عناصر الموضوع
مريم
هي مريم بن عمران، وهو من نسل داود عليه السلام، ويرجع أصله إلى إبراهيم عليه السلام، وكان عمران صاحب صلاة بني إسرائيل في زمانه1.
وكان رجلًا صالحًا، وكانت له زوجة صالحة طيبة طاهرة خيرة تقية وفية مطيعة لزوجها، ومطيعة لربها، « واختار هذه البيوت على سائر أهل الأرض » 2.
وذكر ابن كثير نقلًا عن ابن عساكر نسب مريم إلى داود عليه السلام، قال: « ولا خلاف أنها من سلالة داود عليه السلام وكان أبوها عمران صاحب صلاة بني إسرائيل في زمانه، وكانت أمها وهي حنة بنت فاقوذ بن قبيل من العابدات، وكان زكريا نبي ذلك الزمان زوج أخت مريم أشياع في قول الجمهور، وقيل زوج خالتها أشياع، فالله أعلم»3.
قال تعالى: (ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ) [ آل عمران:٣٣-٣٤].
هاتان الآيتان الكريمتان تمهيد للحديث عن مريم رحمها الله، وابنها نبى الله عيسى عليه السلام، وبيان أنه بشر رسول خلقه الله -عز وجل- من أم دون أب كما خلق آدم عليه السلام من غير أب ومن غير أم. وفى ذلك رد على النصارى الذين زعموا كذبا وزورا أن عيسى إله وابن إله، وهاتان الآيتان الكريمتان جزء من الآيات التى نزلت لترد على كثير من مزاعم النصارى، وذلك أن وفدًا من نصارى نجران جاءوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فى المدينة فأحسن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استقبالهم وأكرم نزلهم ودار حوار بينه وبينهم أقام فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حججا ظاهرة وأدلة دامغة تدحض مزاعمهم وتدل على فساد معتقداتهم، وأنزل الله تعالى فى هذا الشأن صدر سورة آل عمران4.
وآل عمران من الذين اصطفاهم الله، وهم من آل إبراهيم، وخصوا بالذكر من باب ذكر الخاص بعد العام، تشريفًا وتكريمًا، وتمهيدا للحديث عنهم بشيء من التفصيل.
وردت قصة مريم الصديقة رضي الله عنها في سور كثيرة ولمناسبات متعددة نذكر منها ما يلي:
في سورة آل عمران: ورد الحديث عنها في سياق الحديث عن عيسى عليه السلام وبيان أنه بَشَرٌ رَسَوُلٌ خلقه الله -عز وجل- من غير أبٍ، كما خلق آدم من غير أب ولا أُمٍّ.
قال تعالى (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [آل عمران: ٥٩].
وعيسى عليه السلام فرعٌ طيب من شجرة طيبة مباركة، فأمه مريم رضي الله عنها خير نساء العالمين، اصطفاها الله تعالى وطهرها وآثرها وأنعم عليها بنعم كثيرة وأكرمها بكرامات ظاهرة، وأمها امرأة صالحة صادقة وفية تقية، نذرت حملها لله تعالى محررا فتقبل الله منها نذرها.
وأبوها عمران -عليه السلام- العابد والحبر الزاهد صاحب المكانة السامية في قلوب العباد المخلصين الذين تسابقوا وتنافسوا على كفالة مريم -رضي الله عنها- تقربا إلى الله تعالى، ووفاء وعرفانا وبرا وإحسانا إلى معلمهم وإمامهم عمران عليه السلام الذي مات دون أن تكتحل عيناه برؤية ابنته مريم رضي الله عنها، التي خلدت ذكره في العالمين، وسميت هذه السورة بهذا الاسم تكريما لعمران عليه السلام ولأصله الطاهر ولذريته الصالحة الطيبة.
ويأتي ذكر جانب آخر من قصة مريم رضي الله عنها في سورة تحمل اسمها تكريما لها وهى سورة مريم التي ورد فيها الحديث عن مجيء جبريل -عليه السلام- لها في صورة بشرية وهى في خلوتها تعبد الله عز وجل، واستعاذتها بالله -تعالى- منه، وإخباره إياها بحقيقته ومهمته التي كلفه الله بها والتي جاء من أجلها، وتعجبها من تلك البشارة العجيبة وجواب جبريل -عليه السلام- على استفهامها التعجبي، ونفخه فيها وحملها بعيسى عليه السلام ومدة الحمل وساعة المخاض، تلك الساعة العصيبة العسيرة التي مرت بمريم النذيرة، والتي تمنت الموت من شدة ما مر بها، ومولد عيسى عليه السلام، وما صحبه من رحمات ونفحات وإرهاصات، وقدوم مريم إلى قومها ومعها وليدها عيسى عليه السلام وموقفهم من ذلك ونطق عيسى عليه السلام وهو في المهد.
وتأتي إشارة لمريم في سورة المائدة فيها منقبة عظيمة لها.
قال تعالى: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [المائدة: ٧٥].
فذكر الله تعالى صفة كريمة من صفات مريم وهي الصدق، والصديقية مقام من أسمى المقامات، فالنبوة أعظم درجات الكمال في الرجال، والصديقية تأتي في المرتبة الثانية بعد النبوة كما في قوله تعالى: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ) [النساء: ٦٩].
وفي سورة الأنبياء يرد ذكرها رضي الله عنها وابنها نبي الله عيسى عليه السلام في سياق الحديث عن نعم الله عز وجل ورحمته بأنبيائه وأصفيائه.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) [الأنبياء: ٩١].
قال صاحب الظلال: « ولا يذكر هنا اسم مريم؛ لأن المقصود في سلسلة الأنبياء هو ابنها عيسى عليه السلام، وقد جاءت تبعا له في السياق، وإنما يذكر صفتها المتعلقة بولدها: (ﭑ ﭒ ﭓ) أحصنته فصانته من كل مباشرة والإحصان يطلق عادة على الزواج بالتبعية؛ لأن الزواج يُحَصِّنُ من الوقوع في الفاحشة، أما هنا فيذكر في معناه الأصيل وهو الحفظ والصون أصلا من كل مباشرة شرعية أو غير شرعية، وذلك تنزيها لمريم عن كل ما رماها به اليهود » 5.
كما يأتي ذكرها رضي الله عنها في سورة المؤمنون مع ابنها نبي الله عيسى عليه السلام في سياق الحديث عن رحمة الله بأنبيائه وعنايته بهم وحفظه لهم.
قال تعالى: (ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ) [المؤمنون: ٥٠].
جعلهما الله آية للناس تدل على قدرته تعالى ورعايته لأنبيائه وأوليائه، وآواهما إلى (ﮜ): مكان مرتفع من الأرض، (ﮝ ﮞ) أي: مستوية وصالحة للعيش عليها وذات خصبٍ، وماء طيبٍ جارٍ تراه العيون، وهو بيت المقدس 6.
ويتكرر ذكرها أيضا في سورة التحريم مع آسية بنت مزاحم كمثل طيب ونموذج رائع، وصورة مشرقة متألقة للمرأة الصالحة الصادقة المؤمنة المحسنة التقية النقية، بعد أن ضرب الله تعالى مثلا للمرأة الكافرة فيكون ذكرها وقبلها آسية رضي الله عنهما مسك الختام لهذه السورة الكريمة التي استفتحت بالحديث عن أمهات المؤمنين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: (ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [التحريم: ١٠ - ١٢].
قال تعالى: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ) [آل عمران: ٣٥ - ٣٧].
بدأت قصة مريم رضي الله عنها في بيت صالح هو بيت أبيها عمران ذلك التقى النقي الذي أكرمه الله عز وجل بزوجة طيبة صالحة، وكان من نتاج هذا الزواج المبارك ومن ثمراته الطيبة: مريم رضي الله عنها، ربيبة بيت الطهر والعفاف وسليلة آل العلم والعبادة.
وكانت امرأة عمران رضي الله عنها تدعو المولى عز وجل أن يرزقها ولدا ذكرا تقر به عينها وتبتهج به نفسها وينشرح له صدرها، فلما تحرك الحمل في أحشائها نذرت ما في بطنها محررًا أي خالصا لوجه الله تعالى منقطعا لعبادته وخدمة بيت المقدس، أملا ورجاء أن توهب ذكرا يحمل اسم زوجها عمران ويخلفه في الفضل.
طلبت امرأة عمران أن يتقبل المولى عز وجل نذرها ويقبل نذيرها قبولا حسنا.
أولًا: حملها ونذرها
قال تعالى: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) [آل عمران: ٣٥].
أجاب الله دعاء امرأة عمران، تلك المرأة الصابرة الصادقة الصالحة التي توجهت إلى المولى عز وجل بالدعاء والرجاء أن يرزقها الولد الصالح، فاستجاب الله لها، وآتاها سؤلها، فشعرت بالجنين يتحرك بين أحشائها، فأشرقت الدنيا في عينها وغمرتها وزوجها نشوة من السرور.
فالبنون قرة العيون، وثمرة الفؤاد، وبهجة النفوس وريحانة القلوب وفلذات الأكباد.
ولكن لم تطل فرحتها ولم تتم بهجتها فلقد مات زوجها عمران عليه السلام، وقد كانت تتمنى بقاء زوجها حتى ينعم برؤية فلذة كبده وتكتحل عيناه برؤية ولده، ويشاركها فرحتها، ولكن قضاء الله حل، ولقد استقبلت هذه الأمور بالصبر الجميل، والإيمان واليقين، فلما تحرك الحمل فى أحشائها نذرت ما فى بطنها محررا أى خالصا لوجه الله تعالى منقطعا لعبادته، والمحرر هو الخالص ومنه: الذهب الحر: أى الخالص من الشوائب، وطلبت امرأة عمران أن يتقبل المولى عز وجل نذرها ويقبل نذيرها قبولا حسنا، فهو تعالى سميع لقولها مجيب لدعائها وتضرعها عالم بحالها ونيتها7.
ثانيًا: وضعها ووفاؤها بنذرها
ومضت الأيام وجاءت ساعة الوضع، ووضعت امرأة عمران وليدها فإذ به أنثى، فتبادر إلى الاعتذار لربها، لأنها كانت ترجو أن يكون المولود ذكرا لتهبه لخدمة بيت المقدس كما نذرت، والأنثى لا تصلح لهذه المهمة، كما جرت العادة بذلك، فتوجهت امرأة عمران إلى ربها قائلة: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ) [آل عمران: ٣٦].
قال ابن كثير: « وكانوا في ذلك الزمان ينذرون لبيت المقدس خداما من أولادهم»8.
أدركت امرأة عمران أن لله في ذلك حكمة يعلمها، فالله -عز وجل- يدبر أحوال الخلق وفق قدرته وإرادته وعلمه وحكمته، ولعل هذه الأنثى عند الله خير من الذكر؛ لأن ما يفعله الرب بالعبد خير مما يريده العبد لنفسه، فهو سبحانه لا يقع في سلطانه إلا ما أراده، لكن المولى جل وعلا يعلم مكانة هذه المولودة وقدرها، فهي سيدة نساء العالمين، اصطفاها الله وطهرها، واجتباها وآثرها، وجعلها وابنها آية للعالمين.
(ﯡ ﯢ ﯣﯤ): قالت امرأة عمران معتذرةً لربها: وليس الذكر الذي طلبته ونذرته كالأنثى التي وضعتها، فالذكر يتمكن من الوفاء بالنذر بخدمته في المسجد، أما الأنثى فإنها لا تقدر على القيام بما يقوم به الذكر، كما أنه يعتريها من الأحوال ما يَحُوْلُ بينها وبين البقاء في المسجد، وذلك حين يأتيها الحيض، أو النفاس عند الولادة، فضلا عن تفاوتهما في القوة والجلد.
(ﯥ ﯦ ﯧ) انفردت امرأة عمران بتسمية مريم وما ذلك إلا لوفاة زوجها عمران عليه السلام أثناء حملها، وسمتها مريم تقربا إلى المولى عز وجل بهذه التسمية الحسنة، فمريم -رضي الله عنها- تعنى في لغتهم: العابدة والخادمة، وللاسم علاقته بالمسمى، فهي ترجو أن يكون لها حظ وافر من اسمها9.
وفى هذه التسمية إشارة إلى عزمها على إمضاء نذرها، ورجائها أن يكون عند الله مقبولا.
(ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ): تضرعت امرأة عمران لربها أن يقبل وليدتها ويجعلها مباركة، ويحفظها من الشيطان الرجيم، فالمولى عز وجل خير حافظ، وهو سبحانه أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين.
وسر تكرار (ﯚ) هنا للتأكيد، ولتغير المخبر به، ولأنه قد يشعر كلامها السابق أنها كارهة لما جاءها، فأكدت في كلامها هذا؛ إظهارا لرضاها بما قدر الله تعالى، ولذلك انتقلت للدعاء لها الدال على الرضا والمحبة 10 ولقد جاءت أفعال ثلاثة بصيغة الماضى (ﮧ) (ﯗ)، (ﯦ)للدلالة على التحقق والثبوت وفى التعبير بـ (ﮧ) و (ﯦ) ما يفيد عزمها ومضيها على الوفاء بما نذرت به بلا تردد ولا تراجع، وفى التعبير بـ (ﯨ ﯩ) ما يدل على التجدد والاستمرار المستفاد من التعبير بالفعل المضارع، لأن الاستعاذة مطلوبة فى كل وقت وحين11.
ثالثًا: تقبل الله تعالى نذرها
بعد هذه المناجاة الصادقة، والدعوات الخالصة من امرأة عمران رضي الله عنها والتي طلبت من ربها أن يتقبل منها نذيرها، وأن يبارك لها في وليدتها ويعيذها وذريتها من الشيطان الرجيم، أجاب الله لها الدعاء وحقق لها الرجاء، وكانت الإجابات الإلهية والنفحات الربانية والمواهب اللدنية التي تنتظر هذه الوليدة السعيدة، حيث تقبلها ربها قبولا حسنا، وأنبتها نباتا حسنا حتى نمت وترعرعت وأزهرت وأينعت، وأثمرت كلمة من الله وروحا منه هو عبد الله ونبيه عيسى عليه السلام، الذي جعله الله وأمه آية للعالمين.
قال عز وجل: (ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) والفاء هنا للتعقيب، لبيان سرعة استجابة المولى عز وجل لدعائها وسرعة تحقيقه لرجائها، فهو عز وجل من المؤمن قريب ولدعائه مجيب.
وقال (ﯲ) ولم يقل (بتقبل)؛ «للجمع بين الأمرين: التقبل الذى هو الترقى فى القبول، والقبول الذى يقتضي الرضا والإثابة » 12، هذا مع معهود القرآن الكريم في عذوبة الألفاظ وسلاستها.
(ﯴ ﯵ ﯶ): مع قبولها عند الله قبولا حسنا، فقد أكرمها الله وأنعم عليها بأن أنبتها نباتا حسنا، فجمعت بين كمال الخلقة وجمال الخلق، وحسن التربية.
قال تعالى: (ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) [آل عمران: ٣٧-٤١].
قيض الله تعالى لمريم نبيه زكريا عليه السلام ليتعهدها ويرعاها، ويعنى بأمرها ويهتم بإصلاحها، فكان كفالته لها نعمة من الله ورحمة، وقد تمت تلك الكفالة بتوفيق من الله عز وجل بعد أن تنافس الأحبار والرهبان وتنازعوا على كفالة مريم، كلٌ يرجو ويطلب لنفسه أن ينال هذا الشرف وأن يحظى بذاك المقام، فمريم -رضي الله عنها- بنت إمامهم ومعلمهم عمران عليه السلام الرجل الصالح الذي مات دون أن تكتحل عيناه برؤية ابنته، وحرصًا على هذا الشرف، ووفاء للمعلم والمربي والمصلح، وكان تنافسهم وتسابقهم الذي وصل إلى حد النزاع والاختصام على كفالة مريم رضي الله عنها.
قال تعالى: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) فلقد كان كل واحد منهم شديد الحرص على كفالة تلك اليتيمة، ولما لم تجتمع لهم كلمة، ولم يتفق لهم رأي، فكل واحد يريد أن يستأثر بهذه المكرمة، وكان أولى بهم أن يتركوا كفالتها لنبي الله زكريا عليه السلام، ولما طال جدالهم حول من يكفلها اتفقوا على أن يقترعوا فيما بينهم، فمن فاز في القرعة فقد فاز بكفالة مريم.
قال تعالى: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ)، قال ابن عباسٍ اقترعوا فجرت الأقلام مع الجرية وعال قلم زكريا الجرية فكفلها زكريا 13.
(ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁﰂ) لم يحمله إليها، ولا هو مما يعهد في هذا الوقت من الزمن، وهو يعلم أنه لا يدخل عليها غيره؛ فهو القائم على كفالتها، حتى أثار ذلك الأمر دهشته وعجبه، وهذا الرزق الرباني يشمل غذاء الأجساد وغذاء الأرواح، فهو يشمل الطعام والشراب، وغير ذلك من ضرورات الحياة، من كل ما ينتفع به الإنسان وما يحصله، كما أنه يشمل: غذاء الأرواح من علم وغيره، فهو أعم من الفاكهة في غير حينها المعهود؛ ولذلك جاء بصيغة التنكير التي تفيد التعظيم والتعميم والتكثير، فهو رزق حسي ورزق معنوي، وهذا الرزق كرامة من سلسلة الكرامات التي أظهرها الله لمريم، وتمهيدًا للآية العجيبة التي تنتظرها، وهى خلق عيسى عليه السلام من غير أب، فالكرامة تكريم لها وتشريف وتمهيد وإعداد لها، حتى تكون مهيأة لما ينتظرها من كرامةٍ.
(ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ).
سأل زكريا مريم متعجبًا ومنبهرًا بما يقع لها، سألها وقال لها من أين لك هذا؟ وكيف وصل إليك ولا يدخل عليك غيري؟
(ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ) فعطاء الله ممدود، لا تحده حدود، ولا تقيده قيود، وفضل الله عظيم وخزائنه ملأى، فالله سبحانه يعطى العبد من حيث لا يحتسب العبد.
(ﭑ ﭒ ﭓ ﭔﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ): نبي الله زكريا عليه السلام بلغ من الكبر عتيًّا، وزوجه كانت لا تلد، فأسلمت أمرها لله ورضيت بقضاء الله، وعاشت مع زوجها حياة هادئة هانئة، ولقد أكرم المولى عز وجل زكريا عليه السلام بإكرامه لمريم تلك اليتيمة صاحبة المنزلة العظيمة، وكانت تلك الكرامة التي حدثت لمريم سببًا مباشرًا في توجه زكريا عليه السلام إلى الله ودعائه بأن يرزقه ذرية طيبة.
(ﭑ) أي: في ذلك الوقت الذي رأى فيه الفاكهة في غير حينها، تعلق رجاؤه بقدرة الله ورحمته ولطفه أن يرزقه الولد في غير حينه، تقر به عينه، وينشرح به صدره (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ) [آل عمران: ٣٩].
قال تعالى: (ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [آل عمران: ٤٢ - ٤٤].
عودٌ إلى مريم رحمها الله وإلى اصطفاء الله، عز وجل لها، (وإذ) معطوف على (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ) والمعنى: اذكر يا محمد إذ قالت امرأة عمران رحمها الله واذكر أيضا ما قالته الملائكة لمريم رحمها الله من بشارات، ففي هذه القصة عبر وعظات ينبغي أن يتذكرها المؤمن، ويستفيد منها، ويذكر الناس بها.
والاصطفاء: الاختيار والانتقاء والتصفية.
ومعنى اصطفاء الله تعالى مريم رضي الله عنها: جعلها من بيت صالح، وقبلها قبولا حسنًا، وأنبتها نباتًا حسنًا، وجعل زكريا عليه السلام لها كافلًا، وأجرى الكرامة على يديها إكرامًا لها وإحسانًا إليها، وطهرها من كل سوءٍ، طهرها بالإيمان والطاعة والتقى والصلاح، والحياء والعفاف، فهي رضي الله عنها العفيفة الشريفة الحيية النقية الراضية المرضية، واصطفاها تعالى اصطفاًء خاصًّا بأن أكرمها بهذه المعجزة العظيمة والآية العجيبة، حيث وهبها عيسى عليه السلام المخلوق بقدرة الله عز وجل من غير أبٍ ليكون آيةً للعالمين14.
وطهرك: من الأدناس والأقذار، ونزهك عن الأخلاق الذميمة والطباع الرديئة بالأخلاق الحميدة والصفات الحسنة، (ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ): اصطفاء بعد اصطفاء، والاصطفاء الثاني هو أنه عز وجل أكرمها بهذه المعجزة العظيمة والآية العجيبة، حيث وهبها عيسى عليه السلام المخلوق بقدرة الله عز وجل من غير أبٍ ليكون آية للعالمين15.
قال تعالى: (ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ) [المؤمنون: ٥٠].
وقيل: إن الاصطفاء الثاني هو عين الأول، وكرر للتأكيد وبيان من اصطفاها عليهن، ذكر ذلك الألوسي، وقال: ولعل الأول أولى؛ لما أنَّ التأسيس خير من التأكيد.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (حسبك من نساء العالمين بأربع: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد)16.
مقتضيات الاصطفاء: قال تعالى: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ).
بعد هذه المنزلة الرفيعة والمكانة العالية التي أكرم المولى عز وجل بها مريم: يأمرها سبحانه - عن طريق خطاب الملائكة الكرام لها - بأن تجتهد في العبادة شكرًا لله عز وجل على هذه النعم والمواهب؛ ومواصلةً للسير في طريق الهدى والصلاح.
قال الرازى: «لما بين تعالى أنها مخصوصة بمزيد المواهب والعطايا من الله تعالى، أوجب عليها مزيدًا من الطاعات شكرًا لتلك النعم السنية»17.
والقنوت لزوم الطاعة والعبادة والاجتهاد فيها مع الإخلاص والخشوع والخضوع لله رب العالمين18.
وقال الألوسى: «والتعرض لعنوان الربوبية؛ للإشعار بعلة وجوب الامتثال لأوامره سبحانه»19.
وتكرير النداء (ﮯ) للتنبيه، والإشارة إلى أهمية ما يرد فى ثناياه وفيه تكريم لها.
وقوله تعالى: (ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ): إن حملنا القنوت على مطلق الطاعة والعبادة، فالسجود والركوع من ذكر الخاص بعد العام لمزيد العناية والاهتمام، وإن حملنا القنوت على القيام، فالركوع والسجود من تتمة الأركان؛ لأن الصلاة قيام وقعود وركوع وسجود، وإن حملنا القنوت على الإخلاص وعلى الخشوع والخضوع، فالركوع والسجود من الأفعال الظاهرة، والإخلاص والخشوع والخضوع من الأفعال الباطنة، ولا تستقيم العبادة إلا بصحة الظاهر وصلاح الباطن.
وفي هذا توجيه لمريم رضي الله عنها أن تجمع بين أفعال القلوب وأفعال الجوارح، حتى يستوي الظاهر بالباطن، ويستقيم الاعتقاد مع القول والعمل.
والآية الكريمة أمر من المولى عز وجل لمريم رضي الله عنها أن تجتهد في العبادة وأن تداوم على الطاعة وتطيل في القنوت، وتكثر السجود وتركع مع الراكعين؛ حتى تزداد قربًا من رب العالمين.
وجاء التعبيربـ (ﯔ ﯕ ﯖ)ولم يقل مع الراكعات « لأن هذا الجمع أعم، إذ يشمل الرجال والنساء على سبيل التغليب، ولمناسبة رؤوس الآي»20.
قال تعالى: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ): ذلك: إشارة إلى ما سبق ذكره من أخبار عن اصطفاء الله للأنبياء وخبر امرأة عمران وابنتها، وخبر زكريا ويحيى عليهما السلام، وغير ذلك من الأخبار التي جاءت بها السورة الكريمة.
إن كثيرًا من الأحداث الهامة في حياة مريم رضي الله عنها لم نعرفها إلا عن طريق القرآن الكريم، من ذلك حديث القرآن عن حمل أمها بها ونذرها للعبادة، و تنافس الأحبار على كفالتها، وكفالة زكريا لها، واصطفاء الله تعالى لها، وغير ذلك من مآثرها التي لم نعرفها إلا عن طريق القرآن، إذ لم يرد لهذه الأحداث ذكر في العهد الجديد.
ولم يرد في « العهد الجديد » أيضًا كلام عيسى عليه السلام وهو في المهد، مع كونه آية عظيمة وحجة ساطعة على براءة مريم رضي الله عنها مما ادعاه اليهود.
بل إن أغلب الذي في العهد الجديد عن مريم فيه تقليل من شأنها وتجاهل لكراماتها، من ذلك على سبيل المثال:
إن ما ورد فى الأناجيل فى شأن عيسى عليه السلام وفى شأن مريم متضارب متناقض، بعيد عن الحقيقة، منحرف عن الصواب، حتى شراح الأناجيل قد أصابتهم الحيرة ووقعوا فى أخطاء وتناقضات وهم يشرحون الأناجيل، وقصة يوسف النجار قصة متضاربة متناقضة مدسوسة ومكذوبة، وليس له أي صلة بمريم عليها السلام.
جاءت البشارات في سورتين: سورة آل عمران وسورة مريم، جاء الحديث عن البشارة مسهبًا في سورة آل عمران، وجاءت سورة مريم مفصلة لما لابس البشارة وما أعقبها، وفيما يلي أتحدث عن البشارة في السورتين الكريمتين:
أولًا: البشارة في سورة آل عمران:
قال تعالى: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) [آل عمران: ٤٥ - ٤٧].
بعد أن اصطفى الله عز وجل مريم رضي الله عنها، وطهرها وأمرها بالاجتهاد في العبادة والمداومة على الطاعة، وأوصاها بالإخلاص والخشوع والخضوع له سبحانه، تهيأت بذلك مريم رضي الله عنها للمعجزة الكبرى والآية العجاب، وهي حملها بعيسى عليه السلام على خلاف العادة بدون أبٍ.
وكما بشرتها الملائكة بأنها المصطفاة الطاهرة جاءتها بشارة أخرى وهي أن المولى عز وجل اصطفاها لتلك المهمة العظيمة الشأن.
« والمراد بالملائكة هنا جبريل، والجمع لما ذكرنا قبل من التعظيم» 21.
ولا مانع من تكرار البشارة، بشرتها الملائكة أولًا وعلى رأسهم جبريل، ثم تمثل جبريل عليه السلام فى صورة بشرية فأعاد بشارتها فأعادت تعجبها؛ زيادة فى الاطمئنان واليقين واستفسارًا عن كيفية تحقق هذه البشارة العجيبة.
سمى المسيح كلمة الله لأنه موجود بكلمة كن، وكل ما في الكون موجود بأمر الله وكلمته، وإنما خص بهذا الاسم للتنويه بهذه الآية العجيبة (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [آل عمران: ٤٧].
ذكر ذلك الإمام الألوسى، ورجح أن المسيح سمي بكلمة الله؛ لأنه وجد من غير أبٍ بكلمة كن على خلاف أفراد بنى آدم، فكان تأثير الكلمة فى حقه أظهر وأكمل 22.
ومعنى المسيح: المبارك 23.
وقيل: سمي المسيح؛ لأنه كان يمسح على عين الأعمى فيرتد بصيرًا بإذن الله، ويبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله.
وقيل: يعني الصديق.
وقيل: سمي بذلك؛ لأنه ممسوح بالزيت المبارك الذى كانت الأنبياء من قبله تمسح به، وهو زيت طيب الرائحة.
وقيل: المسيح يعني: من مسحه الله؛ أي: خلقه خلقًا حسنًا مباركًا، كما يقولون به مسحة جمال، والمسيخ: من مسخه الله، أي: خلقه فى صورة قبيحة وجعله ملعونًا24.
وقيل: لكثرة سياحته، أي :سيره فى الأرض.
وقيل: لأنه كان مسيح القدمين لا أخمص لهما 25.
وقيل: المسيح يعني: المبارك، أو لأنه كان يمسح بيده المباركة على المريض فيشفى بإذن الله تعالى.
وفي قوله تعالى: (ﯹ ﯺ ﯻ)إشارة إلى أن عيسى عليه السلام سيولد من غير أبٍ، لأنه لو ولد من أبٍ لصرح باسمه بدلًا من التصريح باسم أمه.
والوجيه: ذو الجاه والشرف والقدر.
وقيل: الكريم على من يسأله فلا يرد لكرم وجهه عنده، خلاف من يبذل وجهه للمسألة فيرد، ووجاهته فى الدنيا بالنبوة والتقدم على الناس، وفي الآخرة بقبول شفاعته وعلو درجته.
وقيل: وجاهته فى الدنيا بقبول دعائه بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص.
وقيل: بسبب أنه كان مبرءًا من العيوب التى افتراها اليهود عليه، وفي الآخرة ما تقدم » 26.
وتعرض له اليهود بالأذى والاضطهاد لا ينقص من قدره ولا يقدح فى وجاهته ومنزلته، فالأنبياء هم أشرف خلق الله، وأكرمهم وأعزهم، وقد تعرضوا للأذى والتضييق، فلم يزدهم ذلك إلا عزة ورفعة، وكرامة وإباء، وعزيمة ومضاء، وإيمانًا وتسليمًا ويقينًا وتثبيتًا ونصرًا ونجاة.
(ﰀ ﰁ) عند الله تعالى وعند الناس بالقبول والإجابة، (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ) كلامه فى المهد حين أنطقه الله عز وجل ببراءة أمه من اتهام اليهود عليهم لعنة الله.
والكهولة فى الأربعين. وقيل: ثلاث وثلاثين، والكهل ما اجتمعت قوته وكمل شبابه27، أما عن كلامه فى الكهولة: فقيل: ذكر هنا لتبشير أمه بأنه سيبلغ مبلغ الرجال، وقيل: لبيان فصاحة كلامه وبلاغته فى المهد وفى الكهولة على السواء، وقيل: إشارة إلى أنه سيرفع إلى السماء ثم ينزل إلى الأرض فى آخر الزمان فيكلم الناس، وقد بلغ سن الكهولة28.
و قيل: رد على النصارى الذين زعموا أنه إله، والإله لا يمر بهذه التقلبات، ولا ينتقل من حال إلى حال، والمسيح سينتقل من حال الطفولة إلى حال الكهولة، والمتنقل من حال إلى حال حادث ومتغير، والحدوث والتغير يتنافى مع صفة الألوهية، ومن فوائد كلامه فى المهد: إثبات براءة أمه، وبيان عبوديته لله ونبوته وبركته وبره بأمه، ونفي كونه جبارًا شقيًّا، فهو برٌّ رحيمٌ رفيقٌ حليم ٠
قالت مريم رحمها الله متعجبة من هذه البشارة العجيبة، ومتسائلة عن كيفية وقوعها: (ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ) وجاءها الجواب: (ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ).
قال صاحب الظلال: « وجاءها الجواب، يردها إلى الحقيقة البسيطة التى يغفل عنها البشر لطول ألفتهم للأسباب والمسببات الظاهرة، لعلمهم القليل، ومألوفهم المحدود: (ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) وحين يرد الأمر إلى هذه الحقيقة الأولية يذهب العجب، وتزول الحيرة، ويطمئن القلب، ويعود الإنسان إلى نفسه يسألها فى عجب: كيف عجبت من هذا الأمر الفطرى !!
وهكذا القرآن الكريم ينشئ التصور الإسلامى لهذه الحقائق الكبيرة بمثل هذا اليسر الفطري القريب، وهكذا كان يجلو الشبهات التى تعقدها الفلسفات المعقدة، ويقر الأمر فى القلوب وفي العقول على السواء »29.
ثم تمضي الآيات بعد ذلك في سورة آل عمران لتواصل الحديث عن صفات المسيح عليه السلام ونعم الله عليه وتأييده له بالمعجزات التي تدل على نبوته، كما تدل على بشريته، وعن حقيقة رسالته التي جاء بها، ويطوي السياق الحديث عن مريم رحمها الله، وينتقل للحديث عن المسيح ابن مريم وعن موقف الناس من دعوته ٠
ثانيًا: البشارة في سورة مريم:
ورد الحديث عن البشارة ومقدماتها، وما تبعها في سورة مريم.
قال تعالى: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ) [مريم: ١٦-٢١].
بعد أن تحدث المولى عز وجل عن زكريا عليه السلام وكمال عبوديته لله تعالى، وكيف رزقه الله عز وجل، الولد مع كبر سنه وعقم زوجته، يتحدث المولى عز وجل عن خلقه عيسى بدون أبٍ، فالقصة الأولى بمثابة التمهيد للقصة الثانية، وإذا كان مولد يحيى آيةً عجيبة فإن ولادة عيسى آيةٌ عجاب.
قال تعالى: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [مريم: ١٦-١٧].
اذكر في القرآن الكريم؛ لأن القصص القرآني هو الزاد الذي يتزود به المؤمن في حياته والنور الذي يضيء له الدروب، ومن ثم فلا بد من دوام التأمل والتدبر في القصص القرآني والاعتبار به، والاقتباس من أنوار الأنبياء والصديقين، وفي ذكر مريم في هذا السجل الخالد تشريف وتكريمٌ لها.
وقوله تعالى: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) اتجهت إلى شرقي بيت المقدس لتعتكف وتخلو للعبادة، ففي الخلوة رياضة للنفس، وسمو بالروح، وشحذ للهمة، وصفاء للقلب، وزيادة قرب من المولى عز وجل.
وإنما جاءها الملك في هذا المكان الطاهر المبارك كما جاء لزكريا عليه السلام وهو قائم يصلى في المحراب، حيث البركات والرحمات والنفحات، (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ): أي: جعلت بينها وبينهم سترًا حتى لا يشغلها شيء عن العبادة، وحتى تستأنس بالحق عن الخلق، وينصرف قلبها للعبادة، ولا تختلط بالرجال، (ﮂ ﮃ ﮄ) جبريل عليه السلام، وسمي عليه السلام روحًا؛ لأن الدين أساسه الوحي، وهو أمينه، فبالوحي حياة الدين، كما يحيا الجسد بالروح وكما تحيا الأرض بالماء.
والإضافة في (ﮄ) للتشريف والتعظيم، وبيان أن جبريل عليه السلام مرسل من قبل رب العالمين منزلٌ بأمره، (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ): ظهر لها جبريل عليه السلام في صورة جميلة وهيئة حسنة؛ لكنها بادرت إلى اللجوء والاعتصام بالله تعالى، مخاطبة في هذا الذي قطع عليها خلوتها تقواه، وإنما تمثل لها عليه السلام بهذه الصورة لتستأنس به ولا تنفر منه، ولأنها لا تطيق رؤيته عليه السلام بصورته الطبيعية.
(ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ): استعاذت رضي الله عنها بربها من ذلك الذي قطع عليها خلوتها ودخل بغير إذن، وفي استعاذتها بالله تعالى ما يدل على كمال إيمانها، وورعها وتمام عفافها، وشدة حيائها وحسن أدبها، ولباقتها وسرعة بديهتها، وفي استعاذتها بالرحمن توجهٌ إليه سبحانه أن يرحم ضعفها ويصرف عنها السوء، فقد شملها تعالى برحمته في سائر أحوالها، وهي الآن أحوج إلى أن تداركها رحمة الرحمن، وفي الاستعاذة أيضا استثارة واستنهاض لبواعث الرحمة والتقوى في قلب ذلك القادم، فهو إن كان رحيمًا فسوف يرحم ضعفها ووحدتها، وإن كان تقيًّا فسوف ينصرف عنها ولا يمسها بسوء.
قال أبو العالية : «قد علمت أن التقى ذو نهية30»31.
(ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ): بادر جبريل عليه السلام إلى إزالة خوفها، ووضح لها أنه ملكٌ من ملائكة الرحمن، جاء بأمر من عنده سبحانه ليهب لها غلاما زكيًّا، أي غلامًا طاهرًا مباركًا «وعبر باسم الرب المتقضي للإحسان لطفًا بها، ولأن هذه السورة مصدرة بالرحمة، ومن أعظم مقاصدها تعداد النعم على خلص عباده»32.
(ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ): علمت وأيقنت أن هذه البشارة صادقة، وأن الذي بين يديها ملكٌ مرسل من عند الله، ولكنها تعجبت وتساءلت عن كيفية تحقق هذه البشارة العجيبة؛ لأن العادة أن الولادة لا تكون إلا عن حملٍ، وهي رضي الله عنها لم يمسسها بشرٌ بزواج، وحاشاها أن تكون بغيا.
(ﮩ ﮪ): أي الأمر كما تقولين من أنك غير متزوجة ولست بغية، (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ) فالمولى عز وجل هو القادر، وقدرته مطلقة وإرادته نافذة، لا يحدها حدود ولا تقيدها قيود، ومن خلق آدم من غير أم ولا أب وخلق حواء من آدم: قادر على خلق عيسى من أم دون أب.
(ﮱ ﯓ ﯔ) دلالة وعلامة وحجة وبرهان على قدرة الله عز وجل كما قال تعالى (ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ) [ المؤمنون: ٥٠ ].
(ﯕ ﯖﯗ) رحمة من الله عز وجل لمريم، ولكل من آمن برسالته عليه السلام، فهو رحمة لمريم؛ لأنه إكرام لها من الله واصطفاء لها على نساء العالمين بهذه الآية العجيبة الفريدة، ورحمة لها؛ لأنها صارت به أم نبيٍ له وجاهته ومكانته في الدنيا والآخرة، ورحمة لكل من آمن به، فالأنبياء جميعهم رحمةٌ مهداةٌ، (ﯘ ﯙ ﯚ) أمرًا مقدورًا من الله عز وجل ونافذًا فلا رجوع فيه.
ولقد طوى السياق القرآني في سورة مريم الحديث عن نفخ روح القدس عليه السلام في مريم، وجاء الحديث عن النفخ في سورة الأنبياء وسورة التحريم، وفي ذلك إشارة إلى الوحدة القرآنية، فكل آية لها سياقها الذى ينتظم مع سابقها ولاحقها، وكل آية لها صلتها بموضوع السورة، ولها اتصالها بالسياق العام للقرآن الكريم.
في سورة الأنبياء قال المولى عز وجل: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) [الأنبياء: ٩١].
وفي سورة التحريم: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [التحريم: ١٢].
والآية الأولى في سياق الحديث عن نعم الله عز وجل ورحمته بالأنبياء وآلهم، وفيها بيان لما كانت عليه مريم من العفة والطهارة، وأن الله عز وجل قد أرسل إليها جبريل، فنفخ فيها لتحمل بولد من غير أب، لتكون وابنها آية للعالمين.
وفى سورة التحريم تلك السورة التى تعالج بعض الأمور التى حدثت فى بيت النبوة، بين أمهات المؤمنين، يوضح المولى عز وجل أن قرابة النسب لا تغنى عن قرابة الدين، فالعبرة بالإيمان والعمل الصالح.
ومريم بنت عمران نشأت فى بيت صالح، وكانت عفيفة شريفة، مؤمنة صديقة، اختارها المولى عز وجل لتكون وابنها آية للعالمين.
قال تعالى (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [التحريم: ١٢].
قال تعالى: (ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ)[مريم: ٢٢-٢٣].
سكنت مريم لأمر الله ورضيت بقضاء الله، وأيقنت أن تلك إرادة الله وحكمته، ونفخ فيها روح القدس فحملت بعيسى عليه السلام، فاتجهت بحملها بعيدًا عن قومها، وكان حملها طبيعيًّا كما تحمل سائر النساء، حملته إلى مكان بعيد عن قومها حتى لا يتعرضوا لها بسوء، وهذا المكان القصي هو شرقي بيت لحم، حيث ولد المسيح عليه السلام.
كما ورد في الحديث الذي رواه النسائي في السنن والبيهقي في دلائل النبوة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه من حديث الإسراء، وفيه قال صلى الله عليه وسلم (ثم قال: انزل فصل، فنزلت فصليت، فقال أتدري أين صليت ؟ صليت ببيت لحمٍ؛ حيث ولد عيسى عليه السلام) 33.
وفي صلاته صلى الله عليه وسلم في هذه البقعة المباركة التي شهدت ولادة نبي الله عيسى تكريمٌ لهذا النبي.
والظاهر المتبادر من سياق الآيات أنها وضعته في المكان القصي الذي انتبذت إليه أو قريبًا منه، وقد كانت في هذا المكان وحيدةً فريدةً34.
قال تعالى: (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ).
ومعنى: (ﯣ ﯤ) أي: ألجأها المخاض واضطرها، والمخاض: ما يرافق الولادة من جهد وإعياء وآلام وزفرات، والجذع: ساق النخلة اليابسة الذي لا سعف عليه ولا غصن له، حيث أسندت ظهرها إليه.
(ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ) تمنت لو أنها قد ماتت، قبل هذا الموقف العصيب، وكانت نسيًا منسيًّا، أي: شيئا لا يعتد به ولا يؤبه له، من شأنه أن ينسى فلا يذكر، ولكن كيف تمنت ذلك مع ما علمت من البشارة والكرامة ؟
عن ذلك يجيب المفسرون بأجوبة كثيرة ومتنوعة: فيقول ابن كثير في التفسير « فيه دليلٌ على جواز تمني الموت عند الفتنة، فإنها عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد، ولا يصدقونها في خبرها، وبعدما كانت عندهم عابدة ناسكة تصبح عندهم فيما يظنون صورة سيئة فقالت (ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ) أي: قبل هذا الحال، (ﯭ ﯮ ﯯ) أي: لم أخلق ولم أك شيئا، قال ابن عباس قالت ذلك استحياء من الناس» 35.
وفي حاشية الجمل على الجلالين «تمنت الموت من جهة الدين، إذ خافت أن يظن بها السوء في دينها، أو استحياءً من الناس فأنساها الاستحياء بشارة الملائكة لها بعيسى عليه السلام، أو لعلها قالت ذلك: لئلا تقع المصيبة بمن يتكلم فيها، وإلا فهي راضية بما بشرت به، فلا يرد السؤال كيف تمنت الموت مع أنها كانت تعلم أن الله تعالى بعث لها جبريل عليه السلام، ووعدها بأن يجعلها وولدها آية للعالمين»36.
قال تعالى: (ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ) [مريم: ٢٤-٢٦].
في غمرة الآلام التي ألمت بمريم رضي الله عنها، وفى تلك اللحظات العصيبة التي مرت بها وهي تعاني من آلام المخاض ومخاطره، والوحدة والوحشة والترقب لما ينتظرها من قومها حين يرون هذا الوليد، في غمرة هذه الآلام الحسية والنفسية تغمرها رحمة الله تعالى، فيتحول العسر إلى يسر والضيق إلى سعة، والحزن والقلق إلى فرح واستبشار وطمأنينة، ويولد عيسى عليه السلام في جوٍّ من الكرامات، وينطقه37 المولى عز وجل.
وقال لها كما أخبر القرآن: (ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ)، أنطق الله عيسى عليه السلام تسلية لأمه وتثبيتًا لقلبها، وتمهيدًا لها إلى أنه كما نطق أمامها وحدها فسوف ينطق أمام قومها ببراءتها (ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [مريم: ٢٩-٣٠].
ولقد أجرى الله هذه المعجزة أمامها وحدها، ثم أجراها بعد ذلك أمام قومها، كما أجرى الله معجزة قلب العصا إلى حية أمام موسى وحده، قبل أن يجريها أمام فرعون وملئه؛ تثبيتًا لموسى عليه السلام وإعدادًا له لمواجهة هذا الموقف.
(ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ) السري: قيل: هو الجدول - النهر الصغير الجاري - سمى بذلك لأن الماء يسري فيه، وعلى هذا القول عامة المفسرين38.
ولعل إيثار تسميته هنا « سريا » لما فيه من تسرية لقلبها، وترويح عن نفسها وتسليةٍ لها وهي في هذا الكرب والمحنة.
والسياق يدل على ذلك، قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔﭕ) فدل الأكل على وجود الرطب، ودل الشرب على وجود الماء الذي جاء عن طريق ذلك الماء الجاري، وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (ﯺ): الجدول، نهرٌ صغيرٌ بالسريانية39.
وقد أجرى لها المولى عز وجل هذا النهر كرامةً لها، وإرهاصًا لعيسى عليه السلام، وتسليةً لقلبها.
(ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ) [مريم: ٢٥]. نعمة أخرى ونفحة كبرى لمريم رضي الله عنها، أن يأتيها رزقها من الرطب وهي في مكانها، بقدرة الله عز وجل ولطفه ورحمته، وكانت تلك النخلة يابسةً فاخضرت وأثمرت في غير أوانها؛ كرامة لمريم وتسلية لقلبها وزيادةً في يقينها، وإظهارًا لقدرة الله عز وجل وعجيب صنعه40.
(ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ)، كلي من ذلك الرطب الجني واشربي من ذلك الماء العذب، (ﭓ ﭔ) أي: وطيبي نفسًا بهذه الآيات وتلك الكرامات، واهنئي بالًا بهذا المولود المبارك الذي صاحب مولده تلك النفحات.
( ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ) [مريم: ٢٦] أُمرت بالصوم عن الكلام لأمرين:
أحدهما: أن كلام عيسى عليه السلام وهو في المهد أقوى وأبلغ في إزالة التهمة عنها، وفيه أن تفويض الأمر إلى الأفضل أولى.
والثاني: أن السكوت عن جدال السفهاء أصون للعرض وأنسب لحيائها.
قال تعالى: (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [مريم ٢٧- ٢٩].
قال القرطبي: « لما اطمأنت لما رأت من الآيات، وعلمت أن الله تعالى سيبين عذرها، أتت به تحمله من المكان القصي الذي كانت انتبذت فيه » 41.
والفاء هنا في (فأتت) تفيد التعقيب، والسرعة، وهناك مفارقة عجيبة في هذه القصة ففي بدايتها (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) وفى نهاية المطاف (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ).
ففي الموضع الأول نرى مريم البتول رضي الله عنها تسارع بحملها بعيدًا عن قومها، خوفًا من نفوسهم المريضة وعقولهم الفاسدة وظنهم السيٍّئ وكلامهم الجارح حين يرونها وهى حامل.
وفي الموضع الثاني بعد أن وضعت المسيح وقرت عينها به، واطمأن قلبها إليه، وانشرح صدرها بالكرامات التي وقعت لها، وامتلأ قلبها يقينا، وتبدل خوفها أمنًا، وحزنها سرورًا وضعفها قوة وعزة وترفعًا وتحديًا وتعاليًا على الباطل وأهله، فجاءت إلى قومها يحملها اليقين ويحدوها الأمل ويقودها الإيمان، وهى تحمل وليدها الحبيب نبي الله عيسى عليه السلام، جاءت بنفس راضية هانئة بهذه الهدية التي منحها لها رب البرية.
لقد أصبحت مريم أمًّا لنبي، وأي شرف لأمٍٍّ أعظم من ذلك، وأي رجاء أعظم من نجابة الولد واستقامته، ومع ذلك فإنها تعرف سلفا موقف قومها، الذين يقابلون الآيات بالإنكار والجحود، والإنعامات بالحسد والحقد، وقد صدق ظنها فيهم حين رأوها فقالوا دون تفكر أو تمهل -كما أخبر القرآن الكريم: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ): أي: شيئًا فظيعًا منكرًا عجيبًا.
(ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ): بعد أن اتهموها، وافتروا عليها، قالوا لها هذه المقولة على سبيل السخرية والتهكم والتشكيك والتحريض.
قالوا: (ﭱ ﭲ) تشبيهًا لها: بهارون النبي أخي موسى عليهما السلام في تقواه وصلاحه وحيائه، وكانوا يسمون وينعتون بأنبيائهم عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
قال: لما قدمت نجران سألوني: فقالوا: إنكم تقرؤون: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) [مريم ٢٨ ].
وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، فلمًّا قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن ذلك، فقال: (إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم)»42.
والظاهر أن هذه الآية العجيبة التي بهتت اليهود لم تزجر كثيرًا منهم ولم تكفهم عن التمادي في الافتراء والكذب على مريم البتول، فكان هذا من أسباب غضب الله عليهم وعقوبتهم الدنيوية مع ما ينتظرهم يوم القيامة، وأي ذنبٍ بعد الكفر بالله، والافتراء على أنبيائه الكرام الأخيار، وآلهم الطيبين الأبرار، سيما من برأها الله تعالى بآيةٍ مشاهدةٍ محسوسة، وسجَّلَ براءتها في كتابه الكريم.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [النساء: ١٥٥ - ١٥٦].
فتلك صفحاتٌ مطويةٌ في تاريخ اليهود وجرائم مسجلة عليهم، منها: نقض المواثيق مع جلالها، والجحد بآيات الله مع جلائها، وقتلهم الأنبياء خيرة الخلق، بدون جريرةٍ ولا حق. ومن كفرهم البواح وظلمهم العظيم افتراؤهم على خير نساء العالمين الصديقة العابدة التقية الطاهرة مريم بنت عمران التي نبتت من أرومة مجدٍ طاب غراسها، ودرجت في بيت صلاح وتقى شَعَّتْ أنواره، وتقبلها ربها بأحسن قبول ظهرت بركاته وجلت آثاره، وكان كافلها ومعلمها نبيٌ كريمٌ مبجل، وانقطعت للعبادة والتبتل، ورغم ذلك فقد اتهمها اليهود في عرضها، وغمزوها في عفافها، وهي الصديقة التي بلغت معالي الرتب والدرجات، الطاهرة التي برأها ربها بأعظم الآيات وأبلغ البينات، فأنطق ولدها في المهد، وشهد لها بالطهر والمجد، وفند كذب اليهود وبهتانهم الذي ليس له حد.
وتكرر الكفر منهم لأنه كفرٌ بعد كفر بعد كفر حجبٌ كثيفة وغيوم قاتمة وقلوب تراكم عليها الظلام، كفروا بموسى ثم كفروا بعيسى، فقد دخلوا إلى الكفر من أبوابٍ كثيرة، فقد كفروا بالأنبياء بل وقتلوهم، وشنعوا على مريم وتآمروا على ولدها عيسى عليه السلام.
وعطف البهتان على الكفر دليلٌ على شناعته وقبحه، ووصفه بالعظيم لتهويله، إذ أي بهتان أعظم من رمي سيدة نساء العالمين الصديقة العابدة سليلة بيت الطهر والعفاف ربيبة أهل التقى والصلاح، نذيرة العبادة، وراهبة المحراب !
إنه ابتلاءٌ عظيمٌ أن يرمي الغوغاء ذات الطهر والنقاء، وهل أشد على الحرائر العفيفات، المحصنات الغافلات من الاتهام في أغلى ما يملكن.
كلام المسيح عليه السلام في المهد تبرئة لأمه مما اتهمت به:
قال تعالى (ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ)
نطق عيسى عليه السلام وهو في المهد بقدرة الواحد الأحد، نطق أول ما نطق بأنه عبد الله وفي هذا تنزيهٌ لله تعالى عن الصاحبة والولد، وردٌ على النصارى الذين زعموا أنه إله وابن إله، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا.
قال الرازي في هذا المقام: « إن الذي اشتدت إليه الحاجة في ذلك الوقت إنما هو نفي التهمة عن مريم، ثم إن عيسى عليه السلام لم ينص على ذلك وإنما نص على إثبات عبوديته لله كأنه جعل إزالة التهمة عن الله تعالى أولى من إزالة التهمة عن الأم، فلهذا أول ما تكلم إنما تكلم بها، لأن التكلم بإزالة التهمة عن الله تعالى يفيد إزالة التهمة عن الأم، لأن الله سبحانه لا يخص الفاجرة بولد في هذه الدرجة العالية والمرتبة العظيمة، وأما التكلم بإزالة التهمة عن الأم فلا يفيد إزالة التهمة عن الله تعالى فكان الاشتغال بذلك أولى » 43.
(ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ): فنطق عليه السلام أول ما نطق بغاية وجوده وكمال إنسانيته في عبوديته لله تعالى، وأجل نعم الله عليه الكتاب والنبوة، وهي اصطفاء خاصٌ، ومنزلة عظيمة، ومكانة عالية، لا تكون إلا لأشرف وأكرم وأطهر خلق الله، فنبوته عليه السلام دليل على براءة أمه، لأن الأنبياء من أطهر الناس نسبا، والمراد بالكتاب الإنجيل الذي أنزله الله عليه، أو التوراة التي علمه الله إياه.
(ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ) نفاعا حيث كنت، وقيل: معلما للخير، وقيل: ثابتا في الدين، صاحب عزم ويقين، وقيل: البركة هي الزيادة والعلو، فكأنه قال جعلني في جميع الأشياء غالبا موفقا إلى أن يكرمني الله بالرفع إلى السماء44، والمقصود من كلامه: باعتبار ما سيكون، إخبارٌ عما قدره الله تعالى له، فهو في حكم الواقع المحقق لأنه سيقع بإذن الله 45.
(ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) أي: أوصاه بها حين يقدر على القيام بها، والصلاة والزكاة لا تجب إلا بعد البلوغ، وإن كانت تصح قبل ذلك، فأوصاني بالقيام بحقوقه التي من أعظمها الصلاة وحقوق عباده التي من أجلها الزكاة، مدة حياتي في هذه الدنيا أي فأنا ممتثل لوصية ربى، عامل عليها منفذ لها.
(ﮞ ﮟ) أي: جعلني المولى عز وجل بارًا بأمي، رفيقًا بها، محسنًا إليها، وفى ذلك بيان لنزاهتها وبراءتها من افتراء اليهود عليها، واستحقاقها للبر والإحسان، وردٌ على ما جاء في الأناجيل من ادعاء جفوته وغلظته في معاملتها وتنكره لها ونفوره منها.
(ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ) أي: ولم يجعلني متجبرًا متكبرًا على الحق والخلق بل جعلني برًا رحيمًا، عطوفًا كريمًا، متواضعًا للحق، مطيعًا لأوامر الله عز وجل.
وبهذه الصفات التي تحلى بها عيسى عليه السلام استحق السعادة في الدنيا والآخرة واستحق السلام من المولى عز وجل في الدنيا والآخرة.
(ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ) ومروره بهذه الأطوار، وتقلبه في هذه الأدوار ميلاد ثم ممات ثم بعث: دليل على حدوثه وبشريته، فالإله لا يتغير ولا يتحول، والإله الحق لا يفتقر لغيره، ولا يحتاج إلى من سواه.
زعم بعض أهل العلم أن مريم عليها السلام نبية من الأنبياء، لأن الله عز وجل أوحى إليها، ومن الذين قالوا بهذا: الإمام ابن حزم الظاهري الأندلسي، الذي عقد فصلا في كتابه الفصل بعنوان (نبوءة النساء): ادعى فيه ثبوت نبوءة النساء ومن كلامه في ذلك: « جاء في القرآن أن الله عز وجل قد أرسل ملائكة إلى نساء فأخبروهن بوحي حق من الله تعالى، من ذلك تبشير الملائكة لأم إسحاق به.
قال عز وجل: (ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ) [هود: ٧١].
فهذا خطاب من ملك لغير نبي بوجه من الوجوه، ووجدناه تعالى قد أرسل جبريل إلى مريم عليها السلام فخاطبها وقال لها: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [مريم: ١٩].
فهذه نبوة صحيحة بوحي صحيح، ورسالة من الله تعالى إليها، وهكذا أم موسى أوحى الله تعالى إليها أن تلقي موسى في اليم، وأنه سوف يعيده، ويجعل له شأنًا.
قال تعالى: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) [القصص: ٧]» 46.
ومن القائلين بنبوة مريم أيضا الإمام القرطبي في تفسيره حيث يقول: « والصحيح أن مريم نبية؛ لأن الله تعالى أوحى إليها بواسطة ملك، كما أوحى إلى سائر الأنبياء»47.
وقال القرطبي إن مريم أفضل النساء على الإطلاق؛ لأنها نبية والنبي أفضل من الولي، فهي أفضل من كل النساء: الأولين والآخرين مطلقًا 48.
وقال أيضًا: ومن قال لم تكن نبية قال: إن رؤيتها للملك كما رؤي جبريل عليه السلام في صورة بشرية حين سؤاله عن الإسلام والإيمان ولم تكن الصحابة بذلك أنبياء. والأول أظهر، وعليه الأكثر. والله أعلم 49.
وقال في تفسير قوله تعالى (ﯝ ﯞ) « يجوز أن تكون صديقة مع كونها نبية كإدريس عليه السلام» 50.
والصحيح في هذه المسألة أن مريم عليها السلام ليست نبية وإنما هي صديقة، والدليل على ذلك ما يلي:
ضلال بعض طوائف النصارى في مريم
بلغ غلو بعض طوائف النصارى في مريم إلى عبادتها والاستغاثة بها والتوسل بها والصلاة لها.
يقول ول ديورانت: « كانت تشير عبادة مريم العذراء في العصور الوسطى إلى ما كان لها من التبجيل وقتذاك » 51.
وفي موضع آخر يقول: بل إن العابد التقي في بلاد البحر الأبيض المتوسط في هذه الأيام يلجأ إلى مريم أكثر مما يلجأ إلى الأب أو الإبن 52.
وفي موضع آخر يذكر « ذلك أن سيريل كبير أساقفة الإسكندرية وصف في موعظة له شهيرة ألقاها في إفسس عام ٤٣١، مريم بكثير من العبارات التي كان الوثنيون من أهل تلك المدينة يصفون بها «إلهتهم الكبرى» أرتميس - ديانا دلالة على حبهم إياها »53.
وقد بين القرآن الكريم أنها عابدةٌ قانتةٌ لله تعالى، مستسلمةٌ لقضائه راضيةٌ بحكمه، وأنها بلغت منازل الصديقين، بصدقها واجتهادها في العبادة.
قال تعالى في سورة المائدة: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ).
فالمسيح عليه السلام بشرٌ رسولٌ، لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، ولو أراد الله أن يهلكه وأمه ومن في الأرض جميعا فلا يملك أحدٌ من الخلق أمرًا، وكل ما في السموات والأرض ملكٌ لله تعالى وتحت قدرته تعالى، لا يقدر أحدٌ من المخلوقين أن يدفع عن نفسه ضرًا أراده الله، فضلا عن أن يدفع عن غيره ما حل به، وفي هذا ردٌ لمن زعم ألوهية مريم أو أضفى عليها شيئا من الخصائص أو الصفات الإلهية.
(ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [المائدة: ٧٥].
فبين الله تعالى القول الحق في المسيح عليه السلام وهو أنه بشرٌ رسول، ونسبته لمريم، لأنه لا أب له، ولو كان له أبٌ لنسب إليه، وإنما خلقه الله بلا أبٍ لحكمةٍ بالغةٍ، تدل على كمال قدرته تعالى، وبديع صنعه، وعيسى عليه السلام بشرٌ رسولٌ، شأنه شأن من سبقه من الرسل، أرسله الله على نهجهم وأقامه على سننهم، وأمه صديقةٌ عابدةٌ، كانا يأكلان الطعام، والحاجة للطعام والشراب غريزةٌ إنسانيةٌ، أما الإله فهو غنيٌ قويٌ، ليس كمثله شيء، فكيف يدعون أنه إله أو ابن إله ! فتأمل كيف يقيم الله الحجة عليهم من وجوهٍ عديدةٍ ثم هم يصرفون عن الحق، ويقلبون الحقائق ويقرون الأباطيل ! مع جلاء الآيات وتصريفها !
موضوعات ذات صلة: |
بنو إسرائيل، زكريا عليه السلام، عيسى عليه السلام، النساء |
1 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ١/٣٥٨.
2 المصدر السابق ١/٣٥٨.
3 البداية والنهاية ٢/٥٦.
4 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ١/٣٦٨، السيرة النبوية، ابن هشام ٢/١٥٨.
5 في ظلال القرآن ٤/٢٣٩٥.
6 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ١/٣٦٨.
7 مفاتيح الغيب، الرازي ٨/٢٦.
8 قصص الأنبياء، ابن كثير ص ٥٤٩.
9 قال القاسمي في محاسن التأويل ٤/٩١: قال المفسرون هي في لغتهم بمعنى العابدة، سمتها بذلك رجاء وتفاؤلا أن يكون فعلها مطابقا لاسمها.
وقال ابن حجر في فتح الباري ٦/٥٤١: (مريم) بالسريانية تعني: الخادم.
10 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٣/٢٣٤.
11 انظر: روح المعاني، الألوسي ٣/١٣٦.
12 محاسن التأويل، القاسمي ٤/٩٢.
13 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الشهادات، باب القرعة في المشكلات ٢/٩٥٣.
14 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٨/٤٣، روح البيان، إسماعيل حقي ١/٣٢، روح المعاني، الألوسي ٣/١٥٥، محاسن التأويل، القاسمي ٤/٩٦.
15 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٨/٤٣ روح المعاني، الألوسي ٣/١٥٥، محاسن التأويل، القاسمي ٤/٩٦.
16 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب المناقب، باب فضل خديجة، ٥/٦٦٠، رقم ٣٨٧٨. قال الترمذي: حديث صحيح.
17 مفاتيح الغيب، الرازي ٨/٤٤.
18 انظر: المفردات، الراغب ص ٤١٣.
19 روح المعاني، الألوسي ٣/١٥٨.
20 روح المعاني، الألوسي ٣/١٥٨.
21 روح البيان، إسماعيل حقي ٢/٣٤.
22 انظر: روح المعاني، الألوسي ٣/١٦٠.
23 الكشاف، الزمخشري ١/٣٦٣.
24 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٤/٨٨.
25 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ١/٣٦٣.
26 روح المعاني، الألوسي ٣/١٦٢.
27 مفاتيح الغيب، الرازي ٨/٥١.
28 انظر: روح المعاني، الألوسي ٣/١٦٣.
29 في ظلال القرآن ١/٣٩٨.
30 أي: ذو عقل وانتهاء عن فعل القبيح. انظر: قصص الأنبياء، ابن كثير ص ٥٦٢.
31 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/١١٥.
32 نظم الدرر، البقاعي ٤/٥٢٧.
33 أخرجه النسائي في سننه، كتاب الصلاة، باب فرض الصلاة، رقم ٤٤٦.
34 ذكره الزمخشري في الكشاف ٣/١١.
35 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/١١٦.
36 حاشية الجمل على الجلالين ٣/٥٧.
37 مفاتيح الغيب، الرازي ٢١/٢٠٤.
38 انظر: جامع البيان، الطبري ١٦/٥٤، زاد المسير، ابن الجوزي ٥/٢٢١، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/١٧، ومفاتيح الغيب، الرازي ٢١/٢٠٥.
39 أخرجه البخاري في صحيحه معلقًا، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله: (واذكر في الكتاب مريم)، ٤/١٦٥.
40 انظر: قصص الأنبياء، ابن كثير ص ٥٦٥.
41 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١١/٩٩.
42 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الآداب، باب النهي عن التكني بأبي القاسم، وبيان ما يستحب من الأسماء، رقم ٢١٣٥.
43 مفاتيح الغيب، الرازي ٢١/٢٠٩.
44 انظر: غرائب القرآن، النيسابوري ١٦/٥٣، مفاتيح الغيب، الرازي ٢١/٢١٤.
45 انظر: فتح القدير، الشوكاني ٣/٣٢١.
46 انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم ٥/١٧.
47 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٤/٨٣.
48 المصدر السابق.
49 المصدر السابق٤/٨٤.
50 المصدر السابق.
51 قصة الحضارة ١/٤٨٢.
52 المصدر السابق ١١/٤٥٣.
53 المصدر السابق ١٦/٤٤١.
54 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص١٢٨.
55 أدب الدنيا والدين، الماوردي ص ١٩٥.
56 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٤/٦٦.
57 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٣/٢٣٢.
58 الأساس في التفسير، سعيد حوى ٢/٧٦٢.
59 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: (واذكر في الكتاب مريم)،٤/١٦٥.
60 نظم الدرر ٢/٧٢.
61 المصدر السابق.
62 البحر المحيط ٢/٣٣٦.
63 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٤/٨٦.
64 شرح العقيدة الطحاوية، شرح ابن أبي العز ص٤٩٥.
65 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٤٩١.
66 المصدر السابق.
67 البحر المحيط ٦/١٣٢.
68 المحرر الوجيز، ابن عطية ٤/١٤.
69 روح المعاني، الألوسي ١٦/٨٩.