عناصر الموضوع
الشمس
تدل مادة (ش م س) على تلونٍ وقلة استقرارٍ، وسميت الشمس بذلك؛ لأنها غير مستقرةٍ، فهي أبدًا متحركةٌ. ويقال: شَمُسَ يومنا، وأشمس، إذا اشتدت شمسه، والشموس من الدواب: الذي لا يكاد يستقر. يقال: شمس شماسًا1.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
قال الراغب: «الشمس يقال للقرصة، وللضوء المنتشر عنها»2.
وقيل: هو كوكب مضيء نهاري3.
و(الشمس) عند الفلكيين: النجم الأقرب إلى الأرض، حيث تدور حوله مع سائر كواكب المجموعة الشمسية4.
فالشمس: نجم مضيء في السماء يشع لنا حرارة وضياء.
وأصل مادتها في اللغة يدل على التلونٍ وقلة الاستقرارٍ، فالشمس سميت بذلك لحركتها الدائمة.
وردت مادة (شمس) في القرآن الكريم (٣٢) مرة5.
والصيغ التي وردت، هي:
الصيغة |
عدد المرات |
المثال |
اسم (معرفة) |
٣١ |
(ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ) [التكوير:١] |
اسم (نكرة) |
١ |
(ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ) [الإنسان:١٣] |
وجاءت الشمس في القرآن الكريم بمعناها اللغوي، وهو هذا النجم النهاري المضيء6.
القمر:
القمر لغةً:
القاف والميم والراء أصل صحيح يدل على بياض في شيء، ثم يفرع منه. من ذلك القمر الذي في السماء، وضوءه القمراء، وسمي قمرًا؛ لبياضه7.
القمر اصطلاحًا:
هو كوكب في السماء معتم.
وقيل: جرم سماوي صغير معتم يدور حول كوكب أكبر منه ويكون تابعًا له8.
الصلة بين القمر والشمس:
الشمس جسم مضيء، والقمر جسم معتم ونوره ليس نابع منه وإنما انعكاس عليه.
النجم:
النجم لغة:
قال ابن فارس: «النون والجيم والميم أصل صحيح يدل على طلوع وظهور، ونجم النجم: طلع، ونجم السن والقرن: طلعا. والنجم: الثريا، اسم لها»9. وفي الحديث: هذا إبان نجومه، أي: وقت ظهوره، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم، يقال: نجم النبت ينجم إذا طلع، وكل ما طلع وظهر فقد نجم»10.
مما سبق يمكن تعريف النجم لغة: هو كل شيء يظهر.
النجم اصطلاحًا:
قال الكفوي: «كل طالع فهو نجم، يقال: نجم السن، والقرن، والنبت إذا طلعت»11.
وقيل: «أحد الأجرام السماوية المضيئة بذاتها، ومواضعها النسبية في السماء ثابتة، وهو عبارة عن جسم كروي ضخم ولامع ومتماسك بفعل الجاذبية»12.
وعرفها الجغرافيون بأنها: أجرام سماوية تضيء بذاتها، وتنبعث منها الطاقات الحرارية والضوئية نتيجة؛ ما يحدث فيها من تفاعلات نووية 13.
الصلة بين النجم والشمس:
الشمس: مضيئة في النهار، بينما النجم مضيء في الليل.
الكوكب:
الكوكب لغةً:
من كب: الكاف والباء أصل صحيح يدل على جمع وتجمع، لا يشذ منه شيء، والكوكب يسمى كوكبًا من هذا القياس14.
والكوكب: واحد الكواكب، فالكوكب والكوكبة: النجم، وكوكب: اسم موضع15.
الكواكب اصطلاحًا:
قال الجرجاني: «الكواكب: أجسام بسيطة مركوزة في الأفلاك، كالفص في الخاتم، مضيئة بذواتها، إلا القمر»16، أو: «جرم سماوي يدور حول الشمس ويستضيء بضوئها، وأشهر الكواكب مرتبة على حسب قربها من الشمس: عطارد الزهرة الأرض المريخ المشتري زحل يورانس نبتون بلوتون»17.
الصلة بين الكوكب والشمس:
الشمس جرم سماوي مضيء، والكوكب جرم سماوي يدور حول الشمس ويستضئ بضوئها18.
اقترن ذكر الشمس بالقمر في أكثر المواضع لما بينهما من ترابط وتكامل، فالشمس هي محور المجموعة التي تنسب لها، والتي تضم مجموعة من الكواكب، تدور حولها مع تفاوت في سرعة الدوران واختلاف في مداراته، بينما القمر تابع للأرض، يدور حولها، ويعكس ضوء الشمس وجهه اللامع، فينير في المساء، والشمس آية النهار، والقمر آية الليل.
قال تعالى: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [الأنبياء: ٣٣].
وبين تعالى كونهما مسخرين لمنافع الناس ومصالحهم، قال تعالى: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ) [النحل: ١٢].
وأن حركتهما دائمة لا تتوقف إلى أن يأذن الله لهذا النظام بالزوال (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ) [إبراهيم: ٣٣ ].
فذكر تعالى أن الليل والنهار والشمس والقمر من خلق الله تعالى، مسخرةٌ بأمره من أجلنا، وأن الشمس والقمر يسبحان، واقتران الليل والنهار بهما واضح بين، كما في قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [الشمس: ١-٤].
والليل والنهار له ارتباطٌ بالشمس، فهي آية النهار، الظلام يحل بغروب الشمس، ويسفر الصبح بشروق الشمس، قال تعالى: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [يونس: ٥].
قال ابن القيم: «ومن تدبر أمر هذين النيرين العظيمين وجدهما من أعظم الآيات في خلقهما وجرمهما ونورهما وحركتهما على نهج واحد لا ينيان ولا يفتران، ولا يجري أحدهما في فلك صاحبه ولا يدخل عليه في سلطانه، ولا تدرك الشمس القمر ولا يجيء الليل قبل انقضاء النهار، بل لكل حركة مقدرة ونهج معين لا يشركه فيه الآخر، كما أن له تأثيرًا ومنفعة لا يشركه فيها الآخر، وذلك مما يدل من له أدنى عقل على أنه بتسخير مسخر وأمر آمر وتدبير مدبر بهرت حكمته العقول، وأحاط علمه بكل دقيق وجليل»19.
وغالبًا ما يتقدم ذكر الشمس على القمر، لكونها آية أعظم، ونورها ذاتي، بخلاف القمر، فإن نوره قبسٌ من نورها وانعكاس له، وهو تابع للأرض التي تتبعها مع غيرها من الكواكب، فكلاهما جزء من منظومة واحدة، خاضعان لسنن واحدة. (ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ)[ يس: ٤٠].
فجاء اقترانهما لبيان انتظام حركتهما ودوامها فلا تتوقف، بل تسير بحساب دقيق ونظام محكم لا يختل، قال تعالى: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ) [إبراهيم: ٣٣].
وقال تعالى: (ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [الرحمن: ٥].
كما جاء اقترانهما في سياق بيان مصيرهما عند نهاية الكون، حيث يلتحمان ويتحدان فيصيران كتلةً واحدة، قال تعالى: (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [القيامة: ٩].
«إن حركة الأرض حول الشمس منضبطة تمام الانضباط، والتغيير يتم ولكن بدرجة ضئيلة لا تظهر إلا على مدى قرون، وهذا القمر الذي يتبع في حركته الأرض يدور في فلك مقرر ومنضبط مع تفاوت يسير جدًا، يتكرر بعد كل ثمانية عشر عامًا ونصف عام بدقة فائقة»20.
ويرى البعض من «المفارقة السعيدة: أن قرصي القمر والشمس متساويان تقريبًا عندما ننظر إليهما من الأرض، إلا أن الشمس في الواقع أكبر من القمر وأبعد منه. وبفضل النسبة في بعد القمر والشمس عنا ونسبة قطر كل منهما، أمكن لكسوف الشمس أن يكون كليًا عندما يقع القمر بين الشمس والأرض في خطٍ مستقيم»21.
والحق أن بعد الشمس والقمر عن الأرض وقطرهما وبالنسب التي ذكرنا، ليس من المفارقات السعيدة أو الصدف العجيبة، كما كتب أكثر الذين استقينا منهم المعلومات الفلكية أعلاه، بل بتقدير وتدبير من خالقها، لحكم كثيرة، أما التعبير بكلمات كالصدفة السعيدة أو العجيبة فقد آن لها في القرن العشرين أن تمحى من كتابات العلماء، ليحل محلها كلمة الخالق، ولكن الإنسان كان وسيظل كما وصفه ربه: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) [العاديات: ٦].
الشمس آية من آيات الله وشاهدٌ يدل على قدرته ووحدانيته وتدبيره لملكه، تمدنا بالدفء والطاقة والضوء، ولها دورٌ أساسيٌ في عملية الإنبات والإثمار وإنضاجها، وبها نعرف الأوقات والأيام والشهور والسنين، وغير ذلك من منافعها التي لا يحصيها إلا خالقها ومسخرها جل وعلا.
قال تعالى: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [يونس:٥].
فالشمس من آياته تعالى الشاهدة والناطقة، يجليها الله في الكون المنظور وفي كتابه المسطور لأهل العلم.
قال تعالى: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ) [الرعد:٢].
فهي آيةٌ جليةٌ واضحة، وشاهدٌ حسي على البعث.
وقال تعالى: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) [النحل:١٢].
وقال تعالى: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [فصلت: ٣٧].
فبينت الآيات الكريمة كون الشمس آيةً من آيات الله تدل على كمال قدرته وربوبيته لهذا العالم وتدبيره ولطفه، وتشهد بوحدانيته تعالى، وهذه الآيات إنما يعتبر بها وينتفع العقلاء والعلماء، وقد ساقها الله لمن يريد أن يستيقن، فآية الشمس من أعظم الآيات التي يجب أن تسترعي انتباهنا وتثير عقولنا وتلفت أنظارنا إلى عظمة الخالق ولطف تدبيره وحسن تقديره.
أما الجهال والمشككون والغافلون فلا يقفون على هذه الآيات ولا يستبصرونها. فالشمس تشرق كل صباح وتغرب كل مساء، حتى أصبحت عندهم أمرًا مألوفًا لا يسترعي انتباههم ولا تثير وجدانهم، بل تحجب أهواءهم شمس الحقيقة فلا يبصرونها في رابعة النهار.
فمن دلائل قدرته وشواهد عظمته: الليل والنهار، وما بينهما من تداخل وامتزاج واختلاف وائتلاف، وتفاضل وتكامل، الليل بظلامه ووحشته وسكونه ورهبته، ونجومه وأقماره وكواكبه، والنهار بجلائه وضيائه وشمسه وحركته، وللشمس منافعها العميمة، منها الحرارة والضياء وتحديد المواقيت، ومنافع أخرى كثيرة تدل على حكمة الله وتقديره وعظمة تدبيره.
تقول الحسابات: إن الشمس تبعد عن الأرض ٩٢.٥ مليون من الأميال، ولو كانت أقرب إلينا من هذا لاستحالت الحياة واحترقت الكائنات! ولو كانت أبعد منا لأصاب التجمد والموت ما على الأرض! والذي يصل إلينا من حرارة الشمس لا يتجاوز جزءًا من مليوني جزء من حرارتها. وهذا القدر الضئيل هو الذي يلائم حياتنا. ولو كان نجم الشعرى بضخامته وإشعاعه هو الذي في مكان الشمس منا لتبخرت الكرة الأرضية، وذهبت بددًا!
وكذلك القمر في حجمه وبعده عن الأرض. فلو كان أكبر من هذا لكان المد الذي يحدثه في بحار الأرض كافيًا لغمرها بطوفان يعم كل ما عليها. وكذلك لو كان أقرب مما وضعه الله بحسابه الذي لا يخطئ مقدار شعرة! وجاذبية الشمس وجاذبية القمر للأرض لهما حسابهما في هذا الفضاء الشاسع الرهيب، الذي تجري فيه مجموعتنا الشمسية كلها بسرعة عشرين ألف ميل في الساعة، ومع هذا لا تلتقي بأي نجم في طريقها على ملايين السنين! وفي هذا الفضاء الشاسع الرهيب لا يختل مدار نجم بمقدار شعرة، ولا يختل حساب التوازن والتناسق في حجم ولا حركة»22.
وصدق الله تعالى: (ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [الرحمن: ٥].
فالشمس لا تتخلف عن موعدها طرفة عين، والقمر له دورته الثابتة لا يتخلف عنها ومنازله لا يبرح فلكه (ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ) [يس: ٤٠].
قال الرازي: «أما الشمس فتفكر في طلوعها وغروبها، فلولا ذلك لبطل أمر العالم كله، فكيف كان الناس يسعون في معايشهم، ثم المنفعة في طلوع الشمس ظاهرة، ولكن تأمل النفع في غروبها، فلولا غروبها لم يكن للناس هدوء ولا قرار مع احتياجهم إلى الهدوء والقرار لتحصيل الراحة وانبعاث القوة الهاضمة وتنفيذ الغذاء إلى الأعضاء على ما قال تعالى: (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [يونس: ٦٧].
وأيضًا فلولا الغروب لكان الحرص يحملهم على المداومة على العمل على ما قال: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) [النبأ: ١٠ - ١١].
والثالث: أنه لولا الغروب لكانت الأرض تحمى بشروق الشمس عليها حتى يحترق كل ما عليها من حيوان، ويهلك ما عليها من نبات على ما قال: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) [الفرقان: ٤٥].
فصارت الشمس بحكمة الحق سبحانه وتعالى تطلع في وقت وتغيب في وقت، بمنزلة سراج يدفع لأهل بيت بمقدار حاجتهم، ثم يرفع عنهم ليستقروا ويستريحوا، فصار النور والظلمة على تضادهما متعاونين متظاهرين على ما فيه صلاح العالم، هذا كله في طلوع الشمس وغروبها»23.
ومن شواهد كون الشمس آية من آيات الله عز وجل ما يأتي:
أولًا: تسخير الشمس:
الصلة بين الحديث عن الكون وبيان إنعامه تعالى على عباده وعنايته واضحةٌ وثيقةٌ، فخلق الكون وتسخيره للإنسان من أعظم النعم، وفي القرآن آياتٌ عديدةٌ تقرر هذا المعنى وترسخه، قال تعالى في سورة إبراهيم: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [إبراهيم: ٣٢]
و«التسخير: سياقة إلى الغرض المختص، فالمسخر: هو المقيض للفعل»24.
وعرفه د. جبل في المعجم الاشتقاقي بقوله: «التسخير للآدميين هو إجراء الشيء على ما يوافقهم، وأن ينتفعوا به مختلف وجوه الانتفاع»25.
فالشمس والقمر من جملة المخلوقات التي سخرها الله تعالى، طوعها لمصالحنا ومعاشنا.
قال الطبري: «(ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ) يتعاقبان عليكم بالليل والنهار لصلاح أنفسكم ومعاشكم (ﯻ) في اختلافهما عليكم، وقيل: معناه: أنهما دائبان في طاعة الله»26.
وفي سورة النحل: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) [النحل:١٢-١٨].
يذكرنا الله تعالى بنعمه التي لا تحصى والتي من أعظمها خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم والليل والنهار وغير ذلك من النعم المسخرة لمنافع الإنسان وتيسير عيشه، تلك النعم التي يغفل عنها كثير من الناس جحودًا ونكرانًا، أو ذهولًا ونسيانًا؛ لكونها مألوفةً دائمة، فلا يشعرون بها مع جلائها ودوامها.
قال الواحدي: «معنى تسخيرهن: تذليلهن لما يراد منها من طلوع وأفول وسير ورجوع»27.
وقال الماوردي: «(ﮡ ﮢ) يحتمل وجهين: أحدهما: مذللات بقدرته. والثاني: جاريات بحكمه28.
فكلها تحت قهره وسلطانه وإرادته جل وعلا.
وهذه المنظومة الكونية الواحدة في صالح الإنسان، فكل ما في الكون مسخرٌ له، وكل ما في الكون له دوره في هذه المنظومة.
قال الجاحظ: «إذا تأملت في هذا العالم وجدته كالبيت المعد، فيه كل ما يحتاج إليه، فالسماء مرفوعة كالسقف، والأرض ممدودة كالبساط، والنجوم منورة كالمصابيح والإنسان كمالك البيت المتصرف فيه، وضروب النبات مهيأة لمنافعه، وضروب الحيوانات مصرفة في مصالحه، فهذه جملة واضحة دالة على أن العالم مخلوق بتدبير كامل وتقدير شامل وحكمة بالغة وقدرة غير متناهية، والله أعلم»29.
والشمس والقمر يعملان بنظام دقيق مستمرٍ بلا خلل أو عطب أو توقفٍ. (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ) [إبراهيم:٣٣].
وهل هناك نظام بشري لا يعتريه الخلل؟ وهل يستطيع الإنسان أو الآلة أن تعمل بلا توقف؟ إن لكل جهاز صلاحيته التي لا تتجاوز سنوات معدودة، فكيف بهذين النيرين لا يتوقفان ولا يعطبان ولا ينحرفان قيد أنملة.
واختلاف الليل والنهار آية عظيمة ونعمة جليلة من نعم الله تعالى على الإنسان والكون.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) [القصص: ٧١ - ٧٣].
فالله سبحانه وتعالى لم يشأ أن يجعل الليل سرمدًا، أو النهار سرمدًا، بل جعل الليل والنهار، ووصل بعضهما ببعض، ولم يجعل لأحدهما وجودًا بغير الآخر. وجعل ذلك رحمة منه سبحانه، بعباده، وإحسانًا إليهم30.
ثانيًا: جريان الشمس:
بعيدًا عن نور الإيمان ونور العلم شاع الاعتقاد في عصور الانحطاط العلمي في أوروبا، أن الشمس ثابتة وأنها مركز الكون، بينما كان المسلمون على علم بحركة الشمس وجريانها في مدارها من كتاب الله تعالى: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ) [يس: ٣٨ - ٤٠].
قال السعدي: وجريان الشمس «حركتها في فلكها المرسوم لها، وهي تقطع دورةً في هذا الفلك تمام السنة، وفي سرعة مذهلة»31.
فلا تتعداه، ولا تقصر عنه، وليس لها تصرف في نفسها، ولا استعصاء على قدرة الله تعالى: (ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ) الذي بعزته دبر هذه المخلوقات العظيمة، بأكمل تدبير، وأحسن نظام. (ﯪ) الذي بعلمه، جعلها مصالح لعباده، ومنافع في دينهم ودنياهم32.
وقال القاسمي: «(ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ) أي: ذلك الجري المتضمن للحكم والمصالح والمنافع، والمدهش نظام سيره وإحكامه بلا اختلال، تقدير الغالب بقدرته على كل مقدور، المحيط علمًا بكل معلوم»33.
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) قال: (مستقرها تحت العرش)34.
وقال تعالى: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ) [الرعد: ٢].
وقال تعالى: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [الأنبياء:٣٣].
وقال تعالى: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ) [إبراهيم: ٣٣].
بينت هذه الآيات حركة الشمس والقمر الدائمة، ودورانهما في مدارٍ يختلف أحدهما عن الآخر، وجريانهما الذي لا يتوقف إلا بانتهاء الأجل الذي قدره الله تعالى لعمر الدنيا.
«وحركة هذه الأجرام في الفضاء الهائل أشبه بحركة السفين في الخضم الفسيح. فهي مع ضخامتها لا تزيد على أن تكون نقطًا سابحة في ذلك الفضاء المرهوب. وإن الإنسان ليتضاءل ويتضاءل، وهو ينظر إلى هذه الملايين التي لا تحصى من النجوم الدوارة، والكواكب السيارة، متناثرة في ذلك الفضاء، سابحة في ذلك الخضم، والفضاء من حولها فسيح، وأحجامها الضخمة تائهة في ذلك الفضاء الفسيح! والشمس تدور حول نفسها. وكان المظنون أنها ثابتة في موضعها الذي تدور فيه حول نفسها. ولكن عرف أخيرًا أنها ليست مستقرة في مكانها. إنما هي تجري. تجري في اتجاه واحد في الفضاء الكوني الهائل بسرعة حسبها الفلكيون باثني عشر ميلًا في الثانية! والله - ربها الخبير بها وبجريانها وبمصيرها- يقول: إنها تجري لمستقر لها. هذا المستقر الذي ستنتهي إليه لا يعلمه إلا هو سبحانه. ولا يعلم موعده سواه. وحين نتصور أن حجم هذه الشمس يبلغ نحو مليون ضعف لحجم أرضنا هذه. وأن هذه الكتلة الهائلة تتحرك وتجري في الفضاء، لا يسندها شيء، ندرك طرفًا من صفة القدرة التي تصرف هذا الوجود عن قوة وعن علم: ( ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) 35.
وجريان الشمس حول محورها ودوران الأرض حولها واختلاف منازل الأرض من الشمس، يترتب عليه ظواهر عديدة منها، اختلاف الفصول وما في ذلك من المنافع، فلكل فصلٍ مزاياه وأهميته، والفصول الأربعة متتابعةٌ ومتكاملةٌ وتنوعها يعود بالمنفعة على الإنسان والحيوان والنبات.
ومن الحقائق العلمية التي توصل لها العلماء أن الشمس بمجموعتها التي تدور حولها، تجري جميعًا حول مركز مجرة «الطريق اللبني» بسرعة تبلغ ٢٥٠ كم في كل ثانية، أو ٠٠٠ ٩٠٠ كم في الساعة. وبالرغم من هذه السرعة الفائقة إلا أن النظام الشمسي يستغرق ٢٤٠ مليون سنة للدوران حول مجرة الطريق اللبني.
وشمسنا هذه -وهي تدور حول نفسها- تدور بنا أيضًا على الحاشية الخارجية للمجرة، وهي تتباعد عن هذه الحاشية الخارجية بمقدار اثني عشر ميلًا كل ثانية وهكذا جميع السيارات تسير إلى جانب أو آخر مع دورانها الخاص طبقًا لنظامها، فمنها ما يسير بسرعة ثمانية أميال في الثانية، ومنها ما يسير بسرعة ثلاثة وثلاثين ميلًا في الثانية، ومنها ما يسير بسرعة أربعة وثمانين ميلًا في الثانية. وجميع النجوم على هذا النحو تبتعد في كل ثانية بسرعة فائقة عن مكانها. هذه الحركة المدهشة تحدث طبقا لنظام وقواعد محكمة بحيث لا يصطدم بعضها ببعض ولا يحدث اختلاف في سرعتها 36.
ثالثًا: الشمس وحساب السنين:
قال تعالى: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [يونس: ٥].
ولولا هذا التقدير الذي قدره الله سبحانه لحساب الشهور والأيام والساعات ونقصانها وزيادتها لم يعلم الناس بذلك، ولا عرفوا ما يتعلق به كثير من مصالحهم، فالسنة تتحصل من اثني عشر شهرًا، والشهر من ثلاثين يومًا إن كان كاملًا، ومن تسع وعشرين يومًا إن كان ناقصًا، واليوم من ساعات معلومة هي أربع وعشرون ساعة لليل والنهار، وقد يكون لكل واحد منهما اثنتا عشرة ساعة في أيام الاستواء، ويزيد أحدهما على الآخر في أيام الزيادة وأيام النقصان، والاختلاف بين السنة الشمسية والقمرية معروف37.
وقال تعالى في سورة الإسراء: (ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ) [الإسراء: ١٢].
قال الطبري: «ومن نعمته عليكم أيها الناس، مخالفته بين علامة الليل وعلامة النهار، بإظلامه علامة الليل، وإضاءته علامة النهار، لتسكنوا في هذا، وتتصرفوا في ابتغاء رزق الله الذي قدره لكم بفضله في هذا، ولتعلموا باختلافهما عدد السنين وانقضائها، وابتداء دخولها، وحساب ساعات النهار والليل وأوقاتها»38.
فالمراد بالسنين هنا القمرية التي هي ثلاثمائة وأربعة وخمسون يومًا، وثماني ساعات، وثمان وأربعون دقيقة، ولا مانع من أن تشمل جملة آية السنين والحساب السنة الشمسية التي هي ثلاثمائة وخمس وستون يومًا، وخمس ساعات وتسع وأربعون دقيقة أيضا، والفرق بينهما عشرة أيام وإحدى عشرة ساعة ودقيقة واحدة39.
فالقمر يدور حول الأرض في كل شهرٍ قمريٍ مرةً واحدةً، وحول نفسه في وقتٍ مساوٍ تمامًا لدورته حول الأرض، لذلك لا نرى من القمر إلا وجهًا واحدًا طوال الحياة، لأنه يدور حول الأرض، وحول نفسه في وقتٍ واحدٍ، ويستكمل دورته حول نفسه في تسعةٍ وعشرين يومًا، وثماني ساعات، ويستكمل دورته حول الأرض في تسعةٍ وعشرين يومًا وثماني ساعات. لكن الشيء الذي يلفت النظر أن القمر يقطع في كل يومٍ من دائرة سيره من فلكه حول الأرض ثلاث عشرة درجةً، ويتأخر في شروقه عن اليوم السابق تسعًا وأربعين دقيقةً كل يومٍ، ولولا هذا التأخر لبدا القمر بدرًا طوال الحياة، ولكن تأخره تسعًا وأربعين دقيقةً عن شروقه السابق كل يومٍ هو الذي يرينا القمر في مراتب، من هلالٍ، إلى ربع، إلى بدر، إلى عرجونٍ، إلى غيابٍ كاملٍ40.
رابعًا: القسم بالشمس:
القرآن الكريم آية مبصرةٌ وحجةٌ ظاهرةٌ ومعجزة باقية وحاضرة، تتجلى في كل وقت وحين، تشهد للحق وتبينه وتبدد سحائب الباطل وغيوم الضلال.
والقسم من أساليب القرآن في إقامة الحجة وتقريرها، والتنويه على آيات الله في الكون، فتارة يقسم الله تعالى بهذه الآيات الكونية العجيبة على صدق الآيات التنزيلية العظيمة، وتارة يلوح بالقسم ويبين أن الأمر أوضح وآكد من أن يحتاج لقسمٍ.
ومن الأقسام في القرآن القسم بالشمس وما يتبعها ويتعلق بها أو يتزامن معها من ظواهر وأجرام، والقسم بالسماء والأرض وبالنفس البشرية.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ) [الشمس: ١ - ١٠].
فأقسم تعالى بالشمس وقت تألقها، وساعة شروقها، فتبدو في أبهى حللها وفي أجمل أحوالها، ففي الشتاء تبعث أشعتها بالنور والدفء، وفي الصيف قبل أن ترتفع تكون الساعات المبكرة في النهار من ألطفها نداوة وطراوة، ومن أرقها نسيمًا.
وأقسم تعالى بالقمر حين يتبعها وينوب عنها في السماء، سيما في الليلة الظلماء حين يكتمل البدر فيجلي ظلام الليل، وبالنهار إذا طلع فأشرقت له الدنى، وبالليل إذا أرخى سدوله، والسماء وما أعظم بناءها، وبالأرض وكيف بسطها ومدها ووسعها بقدر ما يلائم الحياة عليها.
كما أقسم بالنفس البشرية كيف سواها وأبدعها ربنا خلقةً وجبلها على هذه الفطرة السوية، وألهمها رشدها، وخيرها بين طريق الحق والغواية.
بهذه الخلائق وتلك الحقائق التي لا يماري فيها أحد أقسم الله عز وجل على حقيقة مؤكدة قد تغيب عن الأذهان أو يماحل فيها أهل الجحود والنكران بأن الفلاح لمن زكى نفسه فطهرها وارتقى بها وحملها على طاعة الرحمن، والخيبة والخذلان على من ضيعها وأطلق لها العنان، وحملها على معصية الملك الديان، فدفنها في تربة المهلكات وغطها في أوحال الشهوات.
يقول صاحب الظلال: «يقسم الله سبحانه بهذه الخلائق والمشاهد الكونية، كما يقسم بالنفس وتسويتها وإلهامها. ومن شأن هذا القسم أن يخلع على هذه الخلائق قيمة كبرى وأن يوجه إليها القلوب تتملاها، وتتدبر ماذا لها من قيمة، وماذا بها من دلالة، حتى استحقت أن يقسم بها الجليل العظيم. وهنا نجد القسم الموحي بالشمس وضحاها. بالشمس عامة وحين تضحى وترتفع عن الأفق بصفة خاصة»41.
خامسًا: الشمس والظل:
الظل نعمة من الله تعالى تستروح إليه النفوس، فتفيء من وهج الشمس وحرها. تشرق الشمس بأشعتها، فيبدأ الظل في الانحسار شيئًا فشيئًا كلما ارتفعت الشمس حتى تتوسط الشمس كبد السماء فترى الظل أقل ما يكون، فإذا مالت جهة الغرب تبدأ الظلال في الزيادة إلى أن تصل إلى أقصاها عند الغروب، وتلك هي حركة الظل بالامتداد والانقباض.
إنها آيةٌ عظيمة جديرةٌ بالنظر والتأمل.
قال تعالى: (ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ) [النحل: ٤٨].
فينتقل الظل من حال إلى حال، لكنه في جميع أحواله ساجدٌ لربه وقد جبل على طاعته.
قال الضحاك: إذا طلعت الشمس يسجد ظل كل شيء نحو المغرب، فإذا زالت الشمس سجد ظل كل شيء نحو المشرق حتى تغيب42.
وقال ابن جزي: «معنى الآية: اعتبار بانتقال الظل، ويعني بقوله: (ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ) الأجرام التي لها ظلال من الجبال والشجر والحيوان وغير ذلك، وذلك أن الشمس من وقت طلوعها إلى وقت الزوال يكون ظلها إلى جهة، ومن الزوال إلى الليل إلى جهة أخرى، ثم يمتد الظل ويعم بالليل إلى طلوع الشمس، وقوله (ﮚ) من الفيء، وهو الظل الذي يرجع بعكس ما كان غدوة» 43.
وقال تعالى: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ) [الفرقان: ٤٥-٤٦].
في الآية السابقة وجه الرؤية إلى تلك الظاهرة، وفي هاتين الآيتين دعوة لاستحضار عظمة الله وتدبيره لهذا الكون، فالأثر يدل على المؤثر، والفعل يدل على الفاعل، والصنعة تدل على الصانع، وهذا المشهد جدير بأن تتملى منه العين وترقبه بإمعان، فهو مشهد حسي يقرر تلك المشاهد والمرئيات الغيبية التي وردت في السورة الكريمة.
قال ابن عاشور: «قوله تعالى: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) أي: غير متزايد؛ لأنه لما كان مد الظل يشبه صورة التحرك أطلق على انتفاء الامتداد اسم السكون بأن يلازم مقدارًا واحدًا لا ينقص ولا يزيد، أي: لو شاء الله لجعل الأرض ثابتة في سمت واحد تجاه أشعة الشمس، فلا يختلف مقدار ظل الأجسام التي على الأرض وتلزم ظلالها حالة واحدة، فتنعدم فوائد عظيمة» 44.
«إن الباحثين يقولون بحسب ما يرى من الأسباب الظاهرة : إن وجود الشمس، وحركة الأرض حولها، هما السبب في حركة الظل. ولكن التعبير القرآني يقول لنا: إن إرادة الله هي التي حركت الظل ابتداءً، (ثم) جعلت الشمس دليلًا على الظل، فليست الأسباب الظاهرة هي الأصل، ولكنها تجيء تالية، بل تجيء على التراخي بلفظ (ثم)، بعد تقرير الله للأمر بمشيئته، التي تقول للشيء: كن فيكون، ثم نتحرك مع السياق حركة جديدة (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ) [الفرقان: ٤٦].
إن التعبير يصور حركة الظل الوئيدة التي تراها العين فلا تلتفت إليها، أو لا تلتفت إليها بكليتها، ولكن الخيال هنا مع التعبير القرآني لا يملك أن يفلت من أسر الصورة التي تصورها تلك الكلمات القلائل في إبداع معجز! إن الظل هنا لا يتحرك راجعًا من تلقاء نفسه، ولا من أثر الأسباب الظاهرة التي نعرفها. إننا مع السبب الحقيقي، ولكنا نقف مبهورين ننظر إلى الظل وهو يقفل راجعًا بعد ما امتد. لماذا ؟ لأن يدًا خفية هي التي تطويه في حركة وئيدة كحركة الظل. إنها يد الله!
وهكذا تجدنا مع الله مرة أخرى، نرقب ـ من حركة الظل ـ قدرته القادرة، ويده الخفية سبحانه التي لا تدركها الأبصار! على أن أروع ما في التعبير القرآني في الآية هو هذا اللفظ (إلينا): (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ) [الفرقان: ٤٦].
أتدري ماذا فعلت هذه اللفظة المفردة في كيان الصورة كله؟! هل تغيرت (معلوماتك) عن الظل حين قرأت هذه الآيات ؟ كلا!
إن (المعلومات) في ذاتها ليست جديدة. لقد كانت معلومة من قبل، ولكنه ذلك العلم الميت الساكن الذي لا يتحرك، ولكن القرآن يحيي هذه المعلومات حين يعرضها في جوه الوجداني بطريقته المعجزة، فتنتقض حية كأنها ليست هي التي كنا نعرفها من قبل وما تغيرت هي! إنما نحن الذين تغيرنا! حين زال عن حسنا التبلد للتجربة المكرورة والنظر المكرور45.
والظل نعمة من نعم الله تعالى الذي قال: (ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ) [النحل: ٨١].
ولا يمكن أن يتساوى الظل مع الحرور، فالظل تستروح إليه النفس وتفيء إليه من حر الهاجرة طلبًا لنسمة باردة.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [فاطر: ١٩ - ٢١].
فكما لا يستوي الأعمى والبصير لا تستوي الظلمات والنور ولا الظل ولا الحرور، فالظلال الوارفة التي يفيء الناس إليها من حر الرمضاء فيستروحون روحها اللطيفة ويتنسمون نسيمها البارد لا تستوي أبدًا مع شدة الحرارة بالليل ووهجها بالنهار.
وقد أجادت الشاعرة الأندلسية في التعبير عن ذلك بقولها46:
ذكر الله تعالى للشمس ثلاثة أوصاف:
أولًا: الشمس سراج وهاج:
قال تعالى: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ) [الفرقان: ٦١].
«والمتأمل من علماء العربية يدرك من وراء ذلك أن الآية تدل على أن الشمس تجمع إلى النور الحرارة، فلذلك سماها سراجًا، والقمر يبعث بضياء لا حرارة فيه؛ وهو أيضًا معنى صحيح تدل عليه الآية دلالة لغوية واضحة. أما الباحث المتخصص في شئون الفلك فيفهم من الآية إثبات أن القمر جرم مظلم، وإنما يضيء بما ينعكس عليه من ضياء الشمس التي شبهها بالسراج بالنسبة له؛ وهو أيضًا معنى صحيح تدل الآية عليه بلغتها وصياغتها، فأنت تقول: غرفة منيرة إذا انعكس عليها الضوء من سراج في وسطها، ولا تقول: قبس منير، إذ ينبعث النور من حقيقته وداخله، بل تقول قبس مضيء47.
وآيات الكون من الآيات الجلية والبراهين الساطعة التي استشهد بها أنبياء الله في دعواتهم لأقوامهم هذا أول المرسلين نوح عليه السلام، يخاطب قومه مبيًنا لهم قدر الله تعالى وعظيم إنعامه وجميل ألطافه والذي يرون مظاهره وآثاره بأعينهم وكأنها لم تره من فرط الغفلة (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [نوح: ١٥-١٦].
«وجعل الله الشمس سراجًا يبصر أهل الدنيا في ضوئها كما يبصر أهل البيت في ضوء السراج ما يحتاجون إلى إبصاره، والقمر ليس كذلك، إنما هو نور لم يبلغ قوة ضياء الشمس48.
وفي سياق إقامة الأدلة الحسية على إمكان البعث يقول تعالى في سورة النبأ (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) [النبأ: ١٣].
فالشمس جرم متوهج يبعث بالحرارة والضياء وفق نظام دقيق من الأدلة الباهرة على قدرة الله تعالى وعنايته بخلقه، وبما يقرر أمر البعث الذي يشكك فيه الكفرة.
قال الراغب: السراج: الزاهر بفتيلة ودهن، ويعبر به عن كل مضيء»49.
ذلك أن المصباح يضيء بزيته، كذلك الشمس تضيء بما فيها من طاقات كامنة متجددة، وتفجيرات هائلة.
قال مقاتلٌ: والوهج يجمع النور والحرارة50.
وقال الزجاج: الوهاج: الوقاد51، وهو الذي وهج52.
وقال الفيروزآبادي: «الوهج: حصول الضوء، وقوله تعالى: (ﮀ ﮁ ﮂ) أي: مضيئًا متوقدًا، وقد وهجت النار توهج، وتوهج الجوهر: تلألأ53.
قرأ حمزة والكسائي: (سُرُجًا) على الجمع. وقرأ الباقون (ﮁ) على التوحيد54.
وهذا معنى آخر يستفاد من تعدد القراءات في الآية الكريمة، يدل على كثرة الشموس التي تضيء السماء، فالشمس نجم مضيء بذاته، حيث لمعان الشمس يعادل ضوء القمر وهو بدر ٤٠٠ ألف مرة، ويصل ضوء الشمس إلى الأرض بعد ٤٩٩ ثانية، وهي كرة ضخمة من الغازات المتوهجة ذات الكثافة الكبيرة، ويصل قطرها إلى حوالي ١.٣٩٣.٠٠٠ كم، أو ما يعدلها ١٠٩ مرة طول قطر الأرض، ولهذا فإن حجم الكرة الشمسية يزيد على حجم الكرة الأرضية بأكثر من مليون مرة55.
وهذه الشمس التي نعدها اليوم وسيلة حياتنا تبلغ حرارة سطحها عشرة آلاف درجة فهرنهيت؛ والمسافة بينها وبين الأرض تبلغ ما يقرب من١٥٠ مليون كيلومتر، وهذا البون الهائل دائم لا يتغير أبدًا لزيادة أو نقص، وفي ذلك عبرة عظيمة لنا؛ لأنه لو نقص واقتربت الشمس من الأرض بمقدار النصف مثلًا من الفاصل الحالي فسوف يحترق الورق على الفور من حرارتها، ولو بعد هذا الفاصل فصار ضعف ما هو عليه الآن فإن البرودة الشديدة التي تنجم عن هذا البعد سوف تقضى على الحياة في الأرض، ولو أنه حل محل الشمس سيار آخر غير عادى يحمل حرارة تزيد على حرارة الشمس عشرة آلاف مرة فسوف يجعل من الأرض تنورًا رهيبًا.
ولقد جاءت سراجًا مفردة مرتين في سورة الفرقان وسورة نوح، وجاءت موصوفة بكونها وهاجًا في سورة النبأ، فالشمس في ذاتها سراج توقد وتضيء بذاتها، ووصفها بكونها وهاجًا لشدة ضوئها وحرارتها.
فحرارة سطح الشمس تبلغ ستة آلاف درجة مئوية، وحرارة جوفها تصل إلى ٢٠ مليون درجة مئوية. وألسنة اللهب ترتفع عن سطحها إلى نصف مليون كيلومتر ناثرة في الفضاء طاقة تساوي ٤٠٠، ١٦٧ حصان من كل متر مربع، لا يصل منها للأرض سوى جزء من مليون جزء56.
«إن هذه الشمس التي يصلنا منها ضوء ينير حياتنا ويدفئنا بلطف هي عبارة عن بئر سحيقة تملؤها سحب غازية حمراء اللون. وتتكون الشمس من ألسنة اللهب التي تكون على شكل خراطيم عملاقة قادمة من أعماق سحيقة مندفعة نحو الخارج بملايين الكيلومترات. لا شك في أن هذه الخراطيم النارية العملاقة خطيرة على حياة الإنسان، ولكن جميع أنواع الأشعة الخطيرة القادمة من الشمس يتم امتصاصها من قبل الغلاف الجوي للأرض ومجالها المغناطيسي قبل أن تصل إلينا، وهذا هو النظام المتقن لمجموعتنا الشمسية» 57.
يقول أحد الباحثين في الإعجاز العلمي: تبين للعلماء أن الشمس هي نجم من نجوم هذا الكون، وهي عبارة عن مصباح تعمل بالوقود النووي، حيث يتفاعل الهيدروجين وتندمج ذراته مع بعضها ثم تنتج ذرات الهليوم وتبث الطاقة والحرارة. ويقول العلماء، إن الشمس تصدر ألسنة من اللهب يبلغ طولها مئات الآلاف من الكيلو مترات، وتصدر كميات كبيرة من الطاقة والحرارة، وتحرق الشمس في كل ثانية أكثر من ٤ مليون طن من المادة، جميعها يتحول إلى حرارة وطاقة وإشعاعات بمختلف أنواعها.
ثانيًا: الشمس ضياء.
ذكر الله من أوصاف الشمس كونها ضياء، قال تعالى: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [يونس: ٥].
بينما الشمس تضيء بذاتها، بما يكمن فيها من طاقة متجددة نجد القمر جسمًا معتمًا مظلمًا يعكس ضياء الشمس ويبعث به نورًا يبدد ظلام الليالي الحالكة، وضوء الشمس مصحوبٌ بالحرارة والدفء، بينما ضوء القمر بلا حرارة.
قال العسكري: «الضوء: ما كان من ذات الشيء المضيء، والنور: ما كان مستفادًا من غيره»58.
وقال السمرقندي: «ويقال: جعل الشمس ضياء مع الحر، والقمر نورًا بلا حر»59.
أولًا: سجود الشمس لله تعالى:
قال الله تعالى: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [الحج: ١٨].
فكل ما في الكون يسجد لله تعالى بكيفيات وهيئات متنوعة منها ما نراه ونشاهده ومنها ما يغيب عن حواسنا القاصرة.
عن أبي ذرٍ رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: لأبي ذرٍ حين غربت الشمس: (أتدري أين تذهب؟)، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: (فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد، فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها يقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ [يس: ٣٨])60.
قال ابن الجوزي: «ربما أشكل الأمر في هذا الحديث على من لم يتبحر في العلم، فقال: نحن نراها تغيب في الأرض، وقد أخبر القرآن أنها تغيب في عين حمئة، فإذا دارت تحت الأرض وصعدت، فأين هي من العرش؟ فالجواب: إن الأرضين السبع في ضرب المثال كقطب رحا، والعرش لعظم ذاته كالرحى، فأين سجدت الشمس سجدت تحت العرش، وذلك مستقرها61.
ثانيًا: الشمس ومواقيت العبادات:
مواقيت العبادة موزعة على النهار وجزء من الليل، والشمس آلة تلك الأوقات.
قال تعالى: (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ) [هود: ١١٢-١١٥].
فأمر بالمحافظة على الصلوات (ﮫ ﮬ): الفجر والعصر، (ﮭ ﮮ ﮯ): وأوقات من الليل تتقرب بها إلى الله، من أول الليل لقربها من النهار، كصلاة المغرب والعشاء، ومن آخره قريبًا من النهار.
وقال تعالى: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) [الإسراء: ٧٨].
والدلوك: الغروب. وقيل: الدلوك زوال الشمس نصف النهار. وقيل: الدلوك من وقت الزوال إلى الغروب. والغسق: سواد الليل وظلمته. وقيل: غسق الليل دخول أوله وقت صلاة العشاء62.
قال ابن العربي: وفيه قولان: أحدهما: زالت عند كبد السماء؛ قاله عمر، وابن عمر، وأبو هريرة، وابن عباسٍ، وطائفةٌ سواهم من علماء التابعين وغيرهم. الثاني: أن الدلوك هو الغروب؛ قاله ابن مسعودٍ، وعليٌ، وأبي بن كعبٍ، وروي عن ابن عباسٍ63.
وعن سليمان بن بريدة، عن أبيه، (أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله عن مواقيت الصلاة، فقال: (اشهد معنا الصلاة)، فأمر بلالًا فأذن بغلسٍ، فصلى الصبح حين طلع الفجر، ثم أمره بالظهر حين زالت الشمس عن بطن السماء، ثم أمره بالعصر والشمس مرتفعةٌ، ثم أمره بالمغرب حين وجبت الشمس، ثم أمره بالعشاء حين وقع الشفق، ثم أمره الغد فنور بالصبح، ثم أمره بالظهر فأبرد، ثم أمره بالعصر والشمس بيضاء نقيةٌ لم تخالطها صفرةٌ، ثم أمره بالمغرب قبل أن يقع الشفق، ثم أمره بالعشاء عند ذهاب ثلث الليل، أو بعضه فلما أصبح، قال: (أين السائل؟ ما بين ما رأيت وقتٌ)64.
الشمس نجم متوسط الحجم والكتلة، وتوجد في الفضاء نجوم أكبر منه مئات، بل آلاف المرات، وقديما عرف الناس أهميتها في حياتهم، بينما وصل الجهل ببعض من الناس إلى أن عبدوها من دون الله، فشيدوا المعابد وقدموا النذور والقرابين وسجدوا لها من دون الله، وهذا من ضلالهم وتزيين الشيطان لهم، كما وقع من قوم سبأ الذين كانوا يسجدون للشمس، وأنكر عليهم هدهد سليمان عليه السلام هذا الضلال البين، ولقد نقض القرآن الكريم هذه الخرافات، كما سنبينه فيما يلي:
أولًا: عبادة قوم إبراهيم عليه السلام للشمس:
قال تعالى: (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ) [الأنعام:٧٥-٧٩].
أقام إبراهيم الحجة على قومه الذين عبدوا الأصنام وعبدوا الشمس والقمر والكواكب جهلًا منهم وضلالًا، فهذه الأجرام مع عظمتها وإنافتها وروعتها ومنافعها الجمة، فهناك من خلقها وأبدعها وسيرها، ولقد لفت إبراهيم عليه السلام أنظار قومه إلى كون تلك الأجرام العلوية حادثةً متنقلةً من حال إلى حال بما يتنافى مع طبيعة الإله الحق، فالكوكب في أول سطوعه يخلب الأنظار بنوره الأزهر لكنه سرعان ما يغيب ويضمحل أمام نور الصباح.
فبين إبراهيم عليه السلام نفوره من عبادة إله يغيب ويتلاشى، لأن الإله الحق لا يغيب ولا يتلاشى، كيف وهو رب كل شيء ومليكه ومدبره ومسيره!
فلما رأى القمر ساطعًا ينير ظلمة الليل البهيم، وقد تألق في السماء وبدا حسنه وسناؤه، تدرج مع قومه فقال على سبيل المجاراة لهم: هذا ربي! ليلفت أنظارهم لتلك الحجة التي سيلقمهم إياها حين يغيب نور القمر فيقول (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ).
فقطع رجاءهم من القمر، الآفل وعلق القلوب والآمال بهداية الله تعالى التي ليس سواها هداية، ليكشف لقومه سبيل الهداية الأوحد الذي لا ثاني له، وأن الخلق جميعًا مفتقرون لهداية ربهم.
ثم كانت الحجة الثالثة حين طلع النهار وأشرقت الشمس بضيائها وسناها، وملأت الكون نورًا ودفئًا، فقال مجاريًا لقومه: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ) مما سبقه من أجرام، فلما غربت وخيم الظلام أعلن براءته مما عليه قومه من شركٍ وضلال،٦٦ كما أعلن توحيده لله وعبادته له وحده.
قال القاسمي: «وقوله تعالى: (ﮙ ﮚ) أي: أكبر الكواكب جرمًا، وأعظمها قوة، وفيه تأكيد لما رامه عليه الصلاة والسلام من إظهار النصفة، مع إشارة خفية إلى فساد دينهم من جهة أخرى، ببيان أن الأكبر أحق بالربوبية من الأصغر»65.
ثانيًا: مملكة سبأ وعبادة الشمس:
قال الله تعالى في قصة سليمان عليه السلام والهدهد مع قوم سبأ: (ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ) [النمل: ٢٢ - ٢٦].
بعد أن وصف الهدهد ما عليه تلك المملكة من حضارة وازدهار، نعى ما هم عليه من ضلال بعبادتهم الشمس من دون الله تعالى: (ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ).
شخص الهدهد أصل الداء، وهو تزيين الشيطان لهم هذه العبادة الغريبة وتلك الديانة العجيبة التي تدل على جهلٍ وحماقة، كيف يقدسون هذا الجرم السماوي ويتفننون في عبادته وإقامة المعابد وزخرفتها وتزيينها وإنشاد الأناشيد واختلاق الطقوس التي يؤدونها! إن هذا كله من وحي الشياطين، من أجل صد الناس عن سبيل التوحيد الذي لا سبيل غيره، أما الشمس فمع كبر حجمها وأهميتها في حياتنا لكنها ضئيلة بالمقارنة بغيرها من النجوم التي تكبرها آلاف المرات، فضلًا عن كونها جزءًا من مجرة تحيطها مجرات كثيرة، فما هي في ملك الله العظيم إلا كحلقة في فضاء.
ولذلك تأتي لفتة دقيقة من الهدهد يبين فيها عظمة عرش الرحمن جل وعلا، فما عرش بلقيس بالنسبة له! وما حجم الشمس مقابله! وما الشمس إلا نجمٌ من بين ملايين الشموس؛ فكان الأولى بهم أن يسجدوا لله تعالى الذي يخرج بقدرته ما في السموات وما في الأرض من كنوز وخبايا، من أمطار وأرزاق ونبات وأشجار ومعادن وخيرات.
وفي إخراج الخبء: أمارة على أنه من كلام الهدهد فهو يحط على الأرض وينقرها بمنقاره الطويل فيخرج طعامه «بإلهام من يخرج الخبء في السماوات والأرض جلت قدرته ولطف علمه، ولا يكاد تخفى على ذي الفراسة النظار بنور الله مخائل كل مختصٍ بصناعة أو فن من العلم في روائه ومنطقه وشمائله»66.
وقال تعالى: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) [فصلت: ٣٧].
فالشمس هذا النجم العظيم وما ينبثق عنها من منافع للكون آيةٌ من آيات الله، وما هي في هذا الكون الرحيب إلا كالكرة المعلقة في فضاء شاسع، ونجمٌ من ضمن مليارات النجوم التي أبدعها الخالق جل وعلا.
قال تعالى: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) [فصلت: ٣٧].
فالشمس جزء من مجموعة تابعة لمجرة، والمجرة واحدة من بلايين المجرات في الكون.
إن نظرة كثير من البشر إلى المخلوقات من حولها تتناقض بين نظرة ملؤها القهر والاستكبار والتسلط وبين الشعور بالمذلة والهوان، بين من يتكلم عن هذه المخلوقات بلغة القهر والتسلط والغرور والقسوة، وبين من سقط في عبادة هذه النعم وترك عبادة المنعم جل وعلا، فعبدوا الشمس والقمر والنجم والشجر والطير والحجر والوحش والبقر من دون الله، بين من ينظر لهذه المخلوقات بعين الازدراء والتحقير، وبين من ينظر إليها بعين التقديس والتعظيم، بينما كانت رسالة القرآن في بيان النظرة الصحيحة لهذه المخلوقات بعين الاعتبار والتقدير لدورها في الوجود، وأنها مربوبة لله منقادةٌ له جل وعلا فهو آخذ بناصيتها، ندرك من ذلك مدى ضلال من عبدوها من دون الله إعجابًا بمنافعها غافلين عن عبادة من خلقها وسخرها.
للقرآن الكريم حديثٌ مستفيضٌ عن نهاية العالم، بين فيه ما يجري للكون من أمورٍ عظامٍ وأهوالٍ جسامٍ، وأثر ذلك على الإنسان ذلك المخلوق الضعيف الذي سيرى بأم عينيه ما يجري للكون حوله من تغيراتٍ وزلازل وانفجارٍ ودمار يشيب من هوله الصغار.
حدثنا القرآن عن مصير الأرض والسماء والنجوم والكواكب والشمس والقمر، والجبال والبحار، وغيرها من الكائنات. مشاهد علوية ومشاهد أرضية، «ففي العالم العلوي: تنفطر السماء، وتنتثر الكواكب، وتتكور الشمس، وتنكدر النجوم، وتنفرج السماء، وتتشقق، ويخسف القمر، ويجمع الشمس والقمر. وفي العالم الأرضي: تنفجر البحار، وتسير الجبال، وتكون كالعهن المنفوش، وتنسف نسفًا، وتدك دكًا»67.
أولًا: حال الشمس عند قيام الساعة:
١. أجل الشمس.
يرتبط أجل الشمس بأجل الدنيا فهي من أسباب عمرانها وبقاء هذا العالم، فإذا قضى الله تعالى نهاية العالم، لحق بالشمس ما يلحق غيرها من الفناء. قال تعالى: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ) [الرعد:٢].
قال مقاتل: يعني: إلى يوم القيامة68.
وقال الطبري: «يقول جل ثناؤه: كل ذلك يجري في السماء لأجلٍ مسمًى، أي: لوقت معلومٍ، وذلك إلى فناء الدنيا وقيام القيامة التي عندها تكور الشمس، ويخسف القمر، وتنكدر النجوم»69.
٢. الخروج من المغرب.
من علامات القيامة الكبرى طلوع الشمس من مغربها؛ خرقًا لنواميس الكون وإيذانًا بانقضاء الدنيا وخراب الكون.
قال الله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ) [الأنعام:١٥٨]
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمن من عليها، فذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها، لم تكن آمنت من قبل)70.
وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه في قوله تعالى: (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [الأنعام: ١٥٨].
قال: «لا تزال التوبة مبسوطةً ما لم تطلع الشمس من مغربها»71.
٣. التكوير.
وفي القرآن الكريم سورة كاملة تسمى بسورة التكوير، تبدأ بهذا الحدث العظيم المرتقب وما يرافقه ويلاحقه من أحداث جسام وأهوال عظام: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ)[ التكوير: ١-١٤].
فالسورة في أولها حديث عن مشاهد القيامة وأهوالها التي تتجلى على كل مخلوق، على الشمس والنجوم والجبال والبهائم والوحوش وعلى البحار وعلى السماء، مع تحول الغيبيات إلى مشاهد محسوسة، وانتقال الوعد والوعيد إلى حقائق واقعة، فالنفوس تتزاوج كلٌ مع ما يشاكلها كما تتزاوج بمصيرها وعاقبتها التي لا تنفك عنها، والموءودة حان وقت القصاص لها وسؤال القاتل بتوبيخٍ: لماذا قتلها؟ بأي جريرة استحل دماءها! والصحف تتطاير لا تخطئ أصحابها، فسميت بسورة التكوير تنويهًا على هذا الحدث العظيم وتلك المشاهد المروعة والصور المتداخلة والأحداث المتعاقبة المتشابكة التي عرضتها السورة بأسلوبها الذي يهيج النفوس، ويزلزل أعماق القلوب ويخلع النفوس من واقعها، ليوقفها أمام هذه الأهوال العظام.
عن الحسن: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ) [التكوير: ١].
يقول: «تكور حتى يذهب ضوؤها فلا يبقى لها ضوءٌ»72.
وعن قتادة في قوله تعالى: (ﭓ): أذهب ضوءها73.
وعن مجاهد: اضمحلت وذهبت74.
وعن ربيع بن خثيم: (ﭓ): رمي بها75.
ويجمع الطبري بين هذه الأقوال فيقول: «والتكوير في كلام العرب: جمع بعض الشيء إلى بعض، وذلك كتكوير العمامة، وهو لفها على الرأس، وكذلك قوله: (ﭑ ﭒ ﭓ) إنما معناه: جمع بعضها إلى بعض، ثم لفت فرمي بها، وإذا فعل ذلك بها ذهب ضوءها»76.
ويقول سيد قطب: «إن تكوير الشمس قد يعني: برودتها. وانطفاء شعلتها، وانكماش ألسنتها الملتهبة التي تمتد من جوانبها كلها الآن إلى ألوف الأميال حولها في الفضاء. كما يتبدى هذا من المراصد في وقت الكسوف. واستحالتها من الغازية المنطلقة بتأثير الحرارة الشديدة التي تبلغ ١٢٠٠٠ درجة، والتي تحول جميع المواد التي تتكون منها الشمس إلى غازات منطلقة ملتهبة استحالتها من هذه الحالة إلى حالة تجمد كقشرة الأرض، وتكور لا ألسنة له ولا امتداد! قد يكون هذا، وقد يكون غيره أما كيف يقع والعوامل التي تسبب وقوعه؟ فعلم ذلك عند الله.
وانكدار النجوم قد يكون معناه: انتثارها من هذا النظام الذي يربطها، وانطفاء شعلتها وإظلام ضوئها، والله أعلم ما هي النجوم التي يصيبها هذا الحادث؟ وهل هي طائفة من النجوم القريبة منا مجموعتنا الشمسية مثلًا، أو مجرتنا هذه التي تبلغ مئات الملايين من النجوم أم هي النجوم جميعها؟ والتي لا يعلم عددها ومواضعها إلا الله. فوراء ما نرى منها بمراصدنا مجرات وفضاءات لها لا نعرف لها عددًا ولا نهاية77.
وفي تحليل أو لنقل تقريب علمي لهذه الظاهرة المرتقبة يقول أحد الباحثين في بيان مصير الشمس بين القرآن والعلم ومعنى قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ) «يقول العلم: تتكون الشمس من ٧٠ ٪ من غاز الهيدروجين، و٢٧٪ من غاز الهيليوم، ويتم تحول الهيدروجين إلى هيليوم بالتدريج، إلى أن ينتهي فيتكور قلب الشمس (يتداخل في بعضه وينكمش) وتتوقف التفاعلات النووية، وتنتفخ الطبقة الخارجية للشمس ويزداد قطرها إلى درجة تصل فيها أن تبتلع الأرض».
ولا شك أن العلم الحديث يكاد يجمع على أن للشمس نهايةً وأنها تصير تدريجيًا، إلى هذه النهاية المرتقبة، ولكن النظريات والافتراضات العلمية لا يمكن أن تستوعب أو تنطبق على الحقائق الغيبية، وإن كانت لا تعارضها بل تقربها للأذهان.
ثانيًا: حال الشمس يوم القيامة:
تتعرض الشمس للتكوير حين تفقد طاقتها الكامنة المتجددة، فتتكور كما تكور العمامة وتفقد سيطرتها وجاذبيتها للأجرام الأخرى التي تدور حولها، فتختل تلك السنن الثابتة، وتتعطل تلك المنظومة لتؤذن باختلال نظام الكون.
ثم يلتحم بها القمر، قال تعالى: (ﯔ ﯕ ﯖ) قال الواحدي: جمعا في ذهاب نورهما78.
وقال السمعاني: «(ﯔ ﯕ ﯖ): في الخسفة وإذهاب الضوء79.
قال ابن عطية: واختلف المتأولون في معنى الجمع بينهما، فقال عطاء بن يسار: يجمعان فيقذفان في النار، وقيل: في البحر، فتصير نار الله العظمى، وقيل: يجمع الضوءان فيذهب بهما80.
ويرى علماء الفلك أن القمر سيقترب من الشمس حتى ينجذب إليها، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الظاهرة التي تعد من مشاهد القيامة (ﯔ ﯕ ﯖ).
الجنة لا شمس فيها:
قال تعالى في سياق الحديث عن نعيم أهل الجنة: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ)
فنعيم الجنة نعيم خالدٌ تامٌ ليس هناك ما يكدره أو ينغصه أو ينقصه، وأمور الآخرة لا تنقاس على أمور الدنيا، فللآخرة سننها ونواميسها التي تختلف عن سنن الحياة الدنيا، في الدنيا لا غنى عن الشمس، فهي إكسير الحياة ومصباح الوجود، أما في الآخرة فأهل الجنة ينعمون ويأكلون ويشربون دون حاجة لوهج الشمس وحرارتها التي تحرك الحياة.
في الدنيا يتضجر الناس من الحر ويتألمون من البرد الشديد، فينكد عليهم عيشهم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (اشتكت النار إلى ربها، فقالت: رب قد أكل بعضي بعضًا فنفسني، قال: فأذن لها في كل عامٍ بنفسين، فأشد ما تجدون من البرد فهو زمهرير جهنم، وأشد ما تجدون من الحر فهو من حر جهنم)81.
أما في الجنة فنعيم مقيم لا يعاني أهلها حر شمسٍ ولا يكابدون قسوة بردٍ، قال الله تعالى: (ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ) [الإنسان: ١٣].
قال مقاتل: يعني: شمسًا يؤذيهم حرهم، ولا زمهريرًا يؤذيهم برده82.
وقال ابن كثير: «ليس عندهم حرٌ مزعجٌ ولا بردٌ مؤلمٌ، بل هي مزاجٌ واحدٌ دائمٌ سرمديٌ لا يبغون عنها حولًا83.
بين القرآن الكريم كون الشمس جزءًا من المنظومة الكونية وأنها ليست مركزًا للكون، كما كان يتوهم، بل إنها تجري في مدارٍ محدد.
وبين القرآن الكريم أن مركز الشمس وحركتها إنما هو بحساب دقيق.
وأكد العلم الحديث ما قرره القرآن الكريم بنهاية هذا الكون واختلال منظومته.
وبين القرآن كون الشمس مصدر حرارة وضياء، بينما القمر يعكس نور الشمس، وقد اكتشف العلماء حديثًا بأن القمر جسمٌ معتمٌ، يعكس بأحد وجهيه ضوء الشمس.
وقال تعالى: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ) [الأنعام:٩٦].
يقول د. محي الدين عبد الغني عالم الفيزياء بجامعات النرويج: «الكلمة تحمل دلالة علمية رائعة، وهي انفلاق الضوء والذي يسمى في الفيزياء التحلل الضوئي، ويحدث عند سقوط الضوء على أحد أوجه المنشور الزجاجي فيتحلل (فينفلق) إلى ألوان (اللون هو ضوء ذو طول موجي مختلف عن الطول الموجي للون الآخر) ونفس الظاهرة تحدث عندما يسقط الضوء على وجه أسطوانة «سي دي»، ولكن توصف في الفيزياء بتشتت الضوء، وهو إنفلاق لمكونات الضوء الأبيض أيضًا».
قوله تعالى: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [يونس: ٥]
يقول د. محي الدين عبد الغني: تشير الآية إلى حقيقتين:
الحقيقة العلمية الأولى: الشمس منتجة للضوء فهي (ضياء) صانعة له، والقمر منير مجرد عاكس للضوء وينتج عنه نور.
الحقيقة العلمية الثانية: تتغير مواضع القمر برتابة معينة بحيث يمكننا الاعتماد عليها في الحساب وإحصاء عدد السنين، ومن هنا فإني أرى أن الاعتماد على الحساب في تحديد مواقيت الشهور هو نتيجة توجيه قرآني.
وقال تعالى: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) [يوسف: ٤].
بالرغم من كون الآية تحكي ما جاء في الرؤية إلا أنها تبين الفرق بين الشمس (نجم)، والكوكب: مثل الأرض يدور حول النجم وتابع له، والقمر وهو أقل وأضعف ضوءا من الشمس. وفي آية أخرى «والقمر إذا تلاها» أي: تبع الشمس، ليس فقط في التتابع الزمني ولكن تلو ارتباطي أي: تجاذب وإمساك، كما يتبع الرضيع الأم.
وقال تعالى: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ) [إبراهيم: ٣٣].
يقول د. محيي الدين: «في الآية دلالة استمرار السطوع نهارًا وليلًا، لا كما كان يظن أن للشمس غروبًا. فهذا ليس صحيح، الصحيح أننا نحن البشر الذين نغيب عنها، أما هي فهي دائبة الشروق والسطوع. وفي الآية الكريمة جمع بين الشمس والقمر من ناحية، والليل والنهار من ناحية أخرى، وربط بين الظواهر الطبيعية المنبثقة عن دوران الأرض أمام الشمس».
وقال تعالى: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) [الإسراء: ٧٨].
يقول د. محيي الدين: تلفت الآية الكريمة إلى ظاهرة تغير ضوء الشمس قوة وضعفا على مدار النهار، وهو نتيجة لاختلاف زاوية سقوط الأشعة؛ فالمعنى المحوري للدلوك: زوال غلظ الشيء (ارتفاعه أو صلابته) أو حدته (خشونته)، فدلوك الشمس بذهاب حدتها، أي: حرارتها قبل الغروب أو به.
ولما كانت الشمس تتغير حدتها في فترة محدودة، وهي النهار، ثم تقوى في اليوم التالي وهكذا، فيمكن استنباط أن الشمس نفسها لا تضعف، وأن ما يضعف هو حدة ضوئها، وبذلك تدفع الإنسان إلى التفكر على أساس سليم يوصله إلى حقيقة دوران الأرض، وكذلك ميل سقوط الأشعة، وهذا الميل هو الذي يسبب اختلاف درجات الحرارة.
وقال تعالى: (ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [الكهف: ٩٠].
يقول د. محيي الدين: قد يشير القرآن بالتعبير (ﮦ ﮧ ﮨ) إلى ظاهرة تسمي «شمس منتصف الليل». وهي ظاهرة تظهر لسكان المناطق الواقعة في شمال الكرة الأرضية فيما يسمى بالدائرة القطبية، وفيها تظهر الشمس فلا تغيب على مدار الساعة، أي: ٢٤ ساعة في اليوم ولمدد متفاوتة طولًا وقصرًا على حسب الوقت من شهور الصيف والمكان. ففي الدائرة القطبية يظهر قرص الشمس في شهور الصيف فلا تغيب لمدة ستة شهور، وفي الشتاء - الستة شهور الأخرى - يغيب قرص الشمس فلا يظهر.
موضوعات ذات صلة: |
السماء، القمر، النجوم، النهار |
1 مقاييس اللغة، ابن فارس ٣/٢١٣.
2 المفردات ص ٤٦٤.
3 التعريفات، الجرجاني ص١٢٩.
4 انظر: المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية ١/٤٩٤، المدخل إلى علم الجغرافيا والبيئة، محمد محمود محمدين وطه عثمان الفراء، ص ٧٨.
5 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي ص٣٨٧.
6 انظر: عمدة الحفاظ، السمين الحلبي ٢/٢٩٠-٢٩١.
7 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٥/٢٥.
8 انظر: المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية ٢/٧٥٨
9 مقاييس اللغة ٥/٣٩٦.
10 لسان العرب، ابن منظور ١٢/٥٦٨.
11 الكليات ص ٨٨٧.
12 انظر: المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية ٢/٩٠٥.
13 المدخل إلى علم الجغرافيا والبيئة ص ٦٦
14 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٥/١٢٤.
15 انظر: المحكم والمحيط الأعظم، ابن سيده ٦/٦٧٠، شمس العلوم، نشوان الحميري ٩/٥٨٧٣، مختار الصحاح، الرازي ١/٢٧١، لسان العرب، ابن منظور ١/٧٢١.
16 التعريفات ص ١٨٨.
17 المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية ٢/٧٩٣.
18 الشمس النجم الذي يهبنا الحياة ص ٣٦.
19 انظر: التبيان في أقسام القرآن، ابن القيم ٢/١٦٥.
20 انظر: الإسلام يتحدى، وحيد الدين خان ص٦٥، الكون من الذرة إلى المجرة، حمادي العبيدي ص ٢١.
21 انظر: الإسلام يتحدى، وحيد الدين خان ص٧٤.
22 انظر: في ظلال القرآن ٧/٩٥.
23 مفاتيح الغيب، الرازي ١/٢٦٣، ونحو ذلك ما ذكره ابن القيم في التبيان في أقسام القرآن ٢/١٧١.
24 انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني ص ٤٠٢، بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي ٣/٢٠٣.
25 المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم، محمد حسن جبل، ٢/٩٧٣.
26 جامع البيان ١٦/١٣.
27 التفسير البسيط ٩/١٧٤
28 النكت والعيون ٢/٢٣٠
29 مفاتيح الغيب، الرازي ٣/٣١٩.
30 التفسير القرآني للقرآن، عبدالكريم الخطيب ٤/١٣٧.
31 انظر: المصدر السابق ١٢/٩٣٢.
32 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٦٩٦.
33 محاسن التأويل ٨/١٨٤.
34 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ)، ٦/١٢٣، رقم ٤٨٠٣، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان، ١/١٣٨، رقم ١٥٩.
35 انظر: في ظلال القرآن ٥/٢٩٦٩.
36 انظر: الإسلام يتحدى ص٦٤.
37 فتح البيان، القنوجي ٦/١٧.
38 جامع البيان، الطبري ١٧/٣٩٥.
39 انظر: بيان المعاني، عبدالقادر العاني ٣/٨.
40 انظر: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، محمد راتب النابلسي، ٢/٢٤.
41 في ظلال القرآن ٦/٣٩١٥.
42 انظر: الدر المنثور، السيوطي ٤/٦٣٠.
43 التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي ٢/٧٣.
44 التحرير والتنوير ١٩/٦٤ باختصار.
45 انظر: دراسات قرآنية، محمد قطب ص٢٢١.
46 الأبيات لحمدة العوفية، كما في نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب ٤/٢٨٨.
47 من روائع القرآن، البوطي ص ١١٦.
48 الكشاف، الزمخشري ٤/٦١٨.
49 المفردات، الراغب الأصفهاني ص ٤٠٦.
50 معالم التنزيل، البغوي ٥/٢٠٠.
51 معاني القرآن وإعرابه، الزجاج ٥/٢٧٢.
52 الكشف والبيان، الثعلبي ١٠/١١٤، التفسير الوسيط، الواحدي ٤/٤١٢.
53 بصائر ذوي التمييز ٥/٢٨٧.
54 حجة القراءات ص ٥١٢.
55 المدخل إلى علم الجغرافيا والبيئة ص ٧٨.
56 النجوم في مسالكها، جيمس جينز، ترجمة دكتور أحمد الكرداني، نقلًا عن وجوه من الإعجاز القرآني، مصطفى الدباغ، نقلًا عن مباحث في إعجاز القرآن، مصطفى مسلم ص ١٨١.
57 الروعة في كل مكان، يحي هارون ص١٧.
58 الفروق اللغوية ص ٣٣٢.
59 تفسير السمرقندي ٢/١٠٤.
60 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب صفة الشمس والقمر، ٤/١٠٧، ٣١٩٩، وأخرجه مسلم في الإيمان باب بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان، رقم ١٥٩.
61 كشف المشكل من حديث الصحيحين، ابن الجوزي، ١/٣٥٩.
62 قال العسكري: قيل: دلوكها: غروبها، وقيل: زوالها.
الوجوه والنظائر، العسكري ص ٢٨٩.
63 أحكام القرآن، ابن العربي ٣/٢٠٩.
64 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب أوقات الصلوات الخمس، ١/٤٢٩، رقم ٦١٣.
65 محاسن التأويل ٤/٤٠٤.
وانظر: إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٣/١٥٤.
66 الكشاف ٣/٣٦٢.
67 التفسير القرآني للقرآن، عبدالكريم الخطيب ١/١٢٦.
68 تفسير مقاتل بن سليمان ٢/٣٦٦.
69 جامع البيان، الطبري ١٣/٤١١.
70 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ)، ٦/٥٨، ٤٦٣٥، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان، رقم ١٥٧، ١/١٣٧.
71 تفسير عبد الرزاق ٢/٦٩.
72 تفسير مجاهد ص ٧٠٧.
73 تفسير عبد الرزاق ٣/٣٩٥.
74 انظر: جامع البيان ٢٤/٢٣٨.
75 انظر: المصدر السابق.
76 المصدر السابق.
77 في ظلال القرآن ٧/٤٦٩.
78 التفسير الوسيط، الواحدي ٤/٣٩١.
79 تفسير القرآن، السمعاني ٦/١٠٤.
80 المحرر الوجيز ٥/٤٠٣.
81 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مواقيت الصلاة، باب الإبراد بالظهر في شدة الحر،١/١١٢، رقم ٥٣٧.
82 التفسير الوسيط، الواحدي ٤/٤٠٣.
83 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٨/٢٩٧.