عناصر الموضوع

مفهوم الطيبات

الطّيّبات في الاستعمال القرآني

الألفاظ ذات الصلة

الحث على ابتغاء الطيب

صور الطيبات المعنوية

صور الطيبات الحسية

آثار ابتغاء الطيبات المعنوية

آثار ابتغاء الطيبات الحسية

الطيبات

مفهوم الطيبات

أولًا: المعنى اللغوي:

الطيب خلاف الخبيث، إلا أنه قد تتسع معانيه، فيقال: أرضٌ طيبة للتي تصلح للنبات، وريحٌ طيبة إذا كانت لينة ليست بشديدة، وطعمةٌ طيبة إذا كانت حلالًا، وامرأةٌ طيبة إذا كانت حصانًا عفيفة، وكلمةٌ طيبة إذا لم يكن فيها مكروه، وبلدةٌ طيبة، أي: آمنة كثيرة الخير، ونكهةٌ طيبة إذا لم يكن فيها نتن، وإن لم يكن فيها ريح طيبة كرائحة العود وغيرها، وطعامٌ طيب للذي يستلذ الآكل طعمه، والكلمة الطيبة: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله1.

والطّيّب: الحلال. والطيب: ما يتطيب به، وقد تطيب بالشيء، وطيب الثوب وطابه، والطيب من كل شيء: أفضله، واستطبناهم: سألناهم ماء عذبًا2.

وبهذا يتضح أن كلمة الطيب ليس لها معنى ثابت في الاصطلاح اللغوي، وإنما هي على حسب السياق الذي ترد فيه.

ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:

لا يوجد هناك تعريف اصطلاحي خاص بالطيب، ولكن تختلف دلالته الاصطلاحية بحسب المضاف إلى الطيب، فمثلًا الرزق الطيب هو الحلال3. وأصل الطّيّب: «ما تستلذّه الحواسّ، وما تستلذّه النّفس، والطّعام الطّيّب في الشّرع: ما كان متناولًا من حيث ما يجوز، ومن المكان الّذي يجوز، فإنّه متى كان كذلك كان طيّبًا عاجلًا وآجلًا لا يستوخم، وإلا فإنه -وإن كان طيّبًا عاجلًا- لم يطب آجلًا»4.

«وقال الحسن: الحلال الطّيّب: هو ما لا يسأل عنه يوم القيامة، وقال ابن عبّاسٍ: الحلال الّذي لا تبعة فيه في الدّنيا، ولا وبال في الآخرة، وقيل: الحلال ما يجوّزه المفتي، والطّيّب ما يشهد له القلب بالحلّ»5.

الطّيّبات في الاستعمال القرآني

وردت مادة (طيب) في القرآن بصيغ متعددة، بلغت(٥٠) مرة6.

والصيغ التي وردت عليها هي:

الصيغة

عدد المرات

المثال

الفعل الماضي

٣

( ) [النساء:٣]

المصدر

١

( ) [الرعد:٢٩]

الصفة المشبهة

٤٦

( ) [النساء:٢]

وقد أطلقت الطّيّبات في الاستعمال القرآني على عدة أمور، منها7:

الأول: الذكر والدعاء: ومنه قوله تعالى: ( ) [فاطر:١٠].

الثاني: الرزق: ومنه قوله تعالى: ( ) [الإسراء:٧٠]. يعني: جميع رزق بني آدم: الخبز والعسل والسمن، ونحوه من أطايب الطعام، وجعل رزقهم أطيب من رزق البهائم والدواب والطير.

الثالث: الحلال: ومنه قوله تعالى: ( ) [النساء:١٦٠].وقد كانت لهم حلالًا في التوراة.

الألفاظ ذات الصلة

الخبائث:

الخبائث لغةً:

جمع خبيث، قال ابن فارس: «الخاء والباء والثاء أصلٌ واحد يدلّ على خلاف الطّيّب. يقال خبيثٌ، أي ليس بطيّب. وأخبث، إذا كان أصحابه خبثاء. ومن ذلك التعوّذ من الخبيث المخبث. فالخبيث في نفسه، والمخبث الذي أصحابه وأعوانه خبثاء» 8.

الخبائث اصطلاحًا:

قال الراغب: «الخبث والخبيث: ما يكره رداءةً وخساسةً، محسوسًا كان أو معقولًا» 9.

الصلة بين الخبائث والطيبات:

لا شك أن العلاقة بينهما علاقة تضاد، فالطيب خلاف الخبيث، والخبيث خلاف الطيب.

الحلال:

الحلال لغةً:

الحلال ضد الحرام، وهو من: حلّ يحلّ حِلًّا، بالكسر. وأحلّه الله، وحلّله، واستحلّه: اتّخذه حلالًا، أو سأله أن يحلّه له10.

الحلال اصطلاحًا:

هو ما أطلق الشرع فعله، أو هو كل شيء لا يعاقب عليه باستعماله11.

الصلة بين الحلال والطيبات:

الطيب: ما هو طيب في ظاهر الشرع سواء كان طيبًا في الواقع أم لا، والحلال: ما هو حلال وطيب في الواقع لم تعرضه النجاسة والخباثة قطعًا، ولم تتناوله أيدي المتغلبة أصلًا12.

المحرمات:

المحرمات لغةً:

الحرام لغةً: الحرام من حرم، فالحاء والراء والميم أصل واحد، وجمع الحرام حرم، والحرام ضد الحلال، والحرام هو المنع والتشديد13.

المحرمات اصطلاحًا:

الحرام: هو ما طلب الشارع من المكلف تركه على وجه الإلزام، بحيث يعاقب فاعله ويثاب تاركه14.

الصلة بين المحرمات والطيبات:

واضحٌ أن هناك فرقًا شاسعًا بينهما، فكل منهما ضد الآخر.

الحث على ابتغاء الطيب

تنوعت أساليب القرآن على الحث على ابتغاء الطيب، وهذا ما سنتناوله فيما يأتي:

أولًا: أسلوب الطلب:

جاء الأمر في القرآن بابتغاء الطيبات في الحياة الدنيا، وأكد ربنا سبحانه وتعالى على ذلك في مواضع:

جاء الأمر بابتغاء الصعيد الطيب للتيمم.

فقال تعالى: ( ﯙﯚ ﯯﯰ ) [النساء: ٤٣].

وقال تعالى: ( ﭦﭧ ﭿ ﮀﮁ ) [المائدة: ٦].

ففي آية سورة النساء، يعني سبحانه: وإن كنتم جرحى أو بكم قروح أو كسر، أو علة لا تقدرون معها على الاغتسال من الجنابة، وأنتم مقيمون غير مسافرين، أو إن كنتم مسافرين وأنتم أصحاء جنب، أو جاء أحد منكم من الغائط، قد قضى حاجته وهو مسافر صحيح، أو لامستم النساء (وهو مختلف في تأويله بين الجماع أو مجرد اللمس) فطلبتم الماء لتتطهروا به فلم تجدوه بثمن ولا غير ثمن، فاقصدوا صعيدًا طيبًا لتتيمموا به. والصعيد: «هو وجه الأرض الخالية من النبات والغروس والبناء، المستوية» 15.

وقد أمر الله في آخر الآية بشكره على تصييره الصعيد طيبًا، وعلى نعمه.

قال الطبري: «وقوله: ( ) [المائدة: ٦]. فإنّه يقول: ويريد ربّكم مع تطهيركم من ذنوبكم بطاعتكم إيّاه فيما فرض عليكم من الوضوء والغسل إذا قمتم إلى الصّلاة بالماء إن وجدتموه، وتيمّمكم إذا لم تجدوه، أن يتمّ نعمته عليكم بإباحته لكم التّيمّم، وتصييره لكم الصّعيد الطّيّب طهورًا، رخصةً منه لكم في ذلك مع سائر نعمه الّتي أنعم بها عليكم أيّها المؤمنون ( ) [المائدة: ٦].

يقول: تشكرون اللّه على نعمه الّتي أنعمها عليكم بطاعتكم إيّاه فيما أمركم ونهاكم»16.

وجاء الأمر بأكل الطيب من الرزق.

أمر الله الرسل بذلك، فقال تعالى: ( ﮧﮨ ) [المؤمنون: ٥١].

وأمر الله المؤمنين بذلك، فقال تعالى: ( ﭿ ) [البقرة: ١٧٢].

وقال تعالى: ( ﮜﮝ ﮩﮪ ) [المائدة: ٨٧-٨٨].

وقال تعالى: ( ﯿ ﰁﰂ ﰄﰅ ) [الأنفال: ٦٩].

إن الله ينادي الذين آمنوا بالصفة التي تربطهم به سبحانه، وتوحي إليهم أن يتلقوا منه الشرائع، وأن يأخذوا عنه الحلال والحرام، ويذكرهم بما رزقهم، فهو وحده الرازق، ويبيح لهم الطيبات مما رزقهم فيشعرهم أنه لم يمنع عنهم طيبًا من الطيبات، وأنه إذا حرم عليهم شيئًا فلأنه غير طيب، لا لأنه يريد أن يحرمهم، ويضيق عليهم -وهو الذي أفاض عليهم الرزق ابتداء- ويوجههم للشكر إن كانوا يريدون أن يعبدوه وحده بلا شريك، فيوحي إليهم بأن الشكر عبادة وطاعة يرضاها الله من العباد، كل أولئك في آية واحدة قليلة الكلمات17.

يقول الرازي: «قوله: لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ اللّه لكم يحتمل وجوهًا:

أحدها: لا تعتقدوا تحريم ما أحلّ اللّه تعالى لكم.

وثانيها: لا تظهروا باللّسان تحريم ما أحلّه اللّه لكم.

وثالثها: لا تجتنبوا عنها اجتنابًا شبيه الاجتناب من المحرّمات، فهذه الوجوه الثّلاثة محمولةٌ على الاعتقاد والقول والعمل.

ورابعها: لا تحرّموا على غيركم بالفتوى.

وخامسها: لا تلتزموا تحريمها بنذرٍ أو يمينٍ، ونظير هذه الآية قوله تعالى: ( ) [التحريم: ١].

وسادسها: أن يخلط المغصوب بالمملوك خلطًا لا يمكنه التّمييز، وحينئذٍ يحرم الكلّ، فذلك الخلط سببٌ لتحريم ما كان حلالًا له، وكذلك القول فيما إذا خلط النّجس بالطّاهر.

والآية محتملةٌ لكلّ هذه الوجوه، ولا يبعد حملها على الكلّ واللّه أعلم» 18.

وأمر الله بني إسرائيل بذلك، فقال تعالى: ( ﯨﯩ ﯮﯯ ﯱﯲ ﯳﯴ ) [البقرة: ٥٧].

وقال تعالى: ( ﭴﭵ ﭺﭻ ﭾﭿﮀﮁ) [الأعراف: ١٦٠].

وقال تعالى: ( ﭿ ﮌﮍ ) [طه: ٨٠-٨١].

وأمر الله الناس جميعًا بذلك، فقال تعالى: ( ﯲﯳ ) [البقرة: ١٦٨].

وقال تعالى: ( ) [النحل: ١١٤].

والمراد بالطّيّب هنا: ما تستطيبه النّفوس بالإدراك المستقيم السّليم من الشّذوذ، وهي النّفوس الّتي تشتهي الملائم الكامل أو الرّاجح بحيث لا يعود تناوله بضرٍّ جثمانيٍّ أو روحانيٍّ، وسيأتي معنى الطّيّب لغةً عند قوله تعالى: ( ) [المائدة: ٤].

وفي هذا الوصف معنًى عظيمٌ من الإيماء إلى قاعدة الحلال والحرام؛ فلذلك قال علماؤنا: «إنّ حكم الأشياء الّتي لم ينصّ الشّرع فيها بشيءٍ إن أصل المضارّ منها التّحريم، وأصل المنافع الحلّ، وهذا بالنّظر إلى ذات الشّيء، بقطع النّظر عن عوارضه، كتعلّق حقّ الغير به الموجب تحريمه؛ إذ التّحريم حينئذٍ حكمٌ للعارض لا للمعروض» 19.

كما جاء الأمر بإلقاء التحية الطيبة.

قال تعالى: ( ﯨﯩ ) [النور: ٦١].

يأمر سبحانه وتعالى إذا دخلتم بيوتًا، وهو عام يشمل بيت الإنسان وبيت غيره، سواء كان في البيت ساكن أم لا، فإذا دخلها الإنسان فليسلم بعضكم على بعض (وهذا هو المشهور في تفسيرها) ثم مدح هذا السلام، فقال: ( ) أي: سلامكم بقولكم: «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته» أو «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» إذ تدخلون البيوت (تحية من عند الله) قد شرعها لكم، وجعلها تحيتكم (مباركة) لاشتمالها على السلامة من النقص، وحصول الرحمة والبركة والنماء والزيادة (طيبة) لأنها من الكلم الطيب المحبوب عند الله، الذي فيه طيب نفس للمحيا، ومحبة وجلب مودة20.

ثانيًا: الثناء على الطيبين:

جاء الثناء من الله عز وجل في قرآنه على عباده الطيبين، فقال تعالى: ( ﯘﯙ ﯚﯛﯜ ) [النحل: ٣١-٣٢].

يقول تعالى ذكره: كذلك يجزي الله المتقين الذين تقبض أرواحهم ملائكة الله، وهم طيبون بتطييب الله إياهم بنظافة الإيمان، وطهر الإسلام في حال حياتهم وحال مماتهم.

فالملائكة تقبض أرواح هؤلاء، وهي تقول لهم: سلام عليكم صيروا إلى الجنة، بشارة من الله تبشرهم بها الملائكة.

وفي معنى طيّبين ستة أقوال:

أحدها: مؤمنين.

والثاني: طاهرين من الشرك.

والثالث: زاكية أفعالهم وأقوالهم.

والرابع: أن تكون وفاتهم طيبة سهلة لا صعوبة فيها ولا ألم، بخلاف ما تقبض به روح الكافر والمخلط.

والخامس: طيبة أنفسهم بالموت، ثقة بالثواب.

والسادس: طيبة نفوسهم بالرجوع إلى الله.

والآية هنا تحتمل كل هذه المعاني21.

هذا حال الطيبين عند مماتهم، أما عن حالهم في الآخرة فيقول سبحانه وتعالى: ( ﯕﯖ ﯚﯛﯜ ) [الزمر: ٧٣].

وسيق الذين اتقوا ربهم بتوحيده، والعمل بطاعته، سوق إكرام وإعزاز، يحشرون وفدًا على النجائب إلى الجنة زمرًا، فرحين مستبشرين، كل زمرة مع الزمرة التي تناسب عملها وتشاكله، حتى إذا وصلوا لتلك الرحاب الرحيبة، والمنازل الأنيقة، وهبّ عليهم ريحها ونسيمها، وآن خلودها ونعيمها، وفتحت لهم أبوابها فتح إكرام، لكرام الخلق، ليكرموا فيها، وقال لهم خزنتها تهنئة لهم وترحيبًا: سلام عليكم من كل آفة وشر حال، طابت قلوبكم بمعرفة الله ومحبته وخشيته، وألسنتكم بذكره، وجوارحكم بطاعته، فبسبب طيبكم ادخلوها خالدين؛ لأنها الدار الطيبة، ولا يليق بها إلا الطيبون22.

وفي قوله تعالى: () خمسة أقوال:

أحدها: أنهم إذا انتهوا إلى باب الجنة وجدوا عند بابها شجرة يخرج من تحت ساقها عينان، فيشربون من إحداهما، فلا يبقى في بطونهم أذى ولا قذى إلا خرج، ويغتسلون من الأخرى، فلا تغبر جلودهم، ولا تشعث أشعارهم أبدًا، حتى إذا انتهوا إلى باب الجنة، قال لهم عند ذلك خزنتها: ( ﯥﯦ) رواه عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه 23.

والثاني: طاب لكم المقام، قاله ابن عباس.

والثالث: طبتم بطاعة الله، قاله مجاهد.

والرابع: أنهم طيبوا قبل دخول الجنة بالمغفرة، واقتص من بعضهم لبعض، فلما هذبوا قالت لهم الخزنة: طبتم، قاله قتادة.

والخامس: كنتم طيبين في الدنيا، قاله الزجاج.

وفي هذه الآية أيضًا كل هذه المعاني محتملة24.

ثالثًا: امتنان الله على عباده بالطيبات:

امتن الله عز وجل على عباده في القرآن أن رزقهم بالطيبات، وأحلها لهم:

امتن الله على الناس جميعًا بذلك.

قال تعالى: ( ﰏﰐ ) [النحل: ٧٢].

وقال تعالى: ( ﮞﮟ) [الإسراء: ٧٠].

يقول الرازي: «قوله: (ﮗ ﮘ ﮙ) وذلك؛ لأنّ الأغذية، إمّا حيوانيّةٌ، وإمّا نباتيّةٌ، وكلا القسمين إنّما يتغذّى الإنسان منه بألطف أنواعها، وأشرف أقسامها بعد التّنقية التّامّة، والطّبخ الكامل، والنّضج البالغ؛ وذلك ممّا لا يحصل إلّا للإنسان» 25.

وقال ابن كثير: «أي: من زروعٍ وثمارٍ، ولحومٍ وألبانٍ، من سائر أنواع الطّعوم والألوان، المشتهاة اللّذيذة، والمناظر الحسنة، والملابس الرّفيعة من سائر الأنواع، على اختلاف أصنافها وألوانها وأشكالها، ممّا يصنعونه لأنفسهم، ويجلبه إليهم غيرهم من أقطار الأقاليم والنّواحي» 26.

وقال تعالى: ( ﮥﮦ ﮩﮪ ) [غافر: ٦٤].

وامتن الله عز وجل على بني إسرائيل.

قال تعالى: ( ﮠﮡ ) [يونس: ٩٣].

وقال تعالى: ( ) [الجاثية: ١٦].

قال الطاهر: «وأمّا رزقهم من الطّيّبات فبأن يسّر لهم امتلاك بلاد الشّام الّتي تفيض لبنًا وعسلًا كما في التّوراة في وعد إبراهيم والّتي تجبى إليها ثمرات الأرضين المجاورة لها، وترد عليها سلع الأمم المقابلة لها على سواحل البحر، فتزخر مراسيها بمختلف الطّعام واللّباس والفواكه والثّمار والزّخارف؛ وذلك بحسن موقع البلاد من بين المشرق برًّا والمغرب بحرًا، والطّيّبات: هي الّتي تطيب عند النّاس، وتحسن طعمًا ومنظرًا ونفعًا وزينةً» 27.

قال تعالى: ( ﭿ ﮑﮒ ﮜﮝ ) [الأعراف: ١٥٧].

وفي الطيبات أربعة أقوال:

أحدها: أنها الحلال، والمعنى: يحل لهم الحلال.

والثاني: أنها ما كانت العرب تستطيبه.

والثالث: أنها الشحوم المحرمة على بني إسرائيل.

والرابع: ما كانت العرب تحرمه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام28.

يقول الإمام ابن القيم: «( ) فهذا صريح في أن الحلال كان طيبًا قبل حله، وأن الخبيث كان خبيثًا قبل تحريمه، ولم يستفد طيب هذا وخبث هذا من نفس التحليل والتحريم لوجهين اثنين:

أحدهما: أن هذا علم من أعلام نبوته التي احتج الله بها على أهل الكتاب، فقال: ( ﭿ ) فلو كان الطيب والخبيث إنما استفيد من التحريم والتحليل لم يكن في ذلك دليل، فإنه بمنزلة أن يقال: يحل لهم ما يحل، ويحرم عليهم ما يحرم، وهذا أيضًا باطل، فإنه لا فائدة فيه وهو الوجه الثاني.

فثبت أنه أحل ما هو طيب في نفسه قبل الحل، فكساه بإحلاله طيبًا آخر، فصار منشأ طيبه من الوجهين معًا» 29.

ونقل ابن كثير أن بعض العلماء قال: «كلّ ما أحلّ اللّه تعالى فهو طيّبٌ نافعٌ في البدن والدّين، وكلّ ما حرّمه فهو خبيثٌ ضارٌّ في البدن والدّين» 30.

وقد بين الله الواجب علينا تجاه الطيبات التي امتن بها علينا.

أمر الله سبحانه وتعالى الصحابة أن يقابلوا فضله عليهم بالطيبات، بأن يحققوا شكرها، فقال تعالى: ( ) [الأنفال: ٢٦].

المقصود بالطيبات في هذه الآية قولان:

أحدهما: أنها الغنائم التي أحلها لهم، قاله السدي.

والثاني: أنها الخيرات التي مكنهم منها، ذكره الماوردي31.

وذكر أنه امتن عليهم بهذه النعم لشكره والقيام بعبادته.

وقال الطبري في تفسير قوله تعالى: ( ) يقول: «وأطعمكم غنيمتهم حلالًا طيّبًا ( ) يقول: لكي تشكروا على ما رزقكم، وأنعم به عليكم من ذلك وغيره من نعمه عندكم»32.

( ) فمن ذا الذي يتأمل هذه النقلة البعيدة، ثم لا يستجيب لصوت الحياة الآمنة القوية الغنية، صوت الرسول الأمين الكريم، ثم من ذا الذي لا يشكر الله على إيوائه ونصره وآلائه، وهذا المشهد وذلك معروضان عليه، ولكل منهما إيقاعه وإيحاؤه؟

على أن القوم إنما كانوا يعيشون هذا المشهد وذاك كانوا يذكرون بما يعرفون من حالهم في ماضيهم وحاضرهم، ومن ثم كان لهذا القرآن في حسهم ذلك المذاق33.

وقال الله تعالى: ( ﭿ ) [البقرة: ١٧٢].

قال الطبري: «( ) [البقرة: ٥٧].

يعني: أطعموا من حلال الرّزق الّذي أحللناه لكم، فطاب لكم بتحليلي إيّاه لكم ممّا كنتم تحرّمون أنتم ولم أكن حرّمته عليكم من المطاعم والمشارب.

( ) يقول: وأثنوا على اللّه بما هو أهله منكم على النّعم الّتي رزقكم، وطيّبها لكم.

( ) يقول: إن كنتم منقادين لأمره، سامعين مطيعين، فكلوا ممّا أباح لكم أكله وحلّله وطيّبه لكم، ودعوا في تحريمه خطوات الشّيطان» 34.

وقال تعالى: ( ) [النحل: ١١٤].

يقول الطبري: «يقول تعالى ذكره: فكلوا أيّها النّاس ممّا رزقكم اللّه من بهائم الأنعام الّتي أحلّها لكم حلالًا طيّبًا مذكّاةً غير محرّمةٍ عليكم.

( ) يقول: واشكروا اللّه على نعمه الّتي أنعم بها عليكم في تحليله ما أحلّ لكم من ذلك، وعلى غير ذلك من نعمه.

( ) يقول: إن كنتم تعبدون اللّه، فتطيعونه فيما يأمركم وينهاكم» 35.

والشكر يكون بالاعتراف بها بالقلب، والثناء على الله بها، وصرفها في طاعة الله36.

وإظهار اسم الجلالة في قوله: ( ) مع أنّ مقتضى الظّاهر الإضمار؛ لزيادة التّذكير 37.

صور الطيبات المعنوية

ذكر القرآن الكريم صورًا للطيبات المعنوية نبينها فيما يأتي:

أولًا: الاعتقاد:

أخبر سبحانه وتعالى أنه يختبر العباد ليتبين طيب القلب والاعتقاد من خبيثه، فقال تعالى: ( ﯗﯘ ﯥﯦ ﯩﯪ ) [آل عمران: ١٧٩].

يقول تعالى ذكره: يحشر اللّه هؤلاء الّذين كفروا بربّهم، وينفقون أموالهم للصّدّ عن سبيل اللّه إلى جهنّم؛ ليفرّق بينهم وهم أهل الخبث، كما قال وسمّاهم () وبين المؤمنين باللّه وبرسوله، وهم الطّيّبون، كما سمّاهم جلّ ثناؤه، فميّز جلّ ثناؤه بينهم بأن أسكن أهل الإيمان به وبرسوله جنّاته، وأنزل أهل الكفر ناره38.

ويقول الرازي: «ليميز اللّه الخبيث من الطّيّب، وفيه قولان:

القول الأول: ليميز اللّه الفريق الخبيث من الكفّار من الفريق الطّيّب من المؤمنين، فيجعل الفريق الخبيث بعضه على بعضٍ، فيركمه جميعًا، وهو عبارةٌ عن الجمع والضّمّ حتّى يتراكموا، كقوله تعالى: ( ) [الجن (١٩)].

يعني: لفرط ازدحامهم، فقوله: (أولئك) إشارةٌ إلى الفريق الخبيث.

والقول الثاني: المراد بالخبيث: نفقة الكافر على عداوة محمّدٍ، وبالطّيّب: نفقة المؤمن في جهاد الكفّار، كإنفاق أبي بكرٍ وعثمان في نصرة الرّسول عليه الصلاة والسلام، فيضمّ تعالى تلك الأمور الخبيثة بعضها إلى بعضٍ، فيلقيها في جهنّم، ويعذّبهم بها، كقوله تعالى: ( ) [التوبة: ٣٥]»39.

وفي آية أخرى يشير سبحانه إلى أنه وإن لم يفتضح ويتميز هؤلاء الذين يحملون خبيث الاعتقاد في الدنيا، ففي الآخرة لا بد أن يميز الله الخبيث من الطيب بأن يحشر هؤلاء الكافرون إلى النار ( ﮝﮞ ) [الأنفال: ٣٦-٣٧].

وفي معنى الآية ثلاثة أقوال: أحدها: «ليميز أهل السعادة من أهل الشقاء»، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقال السدي، ومقاتل: «يميز المؤمن من الكافر»، والثاني: «ليميز العمل الطيب من العمل الخبيث»، قاله أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما، والثالث «ليميز الإنفاق الطيب في سبيله، من الإنفاق الخبيث في سبيل الشيطان»، قاله ابن زيد والزجاج40.

قال ابن كثير: «وقوله تعالى: ( ) قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما في قوله: ( ) فيميز أهل السّعادة من أهل الشّقاء، وقال السّدّي: يميز المؤمن من الكافر، وهذا يحتمل أن يكون هذا التّمييز في الآخرة، كما قال تعالى: ( ﮏﮐ ) [يونس: ٢٨].

وقال تعالى: ( ) [الروم: ١٤].

وقال في الآية الأخرى: ( ) [الروم: ٤٣].

وقال تعالى: ( ) [يس: ٥٩].

ويحتمل أن يكون هذا التّمييز في الدّنيا، بما يظهر من أعمالهم للمؤمنين، وتكون (اللّام) معلّلةً لما جعل اللّه للكفّار من مالٍ ينفقون في الصّدّ عن سبيل اللّه، أي: إنّما أقدرناهم على ذلك ( ) أي: من يطيعه بقتال أعدائه الكافرين، أو يعصيه بالنّكول عن ذلك، كما قال تعالى: ( ﭝﭞ ﭧﭨ ) [آل عمران: ١٦٦-١٦٧].

وقال تعالى: ( ﯗﯘ ) [آل عمران (١٧٩)].

وقال تعالى: ( ) [آل عمران: ١٤٢].

ونظيرتها في براءة أيضًا.

فمعنى الآية على هذا: إنّما ابتليناكم بالكفّار يقاتلونكم، وأقدرناهم على إنفاق الأموال وبذلها في ذلك؛ ليتميّز الخبيث من الطّيّب، فيجعل الخبيث بعضه على بعضٍ () أي: يجمعه كلّه، وهو جمع الشّيء بعضه على بعضٍ، كما قال تعالى في السّحاب: ( ﯿ) [النور: ٤٣].

أي: متراكمًا متراكبًا ( ﮝﮞ ) أي: هؤلاء هم الخاسرون في الدّنيا والآخرة41.

ثانيًا: الأعمال:

أكد سبحانه أنه مهما ارتفع خبيث الأعمال، ومهما كثر فلا بد أن يخزيه الله، ويتميز أهل العمل الطيب.

قال تعالى: ( ﮥﮦ ) [المائدة: ١٠٠].

() للناس محذرًا عن الشر، ومرغبًا في الخير ( ) من كل شيء، فلا يستوي الإيمان والكفر، ولا الطاعة والمعصية، ولا أهل الجنة وأهل النار، ولا الأعمال الخبيثة والأعمال الطيبة، ولا المال الحرام بالمال الحلال.

( ) فإنه لا ينفع صاحبه شيئًا، بل يضره في دينه ودنياه.

( ) فأمر أولي الألباب، أي: أهل العقول الوافية، والآراء الكاملة، فإن الله تعالى يوجه إليهم الخطاب، وهم الذين يؤبه لهم، ويرجى أن يكون فيهم خير.

ثم أخبر أن الفلاح متوقف على التقوى التي هي موافقة الله في أمره ونهيه، فمن اتقاه أفلح كل الفلاح، ومن ترك تقواه حصل له الخسران، وفاتته الأرباح42.

وقال في الظلال: «ثم تختم الفقرة بميزان يقيمه الله للقيم؛ ليزن به المسلم ويحكم، ميزان يرجح فيه الطيب، ويشيل الخبيث؛ كي لا يخدع الخبيث المسلم بكثرته في أي وقت، وفي أي حال! ( ﮥﮦ ) [المائدة: ١٠٠].

إن المناسبة الحاضرة لذكر الخبيث والطيب في هذا السياق، هي مناسبة تفصيل الحرام والحلال في الصيد والطعام، والحرام خبيث، والحلال طيب، ولا يستوي الخبيث والطيب، ولو كانت كثرة الخبيث تغر وتعجب، ففي الطيب متاع بلا معقبات من ندم أو تلف، وبلا عقابيل43 من ألم أو مرض، وما في الخبيث من لذة إلا وفي الطيب مثلها على اعتدالٍ، وأمن من العاقبة في الدنيا والآخرة، والعقل حين يتخلص من الهوى بمخالطة التقوى له ورقاقة القلب له، يختار الطيب على الخبيث، فينتهي الأمر إلى الفلاح في الدنيا والآخرة ( )» 44.

ثالثًا: الأقوال:

ضرب الله عز وجل مثلًا للأقوال الطيبة والأقوال الخبيثة، فقال سبحانه: ( ﯿ ﭖﭗ ) [إبراهيم: ٢٤-٢٦].

يقول سبحانه: ألم تر كيف ضرب الله مثلًا كلمة طيبة، وهي شهادة أن لا إله إلا الله وفروعها، كشجرة طيبة، وهي النخلة، أصلها ثابت في الأرض، وفرعها منتشر في السماء، وهي كثيرة النفع دائمًا، تؤتي ثمرتها كل حين بإذن ربها، فكذلك شجرة الإيمان، أصلها ثابت في قلب المؤمن، علمًا واعتقادًا، وفرعها من الكلم الطيب، والعمل الصالح، والأخلاق المرضية، والآداب الحسنة، في السماء دائمًا يصعد إلى الله منه من الأعمال والأقوال التي تخرجها شجرة الإيمان ما ينتفع به المؤمن، وينفع غيره، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ما أمرهم به، ونهاهم عنه، فهذه صفة كلمة التوحيد وثباتها في قلب المؤمن.

ثم ذكر ضدها وهي كلمة الكفر وفروعها، فقال: ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة المأكل والمطعم، وهي: شجرة الحنظل ونحوها، اجتثت هذه الشجرة من فوق الأرض ما لها من ثبوت، فلا عروق تمسكها، ولا ثمرة صالحة تنتجها، بل إن وجد فيها ثمرة فهي ثمرة خبيثة؛ كذلك كلمة الكفر والمعاصي، ليس لها ثبوت نافع في القلب، ولا تثمر إلا كل قول خبيث وعمل خبيث، يستضر به صاحبه، ولا ينتفع، فلا يصعد إلى الله منه عمل صالح، ولا ينفع نفسه، ولا ينتفع به غيره45.

قال الإمام ابن القيم: «شبه سبحانه الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة؛ لأن الكلمة الطيبة تثمر العمل الصالح، والشجرة الطيبة تثمر الثمر النافع، وهذا ظاهر على قول جمهور المفسرين الذين يقولون: الكلمة الطيبة: هي شهادة أن لا إله إلا الله، فإنها تثمر جميع الأعمال الصالحة، الظاهرة والباطنة، فكل عمل صالح مُرْضٍ لله فهو ثمرة هذه الكلمة».

وفي تفسير علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كلمة طيبة: شهادة أن لا إله إلا الله، كشجرة طيبة وهو المؤمن، أصلها ثابت قول: لا إله إلا الله في قلب المؤمن، وفرعها في السّماء يقول: يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء».

وقال الربيع بن أنس: «كلمة طيبة: هذا مثل الإيمان، فإن الإيمان: الشجرة الطيبة، وأصلها الثابت الذي لا يزول: الإخلاص فيه، وفرعها في السماء: خشية الله، والتشبيه على هذا القول أصح وأظهر وأحسن، فإنه سبحانه شبه شجرة التوحيد في القلب بالشجرة الطيبة الثابتة الأصل، الباسقة الفرع في السماء علوًّا، التي لا تزال تؤتي ثمرتها كل حين».

وإذا تأملت هذا التشبيه رأيته مطابقًا لشجرة التوحيد الثابتة الراسخة في القلب التي فروعها من الأعمال الصالحة صاعدة إلى السماء، ولا تزال هذه الشجرة تثمر الأعمال الصالحة كل وقت، بحسب ثباتها في القلب، ومحبة القلب لها، وإخلاصه فيها، ومعرفته بحقيقتها، وقيامه بحقوقها، ومراعاتها حق رعايتها، فمن رسخت هذه الكلمة في قلبه بحقيقتها التي هي حقيقتها، واتصف قلبه بها، وانصبغ بها بصبغة الله التي لا أحسن صبغة منها، فعرف حقيقة إلهيته التي يثبتها قلبه لله، ويشهد بها لسانه، وتصدقها جوارحه، ونفي تلك الحقيقة ولوازمها عن كل ما سوى الله وواطأ قلبه لسانه في هذا النفي والإثبات، وانقادت جوارحه لمن شهد له بالوحدانية طائعة سالكة سبل ربه ذللًا غير ناكبة عنها، ولا باغية سواها بدلًا، كما لا يبتغي القلب سوى معبوده الحق بدلًا، فلا ريب أن هذه الكلمة من هذا القلب على هذا اللسان لا تزال تؤتي ثمرتها من العمل الصالح الصاعد إلى الله كل وقت، فهذه الكلمة الطيبة هي التي رفعت هذا العمل الصالح إلى الرب تعالى.

وهذه الكلمة الطيبة تثمر كلمًا كثيرًا طيبًا، يقارنه عمل صالح، فيرفع العمل الصالح الكلم الطيب، كما قال تعالى: ( ) [فاطر: ١٠].

فأخبر سبحانه أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب، وأخبر أن الكلمة الطيبة تثمر لقائلها عملًا صالحًا كل وقت.

والمقصود: أن كلمة التوحيد إذا شهد بها المؤمن عارفًا بمعناها وحقيقتها نفيًا وإثباتًا، ومتصفًا بموجبها، قائمًا قلبه ولسانه وجوارحه بشهادته.

فهذه الكلمة الطيبة هي التي رفعت هذا العمل من هذا الشاهد أصلها ثابت راسخ في قلبه، وفروعها متصلة بالسماء، وهي مخرجة ثمرتها كل وقت46.

هذه هي صفة المؤمن كما بينها رب العالمين، والذي بين لنا في آية أخرى أنه يهدي هذا المؤمن دومًا إلى كل قول طيب، ( ) [الحج: ٢٤].

وجائز أن يكون هذا في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا هو قول التوحيد، وشهادة الإخلاص، وأمّا في الآخرة كقوله: ( ﭿﮀ ) [يونس: ١٠].

فهو القول الطيب الذي هدوا إليه.

وقال بعضهم: «قوله: ( ) هو القرآن ( ) الإسلام وشرائعه».

وقال قتادة: «ألهموا التسبيح والتحميد كما ألهموا النفس».

وقال: «( )هو كل قول حسن» 47.

قال الإمام ابن كثير: «وقوله: ( ) كقوله: ( ﯬﯭ ) [إبراهيم: ٢٣].

وقوله: ( ﮡﮢ ) [الرعد: ٢٣- ٢٤].

وقوله: ( ﭿ ) [الواقعة: ٢٥-٢٦].

فهدوا إلى المكان الّذي يسمعون فيه الكلام الطّيّب ( ) [الفرقان: ٧٥].

لا كما يهان أهل النّار بالكلام الّذي يروّعون به، ويقرّعون به، يقال لهم: ( ) [الحج: ٢٢].

وقوله: ( ) أي: إلى المكان الّذي يحمدون فيه ربّهم، على ما أحسن إليهم، وأنعم به، وأسداه إليهم، كما جاء في الصّحيح أنّهم: (يلهمون التّسبيح والتّحميد، كما تلهمون النّفس) 48.

وقد قال بعض المفسّرين في قوله: ( ) أي: القرآن، وقيل: لا إله إلّا اللّه، وقيل: الأذكار المشروعة ( ) أي: الطّريق المستقيم في الدّنيا، وكلّ هذا لا ينافي ما ذكرناه، والله أعلم» 49.

وهذا القول الطيب الذي يهدي الله المؤمنين إليه هو الذي يرفع إلى الله عز وجل، ويقبله، ويثني على صاحبه.

( ﯬﯭ ﯳﯴ ) [فاطر: ١٠].

يقول تعالى ذكره: إلى الله يصعد ذكر العبد إياه وثناؤه عليه ( ) يقول: ويرفع ذكر العبد ربه إليه عمله الصالح، وهو العمل بطاعته، وأداء فرائضه، والانتهاء إلى ما أمر به.

وفي قوله تعالى: () ثلاثة أقوال:

أحدها: أنها ترجع إلى الكلم الطّيّب، فالمعنى: «والعمل الصالح يرفع الكلم الطّيّب»، قاله ابن عباس رضي الله عنهما، والحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك.

وكان الحسن يقول: «يعرض القول على الفعل، فإن وافق القول الفعل قبل، وإن خالف ردّ».

والثاني: «أنها ترجع إلى العمل الصالح، فالمعنى: والعمل الصالح يرفعه الكلم الطّيّب»، فهو عكس القول الأول، وبه قال أبو صالح، وشهر بن حوشب.

فإذا قلنا: إن الكلم الطّيّب هو التوحيد، كانت فائدة هذا القول أنه لا يقبل عملٌ صالح إلا من موحّد.

والثالث: أنها ترجع إلى الله عز وجل.

فالمعنى: «والعمل الصالح يرفعه الله إليه»، أي: يقبله، قاله قتادة50.

وورد عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما، قال: قوله: ( ) [فاطر: ١٠].

قال: «الكلام الطّيّب: ذكر اللّه، والعمل الصّالح: أداء فرائضه؛ فمن ذكر اللّه سبحانه في أداء فرائضه، حمل عليه ذكر اللّه فصعد به إلى اللّه، ومن ذكر اللّه ولم يؤدّ فرائضه، ردّ كلامه على عمله، فكان أولى به» 51.

يقول الرازي رحمه الله: «قوله: ( ) تقريرٌ لبيان العزّة؛ وذلك لأنّ الكفّار كانوا يقولون: نحن لا نعبد من لا نراه، ولا نحضر عنده؛ لأنّ البعد من الملك ذلّةٌ، فقال تعالى: إن كنتم لا تصلون إليه فهو يسمع كلامكم، ويقبل الطّيّب، فمن قبل كلامه، وصعد إليه فهو عزيزٌ، ومن ردّ كلامه في وجهه فهو ذليلٌ، وأمّا هذه الأصنام لا يتبيّن عندها الذّليل من العزيز؛ إذ لا علم لها، فكلّ أحدٍ يمسها، وكذلك يرى عملكم، فمن عمل صالحًا رفعه إليه، ومن عمل سيّئًا ردّه عليه، فالعزيز من الّذي عمله لوجهه، والذّليل من يدفع الّذي عمله في وجهه، وأمّا هذه الأصنام فلا تعلم شيئًا، فلا عزيز يرفع عندها، ولا ذليل، فلا عزّة بها، بل عليها ذلّةٌ؛ وذلك لأنّ ذلّة السّيّد ذلّةٌ للعبد، ومن كان معبوده وربّه وإلهه حجارةً أو خشبًا ماذا يكون هو؟!

وفي قوله: ( ) وجوهٌ، أحدها: كلمة لا إله إلّا اللّه هي الطّيّبة، وثانيها: سبحان اللّه، والحمد للّه، ولا إله إلّا اللّه، واللّه أكبر طيّبٌ، ثالثها: هذه الكلمات الأربع، وخامسةٌ وهي تبارك اللّه، والمختار: أنّ كلّ كلامٍ هو ذكر اللّه، أو هو للّه كالنّصيحة والعلم فهو إليه يصعد52.

صور الطيبات الحسية

ذكر القرآن الكريم صورًا للطيبات الحسية نبينها فيما يأتي:

أولًا: المطعومات:

لقد بَيَّنَ الحق سبحانه وتعالى أنه أحل لنا من المطعومات الطيبات فقط، فقال سبحانه: ( ﮗﮘ ﮜﮝ ﮦﮧ ﮯﮰ ﯓﯔ ﯝﯞ ﯧﯨ ﯻﯼ ﯿ ) [المائدة: ٤-٥].

يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( ) من الأطعمة؟ ( ) وهي كل ما فيه نفع أو لذة، من غير ضرر بالبدن ولا بالعقل، فدخل في ذلك جميع الحبوب والثمار التي في القرى والبراري، ودخل في ذلك جميع حيوانات البحر وجميع حيوانات البر، إلا ما استثناه الشارع، كالسباع والخبائث منها.

ولهذا دلت الآية بمفهومها على تحريم الخبائث، كما صرح به في قوله تعالى: ( ) [الأعراف: ١٥٧].

أصل معنى الطيب معنى الطهارة والزكاء، والوقع الحسن في النفس عاجلًا وآجلًا، فالشيء المستلذ إذا كان وخمًا لا يسمى طيبًا؛ لأنه يعقب ألمًا أو ضرًّا؛ ولذلك كان طيب كل شيء: أن يكون من أحسن نوعه وأنفعه.

والطيبات هنا هي الحلال، وكل حرام فليس بطيب. وقيل: ما التذه آكله وشاربه، ولم يكن عليه فيه ضرر في الدنيا، ولا في الآخرة. وقيل: الطيبات الذبائح؛ لأنها طابت بالتذكية53.

لذلك بَيَّنَ سبحانه أن من رسالة النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحل للناس الطيبات بأمر من ربه جل وعلا ( ﭿ ) [الأعراف: ١٥٧].

ولهذا نهانا ربنا سبحانه وتعالى أن نحرم على أنفسنا هذه الطيبات، قال تعالى: ( ﮜﮝ ) [المائدة: ٨٧].

يقول تعالى: ( ) من المطاعم والمشارب، فإنها نعم أنعم الله بها عليكم، فاحمدوه إذ أحلها لكم، واشكروه ولا تردوا نعمته بكفرها، أو عدم قبولها، أو اعتقاد تحريمها، فتجمعون بذلك بين القول على الله بالكذب، وكفر النعمة، واعتقاد الحلال الطيب حرامًا خبيثًا، فإن هذا من الاعتداء.

والله قد نهى عن الاعتداء فقال: ( ﮜﮝ ) بل يبغضهم ويمقتهم ويعاقبهم على ذلك.

والآية تردّ على المتقشفة؛ لأنه نهانا ألا نأكل طيبات ما أحل اللّه لنا، وهم يحرمون ذلك، ثم لا فرق بين تحريم ما أحل اللّه لنا من الطيبات، وتحليل ما حرم الله علينا من الخبائث، ثم يلزمهم أن يحرموا على أنفسهم التناول من الخبز والماء، وهما من أطيب الطيبات، ألا ترى أن المرء قد يمل ويسأم من غيرهما من الطيبات إذا كثر ذلك، ولا يمل ألبتّة من الخبز والماء، دل أنهما من أطيب الطيبات، إلا أن يمتنعوا من التناول من غيرهما، إيثارًا منهم غيرهم على أنفسهم لما يلحق القوم من المئونة في غيرهما من الطيبات، ولا يلحق في الخبز والماء؛ لأنهما موجودان، يجدهما كل أحد ولا يجد غيرهما من الطيبات، إلا من تصل مؤنة عظيمة، فإن كان تركهم التناول منها لهذا الوجه فإنه لا بأس54.

قال الطبري: «يقول تعالى ذكره: يا أيّها الّذين صدقوا اللّه ورسوله، وأقرّوا بما جاءهم به نبيّهم صلى الله عليه وسلم أنّه حقٌّ من عند اللّه ( ) [المائدة: ٨٧].

يعني بالطّيّبات: اللّذيذات الّتي تشتهيها النّفوس، وتميل إليها القلوب، فتمنعوها إيّاها، كالّذي فعله القسّيسون والرّهبان، فحرّموا على أنفسهم النّساء والمطاعم الطّيّبة، والمشارب اللّذيذة، وحبس في الصّوامع بعضهم أنفسهم، وساح في الأرض بعضهم.

يقول تعالى ذكره: فلا تفعلوا أيّها المؤمنون كما فعل أولئك، ولا تعتدوا حدّ اللّه الّذي حدّ لكم فيما أحلّ لكم، وفيما حرّم عليكم، فتجاوزوا حدّه الّذي حدّه، فتخالفوا بذلك طاعته، فإنّ اللّه لا يحبّ من اعتدى حدّه الّذي حدّه لخلقه فيما أحلّ لهم وحرّم عليهم» 55.

وقال سبحانه: ( ﭭﭮ ﭸﭹ ) [الأعراف: ٣٢].

يقول تعالى منكرًا على من تعنت، وحرم ما أحل الله من الطيبات: ( ) من أنواع اللباس على اختلاف أصنافه، والطيبات من الرزق، من مأكل ومشرب بجميع أنواعه، أي: من هذا الذي يقدم على تحريم ما أنعم الله بها على العباد، ومن ذا الذي يضيّق عليهم ما وسعّه الله؟

وهذا التوسيع من الله لعباده بالطيبات جعله لهم ليستعينوا به على عبادته، فلم يبحه إلا لعباده المؤمنين؛ ولهذا قال: ( ) أي: لا تبعة عليهم فيها.

ومفهوم الآية: أن من لم يؤمن بالله، بل استعان بها على معاصيه، فإنها غير خالصة له ولا مباحة، بل يعاقب عليها وعلى التنعم بها، ويسأل عن النعيم يوم القيامة.

( ) أي: نوضحها ونبينها ( ) لأنهم الذين ينتفعون بما فصله الله من الآيات، ويعلمون أنها من عند الله، فيعقلونها ويفهمونها56.

ولهذا أمر الله عز وجل بالأكل من الطيبات:

أمر الله الرسل بذلك، فقال تعالى: ( ﮧﮨ ) [المؤمنون: ٥١].

وأمر الله المؤمنين بذلك، فقال تعالى: ( ﭿ ) [البقرة: ١٧٢].

وقال تعالى: ( ﮩﮪ ) [المائدة: ٨٨].

وأمر الله بني إسرائيل بذلك، فقال تعالى: ( ﯨﯩ ﯮﯯ ) [البقرة: ٥٧].

وقال تعالى: ( ﭴﭵ ﭺﭻ ﭿ ) [الأعراف: ١٦٠].

وقال تعالى: ( ﭿ ﮌﮍ ) [طه: ٨٠-٨١].

وأمر الله الناس جميعًا بذلك، فقال تعالى: ( ﯲﯳ ) [البقرة: ١٦٨].

يبين الله تعالى هنا أنه الرازق لعباده، وأنه هو الذي يشرع لهم الحلال والحرام، وهذا فرع عن وحدانية الألوهية -كما أسلفنا- فالجهة التي تخلق وترزق هي التي تشرع فتحرم وتحلل، وهكذا يرتبط التشريع بالعقيدة بلا فكاك.

وهنا يبيح الله للناس جميعًا أن يأكلوا مما رزقهم في الأرض حلالًا طيبًا -إلا ما شرع عليهم حرمته وهو المبين فيما بعد- وأن يتلقوا منه هو الأمر في الحل والحرمة، وألا يتبعوا الشيطان في شيء من هذا؛ لأنه عدوهم، ومن ثم فهو لا يأمرهم بخير، إنما يأمرهم بالسوء من التصور والفعل، ويأمرهم بأن يحللوا ويحرموا من عند أنفسهم، دون أمر من الله، مع الزعم بأن هذا الذي يقولونه هو شريعة الله، كما كان اليهود مثلًا يصنعون، وكما كان مشركو قريش يدعون.

قال تعالى: ( ﯲﯳ ﯿ ) [البقرة: ١٦٨-١٦٩].

وهذا الأمر بالإباحة والحل لما في الأرض -إلا المحظور القليل الذي ينص عليه القرآن نصًّا- يمثل طلاقة هذه العقيدة، وتجاوبها مع فطرة الكون، وفطرة الناس، فالله خلق ما في الأرض للإنسان، ومن ثم جعله له حلالًا، لا يقيده إلا أمر خاص بالحظر، وإلا تجاوز دائرة الاعتدال والقصد.

ولكن الأمر في عمومه أمر طلاقة واستمتاع بطيبات الحياة، واستجابة للفطرة بلا كزازة57 ولا حرج ولا تضييق، كل أولئك بشرط واحد هو أن يتلقى الناس ما يحل لهم وما يحرم عليهم من الجهة التي ترزقهم هذا الرزق، لا من إيحاء الشيطان الذي لا يوحي بخير؛ لأنه عدو للناس بين العداوة، لا يأمرهم إلا بالسوء وبالفحشاء، وإلا بالتجديف على الله، والافتراء عليه، دون تثبت ولا يقين 58.

وقال تعالى: ( ) [النحل: ١١٤].

في المقابل: يبين سبحانه أن هذه الطيبات حرمها الله عز وجل على بني إسرائيل بسبب ظلمهم وطغيانهم ( ) [النساء: ١٦٠].

يخبر تعالى أنه حرم على أهل الكتاب كثيرًا من الطيبات التي كانت حلالًا عليهم، وهذا تحريم عقوبة بسبب ظلمهم واعتدائهم، وصدهم الناس عن سبيل الله، ومنعهم إياهم من الهدى، وبأخذهم الربا وقد نهوا عنه، فمنعوا المحتاجين ممن يبايعونه عن العدل، فعاقبهم الله من جنس فعلهم، فمنعهم من كثير من الطيبات التي كانوا بصدد حلها، لكونها طيبة، وأما التحريم الذي على هذه الأمة فإنه تحريم تنزيه لهم عن الخبائث التي تضرهم في دينهم ودنياهم59.

ثانيًا :الأموال:

جاء الحديث عن الأموال الطيبة في مواضع من القرآن:

أمر الله عز وجل الصحابة أن يتمتعوا بالأموال التي غنموها، والتي أحلها الله عز وجل، وجعلها طيبة لهم بعد أن كانت محرمة على الأمم السابقة.

فقال تعالى: ( ﯿ ﰁﰂ ﰄﰅ ) [الأنفال: ٦٩].

يقول تعالى ذكره للمؤمنين من أهل بدر: فكلوا أيها المؤمنون مما غنمتم من أموال المشركين حلالًا بإحلاله لكم طيبًا، وخافوا الله أن تعودوا، أن تفعلوا في دينكم شيئًا بعد هذه من قبل أن يعهد فيه إليكم، كما فعلتم في أخذ الفداء، وأكل الغنيمة، وأخذتموهما من قبل أن يحلا لكم، إن الله غفور رحيم.

قال بعضهم: «قوله: ( )واحد، كل حلال طيب، وكل حرام خبيث، وإنما يطيب إذا حل، ويخبث إذا حرم، ولكن يحتمل قوله: () بالشرع، () في الطبع، وكذلك الحرام هو حرام بالشرع، وخبيث بالطبع، وإنما يتكلم بالحل والحرمة من جهة الشرع، والطيب والخبيث بالطبع.

والطيب: هو الذي يتلذذ به ولا تبعة فيه؛ لأن خوف التبعة ينغص عليه، ويذهب بطيبه ولذته. وجائز ما ذكر من الطيب -ها هنا- لما أن أهل الشرك كانوا يأخذون الأموال ويجمعونها من وجه لا يحل، وبأسباب فاسدة، فيكرهون التناول منها إذا غنموها لتلك الأسباب الفاسدة، فطيب قلوبهم بقوله: () 60.

هذا عن الغنائم، كذلك مهر المرأة إذا تنازلت عنه يكون مالًا طيبًا ( ﮦﮧ ) [النساء: ٤].

لما كان كثير من الناس يظلمون النساء، ويهضمونهن حقوقهن، خصوصًا الصداق الذي يكون شيئًا كثيرًا، ودفعة واحدة، يشق دفعه للزوجة، أمرهم وحثهم على إيتاء النساء مهورهن عن طيب نفس، وحال طمأنينة، فلا تماطلوهن أو تبخسوا منه شيئًا.

فإن طبن لكم عن شيء من الصداق بأن سمحن لكم عن رضا واختيار بإسقاط شيء منه، أو تأخيره، أو المعاوضة عنه فلا حرج عليكم في ذلك ولا تبعة61.

هذا عن المال الطيب الذي يتحصل عليه الإنسان من طريق حلال، ومن هذه الطرق الحلال: الغنائم، وتنازل المرأة عن مهرها.

في المقابل يحذرنا سبحانه من المال الخبيث، وهو الذي يتحصل عليه الإنسان من طريق حرام، ومن ذلك: أكل مال اليتيم ( ﭲﭳ ﭷﭸ ﭽﭾ ﭿ ) [النساء: ٢].

أمر الرؤوف الرحيم عباده أن يحسنوا إلى اليتامى، وأن لا يقربوا أموالهم إلا بالتي هي أحسن، وأن يؤتوهم أموالهم إذا بلغوا ورشدوا كاملة موفرة، وأن لا يتبدلوا الخبيث الذي هو أكل مال اليتيم بغير حق بالطيب، وهو الحلال الذي ما فيه حرج ولا تبعة، ولا تأكلوا أموالهم مع أموالكم.

ففيه تنبيهٌ لقبح أكل مالهم بهذه الحالة التي قد استغنى بها الإنسان بما جعل الله له من الرزق في ماله، فمن تجرّأ على هذه الحالة فقد أتى إثمًا عظيمًا، ووزرًا جسيمًا.

ومن استبدال الخبيث بالطيب: أن يأخذ الولي من مال اليتيم النفيس، ويجعل بدله من ماله الخسيس62.

هذا عن ما يحصل عليه الإنسان من مال طيب وخبيث.

أما ما يخرجه الإنسان من مال صدقة لله عز وجل، فقد نهانا الله سبحانه أن نختار أخبث ما عندنا لنخرجه، وأمرنا أن نتصدق من أطيب الأموال، فقال: ( ﮟﮠ ﮫﮬ ) [البقرة: ٢٦٧].

يأمر تعالى عباده المؤمنين بالنفقة من طيبات ما يسر لهم من المكاسب، ومما أخرج لهم من الأرض، فكما منّ عليكم بتسهيل تحصيله، فأنفقوا منه شكرًا لله، وأداءً لبعض حقوق إخوانكم عليكم، وتطهيرًا لأموالكم، واقصدوا في تلك النفقة الطيب الذي تحبونه لأنفسكم، ولا تيمموا الرديء الذي لا ترغبونه، ولا تأخذونه إلا على وجه الإغماض والمسامحة.

( ) فهو غني عنكم، ونفع صدقاتكم وأعمالكم عائد إليكم، ومع هذا فهو حميد على ما يأمركم به من الأوامر الحميدة، والخصال السديدة، فعليكم أن تمتثلوا أوامره لأنها قوت القلوب، وحياة النفوس، ونعيم الأرواح.

وفي المراد بالطيب ها هنا قولان:

أحدهما: «أنه الجيّد الأنفس»، قاله ابن عباس رضي الله عنهما.

والثاني: «أنه الحلال»، قاله أبو معقل في آخرين63.

ثالثًا: الأزواج:

أساس اختيار الرجل لزوجته أن تكون المرأة من الطيبات، وأساس قبول المرأة للرجل أن يكون الرجل من الطيبين.

قال تعالى: ( ﯞﯟ ﯣﯤ ﯨﯩ ) [النور: ٢٦].

في معنى الخبيث والطيب أربعة أقوال:

أحدها: الكلمات الخبيثات لا يتكلم بها إلا الخبيث من الرجال والنساء، والكلمات الطيبات لا يتكلم بها إلا الطيبون من الرجال والنساء.

والثاني: الكلمات الخبيثات إنما تلصق بالخبيثين من الرجال والنساء، فأما الطيبات والطيبون فلا يصلح أن يقال في حقهم إلا الطيبات.

والثالث: الخبيثات من الأعمال للخبيثين من الناس، والخبيثون من الناس للخبيثات من الأعمال، وكذلك الطيبات.

والرابع: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال64.

والآية تحتمل كل هذه المعاني، لكن الآية واردة في وسط سياق تبرئة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في حادثة الإفك، فأقرب المعاني: هو أن يكون حديث الآية عن الطيب والخبيث من الرجال والنساء.

والمقصود بالطيبات من النساء: هي صاحبة الدين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تنكح النساء لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين، تربت يداك) 65.

يقول الطاهر: «والمراد بالخبث: خبث الصّفات الإنسانيّة كالفواحش، وكذلك المراد بالطّيّب: زكاء الصّفات الإنسانيّة من الفضائل المعروفة في البشر، فليس الكفر من الخبث، ولكنّه من متمّماته، وكذلك الإيمان من مكمّلات الطّيّب؛ فلذلك لم يكن كفر امرأة نوحٍ وامرأة لوط ناقصًا لعموم قوله: ( ) فإنّ المراد بقوله تعالى: ( ) [التحريم: ١٠].

أنّهما خانتا زوجيهما بإبطان الكفر، ويدلّ لذلك مقابلة حالهما بحال امرأة فرعون ( ) إلى قوله: ( ) [التحريم: ١١]» 66.

وقد أحل الله عز وجل للرجال أن يتزوجوا ما طاب لهم من النساء، فيجمعوا بين اثنين أو ثلاثة أو أربعة في وقت واحد إذا استطاعوا العدل بينهن.

قال عز وجل: ( ﮒﮓ ﮜﮝ ) [النساء: ٣].

أي: وإن خفتم ألا تعدلوا في يتامى النساء اللاتي تحت حجوركم وولايتكم، وخفتم أن لا تقوموا بحقهن لعدم محبتكم إياهن، فاعدلوا إلى غيرهن، وانكحوا ما طاب لكم، ووقع عليهن اختياركم من ذوات الدين.

وفي هذه الآية: أنه ينبغي للإنسان أن يختار قبل النكاح، بل وقد أباح له الشارع النظر إلى من يريد تزوجها؛ ليكون على بصيرة من أمره 67.

رابعًا: المسكن:

امتن الله عز وجل على أهل سبأ؛ لأنه رزقهم البلدة الطيبة، والمسكن الطيب.

قال تعالى: ( ﭖﭗ ﭛﭜ ﭢﭣ ) [سبأ: ١٥].

يقول تعالى ذكره: لقد كان لولد سبأ في مسكنهم علامة بينة، وحجة واضحة على أنه لا رب لهم إلا الذي أنعم عليهم النعم التي كانوا فيها، حيث آتاهم الله عز وجل بستانين كانا بين جبلين، عن يمين من أتاهما وشماله، ثم أمرهم سبحانه: كلوا من رزق ربكم الذي يرزقكم من هاتين الجنتين من زروعهما وأثمارهما، واشكروا له على ما أنعم به عليكم من رزقه ذلك.

ثم ابتدأ الخبر عن البلدة فقال: هذه بلدة طيبة، ورب غفور لذنوبكم إن أنتم أطعتموه.

يحتمل ما ذكر من طيبها: هو سعتها، وكثرة ريعها ومياهها وألوان ثمارها وفواكهها، وقيل: غير سبخة، وقيل: طيبة ليس فيها هوام لطيب هوائها، وقيل: طاهرة عن المؤذيات لا حية فيها ولا عقرب ولا وباء ولا وخم68.

ولقد ضرب الله عز وجل المثل في الدنيا بالمسكن الطيب والبلدة الطيبة.

قال تعالى: ( ﭖﭗ ﭝﭞ ) [الأعراف: ٥٨].

يقول سبحانه: والبلد الطيب، أي: طيب التربة والمادة إذا نزل عليه مطر يخرج نباته الذي هو مستعد له بإرادة الله ومشيئته، فليست الأسباب مستقلة بوجود الأشياء حتى يأذن الله بذلك 69.

هذا عن المسكن الطيب في الدنيا، أما في الآخرة فقد بشر الله عز وجل أهل الإيمان بالمساكن الطيبة في الجنة.

قال تعالى: ( ﯝﯞ ﯢﯣ ) [التوبة: ٧٢].

وقال تعالى: ( ﯪﯫ ) [الصف: ١٢].

والمساكن الطيبة الواردة في الآيتين تفسر بأنها مساكن قد زخرفت وحسنت، وأعدت لعباد الله المتقين، قد طاب مرآها، وطاب منزلها ومقيلها، وجمعت من آلات المساكن العالية ما لا يتمنى فوقه المتمنون، حتى إن الله تعالى قد أعد لهم غرفًا في غاية الصفاء والحسن، يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها.

فهذه المساكن الأنيقة التي حقيق بأن تسكن إليها النفوس، وتنزع إليها القلوب، وتشتاق لها الأرواح؛ لأنها في جنات عدن، أي: إقامة لا يظعنون عنها، ولا يتحولون منها70.

قال ابن كثير: «( ﯝﯞ ﯢﯣ ) [التوبة: ٧٢].

يخبر تعالى بما أعدّه للمؤمنين به والمؤمنات من الخيرات والنّعيم المقيم في ( ) أي: ماكثين فيها أبدًا، ( ) أي: حسنة البناء، طيّبة القرار.

كما قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (جنّتان من ذهبٍ آنيتهما وما فيهما، وجنّتان من فضّةٍ آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربّهم إلّا رداء الكبرياء على وجهه في جنّة عدنٍ) 71.

وبه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (إنّ للمؤمن في الجنّة لخيمة من لؤلؤةٍ واحدةٍ مجوّفة، طولها ستّون ميلًا في السّماء، للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم، لا يرى بعضهم بعضًا) 72.

وفي الصّحيحين أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (من آمن باللّه ورسوله، وأقام الصّلاة، وصام رمضان، فإنّ حقًّا على اللّه أن يدخله الجنّة، هاجر في سبيل اللّه، أو جلس في أرضه الّتي ولد فيها).

قالوا: يا رسول اللّه، أفلا نخبر النّاس؟

قال: (إنّ في الجنّة مائة درجةٍ، أعدّها اللّه للمجاهدين في سبيله، بين كلّ درجتين كما بين السّماء والأرض، فإذا سألتم اللّه فاسألوه الفردوس، فإنّه أعلى الجنّة، وأوسط الجنّة، ومنه تفجّر أنهار الجنّة، وفوقه عرش الرّحمن) 73» 74.

خامسًا: الذرية:

قال تعالى: ( ﭔﭕ ﭝﭞ ) [آل عمران: ٣٨].

عند رؤية زكريا ما رأى عند مريم من رزق الله الذي رزقها، وفضله الذي آتاها من غير تسبب أحد من الآدميين في ذلك لها، ومعاينته عندها الثمرة الرطبة التي لا تكون في حين رؤيته إياها عندها في الأرض؛ طمع بالولد، مع كبر سنه، من المرأة العاقر فرجا أن يرزقه الله منها الولد، مع الحال التي هما بها، كما رزق مريم على تخليها من الناس ما رزقها من ثمرة الصيف في الشتاء، وثمرة الشتاء في الصيف، وإن لم يكن مثله مما جرت بوجوده في مثل ذلك الحين العادات في الأرض، بل المعروف في الناس غير ذلك، كما أن ولادة العاقر غير الأمر الجارية به العادات في الناس، فرغب إلى الله جل ثناؤه في الولد، وسأله الذرية الطيبة، وهي المباركة طاهرة الأخلاق، طيبة الآداب، لتكمل النعمة الدينية والدنيوية بهم75.

من الآباء من أرّقهم عصيان وضياع أبناءهم، فتجدهم يبذلون الغالي والنفيس في سبيل استصلاحهم ودلالتهم على طرق الهدى، ومنهم من يتمنى أن يرزقه الله ذرية طيبة يأنس بهم في حياته، ويجتمع بهم في الجنة بعد مماته.

وحسبي من هذه اللفتة أن أشير إلى مفتاح عظيم من مفاتيح صلاح الذرية التي استعان بها الأنبياء بربهم لصلاح ذرياتهم: هو الدعاء، فزكريا عليه السلام يقول كما في كتاب ربنا عز وجل: ( ﭝﭞ ) [آل عمران: ٣٨].

وإبراهيم عليه السلام كان يقول: ( ) [الصافات: ١٠٠].

فاستجاب الله دعاءه ( ) [الصافات: ١٠١].

وكان يقول: ( ﯧﯨ ) [إبراهيم: ٤٠].

والتجأ إلى الله تعالى في موضع آخر في كتابه ( ) [إبراهيم: ٣٥].

وهذا منطلق لكل أب بأن يجعل أمر الدعاء لذريته ملازمًا له قبل الولادة أو بعدها؛ اقتداء بأنبياء الله.

إن من الأوصاف التي وصف الله بها عباده في سورة الفرقان: ( ) [الفرقان: ٧٤].

إن على الآباء أن يمسكوا بزمام الدعاء لذريتهم اقتداء بأنبيائهم، وأن يتفطنوا لخطورة الدعاء عليهم، فبعض الآباء والأمهات يدعون على أبناءهم باللعنة والمرض وعدم التوفيق، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم) 76.

سادسًا: الريح:

قال تعالى: ( ﭯﭰ ﭴﭵ ﭿ ﮂﮃ ﮆﮇﮈﮉ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ ) [يونس: ٢٢].

في الآية التي قبلها ذكر تعالى القاعدة العامة في أحوال الناس عند إصابة الرحمة لهم بعد الضراء، واليسر بعد العسر، ثم يذكر حالة تؤيد ذلك، وهي حالهم في البحر عند اشتداده، والخوف من عواقبه، فقال: هو الذي يسيركم في البر والبحر بما يسر لكم من الأسباب المسيرة لكم فيها، وهداكم إليها. حتى إذا كنتم في السفن البحرية، وجرين بهم بريح طيبة موافقة لما يهوونه، من غير انزعاج ولا مشقة.

وفرحوا بها، واطمأنوا إليها، فبينما هم كذلك إذ جاءتهم ريح عاصف شديدة الهبوب، وجاءهم الموج من كل مكان، وعرفوا أنه الهلاك، فانقطع حينئذٍ تعلقهم بالمخلوقين، وعرفوا أنه لا ينجيهم من هذه الشدة إلا الله وحده، فدعوه مخلصين له الدين، ووعدوا من أنفسهم على وجه الإلزام، فقالوا: لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين، فلما أنجاهم نسوا تلك الشدة وذلك الدعاء، وما ألزموه أنفسهم، فأشركوا بالله، من اعترفوا بأنه لا ينجيهم من الشدائد، ولا يدفع عنهم المضايق، فهلا أخلصوا لله العبادة في الرخاء، كما أخلصوها في الشدة؟!

والطيب: الموصوف بالطيب الشديد، وأصل معنى الطيب: الملاءمة فيما يراد من الشيء، ويقال: طاب له المقام في مكان كذا، ومنه سمي الشيء الذي له ريح وعرف طيبًا.

وكأنه سبحانه يتكلم هنا عن السفن الشراعية التي تسير بالهواء المتجمّع في أشرعتها، وإذا كان التقدم في صناعة السفن قد تعدّى الشراع، وانتقل إلى البخار، ثم الكهرباء، فإن كلمة الحق سبحانه: ( ) تستوعب كل مراحل الارتقاء، خصوصًا وأن كلمة (الريح) قد وردت في القرآن الكريم بمعنى القوة أيا كانت: من هواء، أو محرك يسير بأية طاقة77.

سابعًا: الحياة:

بشر الله عز وجل الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فقال: ( ﮔﮕ ) [النحل: ٩٧].

يقول تعالى ذكره: من عمل بطاعة الله، وأوفى بعهود الله إذا عاهد من ذكر أو أنثى من بني آدم، وهو مصدّق بثواب الله الذي وعد أهل طاعته على الطاعة، وبوعيد أهل معصيته على المعصية، فلنحيينه حياة طيبة، ويجزيهم أجرهم في الآخرة بأحسن ما كانوا يعملون78.

قال الطبري رحمه الله: «فلنحيينه حياة طيبة بالقناعة؛ وذلك أن من قنعه الله بما قسم له من رزق لم يكثر للدنيا تعبه، ولم يعظم فيها نصبه، ولم يتكدّر فيها عيشه باتباعه بغية ما فاته منها، وحرصه على ما لعله لا يدركه فيها.

وإنما كان ذلك أولى التأويلات في ذلك بالآية؛ لأن الله تعالى ذكره أوعد قومًا قبلها على معصيتهم إياه إن عصوه أذاقهم السوء في الدنيا، والعذاب في الآخرة، فقال تعالى: ( ) [النحل: ٩٤].

فهذا لهم في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب عظيم، فهذا لهم في الآخرة، ثم أتبع ذلك لمن أوفى بعهد الله وأطاعه»79.

إن الحياة الطيبة مطلب عظيم، وغاية نبيلة، بل هي مطلب كل الناس وغايتهم التي عنها يبحثون، وخلفها يركضون، وفي سبيلها يضحون ويبذلون، فما من إنسان في هذه الحياة إلا وتراه يسعى ويكدح ويضني نفسه ويجهدها كل ذلك بحثًا عن الحياة الطيبة، وطمعًا في الحصول عليها، والناس جميعًا على ذلك متفقون؛ ولكنهم يختلفون في سبل هذه الحياة الطيبة، وفي نوعها ومسالكها؛ وتبعًا لذلك فإنهم يختلفون في الوسائل والسبل التي توصلهم إلى هذه الحياة إن وصلوا إليها.

مختلفون على كافة مستوياتهم كانوا أممًا أو شعوبًا، أو مجتمعات صغيرة أو كبيرة، بل حتى الأسرة الواحدة تجد فيها ألوانًا شتى في فهم معنى الحياة الطيبة.

وللناس في كل زمان أفهام حول هذه الحياة الطيبة، وهم تبعًا لذلك أصناف، فمنهم من يرى الحياة الطيبة في كثرة المال وسعة الرزق، ومنهم من يراها في الولد أو في المنصب أو في الجاه.

لكن الله تعالى -ومن أصدق من الله حديثًا- قد حدد لنا مفهوم الحياة الطيبة، وسبيلها في كتابه الكريم، فقال: ( ﮔﮕ ) [النحل: ٩٧].

حياة طيبة في الدنيا، وهي قوله تعالى: ( ) ، وحياة طيبة في الآخرة، وهي معنى قوله تعالى: ( ).

فهذه الحياة الطيبة أساسها وقوامها على أمرين اثنين، أمرين عظيمين جليلين يسيرين على من يسرهما الله عليه:

الأمر الأول: الإيمان بالله تبارك وتعالى.

والأمر الثاني: عمل الصالحات وفق ما شرعه الله تبارك وتعالى، وما جاء عن رسوله 80. ولله در من قال 81:

يا متعب الجسم كم تسعى لخدمته

أتعبت جسمك فيما فيه خسران

أقبل على الروح واستكمل فضائلها

فأنت بالروح لا بالجسم إنسان

وقد يظن بعض الناس أن الحياة الطيبة في كثرة الأموال والأولاد والتفاخر بالمناصب والرتب؛ ولذا فهو يحاول الحصول على هذه الأشياء بما شرع وبما لم يشرع.

إن السعادة أن تعيش

لفكرة الحق التليد

لعقيدة كبرى تحل

قضية الكون العتيد

هذي العقيدة للسعيد

هي الأساس هي العمود

من عاش يحملها ويهتف

باسمها فهو السعيد82

فالحياة الطيبة هي التي يحقق المرء فيها السعادة الحقيقية، والتي يمثلها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافًى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنّما حيزت له الدّنيا بحذافيرها) 83.

وما السعادة في الدنيا لذي أمل

إنّ السعيد الذي ينجو من النار84

آثار ابتغاء الطيبات المعنوية

بين لنا ربنا سبحانه في القرآن بعضًا من آثار ابتغاء الطيبات المعنوية، ومن ذلك:

١. ابتغاء الطيبات سبب في القبول.

قال سبحانه: ( -) [الحج: ٢٤].

جائز أن يكون هذا في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا: هو قول التوحيد، وشهادة الإخلاص.

وأمّا في الآخرة كقوله تعالى: ( ﭿﮀ ) [يونس: ١٠].

فهو القول الطيب الذي هدوا إليه. و( ) هو كل قول حسن85.

وهذا القول الطيب الذي يهدي الله المؤمنين إليه هو الذي يرفع إلى الله عز وجل، ويقبله ويثني على صاحبه.

ويشير ربنا سبحانه وتعالى إلى هذا المعنى في آية أخرى، فيقول جل ثناؤه: ( ﯬﯭ ﯳﯴ ) [فاطر: ١٠].

٢. ابتغاء الطيبات سبب في الثبات والتوفيق.

قال سبحانه: ( ﯿ ﭖﭗ ) [إبراهيم: ٢٤-٢٦].

يقول سبحانه: ألم تر كيف ضرب الله مثلًا كلمة طيبة (وهي شهادة أن لا إله إلا الله وفروعها) كشجرة طيبة (وهي النخلة) أصلها ثابت في الأرض، وفرعها منتشر في السماء، وهي كثيرة النفع دائمًا، تؤتي ثمرتها كل حين بإذن ربها، فكذلك شجرة الإيمان، أصلها ثابت في قلب المؤمن، علمًا واعتقادًا، وفرعها من الكلم الطيب والعمل الصالح والأخلاق المرضية، والآداب الحسنة في السماء دائمًا يصعد إلى الله منه من الأعمال والأقوال التي تخرجها شجرة الإيمان ما ينتفع به المؤمن وينفع غيره، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ما أمرهم به ونهاهم عنه، فهذه صفة كلمة التوحيد وثباتها، في قلب المؤمن 86.

هذه هي صفة المؤمن الذي يبتغي الطيب ضرب الله عز وجل له مثلًا بالشجرة الثابتة الأركان والأصول.

معادلةٌ ربّانية يسيرة إن حقّقها العبد تحقّقت له الحياة الطيبة، هذه المعادلة هي وعده عز وجل بالحياة الطيبة لمن عمل صالحًا وهو مؤمن.

قال تعالى: ( ﮊﮋ ﮔﮕ ) [النحل: ٩٧].

فالآية الكريمة ذكرت طرفي المعادلة:

الطرف الأول: العمل الصالح والإيمان ( ﮊﮋ ) [النحل: ٩٧].

والطرف الثاني: الحياة الطيبة في الدنيا، بالإضافة إلى الجزاء الأخروي ( ﮔﮕ ) [النحل: ٩٧].

فالطرف الأول شرط لتحقّق الطرف الثاني، يقول ابن القيم في المدارج: «وقد جعل الله الحياة الطيبة لأهل معرفته ومحبته وعبادته.

فقال تعالى: ( ﮊﮋ ﮔﮕ ) [النحل: ٩٧]»87.

قال الشنقيطي في الأضواء في سياق تعليقه على الآية: «وفي الآية الكريمة قرينة تدلّ على أن المراد بالحياة الطيبة في الآية: حياته في الدنيا حياة طيّبة، وتلك القرينة هي أنّنا لو قدّرنا أن المراد بالحياة الطيبة حياته في الجنة في قوله: ( ) [النحل: ٩٧].

صار قوله: ( ) [النحل: ٩٧].

تكرارًا معه؛ لأنّ تلك الحياة الطيبة هي أجر عملهم، بخلاف ما لو قدّرنا أنها في الحياة الدنيا فإنه يصير المعنى: فلنحيينه في الدنيا حياة طيّبة، ولنجزينّه في الآخرة بأحسن ما كان يعمل، وهو واضح» 88.

آثار ابتغاء الطيبات الحسية

بين ربنا سبحانه وتعالى أن ابتغاء الطيبات سبب في المغفرة في الدنيا، ودخول الجنة في الآخرة.

قال سبحانه: ( ﯞﯟ ﯣﯤ ﯨﯩ ) [النور: ٢٦].

وقد سبق ذكر شيء من الآثار في المطلب السابق، ونقول:

إن الآثار الحسية والمعنوية لطلب الطيبات كثيرة معروفة، وهي متداخلة أيضًا.

يقول سيد قطب: «العمل الصالح مع الإيمان جزاؤه حياة طيبة في هذه الأرض.

لا يهم أن تكون ناعمة رغدة ثرية بالمال، فقد تكون به، وقد لا يكون معها.

وفي الحياة أشياء كثيرة غير المال الكثير تطيب بها الحياة في حدود الكفاية:

فيها الاتصال بالله، والثقة به، والاطمئنان إلى رعايته وستره ورضاه.

وفيها الصحة والهدوء، والرضا والبركة، وسكن البيوت، ومودات القلوب.

وفيها الفرح بالعمل الصالح وآثاره في الضمير، وآثاره في الحياة.

وليس المال إلا عنصرًا واحدًا يكفي منه القليل، حين يتصل القلب بما هو أعظم وأزكى وأبقى عند الله» 89.

موضوعات ذات صلة:

الأكل، الحرام، الحلال، الخبيث، الشرب، الطعام


1 انظر: الصحاح، الجوهري ١/١٧٣، مقاييس اللغة، ابن فارس ٣/٤٣٥، تاج العروس، الزبيدي ٣/٢٨١.

2 انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير ٣/١٤٨، لسان العرب، ابن منظور ١/٥٦٣.

3 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٥/١٩٠.

4 المفردات، الراغب الأصفهاني ص٥٢٧.

5 البحر المحيط، أبو حيان ٢/١٠٠.

6 انظر: المعجم المفهرس الشامل، عبد الله جلغوم، ص٧٢٧-٧٢٨.

7 انظر: الوجوه والنظائر، الدامغاني، ص٣٢٠-٣٢٢، نزهة الأعين النواظر، ابن الجوزي، ص٤١٨-٤١٩.

8 مقاييس اللغة، ٢/١٩٤.

9 المفردات، ص٢٧٢.

10 انظر: القاموس المحيط، الفيروزآبادي ص٩٨٦.

11 التعريفات، الجرجاني، ص٩٢.

12 الفروق اللغوية، العسكري، ص١٦٩.

13 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٢/٤٥.

14 انظر: علم أصول الفقه، عبد الوهاب خلاف ص١١٣.

15 انظر: جامع البيان، الطبري ٨/٤٠٨.

16 المصدر السابق ٨/٢١٨.

17 في ظلال القرآن، سيد قطب ١/١٥٦.

18 مفاتيح الغيب ١٢/٤١٧.

19 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢/١٠٢.

20 انظر: جامع البيان، الطبري ١٩/٢٧٢، تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٥٧٥.

21 انظر: جامع البيان، الطبري ١٧/١٩٨، زاد المسير، ابن الجوزي ٢/٥٥٨، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٠/١٠١.

22 تيسر الكريم الرحمن، السعدي ص٧٣٠.

23 أخرجه ابن المبارك في الزهد، ١/٥٠٨، رقم١٤٥٠، والطبري في تفسيره، ٢١/٣٣٩، والبيهقي في البعث والنشور، ص ١٧١، رقم٢٤٦ عن عاصم بن ضمرة عن علي.

24 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ٤/٢٨.

25 مفاتيح الغيب ٢١/٣٧٥.

26 تفسير القرآن العظيم، ٥/٩٧.

27 التحرير والتنوير ٢٥/٣٤٥.

28 زاد المسير، ابن الجوزي ٢/١٦٠.

29 التفسير القيم ص٢٨٩.

30 تفسير القرآن العظيم ٣/٤٨٨.

31 زاد المسير، ابن الجوزي ٢/٢٠٢.

32 جامع البيان، ١١/١١٧.

33 في ظلال القرآن، سيد قطب ٣/١٤٩٧.

34 جامع البيان، ٣/٥٣.

35 المصدر السابق ١٤/٣٨٧.

36 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٤٥١.

37 التحرير والتنوير ١٤/٣٠٩.

38 جامع البيان، الطبري ١١/١٧٥.

39 مفاتيح الغيب ١٥/٤٨٢.

40 زاد المسير، ابن الجوزي ٢/٢١٠.

41 تفسير القرآن العظيم، ٤/٥٤.

42 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٢٤٥.

43 العقبول: الشّديد من الأمور، وبقيّة العلّة، والعداوة والعشق، وما يخرج على الشّفة على أثر الحمى، جمعه عقابيل، والعقابيل الدّواهي.

انظر: المعجم الوسيط ٢/٦١٣.

44 في ظلال القرآن، سيد قطب ٢/٩٨٣.

45 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٤٢٤.

46 التفسير القيم ص٣٤٠.

47 انظر: جامع البيان، الطبري ١٦/٥٠٠، تأويلات أهل السنة، الماتريدي ٧/٤٠٣.

48 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في صفات الجنة وأهلها وتسبيحهم فيها بكرة وعشيًا، ٤/٢١٨٠، رقم ٢٨٣٥.

49 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٥/٤٠٨.

50 انظر: جامع البيان، الطبري ٢٠/٤٤٤، زاد المسير، ابن الجوزي ٣/٥٠٧.

51 جامع البيان، الطبري ١٩/٣٣٩.

52 مفاتيح الغيب ٢٦/٢٦٦.

53 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٦/٦٥، التحرير والتنوير، ابن عاشور ٦/١١١، تيسر الكريم الرحمن، السعدي ص٢٢١.

54 تأويلات أهل السنة، الماتريدي ٣/٥٧٥، تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٢٤٢.

55 جامع البيان ٨/٦٠٦.

56 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٢٨٧.

57 الكزازة والكزاز اليبس والانقباض.

انظر: المحكم، ابن سيده ٦/٦٤٤.

58 في ظلال القرآن، سيد قطب ١/١٥٥.

59 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ٢١٣.

60 انظر: جامع البيان، الطبري ١٤/٧٢، تأويلات أهل السنة، الماتريدي ٥/٢٦٤.

61 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص١٦٣.

62 المصدر السابق.

63 زاد المسير، ابن الجوزي ١/٢٤١، تيسير الكريم الرحمن، السعدي ١/١١٥.

64 زاد المسير، ابن الجوزي ٣/٢٨٧.

65 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب الأكفاء في الدين، ٧/٧، رقم ٥٠٩٠، ومسلم في صحيحه، كتاب الرضاع، باب استحباب نكاح ذات الدين، ٢/١٠٨٦، رقم ١٤٦٦.

66 التحرير والتنوير ١٨/١٩٥.

67 تيسر الكريم الرحمن، السعدي ص١٦٣.

68 انظر: جامع البيان، الطبري ٢٠/٣٧٥، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٤/٢٨٤.

69 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٢٩٢.

70 انظر المصدر السابق ص٣٤٣.

71 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: (ومن دونهما جنتان)، ٦/١٤٥، رقم ٤٨٧٨، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى، ١/١٦٣، رقم ١٨٠.

72 أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب قوله: (حور مقصورات في الخيام)، ٦/١٤٥، رقم ٤٨٧٩، ومسلم في صحيحه، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في صفة خيام الجنة وما للمؤمنين فيها من الأهلين، ٤/٢١٨٢، رقم ٢٨٣٨.

73 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب درجات المجاهدين في سبيل الله، يقال هذه سبيلي وهذا سبيلي، ٤/١٦، رقم ٢٧٩٠.

74 تفسير القرآن العظيم ٤/١٧٥.

75 انظر: جامع البيان، الطبري ٦/٣٥٩، تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص١٢٩.

76 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الزهد والرقائق، باب حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر، ٤/٢٣٠٤، رقم ٣٠٠٩.

77 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ١١/١٣٧، تيسر الكريم الرحمن، السعدي ص٣٦١، تفسير الشعراوي ١٠/٥٨٥١.

78 جامع البيان، الطبري ١٧/٢٨٩.

79 جامع البيان، ١٧/٢٩١.

80 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير، ٤/٢٢٩٥، رقم ٢٩٩٩.

81 البيتان لأبي الفتح البستي في ديوانه ص٨٣.

82 هذه أبيات من قصيدة السعادة، ليوسف القرضاوي، من ديوانه نفحات ولفحات ص١٠٥.

83 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب الزهد، باب منه، ٤/١٥٢، رقم ٢٣٤٦، وابن ماجه في سننه، كتاب الزهد، باب القناعة، ٢/١٣٨٧، رقم ٤١٤١.

وحسنه الألباني في صحيح الجامع ٢/١٠٤٤، رقم ٦٠٤٢.

84 البيت لجحدر بن معاوية العكلي.

انظر: منتهى الطلب من أشعار العرب، محمد بن المبارك البغداي ص ١١٣.

85 تأويلات أهل السنة، الماتريدي ٧/٤٠٣.

86 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٤٢٤.

87 مدارج السالكين ٣/٢٤٣.

88 أضواء البيان ٢/٤٤١.

89 في ظلال القرآن ٤/٢١٩٣.