عناصر الموضوع

مفهوم العمل

العمل في الاستعمال القرآني

الألفاظ ذات الصلة

اقتران العمل الصالح بالإيمان

نسبة العمل إلى الله

إحاطة الله بعمل الخلق

أنواع الأعمال وشروطها

الحث على العمل الصالح

أثر العمل في الدنيا

أثر العمل في الآخرة

العمل

مفهوم العمل

أولًا: المعنى اللغوي:

أصل مادة (عمل) تدل على كل فعل يفعل1.

قال الخليل: عمل عملًا فهو عاملٌ، واعتمل: عمل لنفسه2.

والعمالة: أجر ما عمل.

والمعاملة: مصدر من قولك: عاملته، وأنا أعامله معاملة.

والعَمَلة: القوم يعملون بأيديهم ضروبًا من العمل، حفرًا، أو طيًا أو نحوه3.

والخلاصة: أن العمل: المهنة والفعل، والجمع أعمال.

ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:

لا يختلف معنى العمل في الاصطلاح عن معناه في اللغة.

وقد عرفه المناوي بقوله: العمل: كل فعل من الحيوان بقصد، فهو أخص من الفعل؛ لأن الفعل قد ينسب إلى الحيوان الذي يقع منه فعل بغير قصد، وقد ينسب إلى الجماد، والعمل قلما ينسب إلى ذلك4.

وقال الكفوي: العمل: المهنة والفعل، والعمل يعم أفعال القلوب والجوارح5.

وقال الصغاني: تركيب الفعل يدل على إحداث شيء من العمل وغيره، فهذا يدل على أن الفعل أعم من العمل6.

وفي معجم الفقهاء قال: العمل: بالتحريك مصدر عمل، جمع أعمال، كل فعل كان بقصد وفكر، سواء كان من أفعال القلوب كالنية، أم من أفعال الجوارح كالصلاة، والعملة: بضم العين أو كسرها، وسكون الميم، وفتح اللام: ما يعطاه الأجير أجرة عمله7.

العمل في الاستعمال القرآني

وردت مادة (عمل) في القرآن الكريم (٣٤٥) مرة8.

والصيغ التي وردت، هي:

الصيغة

عدد المرات

المثال

الفعل الماضي

٩٤

( ) [البقرة:٦٢]

الفعل المضارع

١٦٦

( ) [البقرة:٧٤]

فعل الأمر

١١

( ) [سبأ:١١]

الاسم

٦١

( ) [هود: ٤٦]

اسم فاعل

١٣

( ) [التوبة: ٦٠]

وجاء العمل في الاستعمال القرآني بمعناه اللغوي الدال على الفعل والمهنة.

وقد نوع القرآن الكريم في استعمال المفردات الدالة على ذات المعنى، ومن تلك المفردات المستعملة: فعل، وكسب، وسعى، وغيرها.

وقد أطلق القرآن الكريم (العمل) على الأعمال الصالحة والسيئة، نحو قوله تعالى: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [البقرة: ٢٧٧]، وقوله تعالى: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ) [النساء: ١٢٣]9.

الألفاظ ذات الصلة

الكسب:

الكسب لغةً:

تدل مادة (كسب) على ابتغاء وطلب وإصابة، فالكسب من ذلك، ويقال: كسب أهله خيرًا، وكسبت الرجل مالًا فكسبه10.

الكسب اصطلاحًا:

لا يختلف معنى الكسب في الاصطلاح عن معناه في اللغة.

وقد عرفه المناوي بقوله: الكسب: ما يجري من الفعل والقول والعمل والآثار على إحسان قوة عليه11.

الصلة بين العمل والكسب:

العمل والكسب لفظان متقاربان في المعنى في اللغة؛ لذا لا نجد أهل اللغة يفرقون بينهما كثيرًا، بل يعرفون أحدهما بالآخر.

قال الجوهري: الكدح، والعمل، والسعي، والخدش، والكسب12. بمعنى واحد.

ويقول ابن فارس: السعي هو: العمل والكسب13.

الفعل:

الفعل لغةً:

تدل مادة (فعل) على إحداث شيء من عمل وغيره، من ذلك: فعلت كذا أفعله فعلًا، وكانت من فلان فعلة حسنة أو قبيحة، والفعال جمع فعل، والفعال، بفتح الفاء: الكرم، وما يفعل من حسن14.

الفعل اصطلاحًا:

لا يختلف معنى الفعل في الاصطلاح عن معناه في اللغة.

وقد عرفه الجرجاني بقوله: الفعل كون الشيء مؤثرًا في غيره، كالقاطع ما دام قاطعًا، وفي اصطلاح النحاة: ما دل على معنى في نفسه مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة15.

وعرفه الفيروزآبادي الفعل بأنه: كناية عن كل عمل، متعد أو غيره16.

وقال الراغب: الفعل: التأثير من جهة مؤثر، وهو عام لما كان بإجادة أو غير إجادة، ولما كان بعلم أو غير علم، وقصد أو غير قصد؛ ولما كان من الإنسان والحيوان والجمادات، والعمل مثله، والصنع أخص منهما17.

الصلة بين العمل والفعل:

قال الراغب: العمل كل فعل يصدر من الحيوان بقصده، فهو أخص من الفعل؛ لأن الفعل قد ينسب إلى الحيوانات التي يقع منها فعل بغير قصد، وقد ينسب إلى الجمادات، والعمل قلما ينسب إلى ذلك، ولم يستعمل في الحيوانات إلا في قولهم: الإبل والبقر العوامل18.

الصنع:

الصنع لغةً:

تدل مادة (صنع) على عمل الشيء، ويقال: امرأة صناع، ورجل صنع، إذا كانا حاذقين فيما يصنعانه19. والصنيعة: ما اصطنعته من خير، والتصنع: حسن السمت20.

الصنع اصطلاحًا:

لا يختلف معنى الصنع في الاصطلاح عن معناه في اللغة.

وقد عرفه الكفوي بقوله: الصناعة: كل عمل مارسه الرجل، سواء كان استدلاليًا، أو غيره، حتى صار كالحرفة له، فإنه يسمى صناعة، وقيل: كل عمل لا يسمى صناعة حتى يتمكن فيه، ويتدرب، وينسب إليه.

وقيل: الصنعة «بالفتح» العمل، والصناعة قد تطلق على ملكة يقتدر بها على استعمال المصنوعات على وجه البصيرة لتحصيل غرض من الأغراض بحسب الإمكان.

والصناعة «بالفتح»: تستعمل في المحسوسات، وبالكسر في المعاني، وقيل: بالكسر حرفة الصانع، وقيل: هي أخص من الحرفة؛ لأنها تحتاج في حصولها إلى المزاولة21.

الصلة بين الصنع والعمل:

قال الراغب: الصنع: إجادة الفعل، فكل صنعٍ فعلٌ، وليس كل فعل صنعًا، ولا ينسب إلى الحيوانات والجمادات، كما ينسب إليها الفعل.

وقال الكفوي: الإبداع، والاختراع، والصنع، والخلق، والإيجاد، والإحداث والفعل، والتكوين، والجعل: ألفاظ متقاربة المعاني22.

السعي:

السعي لغةً:

السعي: الكسب، وكل عمل من خير أو شر سعيٌ، وفي التنزيل: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [طه: ١٥]23.

السعي اصطلاحًا:

لا يختلف معنى السعي في الاصطلاح عن معناه في اللغة.

وعرف الكفوي السعي بأنه: الإسراع في المشي إذا انصرف عنك، وذهب مسرعًا، وسعى، كـ«رعى قصد وعمل ومشى وعدا»، والسعي إذا كان بمعنى المضي والجري يتعدى بـ«إلى» نحو: (ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ) [الجمعة: ٩]وإذا كان بمعنى العمل يتعدى باللام، كقوله: (ﭧ ﭨ ﭩ) [الإسراء: ١٩]24.

الصلة بين السعي والعمل:

السعي والعمل لفظان متقاربان في المعنى، قال الخليل: السعي: عدوٌ ليس بشديد، وكل عملٍ من خيرٍ أو شرٍ فهو السعي، يقولون: السعي: العمل، أي: الكسب25.

الشغل:

الشغل لغةً:

تدل مادة (شغل) على خلاف الفراغ، تقول: شغلت فلانًا فأنا شاغله، وهو مشغول، وشغلت عنك بكذا، على لفظ ما لم يسم فاعله، قالوا: ولا يقال: أشغلت، ويقال: شغل شاغل، وجمع الشغل أشغال، وقد جاء عنهم: اشتغل فلان بالشيء، وهو مشتغل26.

الشغل اصطلاحًا:

لا يختلف معنى الشغل في الاصطلاح عن معناه في اللغة.

وقال الراغب: الشغل: العارض الذي يذهل الإنسان، قال عز وجل: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ) [يس: ٥٥]27.

الصلة بين الشغل والعمل:

لم يستعمل الشغل بمعنى العمل إلا في اللغة الدارجة العامية، فقد جاء في تكملة المعاجم العربية قوله: ويستعمل الشغل عند المولدين بمعنى العمل.

إلا أن هناك علاقة بين اللفظين، من حيث أن الشغل هي الحالة التي يكون عليها العامل أي عمل، يقال: هو في شغل، أي: ضد الفراغ.

الكدح:

الكدح لغةً:

تدل مادة (كدح) على تأثير في شيء، يقال: كَدَحَهُ وكَدَّحَهُ، إذا خدشه، ومن هذا القياس: كدح إذا كسب، يكدح كدحًا فهو كادح، قال الله عز وعلا: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ) [الانشقاق: ٦]. أي: كاسب28.

الكدح اصطلاحًا:

عرفه الكفوي بقوله: الكدح: العمل والسعي والكد والكسب، ومنه قوله تعالى: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ) [الانشقاق: ٦]أي: ساع إلى لقاء جزائه، ويقال: هو يكدح ويكتدح، أي: يكتسب29.

الصلة بين الكدح والعمل:

بين الكدح والعمل تقارب في المعنى، ويزيد الكدح في الدلالة على الشدة في العمل، والتعب والعناء.

اقتران العمل الصالح بالإيمان

قرن الله تعالى في القرآن الكريم بين العمل الصالح والإيمان في كثير من الآيات، قال تعالى: (ﭓ ﭔ ﭕ) [البقرة: ٢٥]جاء هذا الاقتران -بهذه العبارة- في تسع وأربعين آية.

وجعل الإيمان في آياتٍ أخر شرطًا لقبول العمل، قال تعالى: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ) [النساء: ١٢٤]وقال: (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ) [النحل: ٩٧].

وهذا الاقتران بين العمل الصالح والإيمان في القرآن له حكم عديدة، منها:

  1. بيان أهمية الإيمان في قبول العمل، وأهمية العمل أيضًا في حصول الإيمان.

    فهما قرناء؛ إذ لا تنفع الأعمال بدون إيمان، ولا يكون إيمان بلا أعمال تدل عليه.

    ففي هذا تنبيه لطيف جدًا إلى منزلة الأعمال الصالحة مع إيمان القلب، وأن في ذكرها معه إشارة إلى أنه لا يكتفي بإيمان القلب؛ ولعل ذلك راجع إلى أن الأعمال من دلائل الإيمان الظاهرة؛ وأنها لازمة له، فكلما وجد الإيمان فلا بد أن يوجد العمل معه30.

  2. التأكيد على أنه لا يحصل الإيمان الشرعي إلا باجتماع الإيمان والعمل، ولا يكفي واحد من هذه الأمور، بل لا بد من الإتيان بها جميعًا.

    وهذا ما اتفق عليه السلف رضوان الله عليهم، قال الإمام الشافعي رحمه الله: «وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم، وممن أدركناهم يقولون: إن الإيمان قول وعمل ونية، لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر»31.

    وقال ابن عبد البر رحمه الله: «أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل، ولا عمل إلا بنية، والإيمان عندهم يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، والطاعات كلها عندهم تسمى إيمانًا»32.

  3. بيان التلازم بينهما، وشرطية الأعمال في وجود الإيمان، وشرطية الإيمان في قبول الأعمال.

    فجميع الأعمال الصالحة التي شرعها الله على لسان نبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم إذا تأسست على الإيمان كان السعي مشكورًا، مقبولًا مضاعفًا، لا يضيع منه مثقال ذرة.

    هذا هو قانون العمل والجزاء، لا جحود ولا كفران للعمل الصالح، متى قام على قاعدة الإيمان، وهو مكتوب عند الله لا يضيع منه شيء، ولا يغيب.

    فلا بد من الإيمان لتكون للعمل الصالح قيمته، بل ليثبت للعمل الصالح وجوده، ولا بد من العمل الصالح لتكون للإيمان ثمرته، بل لتثبت للإيمان حقيقته.

    إن الإيمان هو قاعدة الحياة؛ لأنه الصلة الحقيقية بين الإنسان وهذا الوجود، والرابطة التي تشد الوجود بما فيه ومن فيه إلى خالقه الواحد، وترده إلى الناموس الواحد الذي ارتضاه، ولا بد من القاعدة ليقوم البناء، والعمل الصالح هو هذا البناء، فهو منهار من أساسه ما لم يقم على قاعدته.

    والعمل الصالح هو ثمرة الإيمان التي تثبت وجوده وحيويته في الضمير، والإسلام بالذات عقيدة متحركة متى تم وجودها في الضمير تحولت إلى عمل صالح هو الصورة الظاهرة للإيمان المضمر، والثمرة اليانعة للجذور الممتدة في الأعماق.

    ومن ثم يقرن القرآن دائمًا بين الإيمان والعمل الصالح كلما ذكر العمل والجزاء، فلا جزاء على إيمان عاطل خامد لا يعمل ولا يثمر، ولا على عمل منقطع لا يقوم على الإيمان.

    والعمل الطيب الذي لا يصدر عن إيمان إنما هو مصادفة عابرة؛ لأنه غير مرتبط بمنهج مرسوم، ولا موصول بناموس مطرد، وإن هو إلا شهوة أو نزوة غير موصولة بالباعث الأصيل للعمل الصالح في هذا الوجود، وهو الإيمان بإله يرضى عن العمل الصالح لأنه وسيلة البناء في هذا الكون، ووسيلة الكمال الذي قدره الله لهذه الحياة، فهو حركة ذات غاية مرتبطة بغاية الحياة ومصيرها، لا فلتة عابرة، ولا نزوة عارضة، ولا رمية بغير هدف، ولا اتجاها معزولًا عن اتجاه الكون وناموسه الكبير33.

    فإذا فقد العمل الإيمان فلو استغرق العامل ليله ونهاره فإنه غير مقبولٍ، قال تعالى: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [الفرقان: ٢٣].

    ذلك أنه لم يقم على الإيمان الذي يصل القلب بالله، والذي يجعل العمل الصالح منهجًا مرسومًا، وأصلًا قاصدًا، لا خبط عشواء، ولا نزوة طارئة، ولا حركة مبتورة، لا قصد لها ولا غاية، فلا قيمة لعمل مفرد لا يتصل بمنهج، ولا فائدة لحركة مفردة ليست حلقة من سلسلة ذات هدف معلوم، وهكذا تعدم أعمال أولئك المشركين، تعدم إعدامًا يصوره التعبير القرآني تلك الصورة الحسية المتخيلة: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [الفرقان: ٢٣].

    وقال تعالى: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ) [الكهف: ١٠٣-١٠٦].

    فهم لما فقدوا الإيمان، وأحلوا محله الكفر بالله وآياته حبطت أعمالهم، قال تعالى: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) [الزمر: ٦٥]ولهذا كانت الردة عن الإيمان تحبط جميع الأعمال الصالحة، كما أن الدخول في الإسلام والإيمان يجب ما قبله من السيئات وإن عظمت، فالتوبة من الذنوب المنافية للإيمان، والقادحة فيه، والمنقصة له تجب ما قبلها، قال تعالى مبينًا صفات عباده الصالحين: 34 (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) [الفرقان: ٦٨-٧٠].

    والمقصود: أن القرآن دائمًا يقرن بين الأعمال والإيمان؛ وذلك لبيان أنه لا بد في الإيمان من العمل خلافًا للمرجئة35؛ ولبيان شرطية وجود الإيمان لقبول العمل، والغالب أن يتقدم ذكر الإيمان، ثم يليه ذكر العمل الصالح، وقد يذكر الله في القرآن العمل، ثم يذكر بعده الإيمان، كما في قوله تعالى: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ) [طه: ١١٢].

    وقد يفرد أحدهما بالذكر، ويدخل معه الآخر، كما قال تعالى: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ) [فاطر: ١٠]والمراد: العمل الصالح المنبعث على أساس الإيمان، يرفعه الله تعالى، ويقبله.

    وكما قال تعالى: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [البقرة: ١٠٣]أفرد ها هنا الإيمان، فدخل معه العمل.

    والحاصل: أن الإيمان إذا أطلق دخلت معه الأعمال الصالحة المأمور بها، وأن العمل أذا أطلق دخل معه الإيمان، وقد يقرنا معًا، فيكون المراد بالإيمان ما في القلب، والعمل ما في الجوارح.

    وهذا يدل على أن مجرد الإيمان لا يكفي، فلا بد من العمل؛ والعمل وحده بدون إيمان لا يقبل؛ ولهذا قرن الله بينهما في أكثر من سبعين آية من آيات القرآن الكريم.

    وهذا الجمع بين الأمرين هو سبيل المؤمنين المهتدين، وإهمالهما، أو إهمال أحدهما هو طريق أهل الضلال؛ كما أن الجمع بين العلم والعمل هو الطريق المأمور به، المخالف لطريق المغضوب عليهم، والضالين.

    قال ابن كثير: وللفرق بين الطريقتين لتجتنب كل منهما؛ فإن طريقة أهل الإيمان مشتملة على العلم بالحق والعمل به، واليهود فقدوا العمل، والنصارى فقدوا العلم؛ ولهذا كان الغضب لليهود، والضلال للنصارى؛ لأن من علم وترك استحق الغضب، بخلاف من لم يعلم، والنصارى لما كانوا قاصدين شيئًا لكنهم لا يهتدون إلى طريقه؛ لأنهم لم يأتوا الأمر من بابه، وهو اتباع الرسول الحق ضلوا، وكل من اليهود والنصارى ضال مغضوب عليه، لكن أخص أوصاف اليهود الغضب، كما قال فيهم: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ) [المائدة: ٦٠]وأخص أوصاف النصارى الضلال، كما قال: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ) [المائدة: ٧٧]36 وهكذا القول في الجمع بين الإيمان والعمل.

    ولهذا جعل الله تعالى لمن أتى بالوصفين: «الإيمان والعمل» الجنة، قال تعالى: (ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ) [البقرة: ٨٢].

    قال ابن كثير37 في قوله: (ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ): وعملوا الصالحات من العمل الموافق للشريعة، فهم من أهل الجنة، وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ) [النساء: ١٢٣-١٢٤].

    نسبة العمل إلى الله

    جاء نسبة العمل إلى الله في قوله تعالى: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ) [يس: ٧١]ونسبة الفعل إليه سبحانه وتعالى في القرآن أكثر، فقد جاء في آيات كثيرة أنه يفعل ما يشاء، وفعال لما يريد، قال تعالى: (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [آل عمران: ٤٠].

    وقال: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) [الحج: ١٨].

    وقال: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) [الأنبياء: ٢٣].

    وقال: (ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ) [هود: ١٠٧].

    فقوله: (ﭖ ﭗ ﭘ) أي: مما فعلته وصنعته أيدينا.

    وقال البيضاوي: (ﭖ ﭗ ﭘ) أي: مما تولينا إحداثه، ولم يقدر على إحداثه غيرنا، وذكر الأيدي وإسناد العمل إليها استعارة، تفيد مبالغة في الاختصاص، والتفرد بالإحداث38.

    ومما يدل على أن ذلك من باب الاستعارة التمثيلية أن الأنعام تخلق ولا تعمل؛ ولكنه شبه اختصاصه بالخلق والتكوين بمن يعمل أمرًا بيديه، ويصنعه بنفسه، واستعار لفظ «العمل» للخلق بطريق الاستعارة التمثليلة39.

    والمقصود: أن الله تعالى وصف نفسه بأنه يعمل، قال جل وعلا: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ) [يس: ٧١].

    ووصف نفسه بالفعل الذي هو العمل، ووصف خلقه بالعمل، قال: (ﮩ ﮪ ﮫ) [السجدة: ١٧].

    وبين العمل والعمل من المنافاة كما بين الذات والذات40.

    إحاطة الله بعمل الخلق

    أخبر الله تعالى في كتابه الكريم أنه محيط بأعمال خلقه، لا يخفى عليه من أعمالهم شيء، ومما يدل على ذلك:

  1. اقتران عمل الإنسان بأسماء الله.

    فقد أخبر الله تعالى في القرآن أنه بصير بأعمال العباد، قال تعالى: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [البقرة: ١١٠].

    وقال: (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [البقرة: ٩٦].

    وقال: (ﭩ ﭪ ﭫ) [البقرة: ٢٦٥].

    وقال: (ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [هود: ١١٢].

    والبصر هنا بمعنى العلم؛ ويمكن أن يكون بمعنى الرؤية؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)41.

    فأثبت لله بصرًا؛ لكن تفسيره بالعلم أعم42.

    وفي الآية تحذير من المخالفة، فإذا كان الله بصيرًا بأعمال عباده فليحذروا من مخالفة أمره ونهيه؛ ولهذا قال: ( ﮓ ﮔ ﮕ) أي: إنه تعالى بصير بأعمال العباد، لا يغفل عن شيء، ولا يخفى عليه شيء، فيجازي عليها43.

    وأخبر الله تعالى في القرآن أيضًا أنه خبير بأعمال عباده.

    قال تعالى: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [البقرة: ٢٣٤].

    وقال: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [النساء: ٩٤].

    وقال: (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ) [النور: ٣٠].

    وكأن هذه الجملة: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) جاءت تعليلية، تحمل الوعد والوعيد؛ إذ علم الله بأعمال العباد صالحها وفاسدها يستلزم الجزاء عليها، فمتى كانت صالحة كان الجزاء حسنًا، وفي هذا وعده، ومتى كانت فاسدة كان الجزاء سوءًا، وفي هذا وعيده44.

    وأخبر الله تعالى أيضًا في القرآن الكريم أنه عليم بأعمال عباده، فقال: (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) [المؤمنون: ٥١].

    وقال: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ) [النور: ٢٨].

    فهو () بأعمال عباده من خير وشر، وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء45. وفق علمه واطلاعه على أعمالهم.

    ولا يعلم الله العمل الظاهر من العبد فحسب، بل حتى ما يضمره في قلبه، ويخفيه في نفسه، قال تعالى: (ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ )[الأحزاب: ٥١].

    يقول: والله يعلم ما في قلوب الرجال من ميلها إلى بعض من عنده من النساء دون بعض بالهوى والمحبة، يقول: فلذلك وضع عنك الحرج يا محمد فيما وضع عنك من ابتغاء من ابتغيت منهن، ممن عزلت تفضلًا منه عليك بذلك وتكرمة (ﭵ ﭶ ﭷ)[الأحزاب: ٥١].

    يقول: وكان الله ذا علم بأعمال عباده، وغير ذلك من الأشياء كلها 46.

    ومما يدل على ذلك قوله: (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ)[المائدة: ١١٦].

    بإحاطة الله به، وخص النفس بالذكر لأنها مظنة الكتم والانطواء على المعلومات، والمعنى: أن الله يعلم ما في نفس عيسى، وقوله: ( ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ)[المائدة: ١١٦].

    معناه: ولا أعلم ما عندك من المعلومات، وما أحطت به47.

    ومما يبين ذلك أيضًا قوله تعالى: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ) [يونس: ٦١].

    فمراد الآية وصف إحاطة الله تعالى بكل شيء، ومعنى اللفظ: (ﯨ ﯩ) يا محمد، والمراد هو وغيره (ﯪ ﯫ) من جميع الشؤون (ﯬ ﯭ ﯮ) الضمير عائد على()، أي: فيه وبسببه من قرآن، ويحتمل أن يعود الضمير على جميع القرآن، ثم عم بقوله: (ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) وفي قوله: (ﯵ ﯶ ﯷ ) تحذير وتنبيه48.

    ومما يبين ذلك قوله تعالى: ( ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [الرعد: ١٠].

    ومعنى هذه الآية: معتدل منكم في إحاطة الله تعالى وعلمه من أسر قوله، فهمس به في نفسه (ﮖ ﮗ ﮘ) فأسمع، فلا يخفى على الله تعالى شيء.

    وقوله تعالى: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) معناه: من هو بالليل في غاية الاختفاء، ومن هو متصرف بالنهار ذاهب لوجهه، سواء في علم الله تعالى وإحاطته بهما، وذهب ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد إلى معنى مقتضاه: أن «المستخفي والسارب» هو رجل واحد، مريب بالليل، ويظهر بالنهار البراءة في التصرف مع الناس49.

    وأخبر الله تعالى عن نفسه أنه لا يغفل عن عمل الخلق، فقال: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [البقرة: ٨٥]وقال: (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ) [هود: ١٢٣]وقال: (ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) [إبراهيم: ٤٢].

    ومعنى الآيات: أن الله ليس بغافل عن عملكم، بل محيط بأعمالكم، ونياتكم، ومكركم السيئ، فمجازيكم عليه أشر الجزاء50.

    والغفلة: السهو والنسيان، والمراد أنه سبحانه محيط بأعمال هؤلاء الذين كتموا الحق، لا تخفى عليه منها خافية، وسيحاسبهم عليها حسابًا عسيرًا، ويعاقبهم على مزاعمهم الباطلة عقابًا أليمًا، فالجملة الكريمة تهديد ووعيد لأهل الكتاب51.

    وأخبر الله تعالى أنه شهيد على ما يفعله العباد.

    قال تعالى: (ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ) [يونس: ٤٦].

    وقال: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ) [آل عمران: ٩٨].

    قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد أنه حاضر لأعمالكم.

    ومعنى الآية: أن الله تعالى وبخهم على كفرهم، وأخبر أنه لا ينفعهم الاستمرار به؛ لأنه شهيد على أعمالهم52.

    قال ابن الجوزي: وأما الشهيد، فقال ابن قتيبة: هو بمعنى الشاهد، وقال الخطابي: هو الذي لا يغيب عنه شيء، كأنه الحاضر الشاهد53.

    والمقصود: أن الله تعالى () على ما يعمله عباده، حاضر معهم، ناظر إلى نياتهم في أعمال الخير والشر، فيجازيهم بها، فهو عالم علم المعاين الحاضر القائم الحاكم على ما يعملون دائمًا، سواء أكان العمل عمل القلب، أم كان العمل عمل الجوارح.

    فالله تعالى شهيد عالم معاين حاكم قوام على ما تعملون من خير ومن شر، فالنص السامي يتضمن توبيخًا على الكفر، وتهديدًا بالعقاب الشديد على ما يعملون؛ لأن الله تعالى إذا كان شهيدًا على ما يفعلون، وهو الحكم العدل القادر على الثواب والعقاب، فإنه بلا ريب مجازيهم على فعلهم، ومحاسبهم على مقاصدهم في أقوالهم وأفعالهم.

    وأخبر الله تعالى أنه محيط بما يفعله العباد.

    قال تعالى: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) [هود: ٩٢].

    وقال: (ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [آل عمران: ١٢٠].

    وقال: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) [النساء: ١٠٨].

    وقال: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [النساء: ١٢٦].

    وقال: (ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) [الأنفال: ٤٧].

    فهذه الآيات ونظيراتها تدل على أنه لا يخفى على الله شيء من أعمال عباده؛ فهو محيط بأعمالهم كلها، علمًا وقدرة، وسوف يجازيهم عليها في الدنيا والآخرة.

    ففي قوله: (ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) تذييل، قصد به إدخال الطمأنينة على قلوب المؤمنين، والرعب في قلوب أعدائهم، أي: إنه سبحانه محيط بأعمالهم، وبكل أحوالهم، ولا تخفى عليه خافية منها، وسيجازيهم عليها بما يستحقونه من عذاب أليم بسبب نياتهم الخبيثة، وأقوالهم الذميمة، وأفعالهم القبيحة54.

    وأعلى من هذا أنه قد أحاط بكل شيء علمًا، ليست إحاطته لأعمال العباد فقط، بل بكل شيء، قال تعالى: (ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ) [فصلت: ٥٤].

    وقال: (ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [البروج: ٢٠].

    قال الطبري: (ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ) بأعمالهم، محصٍ لها، لا يخفى عليه منها شيءٌ، وهو مجازيهم على جميعها55.

    ففي قوله: (ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ) وجوه:

    أحدها: أن المراد وصف اقتداره عليهم، وأنهم في قبضته وحوزته، كالمحاط إذا أحيط به من ورائه، فسد عليه مسلكه، فلا يجد مهربًا، يقول تعالى: فهو كذا في قبضتي، وأنا قادر على إهلاكهم، ومعاجلتهم بالعذاب على تكذيبهم إياك، فلا تجزع من تكذيبهم إياك، فليسوا يفوتونني إذا أردت الانتقام منهم.

    وثانيها: أن يكون المراد من هذه الإحاطة قرب هلاكهم، كقول تعالى: (ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ) [الفتح: ٢١]وقوله: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [الإسراء: ٦٠]وقوله: (ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ) [يونس: ٢٢]فهذا كله عبارة عن مشارفة الهلاك، يقول: فهؤلاء في تكذيبك قد شارفوا الهلاك.

    وثالثها: أن يكون المراد: والله محيط بأعمالهم، أي: عالم بها، فهو مرصد بعقابهم عليها56.

    والخلاصة: أن هذه الآيات تدل على أن الله تعالى محيط بأعمال العباد كلها، ظاهرها، وباطنها، صغيرها وكبيرها، فمجازيهم عليها، وفيها وعيد وتهديد، يعني: أنه تعالى عالم بجميع الأشياء، لا يخفى عن علمه شيء؛ لأنه محيط بأعمال العباد كلها، فيجازي المحسنين، ويعاقب المسيئين.

    ونظير هذه الآيات قوله تعالى: (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) [النساء: ١٢٦].

    قال السعدي: وهذه الآية الكريمة فيها بيان إحاطة الله تعالى بجميع الأشياء، فأخبر أنه له (ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) أي: الجميع ملكه وعبيده، فهم المملوكون، وهو المالك المتفرد بتدبيرهم، وقد أحاط علمه بجميع المعلومات، وبصره بجميع المبصرات، وسمعه بجميع المسموعات، ونفذت مشيئته وقدرته بجميع الموجودات، ووسعت رحمته أهل الأرض والسماوات، وقهر بعزه وقهره كل مخلوق، ودانت له جميع الأشياء57.

    ولعل المتمعن في هذه الآيات التي جاء فيها الإخبار بعلم الله وخبرته وإطلاعه على ما يعمله الملائكة والجن والإنس وتنوعها، وما جاء فيها من تقريرات حاسمة عن إحاطة الله بكل شيء في كل آن، وشمول قدرته لكل شيء، واستغنائه عن كل عون في تصريف ملكوت السماوات والأرض يدرك مدى قدرة الله وعظمته، ومدى إحاطته بكل شيء، وقدرته على كل شيء، وعدم طروء ما يطرأ على البشر من غفلة ونسيان عليه، ونفي أي مشابهة له في الأسماء والصفات، والقدرة الشاملة.

    وفيها: إشارة إلى سعة إحاطة الله بأعمال الناس ونواياهم، فهو يعلم كل حركة من حركاتهم، خفيها وظاهرها، حتى ما يدق على المشاهدين مما تنطوي عليه لحظات العيون، وتخفيه الصدور من النوايا المريبة.

    فهو السميع لكل شيء، النافذ بصره إلى كل شيء، وهو الذي سيقضي بين الناس بالحق وفق أعمالهم، أما الشركاء الذين يدعوهم المشركون مع الله فليس لهم أي قدرة على شيء، أو القضاء في أي شيء، أو النفوذ إلى أي شيء58.

    وقد قال في آية أخرى: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ) [آل عمران: ٥]وهذه الجملة السامية تفيد تمام إحاطة الله تعالى في علمه، فهو سبحانه وتعالى يتجلى له كل شيء، ولو كان خافيًا عن الناس أو من شأنه الخفاء؛ ولذلك جاء التعبير عن العلم الكامل، ببيان نفي الخفاء عليه سبحانه؛ وذلك لأن العالم المحيط قد يخفى عليه شيء، لكن علم الله غير ذلك، فهو علم لا خفاء معه في شيء مطلقًا؛ وإذا كان الله سبحانه وتعالى عليمًا بكل شيء، لا يخفى عليه شيء فهو يعلم القلوب وما تخفيه، وما تكنه السرائر، وما تكنه الضمائر، فهو يعلم البواعث على الكفر، وأنها ليست نقصًا في الدليل، ولكنها مآرب الدنيا، والعصبية الجنسية والمذهبية، فليس الذين ينكرون ما جاء به محمد مخلصين في إنكارهم، بل هي لجاجة العناد، وجحود المستيقن.

    وذكر سبحانه السماء والأرض للإشارة إلى أن علمه قد وسع كل شيء وسع السماوات والأرض، وليس الإنسان وما تحدثه به نفسه إلا شيئًا صغيرًا في هذا الملكوت العظيم؛ وذلك العالم بأرضه وسمائه، وأكد نفي الخفاء بتكرار «لا» في قوله تعالى: (ﮄ ﮅ) فذكرها ثانيًا تأكيد؛ لأنه لا يخفى عليه شيء59.

    وقال في آية أخرى: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ) [الأنبياء: ٤٧]قال السعدي: يخبر تعالى عن حكمه العدل، وقضائه القسط بين عباده، إذا جمعهم في يوم القيامة، وأنه يضع لهم الموازين العادلة، التي يبين فيها مثاقيل الذر الذي توزن بها الحسنات والسيئات (ﭯ ﭰ ﭱ) مسلمة أو كافرة () بأن تنقص من حسناتها، أو يزاد في سيئاتها.

    (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ) التي هي أصغر الأشياء وأحقرها من خير أو شر (ﭺ ﭻ) وأحضرناها ليجازى بها صاحبها، (ﭽ ﭾ ﭿ) يعني: بذلك نفسه الكريمة، فكفى به حاسبًا، أي: عالمًا بأعمال العباد حافظًا لها، مثبتًا لها في الكتاب، عالمًا بمقاديرها، ومقادير ثوابها وعقابها، واستحقاقها موصلًا للعمال جزاءها60.

    ويجد المتأمل في آيات القرآن الكريم أن الله تعالى كثيرًا ما يقرن بين اسمه تعالى «العليم» و«الخبير» عند الكلام على علمه وخبرته بأعمال عباده، كما في قوله: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ) [التحريم: ٣]وإيثار وصفي العليم الخبير هنا دون الاسم العلم «الله» لما فيهما من التذكير بما يجب أن يعلمه الناس من إحاطة الله تعالى علمًا وخبرًا بكل شيء.

    والعليم: القوي العلم، وهو في أسمائه تعالى دال على أكمل العلم، أي: العلم المحيط بكل معلوم.

    والخبير: أخص من العليم؛ لأنه مشتق من خبر الشيء إذا أحاط بمعانيه ودخائله؛ ولذلك يقال: خبرته، أي: بلوته، وتطلعت بواطن أمره.

    والفرق بين الخبر والعلم وسائر الأشياء الدالة على صفة العلم أن الفائدة متى حصلت من موضع الحضور سميت مشاهدة، والمتصف بها هو الشاهد والشهيد، وكذلك إن حصلت عن طريق السمع أو البصر، فالمتصف بها سميع وبصير، وكذلك إن حصلت عن علم أو علامة فهو العلم، والمتصف به العالم والعليم، وإن حصلت عن استكشاف ظاهر المخبور عن باطنه ببلوى أو امتحان أو تجربة، أو تبليغ فهو الخبر، والمسمى به الخبير.

    قال الغزالي في «المقصد الأسنى»: العلم إذا أضيف إلى الخفايا الباطنة سمي خبرة، وسمي صاحبها خبيرًا، وحظ العبد من ذلك أن يكون خبيرًا بما يجري في عالمه وعالمه قلبه وبدنه، والخفايا التي يتصف القلب بها من الغش والخيانة، والتطواف حول العاجلة، وإضمار الشر، وإظهار الخير، والتجمل بإظهار الإخلاص مع الإفلاس عنه، لا يعرفها إلا ذو خبرة بالغة قد خبر نفسه ومارسها، وعرف مكرها وتلبيسها وخدعها، فحاذرها وتشمر لمعاداتها، وأخذ الحذر منها، فذلك من العباد جدير بأن يسمى خبيرًا61.

    والمقصود: أن علم الله تعالى بأعمال العباد ومجازاتهم عليها قاطع لكل شك بأن الله هو إله الحق، وأن ما يدعون من دونه من أوثان هو الباطل، وقاطع بأن الله تعالى ذا الألوهية الحقة هو العلي الكبير، أي: ذو العلو المطلق الكبير الذي ليس شيء أكبر منه؛ إذ هو رب كل شيء ومالكه، والقاهر له، والمتحكم فيه، لا إله إلا هو، ولا رب سواه، الذي يعلم ما خفي، وما ظهر، قال تعالى: (ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ) [النمل: ٧٤]أي: إن ربك وخالقك -جل جلاله- يعلم أحوال هؤلاء الذين معك، فيعلم منافقهم وكافرهم، وصادقهم وكاذبهم، يعلم ما يكنون في أنفسهم، ويجعلونه مكنونًا مستورًا مخفيًا.

    ويعلم ما يعلنون، أي: وما يظهرونه، ويتجاهرون به، هل هو كما يظهرونه ويعلنونه، هو النفاق والكذب والدجل، فالله تعالى محيط بهم، محيط بأعمالهم، سميع لأقوالهم، وهذا في مقام التهديد والوعيد، فالله يعلم كل أحوالهم ما أخفوا وما أعلنوا، فلا يطمعوا يومًا في أن يظهروا لك شيئًا لا وجود له لتعتقده؛ لأن الله الخالق يعلم منهم ما خفي، وما أعلن62.

  2. السؤال على الأعمال، والمجازاة عليها.

    ومما يدل على إحاطة الله بعمل الخلق، أنه يسألهم عنها، ويجازيهم بها، فلا تهمل، ولا تضيع، بل يسأل الله عنها، ويجازي عليها.

    قال تعالى: ( ﯶ ﯷ ﯸ) [النحل: ٩٣].

    وقال: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [النحل: ٩٧].

    وقال: ( ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) [العنكبوت: ٧].

    فهذه الآيات وغيرها تدل على أن العباد مسؤولون عن أعمالهم، مجزيون عنها، خيرًا أو شرًا، يسألهم الله عنها، ويجازيهم بها، وهذا يدل على إحاطته سبحانه وتعالى بتلك الأعمال، وإحصائها، وكتابتها، وأنها محفوظة، لا تضيع، ولا تنسى، ولا تهمل.

    قال في البحر: وتوعد بالسؤال عن العمل، فقال: (ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ) وهو سؤال توبيخ، لا سؤال تفهم، وسؤال التفهم هو المنفي في آيات، ثم قال: يعني: سؤال المحاسبة والمجازاة63.

    وهو خطاب لجميع الناس، ومثله في التأكيد والعموم قوله في سورة الحجر: (ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ) [الحجر: ٩٢-٩٣].

    وأكد السؤال بتأكيدين، اللام والنون، أي: عما تعملون من عمل ضلال، أو عمل هدى، والسؤال: كنية عن المحاسبة؛ لأنه سؤال حكيم، تترتب عليه الإنارة، وليس سؤال استطلاع64.

    قال ابن عرفة: واختلف الناس في المباح هل تكتبه الحفظة، ويتعلق فيه السؤال أو لا؟

    وعموم الآية تدل على أنه يسأل عنه، ويكتب؛ لأن «ما» إن كانت موصولة بمعنى «الذي» فهي عامة؛ لأن «الذي» معرف بالألف واللام، وهذه بمعناه، وإن كانت مضافة، فيعم بالإضافة65.

    والمقصود: أن مما يدل على إحاطة الله بأعمال المكلفين، أنه يحصيها، ويسأل عنها، قال: () والسؤال سؤال محاسبة وجزاء، لا سؤال استفهام واستعلام (ﯶ ﯷ ﯸ) «عما» أي: «عن ما» و«ما» اسم موصول، والاسم الموصول من صيغ العموم، أي: سيحاسبنا الله سبحانه وتعالى على كل ما عملنا، من خير، أو شر، والقسم على أن الخلق سيحاسبون مع التأكيد بنون التوكيد زيادة في التهديد والوعيد.

  3. سنة الله ابتلاء المكلفين أيهم أحسن عملًا.

    ومما يدل على إحاطة الله بعمل الخلق، وإحصائه عليهم، أن الله تعالى ابتلاهم بالعمل، ليتم على وفق ذلك الجزاء، والفلاح أو الهلاك، فلما ابتلاهم بالعمل كان من اللازم أن يحصي عليهم أعمالهم؛ ليجازيهم بها في الآخرة.

    قال تعالى: ( ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) [هود: ٧].

    وقال: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [الكهف: ٧].

    وقال: (ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [الملك: ٢].

    فهذه الآيات تدل على أن الله خلق الخلق، وكلفهم بالعمل الصالح، وأحصاه عليهم؛ ليجازيهم به يوم القيامة.

    قال البيضاوي: أي خلق ذلك كخلق من خلق؛ ليعاملكم معاملة المبتلي لأحوالكم كيف تعملون، فإن جملة ذلك أسباب ومواد لوجودكم ومعاشكم، وما تحتاج إليه أعمالكم، ودلائل وأمارات تستدلون بها، وتستنبطون منها66.

    فالاستخلاف في الأرض منوط بالعمل الصالح، فالله يستخلف قومًا بعد آخرين؛ لينظر كيف يعملون، خيرًا أو شرًا، فيعاملهم على حسب عملهم، وبما أن الله يعلم ما سيكون في المستقبل في كل أنحاء الكون ومن المخلوقات، فيكون المقصود إقامة الدليل الحسي والمادي المشاهد على الناس من خلال أعمالهم الواقعية، وليس معنى الآية بأن الله تعالى ما كان عالمًا بأحوال الخلق قبل وجودهم؛ وإنما المراد منه أنه تعالى يعامل العباد معاملة من يطلب العلم بما يكون منهم، ليجازيهم بحسبه، كقوله: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [الملك: ٢]67.

    فبين الحكمة من خلقه الخلائق، فقال: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) [هود: ٧]ولم يقل: أكثر عملًا.

    وقال في أول سورة الكهف: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) ثم بين الحكمة في خلق الأرض وزينتها، قال: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) [الكهف: ٧].

    وقال في أول سورة الملك: (ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ) ثم بين الحكمة، فقال: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [الملك: ٢].

    فهذه الآيات دلت على أنه خلق الخلق ليمتحنهم، وهذا لا ينافي: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ) [الذاريات: ٥٦]أي: إلا لآمرهم بعبادتي على ألسنة رسلي، وأمتحنهم فيظهر المحسن منهم وغير المحسن، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن طريق الإحسان محصورة في هذا الزاجر الأكبر، والواعظ الأعظم، وهو أن يعلم العبد الضعيف الذليل المسكين أن جبار السماوات والأرض مطلع عليه، حاضر لا يغيب عنه شيء من فعله، يعلم كل ما يفعل؛ ولذا فجميع الخلائق الله جل وعلا مطلع عليهم، لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، لا يغيب عنه شيء من أعمالهم؛ ولذا قال: (ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ) [الأعراف: ٧]68.

    أنواع الأعمال وشروطها

    أشار القرآن الكريم إلى أنواعٍ من العمل، وإلى بعض شروطها، ومن هذه الأعمال:

    أولًا: العمل الصالح:

    العمل الصالح في مفهوم القرآن هو جميع الطاعات التي أمر الله بها، وأمر بها رسوله صلى الله عليه وسلم، وكل عمل يحبه الله ويرضاه فهو من العمل الصالح، بل يتعدى ذلك إلى كل عمل قصد به فاعله وجه الله تعالى، وكان موافقًا لهدي رسوله، وإن كان فعلًا عاديًا، يفعله الإنسان بدافع العادة.

    وقد عبر الله عنه في القرآن بالعمل الصالح، وبالصالحات، وبالحسنات، والطاعة، والحسنة، والخير، وغير ذلك من الألفاظ التي تدل على العمل الصالح.

    قال تعالى: (ﯪ ﯫ ﯬ) [فاطر: ١٠].

    وقال: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ) [البقرة: ٢٥].

    وقال: (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) [الأنعام: ١٦٠].

    وقال: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) [هود: ١١٤].

    وقال: (ﭰ ﭱ ﭲ) [محمد: ٢١].

    وقال: (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [الحج: ٧٧].

    ففي قوله: (ﭔ ﭕ) أي: الخصال والفعلات الصالحات، نعت لاسم مؤنث محذوف.

    ومعناه: أخلصوا الأعمال، يدل عليه قوله: (ﰕ ﰖ )[الكهف: ١١٠].

    أي: خالصًا؛ لأن المنافق والمرائي لا يكون عمله خالصًا، وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: (ﭔ ﭕ) فيما بينهم وبين ربهم، وقال: العمل الصالح يكون فيه أربعة أشياء: العلم، والنية، والصبر، والإخلاص.

    وقال سهل بن عبد الله: لزموا السنة؛ لأن عمل المبتدع لا يكون صالحًا.

    وقيل: أدوا الأمانة، يدل عليه قوله: ( ﯧ ﯨ)[الكهف: ٨٢]. أي: أمينًا.

    وقيل: تابوا، ودليله قوله تعالى: (ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ)[يوسف: ٩]. أي: التائبين69.

    والعمل الصالح أيضًا هو ما يصلح للقبول، وهو ما يؤدى على الوجه المأمور به، ويقال: العمل الصالح ما كان بنعت الخلوص، وصاحبه صادق فيه، ويقال: هو الذي لا يستعجل عليه صاحبه حظًا في الدنيا من أخذ عوض، أو قبول جاه، أو انعقاد رياسة، وما في هذا المعنى70.

    فالصالحات: هي الأعمال التي تعود بالخير عليك، أو على غيرك، وأضعف الإيمان في عمل الصالح أن تترك الصالح في ذاته على صلاحه فلا تفسده، كأن تجد بئرًا يشرب منه الناس فلا تطمسه ولا تلوثه، فإن رقيت العمل الصالح، فيمكنك أن تزيد من صلاحه، فتبني حوله جدارًا يحميه، أو تجعل له غطاءً.

    قال ابن عثيمين: و() هي: التي كانت خالصة لله، وموافقة لشريعة الله.

    ولا يمكن أن يكون العمل صالحًا إلا بهذا الإخلاص لله، والموافقة لشريعة الله، فمن أشرك فعمله غير صالح، ومن ابتدع فعمله غير صالح، ويكون مردودًا عليهما، ودليل ذلك قوله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)71.

    وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌ)72.

    أي: مردود عليه، فصار العمل الصالح ما جمع وصفين: الإخلاص لله، والمتابعة لشريعة الله، أو لرسول الله73.

    وهذا العمل الصالح مطلوب من كل أحد، لم يستثن الله نبيًا ولا رسولًا من إلزامه بالعمل الصالح؛ لذا أعقب بيان نعمه وأفضاله على داود بأمره مع أهله بصالح العمل، وهو فعل الأوامر، وترك النواهي، كما قال تعالى: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) [سبأ: ١٣].

    وعلل الترغيب بالعمل الصالح بأنه تعالى بصير بأعمال عباده وأقوالهم، لا يغيب عنه شيء، فيجازيهم عليها74.

    وإن ثواب العمل الصالح، وعقاب العمل السيئ يرجع إلى صاحبه، فينفعه أو يضره في آخرته، وإن جميع الخلائق عائدون إلى ربهم للحساب والجزاء، فالعمل الصالح يعود بالنفع على فاعله، والعمل الرديء يعود بالضرر على فاعله، وأنه تعالى أمر بهذا، ونهى عن ذلك، لحظ العبد، لا لنفع يرجع إليه، وهذا ترغيب منه تعالى في العمل الصالح، وزجر عن العمل الباطل75.

    وإن اقتران الإيمان دائمًا بالعمل الصالح يدل على أن الإسلام يدعو إلى العمل الإيجابي للخير، فليس الإيمان في الإسلام مجرد نزاهة روحية، وتعبد في الصوامع، إنما الإيمان مظهره عمل إيجابي، فيه نفع للناس؛ فالإسلام يدعو إلى العمل الإيجابي، لا مجرد التقديس السلبي.

    وإذا كان العمل الصالح هو النفع العام والنفع الخاص، فإنه يفترق عن الصلاة والزكاة، من حيث إن هذه هي الفرائض الوقتية المنظمة للعلاقات بين العبد وربه، وبين العبد والناس، أما العمل الصالح فهو الحال الدائمة للمؤمن التي لا تتقيد بزمان ولا مكان ولا حال، فكما أن الإيمان حال دائمة، فالعمل الصالح أي النفع الدائم المستمر للإنسان هو الذي ينبغي أن يكون حالًا دائمة مستمرة للمؤمن 76.

    شروط العمل الصالح في القرآن:

    دل القرآن العظيم على أن العمل الصالح هو ما استكمل ثلاثة أمور:

    الأول: موافقته لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله يقول: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ) [الحشر: ٧].

    الثاني: أن يكون خالصًا لله تعالى؛ لأن الله جل وعلا يقول: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [البينة: ٥].

    وقال: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) [الزمر: ١٤-١٥].

    الثالث: أن يكون مبنيًا على أساس العقيدة الصحيحة؛ لأن الله يقول: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [النحل: ٩٧].

    فقيد ذلك بالإيمان، ومفهوم مخالفته أنه لو كان غير مؤمن لما قبل منه ذلك العمل الصالح.

    وقد أوضح جل وعلا هذا المفهوم في آيات كثيرة، كقوله في عمل غير المؤمن: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [الفرقان: ٢٣].

    وقوله: (ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ) [هود: ١٦].

    وقوله: (ﭸ ﭹ ﭺ) [النور: ٣٩] الآية.

    وقوله: (ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [إبراهيم: ١٨].

    إلى غير ذلك من الآيات77.

    والمقصود: أن العمل الصالح له شروط، وهي ما سبق ذكرها، فلا ينبغي الاغترار بصورة العمل الصالح، فرب عمل صالح في الظاهر لا يثمر خيرًا، أو عمل صالح لا يستفيد منه صاحبه قربًا من الله.

    وقد ذكر القرآن كثيرًا أن بعض الأعمال حابطة؛ لأنها لم تستوف شروطها، قال تعالى: (ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ) [الكهف: ١٠٥].

    وقال: (ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ) [محمد: ٢٨].

    وقال الله تعالى: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [الحجرات: ٢]ونظائرها كثير.

    والحبوط: من حبطت الإبل: إذا أكلت الخضر، فنفخ بطونها، وربما هلكت78، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (وإن مما ينبت الربيع لما يقتل حبطًا أو يلم)79.

    ومن أخواته: حبجت الإبل، إذا أكلت العرفج، فأصابها ذلك، وأحبض عمله: مثل أحبطه، وحبط الجرح وحبر: إذا غفر، وهو نكسه وتراميه إلى الفساد، جعل العمل السيئ في إضراره بالعمل الصالح كالداء والحرض لمن يصاب به، أعاذنا الله من حبط الأعمال، وخيبة الآمال.

    وقد دلت الآية على أمرين هائلين:

    أحدهما: أن فيما يرتكب من يؤمن من الآثام ما يحبط عمله.

    والثاني: أن في آثامه ما لا يٌدرى أنه محبط، ولعله عند الله كذلك، فعلى المؤمن أن يكون في تقواه كالماشي في طريق شائك لا يزال يحترز ويتوقى ويتحفظ80.

    ثانيًا: العمل السيئ:

    ذكر القرآن من أنواع العمل العمل السيئ، وهو الذي من شأنه أن يسوء صاحبه81. إذا رآه في صحيفته.

    وأطلق عليه القرآن فاحشة، وذنبًا، ومعصيةً، وسيئة، وغيرها من الاطلاقات، لكن جرى أسلوب القرآن أن الله إذا قال: (ﮍ ﮎ ﮏ)، يراد به العمل السيئ، ودليله قول الله تعالى: ( ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [الحج: ١٠].

    وقد جمع الله العمل الصالح والسيئ في آية واحدة، قال الله تعالى: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) [الزمر: ٣٥].

    فذكر نوعين من العمل السيئ والحسن، ثم أخبر أنه يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا، ويجزيهم بأحسن الذي كانوا يعملون، فيحتمل: الأحسن: الحسنات نفسها يجزيها، ويكفر السيئات.

    ويحتمل: أنه يكفر أسوأ السيئات وأعظمها، ويجزي على أحسن الحسنات وأعظمها، فعلى هذا أحسن وأسوأ من نوعها، أحسن الحسنات، وأسوأ السيئات، وعلى الأول من غير نوعها، أي: يكفر السيئات، ويجزي بالحسنات82.

    والمقصود: أن الأعمال السيئة: هي التي يعملها الإنسان على غير الوجه المشروع، فكل عمل على هذا النحو هو عمل سوء.

    والأفعال السيئة على أربعة أنواع:

    الأول: الفعل بأحد الجوارح، كالزنا والسرقة.

    الثاني: فعل اللسان، فهو عمل، والدليل على أن قول اللسان من الأفعال: أن الله صرح أن قول اللسان من الأفعال في قوله جل وعلا: (ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ) [الأنعام: ١١٢].

    فأطلق على زخرف القول اسم «الفعل» فدل على أن قول اللسان فعلٌ.

    الثالث: العزم المصمم؛ لأن عزم الإنسان المصمم دلت السنة الصحيحة على أنه من الأفعال السيئة التي تدخل صاحبها النار، أما الهم الذي لم يكن عزمًا مصممًا، فليس من الأفعال، كما قال جل وعلا: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ) [آل عمران: ١٢٢].

    وإتباعه لذلك بقوله: (ﭗ ﭘ) دل على أنه همٌ لم يستقر، ولم يكن عزمًا مصممًا حتى يعد من الأفعال، ومن ذلك الهم الذي ليس من العزم المصمم الذي هو من الأفعال.

    الرابع: هو الترك، والترك من الأفعال الحقيقية، فهو فعلٌ على التحقيق، وإن خالف فيه من خالف، فمن ترك الصلاة حتى ضاع وقتها فقد عمل بهذا الترك عملًا سيئًا يدخل به النار، وكان ابن السبكي في بعض تآليفه في الأصول يقول: طالعت كتاب الله لأجد فيه آيةً تدل على أن الترك فعلٌ فما وجدت فيه شيئًا يدل على أن الترك فعلٌ إلا شيئًا يفهم من آيةٍ في سورة الفرقان هي قوله: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) [الفرقان: ٣٠].

    قال: الاتخاذ أصله من الأخذ، والأخذ: التناول، فقال: تناولوه مهجورًا، فدل على أن الهجر فعلٌ.

    ونحن نقول: إنا باتباع كتاب الله وجدنا آياتٍ صريحةً من كتاب الله تدل بصراحةٍ لا شك فيها على أن الترك من الأفعال، منها: آيتان في سورة المائدة، إحداهما قوله تعالى: (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ) [المائدة: ٦٣].

    فسمى عدم نهيهم وتركهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سماه: «صنعًا» والصنع أخص من مطلق الفعل، ومنه قوله تعالى في المائدة أيضًا: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ).

    ثم قال: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ) [المائدة: ٧٩] يعني به تركهم للتناهي عن المنكر، سماه «فعلًا» وأنشأ له الذم بقوله: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ).

    هذه الأقسام الأربعة هي الأفعال، واللغة العربية تدل على أن الترك من الأفعال.

    وبهذا يعلم أن قوله في هذه الآية الكريمة: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ)[الأنعام: ٥٤]. أن عمل السوء قد يكون بفعل أحد الجوارح، وقد يكون بفعل اللسان، وقد يكون بالعزم المصمم83.

    وأطلق القرآن كثيرًا على العمل السيئ: السيئة، وهي: اسم كالخطيئة، والسوأى، بوزن فعلى: اسم للفعلة السيئة، بمنزلة الحسنى للحسنة، محمولة على جهة النعت في حد أفعل وفعلى، كالأسوأ والسوأى، رجلٌ أسوأ، وامرأة سوأى، أي: قبيحة، والسوأة: كل عمل وأمر شائن، وتقول في النكرة: رجل سوءٍ، وإذا عرفت، قلت: هذا الرجل السوء، ولم تضف، وتقول: هذا عمل سوء، ولم تقل: العمل السوء؛ لأن السوء يكون نعتًا للرجل، ولا يكون السوء نعتًا للعمل؛ لأن الفعل من الرجل، وليس الفعل من السوء، كما تقول: قول صدقٍ، والقول الصدق، ورجل صدق، ولا تقول: الرجل الصدق؛ لأن الرجل ليس من الصدق84.

    قال تعالى: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) [يونس: ٢٧].

    والسيئات على وجوه: كأكل الحرام، وشرب الخمر، والغيبة ونحوها، لكن أسوأ الكل الشرك بالله؛ ولذلك لا يغفر، وهو جلي وخفي -حفظنا الله منهما-، وكذا الحسنات على وجوه: ويجمعها العمل الصالح، وهو ما أريد به وجه الله، وأحسن الكل التوحيد؛ لأنه أساس جميع الحسنات، وقامع السيئات85.

    وقال تعالى: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ) [غافر: ٤٠].

    وقال بعض الحكماء: إن الله تعالى قال: (ﯦ ﯧ ﯨ) ولم يقل: من ذكرٍ أو أنثى وقال: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) لأن العمل الصالح يحسن من الرجل والمرأة، والسيئة من المرأة أقبح من الرجل، فلم يذكر من ذكرٍ أو أنثى86.

    وقال تعالى: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ) [التوبة: ١٠٢].

    فالعمل السيئ هو: التخلف عن الغزو بلا إشكال، وأما العمل الصالح ففيه معنيان:

    أحدهما: ندامتهم، وربطهم أنفسهم بالسواري.

    والثاني: العمل الصالح: هو غزواتهم مع رسول الله من قبل87. والصواب العموم في كلا العملين.

    ومعنى الخلطة: أنهم خلطوا كل واحد منهما بالآخر، كقولك: خلطت الماء باللبن واللبن بالماء؛ ذكره غالب المفسرين، وأنكره الرازي، وقال: الواو لمطلق الجمع، وفيه تنبيه على نفي القول بالمخالطة، وأنه بقي كل واحد منهما كما كان من غير أن يتأثر أحدهما بالآخر88.

    وأطلق القرآن على العمل السيئ أيضًا: الخبيث، قال تعالى: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) [الأنفال: ٣٧]قيل: يعني: الكافر من المؤمن، فينزل المؤمن الجنان، والكافر النيران، وقال الكلبي: العمل الخبيث من العمل الصالح الطيب، فيثيب على الأعمال الصالحة الجنة، وعلى الأعمال الخبيثة النار89.

    ثالثًا: العمل المباح:

    وذكر القرآن من أنواع العمل «العمل المباح» وهو العمل في البحر، والتجارة، والصناعة، قال تعالى: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ) [الكهف: ٧٩].

    قال السمرقندي: (ﮗ ﮘ ﮙ) أي: يؤاجرون في البحر، ويكسبون قوتهم90.

    فهذه السفينة كانت لفقراء يحترفون العمل في البحر، لنقل الناس من ساحل إلى آخر91.

    وإسناد العمل إلى الكل حينئذٍ إنما هو بطريق التغليب، أو لأن عمل الوكلاء بمنزلة عمل الموكلين92.

    ومن فوائد الآية: أن العمل يجوز في البحر، كما يجوز في البر؛ لقوله: (ﮗ ﮘ ﮙ) [الكهف: ٧٩]93. أي: مجال عملهم البحر، يعملون فيه بنقل الركاب، أو البضائع، أو الصيد، أو خلافه94.

    وهذا من العمل المباح الذي ذكره القرآن.

    ومعنى الآية: أما السفينة التي خرقتها، وأنكرت علي ذلك، فقد كانت لمساكين محتاجين، يعملون في البحر للتجارة، وصيد الأسماك، وهي مرتزقهم في الحياة، وكان لهم ملك جبار ظالم نهم يأخذ لنفسه كل سفينة صالحة، ويغتصبها غصبًا من أهلها بدون الرجوع إلى حق، أو قانون95.

    ونظير ذلك قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ) [الأنبياء: ٨٢].

    أي: يغوصون له في البحار، فيستخرجون الجواهر، ويتجاوزون ذلك إلى الأعمال والمهن وبناء المدائن والقصور، واختراع الصنائع العجيبة، كما قال: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ) والله حافظهم أن يزيغوا عن أمره، أو يبدلوا أو يغيروا، أو يوجد منهم فساد في الجملة فيما هم مسخرون فيه96.

    ومن العمل المباح الذي ذكره القرآن أيضًا الصناعة، قال تعالى: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [سبأ: ١٣].

    ففي قوله: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ) هذا عمل في الصناعة.

    قال السمعاني: قوله تعالى: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ) أي: المساجد، ويقال: الأبنية المرتفعة، وفي القصة: أنه أمرهم ببناء الحصون بالصخر، فبنوا باليمن حصونًا كثيرة عجيبة، وهي صرواح ومرواح وفلتون وهندة وهنيدة وغمدان وغير ذلك.

    وقوله: () أي: الصور، فإن قال قائل: أليس أن عمل الصور مكروه؟

    قلنا: هو في هذه الشريعة، ويحتمل أنها كانت مباحة في شريعته، وقد كان عيسى يصور من الطين، وينفخ فيه فيجعله الله طيرًا، واختلف القول في الصور التي اتخذتها الشياطين؛ فأحد القولين: أنها صورة السباع والطيور من العقبان والنسور، وما أشبه ذلك.

    والقول الثاني: أنه أمرهم باتخاذ صورة الأنبياء والزهاد والعباد، حتى إذا نظرت بنو إسرائيل إليهم ازدادوا عبادة.

    وقوله: (ﯩ ﯪ) أي: كالحياض، والجفان جمع جفنة، وفي القصة: أن كل جفنة كان يقعد عليها ألف إنسان97.

    ولهذا قال بعد ذلك: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) [سبأ: ١٣] أي: صالحًا من الأعمال، فإنه لا نجاح، ولا فوز على العدو بالقوة المادية فقط، بل لا بد من العمل الصالح الذي يقوم النفوس، ويطهر الأرواح، ويحصنها حتى لا تكبو، ومن المطلع على خفايا النفوس؟ إنه الله عالم الغيب والشهادة، إنه بما تعملون بصير فاحذروه.

    ويظهر -والله أعلم- أن داود كافح وقاتل حتى خلص الملك من الأعداء فمدته كانت مدة حرب وجلاد، ولذلك كان مشغولًا بعمل الدروع السوابغ، وفي أيام سليمان كان الهدوء مخيمًا على المملكة، فكان سليمان ينتقل على بساطه الذي يحمله الريح ليشرف على أطراف المملكة الواسعة الأرجاء، والشعب كان مشغولًا بالبناء والصناعة، وتأسيس الدور والمعابد؛ ولذلك من الله عليه بإذابة النحاس له، وتسخير الجن يعملون له ما يشاء من محاريب، وتماثيل، وقصاع كالجوابي، وقدور واسعة ثقيلة، لا تنقل، بل هي راسيات كالجبال.

    وكانت الجن تعمل بين يديه ما يريده بإذن ربه، وهي مهددة، فمن يزغ منهم عن أمر الله: يمل عنه، يذقه عذابًا شديدًا من عذاب السعير.

    فيا آل داود: هذه بعض نعم الله عليكم، وهي نعم سابغة كثيرة، ومن أعطي هذا فليعمل لله شكرًا، وقليل من عباده الشكور، قليل من تصفو نفسه، ويطهر قلبه، ويقابل الإحسان بالشكر، والنعمة بالحمد (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) [العاديات: ٦].

    وخذوا أيها الناس العبرة من داود وسليمان، عبدا ربهما، وشكرا وأخلصا، فمن الله عليهما بالنعم التي لا تحصى، وأجرى على أيديهما المعجزات98.

    وقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) [الأعراف: ٧٤].

    أي: وتذكروا نعم الله عليكم، وإحسانه إليكم؛ إذ جعلكم خلفاء لعاد فى الحضارة والعمران، والقوة والبأس، وأنزلكم منازلهم تتخذون من سهولها قصورًا زاهية، ودورًا عالية، بما ألهمكم من حذق فى الصناعة، فجعلكم تضربون اللبن، وتحرقونه آجرًا «الطوب المحرق» وتستعملون الجص، وتجيدون هندسة البناء، ودقة النجارة، وتنحتون من الجبال بيوتًا؛ إذ علمكم صناعة النحت، وآتاكم القوة والجلد.

    وروي: أنهم كانوا يسكنون الجبال فى الشتاء لما في البيوت المنحوتة من القوة، فلا تؤثر فيها الأمطار والعواصف، ويسكنون السهول في باقي الفصول للزراعة والعمل99.

    ونظير ما جاء في الصناعة قوله تعالى: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) [الأنبياء: ٨٠].

    فقوله: (ﯙ ﯚ) تلك هي صنعة الدروع حلقًا متداخلة، بعد أن كانت تصنع صفيحة واحدة جامدة، والزرد المتداخل أيسر استعمالًا، وأكثر مرونة، ويبدو أن داود هو الذي ابتدع هذا النوع من الدروع بتعليم الله، والله يمن على الناس أن علم داود هذه الصناعة لوقايتهم في الحرب (ﯝ ﯞ ﯟ) وهو يسألهم سؤال توجيه وتحضيض (ﯡ ﯢ ﯣ)؟

    والحضارة البشرية سارت في طريقها خطوة خطوة وراء الكشوف، ولم تجىء طفرة؛ لأن خلافة الأرض تركت لهذا الإنسان، ولمداركه التي زوده الله بها ليخطو في كل يوم خطوة، ويعيد تنسيق حياته وفق هذه الخطوة، وإعادة تنسيق الحياة وفق نظام جديد ليست سهلة على النفس البشرية، فهي تهز أعماقها، وتغير عاداتها ومألوفها، وتقتضي فترة من الزمان لإعادة الاستقرار الذي تطمئن فيه إلى العمل والإنتاج، ومن ثم شاءت حكمة الله أن تكون هناك فترة استقرار تطول أو تقصر، بعد كل تنسيق جديد، والقلق الذي يستولي على أعصاب العالم اليوم منشؤه الأول سرعة توالي الهزات العلمية والاجتماعية التي لا تدع للبشرية فترة استقرار، ولا تدع للنفس فرصة التكيف والتذوق للوضع الجديد100.

    والمقصود: أن القرآن أخبر عن نبي الله داود الذي آتاه الحكم والخلافة في الأرض أنه قد اتخذ لنفسه صناعة يأكل منها، وأفهمه الله تعالى هذه الصناعة، وما كان أكل الرجل من عمل يده عيبًا، إنما العيب أن يكون كلًا على الناس، وهو القادر على العمل، ولقد جاء في تفسير القرطبي ما نصه: «هذه الآية أصل في اتخاذ الصنائع والأسباب، وهو قول أهل العقول والألباب، فالسبب سنة الله في خلقه، وقد أخبر الله تعالى عن نبيه داود عليه السلام أنه كان يصنع الدروع، وكان أيضًا يصنع الخوص، وكان يأكل من عمل يده، وكان آدم حراثًا، ونوح نجارًا، ولقمان خياطًا، وطالوت دباغًا، وقيل: سقاء، فبالصنعة يكف الإنسان نفسه عن الناس، ويدفع بها الضرر»101.

    وقال الرازي وهو يتكلم على هذه الآية (ﯙ ﯚ) [الأنبياء: ٨٠]: إن مصالح العالم إما أصول وإما فروع، أما الأصول فأربعة: الزراعة والحياكة وبناء البيوت والسلطنة.

    وذلك لأن الإنسان مضطر إلى طعام يأكله، وثوب يلبسه، وبناء يجلس فيه، والإنسان مدني بالطبع، فلا تتم مصلحته إلا عند اجتماع جمع من أبناء جنسه، يشتغل كل واحد منهم بمهم خاص، فحينئذٍ ينتظم من الكل مصالح الكل؛ وذلك الانتظام لا بد وأن يفضي إلى المزاحمة، ولا بد من شخص يدفع ضرر البعض عن البعض؛ وذلك هو السلطان، فثبت أنه لا تنتظم مصلحة العالم إلا بهذه الأمور الأربعة102.

    ومن العمل المباح الذي ذكره القرآن أيضًا العمل في التجارة، قال تعالى: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ) [المزمل: ٢٠].

    قال أبو جعفر: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ) في سفر (ﭾ ﭿ ﮀ ) في تجارة، قد سافروا لطلب المعاش103.

    وقال السيوطي: هذه الآية أصل في التجارة104.

    وقد كان بعض الصحابة يتأول من هذه الآية فضيلة التجارة والسفر للتجارة، حيث سوى الله بين المجاهدين والمكتسبين المال الحلال105.

    وقال الله تعالى: ( ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [البقرة: ٢٨٢].

    ومن فوائد هذه الآية: جواز الاتجار؛ لقوله تعالى: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ) ولكن هذا الإطلاق مقيد بالشروط التي دلت عليها النصوص؛ فلو اتجر الإنسان بأمر محرم فهذا لا يجوز من نصوص أخرى؛ ولو رابى الإنسان يريد التجارة والربح قلنا: هذا حرام من نصوص أخرى؛ إذًا هذا المطلق الذي هو التجارة مقيد بالنصوص الدالة على أن التجارة لا بد فيها من شروط.

    ومن فوائد الآية: أن التجارة نوعان:

    • تجارة حاضرة.
    • تجارة غير حاضرة.

      فأما الحاضرة فهي التي تدار بين الناس بدون أجل؛ وأما غير الحاضرة فهي التي تكون بأجل، أو على مسمى موصوف غير حاضر.

      ومنها: أن الأصل في التجارة الدوران؛ لقوله تعالى: (ﯠ ﯡ) فأما الشيء الراكد الذي لا يدار فهل يسمى تجارة؟ يرى بعض العلماء أنه ليس تجارة؛ ولذلك يقولون: ليس فيه زكاة، وأن الزكاة إنما هي في المال الذي يدار -يعني يتداول-، ويرى آخرون أنها تجارة؛ ولكنها تجارة راكدة؛ وهذا يقع كثيرًا فيما إذا فسدت التجارة، وكسد البيع؛ فربما تبقى السلع عند أصحابها مدة طويلة لا يحركونها؛ لكن هي في حكم المدارة؛ لأن أصحابها ينتظرون أي إنسان يأتي، فيبيعون عليه106.

      ومن العمل المباح الذي ذكره القرآن أيضًا العمل في الأرض والزرع، قال تعالى: (ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨ) [يس: ٣٥].

      فقوله: (ﮣ ﮤ) ما معطوفة على ثمره، أي: ليأكلوا من الثمر، وما عملته أيديهم بالحرث والزراعة والغراسة107.

      وقال تعالى: ( ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) [البقرة: ٢٦١].

      قيل: في هذه الآية دلالة على أن اتخاذ الزرع من أعلى الحرف التي يتخذها الناس؛ ولذلك ضرب الله به المثل في قوله: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ) الآية.

      وفي صحيح مسلم: (ما من مسلم يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له صدقة)108.

      وفي الترمذي: (التمسوا الرزق في خبايا الأرض) 109. يعني: الزرع.

      وقال رجل لآخر: دلني على عمل أعالجه، فقال له:

      تتبع خبايا الأرض وادع مليكها

      لعلك يومًا أن تجاب وترزقا110

      والزراعة: من فروض الكفاية، فيجبر عليها بعض الناس إذا اتفقوا على تركها111.

      وقد نبه سبحانه وتعالى إلى أن طرق الكسب قسمان؛ وذلك في قوله تعالى: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [البقرة: ٢٦٧].

      ففي هذا النص الكريم تقسيم حكيم؛ وقد قدم سبحانه وتعالى القسم الأول، وهو الكسب الذي يكون بعمل الإنسان، سواء أكان صناعة أم كان تجارة، وسواء أكان عملًا آليًا، أم كان عملًا فكريًا؛ وكان ذلك التقديم لأسباب كثيرة:

      منها: بيان فضل الأكل من العمل والكسب، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ما أكل ابن آدم طعامًا خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده)112.

      ومنها: أن العطاء من مال يجيء بمجهود، وتبذل فيه الجهود يكون أعظم ثوابًا.

      ومنها: إعلاء قدر العمل الإنساني؛ لأن به إقامة العمران، وإصلاح الأرض، وتقدم هذا الوجود الإنساني في معيشته، ووسائل رزقه.

      والقسم الثاني: فيه خير كثير، ولكنه كله بفضل الله تعالى لا عمل للعبد إلا إلقاء البذر، وغرس الغراس، والقيام عليها، والباقي كله لله الواحد القهار.

      وهنا يسأل سائل: لماذا أضاف سبحانه ما يخرج من الأرض إليه سبحانه وتعالى مع أن للعبد فيه عملًا من حرث وبذر وإصلاح ومراقبة، ثم أضيف الكسب بالتجارة والصناعة والعمل في هذه الدنيا إلى العبد، مع أنه برزق من الله؛ لأنه هو الذي قسم الأرزاق بين العباد، وجميع ما للعبد من مكاسب بتوفيقه ورزقه، كما قال تعالى في آية أخرى: (ﭢ ﭣ ﭤ) [البقرة: ٣]وكما قال تعالى: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ) [هود: ٦]فكل شيء منه وإليه، وكل كسب للعبد سواء أكان من الزرع والضرع، أم كان من الصناعة أو التجارة فهو من الله وبفضله وبتوفيقه ورزقه وهدايته، بل عطائه سبحانه وإن لذلك السؤال موضعه، وأن الله سبحانه في بعض آي الذكر الحكيم يضيف الكسب إلى العبد لأنه الذي باشر العمل، وفي بعضه يضيف الرزق إلى الرب لأنه المانح، وهو سبحانه يصرف الآيات لمن يفقهونها، ولكل مقام ما يناسبه، ولكلامه سبحانه المثل الأعلى، فلا يحاكيه كلام الإنسان مهما يعل قدره في البيان.

      ولو حاولنا أن نصل إلى سر التعبير ما بلغناه على وجهه الكامل؛ وأقصى ما نقول: هو أنه سبحانه وتعالى أضاف الكسب إلى العبد في الأولى، وإخراج النبات والغراس إليه ليتميز القسمان من الإنتاج، فهما قسمان متقابلان بلا شك، إذ الأول العنصر الواضح فيه كسب العبد، والثاني العنصر الواضح فيه عمل الرب، كما أشرنا، فلهذا التمييز بين القسمين كانت الإضافتان المختلفتان، وليحث سبحانه الناس على النوعين من العمل، وبيان أنهما أساس العمران في هذا الوجود، فكلاهما إصلاح في الأرض وسبيل من سبل الإنتاج فيها؛ وقد كان بعض الاقتصاديين المتقدمين يعتبر طريق الإنتاج فقط الزراعة، وما تخرجه الأرض؛ والأخرى طرق ثانوية، فالله سبحانه يرشد إلى أن كليهما طريق متميز فيه عمران الأرض والإصلاح فيها، وفوق ذلك فإن إضافة الكسب إلى العبد مع الحث على الإنفاق من طيباته فيه إشارة إلى أن للفقير حقًا معلومًا في كل ما يكسب من مال، سواء أكان بصناعة أو تجارة، أو عمل باليد، أم كان بالبحث في الأرض، وإلقاء الحب، ورجاء الثمار من الرب، فللفقير قدر معلوم في كل هذا.

      وبعض المفسرين لا يقصر ما تخرجه الأرض على الزرع والشجر، والحشائش التي يتغذى منها ذات الضرع وذات الحافر، بل يتجاوز إلى ما يكون في باطن الأرض من معادن وفلزات، وسواء مما تقوم عليها الثروات عند بعض الأمم، ومما صار أساس العمران في عصرنا الحاضر؛ فإن أولئك المفسرين الأجلاء أدخلوا ذلك في عموم قوله تعالى: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) وإن ذلك صادق بلا ريب، وهو نظر مستقيم.

      وقد يقول قائل: إن ذلك مودع في باطن الأرض، ولم يخرجه الله سبحانه وتعالى إلى ظاهرها، بل الإنسان هو الذي يخرجه، فنقول: ليس المراد بالإخراج هو هذا المظهر الحسي، بل المراد منه التكوين والإنشاء وظهور الأعراض التي تكون سبيلا لخروجه، فيشمل الإخراج ذلك كما يشمل تكوين الزرع بخروج البذرة من باطن الأرض؛ فإن كليهما يكونه الله تعالى ويظهره لعباده؛ هذا بعوده مستقيمًا يراه الحس بما يحمل من ثمر، وما معه من غذاء، وذاك يظهر بأعراضه التي يعرفها الخبراء، وقد يظهر للحس ويبدو للنظر، كما يرى البترول طافيًا على الأرض في بعض البلدان، يعلن ما حوته في باطنها من عيون ثرَّة تفيض به113.

      والمقصود: أن هذه الطرق الثلاث التي ذكرها القرآن -الزراعة، والتجارة، والصناعة- وهي الطرق الطبيعية لتحصيل الأموال، عمد الاقتصاد القومي لكل أمة تريد أن تحيا حياة استقلالية، رشيدة عزيزة، من الضروري العمل على تركيزها في البلاد، ثم العمل على تنسيقها تنسيقًا يحقق للأمة هدفها الذي يوجبها الإسلام عليها، والذي يجب أن تحصل عليه وتحتفظ به وتنميه؛ صونًا لكيانها، واستقلالها في سلطانها وإدارتها، وإذا كان من قضايا العقل والدين أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وكانت الحياة متوقفة على هذه العمد الثلاثة، كانت هذه العمد الثلاثة واجبة، وكان تنسيقها على الوجه الذي يحقق خيرها واجبًا.

      وكل هذه الأعمال -التجارة والصناعة والزراعة- إذا قام صاحبها بحقها، وتوكل على الله تعالى حق توكله هي عبادة لله، فالصانع في مصنعه، والزارع في مزرعته، والتاجر في متجره إذا قصد وجه الله تعالى، ونفع الناس يكون ذاكرًا لله تعالى، عابدًا له، وإن المؤمن لا يفرغ قلبه من ذكره، إذا قام بحق الله تعالى، وإن ذكر الله تعالى يصحبه الخوف من الله فيتقي الله تعالى في كل عمل يعمله، ويكون دائمًا في حذر من غضب الله تعالى 114.

      والحكمة من الإشارة إلى هذه الأعمال المباحة في القرآن هي: الدلالة على أن الإسلام دين يجمع بين الدنيا والآخرة، بين إعمار الدنيا وإعمار الآخرة، وقد ذكر الله تعالى ذلك على سبيل الامتنان، مما يدل على إباحة هذه الأعمال، بل على وجوبها أحيانًا.

      الحث على العمل الصالح

      تتنوع أساليب القرآن الكريم في الحث على الشيء المرغوب فيه، فتارة بالأمر الصريح به، وتارة بالنهي عن ضده، وتارة بذكر ثوابه، ونجد هذا التنوع في الأسلوب في الحث على العمل الصالح، حيث جاء في القرآن على النحو الآتي:

      ١. الأمر به.

      من أساليب القرآن الكريم في الحث على العمل الأمر به.

      قال تعالى: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [التوبة: ١٠٥].

      فـ() أمر بالعمل، وهو من أساليب الحث على الشيء، والأمر هو طلب فعل، وصيغته: افعل، ولتفعل، وهي حقيقة في الإيجاب، وترد مجازًا لمعان أخر.

      قال أبو السعود: (ﯟ ﯠ) زيادة ترغيب لهم في العمل الصالح الذي من جملته التوبة، وللأولين في الثبات على ما هم عليه، أي: قل لهم بعد ما بان لهم شأن التوبة: اعملوا ما تشاؤون من الأعمال، فظاهره ترخيص وتخيير، وباطنه ترغيب وترهيب، وقوله: (ﯡ ﯢ ﯣ) أي: خيرًا كان أو شرًا، تعليل لما قبله، وتأكيد للترغيب والترهيب، والسين للتأكيد، () عطف على الاسم الجليل وتأخيره عن المفعول للإشعار بما بين الرؤيتين من التفاوت () والمعنى: أن أعمالكم غير خافية عليهم، كما رأيتم وتبين لكم، ثم إن كان المراد بالرؤية معناها الحقيقي فالأمر ظاهر، وإن أريد بها مآلها من الجزاء خيرًا أو شرًا فهو خاص بالدنيوي، من إظهار المدح والثناء والذكر الجميل والإعزاز، ونحو ذلك من الأجزية وأضدادها115.

      وقد حذف مفعول () لأجل التعويل على القرينة؛ ولأن الأمر من الله لا يكون بعمل غير صالح، والمراد بالعمل ما يشمل العمل النفساني من الاعتقاد والنية، وإطلاق العمل على ما يشمل ذلك تغليب.

      وتفريع (ﯢ ﯣ) زيادة في التحضيض، وفيه تحذير من التقصير، أو من ارتكاب المعاصي؛ لأن كون عملهم بمرأى من الله مما يبعث على جعله يرضي الله تعالى؛ وذلك تذكير لهم باطلاع الله تعالى بعلمه على جميع الكائنات، وعطف () على اسم الجلالة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام هو المبلغ عن الله، وهو الذي يتولى معاملتهم على حسب أعمالهم، وعطف () أيضًا لأنهم شهداء الله في أرضه؛ ولأن هؤلاء لما تابوا قد رجعوا إلى حظيرة جماعة الصحابة، فإن عملوا مثلهم كانوا بمحل الكرامة منهم، وإلا كانوا ملحوظين منهم بعين الغضب والإنكار؛ وذلك مما يحذره كل أحد هو من قوم يرمقونه شزرًا ويرونه قد جاء نكرًا.

      والرؤية المسندة إلى الله تعالى قد تكون حقيقية، وقد تكون رؤية مجازية، وهي تعلق العلم بالواقعات، سواء كانت ذوات مبصرات أم كانت أحداثًا مسموعات، ومعاني مدركات116.

      ومن الأوامر بالعمل قوله تعالى: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ) [سبأ: ١٣].

      والظاهر أن الأمر في قوله: (ﯮ ﯯ ﯰ) لآل داود، وإن لم يجر لهم ذكر، ويجوز أن يكون أمرًا لداود شرفه الله بأن خاطبه خطاب الجمع117.

      وانتصب () على أنه مفعول له، أي: اعملوا لله، واعبدوه على وجه الشكر لنعمائه، وفيه دليل على أن العبادة يجب أن تؤدى على طريق الشكر، أو على الحال، أي: شاكرين، أو على تقدير: اشكروا شكرًا؛ لأن () فيه معنى اشكروا، من حيث أن العمل للمنعم شكر له، ويجوز أن ينتصب باعملوا مفعولًا به، ومعناه: إنا سخرنا لكم الجن يعملون لكم ما شئتم، فاعملوا أنتم شكرًا على طريق المشاكلة118.

      وكأنه قال: () ولم يقل: اشكروا؛ لينبه على التزام الأنواع الثلاثة من الشكر بالقلب واللسان وسائر الجوارح119.

      وقوله: (ﮖ ﮗ ﮘ) [سبأ: ١١] إشارة إلى أنه غير مأمور به أمر إيجاب، إنما هو اكتساب، والكسب يكون بقدر الحاجة، وباقي الأيام والليالي للعبادة، فقدر في ذلك العمل، ولا تشغل جميع أوقاتك بالكسب، بل حصل به القوت فحسب.

      ويدل عليه قوله تعالى: (ﮚ ﮛ) [سبأ: ١١] أي: لستم مخلوقين إلا للعمل الصالح، فاعملوا ذلك، وأكثروا منه، والكسب قدروا فيه، ثم أكد طلب الفعل الصالح بقوله: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ) [سبأ: ١١].

      وقد ذكرنا مرارًا أن من يعمل لملك شغلًا ويعلم أنه بمرأى من الملك يحسن العمل ويتقنه، ويجتهد فيه120.

      قال صاحب السراج: كما قال تعالى عقب قوله سبحانه: (ﮓ ﮔ ﮕ) [سبأ: ١١] (ﮚ ﮛ) قال عقب ما تعمله الجن له: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يجعل الإنسان نفسه مستغرقة في هذه الأشياء، وإنما الإكثار من العمل الصالح الذي يكون شكرًا121.

      وقال تعالى: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ) [المؤمنون: ٥١]ففي الآية أمر للرسل بالعمل الصالح، وهو أمر للأتباع، والمعنى: أي: اعملوا بما أمركم الله به، وأطيعوه في أمره ونهيه (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) لا يخفى علي شيء من أعمالكم122.

      قال النسفي: قوله: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ) هذا النداء والخطاب ليسا على ظاهرهما؛ لأنهم أرسلوا متفرقين في أزمنة مختلفة، وإنما المعنى الإعلام بأن كل رسول في زمانه نودي بذلك، ووصى به؛ ليعتقد السامع أن أمرًا نودي له جميع الرسل، ووصوا به، حقيق أن يؤخذ به، ويعمل عليه، أو هو خطاب لمحمد عليه الصلاة والسلام لفضله، وقيامه مقام الكل في زمانه، وكان يأكل من الغنائم، أو لعيسى عليه السلام لاتصال الآية بذكره، وكان يأكل من غزل أمه، وهو أطيب الطيبات، والمراد بالطيبات: ما حل، والأمر للتكليف، أو ما يستطاب ويستلذ، والأمر للترفيه والإباحة123.

      وبدأ بالأمر بالأكل من الطيبات قبل الأمر بالعمل الصالح؛ لأن الأعمال تتوقف على سلامة الأبدان، فكانت المحافظة على الأبدان من الواجبات؛ ولهذا قدم الأمر بالأكل على الأمر بالعمل، فليس من الإسلام تحريم الطيبات التي أحلها الله كما حرم غلاة المتصوفة اللحم، وليس من الإسلام تضعيف الأبدان وتعذيبها، كما يفعله متصوفة الهنادك، ومن قلدهم من المنتسبين للإسلام، والميزان العدل في ذلك هو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وقد بين ذلك أئمة السنة والأثر رحمهم الله، وفي تقديم الأكل من الطيبات على العمل الصالح تنبيه على أنه هو الذي يثمرها؛ لأن الغذاء الطيب يصلح عليه القلب والبدن، فتصلح الأعمال، كما أن الغذاء الخبيث يفسد به القلب والبدن، فتفسد الأعمال124.

      ولم يتوجه الأمر ها هنا إلى العمل فقط، بل لا بد وأن يكون هذا العمل صالحًا؛ ولهذا قال: (ﮦ ﮧ) وليس الأمر الذي يكون به متميزًا عن سائر البشر إلا العمل الصالح، بأن يكون خالصًا له، والعمل الصالح هو العمل الطيب الذي يكون خيرًا محضًا للناس، لا يكون معه شر لا في ذاته، ولا في نيته، والعمل الصالح ما يكون فيه النفع لأكبر عدد ممكن، وما تكون فيه سعادة عاجلة لأكثر الناس، أو سعادة آجلة لعامتهم، ويدخل في هذا دعوتهم إلى الهداية والرشاد، والتبليغ عن أمر ربهم125.

      قال في روح البيان: (ﮦ ﮧ) أي: عملًا صالحًا، فإنه المقصود منكم، والنافع عند ربكم، وهذا الأمر للوجوب، بخلاف الأول، وفي أمر الرسل بالعمل الصالح رد وهدم لما قال به بعض المبيحين من أن العبد إذا بلغ غاية المحبة، وصفا قلبه، واختار الإيمان على الكفر من غير نفاق سقطت عنه الأعمال الصالحة من العبادات الظاهرة، وتكون عبادته التفكر، وهذا كفر وضلال، فإن أكمل الناس في المحبة والإيمان هم الرسل خصوصًا حبيب الله مع أن التكاليف بالأعمال الصالحة والعبادات فى حقهم أتم وأكمل126.

      وقال المراغي: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ) أمر الله كل نبي في زمانه بأن يأكل من المال الحلال ما لذ وطاب، وأن يعمل صالح الأعمال؛ ليكون ذلك كفاء ما أنعم به عليه من النعم الظاهرة والباطنة، وهذا الأمر وإن كان موجهًا إلى الأنبياء، فإن أممهم تبع لهم، وكأنه يقول لنا: أيها المسلمون فى جميع الأقطار، كلوا من الطيبات أي من الحلال الصافي القوام الحلال ما لا يعصى الله فيه، والصافي ما لا ينسى الله فيه، والقوام ما يمسك النفس، ويحفظ العقل، واعملوا صالح الأعمال127.

      والمقصود: أن من أساليب القرآن الكريم في الحث على العمل، الأمر به، بلفظ: «اعملوا» وأمر بالسعي، وهو ضربٌ من العمل، فقال: (ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ) [الجمعة: ٩].

      قال الشافعي رحمه الله: السعي في هذا الموضع هو العمل.

      وتلا قوله تعالى: (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) [الليل: ٤]، ويكون المعنى على هذا: فاعملوا على المضي إلى ذكر الله من التفرغ له، والاشتغال بالطهارة والغسل، والتوجه إليه بالقصد والنية128.

      وأمر بالمشي، وهو عمل أيضًا، فقال: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ) [الملك: ١٥].

      أي: تمتعوا بهذه النعم، ثم إلى ربكم مرجعكم يوم القيامة، ففي الآية الكريمة حثٌ على العمل والكسب في التجارة والزراعة والصناعة، وجميع أنواع العمل.

      فقوله تعالى: () أمر، لكن هل يقتضي الوجوب؟

      في الحقيقة إن الأمر في هذا الموطن يقتضي الإباحة، فلا يجب عليك أن تمشي في المناكب -إن كان عندك سعة- فالأمر أمر إباحة، كما قال تعالى: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) [الجمعة: ١٠].

      هل يجب عليك أن تنتشر في الأرض إذا قضيت الصلاة، أو يجوز لك أن تمكث في المسجد؟

      فقوله: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) فيه إباحة الانتشار، وليس وجوب الانتشار، لكن على كلٍ فقوله سبحانه: (ﭪ ﭫ ﭬ) حث على البحث عن الأرزاق في الأرض، ونبي الله داود كان يأكل من عمل يده، وكان يعمل سابغات، وغيره من الأنبياء كذلك، فهذا سلوكهم -عليهم الصلاة والسلام- يأكلون من عمل أيديهم، فكل الأنبياء كانوا يعملون ويجتهدون -عليهم الصلاة والسلام-، وكذلك السلف الصالح، كانوا متعففين لا يمدون أيديهم للناس.

      بل يذهبون إلى العمل، وهكذا كان الصحابة، فالذين يظنون أن ديننا مبني على مد اليد، وعلى التكاسل وعلى البلادة ظنهم خاطئ، فاليد العليا خير من اليد السفلى، واليد العليا يد المعطي واليد السفلى يد الآخذ، فالعمل ليس بعيب أبدًا، امتهن أي مهنة، حتى لو يأخذ أحدكم أحبله فيحتطب، خير له من أن يأتي هذا فيسأله، ويأتي هذا فيسأله.

      وأمر بالسير وهو عمل، فقال: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [الأنعام: ١١] فهذه الأوامر كلها: «اعملوا، اسعوا، امشوا، سيروا» تحث على العمل، وتأمر به، فالإسلام دين العمل والحركة والإنتاج، وليس دين خمول وكسل وقعود، اعملوا فالدنيا دار عمل، عمل يوصل إلى رضوان الله، وإعمار الأرض، ونفع الخلق.

      اعملوا عملًا يوصلكم إلى الآخرة عملًا صالحًا متقبلًا، على وفق مراد الله تعالى؛ ولهذا قال: (ﯡ ﯢ ﯣ) سيراه ويطلع عليه، وهذه الرؤية ليست مجرد نظر، لا قيمة له، وإنما بعدها حساب وجزاء على هذه الأعمال، فاعملوا شكرًا لا كفرًا، اعملوا اعمارًا لا دمارًا، بناءً لا خرابًا، إصلاحًا لا إفسادًا، خيرًا لا شرًا.

      ومن أوامر القرآن التي تحث على العمل والسعي، قوله تعالى: (ﰕ ﰖ ﰗ) [الكهف: ١١٠].

      فالعمل محمود، شرط أن يكون صالحًا صوابًا، ولا يذم إلا إذا كان خلاف ذلك، فلا ينفع العمل صاحبه إلا بهذا، وإلا فقد ذم الله قومًا عملوا، لكن ما نفعهم عملهم؛ لأنه لم يكن صوابًا، فقال: (ﭭ ﭮ ﭯ) [الغاشية: ٣].

      عملت عملًا كثيرًا، فنصبت وتعبت، لكنها تصلى نارًا حامية.

      ٢. مدح أجر أهل العمل الصالح.

      ومن أساليب الحث على العمل الصالح مدح أجر العاملين، قال تعالى: (ﯸ ﯹ ﯺ) [الزمر: ٧٤].

      فقوله: (ﯸ ﯹ ﯺ) أي: فنعم ثواب المطيعين لله، العاملين له في الدنيا، الجنة لمن أعطاه الله إياها في الآخرة129.

      والمراد من العمل الإيمان والتقوى في الدنيا، بأداء الفرائض، واجتناب النواهي.

      وفي هذه العبارة: (ﯸ ﯹ ﯺ) حث وأي حث على العمل الصالح؛ لصدورها من الله، قال مقاتل: هذا ليس من كلام أهل الجنة، بل الله تعالى لما حكى ما جرى بين الملائكة وبين المتقين من صفة ثواب أهل الجنة، قال بعده: (ﯸ ﯹ ﯺ)130.

      ٣. ضمان أجر العمل الصالح.

      ومن أساليب القرآن الكريم في الحث على العمل أنه أخبر: إن الله تعالى لا يضيع عمل عاملٍ، وأن كل عامل يجد ما عمله من خير محضرًا، لا ينقص منه شيء، ولو كان قليلًا، قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) [آل عمران: ١٩٥].

      ومن فوائد الآية أن من يعمل شيئًا من الطاعات فرضًا أو نفلًا، وهو موحد مسلم، مصدق بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلا جحود ولا كفران لعمله، ولا يضيع جزاؤه، فالله حافظ لعمله، كما قال تعالى: (ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ) أي: كل ذلك محفوظ ليجازى به، وفي هذا ترغيب الناس بطاعة الله تعالى131.

      ونظير هذا قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ) [آل عمران: ٣٠].

      قيل: معنى: محضرًا على هذا موفرًا غير مبخوس، وقيل: ترى ما عملت مكتوبًا في الصحف، محضرًا إليها، تبشيرًا لها، ليكون الثواب بعد مشاهدة العمل132. وهذا كما قال: (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [التكوير: ١٤].

      وكقوله: (ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [الكهف: ٤٩].

      فيكون في قوله تعالى: () يحتمل أن يكون المراد أن تلك الصحائف تكون محضرة يوم القيامة، ويحتمل أن يكون المعنى: أن جزاء العمل يكون محضرًا، وعلى كلا الوجهين فالترغيب والترهيب حاصلان133.

      ومما يدل على ذلك قول الله تعالى: (ﮤ ﮥ ﮦ) [محمد: ٣٥].

      يقول: ولن يظلمكم أجور أعمالكم، فينقصكم ثوابها، من قولهم: وترت الرجل إذا قتلت له قتيلًا، فأخذت له مالًا غصبًا134.

      ومن فوائد الآية: أن الله لا ينقص العباد من أعمالهم شيئًا، بل سيوفيهم أجورهم، ويزيدهم من فضله، خصوصًا عبادة الجهاد، فإن النفقة تضاعف فيه إلى سبع مائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، فإذا عرف الإنسان أن الله تعالى لا يضيع عمله وجهاده، أوجب له ذلك النشاط، وبذل الجهد فيما يترتب عليه الأجر والثواب، فكيف إذا اجتمعت هذه الأمور الثلاثة، فإن ذلك يوجب النشاط التام، فهذا من ترغيب الله لعباده، وتنشيطهم، وتقوية أنفسهم على ما فيه صلاحهم وفلاحهم135.

      وقال تعالى: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ) [طه: ١١٢].

      فقوله: ( ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ) أي: لا يخاف ابن آدم يوم القيامة أن يظلم، فيزاد عليه في سيئاته، ولا يظلم فيهضم في حسناته136.

      ومن ذلك قوله تعالى: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [هود: ١١١].

      فقوله: () فيه توكيد للوفاء، وهو القسم فكأنه تأكد الكلام باللامين، وبالقسم، وبنون التوكيد الثقيلة، وأكد أيضا بالتعبير بـ() أي: الذي خلقك وخلقهم، وقام على هذا الوجود، وإذا كان هذا الخالق الحي القيوم هو الذي يعد بالتوفية فإنها واقعة لا محالة.

      وقوله: () أي: جزاء أعمالهم، ولكنه سبحانه حذف الجزاء، وأضاف الجزاء إلى الأعمال للإشارة إلى أن الجزاء وفاق العمل، فكأنهما شيء واحد؛ إذ يكون عادلًا تمام العدل، يوم تجد كل نفس عملها محضرًا، وإن العدل الحقيقي يقتضي المساواة بين العمل والجزاء، ويقتضي العلم، وقد أشار إلى العدل بالمساواة دين الجزاء والعمل حتى كأنه هو137.

      ومما يدل على ذلك أيضًا قوله تعالى: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ) [الزلزلة: ٧]فإن كان مثقال الذرة من الخير لا يضيع عند الله فهذا مما يدعو إلى العمل، والازدياد منه، والحرص عليه؛ لأن ثمرته محفوظة، وجزاءه مضمومنًا عند الله تعالى.

      والمقصود من هذا كله: أن في الآيات السابقة كلها حث على العمل؛ إذ قد ضمن الله فيها للعباد بحفظ أعمالهم، وتوفيتهم إياها كاملة غير منقوصة ولا مبخوسة، فليزدادوا إذن من الخيرات والطاعات والأعمال الصالحة.

      ٤. قرن العمل بالإيمان بالله.

      ومن أساليب القرآن الكريم في الحث على العمل الصالح أنه قرنه بالإيمان، الذي هو أعظم الأشياء، كما في قول الله تعالى: (ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) [البقرة: ٨٢]وهذا الاقتران دلالة على أهمية العمل الصالح، وحثٌ عليه.

      ٥. الإخبار بأن العمل الصالح سبب في دخول الجنة.

      ومن أساليب القرآن الكريم في الحث العمل أنه جعله سببًا في دخول الجنة، قال تعالى: (ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) [الزخرف: ٧٢].

      وقال: (ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) [النحل: ٣٢].

      ولا تعارض بين هذه الآية والحديث الذي بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يدخل أحد الجنة إلا بفضل الله لا بعمله138؛ لأن الباء في الحديث عوضية، وفي الآية سببية.

      فإن قيل: يلزم على هذا أن يقطع بحصول الجنة لجميع العصاة، وأن يقطع بأنه لا عقاب عليهم؟

      أجيب: بأننا نقطع بحصول الجنة ولا نقطع بنفي العقاب عنهم؛ لأنهم إذا عذبوا مدة، ثم نقلوا إلى الجنة بقوا فيها أبد الآباد، فكانت معدة لهم139.

      والمقصود: أن مما يرغب في العمل أن الله تعالى جعله سببًا في دخول جنته، التي يطمع فيها الطامعون، ويرغب فيها الراغبون.

      ٦. الإخبار بأن العمل الصالح يرفعه الله إليه.

      ومن أساليب القرآن في الحث على العمل الإخبار بأن العمل الصالح يرفع إلى الله، قال الله تعالى: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ) [فاطر: ١٠].

      فقوله: (ﯪ ﯫ ﯬ) فيه ثلاثة أقوال:

      أحدها: ما روي عن الحسن وسعيد بن جبير وعكرمة والضحاك وغيرهم أنهم قالوا: والعمل الصالح يرفعه، أي: العمل الصالح يرفع الكلم الطيب.

      والقول الثاني: قول قتادة قال: والعمل الصالح يرفعه، أي: يرفعه الله.

      والقول الثالث: والعمل الصالح يرفعه الكلم الطيب140. عكس الأول.

      ولعل مما يؤيد القول الثاني قوله تعالى: (ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ) [الأعراف: ٤٠].

      يقول تعالى ذكره: إن الذين كذبوا بحججنا وأدلتنا فلم يصدقوا بها، ولم يتبعوا رسلنا (ﮐ ﮑ) أي: وتكبروا عن التصديق بها، وأنفوا من اتباعها، والانقياد لها تكبرًا، لا تفتح لهم لأرواحهم إذا خرجت من أجسادهم أبواب السماء، ولا يصعد لهم في حياتهم إلى الله قول ولا عمل؛ لأن أعمالهم خبيثة، وإنما يرفع الكلم الطيب والعمل الصالح، وقال بعضهم: معناه: لا تفتح لأرواح هؤلاء الكفار أبواب السماء141.

      أو يكون في قوله: ( ﯫ ﯬ) إشارة إلى بقائه وارتقائه (ﯵ ﯶ) أي: العمل السيئ، وهو يبور، إشارة إلى فنائه142.

      وقال بعض أهل المعاني: معنى: () أي: يجعله رفيعًا، ذا وزن وقيمة، كما يقال: طود رفيع ومرتفع، وقال قوم: هذه الكناية راجعة إلى العمل، يعني: أن الكلم الطيب يرفع العمل، فلا يرفع ولا يقبل عمل إلا أن يكون صادرًا عن التوحيد، وعائد الذكر يرفع وينصب، وهذا التأويل اختيار نحاة الكوفة، وقيل: الهاء كناية عن العمل، والرفع من صفة الله سبحانه، أي يرفعه الله143.

      والمقصود: أن مما يرغب بالعمل ويحث عليه أن الله تعالى أخبر أنه يرفع العمل الصالح، وإن اختلف العلماء في حكم هذه الكناية، ومعنى الآية، إلا أن فيها رفعة لهذا العمل الصالح.

      ٧. الإخبار بأن العمل الصالح يقرب من الله زلفى.

      ومن وسائل الحث على العمل أن الله تعالى أخبر أن العمل الصالح يقرب منه زلفى ويزداد به العبد من الله حسنًا.

      قال تعالى: ( ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [سبأ: ٣٧].

      يعني: قولكم: نحن أكثر أموالًا فنحن أحسن عند الله حالًا ليس استدلالًا صحيحًا، فإن المال لا يقرب إلى الله، ولا اعتبار بالتعزز به، وإنما المفيد العمل الصالح بعد الإيمان، والذي يدل عليه هو أن المال والولد يشغل عن الله، فيبعد عنه فكيف يقرب منه، والعمل الصالح إقبال على الله، واشتغال بالله، ومن توجه إلى الله وصل، ومن طلب من الله شيئًا حصل144.

      والمقصود: أن في الآية تعريض بالعمل الصالح، فالمال لا يخلد صاحبه، لكن العمل الصالح هو الذي يخلد الإنسان، فينبغي للعاقل أن يكب عليه، ويسعى للآخرة حيث الخلود الحقيقي، فالمخلد الحقيقي ليس هو المال، وإنما هو العمل الصالح الذي يخلد صاحبه في الجنة.

      ٨. الإخبار بأن الإنسان خلق من أجل العمل الصالح.

      ومن وسائل الحث على العمل أن الله تعالى أخبر أن الإنسان خلق من أجل العمل والعبادة.

      قال تعالى: (ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [الملك: ٢].

      فقوله: (ﭟ ﭠ ﭡ ) أي: خلق الموت والحياة وخلق السموات والأرض لنفع عباده الذين خلقهم ليعبدوه، ولا يشركوا به شيئًا، ولم يخلق ذلك عبثًا، وقوله: () أي: ليختبركم أيكم أحسن عملًا، ولم يقل: أكثر عملًا، بل أحسن عملًا، ولا يكون العمل حسنًا حتى يكون خالصًا لله عز وجل، على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمتى فقد العمل واحدًا من هذين الشرطين حبط وبطل145.

      ٩.الإخبار بمضاعفة العمل الصالح إلى أضعاف كثيرة.

      ومن وسائل الحث على العمل أن الله تعالى أخبر أن الحسنة بعشر أمثالها إلى أضعاف كثيرة.

      قال تعالى: (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [الأنعام: ١٦٠].

      ففي هذه الآية ترغيب في العمل الصالح، وترغيبٌ في الطاعة، حيث جعل الحسنة بعشر أمثالها.

      ١٠. ذم أهل العمل السيء.

      ومن وسائل الحث على العمل الصالح ذم أهل العمل السيء.

      قال الله تعالى: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ) [العنكبوت: ٤].

      فجملة: (ﯤ ﯥ) ذم لحسبانهم ذلك، وإبطال له، فهي مقررة لمعنى الإنكار في جملة (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) فلها حكم التوكيد، فلذلك فصلت146.

      وتوعد صاحب العمل السيء بالعذاب الشديد، فقال: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) [فاطر: ١٠].

      والمقصود: أن في ذم العمل السيء وأهله دعوة إلى العمل الصالح، وترغيب فيه، فالآيات التي جاءت في ذلك ترغب العبد في العمل الصالح وإتقانه، والابتعاد عن العمل السيء وأهله.

      أثر العمل في الدنيا

      للعمل آثار، سواء على مستوى الفرد، أو على مستوى المجتمع، وسيتم الحديث عنها في النقاط الآتية:

      أولًا: أثر العمل الصالح:

      للعمل الصالح فوائد جليلة، وآثار عظيمة وثمار كثيرة، فمن آثاره على الفرد:

      ١. يرفع العبد ويقربه إلى الله.

      من ثمار وآثار العمل الصالح أنه يرفع العبد ويقربه إلى الله زلفى، قال تعالى: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ)[سبأ: ٣٧].

      يعني: إن قولكم نحن أكثر أموالًا وأولادًا فنحن أحسن حالًا عند الله استدلالًا صحيحًا، فإن المال لا يقرب إلى الله، وإنما المفيد العمل الصالح بعد الإيمان147.

      ومما يدل على ذلك قولهم بعد ذلك: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [فاطر: ٣٧].

      بإضمار القول، وتقييد العمل الصالح بالوصف المذكور للتحسر على ما عملوه من غير الصالح، والاعتراف به، والإشعار بأن استخراجهم لتلافيه، وأنهم كانوا يحسبونه صالحًا، والآن تبين خلافه148.

      وقد سبق أن في قوله: (ﯪ ﯫ ﯬ) أقوال، منها: قول قتادة، قال: (ﯪ ﯫ ﯬ) أي: يرفعه الله149.

      وقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [الكهف: ٤٦].

      قررت الآيات السابقة أن العمل الصالح هو الباقي النافع، وأن المال والبنين ليسوا إلا زينة لمدة قصيرة ثم تزول، فجاءت هذه الآيات منذرة بالقيامة وهولها، وكيف يجاء بهم مجردين مما كانوا يتفاخرون به، وكيف يعرضون على النار، ويواجهون بكتب أعمالهم التي أحصت كل شيء عليهم150.

      ففي الآية تعريض بالعمل الصالح، بالإخبار بأن المال لا يخلد صاحبه وإنما العمل الصالح هو الذي يخلد الإنسان، فينبغي للعاقل أن يكثر من العمل الصالح، ويسعى للآخرة، حيث الخلود الحقيقي، والسعادة الحقيقية، والنعيم المقيم.

      ٢. مضاعفة العمل.

      ومن ثمار وآثار العمل الصالح على العبد أنه سبب في مضاعفة الأجر، قال الله تعالى: (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ) [الشورى: ٢٣].

      ففي قوله: (ﭥ ﭦ) أي: من يعمل خيرًا نزد له، والاقتراف: العمل151.

      (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) أي: نضاعف عمله ذلك الحسن، فنجعل له مكان الواحد عشرًا إلى ما شئنا من الجزاء والثواب152.

      ٣. تبديل سيئاته حسنات.

      ومن ثمار وآثار العمل الصالح على العبد أنه سبب في تبديل السيئات إلى حسنات، قال الله تعالى: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) [الفرقان: ٧٠].

      قال الواحدي: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ) قال: التبديل في الدنيا طاعة الله بعد عصيانه، وذكر الله بعد نسيانه، والخير يعمله بعد الشر.

      وقال الحسن: أبدلهم بالعمل السيئ العمل الصالح، وبالشرك إخلاصًا وإسلامًا، وبالفجور إحصانًا.

      وقال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد والسدي: (ﭺ ﭻ ﭼ) يبدلهم الله بقبائح أعمالهم في الشرك محاسن الأعمال في الإسلام وبالشرك إيمانًا، وبقتل النفس التي حرم الله قتل المشركين، وبالزنا عفة وإحصانًا.

      وذهب قوم إلى أن الله تعالى يمحو السيئة عن العبد، ويثبت له بدلها الحسنة، وهو قول سعيد بن المسيب ومكحول وعمرو بن ميمون153.

      وهو معنى قوله: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) [هود: ١١٤].

      ٤. الحصول على الأجر الكبير.

      ومن ثمار العمل الصالح على العبد الحصول على الثواب العظيم.

      قال الله تعالى: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [الإسراء: ٩].

      فذكر الله سبحانه وتعالى ها هنا حالتين:

      أولاهما: الإيمان.

      وثانيتهما: العمل الصالح.

      وقرن الإيمان بالعمل الصالح لتلازمهما، وإن الإيمان الكامل والإذعان الصادق يلزمهما العمل الصالح لا محالة، وقال تعالى: (ﭩ ﭪ) بالجمع لتنوعها وكثرتها، فهي وإن ضبطها ضابط الصلاح مفترقة متنوعة، فالإصلاح بين الناس، والمعاملة الحسنة، والوفاء بالعهد، وغير ذلك من مكارم الأخلاق، والبعد عن ضلالها.

      وذكر سبحانه أنه يبشر المؤمنين الصالحين ببشارتين:

      البشارة الأولى: أجر كبير، ونكر الأجر لعظمه، ولتذهب النفس في تقديره مذاهب شتى، مع ملاحظة أنه أجر وثواب، ثم وصفه سبحانه وتعالى بالكبر الذي لا حد له.

      البشارة الثانية: وهي قوله تعالى: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ) [الإسراء: ١٠].

      وكيف تكون هذه بشارة لأهل الإيمان؟

      الجواب عن ذلك: أن البشارة بالنجاة منها، وأنهم لم يتردوا تردية الذين لا يؤمنون بالآخرة، بل وقاهم الله تعالى، وبذلك يتبين أن ذكر عذاب الذين لا يؤمنون جاء تبعًا لإيمان الذين آمنوا وعملوا الصالحات154.

      فهذه هي قاعدة الإسلام الأصيلة في العمل والجزاء، فعلى الإيمان والعمل الصالح يقيم بناءه، فلا إيمان بلا عمل، ولا عمل بلا إيمان، الأول مبتور، لم يبلغ تمامه، والثاني مقطوع، لا ركيزة له، وبهما معًا تسير الحياة على التي هي أقوم، وبهما معًا تتحقق الهداية بهذا القرآن.

      فأما الذين لا يهتدون بهدي القرآن، فهم متروكون لهوى الإنسان، الإنسان العجول الجاهل بما ينفعه وما يضره، المندفع الذي لا يضبط انفعالاته، ولو كان من ورائها الشر له155.

      ٥. الحياة الطيبة.

      ومن آثار العمل الصالح على العبد أنه يحيى به حياة طيبة، قال الله تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) [النحل: ٩٧].

      أي: من عمل عملًا صالحًا وهو مؤمن في فاقة أو ميسرة، فحياته طيبة، ومن أعرض عن ذكر الله فلم يؤمن، ولم يعمل صالحًا، عيشته ضنكة، لا خير فيها.

      وقيل: الحياة الطيبة السعادة.

      وقيل: بل معنى ذلك: الحياة في الجنة156.

      وكل هذا يدخل في معنى الآية.

      قال الزمخشري: وذلك أن المؤمن مع العمل الصالح موسرًا كان أو معسرًا، يعيش عيشًا طيبًا، إن كان موسرًا فلا مقال فيه، وإن كان معسرًا فمعه ما يطيب عيشه، وهو القناعة والرضا بقسمة الله، وأما الفاجر فأمره على العكس: إن كان معسرًا فلا إشكال في أمره، وإن كان موسرًا فالحرص لا يدعه أن يتهنأ بعيشه157.

      ثم هل هذه الحياة الطيبة تحصل في الدنيا أو في القبر أو في الآخرة؟

      والجواب فيه أقوال:

      الأول: الأقرب أنها تحصل في الدنيا، بدليل أنه تعالى أعقبه بقوله: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [النحل: ٩٧].

      ولا شبهة في أن المراد منه ما يكون في الآخرة.

      ولقائل أن يقول: لا يبعد أن يكون المراد من الحياة الطيبة ما يحصل في الآخرة، ثم إنه مع ذلك وعدهم الله على أنه إنما يجزيهم على ما هو أحسن أعمالهم، فهذا لا امتناع فيه158.

      فالعمل الصالح مع الإيمان جزاؤه حياة طيبة في هذه الأرض، لا يهم أن تكون ناعمة رغدة ثرية بالمال، فقد تكون به، وقد لا يكون معها، وفي الحياة أشياء كثيرة غير المال الكثير تطيب بها الحياة في حدود الكفاية، منها: الاتصال بالله، والثقة به، والاطمئنان إلى رعايته وستره ورضاه، ومنها: الصحة والهدوء والرضا والبركة، وسكن البيوت ومودات القلوب، ومنها: الفرح بالعمل الصالح، وآثاره في الضمير، وآثاره في الحياة، وليس المال إلا عنصرًا واحدًا يكفي منه القليل، حين يتصل القلب بما هو أعظم وأزكى وأبقى عند الله.

      وأن الحياة الطيبة في الدنيا لا تنقص من الأجر الحسن في الآخرة، وأن هذا الأجر يكون على أحسن ما عمل المؤمنون العاملون في الدنيا، ويتضمن هذا تجاوز الله لهم عن السيئات، فما أكرمه من جزاء!159.

      والمقصود: أن في هذه الآية الكريمة حضًا على العمل الصالح لجميع الناس ذكورًا وإناثًا، وأن العمل الصالح مع الإيمان جزاؤه حياة طيبة في هذه الدنيا، يحيا فيها مطمئنًا، في رعاية الله، وعند الله في الآخرة له الجزاء الأوفى، والنصيب العظيم من الأجر والثواب، وقد كرر الله قوله: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) للترغيب في العمل الصالح.

      فيجمع الله له حظين من الجزاء، حظًا في الدنيا بالحياة الطيبة الهانئة، وحظًا في الآخرة.

      ويبدو أن تفسير الحياة الطيبة هنا بأنها الحياة الدنيوية أرجح؛ لأن الحياة الأخروية جاء التصريح بها بعد ذلك في قوله تعالى: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) فلو فسرنا الحياة الطيبة بالحياة الأخروية لكان في الآية الكريمة ما يشبه التكرار، ولكننا لو فسرناها بالحياة الدنيوية لكانت الآية الكريمة مبينة لجزاء المؤمنين في الدارين160.

      فيكون الجزاء لمن آمن وعمل صالحًا في الدنيا هو الحياة الطيبة، وهي التي تشمل: وجوه الراحة المختلفة، من رزق حلال طاهر، وسعادة غامرة، وطمأنينة نفس، وهدوء بال، ورضا وقناعة.

      قال ابن عطية: ظاهر هذا الوعد بالجزاء الحسن أنه في الدنيا، وإن طيب الحياة اللازم للصالحين، إنما هو بنشاط نفوسهم، ونبلها، وقوة رجائهم، والرجاء للنفس أمر ملذ، فبهذا تطيب حياتهم، وبأنهم احتقروا الدنيا، فزالت همومها عنهم، فإن انضاف إلى هذا مال حلال، وصحة، أو قناعة، فذلك كمال، فيكون قوله تعالى: (ﮒ ﮓ ﮔ) معناه: لنعطينه ما تطيب به حياته: وهو القناعة والرضا161.

      ٦. حفظ الذرية بعد الموت.

      إن الوعد على العمل الصالح ليس مختصًا بالآخرة، بل يدخل فيه أمور الدنيا حتى في الذرية بعد موت العامل.

      قال تعالى: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [الكهف: ٨٢].

      قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: (ﯦ ﯧ ﯨ) قال: حفظا بصلاح أبيهما، وما ذكر منهما صلاح162.

      وعن محمد بن المنكدر قال: إن الله عز وجل ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده، وعشيرته التي هو فيها، والدويرات حوله، فما يزالون في حفظ الله وستره.

      وعن سعيد بن المسيب أنه كان إذا رأى ابنه قال: أي بني لأزيدن صلاتي من أجلك، رجاء أن أحفظ فيك، ويتلو هذه الآية163.

      والمقصود: أن من آثار وثمار العمل الصالح حفظ ذرية الرجل بعد موته بعمله الصالح، كما دلت الآية السابقة على ذلك.

      ومن آثار العمل الصالح على المجتمع:

      ١. حصول الأمن والتمكين والاستخلاف.

      من آثار العمل الصالح على المجتمع أنه طريق إلى الأمن والاستخلاف والتمكين.

      قال الله تعالى: (ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ) [النور: ٥٥].

      قال ابن كثير: «هذا وعد من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض، أي: أئمة الناس والولاة عليهم، وبهم تصلح البلاد، وتخضع لهم العباد، وقد فعل تبارك وتعالى ذلك، فإنه لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فتح عليه مكة وخيبر والبحرين، وسائر جزيرة العرب، وأرض اليمن بكمالها، وأخذ الجزية من مجوس هجر، ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم، وصاحب مصر والإسكندرية -وهو المقوقس- وملوك عمان، والنجاشي ملك الحبشة الذي تملك بعد أصحمة -رحمه الله وأكرمه-164.

      وفي تصدير الآية الكريمة بقوله تعالى: () بشارة عظيمة للمؤمنين بتحقيق وعده تعالى؛ إذ وعد الله لا يتخلف، كما قال تعالى: (ﭑ ﭒﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ) [الروم: ٦].

      والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، و() بيانية، أي: وعد الله تعالى بفضله وإحسانه الذين صدقوا في إيمانهم من عباده، والذين جمعوا مع الإيمان الصادق والعمل الصالح، وعدهم ليستخلفهم في الأرض، أي: ليجعلنهم فيها خلفاء، يتصرفون فيها تصرف أصحاب العزة والسلطان والغلبة، بدلًا من أعدائهم الكفار.

      فهذا هو الوعد الأول للمؤمنين: أن يجعلهم سبحانه خلفاءه في الأرض، كما جعل عباده الصالحين من قبلهم خلفاءه، وأورثهم أرض الكفار وديارهم.

      وأما الوعد الثاني فيتجلى في قوله تعالى: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ) والتمكين: التثبيت والتوطيد والتمليك، يقال: تمكن فلان من الشيء إذا حازه، وقدر عليه.

      أي: وعد الله المؤمنين بأن يجعلهم خلفاءه في أرضه، وبأن يجعل دينهم وهو دين الإسلام الذي ارتضاه لهم ثابتًا في القلوب، راسخًا في النفوس، باسطًا سلطانه على أعدائه، له الكلمة العليا في هذه الحياة، ولمخالفيه الكلمة السفلى.

      وأما الوعد الثالث فهو قوله سبحانه: (ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ).

      أي: وعدهم الله تعالى بالاستخلاف في الأرض، وبتمكين دينهم، وبأن يجعل لهم بدلًا من الخوف الذي كانوا يعيشون فيه أمنًا واطمئنانًا وراحة في البال، وهدوءا في الحال165.

      والمقصود: أن هذه ثلاثة أشياء، وعد الله عز وجل بها المؤمنين: الاستخلاف في الأرض، فيعطيهم الله عز وجل الحكم فيحكمون بشرعه سبحانه وتعالى، فقد آمنوا، وعملوا الصالحات، وتربوا على العقيدة الصحيحة، وعلى العمل الصالح، فاستحقوا أن يسودوا العالم، وأن يحكموا غيرهم، فوعدهم بالاستخلاف، ووعدهم بأن يمكن لهم هذا الدين العظيم الذي ارتضاه لهم.

      فإذا كان الله عز وجل وعد المؤمنين فالوعد عام، فإذا نص على هؤلاء فالوعد عاجل في التنفيذ: أنه يا من أنتم آمنتم بالنبي صلى الله عليه وسلم، وابتليتم وتعبتم، وأوذيتم في سبيل الله عز وجل سنمكن لكم.

      ٢. طريق إلى النعم والخيرات.

      ومن آثار العمل الصالح على المجتمع أنه يثمر حصول النعم والخيرات.

      قال تعالى: (ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ) [الحج: ٥٠].

      وقال: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) [سبأ: ٤].

      فذكر الله تعالى منهم أمرين الإيمان والعمل الصالح، وذكر لهم أمرين المغفرة، والرزق الكريم، فالمغفرة جزاء الإيمان، فكل مؤمن مغفور له؛ لقوله تعالى: (ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) [النساء: ١١٦].

      والرزق الكريم مرتب على العمل الصالح، وهذا مناسب، فإن من عمل لسيد كريم عملًا فعند فراغه من العمل لا بد وأن ينعم عليه، وتقدم وصف الرزق بالكريم أنه بمعنى ذا كرم، أو مكرم، أو لأنه من غير طلب بخلاف رزق الدنيا، فإنه إن لم يطلب ويتسبب إليه لا يأتي.

      فإن قيل: ما الحكمة في تمييزه الرزق بوصفه بأنه كريمٌ، ولم يضف المغفرة؟

      فالجواب: لأن المغفرة واحدة، وهي للمؤمنين، وأما الرزق فمنه شجرة الزقوم والحميم، ومن الفواكه والشراب الطهور، فميز الرزق لحصول الانقسام فيه، ولم يميز المغفرة لعدم الانقسام فيها166.

      والمقصود: أن من ثمار العمل الصالح المغفرة والرزق والسعة والرخاء، التي إن حصلت في أي مجتمع بجانب الإيمان والعمل الصالح كان مجتمعًا مثاليًا سعيدًا.

      ٣. الحصول على الخيرية.

      ومن آثار العمل الصالح على المجتمع أنه طريق إلى خيرية المجتمع، قال الله تعالى: (ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ) [البينة: ٧].

      (ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) أي: جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح () المنعوتون بهذا هم خير البرية167. أي: أفضل الخليقة؛ لأنهم بمتابعة الحق عند معرفته بالدليل القائم عليه قد حققوا لأنفسهم معنى الإنسانية التي شرفهم الله بها، وبالعمل الصالح قد حفظوا نظام الفضيلة الذي جعله الله قوام الوجود الإنساني، وهدوا غيرهم بحسن الأسوة إلى مثل ما هدوا إليه من الخير والسعادة، فمن يكون أفضل منهم؟168.

      قال الشافعي رحمه الله: والخير كلمة يعرف ما أريد منها بالمخاطبة بها، قال الله عز وجل: (ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) الآية، فعقلنا أنهم: خير البرية بالإيمان وعمل الصالحات، لا بالمال169.

      والمقصود: أن الذين يجمعون بين الإيمان والعمل الصالح استحقوا أربعة أنواع من الجزاء:

      وصفهم بأنهم خير البرية، ودخول جنات عدن تجري من تحتها الأنهار، والخلود فيها أبدًا، ورضوان الله عليهم أي: رضي أعمالهم، ورضاهم عن الله، أي: رضاهم بثواب الله تعالى.

      وأن المجتمع الذي يحرص أبناؤه على الأعمال الصالحة لحري أن يكون مجتمع خير وصلاح، ومجتمع نور وهداية، بعكس المجتمع الغارق أهله بالأعمال السيئة، فهو مجتمع بعيد عن الخيرية، خالٍ من الفضيلة.

      ثانيًا: أثر العمل السيء:

      للعمل السيء آثار سيئة، وعواقب وخيمة، على الفرد وعلى المجتمع.

      ومن آثاره على الفرد:

      ١. أنه يسوء صاحبه يوم القيامة.

      من آثار العمل السيئ أنه يسوء صاحبه، قال الله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ) [آل عمران: ٣٠] أي: لكراهتها إياه.

      فيود أهل الطاعات أن لو استكثروا منها، ويود أهل المخالفات أن لو كبحوا لجامهم عن الركض فى ميادينهم170.

      قال السمعاني: أي: غاية مديدة. قال السدي: ما بين المشرق والمغرب. وفي الأخبار: أن الأعمال يؤتى بها يوم القيامة على صور، فما كان منها حسنًا، فعلى الصورة الحسنة، وما كان قبيحًا فعلى الصورة القبيحة171.

      ٢. أنه سبب للعقاب والعذاب.

      من آثار العمل السيئ أنه سبب للعذاب والعقاب، قال الله تعالى: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ) [النساء: ١٢٣].

      فقوله: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ) أكثر المفسرين: على أن هذا في المسلمين وأهل الكتاب، وذلك أن المسلمين قالوا: نحن أهدى منكم. وقال أهل الكتاب: نحن أهدى منكم. فأنزل الله هذه الآية، يقول: ليس ثواب الله بالأمنية (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) قال الحسن: هذا في الكفار خاصة؛ لأنهم يجازون بالعقاب على الصغير والكبير، والمؤمن يجازى بأحسن عمله، ويتجاوز عن سيئاته، ثم قرأ: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) [الزمر: ٣٥]الآية.

      وقيل: هذا عام في كل من عمل سوءًا من مسلم وكافر، ولكن المؤمن يجزى به في الدنيا172.

      وأخبر الله تعالى أن العمل السيئ يحيط بصاحبه، قال تعالى: (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ) [فاطر: ٤٣]أي: لا تنزل عاقبة السوء إلا بمن أساء، قال الكلبي: يحيق بمعنى: يحيط، والحوق: الإحاطة، يقال: حاق به كذا إذا أحاط به، وهذا هو الظاهر من معنى «يحيق» في لغة العرب، ولكن قطرب فسره هنا بـ«ينزل»173.

      فالعمل السيء سبب في نزول العقاب وحلول العذاب قال تعالى: (ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) [الأعراف: ٣٩] أي: بسبب كسبكم، وهو العمل السيء.

      كما قال تعالى: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) [فصلت: ٢٧].

      ٣. أنه سبب الذل والهوان.

      ومن آثار العمل السيئ أنه سبب الذل، قال تعالى: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [يونس: ٢٧].

      فقوله: (ﭩ ﭪ ﭫ) قال الفراء: فلهم جزاء السيئة بمثلها، والمعنى: أنهم يجزون بمثل ما عملوا (ﭬ ﭭ) يصيبهم الذل والخزي والهوان (ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ) ما لهم من عذاب الله من مانع يمنعهم174.

      (ﭶ ﭷ) أي: كأنما ألبست وجوههم () أي: أجزاءً (ﭺ ﭻ ﭼ) لشدة السواد والظلمة التي على وجوههم والعياذ بالله بسبب الشرك والمعاصي، فكأنهم لبسوا ثوبًا أسودًا غطوا وجوههم به، والقصد الإخبار بأبدع تشبيه عن سواد وجوههم.

      وقال قبلها في المقابل: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) [يونس: ٢٦].

      والمقصود: أن في الآيات بيانًا لمصير المحسنين والمسيئين في الآخرة، فللأولين الحسنى وزيادة، فلا يغشى وجوههم قتر النار، ولا تتلوث بسخامها، ولا يصيبهم هوان، ويكونون خالدين في الجنات، وللآخرين جزاء سيء من جزاء عملهم، ولهم الذل والهوان، ولن يجدوا لهم من الله عاصمًا، ويشتد سواد وجوههم من القتر والسخام، ويكونون خالدين في النار.

      والآيات جاءت كما هو المتبادر معقبة على سابقاتها، وهي والحالة هذه متصلة بها، واستمرار لها، وقد انطوى فيها تنويه بالمهتدين المحسنين، وتطمين لهم، وإنذار للكفار المسيئين، وتنديد لهم، وإطلاق الكلام فيها يجعلها كسابقاتها عامة التوجيه والتبشير والإنذار لكل الناس في كل ظرف كما هو المتبادر175.

      ثالثًا: أثر العمل المباح:

      كما أن للعمل الصالح والسيئ أثرًا على صاحبه، فإن العمل المباح له أثر على صاحبه كذلك، فالعمل في التجارة والصناعة والزراعة له آثار وثمار تعود على أصحابها، ومن هذه الآثار: الأكل من رزق الله.

      قال تعالى: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ) [الملك: ١٥]وقال: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [الجمعة: ١٠].

      فالأكل من الرزق مسبب عن المشي والسعي وأثر عنه، ولا يخفى أن الأمر بالمشي والأكل للإباحة176، وفي قوله تعالى: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) أمر بالتسبب والكسب.

      قال ابن كثير: في الآية تذكير بنعمته تعالى على خلقه في تسخيره لهم الأرض، وتذليله إياها لهم، بأن جعلها ساكنة لا تميد ولا تضطرب بما جعل فيها من الجبال، وأنبع فيها من العيون، وسلك فيها من السبل، وهيأ فيها من المنافع، ومواضع الزرع والثمار.

      والمعنى: سافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات177.

      أثر العمل في الآخرة

      يوم القيامة هو يوم الجزاء الذي يجد فيه العامل جزاء ما عمله، وما كسبه، ومن آثار العمل في الآخرة:

      ١. إحصاء العمل في كتاب العبد.

      أخبر الله تعالى أنه يحصي عمل العبد في كتاب.

      قال الله تعالى: (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [الكهف: ٤٩].

      وقال: (ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ) [مريم: ٩٤].

      وقال: (ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ) [المجادلة: ٦].

      وقال: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ) [النبأ: ٢٩].

      وقال: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [يس: ١٢].

      والإحصاء والكتب والحساب والعد والحفظ بمعنى متقارب: وهو الضبط178 والعد179.

      وقال في آية أخرى قال: (ﮃ ﮄ ﮅ) [الانفطار: ١١] يعني: يكتبون أعمال العباد.

      فالإحصاء والكتب يتشاركان في معنى الضبط180.

      وهو بمعنى الحساب كما قال في آية أخرى: (ﭽ ﭾ ﭿ) [الأنبياء: ٤٧].

      وفي الآية توعد وإشارة إلى ضبط أعمالهم من الحساب، وهو العد والإحصاء، والمعنى: أنه لا يغيب عنا شيء من أعمالهم، وقيل: هو كناية عن المجازاة، فالإحصاء: هو العد، وكانوا قديمًا يستخدمون الحصى أو النوى في العد، لكن النوى فرع ملكية النخل، فقد لا يتوفر للجميع؛ لذلك كانوا يستخدمون الحصى، ومنه كلمة الإحصاء181.

      قال الرازي قوله: (ﭿ) المراد: أنه يوضع في هذا اليوم كتاب كل إنسان في يده إما في اليمين، أو في الشمال، والمراد الجنس، وهو صحف الأعمال182.

      فهؤلاء لما رأوا أعمالهم قد أحصيت عليهم، وكتبت في صحفهم تعجبوا، فقالوا: (ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) يعني: أنهم يقولون: إذا قرؤوا كتابهم، ورأوا ما قد كتب عليهم فيه من صغائر ذنوبهم وكبائرها، نادوا بالويل حين أيقنوا بعذاب الله، وضجوا مما قد عرفوا من أفعالهم الخبيثة التي قد أحصاها كتابهم، ولم يقدروا أن ينكروا صحتها183.

      فهم (ﮂ ﮃ ﮄ) [الكهف: ٤٩].

      أي: خائفين مما في الكتاب من أعمالهم الخبيثة، وخائفين من ظهور ذلك لأهل الموقف فيفتضحون، وبالجملة يحصل لهم خوف العقاب من الحق، وخوف الفضيحة عند الخلق ويقولون: () ينادون هلكتهم التي هلكوها خاصة من بين الهلكات (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ) وهي عبارة عن الإحصاء بمعنى: لا يترك شيئًا من المعاصي، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، إلا وهي مذكورة في هذا الكتاب، وإدخال تاء التأنيث في الصغيرة والكبيرة على تقدير أن المراد الفعلة الصغيرة والكبيرة () إلا ضبطها وحصرها184.

      وأفاد عطف الكبيرة على الصغيرة التسوية في الإحصاء بينها وبين الصغيرة، فالمراد أنه لا يدع شيئًا إلا أحصاه185.

      وهذا الضبط والإحصاء لا يخص أعمال بنى آدم، بل يتناول جميع الأشياء.

      قال الله تعالى: (ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ) [يس: ١٢].

      أي: وبينا كل شيء وحفظناه، في أصل عظيم يؤتم به، ويتبع ولا يخالف، وهو علمنا الأزلي القديم الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها186.

      وقد بين الله تعالى أن هذا الإحصاء في كتاب، سهل يسير على الله تعالى، فقال تعالت كلماته: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [الحديد: ٢٢].

      أي: سهل لا يحتاج إلى معاناة من الله العلي الكبير، بل إنه سهل عليه سبحانه، وإن الحكم الفاصل يقع منه في ساعات أو لحظات187.

      والمقصود: أن من أثر العمل في الآخرة أن الله يحصيه على العبد، فلا يضيع منه شيء، حتى يندهش العبد من دقة الإحصاء والحفظ، فيقول: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ) والمراد بالاستفهام هنا مجرد التعجب من الكتاب في هذا الإحصاء الدقيق.

      وعن قتادة قوله: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) اشتكى القوم كما تسمعون الإحصاء، ولم يشتك أحد ظلمًا، فإياكم والمحقرات من الذنوب، فإنها تجتمع على صاحبها حتى تهلكه188.

      والمراد بالكتاب جنس الكتاب؛ فيشمل جميع الكتب التي كتبت فيها أعمال المكلفين في دار الدنيا، وأن المجرمين يشفقون مما فيه أي: يخافون منه، وهذا المعنى الذي دلت عليه الآية الكريمة جاء موضحًا في مواضع أخر من كتاب الله تعالى ومنها قوله تعالى: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [يس: ١٢].

      فالمراد بـ(ﯣ ﯤ) ما عملوا من الأعمال قبل الموت، شبهت أعمالهم في الحياة الدنيا بأشياء يقدمونها إلى الدار الآخرة، كما يقدم المسافر ثقله وأحماله.

      وأما الآثار فهي آثار الأعمال، وليست عين الأعمال بقرينة مقابلته بـ(ﯣ ﯤ) مثل ما يتركون من خير، أو يثير بين الناس وفي النفوس، والمقصود بذلك ما عملوه موافقًا للتكاليف الشرعية، أو مخالفًا لها وآثارهم كذلك.

      فالآثار مسببات أسباب عملوا بها، وليس المراد كتابة كل ما عملوه؛ لأن ذلك لا تحصل منه فائدة دينية يترتب عليها الجزاء، فهذا وعد ووعيد كل يأخذ بحظه منه189.

      وهذا بصريح معناه يفيد أيضًا كفاية عن وقوع الجزاء؛ إذ لولا الجزاء على الأعمال لكان الاعتناء بإحصائها عبثًا، وأجري على الملائكة الموكلين بإحصاء أعمالهم أربعة أوصاف، هي: الحفظ، والكرم، والكتابة، والعلم بما يعلمه الناس، فقال: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [الانفطار: ١٠-١٢].

      وابتدئ منها بوصف الحفظ؛ لأنه الغرض الذي سيق لأجله الكلام الذي هو إثبات الجزاء على جميع الأعمال، ثم ذكرت بعده صفات ثلاث بها كمال الحفظ والإحصاء، وفيها تنويه بشأن الملائكة الحافظين190.

      فالكرم صفتهم النفسية الجامعة للكمال في المعاملة وما يصدر عنهم من الأعمال، وأما صفة الكتابة فمراد بها ضبط ما وكلوا على حفظه ضبطا لا يتعرض للنسيان ولا للإجحاف ولا للزيادة، فالكتابة مستعارة لهذا المعنى، على أن حقيقة الكتابة بمعنى الخط غير ممكنة بكيفية مناسبة لأمور الغيب.

      وأما صفة العلم بما يفعله الناس فهو الإحاطة بما يصدر عن الناس من أعمال وما يخطر ببالهم من تفكير مما يراد به عمل خير أو شر وهو الهم.

      وما تفعلون يعم كل شيء يفعله الناس وطريق علم الملائكة بأعمال الناس مما فطر الله عليه الملائكة الموكلين بذلك.

      ودخل في ما تفعلون: الخواطر القلبية لأنها من عمل القلب أي: العقل فإن الإنسان يعمل عقله ويعزم ويتردد، وإن لم يشع في عرف اللغة إطلاق مادة الفعل على الأعمال القلبية.

      واعلم أنه ينتزع من هذه الآية أن هذه الصفات الأربع هي عماد الصفات المشروطة في كل من يقوم بعمل للأمة في الإسلام من الولاة وغيرهم فإنهم حافظون لمصالح ما استحفظوا عليه وأول الحفظ الأمانة وعدم التفريط191.

      ٢. الإنباء بالعمل.

      ومن أثر العمل في الآخرة أن الله ينبئ العبد بما عمله في الدنيا، قال الله تعالى: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ) [الأنعام: ١٠٨].

      وقال: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) [المائدة: ١٤].

      وقال: (ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ) [الأنعام: ١٥٩].

      وقال: (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [النور: ٦٤].

      وقال: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ) [المجادلة: ٦].

      وقال: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) [المجادلة: ٧].

      فقوله: (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ) يقول: فيوقفهم ويخبرهم بأعمالهم التي كانوا يعملون بها في الدنيا، ثم يجازيهم بها، إن كان خيرًا فخيرًا، وإن كان شرًا فشرًا، أو يعفو بفضله، ما لم يكن شركًا أو كفرًا192.

      والتعبير بـ() للدلالة على البعد الزماني في نظرهم، والبعد بين ما زين لهم من الشر، وما يستقبلهم من جزاء؛ وفاقًا لما عملوا من شر وقوله تعالى: (ﯠ ﯡ ﯢ) فيه تقديم الجار والمجرور على ربهم للدلالة على الاختصاص أي: المرجع إلى الله وحده، وهو الذي يتولى جزاءهم على ما قدموا من شر، والتعبير بـ() إشارة إلى كفرهم بالنعم التي أولاهم؛ إذ إنه هو الذي خلقهم ورباهم ونماهم وأمدهم بآلائه من وقت أن كانوا أجنة في بطون أمهاتهم إلى أن رمسوا في قبورهم.

      والنبأ: الخبر الخطير () أي: يخبرهم بما كانوا يعملون، وهو إنباء مقترن بالجزاء، فهو إنباء بأعمالهم وجزائها، فيجزون ما كانوا يعملون، أي: أن الجزاء موافق للعمل، وأعدل العدل أن يكون العقاب مأخوذًا من الجريمة نفسها، والله يتولى المحسنين193.

      فالنبأ في لغة العرب: أخص من الخبر؛ لأن النبأ لا يطلق إلا على الإخبار بشيءٍ له شأنٌ وخطبٌ، فمعنى: () أي: يخبرهم خبرًا عظيمًا عندهم له خطبٌ، وشأنٌ عظيمٌ.

      (ﯤ ﯥ ﯦ) «ما» موصولةٌ، والعائد محذوفٌ، والمعنى: بالذي كانوا يعملونه في دار الدنيا، وليس المراد بهذه التنبئة والإخبار مجرد التنبئة فقط، لا وكلا، بل المراد به: الجزاء؛ لأن كل إنسانٍ يوم القيامة يخبر بجميع ما عمل من جهاتٍ متعددةٍ:

      تشهد على الكافر جوارحه، تشهد عليه يده ورجله وجلده، كما يأتي في قوله: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ) [يس: ٦٥].

      وكقوله: (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [فصلت: ٢٢].

      وكقوله: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ) [فصلت: ٢١].

      وينبئه ويشهد عليه المكان؛ لأن البقعة من الأرض الذي عمل الإنسان عليها المعصية تأتي يوم القيامة، وتشهد عليه عند ربها وتقول البقعة: إن فلان بن فلانٍ فعل علي كذا وكذا في ساعة كذا في يوم كذا في شهر كذا في سنة كذا، كما يأتي في قوله: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ) يعني: الأرض (ﭸ ﭹ) بما فعل عليها (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) [الزلزلة: ١-٥].

      أمرها بذلك أن تشهد، ومن ذلك وهو الشيء العظيم أن كل إنسانٍ يجد جميع ما قدم من خيرٍ وشرٍ مكتوبًا في كتابٍ (ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) [الكهف: ٤٩].

      ويقال لكل إنسانٍ في ذلك الوقت: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) [الإسراء: ١٤].

      وتلك الكتب تعطى للناس، آخذٌ كتابه بيمينه، أو آخذٌ بشماله، أو من وراء ظهره، والعياذ بالله.

      وهذه الآيات معناها: اعلم أيها الإنسان أن كل ما عملت من خيرٍ وشرٍ هو محفوظٌ لك مدخرٌ عليك، إن كان خيرًا فإنما تنفع به نفسك، وإن كان شرًا فإنما تضر به نفسك، فعليك أن تجتهد في دار الدنيا وقت إمكان الفرصة، ولا تضيع الوقت؛ لأنه إذا ضاع الوقت ندم الإنسان حيث لا ينفع الندم، فعلينا معاشر المسلمين أن نعلم أن ربنا يخبرنا أن جميع ما عملنا سنجده محفوظًا لنا أمامنا على رؤوس الأشهاد ونخبر به، ونجازى به، إن خيرًا فخيرٌ وإن شرًا فشرٌ، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه. فيجب على العبد المسلم في دار الدنيا أن يلاحظ هذا، وأن يخاف الله، ويخشى من أن يجعل في صحيفته الفضائح التي يفتضح بها على رؤوس الأشهاد؛ لأن فضيحة يوم القيامة ليست كفضيحة الدنيا؛ لأن من افتضح في الدنيا ضاع عرضه أمام المجتمع، وهو صحيحٌ يأكل ويشرب وينام وينكح ويركب، ولكن من افتضح في الآخرة سيجر إلى دركات النار -والعياذ بالله جل وعلا- ففضيحة الآخرة على رؤوس الأشهاد أعظم194.

      والمقصود: أن من أثر العمل في الآخرة أن يظهره الله للعبد، كما قال: (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ) [الأنعام: ١٠٨].

      يعني: يظهرها لهم في صورتها الحقيقية حتى يعلموا حقيقة ما كانوا عليه في الدنيا، وأنها إنما زينت لهم هذه المعاصي، وهذا هو سبب عدم توبة أكثر الناس؛ لأنهم يرون الأشياء على غير حقيقتها، كما قال تبارك وتعالى: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [التوبة: ٣٧].

      وقال تعالى: (ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) [فاطر: ٨].

      وهذا كحال الكافر والمبتدع، فأحدهما يرى الشيء القبيح حسنًا، فإذا رآه حسنًا هل يتصور أنه يتوب منه؟ لا يتصور؛ لأنه يراه حسنًا؛ ولذا لن يفكر في التوبة، فمن ثم قال بعض السلف: ليس لصاحب بدعة توبة، بمعنى: أنه يستحسن البدع، ويراها بصورة حسنة، فكيف يتوب؟ فمن ثم لا ترجى له توبة، بخلاف العاصي فإن أمره أخف؛ لأن العاصي، الموحد يرى معاصيه فيبغضها، لكن الهوى يغلبه فمن ثم يرجى له التوبة، أما المبتدع فقد زين له سوء عمله فرآه حسنًا.

      فأمر العباد مفوض إلى الله تعالى، وإن الله تعالى عالم بأحوالهم، مطلع على ضمائرهم، ورجوعهم يوم القيامة إلى الله، فيجازي كل أحد بمقتضى عمله، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.

      ٣. المجازاة على العمل.

      ومن أثر العمل في الآخرة أن يجزي الله العباد بأعمالهم.

      قال الله تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [النحل: ٩٧].

      وقال: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ) [العنكبوت: ٧].

      وقال: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) [فصلت: ٢٧].

      قال الطبري: يقول: يجزيهم أجرهم في الآخرة بأحسن ما كانوا يعملون195. أي: ولنعطينهم فى الآخرة أجرهم الخاص بهم، بما كانوا يعملون من الصالحات، وإنما أضيف إليه الأحسن للاشعار بكمال حسنه، كما سبق فى حق الصابرين196.

      واللام هي الموطئة أي: لنجزينهم بسبب صبرهم على ما نالهم من مشاق التكليف وجهاد الكافرين، والصبر على ما ينالهم منهم من الإيذاء بأحسن ما كانوا يعملون من الطاعات.

      قيل: وإنما خص أحسن أعمالهم لأن ما عداه وهو الحسن مباح، والجزاء إنما يكون على الطاعة. وقيل: المعنى: ولنجزينهم بجزاء أشرف وأوفر من عملهم، أو لنجزينهم بحسب أحسن أفراد أعمالهم، على معنى لنعطينهم بمقابلة الفرد الأدنى من أعمالهم المذكورة ما نعطيهم بمقابلة الفرد الأعلى منها من الجزاء الجزيل، لا أنا نعطي الأجر بحسب أفرادها المتفاوتة في مراتب الحسن بأن نجزي الحسن منها بالأجر الحسن، والأحسن بالأحسن كذا قيل197.

      والمقصود: أن يوم القيامة يوم جزاء الأعمال ولهذا قال: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) أي: من عمل صالح الأعمال، وأدى فرائض الله التي أوجبها عليه، وهو مصدق بثوابه الذي وعد به أهل طاعته، وبعقاب أهل المعصية على عصيانهم، فلنحيينه حياة طيبة تصحبها القناعة بما قسم الله له، والرضا بما قدره وقضاه؛ إذ هو يعلم أن رزقه إنما حصل بتدبيره، والله محسن كريم لا يفعل إلا ما فيه المصلحة، ويعلم أن خيرات الدنيا سريعة الزوال، فلا يقيم لها فى نفسه وزنًا، فلا يعظم فرحه بوجدانها، ولا غمه بفقدانها198.

      فهو سبحانه يجزي في الآخرة أحسن الجزاء، ويثاب أجمل الثواب، جزاء ما قدم من عمل صالح، وتحلى به من إيمان صادق.

      أما من أعرض عن ذكر الله فلم يؤمن، ولم يعمل صالحًا فهو فى عناء ونكد؛ إذ يكون شديد الحرص والطمع في الحصول على لذات الدنيا، فإن أصابته محنة أو بلاء استعظم أمره، وعظمت أحزانه، وكثر غمه وكدره، وإذا فاته شىء من خيراتها عبس وبسر، وامتلأ قلبه أسى وحسرة؛ لأنه يظن أن السعادة كل السعادة.

      قال سيد: وبمناسبة العمل والجزاء يعقب بالقاعدة العامة فيهما: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) فيقرر بذلك القواعد التالية: أن الجنسين الذكر والأنثى، متساويان في قاعدة العمل والجزاء، وفي صلتهما بالله، وفي جزائهما عند الله، ومع أن لفظ: () حين يطلق يشمل الذكر والأنثى إلا أن النص يفصل (ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ) لزيادة تقرير هذه الحقيقة؛ وذلك في السورة التي عرض فيها سوء رأي الجاهلية في الأنثى، وضيق المجتمع بها، واستياء من يبشر بمولدها، وتواريه من القوم حزنًا وغمًا وخجلًا وعارًا! وأن العمل الصالح لا بد له من القاعدة الأصيلة يرتكز عليها، قاعدة الإيمان بالله (ﮐ ﮑ) فبغير هذه القاعدة لا يقوم بناء، وبغير هذه الرابطة لا يتجمع شتاته، إنما هو هباء كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف.

      والعقيدة هي: المحور الذي تشد إليه الخيوط جميعًا وإلا فهي أنكاث، فالعقيدة هي التي تجعل للعمل الصالح باعثًا وغاية، فتجعل الخير أصيلًا ثابتًا يستند إلى أصل كبير، لا عارضًا مزعزعًا يميل مع الشهوات والأهواء حيث تميل، وأن العمل الصالح مع الإيمان جزاؤه حياة طيبة في هذه الأرض، لا يهم أن تكون ناعمة رغدة ثرية بالمال، فقد تكون به، وقد لا يكون معها، وفي الحياة أشياء كثيرة غير المال الكثير تطيب بها الحياة في حدود الكفاية: فيها الاتصال بالله، والثقة به، والاطمئنان إلى رعايته وستره ورضاه، وفيها الصحة والهدوء والرضا والبركة، وسكن البيوت، ومودات القلوب، وفيها الفرح بالعمل الصالح وآثاره في الضمير، وآثاره في الحياة، وليس المال إلا عنصرًا واحدًا يكفي منه القليل، حين يتصل القلب بما هو أعظم وأزكى وأبقى عند الله، وأن الحياة الطيبة في الدنيا لا تنقص من الأجر الحسن في الآخرة، وأن هذا الأجر يكون على أحسن ما عمل المؤمنون العاملون في الدنيا، ويتضمن هذا تجاوز الله لهم عن السيئات، فما أكرمه من جزاء!199.

      ٤. دخول الجنة أو النار.

      قال الله تعالى: (ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ) [النحل: ٣٢].

      وقال: (ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ) [الأعراف: ٤٣].

      وقال في الفريق الآخر: ( ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [البقرة: ٨١].

      وقال: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [يونس: ٨].

      وقال: (ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) [النمل: ٩٠].

      فهذه الآيات جمعيها تبين أن من أثر العمل يوم القيامة دخول الجنة أو النار، فدخولهما مرتبط بالأعمال، فمن عمل خيرًا نال خيرًا، ومن عمل سوءًا يجزى به والجزاء يوم ذاك ما هو إلا جنة أو نار.

      ٥. النجاة من عذاب القبر أو الوقوع فيه.

      ومن آثار العمل في الآخرة النجاة من عذاب القبر أو الوقوع فيه.

      قال تعالى: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ) [الروم: ٤٤].

      قال بعض السلف: في القبر.

      يعني: أن العمل الصالح يكون مهادًا لصحابه في القبر، حيث لا يكون للعبد من متاع الدنيا فراش، ولا وساد، ولا مهاد، بل كل عامل يفترش عمله، ويتوسده من خير أو شر200.

      والمقصود: أن للعمل أثرًا في الآخرة، سواء كان صالحًا أو سيئًا، فينبغي للعبد أن يكثر من العمل الصالح، ويخلصه من الآفات والمحبطات، نسأل الله الكريم أن يوفقنا للعمل الصالح، وأن يفعل ذلك بأهلينا وذريتنا ومحبينا.


1 مقاييس اللغة ٤/١٤٥.

2 العين ٢/١٥٣.

3 انظر: العين، الفراهيدي ٢/١٥٤، مقاييس اللغة، ابن فارس ٤/١٤٦.

4 التوقيف على مهمات التعاريف ص ٢٤٧.

5 الكليات ص ٦١٦.

6 انظر: المصدر السابق ص ٦١٦.

7 معجم لغة الفقهاء، قلعجي ص ٣٢٢.

8 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، ص٨٢٨.

9 انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني ص ٥٨٧، بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي ٤/١٠١.

10 مقاييس اللغة، ابن فارس ٥/١٧٩.

11 التوقيف على مهمات التعاريف ص ٢٨١.

12 الصحاح، الجوهري ١/٣٩٨.

13 مجمل اللغة، ابن فارس ص ٤٦١.

14 مقاييس اللغة، ابن فارس ٤/٥١١.

15 التعريفات ص ١٦٨.

16 بصائر ذوي التمييز ٤/٢٠١.

17 المفردات ص ٦٤٠.

18 المفردات ص ٥٨٧.

19 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٢/١٧٢، أشعار النساء، المرزباني ص ٩٠.

20 مقاييس اللغة، ابن فارس ٣/٣١٣.

21 الكليات ص ٥٤٤.

22 الكليات ص ٢٩.

23 المحكم والمحيط الأعظم، ابن سيده ٢/٢٢١.

24 الكليات ص ٥٠٩.

25 العين ٢/٢٠٢.

26 مقاييس اللغة، ابن فارس ٣/١٩٥.

27 المفردات ص ٤٥٧.

28 مقاييس اللغة، ابن فارس ٥/١٦٧.

29 الكليات ص ٧٧٣.

30 انظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة، عبدالرحمن المحمود ٣/١٣٦٩.

31 الإيمان، ابن تيمية ص١٩٦.

32 التمهيد ٩/٢٣٨.

33 في ظلال القرآن، سيد قطب ٤/٢٣٩٨.

34 أركان الإيمان، الشحود ص ٢٣٩-٢٤١.

35 انظر: الملل والنحل، الشهرستاني ١/١٤١، الإيمان، ابن تيمية ص ١٤٥، الاعتصام، الشاطبي ٣/٣٦٤.

36 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ١/١٤١.

37 المصدر السابق ١/٢٠٨.

38 أنوار التنزيل، البيضاوي ٤/٢٧٣.

39 انظر: صفوة التفاسير، الصابوني ٣/٢٣.

40 العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير ٣/٣٦٩.

41 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب في قوله عليه السلام: (إن الله لا ينام)، ١/١٦١، رقم ١٧٩.

42 تفسير القرآن الكريم، ابن عثيمين، الفاتحة والبقرة ١/٣١٢.

43 انظر: التفسير المنير، الزحيلي ١٢/١٦٧.

44 أيسر التفاسير، الجزائري ٤/٢٤٠.

45 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/٣٤٦.

46 جامع البيان، الطبري ٢٠/٢٩٦.

47 المحرر الوجيز، ابن عطية ٢/٢٦٣.

48 المصدر السابق ٣/١٢٧.

49 المصدر السابق ٣/٢٩٩.

50 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ١٤١.

51 التفسير الوسيط، طنطاوي ١/٢٩٠.

52 التفسير الوسيط، الواحدي ١/٤٧١.

53 زاد المسير ١/٣٠٩.

54 التفسير الوسيط، طنطاوي ٢/٢٤٠.

55 جامع البيان، الطبري ٢٤/٣٤٧.

56 مفاتيح الغيب، الرازي ٣١/١١٦.

57 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٢٠٦.

58 انظر: التفسير الحديث، محمد دروزة ٤/٣٦١.

59 زهرة التفاسير، أبو زهرة ٢/١١٠٤.

60 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٥٢٤.

61 المقصد الأسنى ص ١٠٣.

62 تفسير المنتصر الكتاني ١٣٩/١٢.

63 البحر المحيط، أبو حيان ٦/٥٨٩.

64 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٤/٢٦٨.

65 تفسير ابن عرفة ٣/٤٥.

66 أنوار التنزيل، البيضاوي ٣/١٢٨.

67 التفسير المنير، الزحيلي ١١/١٢٦.

68 انظر: العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير ٣/٦٦.

69 انظر: الكشف والبيان، الثعلبي ١/١٧٠، معالم التنزيل، البغوي ١/٧٣.

70 لطائف الإشارات، القشيري ٢/٣٧٦.

71 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله، ٤/٢٢٨٩، رقم ٢٩٨٥.

72 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، ٣/١٨٤، رقم ٢٦٩٧، ومسلم في صحيحه، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور، ٣/١٣٤٣، رقم ١٧١٨.

73 تفسير القرآن الكريم، ابن عثيمين، سورة الكهف ص ١٤٧.

74 التفسير المنير، الزحيلي ٢٢/١٥٠.

75 المصدر السابق ٢٥/٢٦٥.

76 زهرة التفاسير، أبو زهرة ٢/١٠٥٣.

77 أضواء البيان، الشنقيطي ٢/٤٤٠.

78 انظر: العين، الفراهيدي ٣/١٧٤، تهذيب اللغة، الأزهري ٤/٢٢٨، لسان العرب، ابن منظور ٧/٢٧٢.

79 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب فضل النفقة في سبيل الله، ٤/٢٦، رقم ٢٨٤٢، ومسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا، ٢/٧٢٧، رقم ١٠٥٢.

80 الكشاف، الزمخشري ٤/٣٥٥.

81 السراج المنير، الشربيني ٣/٣٣٣.

82 تأويلات أهل السنة، الماتريدي ٨/٦٨٢.

83 العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير ١/٣٤٣.

84 العين ٧/٣٢٨.

85 روح البيان ٢/٢٨٦.

86 تفسير السمرقندي ٣/٢٠٧.

87 تفسير السمعاني ٢/٣٤٤.

88 فتح البيان، صديق خان ٥/٣٨٧.

89 معالم التنزيل، البغوي ٣/٣٥٦.

90 تفسير السمرقندي ٢/٣٥٧.

91 تفسير القرآن الكريم، المقدم ٩٢/٥.

92 إرشاد العقل السليم،أبو السعود ٥/٢٣٧.

93 تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن، السعدي ص٢٥٩.

94 تفسير الشعراوي ١٤/٨٩٦٧.

95 التفسير الواضح، محمد حجازي ٢/٤٣٢.

96 الكشاف، الزمخشري ٣/١٣٠.

97 تفسير السمعاني ٤/٣٢١.

98 التفسير الواضح، محمد حجازي ٣/١٣٢.

99 تفسير المراغي ٨/١٩٩.

100 في ظلال القرآن، سيد قطب ٤/٢٣٩٠.

101 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١١/٣٢١.

102 مفاتيح الغيب ٢٩/٤٧١.

103 جامع البيان، الطبري ٢٣/٦٩٩.

104 الإكليل في استنباط التنزيل ص ٢٧٦.

105 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٩/٢٨٥.

106 تفسير القرآن الكريم، ابن عثيمين، الفاتحة والبقرة ٣/٤١٨.

107 التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي ٢/١٨٢.

108 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساقاة، باب فضل الغرس والزرع، ٣/١١٨٨، رقم ١٥٥٢.

109 أخرجه الطبراني في الأوسط، ١/٢٧٤، رقم ٨٩٥ والبيهقي في الشعب ٢/٤٤٠، رقم ١٧٩.

وضعفه الألباني في ضعيف الجامع ص ١٦٢.

110 انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير ٢/٣، لسان العرب، ابن منظور ١/٦٢.

111 البحر المحيط في التفسير، أبو حيان ٢/٦٥٧.

112 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع، باب كسب الرجل وعمله بيده، ٣/٥٧، رقم ٢٠٧٢.

113 زهرة التفاسير، أبو زهرة ٢/١٠٠٠.

114 انظر: المصدر السابق ١/٤٦٤.

115 إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٤/١٠٠.

116 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ١١/٢٥.

117 البحر المحيط في التفسير، أبو حيان ٨/٥٢٦.

118 الكشاف، الزمخشري ٣/٥٧٣.

119 الموسوعة القرآنية، الأبياري ٨/٢٩٩.

120 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٥/١٩٦.

121 السراج المنير، الشربيني ٣/٢٨٧.

122 التفسير الوسيط، الواحدي ٣/٢٩٢.

123 مدارك التنزيل، النسفي ٢/٤٧١.

124 تفسير ابن باديس ص ٣٥٥.

125 زهرة التفاسير، أبو زهرة ١٠/٥٠٨٢.

126 روح البيان، إسماعيل حقي ٦/٨٧.

127 تفسير المراغي ١٨/٢٩.

128 التفسير الوسيط، الواحدي ٤/٣٠٠.

129 جامع البيان، الطبري ٢٠/٢٧١.

130 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ١٦/٥٥٥.

131 التفسير المنير، الزحيلي ١٧/١٣٢.

132 البحر المحيط في التفسير، أبو حيان ٣/٩٨.

133 مفاتيح الغيب، الرازي ٨/١٩٦.

134 جامع البيان، الطبري ٢١/٢٢٩.

135 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٧٩٠.

136 جامع البيان، الطبري ١٦/١٧٦.

137 زهرة التفاسير، أبو زهرة ٧/٣٧٦١.

138 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل ٨/٩٨، رقم ٦٤٦٣ ومسلم في صحيحه، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى، ٤/٢١٧٠، رقم ٢٨١٦.

139 السراج المنير، الشربيني ٤/٢١٢.

140 تفسير السمعاني ٤/٣٤٩.

141 جامع البيان، الطبري ١٠/١٨٢.

142 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٦/٢٢٧.

143 الكشف والبيان، الثعلبي ٨/١٠٢.

144 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٥/٢٠٩.

145 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٤/٢٦٦.

146 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٠/٢٠٧.

147 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ١٦/٧٢.

148 إرشاد العقل السليم،أبو السعود ٧/١٥٤.

149 تفسير السمعاني ٤/٣٤٩.

150 التفسير الحديث، محمد دروزة ٥/٧٢.

151 جامع البيان، الطبري ٢١/٥٣١.

152 المصدر السابق ٢٠/٥٠٢.

153 التفسير الوسيط، الواحدي ٣/٣٤٧.

154 زهرة التفاسير، أبو زهرة ٨/٤٣٤١.

155 في ظلال القرآن، سيد قطب ٤/٢٢١٥.

156 جامع البيان، الطبري ١٧/٢٩١.

157 الكشاف، الزمخشري ٢/٦٣٣.

158 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٠/٢٦٧.

159 في ظلال القرآن، سيد قطب ٤/٢١٩٣.

160 التفسير الوسيط، طنطاوي ٨/٢٣٢.

161 المحرر الوجيز، ابن عطية ٣/٤١٩.

162 انظر: جامع البيان، الطبري ١٨/٩١، تفسير ابن أبي حاتم ٧/٢٣٧٥.

163 الكشف والبيان، الثعلبي ٦/١٨٨.

164 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٦/٧٧.

165 التفسير الوسيط، طنطاوي ١٠/١٤٦.

166 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ١٦/١٠.

167 فتح القدير، الشوكاني ٥/٥٨١.

168 محاسن التأويل، القاسمي ٩/٥٢٤.

169 تفسير الشافعي ٣/١٤٥٦.

170 لطائف الإشارات، القشيري ١/٢٣٤.

171 تفسير السمعاني ١/٣١٠.

172 التفسير الوسيط، الواحدي ٢/١١٩.

173 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٤/٣٥٩، فتح القدير، الشوكاني ٤/٤٠٨.

174 التفسير الوسيط، الواحدي ٢/٥٤٥.

175 التفسير الحديث، محمد دروزة ٣/٤٦١.

176 غرائب القرآن، النيسابوري ٦/٣٢٨.

177 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٨/١٧٩.

178 أنوار التنزيل، البيضاوي ٥/٣٠٩.

179 مدارك التنزيل، النسفي ٢/٢٨٨.

180 أنوار التنزيل، البيضاوي ٥/٢٨٠.

181 البحر المحيط في التفسير، أبو حيان ٧/٤٣٦.

182 مفاتيح الغيب ٢١/٤٧٠.

183 جامع البيان، الطبري ١٨/٣٨.

184 مفاتيح الغيب، الرازي ٢١/٤٧٠.

185 تفسير ابن عرفة ١/٢٢٥.

186 تفسير المراغي ٢٢/١٤٨.

187 زهرة التفاسير، أبو زهرة ٩/٥٠٢٦.

188 جامع البيان، الطبري ١٨/٣٨.

189 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٢/٣٥٦.

190 المصدر السابق ٣٠/١٧٩.

191 المصدر السابق ٣٠/١٨٠.

192 جامع البيان، الطبري ١٢/٣٧.

193 زهرة التفاسير، أبو زهرة ٥/٢٦٢٦.

194 العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير ٢/١٠٤.

195 جامع البيان، الطبري ١٧/٢٩٣.

196 روح البيان، إسماعيل حقي ٥/٧٨.

197 فتح القدير، الشوكاني ٣/٢٢٩.

198 تفسير المراغي ١٤/١٣٨.

199 في ظلال القرآن، سيد قطب ٤/٢١٩٣.

200 تفسير ابن رجب الحنبلي ٢/٧٦.