عناصر الموضوع

مفهوم الاتخاذ

الاتخاذ في الاستعمال القرآني

الألفاظ ذات الصلة

الاتخاذ في حق الله تعالى

أنواع الاتخاذ

أسباب الاتخاذ

أساليب القرآن في عرض الاتخاذ

عاقبة الاتخاذ

الاتخاذ

مفهوم الاتخاذ

أولًا: المعنى اللغوي:

الاتخاذ مصدر من تخذ يتخذ، كعلم يعلم: بمعنى: أخذ، تخذت الشيء واتخذته، وقرئ: (لتخذت) و(لاتخذت)، وهو افتعل من تخذ، فأدغم إحدى التاءين في الأخرى1، يقال: تخذت مالًا، أي: كسبته، ألزمت التاء كأنها أصلية، والأصل من الأخذ2.

ورأى ابن الأثير أنها ليس من الأخذ في شيء، فإن الافتعال من الأخذ: ائتخذ؛ لأن فاءه همزةٌ، والهمزة لا تدغم في التاء3. والأكثرون على أن أصله من الأخذ، ومعنى الأخذ والتخذ واحدٌ، وهو حوز الشيء وتحصيله4.

ومن خلال ما سبق يتبين أن الاتخاذ يتمركز معناه اللغوي حول الكسب والحوز والتحصيل.

ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:

الاتخاذ اصطلاحًا: هو «الاقتناء»5، «والاتخاذ: أخذ الشيء لأمر يستمر فيه، مثل الدار يتخذها مسكنًا، والدابة يتخذها قعدة»6.

والمتدبر في المعنيين اللغوي والاصطلاحي يجد اتصالًا بينهما؛ حيث إن المعنى الاصطلاحي أخذ الشيء والاستمرار فيه، وهذا مرتبط بمعنى الاتخاذ اللغوي الذي هو الكسب والحوز والتحصيل مع الاستمرار في الأخذ، وهذا هو الاقتناء.

الاتخاذ في الاستعمال القرآني

ورد الجذر (أ خ ذ) في القرآن (٢٧٣) مرة، يخص موضوع البحث منها (١٢٨) مرة 7.

والصيغ التي ورددت عليها هي:

الصيغة

عدد المرات

المثال

الفعل الماضي

٦٦

( ) [النساء:١٢٥]

الفعل المضارع

٥٣

( ) [النحل:٦٧]

فعل الأمر

٥

( ) [النحل:٦٨]

المصدر

١

( ) [البقرة:٥٤]

اسم فاعل

٣

( ) [الكهف:٥١]

وجاء الاتخاذ في القرآن بمعناه في اللغة، وهو: الافتعال من الأخذ، وهو: التناول للشيء والحوز والاختيار والجعل8.

قال تعالى: ( ) [النساء:١٢٥]. يعني: اختار الله إبراهيم مصافيًا9.

الألفاظ ذات الصلة

الأخذ:

الأخذ لغة:

الأخذ مصدر أخذ، الهمزة والخاء والذال أصل واحد تتفرع منه فروع متقاربة في المعنى، يقال: أخذت الشيء آخذه أخذًا، أي: تناولته10.

الأخذ اصطلاحًا:

الأخذ خلاف العطاء، وهو حوز الشيء وتحصيله، وذلك تارة بالتناول، وتارة بالغلبة والقهر، ومنه أخذته الحمى، وفلان يأخذ مأخذ فلان يذهب مذهبه ويسلك مسلكه11.

الصلة بين الأخذ والاتخاذ:

الأخذ هو تحصيل الشيء، أما الاتخاذ فهو أخذ الشيء والاستمرار فيه مثل الدار يتخذها مسكنًا12، فالاتخاذ اقتناء واجتباء.

الإبعاد:

الإبعاد لغة:

الإبعاد بكسر الهمزة وسكون الباء من أبعد، والأصل بعد بالضم بعدًا فهو بعيد، أي: تباعد، وأبعده غيره، وباعده، وبعده تبعيدًا، والبعد ضد القرب 13.

الإبعاد اصطلاحًا:

التنحية14، وترك الشيء بعيدًا.

الصلة بين الإبعاد والاتخاذ:

الإبعاد من الألفاظ المقابلة للاتخاذ، فالاتخاذ أخذ الشيء وقصده واعتماده والاستقامة عليه، أما الإبعاد تنحية الشيء وتركه بعيدًا.

الاتخاذ في حق الله تعالى

إن المتأمل في الآيات القرآنية الكريمة التي تتحدث عن الاتخاذ، يجد أن الاتخاذ في حقه سبحانه، منه ما هو مثبت في حقه، ومنه ما هو منفي، وسنوضح ذلك فيما يلي.

أولًا: الاتخاذ المثبت في حق الله تعالى:

إن المستقريء لآيات الاتخاذ في حق الله سبحانه وتعالى يجد أن الله سبحانه وتعالى أثبت لنفسه اتخاذ الخليل واتخاذ الشهداء، ولم ينسب لنفسه اتخاذًا سوى ذلك، فالاتخاذ المثبت في حق الله بمعنى الاختيار، فالله عز وجل اختار إبراهيم خليلًا، ويختار من يشاء من عباده ليكون شهيدًا.

١. اتخاذ الخليل.

لقد اتخذ الله سبحانه وتعالى إبراهيم عليه السلام خليلًا، والخلة كمال المحبة، وسيدنا إبراهيم عليه السلام أهلًا لذلك.

قال تعالى: ( ﮜﮝ ) [النساء: ١٢٥].

ففي قوله سبحانه وتعالى: ( ) مجاز يفيد اصطفاءه واختياره واختصاصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله.

والخليل: هو الذي يخالك، أي: يوافقك في خلالك، أو يسايرك في طريقك، أو يسد خللك كما تسد خلله، وهو المحب لمن يحبه، من الخلة وهى المودة والمحبة التي تتخلل النفس وتمازجها15.

فالآية الكريمة تدل على اختيار الله إبراهيم خليلًا، وفيها تأكيد على وجوب اتباع ملته؛ لأن من كانت له هذه المنزلة من الزلفى عند الله بأن اتخذه خليلًا، كان جديرًا بأن تتبع ملته وطريقته، فالله امتن على إبراهيم بسلامة الفطرة والاعتقاد، وقوة العقل وصفاء الروح، وكمال المعرفة بالله، وشدة العزيمة وعلو الهمة في محاربة الوثنية والشرك، حتى صار من أولي العزم، فهو خليل الرحمن، عدو الشيطان16.

إن اتخاذ الله سبحانه وتعالى إبراهيم خليلًا لشدة محبة ربه سبحانه وتعالى له؛ لما قام له من الطاعة التي يحبها ويرضاها، لا لحاجته إلى مخالته وللتكثر به والاعتضاد، وهذا من باب الترغيب في اتباعه؛ لأنه إمام يقتدى به حيث وصل إلى غاية ما يتقرب به العباد له، حتى انتهى إلى درجة الخلة التي هي أرفع مقامات المحبة، وما ذاك إلا لكثرة طاعته لربه، كما وصفه الله سبحانه وتعالى: ( ) [النحل: ١٢٠].

وقال أيضًا: ( ) [النجم: ٣٧]17.

يقول ابن القيم: «ولما كانت الخلة مرتبة لا تقبل المشاركة امتحن الله -سبحانه إبراهيم الخليل بذبح ولده، لما أخذ شعبة من قلبه، فأراد -سبحانه أن يخلص تلك الشعبة له ولا تكون لغيره فامتحنه بذبح ولده، والمراد: ذبحه من قلبه لا ذبحه بالمدية، فلما أسلما لأمر الله وقدم محبة الله تعالى على محبة الولد، خلص مقام الخلة وفدى الولد بالذبح، وقيل: إنما سميت خلة لتخلل المحبة جميع أجزاء الروح»18.

ولم يختص إبراهيم عليه السلام بخلة الرحمن سبحانه وتعالى ، بل شاركه فيها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فعن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: (إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليلٌ؛ فإن الله تعالى قد اتخذني خليلًا، كما اتخذ إبراهيم خليلًا، ولو كنت متخذًا من أمتي خليلًا لاتخذت أبا بكرٍ خليلًا...)19، وقد استحق كلا النبيين عليه السلام هذه المنزلة؛ لما لهما من الصفات، والأفعال العظيمة الجميلة.

٢. اتخاذ الشهداء.

إن الحق سبحانه المتعال الغني عن الخلق غنى مطلق في سياق تكريمه للشهداء، يجعلهم ممن يتخذهم، فقد أثبت الله لنفسه اتخاذ الشهداء.

قال تعالى: ( ) [آل عمران: ١٤٠].

فالله يميز بين المؤمنين والمنافقين، ويكرم من أكرم من أهل الإيمان بالشهادة20، فالشهادة اختيار وإكرام واصطفاء من الله، والشهداء اتخاذ من الله يتخذهم لنفسه.

والشهداء جمع شهيد، وهو من قتل من المسلمين بسيف الكفار في المعركة، واختلفوا في معنى الشهيد: فقيل: الشهيد الحي؛ لأن أرواحهم حية حضرت دار السلام وشهدتها، وأرواح غيرهم لا تشهدها، وقيل: سمي شهيدًا؛ لأن الله تعالى شهد له بالجنة، وقيل: سموا شهداء؛ لأنهم يشهدون يوم القيامة مع الأنبياء والصديقين على الأمم؛ لأن الشهادة تكون للأفضل فالأفضل من الأمة؛ لأن منصب الشهادة منصب عظيم، ولفضل الشهداء العظيم يتخذهم الله، والاتخاذ دائمًا هو أن يأخذه إلى جانبه لمزية له ورفعة لمكانته21.

«( ) وهو تعبير عجيب عن معنى عميق، إن الشهداء لمختارون يختارهم الله من بين المجاهدين، ويتخذهم لنفسه سبحانه، فما هي رزية إذن ولا خسارة أن يستشهد في سبيل الله من يستشهد، إنما هو اختيار وانتقاء وتكريم واختصاص، إن هؤلاء هم الذين اختصهم الله ورزقهم الشهادة ليستخلصهم لنفسه سبحانه، ويخصهم بقربه، ثم هم شهداء يتخذهم الله، ويستشهدهم على هذا الحق الذي بعث به للناس، يستشهدهم فيؤدون الشهادة، يؤدونها أداء لا شبهة فيه ولا مطعن عليه، ولا جدال حوله، يؤدونها بجهادهم حتى الموت في سبيل إحقاق هذا الحق وتقريره في دنيا الناس.

يطلب الله سبحانه منهم أداء هذه الشهادة على أن ما جاءهم من عنده الحق؛ وعلى أنهم آمنوا به وتجردوا له وأعزوه حتى أرخصوا كل شيء دونه، وعلى أن حياة الناس لا تصلح ولا تستقيم إلا بهذا الحق، وعلى أنهم هم استيقنوا هذا فلم يألوا جهدًا في كفاح الباطل، وطرده من حياة الناس، وإقرار هذا الحق في عالمهم، وتحقيق منهج الله في حكم الناس، يستشهدهم الله على هذا كله فيشهدون، وتكون شهادتهم هي هذا الجهاد حتى الموت، وهي شهادة لا تقبل الجدال والمحال، وكل من ينطق بالشهادتين شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقال له: إنه شهد، إلا أن يؤدي مدلول هذه الشهادة ومقتضاها، ومدلولها هو ألا يتخذ إلا الله إلهًا، ومن ثم لا يتلقى الشريعة إلا من الله، فأخص خصائص الألوهية التشريع للعباد، وأخص خصائص العبودية التلقي من الله.

ومدلولها كذلك ألا يتلقى من الله إلا عن محمد صلى الله عليه وسلم، بما أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعتمد مصدرًا آخر للتلقي إلا هذا المصدر، ومقتضى هذه الشهادة أن يجاهد إذن لتصبح الألوهية لله وحده في الأرض، كما بلغها محمد صلى الله عليه وسلم، فيصبح المنهج الذي أراده الله للناس والذي بلغه عنه محمد صلى الله عليه وسلم هو المنهج السائد والغالب والمطاع، وهو النظام الذي يصرف حياة الناس كلها بلا استثناء.

فإذا اقتضى هذا الأمر أن يموت في سبيله فهو إذن شهيد، أي: شاهد، طلب الله إليه أداء هذه الشهادة فأداها، واتخذه الله شهيدًا، ورزقه هذا المقام، هذا فقه ذلك التعبير العجيب، ويتخذ منكم شهداء، وهو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله»22.

ثانيًا: الاتخاذ المنفي في حق الله تعالى:

كما أن الله سبحانه وتعالى أثبت لنفسه اتخاذًا، فقد جاءت آيات قرآنية أخرى تنفي صورًا من الاتخاذ عن الله سبحانه وتعالى، ومنها اتخاذ الزوجة والولد والظهير والمعين.

١. اتخاذ الزوجة.

لقد نفى الله سبحانه وتعالى عن نفسه اتخاذ الزوجة، فهو منزه عن المماثلة بخلقه، قال تعالى: ( ) [الجن: ٣].

فالآية الكريمة تنفي عن الله اتخاذ الصاحبة أي: الزوجة، تعالت عظمة ربنا وجلاله، ما اتخذ زوجة ولا ولدًا23.

يقول الطبري في تفسير هذه الآية: «والمعنى: أن حظوته من الملك والسلطان والقدرة العظيمة عالية، فلا تكون له صاحبة ولا ولد؛ لأن الصاحبة إنما تكون للضعيف العاجز الذي تضطره الشهوة الباعثة إلى اتخاذها، وأن الولد إنما يكون عن شهوة أزعجته إلى الوقاع الذي يحدث منه الولد، فقال النفر من الجن: علا ملك ربنا وسلطانه وقدرته وعظمته أن يكون ضعيفًا ضعف خلقه، الذين تضطرهم الشهوة إلى اتخاذ صاحبة، أو وقاع شيء يكون منه ولد»24، ويؤكد ذلك قوله سبحانه وتعالى: ( ﯺﯻ ﯿ ) [الأنعام: ١٠١].

فماذا يريد الحق من الصاحبة؟ إنه لا يريد شيئًا، فلا الولد ولا الصاحبة يزيدان له قدرة تخلق، ولا حكمة ترتب، ولا علمًا يدبر، ولا أي شيء، وخلاف هذا التصور عبث25، فالله منزه عن اتخاذ الزوجة سبحانه وتعالى ذلكم الله لا إله إلا هو، فهو الموصوف بكل كمال، المنزه عن كل نقص.

٢. اتخاذ الولد.

الأدلة على نفي اتخاذ الله سبحانه وتعالى للولد كثيرة، منها: قوله سبحانه وتعالى: ( ﯡﯢ ) [مريم: ٣٥].

فالله سبحانه وتعالى منزهٌ عن اتخاذ الولد، وهو غني عن العالمين؛ إذ اتخاذ الولد افتقار إليه، والله سبحانه وتعالى هو الغني فلا يفتقر إلى أحد، فما يريد تحقيقه يحققه بتوجه الإرادة لا بالولد والمعين26.

ونفى القرآن الكريم ما ينسبه المشركون لله سبحانه وتعالى من اتخاذه الولد، تعالى الله عز وجل عما يقولون علوًا كبيرًا.

قال تعالى: ( ﮦﮧ ﮨﮩ ﮯﮰ ) [البقرة: ١١٦].

قال أهل الكتاب والمشركون من اليهود والنصارى وغيرهم: المسيح ابن الله، وعزير ابن الله، والملائكة بنات الله!!

سبحانه وتعالى وتنزيهًا له عما يدعون، بل له كل ما في السماوات والأرض ومنهم هؤلاء، الكل قد خلقهم الله، كلٌ له منقادون إن طوعًا وإن كرهًا، وهو الذي أبدع السماوات والأرض وما فيهن، وإذا أراد أمرًا -فلا راد لقضائه- كان وتحقق من غير امتناع، فمن له كل ما في السماوات والأرض خلقًا وملكًا، ومن له كل ما في الكون كائنًا ومنقادًا، ومن أبدع السماء والأرض والوجود كله، ومن إذا أراد أمرًا كان ووجد من غير امتناع أو إباء، من كان هذا شأنه أيحتاج إلى الولد أو الوالد؟ ومن كان هذا شأنه يكون له جنس؟ أم هو الواحد الأحد الفرد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد؟!»27.

قال تعالى: ( ) [مريم: ٨٨- ٨٩].

والإد: هو المنكر العظيم والأمر الفظيع28.

( ) [مريم: ٩٢] فهو الغني فلا يفتقر إلى أحد، وهو الملك فكل ما سواه مملوك، وهو الحي الذي لا يموت، وهو الوارث الباقي، تعالى ربنا وتقدس29.

٣. اتخاذ الظهير والمعين.

وإن من الاتخاذ المنفي عن الله سبحانه وتعالى: اتخاذه الظهير والمعين.

قال تعالى: ( ) [الكهف: ٥١].

فالله ينفي اتخاذه الشياطين والكفار أنصارًا وأعوانًا، والعضد يستعمل كثيرًا في معنى العون؛ لأنه قوام اليد، والاعتضاد: التقوي وطلب المعونة، والله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى عون أحد30.

ومعنى الآية: «أي ما أحضرت إبليس وذريته خلق السماوات والأرض، حين خلقتهما، ( ) أي: وما أشهدت بعضهم أيضًا خلق بعض منهم، ونفي الإشهاد كناية عن نفي الاعتضاد بهم والاستعانة على خلق ما ذكر أبلغ؛ إذ من لم يشهد فأنى يستعان به؟ فأنى يصح جعله شريكًا؟ ولذلك قال سبحانه وتعالى: ( ) أي: وما كنت متخذهم أعوانًا لخلق ما ذكر، بل تفردت بخلق جميع ذلك بغير معين ولا ظهير، أي: وإذا لم يكونوا عضدًا في الخلق، فما لكم تتخذونهم شركاء في العبادة؟ واستحقاق العبادة من توابع الخالقية»31.

وخص سبحانه وتعالى المضلين بالذكر، زيادة في ذمهم وتوبيخهم، وتقريعًا لأمثالهم؛ لأنه سبحانه وتعالى ليس له أعوان ولا أنصار لا من المضلين ولا من المهتدين32.

ونحو ذلك قوله تعالى: ( ) [سبأ: ٢٢].

أي: ما لله من هؤلاء من معين على خلق شيء، بل الله المنفرد بالإيجاد، فهو الذي يعبد، وعبادة غيره محال، والظهير: هو المعين الذي يسند ظهر من يستعين به، فهم ليسوا شركاء لله، ولا أعوانًا له، وإنما هم عبيد مسخرون لجلاله وقدرته33.

أنواع الاتخاذ

إن المتأمل في معاني الآيات التي تحدثت عن الاتخاذ في حق المخلوق يجد أن الاتخاذ إما أن يكون محمودًا وإما أن يكون مذمومًا، فالمحمود مدحه الله ومدح أهله، ودعا إليه، والمذموم ذمه الله وذم أهله، وحذرنا منه.

أولًا: الاتخاذ المحمود:

اشتملت كثير من الآيات التي تتحدث عن الاتخاذ في القرآن الكريم على معنى الاتخاذ المحمود، وفيما يلي نذكر بعض صور الاتخاذ المحمود.

١. اتخاذ الله سبحانه وتعالى وكيلًا.

أمر الله سبحانه وتعالى نبيه، وهو أمر للمسلمين جميعًا باتخاذ الله وكيلًا.

قال تعالى:( ) [المزمل: ٩].

فهذا اتخاذ محمود، فالله سبحانه وتعالى رب المشرق والمغرب وما بينهما من العالم، لا ينبغي أن يعبد إله سواه، فهو المستحق للعبادة، ولا وكيل سواه؛ لذا أمرنا الله باتخاذه وكيلًا ومدبرًا في كل أمورنا، نعتمد عليه ونلجأ إليه ونفوض إليه الأسباب34.

يقول الشوكاني: «( ) أي: إذا عرفت أنه المختص بالربوبية فاتخذه وكيلًا، أي: قائمًا بأمورك، وعول عليه في جميعها، وقيل: كفيلًا بما وعدك من الجزاء والنصر» 35.

٢. اتخاذ مقام إبراهيم مصلى.

أمر الله سبحانه وتعالى المسلمين أن يتخذوا مقام إبراهيم عليه السلام ؛ تكريمًا له لإخلاصه، وليكون قدوة للناس، وهذا اتخاذ محمود، فهو أمر من الله، قال تعالى: ( ) [البقرة: ١٢٥].

على إرادة القول، أي: وقلنا: اتخذوا منه موضع صلاة تصلون فيه، وهو على وجه الاختيار والاستحباب دون الوجوب، ومقام إبراهيم: الحجر الذي فيه أثر قدميه، والموضع الذي كان فيه الحجر حين وضع عليه قدميه، وقيل: الحرم كله مقام إبراهيم36.

ويطلق مقام إبراهيم على الكعبة؛ لأن إبراهيم عليه السلام كان يقوم عندها يعبد الله تعالى، ويدعو إلى توحيده، ويطلق مقام إبراهيم على الحجر الذي كان يقف عليه إبراهيم عليه السلام حين بنائه الكعبة ليرتفع لوضع الحجارة في أعلى الجدار، وقد ثبتت آثار قدميه في الحجر، وهذا الحجر يعرف إلى اليوم بالمقام، وكان إبراهيم عليه السلام قد وضع المسجد الحرام حول الكعبة ووضع الحجر الذي كان يرتفع عليه للبناء حولها، فكان المصلى على الحجر المسمى بالمقام، فذلك يكون المصلى متخذًا من مقام إبراهيم على كلا الإطلاقين، ولم يكن الحجر الذي اعتلى عليه إبراهيم في البناء مخصوصًا بصلاة عنده، ولكنه مشمول للصلاة في المسجد الحرام، ولما جاء الإسلام بقي الأمر على ذلك إلى أن كان عام حجة الوداع أو عام الفتح دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد الحرام ومعه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم سنت الصلاة عند المقام في طواف القدوم37.

٣. اتخاذ النحل للجبال بيوتًا.

لقد أوحى الله للنحل أن تتخذ الجبال بيوتًا، وهنا أكثر من كونه أمرًا فهو وحي، إذًا هو اتخاذ محمود.

قال تعالى: ( ﮑﮒ ) [النحل: ٦٨].

أودع الله في النحل إدراكًا لصنع محكم مضبوط منتج شرابًا نافعًا: إنه العسل، فقد افتتحت الآية بفعل أوحى لما في أوحى من الإيماء إلى إلهام تلك الحشرة الضعيفة تدبيرًا عجيبًا وعملًا متقنًا وهندسة في الجبلة38، ( ) أي: اجعلي لك بيوتًا في الجبال تأوين إليها، واتخاذ البيوت هو أول مراتب الصنع الدقيق الذي أودعه الله في طبائع النحل فإنها تبني بيوتًا بنظام دقيق، وأشير إلى أنها تتخذ في أحسن البقاع من الجبال أو الشجر أو العرش دون بيوت الحشرات الأخرى؛ وذلك لشرفها بما تحتويه من المنافع، وبما تشتمل عليه من دقائق الصنعة39.

يقول سيد قطب: «والنحل تعمل بإلهام من الفطرة التي أودعها إياها الخالق، فهو لون من الوحي تعمل بمقتضاه، وهي تعمل بدقة عجيبة يعجز عن مثلها العقل المفكر سواء في بناء خلاياها، أو في تقسيم العمل بينها، أو في طريقة إفرازها للعسل المصفى، وهي تتخذ بيوتها -حسب فطرتها- في الجبال والشجر وما يعرشون، أي: ما يرفعون من الكروم وغيرها، وقد ذلل الله لها سبل الحياة بما أودع في فطرتها وفي طبيعة الكون حولها من توافق»40.

٤. اتخاذ الشيطان عدوًا.

أمر الله سبحانه وتعالى عباده أن يتخذوا الشيطان عدوًا؛ لأنه يسعى دائمًا لإيقاعهم بالفساد، فاتخاذ الشيطان عدوًا هو اتخاذ محمود، يجنب العبد الوقوع في مكائد الشيطان.

قال تعالى: ( ﭴﭵ ) [فاطر: ٦].

أمر الله باتخاذ العدو عدوًا، وتلك عداوة مودعة في جبلته كعداوة الكلب للهر؛ لأن جبلة الشيطان موكولة بإيقاع الناس في الفساد وأسوأ العواقب في قوالب محسنة مزينة، ومن لوازم اتخاذه عدوًا العمل بخلاف ما يدعو إليه لتجنب مكائده ولمقته بالعمل الصالح، حيث أعقبت الآية الأمر باتخاذ الشيطان عدوًا بتحذير من قبول دعوته، وحث على وجوب اليقظة لتغريره، وتجنب توليه بأنه يسعى في ضر أوليائه وحزبه، فيدعوهم إلى ما يوقعهم في السعير41.

يقول سيد قطب: «الشيطان يغر ويخدع؛ فلا تمكنوه من أنفسكم ( )، والشيطان قد أعلن عداءه لكم وإصراره على عدائكم ( ) لا تركنوا إليه، ولا تتخذوه ناصحًا لكم، ولا تتبعوا خطاه، فالعدو لا يتبع خطى عدوه وهو يعقل! وهو لا يدعوكم إلى خير، ولا ينتهي بكم إلى نجاة: ( )! فهل من عاقل يجيب دعوة الداعي إلى عذاب السعير؟! إنها لمسة وجدانية صادقة، فحين يستحضر الإنسان صورة المعركة الخالدة بينه وبين عدوه الشيطان، فإنه يتحفز بكل قواه وبكل يقظته وبغريزة الدفاع عن النفس وحماية الذات، يتحفز لدفع الغواية والإغراء، ويستيقظ لمداخل الشيطان إلى نفسه، ويتوجس من كل هاجسة، ويسرع ليعرضها على ميزان الله الذي أقامه له ليتبين، فلعلها خدعة مستترة من عدوه القديم! وهذه هي الحالة الوجدانية التي يريد القرآن أن ينشئها في الضمير»42.

ثانيًا: الاتخاذ المذموم:

اشتملت كثير من الآيات التي تتحدث عن الاتخاذ في القرآن الكريم على معنى الاتخاذ المذموم، نذكر منها ما يلي:

١. اتخاذ الأولياء والآلهة من دون الله.

إن اتخاذ الأولياء من دون الله هو اتخاذ مذموم، ذمه القرآن الكريم، فلما أمر بالتوحيد والإخلاص، نهى عن الشرك به، وأخبر بذم من أشرك به واتخذ من دونه وليًا.

قال تعالى: ( ﮉﮊ ﮟﮠ ) [الزمر: ٣].

فالذين يتخذون من دون الله آلهة يتولونهم بعبادتهم ودعائهم لتشفع لهم وتقربهم لله، قد تركوا ما أمر الله به من الإخلاص والتوحيد، وتجرأوا على أعظم المحرمات، وهو الشرك، فهؤلاء وصفهم الله بالكذب والكفر43، وقد ضرب الله مثل من اتخذ من دون الله وليًا معتمدًا عليه يحتمي بحماه، يقصد به التعزز والتقوي والنفع، وهو لا يجلب له نفعًا ولا يدفع عنه ضرًا، بحال العنكبوت اتخذت بيتًا؛ لتحتمي به من الأخطار، وهي لا تدري أن هذا البيت لا يقي حرًا ولا بردًا.

قال تعالى: (ﭿ ﮉﮊ ﮏﮐ ) [العنكبوت: ٤١].

«فالعنكبوت من الحيوانات الضعيفة، وبيتها من أضعف البيوت، فما ازدادت باتخاذه إلا ضعفًا، كذلك هؤلاء الذين يتخذون من دونه أولياء، فقراء عاجزون من جميع الوجوه، وحين اتخذوا الأولياء من دونه يتعززون بهم ويستنصرونهم، ازدادوا ضعفًا إلى ضعفهم، ووهنًا إلى وهنهم»44.

ومن الاتخاذ المذموم اتخاذ الأحبار والرهبان أربابًا من دون الله، وهذا شرك بالله، فلا يجوز طاعتهم.

قال تعالى: ( ﯧﯨ ﯬﯭ ) [التوبة: ٣١].

هذه الآية في اليهود الذين اتخذوا علماءهم، والنصارى الذين اتخذوا رهبانهم سادة لهم يطيعونهم في معصية الله، فيحلون ما أحلوه لهم مما حرمه الله، ويحرمون ما حرموه لهم مما أحله الله، بالإضافة لاتخاذهم المسيح ابن مريم ربًا من دون الله، والله أمرهم ألا يعبدوا ويطيعوا إلا إلهًا واحدًا هو الله سبحانه وتعالى ، وأما طاعة الرسول وسائر من أمر الله بطاعته فهو في الحقيقة طاعة الله، وهذا الأمر من الله دليل على بطلان اتخاذهم45.

وكذلك نهى الله عن اتخاذ الأصنام شفعاء من دون الله، فهي لا تملك نفعًا ولا ضرًا، فالشفاعة لله وحده.

قال تعالى: ( ﮉﮊ ﮗﮘ ﮜﮝ ) [الزمر: ٤٣- ٤٤].

أي: قل لهم يا محمد: أتتخذون الأصنام والقربان شفعاء من دون الله، وهي لا تملك شيئًا ولا تعقل؛ لأنها جمادات، فهذا استفهام إنكاري لهذا الاتخاذ الباطل، فالشفاعة لله وحده، ولا شافع إلا من شفاعته46.

٢. اتخاذ الكفار واليهود والنصارى أولياء من دون المؤمنين.

فقد نهى الله سبحانه وتعالى المسلمين من اتخاذ الكفار أولياء بموالاتهم ونصرتهم ومحبتهم، بل لابد من التبرؤ منهم، واتخاذ المؤمنين أولياء.

قال تعالى: ( ﮧﮨ ) [النساء: ١٤٤].

هذا نهي من الله لعباده المؤمنين أن يتخلقوا بأخلاق المنافقين، الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، فيكونوا مثلهم في ركوب ما نهاهم عنه من موالاة أعدائه، فيقول لهم -جل ثناؤه-: لا توالوا الكفار فتؤازروهم من دون أهل ملتكم ودينكم من المؤمنين، فتكونوا كمن أوجبت له النار من المنافقين47.

وقال تعالى: ( ﯣﯤ ﯱﯲ ﯵﯶ ) [آل عمران: ٢٨].

وهذا نهي من الله لعباده المؤمنين أن يتخذوا الكافرين أعوانًا وأنصارًا يبادلونهم المحبة والمناصرة على إخوانهم المؤمنين، وأعلمهم تعالى أن من يفعل ذلك فقد برئ الله تعالى منه، وذلك لكفره وردته، حيث والى أعداء الله وعادى أولياءه48.

ونهى الله سبحانه وتعالى أيضًا من اتخاذ اليهود والنصارى أولياء وحلفاء، فهذا الاتخاذ المذموم يسبب سخط الله سبحانه وتعالى.

قال تعالى: ( ﭙﭚ ﭝﭞ ﭣﭤ ) [المائدة: ٥١].

فيتوجب على أهل الإيمان عدم اتخاذ أعداء الإسلام من اليهود والنصارى أنصارًا وحلفاءً، وألا يسروا إليهم بأسرارهم ولا يطمئنوا لمودتهم، فهم لن يخلصوا لهم؛ لأنهم أولياء بعضهم بعضًا، ثم توعد من يواليهم أو يعينهم أو يستنصر بهم، فإنه في الحقيقة منهم، أي: من جملتهم، وكأنه مثلهم، وليس من صف المؤمنين الصادقين، وهذا تغليظ من الله وتشديد على المنافقين الذين يتصادقون مع اليهود والنصارى المخالفين في الدين؛ لأن موالاتهم تستدعي الرضا بدينهم49.

٣. اتخاذ الدين والرسول لهوًا ولعبًا.

إن من الاتخاذ المذموم ما يفعله الكفار من اتخاذ دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لهوًا ولعبًا، فقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن المشركين أنهم يستهزؤون برسول الله صلى الله عليه وسلم متى رأوه.

قال تعالى: ( ) [الفرقان: ٤١].

وهذا القول صدر عن أبي جهل، على سبيل التنقص والازدراء والاستهزاء -قبحهم الله-، فهذا اتخاذ مذموم50.

وقد بين الله سبحانه وتعالى أن من أسباب دخول النار الإعراض عن دين الله والاستهزاء به، واتخاذه لهوًا ولعبًا.

قال تعالى: ( ﯾﯿ ) [الأعراف: ٥١].

ومعنى: ( ) أي: بالإعراض والاستهزاء لمن يدعوهم إلى الإسلام، لهت قلوبهم وأعرضت عنه، ولعبوا واتخذوه سخريًا، أو أنهم جعلوا بدل دينهم اللهو واللعب، ( ) أي: خدعتهم بزخرفها، واعتقادهم أنها الغاية القصوى، والنسيان في هذه الآية هو بمعنى الترك، أي: نتركهم في العذاب51.

٤. اتخاذ القرآن مهجورًا.

القرآن الكريم هو دستور هذه الأمة، أمرنا الله بالتعبد بتلاوته وحفظه وتطبيق أوامره ونواهيه، واتخاذه دستورًا ومنهج حياة؛ لذا كان هجرانه اتخاذًا مذمومًا، سواء هجرانه بعدم الإيمان به، أو ترك تلاوته أو الغفلة عنه، أو بهجر العمل به والاحتكام إليه، وقد اشتكى رسولنا صلى الله عليه وسلم قومه إلى الله سبحانه وتعالى لهجرانهم القرآن وتكذيبهم له.

قال تعالى: ( ) [الفرقان: ٣٠].

الآية تتضمن شكوى رسول الله صلى الله عليه وسلم حال قومه مع القرآن، والمعنى: إن قومي اتخذوا هذا القرآن الذي جئت به إليهم، وأمرتني بإبلاغه وأرسلتني به مهجورًا، أي: متروكًا بالكلية لم يؤمنوا به، ولا قبلوه بوجه من الوجوه، ولم يرفعوا إليه رأسًا، ولم يتأثروا بوعظه ووعيده، بل أعرضوا عنه مع أن الواجب عليهم الانقياد لحكمه والإقبال على أحكامه، وقالوا فيه غير الحق من أنه سحر وشعر، وهذا هجران مذموم52.

وقد عبر في الآية بالاتخاذ مع أن الهجر ترك؛ لأن «فعل الاتخاذ إذا قيد بحالة يفيد شدة اعتناء المتخذ بتلك الحالة، بحيث ارتكب الفعل لأجلها وجعله لها قصدًا، فهذا أشد مبالغة في هجرهم القرآن من أن يقال: إن قومي هجروا القرآن. واسم الإشارة في هذا القرآن لتعظيمه، وأن مثله لا يتخذ مهجورًا، بل هو جدير بالإقبال عليه والانتفاع به»53، فحري بنا أن نقبل عليه، ونتخذه صاحبًا وأنيسًا، لا مهجورًا، فحق المؤمن أن يكون كثير التعهد له، عاملًا به؛ ليكون شفيعًا له يوم القيامة.

٥. اتخاذ الأخدان.

لقد شرع الله لنا الزواج ونهانا عن اتخاذ الأخدان، فالمباح لنا هو الزواج بالحرائر المؤمنات العفيفات، وكذلك الكتابيات، بشرط إتيانهن مهورهن، بقصد الإحصان والإعفاء، لا بالسفاح وارتكاب الفواحش والزنى العلني، أو الزنى السري، وهو اتخاذ الاخدان54.

قال تعالى: ( ) [المائدة: ٥].

أي: عاقدين عليهن عقدة النكاح المتوقفة على المهر والولي والشهود وصيغة الإيجاب والقبول، لا مسافحين بإعطاء المرأة أجرة وطئها فقط بدون عقد مستوف لشروطه، ( )أيضًا بأن تنكحوهن سرًا بحكم الصحبة والصداقة والمحبة، إذ ذاك هو الزنى، فلا يحل بأجرة، ولا بغير أجرة55.

وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يعيرون من يزني في العلانية ولا يعيرون من يزني سرًا، فحرم الله زنى السر والعلانية56، كما شرط ديننا على النساء أن يكن محصنات، وألا يتخذن الأخدان.

قال تعالى: ( ) [النساء: ٢٥].

أخدان جمع خدن، وهو الخليل، وكان من نساء الجاهلية من تتخذ خدنًا تزني معه خاصة، ومنهن من كانت لا ترد يد لامس، ومعنى: ( ) أي: غير مجاهرات بالزنا، ولا مسراتٍ له، وكان الزنا في الجاهلية منقسمًا إلى هذين القسمين57.

أسباب الاتخاذ

إن لكل اتخاذ أسبابًا تؤدي إليه، حري بنا أن نميز بينها، ونتبع كل اتخاذ محمود، ونأخذ بأسبابه ونسلك كل سلوك يؤدي إليه، ونتجنب كل اتخاذ مذموم، ونبتعد كل البعد عن أسبابه، والتي من شأنها أن تجلب غضب الله وعقابه.

أولًا: أسباب الاتخاذ المحمود:

إن للاتخاذ المحمود أسبابًا حريٌ بنا اتباعها، نذكر أهمها:

١. الإيمان.

إن من أهم أسباب الاتخاذ المحمود هو الإيمان، فالإيمان يدفع صاحبه لكل أمر محمود، ولكل فعل أمر به الشرع ودعا إليه، والمؤمن أكثر الناس حبًا لله، وحبه لربه يدفعه للإخلاص له في عبادته وعدم الشرك معه.

قال تعالى: ( ﭿ ﮇﮈ )[البقرة: ١٦٥].

فالآية الكريمة تبرز أن المؤمنين أشد الناس حبًا لله، وهذا مدح لأهل الإيمان؛ لأن إيمانهم دفعهم لهذا الحب الخالص، وهذا الحب يدفعهم لتوحيده واتخاذ الله إلهًا واحدًا، لا شريك له، ويدفعهم أيضًا للابتعاد كل البعد عن اتخاذ الند كبعض الناس يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم ويشركون مع الله في حبهم، فيسوونهم مع الله في المحبة والطاعة، فهم مشركون بهذا الحب الذي لا يصدر من مؤمن موحد؛ لأنهم أحبوا من يستحق المحبة على الحقيقة، الذي محبته هي عين صلاح العبد وسعادته وفوزه، والمشركون أحبوا من لا يستحق من الحب شيئًا، ومحبته عين شقاء العبد وفساده، وتشتت أمره58.

إنه الإيمان الصادق بالله الذي يدفع المؤمن للاتخاذ المحمود، «فإن المؤمنين لا يحبون شيئًا حبهم لله، لا أنفسهم ولا سواهم، لا أشخاصًا، ولا اعتبارات، ولا شارات، ولا قيمًا من قيم هذه الأرض التي يجري وراءها الناس، ( ) أشد حبًا لله، حبًا مطلقًا من كل موازنة، ومن كل قيد، أشد حبًا لله من كل حب يتجهون به إلى سواه، والتعبير هنا بالحب تعبير جميل، فوق أنه تعبير صادق، فالصلة بين المؤمن الحق وبين الله هي صلة الحب، صلة الوشيجة القلبية، والتجاذب الروحي، صلة المودة والقربى، صلة الوجدان المشدود بعاطفة الحب المشرق الودود»59.

٢. اتباع سبيل الهدى.

وإن من أسباب الاتخاذ المحمود اتباع سبيل الهدى، وطاعة الله فيما أمر والامتناع عما نهى، فالله سبحانه وتعالى أمرنا باتخاذه وكيلًا.

قال تعالى:( ) [المزمل: ٩].

هذا أمر من الله باتخاذه وكيلًا، وعدم اتخاذ الأولياء والآلهة والشفعاء من دونه، فمن أطاعه واتبع سبيل الهدى فاز وربح بهذا الاتخاذ المحمود، فإن من دلالة هذه الآية أن من حقق التوحيد واتبع سبيل الهدى اتخذ الله وكيلًا.

يقول ابن عاشور: «وإذا كان الأمر باتخاذه وكيلًا مسببًا عن كونه لا إله إلا هو كان ذلك في قوة النهي عن اتخاذ وكيل غيره، إذ ليس غيره بأهل لاتخاذه وكيلًا»60.

«وهكذا المؤمن الكامل لا يتوكل إلا عليه سبحانه وتعالى ولا يعتمد على سواه، ولا ينقطع عن كل ذلك؛ لأنه رب المشرق والمغرب وما بينهما، لا إله غيره، وكيف يكون غير ذلك؟! وكل ما في الكون شرقه وغربه شاهد عدل على وحدانية الله، وأنه لا إله غيره، ولا معبود سواه، إذا كان الأمر كذلك فاتخذه وكيلًا»61.

٣. الانتفاع بالتذكر.

إن الانتفاع بالتذكرة سبب يدفع للاتخاذ المحمود، فالإنسان مدعو للانتفاع بالتذكرة والموعظة، فمن ينتفع بالتذكرة والموعظة فإنه سيتخذ سبيل الإيمان والرشاد.

قال تعالى:( ﯷﯸ ) [المزمل: ١٩] أي: من كان يريد أن يتخذ إلى ربه سبيلًا فقد تهيأ له اتخاذ السبيل إلى الله بهذه التذكرة، والتذكرة هي الموعظة؛ لأنها تذكر الغافل عن سوء العواقب، فالانتفاع بالتذكرة سبب للاتخاذ المحمود62.

ثانيًا: أسباب الاتخاذ المذموم:

١. الكفر.

إن من أهم أسباب الاتخاذ المذموم هو الكفر بالله والنفاق-والعياذ بالله-، فالكافر كفره يصرفه إلى كل مذموم، وقد بين الله سبحانه وتعالى ذلك، ففي سياق ذكر صفات منافقي أهل الكتاب وما استحقوه من لعنة من الله؛ لأنهم اتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين، يبين الله سبحانه وتعالى أن سبب هذا الاتخاذ المذموم أنهم لم يؤمنوا بالله ولا بنبيه.

قال تعالى: ( )[المائدة: ٨١].

فالآية تبين أن عدم إيمان الذين يتولون المشركين سبب في اتخاذهم المشركين أولياء، فإن الإيمان بالله ورسوله وازعٌ عن توليهم قطعًا، ومانع لهم عن هذا الاتخاذ المذموم63.

٢. مخالفة أوامر الله واتباع سبيل الضلال.

إن مخالفة أوامر الله توقع المرء في الاتخاذ المذموم، فلما خالف اليهود والنصارى أوامر الله سبحانه وتعالى، وقد أمرهم بعبادته وعدم الشرك به، وقعوا بالشرك.

قال تعالى: ( ﯧﯨ ﯬﯭ ) [التوبة: ٣١].

فالآية توضح أن مخالفتهم لأمر الله وعدم التزامهم بأمره كان سببًا في هذا الاتخاذ المذموم وهو اتخاذ الأحبار، أي: العلماء، وعيسى ابن مريم أربابًا وآلهة من دون الله.

وقد بين الله سبحانه وتعالى أن الذي يتكبر عن آياته ولا يؤمن بها ويتبع سبيل الضلال، ويعرض عن سبيل الهداية، فإنه سيتنكب الطريق، فيصبح لا يميز طريق الحق من طريق الباطل، فيتخذ سبيل الغي طريقًا ويترك طريق الرشد؛ لأنه كذب بآيات الله، وغفل عن معطيات الإيمان.

قال تعالى: ( ﭿ ﮒﮓ ) [الأعراف: ١٤٦].

يقول الشعراوي: «وحين يرى أهل الكبر الآية الكونية أو الآية الإعجازية أو آيات الأحكام فهم لا يؤمنون بها، وحين يرون سبيل الرشد لا يتخذونه سبيلًا؛ لأن سبيل الرشد يضغط على شهوات النفس وهواها، فينهى عن السيئات وهم لا يقدرون على كبح جماح شهواتهم؛ لأنها تمكنت منهم، ولكن سبيل الغي يطلق العنان لشهوات النفس، ولا يكون كذلك إلا إذا غفل عن معطيات الإيمان الذي يحرمه من شيء ليعطيه أشياء أثمن»64.

ويقول السعدي في بيان سبب اتخاذهم سبيل الغي، وعدم اتخاذهم سبيل الرشد، «( ) فردهم لآيات الله، وغفلتهم عما يراد بها واحتقارهم لها، هو الذي أوجب لهم سلوك طريق الغي، وترك طريق الرشد»65.

٣. اتباع غواية الشيطان.

وإن من أسباب الاتخاذ المذموم: اتباع غواية الشيطان، فالشيطان يسعى في إغواء العباد، وتزيين الشر لهم؛ ليضلهم، وقد نهانا الله عن اتباع غواية الشيطان، وعن اتخاذه وليًا، بل دعانا لاتخاذه عدوًا؛ لأنه يضل الناس ليكونوا من حزبه ثم يكونوا من أصحب السعير.

قال تعالى: ( ﭴﭵ ) [فاطر: ٦].

يقول ابن عاشور: «وأعقب الأمر باتخاذ الشيطان عدوًا بتحذير من قبول دعوته وحثٍ على وجوب اليقظة لتغريره وتجنب توليه بأنه يسعى في ضر أوليائه وحزبه، فيدعوهم إلى ما يوقعهم في السعير، وهذا يؤكد الأمر باتخاذه عدوًا؛ لأن أشد الناس تضررًا به هم حزبه وأولياؤه، وجملة ( ) تعليل لجملة ( )»66.

فإن اتباع غواية الشيطان تسبب اتخاذه وليًا من دون الله، وتوقع العبد في اتباع كل مذموم، «ذلك الشيطان الذي لعنه الله، والذي صرح بنيته في إضلال فريق من أبناء آدم، وتمنيتهم بالأمنيات الكاذبة في طريق الغواية، من لذة كاذبة، وسعادة موهومة، ونجاة من الجزاء في نهاية المطاف! كما صرح بنيته في أن يدفع بهم إلى أفعال قبيحة، وشعائر سخيفة، من نسج الأساطير، كتمزيق آذان بعض الأنعام؛ ليصبح ركوبها بعد ذلك حرامًا، أو أكلها حرامًا -دون أن يحرمها الله- ومن تغيير خلق الله وفطرته بقطع بعض أجزاء الجسد أو تغيير شكلها في الحيوان أو الإنسان، كخصاء الرقيق، ووشم الجلود، وما إليها من التغيير والتشويه الذي حرمه الإسلام»67.

قال تعالى: ( ﮧﮨ ) [النساء: ١١٨- ١١٩].

«وقد جعل الإسلام المعركة الرئيسة بين الإنسان والشيطان، ووجه قوى المؤمن كلها لكفاح الشيطان والشر الذي ينشئه في الأرض والوقوف تحت راية الله وحزبه، في مواجهة الشيطان وحزبه، وهي معركة دائمة لا تضع أوزارها؛ لأن الشيطان لا يمل هذه الحرب التي أعلنها منذ لعنه وطرده، والمؤمن لا يغفل عنها، ولا ينسحب منها، وهو يعلم أنه إما أن يكون وليًا لله، وإما أن يكون وليًا للشيطان وليس هنالك وسط، والشيطان يتمثل في نفسه وما يبثه في النفس من شهوات ونزوات، ويتمثل في أتباعه من المشركين وأهل الشر عامة، والمسلم يكافحه في ذات نفسه، كما يكافحه في أتباعه، معركة واحدة متصلة طوال الحياة، ومن يجعل الله مولاه فهو ناجٍ غانم، ومن يجعل الشيطان مولاه فهو خاسر هالك»68.

أساليب القرآن في عرض الاتخاذ

استعمل القرآن الكريم أساليب متعددة في عرض الاتخاذ، نذكر هذه الأساليب خلال السطور الآتية مع ذكر أمثلة على كل أسلوب.

أولًا: الخبر:

ورد الاتخاذ في القرآن الكريم بأسلوب الخبر في عدد من الآيات القرآنية؛ للإخبار عن موضوعات عدة منها:

١. الإخبار عن اتخاذ المنافقين مسجد ضرار؛ لإلحاق الأذى والضرر بالمؤمنين، والتفريق بينهم، وتقوية للكفر69، وهذا اتخاذ مذموم.

قال تعالى: ( ﭟﭠ ﭥﭦ ) [التوبة: ١٠٧].

٢. الإخبار عن حرمة اتخاذ الأخدان للمسلمين والمسلمات، والإرشاد للزواج70.

قال تعالى: ( ) [المائدة: ٥].

وقال تعالى: ( ) [النساء: ٢٥].

٣. الإخبار عن اتخاذ مريم للحجاب ساترًا لها؛ للتفرغ للعبادة71.

قال تعالى: ( ﭿ ) [مريم: ١٧].

٤. الإخبار أن الله غني عن اتخاذ الولد، وتنزهه سبحانه وتعالى عن الشريك والولد والصاحبة، وأن الملائكة هم عباد لله مكرمون.

قال تعالى: ( ﭤﭥ ﭦﭧ ) [الأنبياء: ٢٦].

٥. الإخبار عن شكوى الرسول صلى الله عليه وسلم عن قومه باتخاذهم القرآن مهجورًا، تلاوة وعلمًا وعملًا.

قال تعالى: ( ) [الفرقان: ٣٠].

٦. الإخبار عن المشركين الذين اتخذوا آلهة يتولونها من دون الله، فالله يحصي أفعالهم ويجازيهم بها يوم القيامة72.

قال تعالى: ( ) [الشورى: ٦].

٧. الإخبار عن اتخاذ المنافقين أيمانهم الكاذبة وقاية وسترًا يستترون بها من نسبتهم إلى النفاق؛ لحفظ أموالهم وحقن دمائهم73.

قال تعالى: ( ﮩﮪ ) [المنافقون: ٢].

ثانيًا: النهي:

ورد الاتخاذ في القرآن الكريم بأسلوب النهي في عدد من الآيات القرآنية؛ للنهي عن أفعال عدة، هي من الأفعال المذمومة التي نهى القرآن الكريم عن اتخاذها، ومن أمثلة ذلك:

١. النهي عن اتخاذ آيات الله هزوًا.

قال تعالى: ( ) [البقرة: ٢٣١].

٢. نهي المؤمنين من أن يتخذوا من الكفار بطانة وأخلاء.

قال تعالى: ( ﭿ ) [آل عمران: ١١٨].

٣. النهي عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء.

قال تعالى: ( ﭙﭚ ﭝﭞ ﭣﭤ ) [المائدة: ٥١].

٤. نهي المؤمنين أن يتخذوا آباءهم وإخوانهم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان.

قال تعالى: ( ﭲﭳ ) [التوبة: ٢٣].

٥. النهي عن الشرك مع الله، واتخاذ الآلهة مع الله.

قال تعالى: ( ﯣﯤ ﯨﯩ ) [النحل: ٥١].

٦. النهي عن اتخاذ الأيمان وسيلة خداع ومكر، بإظهار الوفاء بالعهد وإبطان النقض74.

قال تعالى: ( ) [النحل: ٩٤].

٧. نهي المؤمنين أن يتخذوا عدو الله وعدوهم أولياء.

قال تعالى: ( ) [الممتحنة: ١].

ثالثًا: الأمر:

ورد الاتخاذ في القرآن الكريم بأسلوب الأمر في عدد من الآيات القرآنية، ومن أمثلة ذلك ما يلي:

١. أمر الله للمسلمين بأن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى.

قال تعالى: ( ) [البقرة: ١٢٥].

٢. أمر الله للمسلمين أن يتخذوا الشيطان عدوًا.

قال تعالى: ( ﭴﭵ ) [فاطر: ٦].

٣. أمر الله لنبيه أن يتخذه وكيلًا، فيتوكل عليه وحده لا شريك له.

قال تعالى: ( ) [المزمل: ٩].

فهذا أمر بتخصيص الله بالتوكل عليه75.

وبذلك نرى أن الآيات أمرت باتخاذ مقام إبراهيم مصلى، واتخاذ الله وكيلًا، وكذلك اتخاذ الشيطان عدوًا، وهذه من أمثلة الاتخاذ المحمود، الذي أرشدنا القرآن إليه.

رابعًا: النفي:

استعمل القرآن الكريم أسلوب النفي في عرض الاتخاذ، في:

١. نفي الولد عن الله سبحانه وتعالى.

قال تعالى: ( ) [الإسراء: ١١١].

«والمراد: نفي الناصر له على وجه مؤكد، فإن الحاجة إلى الناصر لا تكون إلا من العجز عن الانتصار للنفس»76.

وكذلك نفى الله عن نفسه الولد في قوله سبحانه وتعالى: ( )[الفرقان: ٢].

حيث نزه سبحانه وتعالى نفسه عما قاله المشركون من أن الملائكة بنات الله، وعما قالت اليهود: عزير ابن الله، وعما قالت النصارى: المسيح ابن الله، تعالى الله عن ذلك77.

وجاء النفي أيضًا عن اتخاذه الولد في قوله سبحانه وتعالى: ( ﯡﯢ ) [مريم: ٣٥].

ففي هذه الآية «نفى سبحانه وتعالى عن نفسه الولد، أي: ما كان من نعته اتخاذ الولد»78.

٢. نفي اتخاذ المجاهدين الخلص بطانة من الكفار.

قال تعالى: ( ﭾﭿ ) [التوبة: ١٦].

«والمعنى: أنكم لا تتركون على ما أنتم عليه؛ حتى يتبين الخلص منكم، وهم الذين جاهدوا في سبيل الله لوجه الله، ولم يتخذوا وليجة، أي: بطانة، من الذين يضادون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين»79.

خامسًا: الثناء على أهل الاتخاذ المحمود:

من الأساليب التي استعملها القرآن الكريم في عرض الاتخاذ: هو الثناء، فقد أثنى الله سبحانه وتعالى على نفسه، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالثناء عليه لتنزهه عن اتخاذ الولد، فالله سبحانه وتعالى له الكمال والثناء والحمد والمجد من جميع الوجوه، المنزه عن كل نقص.

قال تعالى: ( ﯖﯗ ) [الإسراء: ١١١].

ومعنى ( ): الثناء عليه بما هو أهله80، «وقل: الحمد لله والثناء بالجميل على الفعل الجميل لله سبحانه وتعالى الذي لم يتخذ ولدًا فهو ليس محتاجًا إليه، واتخاذ الولد من صفات الحوادث وهو منزه عنها، ولم يكن له شريك في الملك؛ لأنه غير محتاج إليه، ولو كان فيهما آلهة غير الله لفسدتا، ولم يكن له ولي من الذل، أي: لم يكن له ناصر من الذل ومانع له منه، ولم يوال أحدًا من أجل الذل؛ إذ هو القادر المقتدر الخالق صاحب النعم جل جلاله وكبره تكبيرًا، وعظمه تعظيمًا يتناسب مع جلاله وقدسيته، والله أكبر ولله الحمد»81.

ولقد أثنى الله سبحانه وتعالى على المؤمنين من الأعراب الذين يتخذون ما ينفقون قربات عند الله.

قال تعالى: ( ﯬﯭ ﯱﯲ ﯶﯷ ) [التوبة: ٩٩].

يقول ابن عاشور: «هؤلاء هم المؤمنون من الأعراب وفاهم الله حقهم من الثناء عليهم»82.

يقول الزمخشري في بيان قوله سبحانه وتعالى: ( ﯱﯲ ): «ألا إنها شهادة من الله للمتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات وصلوات، وتصديق لرجائه على طريق الاستئناف مع حرفي التنبيه والتحقيق المؤذنتين بثبات الأمر وتمكنه، وكذلك قوله: () وما في السين من تحقيق الوعد، وما أدل هذا الكلام على رضا الله تعالى عن المتصدقين، وأن الصدقة منه بمكان، إذا خلصت النية من صاحبها»83.

وبذلك نرى أن الآيات مدحت من يستحق المدح من أهل الاتخاذ المحمود.

سادًا: ذم أهل الاتخاذ المذموم:

لقد ذم الله سبحانه وتعالى أهل الاتخاذ المذموم، ومثال ذلك ذم الأعراب الذين يتخذون ما ينفقون مغرمًا.

قال تعالى:( ﯔﯕ ﯘﯙ )[التوبة: ٩٨].

فهذه الآية تبين أن من الأعراب من يعد نفقته التي ينفقها في جهاد مشرك، أو في معونة مسلم، أو في بعض ما ندب الله إليه عباده ( )، أي: غرمًا لزمه، لا يرجو له ثوابًا، ولا يدفع به عن نفسه عقابًا84.

وهذا اتخاذ مذموم، ذمه الله بقوله: ( ) والسَوْء -بفتح السين- مصدر ساءه يسوءه سوءًا، إذا فعل به ما يكره، وقيل: المفتوح بمعنى الذم، والمضموم بمعنى العذاب والضرر، والدوائر جمع دائرة، وهي ما يحيط بالإنسان من مصيبة ونكبة، تصورًا من الدائرة المحيطة بالشيء من غير انفلاتٍ منها، وإضافة الدائرة إلى السوء من إضافة الموصوف إلى صفته للمبالغة، وفي هذا التعبير ما فيه من الذم لهؤلاء المنافقين؛ لأنه سبحانه وتعالى جعل السوء كأنه دائرة تطبق عليهم فلا تفلتهم، وتدور بهم، فلا تدع لهم مهربًا أو منجاة من عذابها وضررها85.

وذم الله الذين يتخذون الصلاة هزوًا ولعبًا، بتحقير عقولهم.

قال تعالى:( ﭗﭘ ) [المائدة: ٥٨].

يقول ابن عاشور: «( ) تحقير لهم؛ إذ ليس في النداء إلى الصلاة ما يوجب الاستهزاء فجعله موجبًا للاستهزاء سخافة لعقولهم»86.

فهذا ذم للاتخاذ المذموم وأهله، وهو تسفيه لهؤلاء الذين يحادون الله ورسوله، ويهزءون ممن يولي وجهه إلى الله، راكعًا وساجدًا، ولو عقلوا لعلموا أنهم بعملهم هذا، يحاربون الله ويصدون الناس عن أداء حقه عليهم من الولاء لجلاله، والشكران لنعمه، إنهم ظلموا أنفسهم ظلمًا فوق ظلم87.

يقول ابن كثير: «هذا تنفير من موالاة أعداء الإسلام من الكتابيين والمشركين الذين يتخذون أفضل ما يعمله العاملون، وهي شرائع الإسلام المطهرة المحكمة المشتملة على كل خير دنيوي وأخروي، يتخذونها هزوًا يستهزئون بها، ولعبًا يعتقدون أنها نوع من اللعب في نظرهم الفاسد، وفكرهم البارد»88.

وكذلك ذم الله قوم موسى الذين اتخذوا العجل إلهًا يعبدونه من دون الله.

قال تعالى: ( ﯖﯗ ﯟﯠ ) [الأعراف: ١٤٨].

«أكد سبحانه وتعالى ذمهم بقوله: ( ) أي: اتخذوا العجل معبودًا لهم وهم يشاهدونه لا يكلمهم بأي كلام، ولا يرشدهم إلى أي طريق، ولا شك أنهم بهذا الاتخاذ كانوا ظالمين لأنفسهم بعبادتهم غير الله، وبوضعهم الأمور في غير مواضعها»89.

سابعًا: الاستفهام الإنكاري:

ورد الاتخاذ في القرآن الكريم بأسلوب الاستفهام الإنكاري في عدد من الآيات، ومن أمثلة ذلك:

عاقبة الاتخاذ


1 انظر: القاموس المحيط، الفيروزآبادي، ١/٣٣١، مجمل اللغة، ابن فارس، ١/١٤٦، مقاييس اللغة، ابن فارس، ١/٣٤١.

2 انظر: العين، الفراهيدي، ٤/٢٩٨.

3 انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، ١/١٨٣.

4 انظر: تاج العروس، الزبيدي، ٩/٣٧٠، ٩/٣٧٨.

5 التوقيف على مهمات التعاريف، المناوي، ١/٣٧.

6 الفروق اللغوية، العسكري، ١/١٣٨.

7 انظر: المعجم المفهرس، محمد فؤاد عبد الباقي، ص ١٦-٢٠.

8 انظر: مختار الصحاح، الرازي، ص١٤.

9 انظر: الوجوه والنظائر، الدامغاني، ص٥٠- ٥٢.

10 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس، ١/٦٨، لسان العرب، ابن منظور، ٣/٤٧٢.

11 انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني، ١/٦٧، لسان العرب، ابن منظور، ٣/٤٧٢.

12 انظر: الفروق اللغوية، العسكري، ١/١٣٨.

13 انظر: المصباح المنير، الفيومي، ١/٥٣، معجم لغة الفقهاء، قلعجي وقنيبي، ١/٣٩.

14 انظر: معجم لغة الفقهاء، قلعجي وقنيبي، ١/٣٩.

15 انظر: الكشاف، الزمخشري، ١/٥٦٩، إرشاد العقل السليم، أبو السعود، ٢/٢٣٧، تفسير المراغي، ٥/١٦٣.

16 انظر: الكشاف، الزمخشري، ١/٥٦٩، التفسير المنير، الزحيلي، ٥/٢٨٧.

17 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٢/٤٢٢، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٥/٤٠٢.

18 روضة المحبين، ١/٤٨.

19 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور، رقم٥٣٢، ١/٣٧٧.

20 انظر: جامع البيان، الطبري، ٧/٢٤٣.

21 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٤/٢١٨، لباب التأويل، الخازن، ١/٣٠٢، تفسير الشعراوي، ٣/١٧٨٤.

22 في ظلال القرآن، سيد قطب ١/٤٨١.

23 انظر: التفسير الميسر، نخبة من أساتذة التفسير، ١/٥٧٢.

24 جامع البيان، ٩/٣٣٠.

25 انظر: تفسير الشعراوي، ٦/٣٨٣٨.

26 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص ٤٩٣، في ظلال القرآن، سيد قطب، ٤/٢٣٠٨، شرح العقيدة الواسطية، محمد الهراس، ١/٨٣.

27 التفسير الواضح، محمد حجازي ١/٧٠.

28 انظر: المفردات، الراغب، ص ٦٩.

29 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١١/١٥٨.

30 انظر: المصدر السابق ١١/٢.

31 محاسن التأويل، القاسمي، ٧/٤٢.

32 انظر: التفسير المنير، الزحيلي، ١٥/٢٧٦.

33 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ١٤/٢٩٥، التفسير القرآني للقرآن، عبد الكريم الخطيب، ١١/٨٠٦.

34 انظر: جامع البيان، الطبري ٢٣/٦٨٩، تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٨٩٢.

35 فتح القدير ٥/٣٨١.

36 انظر: الكشاف، الزمخشري، ١/١٨٥.

37 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور، ١/٧١٠.

38 انظر: المصدر السابق، ١٤/٢٠٤.

39 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور، ١٤/٢٠٦، تفسير المراغي، ١٤/١٠٤.

40 في ظلال القرآن، ٤/٢١٨١.

41 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور، ٢٢/٢٦٠.

42 في ظلال القرآن، ٥/٢٩٢٦.

43 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٧١٧.

44 المصدر السابق ص ٦٣١.

45 انظر: جامع البيان، الطبري، ١٤/٢٠٨، أنوار التنزيل، البيضاوي، ٣/٧٨.

46 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ١٥/٢٦٣.

47 انظر: جامع البيان، الطبري، ٩/٣٣٦.

48 انظر: أيسر التفاسير، الجزائري، ١/٣٠٦.

49 انظر: التفسير المنير، الزحيلي، ٦/٢٢٥.

50 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٦/١١، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ١٣/٣٥.

51 انظر: المحرر الوجيز، ابن عطية، ٢/٤٠، تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٢٩٠.

52 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ١٣/٢٧، فتح القدير، الشوكاني، ٤/٨٥، تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٥٨٢، البحر المديد، ابن عجيبة، ٤/٩٥.

53 التحرير والتنوير، ابن عاشور، ١٩/١٧.

54 انظر: التفسير المنير، الزحيلي، ٦/٩٥.

55 انظر: أيسر التفاسير، الجزائري، ١/٥٩٥.

56 تفسير السمرقندي،، ١/٣٧١.

57 انظر: التسهيل في علوم التنزيل، ابن جزي الكلبي، ١/١٨٨، إرشاد العقل السليم، أبو السعود، ٢/١٦٧.

58 انظر: لباب التأويل، الخازن، ١/١٠٠، تفسير المراغي، ٢/٣٨، تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٧٩.

59 في ظلال القرآن، سيد قطب، ١/١٥٤.

60 التحرير والتنوير، ٢٩/٢٦٧.

61 التفسير الواضح، محمد الحجازي، ٣/٧٦٩.

62 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور، ٢٩/٢٧٧.

63 انظر: إرشاد العقل السليم، أبو السعود، ٣/٧٠.

64 تفسير الشعراوي، ٧/٤٣٥٦.

65 تيسير الكريم الرحمن، ص٣٠٢.

66 التحرير والتنوير، ٢٢/٢٦١.

67 في ظلال القرآن، سيد قطب، ٢/٧٦٠.

68 في ظلال القرآن، سيد قطب، ٢/٧٦١.

69 انظر: تفسير المراغي، ١١/٢٥.

70 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص١٧٤، ٢٢١.

71 انظر: التفسير الواضح، محمد الحجازي، ٢/٤٤٩.

72 انظر: جامع البيان، الطبري، ٢١/٥٠٢.

73 انظر: تفسير المراغي، ٢٨/١٠٧، تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٨٦٤.

74 انظر: التفسير المنير، الزحيلي، ١٤/٢١٣.

75 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٨/٢٥٥.

76 التحرير والتنوير، ابن عاشور، ١٥/٢٣٩.

77 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ١٣/٢.

78 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل، ١٣/٦٣.

79 الكشاف، الزمخشري، ٢/٢٥٣.

80 انظر: معالم التنزيل، البغوي، ٥/١٣٩.

81 التفسير الواضح، محمد الحجازي، ٢/٤٠٢.

82 التحرير والتنوير، ١١/١٥.

83 الكشاف، ٢/٣٠٤.

84 انظر: جامع البيان، الطبري، ١٤/٤٣٠.

85 انظر: الكشاف، الزمخشري، ٢/٣٠٣، التحرير والتنوير، ابن عاشور، ١٠/١٨٢، التفسير الوسيط، الطنطاوي، ٦/٣٨٨.

86 التحرير والتنوير، ٦/٢٤٢.

87 انظر: التفسير القرآني للقرآن، عبد الكريم الخطيب، ٣/١١٢٧.

88 تفسير القرآن العظيم، ٣/١٤٠.

89 التفسير الوسيط، طنطاوي، ٥/٣٨٠.

90 انظر: أيسر التفاسير، الجزائري، ١/٧٥.

91 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور، ٧/٣١٢.

92 انظر: إرشاد العقل السليم، أبو السعود، ٥/١٢.

93 انظر: المصدر السابق، ٥/٢٢٧.

94 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور، ٢٢/٣٦٨.

95 انظر: التفسير المنير، الزحيلي، ٢/٤١٧.

96 تفسير الشعراوي، ٩/٥٤٤١.

97 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص ٦٨٤، إرشاد العقل السليم، أبو السعود، ٧/١٤٤.

98 انظر: إرشاد العقل السليم، أبو السعود، ٥/٢٥٠.

99 تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص ٤٨٨.

100 انظر: التفسير القرآني للقرآن، عبد الكريم الخطيب، ١٠/١١.

101 في ظلال القرآن، سيد قطب، ٣/١٣٧٥.

102 انظر: التفسير الواضح، محمد الحجازي، ٣/٤٢٦.