تعالى: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ) [الصف:٥].
وينصب هذا الأذى على الدعوة والداعية على حد سواء، فتارة يشوهون صورة الداعية، وأخرى يشوهون حقيقة الدعوة؛ فأما الداعية فإن النيل من عرضه وشرفه وسمعته، شكل من أشكال الأذى؛ يهدف إلى تعطيله عن ممارسة رسالته الشريفة، وبث الإشاعات للطعن في نزاهته، وبالتالي لا يلتفت لكلامه أحد، ولا يثق في دعوته مدعو.
ومن الأمثلة الواضحة على هذا اللون من الأذى؛ ما وقع في حق موسى عليه السلام من قومه بني إسرائيل بهدف تشويه شخصيته، للحيلولة بينه وبين دعوة الناس، وقد ذكر سبحانه ذلك الأذى تارة في موضع تحذير المؤمنين من الوقوع في مثل ذلك السلوك الشيطاني من الإساءة لنبيهم، كما أساء اليهود من قبلهم؛ فقال: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [الأحزاب:٦٩].
وتارة أخرى على لسان موسى عليه السلام وهو يعاتب قومه على هذا الاتهام الباطل، رغم معرفتهم بحقيقته وصدق رسالته، فقال سبحانه: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ) [الصف:٥].
أما محاولات تشويه الدعوة؛ فمن الأمثلة عليها ما فعله اليهود « ليلبسوا على الضعفاء من الناس أمر دينهم، وهو أنهم اشتوروا بينهم أن يظهروا الإيمان أول النهار ويصلوا مع المسلمين صلاة الصبح، فإذا جاء آخر النهار ارتدوا إلى دينهم ليقول الجهلة من الناس: إنما ردهم إلى دينهم اطلاعهم على نقيصة وعيب في دين المسلمين»62.
فيكون ذلك دافعًا للآخرين ليحجموا عن الدخول في الإسلام وقد فضح القرآن أسلوبهم الرخيص هذا في مواجهة منطق الحق فقال سبحانه: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) [آل عمران:٧٢].
ثالثًا: أساليب مواجهة الأذى:
إن تعرض أصحاب الدعوات الصالحة للأذى؛ هو سنة إلهية على مر الأزمان والعصور، والله سبحانه لم يترك أولياءه يواجهون كل هذا الكيد، والمكر، ويتعرضون لأشكال شتى من الأذى؛ دون أن يمنحهم عدة المواجهة، فدلهم سبحانه على طرق، وأساليب مقاومة هذا الأذى، ويتضح ذلك من خلال الآيات التي تحدثت عن الأذى في سبيل الله؛ حيث نستقرئ منها بعض الأساليب، وبيان ذلك فيما يلي:
١. التقوى.
إن اعتبار التقوى من أساليب مواجهة الأذى أمر بدهي؛ فما دمت تصدح بالحق، وتتلقى هذا الأذى بسبب ما تنادي به، وتدعو إليه من مبادئ فاضلة؛ فمن باب أولى أن تتبناه منهجًا في حياتك، وأن تحرص عليه قبل الآخرين الذين تدعوهم إليه، استجابة لقوله سبحانه: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ) [الصف:٢-٣].
وهذا يعني وأنت الداعي إلى الحق أن تكون أكثر من الآخرين قربًا إلى الله وخشية منه وتقوى له سبحانه، فالتقوى هي التي تمنحك القدرة على تحمل الأذى في سبيل فكرتك ولهذا «ندب الله تعالى عباده إلى الصبر والتقوى، وأخبر أنه من عزم الأمور، أي: من أشدها وأحسنها»63.
فقال سبحانه: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) [آل عمران:١٨٦].
ويمكن فهم دور التقوى في مجال مواجهة الأذى في سبيل الله من خلال ما يلي:
وهناك من يتحمل الأذى؛ دون أن يعود ذلك إلى تقواه، بل حرصًا على مصالحه، كما تحدثت الآيات عن الذين ينفقون أموالهم في الصد عن سبيل الله، فيكابدون معاناة فقد الأموال، ويتحملون ذلك لا عن تقوى؛ وإنما عن حقد، وغيظ دفين، فقال سبحانه: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ) [الأنفال:٣٦].
وهذا يجعل التقوى فارقة؛ بين دائرة الذين يؤذون في سبيل الله، وغيرهم من أصحاب الأهداف الهابطة، ويمنحنا فهمًا أوسع للحكمة من ذكر صفة التقوى ضمن وسائل مواجهة الأذى في سبيل الله.
٢.الصبر.
أكد القرآن في أكثر من موضع أن الابتلاء أمر حتمي ومن ذلك قوله سبحانه: (ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [محمد:٣١].
ولتجاوز الإبتلاء والنجاح في الاختبار لابد أن يتسلح المسلم بالصبر، فمن المؤكد أن أي معاناة يتعرض لها الإنسان تتطلب منه قدرًا من الصبر؛ حتى يتمكن من تجاوزها، وهذا يجعل الصبر واحدًا من أساليب مواجهة الأذى، وقد صرحت به الآيات في أكثر من موضع؛ مرتبطًا بالأذى كما سبق في قوله تعالى: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) [آل عمران:١٨٦].
ومن المواضع الأخرى الآيات الآتية:
قال تعالى: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ) [الأنعام:٣٤].
وقال تعالى: (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ) [الأعراف:١٢٨-١٢٩].
قال تعالى: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [إبراهيم:١٢].
وبالتأمل في هذه الآيات يتبين لنا بوضوح أن الصبر عامل مهم من عوامل مواجهة الأذى فآية سورة (الأنعام) «تضمنت عرض الأسوة التي ينبغي الاقتداء بها على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وترجيته أن يأتيه مثل ما أتاهم من النصر إذا امتثل ما امتثلوه من الصبر»68.
فالصبر في مواجهة الأذى طريق يرجى بها تحقيق النصر، ورفع الأذى عن المؤمنين.
ويتكرر الأمر في آية سورة الأعراف على لسان موسى عليه السلام والذي يبين لقومه أن الاستعانة بالله، والصبر هما سبيل مواجهة تهديدات فرعون، فقال لهم: استعينوا بالله وحده، واطلبوا العون والتأييد منه على رفع ذلك الوعيد عنكم، واصبروا ولا تحزنوا، فالله هو المعين على الشدائد، والصبر سلاح المؤمن ومفتاح الفرج69.
وهذه وظيفة العبد، أنه عند القدرة، أن يفعل من الأسباب الدافعة عنه أذى الغير، ما يقدر عليه، وعند العجز، أن يصبر ويستعين الله، وينتظر الفرج70.
أما في آية سورة إبراهيم نجد الرسل عليهم السلام يستعينون بالصبر في مواجهة أذى أقوامهم، وذلك لأنه دعامة قوية في التغلب على أذى الطغاة، فيعلنون موقفهم معتمدين على الله قائلين: «لنستمرن على دعوتكم ووعظكم وتذكيركم، ولا نبالي بما يأتينا منكم من الأذى، فإنا سنوطن أنفسنا على ما ينالنا منكم من الأذى؛ احتسابًا للأجر، ونصحًا لكم، لعل الله أن يهديكم مع كثرة التذكير»71.
٣. التوكل على الله.
في مواجهة الأذى لابد من التوكل على الله فهو المعتمد، وهو المقصود سبحانه في كل الحوائج وبدون معيته فالضياع محتوم والقدرة على المواجهة معدومة، ولهذا صرح به الرسل وهم يتحدون أقوامهم، وذكر الله ذلك على لسانهم في قوله تعالى: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [إبراهيم:١٢].
«فلا سبيل أمام الأنبياء إلا الصبر على الأذى والاعتصام بالله وتفويض الأمر إليه والتوكل التام عليه، فإن الصبر مفتاح الفرج، ومطلع الخيرات، والتوكل على الله والاعتماد على فضله محقق للنصر والفتوح»72، «فأمام هؤلاء الأقوياء المتعنتين لابد من اعتماد على القوي القادر القهار»73؛ «فليستمر المؤمنون، ويثبتوا على توكلهم على الله، وليثقوا به، وليتحملوا كل أذى في سبيل مرضاته، ففي ذلك الخير كله والنجاة الأبدية في عالم الآخرة»74.
٤. الاحتساب.
وذلك باحتساب الأجر على الله، وباليقين بأن الله حسبه وكافيه، فمن العوامل المعينة على مواجهة الأذى؛ شعور الإنسان أن ما يتعرض له من أذى يقابله الأجر الكبير من الله، فهو يحتسب ما يصيبه من أذى عند الله؛ مما يهون عليه شدة العذاب، وقسوة الجلاد، كما أن إدراكه بأن الله كافيه شرور المتربصين، يزيده عزمًا على المضي في نشر دعوة الحق، ولذلك وجه الله نبيه عليه الصلاة والسلام إلى الاعتماد عليه في وجه متاعب الدعوة، وإعراض الناس عنه، فقال سبحانه: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [التوبة:١٢٩].
وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ولكل مضطهد بأن الله «يعينك عليهم ويكفيك أمر توليهم وما يتبعه من عداوتهم وصدهم عن سبيله»75.
وقد لجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام -رضوان الله عليهم- إلى هذا الدعاء، في مواجهة ما بلغهم من أخبار عن تجمع جيش قريش لهم، بعد غزوة أحد كما قال سبحانه: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [التوبة:١٢٩].
أما في رجاء الأجر، واحتساب تكاليف الاستجابة لنداء الحق عند الله، نجد المؤمنين يتوجهون إلى الله بالدعاء، أن يجزيهم أجر استجابتهم لرسالة الإيمان؛ بكل ما تحمله الاستجابة من تكاليف، كما قال سبحانه مخبرًا عنهم: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ) [آل عمران:١٩٣-١٩٤].
فكانت الاستجابة من الله عز وجل كما أخبر سبحانه: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) [آل عمران:١٩٥].
ومن المؤكد أن استشعار الداعية لمعية الله، ويقينه بجزيل الأجر؛ استشعاره هذا يمنحه إرادة قوية في مواجهة الأذى.
٥. الإعراض عن المؤذي.
وهذا منهج آخر ووسيلة مختلفة في مواجهة الأذى تتلخص في إعراض الداعية عن المؤذي كما قال سبحانه: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ) [الأحزاب:٤٨].
«أي: لا تكترث بما يصدر منهم من أذًى إليك؛ فإنك أجل من الاهتمام بذلك»76، فإن تجاهلك للمؤذي يرفع من قيمتك ومكانتك، وقد يرفع من شأنك عند المدعوين الآخرين فيكون سببًا في هدايتهم.
تعرض النبي عليه الصلاة والسلام خلال رحلته المباركة إلى كثير من الأذى؛ عبر أساليب متعددة، فمن السخرية به، والتكذيب لرسالته، إلى الأذى الجسدي له، ولمن تبعه، وقد ورد في ذلك روايات كثيرة؛ تصف هذه المحن التي تعرض لها النبي صلى الله عليه وسلم نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
ومن المؤكد أن الأذى الذي يتعرض له الصحابة؛ كان يؤلم النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا نصحهم بالهجرة إلى الحبشة، فكانت الهجرة الأولى إليها.
وباستعراض الآيات التي تحدثت عن إيذاء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وتناولت ذلك بلفظ الأذى، يمكن أن تكتمل الصورة أكثر:
أولًا: بالتأمل في قوله تعالى: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮜ) [الأحزاب:٥٦-٥٨].
يمكن ملاحظة بعض الأمور:
ثانيًا: وفي موضع آخر نرى كيف يثبت الله نبيه صلى الله عليه وسلم ويسليه؛ ليتجاوز به آلام الأذى، ووقعها المحزن على النفس، فالأذى ليس سهلًا، حتى وإن كان مجرد تكذيب واتهام، ناهيك عن الأذى الجسدي، فقال سبحانه: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ) [الأنعام:٣٣-٣٤].
وهنا نجد المواساة للنبي عليه الصلاة والسلام والتثبيت، والوعد بالنصر، فالمواساة لأنهم «لا يكذبونك في الحقيقة؛ وإنما يكذبون الله بجحود آياته»90، والتثبيت لأن هذا التكذيب حدث للأنبياء من قبلك، والوعد بالنصر حيث إنها إرادة الله التي لا مبدل لها، «فلما سلاه تعالى بأنهم بتكذيبك إنما كذبوا الله تعالى، سلاه ثانيًا بأن عادة أتباع الرسل قبلك، تكذيب رسلهم، وأن الرسل صبروا، فتأس بهم في الصبر»91.
ثالثًا: وفي موضع ثالث تعرض لنا الآيات بعض السلوكيات التي تصدر من بعض المسلمين، وتسبب أذىً للنبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول سبحانه: (ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ) [الأحزاب:٥٣].
فالآية تفصل في سلوك اجتماعي؛ يجب معرفة الصواب فيه، والتصرف بما هو لائق بخصوصه، فتبين كيفية التعامل مع بيوت النبي صلى الله عليه وسلم؛ من حيث دخولها أولًا، وتناول الطعام فيها ثانيًا، والتعامل المؤدب النظيف مع زوجات النبي عليه الصلاة والسلام، وعليهن رضوان الله.
وقد كان ذلك لحادثة رواها البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: (لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش، دعا القوم فطعموا، ثم جلسوا يتحدثون، وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام، فلم يقوموا؛ فلما رأى ذلك قام، فلما قام قام من قام، وقعد ثلاثة نفر، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا، فانطلقت فجئت، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا، فجاء حتى دخل فذهبت أدخل، فألقى الحجاب بيني وبينه، فأنزل الله: (ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [الأحزاب:٥٣]الآية)92.
وهذا تصحيح لسلوك خاطئ؛ أراد الله سبحانه أن يعلمهم، ويعلم من بعدهم، فقد كانوا يجلسون عند النبي صلى الله عليه وسلم قبل الطعام، وبعد الطعام، يتحدثون عنده طويلًا، وكان يؤذيه ذلك، ويستحي أن يقول لهم قوموا، إذ أن دخول بيته بغير إذن، والقعود لانتظار الطعام، يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم فيستحي منهم أن يخرجهم منها، فيحتمل صلى الله عليه وسلم إطالتهم كرمًا منه، ويصبر على الأذى في ذلك، فعلم الله من يحضره الأدب، فصار أدبًا لهم ولمن بعدهم93.
أما في مسألة زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وهو أذىً آخر تحركت له حساسية عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما روى البخاري عن أنس، قال: قال عمر رضي الله عنه: قلت: (يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب)94، فأذن الله «في مسألتهن من وراء حجاب، في حاجة تعرض، أو مسألة يستفتين فيها، ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى، وبما تضمنته أصول الشريعة»95.
فالأمر إذًا ليس مقصورًا على أذى الكفار، بل هناك ممارسات يومية، قد تسبب الأذى للداعية، من المحيطين به، وعلينا أن ننتبه لهذا، ونقوم سلوكنا نحو الأفضل؛ لا أن نكون مصدر إزعاج لبعضنا البعض.
موضوعات ذات صلة: |
الاستهزاء، الثبات، الضر، الفتنة، المرض، المن |
1 انظر: العين، الفراهيدي، ٨/٢٠٦، مختار الصحاح، الرازي، ص١٦، لسان العرب، ابن منظور، ١٤/٢٧.
2 المفردات، الراغب الأصفهاني، ١/٢٧.
3 المصدر السابق.
4 التوقيف، المناوي، ١/٤٦.
5 انظر: المعجم الموسوعي لألفاظ القرآن وقراءاته، د. أحمد مختار، ص٦٧.
6 انظر: المعجم المفهرس، محمد فؤاد عبدالباقي ص ٢٦.
7 انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني ص٧١.
8 انظر: الكليات، ص٥٠٣.
9 المفردات، الراغب الأصفهاني، ص ٤٤١.
10 انظر: المصدر السباق، ص٣٧٧.
11 انظر: لسان العرب، ابن منظور ١/٥٣٤.
12 انظر: المصدر السابق.
13 انظر: المصدر السابق، ٤/٤٨٣.
14 انظر: المصدر السابق.
15 مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين ١٠/٨٢٣.
16 مدارك التنزيل، النسفي، ٣/٦٤٤.
17 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٣/٨٢.
18 روح المعاني، الألوسي، ١/٥١٩.
19 أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب اصنعوا كل شيء إلا النكاح، رقم٦٢٠، ١/١٦٩.
20 تفسير الشعراوي، الشعراوي، ١/٩٦٦.
21 فتح القدير، الشوكاني، ١/٢٢٥.
22 تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٩٠.
23 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٢/٢٣٥.
24 تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص١٧١.
25 فتح القدير، الشوكاني، ١/٤٧٤.
26 انظر: مدارك التنزيل، النسفي، ١/٢١٧.
27 الفقه على المذاهب الأربعة، الجزيري، ١/٥٨٤.
28 هوامك: جمع هامة بالتشديد ويطلق على ما يدب من الحيوان كالقمل وشبهه.
انظر: فتح الباري، ابن حجر ١/٢٠٢.
29 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحج، أبواب المحصر، باب قول الله تعالى: (فمن كان منكم مريضًا أو به أذًى من رأسه)، رقم ١٨١٤، ٣/١٠.
30 أنوار التنزيل، البيضاوي، ا/١٥٨.
31 المصدر السابق.
32 التفسير الوسيط، محمد سيد طنطاوي، ٦/١١٥.
33 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٣/٣١٢.
34 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم إسبال الإزار، والمن بالعطية، رقم ١٧١، ١/١٠٢.
35 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم ٣، ١/٧، من حديث عائشة رضي الله عنها.
36 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، رقم ٣٦١٢، ٤/٢٠١.
37 الكشاف، الزمخشري، ١/ ٤٤٩.
38 جامع البيان، الطبري، ١١/٣٣٥.
39 انظر: المصدر السابق.
40 أضواء البيان، الشنقيطي، ٢/٢٤٤.
41 التفسير المنير، الزحيلي، ٣٠/١٥٩.
42 المصدر السابق.
43 انظر: جامع البيان، الطبري، ١٣/٣٥.
44 التحرير والتنوير، ابن عاشور، ٩/٥٦- ٥٧.
45 في ظلال القرآن، سيد قطب، ٢/٩٠٨.
46 التحرير والتنوير، ابن عاشور، ٦/٢٤١.
47 جامع البيان، الطبري، ٢٠/٥٠١.
48 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٦/٥٦٩.
49 البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، ٩/٥٣.
50 إرشاد العقل السليم، أبو السعود، ٧/١٦٣.
51 فتح القدير، الشوكاني، ٤/٤١٨.
52 تفسير المراغي، ٢٢/١٥٢.
53 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٥/٣٠١.
54 صفوة التفاسير، الصابوني، ١/٤٣٢.
55 المصدر السابق.
56 انظر: روح المعاني، الألوسي، ١٢/٣١٥.
57 الغشم: الظلم والغصب.
انظر: لسان العرب، ابن منظور، ١٢/٤٣٧، والمراد عاد فرعون إلى ظلمه.
58 المحرر الوجيز، ابن عطية، ٢/٤٤٠.
59 في ظلال القرآن، سيد قطب، ٣/١٣٥١.
60 جامع البيان، ٢٠/٥٠٨.
61 التحرير والتنوير، ابن عاشور، ١٣/٢٤٦.
62 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٢/٥٩.
63 المحرر الوجيز، ابن عطية، ١/٥٥١.
64 التفسير المنير، الزحيلي، ٤/١٩٦.
65 زهرة التفاسير، أبو زهرة، ٣/١٥٤١.
66 تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص١٦٠.
67 انظر: زهرة التفاسير، أبو زهرة، ٣/١٥٤١.
68 المحرر الوجيز، ابن عطية، ٢/٢٨٧.
69 التفسير المنير، الزحيلي، ٩/٥٤.
70 تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٣٠٠.
71 المصدر السابق، ص٤٢٢.
72 التفسير المنير، الزحيلي، ١٣/٢٢٢.
73 زهرة التفاسير، أبو زهرة، ٨/٤٠٠٤.
74 التفسير الوسيط، الزحيلي، ٢/١١٨٦.
75 جامع البيان، الطبري، ١١/٥٥.
76 التحرير والتنوير، ابن عاشور، ٢٢/٥٨.
77 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، باب (ما وعدك ربك وما قلى)، رقم ٤٩٥٠، ٣/١٧٢.
78 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كنت متخذًا خليلًا)، رقم ٣٦٧٨، ٥/١٠.
79 فتح القدير، الشوكاني، ٤/٣٤٧.
80 تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٦٧١.
81 البسيط، الواحدي، ١٨/٢٩٠.
82 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب التوبة، باب لا أحد أصبر على أذى من الله عز وجل، رقم ٧١٨٢ ، ٨/١٣٣.
83 البسيط، ١٨/٢٩٠.
84 إرشاد العقل السليم، أبو السعود، ٧/١١٤.
85 انظر: تفسير القرآن، العز بن عبد السلام، ٢/٥٨٩.
86 الكشاف، الزمخشري، ٣/٥٥٩.
87 مدارك التنزيل، النسفي، ٣/٤٤.
88 تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٦٧١.
89 فتح القدير، الشوكاني، ٤/٣٤٧.
90 الكشاف، الزمخشري، ٢/١٨.
91 البحر المحيط، أبو حيان، ٤/٤٩٠.
92 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: (لا تدخلوا بيوت النبي)، رقم ٤٧٩١، ٦/١١٨.
93 انظر: البسيط، الواحدي، ١٨/٢٨٤.
94 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: (لا تدخلوا بيوت النبي)، رقم ٤٧٩٠، ٦/١١٨.
95 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ١٤/٢٢٧.