عناصر الموضوع
اليقين
أولًا: المعنى اللغوي:
«الياء والقاف والنون: اليقن واليقين: زوال الشك. يقال يقنت، واستيقنت، وأيقنت»1.
اليقين: العلم وزوال الشك. يقال منه: يقنت الأمر يقنًا، وأيقنت، واستيقنت، وتيقنت، كله بمعنًى، وأنا على يقين منه، وإنما صارت الياء واوًا في قولك: موقنٌ؛ للضمة قبلها، وقد أيقن يوقن إيقانًا، فهو موقنٌ، وإذا صغرته رددته إلى الأصل وقلت: مييقنٌ، وربما عبروا عن الظن باليقين، وباليقين عن الظن، فاليقين: نقيض الشك، والعلم نقيض الجهل، تقول: علمته يقينًا، وأنا على يقين منه2. واليقنة من الناس: يقال رجل يقنة، والهاء للمبالغة، ورجل ميقان: يصدق ما يقال له، وهي ميقانة3.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
تعددت تعريفات العلماء لليقين وهي على النحو التالي:
اعتقاد الشيء بأنه كذا مع اعتقاد أنه لا يمكن إلا كذا، مطابقًا للواقع غير ممكن الزوال والقيد4.
وقيل: «هو إيقان العلم بنفي الشك والشبهة عنه بالاستدلال.
وقيل: هو سكون النفس مع إثبات الحكم.
وقيل: الاعتقاد الجازم الثابت المطابق للواقع.
وقيل: عبارة عن العلم المستقر في القلب؛ لثبوته من سبب متعين له بحيث لا يقبل الانهدام»5.
وقيل: العلم الحاصل عن نظرٍ واستدلالٍ 6.
ولعل هذه التعريفات متقاربة في أداء المعنى المراد لليقين، وخلاصتها الاعتقاد الجازم والعلم الثابت في القلب، مع نفي الشك والشبهة عنه، وهذا معناه في اللغة.
وردت مادة (يقن) في القرآن الكريم (٢٨) مرة7.
والصيغ التي وردت هي:
الصيغة |
عدد المرات |
المثال |
الفعل الماضي |
١ |
(ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ) [النمل:١٤] |
الفعل المضارع |
١٣ |
(ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) [البقرة:٤] |
اسم الفاعل |
٦ |
(ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [الأنعام:٧٥] |
الصفة المشبهة |
٨ |
(ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ) [الحجر:٩٩] |
وجاءت كلمة اليقين في الاستعمال القرآني على خمسة أوجه8:
الأول: التصديق: ومنه قوله تعالى: (ﭯ ﭰ ﭱ) [البقرة:٤]. أي: بالبعث يصدقون.
الثاني: الصدق: ومنه قوله تعالى: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ)[النمل: ٢٢]. أي: بخبر صدق.
الثالث: المشاهدة والعيان: ومنه قوله تعالى: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ) [التكاثر:٥]. أي: علم العيان.
الرابع: الموت: ومنه قوله تعالى: (ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ) [الحجر:٩٩]. يعني: الموت.
الخامس: العلم المتيقن: ومنه قوله تعالى: (ﮒ ﮓ ﮔ) [النساء: ١٥٧]. أي: وما قتلوه علمًا.
العلم:
العلم لغةً:
العين واللام والميم أصل صحيح واحد، يدل على أثرٍ بالشيء يتميز به عن غيره، من ذلك العلامة، وهي معروفة، والعَلَمُ: الراية، والجمع: أعلام، والعِلْمُ: نقيض الجهل، وتعلمت الشيء: أخذته، وتعلمت، أي: علمت9.
العلم اصطلاحًا:
الاعتقاد الراجح المانع من النقيض.
وقيل: إدراك الشيء بحقيقته10.
الصلة بين العلم واليقين:
إن العلم هو اعتقاد الشيء على ما هو به على سبيل الثقة، واليقين: هو سكون النفس وثلج الصدر بما علم، ولهذا لا يجوز أن يوصف الله تعالى باليقين11.
وقيل: اليقين: لا شك فيه، فهو استقرار العلم الذى لا يحول ولا ينقلب ولا يتغير فى القلب، والعلم يعارضه الشكوك، وهو على درجات، فمن أعلى درجات العلم، ومن أكملها، وأرفعها، وأقواها، وأثبتها درجة اليقين12.
الظن:
الظّنُّ لغةً:
الظاء والنون أصل صحيح يدل على معنيين مختلفين: يقين وشكٌّ، فأما اليقين فقول القائل: ظَنَنْتُ ظنًّا، أي: أيقنت، والأصل الآخر: الشكُّ، يقال: ظننت الشيء، إذا لم يتيقنه، ومن ذلك الظنة: التهمة. والجمع: الظنن 13.
الظَّنُّ اصطلاحًا:
قال الأصفهاني: «اسم لما يحصل عن أمارة، ومتى قويت أدت إلى العلم، ومتى ضعفت جدًّا لم يتجاوز حدَّ التوهم»14، وقال الجرجاني: «هو الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض، ويستعمل في اليقين والشكِّ، وقيل: الظنُّ: أحد طرفي الشكِّ بصفة الرجحان»15.
الصلة بين اليقين والظنِّ:
اليقين: قطعيٌّ لا ظنَّ ولا شك فيه، لذلك لا يوجد طرفان ليتم الترجيح بينهما، الظنُّ: فيه شك، ويتطلب رجحان أحد طرفي التجوز.
الشك:
الشكُّ لغةً:
الشين والكاف أصل واحد مشتق بعضه من بعض، وهو يدل على التداخل، والشكُّ الذي هو خلاف اليقين، إنما سمي بذلك؛ لأنَّ الشاكَّ كأنه شكَّ له الأمران في مشكٍّ واحد، وهو لا يتيقن واحدًا منهما، فمن ذلك اشتقاق الشكِّ16.
الشكُّ اصطلاحًا:
هو اعتدال النقيضين عند الإنسان وتساويهما، وذلك قد يكون لوجود أمارتين متساويتين عند النقيضين، أو لعدم الأمارة فيهما 17. وقال الجرجاني رحمه الله: «الشكُّ هو التردد بين النقيضين بلا ترجيح لأحدهما على الآخر عند الشاكِّ، وقيل: الشكُّ ما استوى طرفاه، وهو الوقوف بين الشيئين لا يميل القلب إلى أحدهما، فإذا ترجح أحدهما ولم يطرح الآخر فهو ظنٌّ، فإذا طرحه فهو غالب الظن وهو بمنزلة اليقين» 18.
الصلة بين اليقين والشكِّ:
اليقين: مؤكد الاختيار فلا تردد ولا حيرة في أخذه، والشكُّ: فيه تردد بين الأشياء لا يعرف أيهما أصحّ من الآخر.
يقول العلماء في بيان مكانة اليقين ومنزلته: اليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، وفيه تَفَاضَلَ العارفون وتنافس المتنافسون، وإليه شَمَّرَ العاملون، وعمل القوم إنما كان عليه، وإشارتهم كلها إليه.
ويقول سيدنا ابن مسعود رضي الله عنه: «اليقين الإيمان كله»، ويقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: «بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين»، وقال رحمه الله: «الصبر نصف الإيمان واليقين الإيمان كله»ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله: «ومن منازل (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) [الفاتحة: ٥] منزلة اليقين»19.
وخصَّ تعالى أهل اليقين بانتفاعهم بالآيات والبراهين، قال -وهو أصدق القائلين-: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ) [الذاريات: ٢٠].
وخصَّ أهل اليقين بالهدى والفلاح من بين العالمين فقال: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [البقرة: ٤ - ٥].
وأخبر عن أهل النار بأنهم لم يكونوا من أهل اليقين: (ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ ﰟ ﰠ ﰡ ﰢ) [الجاثية٣٢].
فاليقين روح أعمال القلوب التى هى أرواح أعمال الجوارح، وهو حقيقة الصديقية، وقطب رحى هذا الشأن الذى عليه مداره.
قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عنه عبد الله بن مسعودٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تُرْضِيَنَّ أحدًا بسخط الله. ولا تحمدنَّ أحدًا على فضل الله، ولا تذمنَّ أحدًا على ما لم يؤتك الله. فإن رزق الله لا يسوقه إليك حرص حريصٍ، ولا يرده عنك كراهية كارهٍ. وإن الله بعدله وقسطه جعل الروح والفرح في الرضا واليقين، وجعل الهمَّ والحزن في الشكِّ والسخط)20.
واليقين قرين التوكل، ولهذا فسر التوكل بقوة اليقين. والصواب أن التوكل ثمرة اليقين ونتيجته، ولهذا حسن اقتران الهدى به، قال تعالى: (ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [النمل: ٧٩].
فالحقُّ هو اليقين.
وقالت رسل الله: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ) [إبراهيم: ١٢].
فمتى وصل اليقين إلى القلب امتلأ نورًا وإشراقًا، وانتفى عنه كلُّ ريبٍ وشكٍّ وسخط وغمٍّ وهمٍّ، وامتلأ محبة لله وخوفًا منه ورضًا به، وشكرًا له، وتوكلًا عليه، وإنابةً إليه، فهو مادة جميع المقامات، والحامل له. فاليقين لا يساكن قلبًا فيه سكونٌ إلى غير الله. وقال ذو النون: اليقين يدعو إلى قصر الأمل، وقصر الأمل يدعو إلى الزهد، والزهد يورث الحكمة، وهى تورث النظر فى العواقب.
وثلاثةٌ من أعلام اليقين: قلة مخالطة الناس فى العشرة؛ وترك المدح لهم فى العطية؛ والتنزه عن ذمهم عند المنع.
وثلاثةٌ من أعلامه أيضًا: النظر إليه فى كلِ شيء؛ والرجوع إليه فى كلِّ أمر؛ والاستعانة به فى كلِّ حال.
وقال ابن عطاءٍ رحمه الله: «على قدر قربهم من التقوى أدركوا من اليقين. وأصل التقوى مباينة المنهى عنه، فعلى مفارقتهم النفس وصلوا إلى اليقين».
ويقول الإمام علي: «أيها الناس، سلوا الله اليقين، وارغبوا إليه في العافية؛ فإنَّ أجل النعمة العافية، وخير مادام في القلب اليقين، والمغبون من غبن دينه، والمغبوط من غبط يقينه»21.
ولهذا خطب أبو بكر رضي الله عنه قال: (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مقامي هذا عام الأول، وبكى أبو بكر، فقال أبو بكر: سلوا الله المعافاة -أو قال: العافية-. فلم يؤت أحد قطُّ بعد اليقين أفضل من العافية أو المعافاة. عليكم بالصدق، فإنه مع البرِّ وهما في الجنة، وإياكم والكذب فإنه مع الفجور وهما في النار، ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تقاطعوا ولا تدابروا، وكونوا كما أمركم الله تعالى)22.
ولذلك جعل اليقين معينًا على قبول الدعاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (القلوب أوعية وبعضها أوعى من بعض، فإذا سألتم الله عزَّ وجلَّ أيها الناس فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة، فإن الله لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل)23.
ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نسأل المولى جلَّ وعلا اليقين، وأن يهون به علينا مصائب الدنيا والآخرة، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه: (اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا) الحديث 24.
وقد حكى الإمام الحسن البصري رحمه الله عن لقمان في وصيته لابنه رضي الله عنهما: «يا بني العمل لا يستطاع إلا باليقين، ومن يضعف يقينه يضعف عمله»25.
والخلاصة: أن لليقين مكانة كبيرة فاليقين هو لب الدين ومقصوده الأعظم. ويزيد العبد خضوعًا واستكانة لمولاه. كما يضع صاحبه دائمًا في موضع الإخلاص والصدق. ضابط قوي يرقب العلاقة بين المسلم وربه، ويجعلها تلتزم خط السلامة والأمان حتى يصل إلى دار الرضوان26.
المتأمل في القرآن يجد أن لليقين ثلاثة مقامات تحدث عنها القرآن في موضعين، وقبل بيانها نوضح تلك المقامات بالمثال التالي:
إذا أخبرك شخص ما بأن عنده عسلًا وأنت لا تشكُّ فى صدقه، ثم أراك إياه فازددت يقينا، ثم ذقت منه، فالأول علم يقين، والثانى عين يقينٍ؛ والثالث حق يقين.
فعِلَمُنا الآن بالجنة والنار علم يقينٍ، فإذا أزلفت الجنة فى الموقف وشاهدها الخلائق، وبرزت الجحيم وعاينها الخلائق، فذلك عين اليقين، فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فذلك هو حق اليقين27.
وأسمى أنواع اليقين هو (حق اليقين)، وقبلها (عين اليقين)، وقبل (عين اليقين): (علم اليقين).
فاليقين علمٌ إذا جاء عن إخبار من تثق به، وعين يقين إذا كان الأمر قد شوهد مشاهدة العين، وحق يقين هو أن تدخل في حقيقة الشيء28.
و هذه الدرجة لا ينالها فى هذا العالم إلا الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم-، فإن نبينا صلى الله عليه وسلم رأى بعينه الجنة والنار، وموسى عليه السلام سمع كلام الله إليه بلا واسطة وكلمه تكليمًا، وتجلَّى للجبل وموسى ينظر فجعله دكًّا هشيمًا، فحصل لهما حق اليقين، وهو ذوق ما أخبر به الرسول من حقائق الإيمان المتعلقة بالقلوب، وأن القلب إذا باشرها وذاقها صارت فى حقه حق يقين.
وأما فى أمور الآخرة والمعاد، ورؤية الله جهرةً عيانًا، وسماع كلامه حقيقة بلا واسطة، فحظ المؤمن منه فى هذه الدار الإيمان به. وعلم اليقين وحق اليقين يتأخر إلى وقت اللقاء بالنسبة لنا29.
يوضح الحق سبحانه وتعالى تلكم المقامات فيقول جلَّ شأنه في سورة التكاثر مبينًا المقامين الأولين: (ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ) [التكاثر: ١-٨].
ينعي الحق سبحانه وتعالى على هؤلاء الذين شغلهم كثرة المال والعدد عن طاعة ربهم، وعما ينجيهم من سخطه عليهم.
فقد كان يقول هؤلاء: نحن أكثر من بني فلان، ونحن أعد من بني فلان، وهم كلّ يوم يتساقطون إلى آخرهم، والله ما زالوا كذلك حتى صاروا من أهل القبور كلهم.
فالمراد بالتكاثر: التبارى في الكثرة والتباهي بها، وأن يقول هؤلاء: نحن أكثر، وهؤلاء: نحن أكثر30.
ثم حذرهم وتوعدهم أنهم لا ينبغي لهم أن يلهيم التكاثر بالأموال، وكثرة العدد عن طاعة ربهم؛ لأنهم سوف يعلمون إذا زاروا المقابر ما يلقون -إذا هم قاموا بزيارتها- من مكروه اشتغالهم عن طاعة ربهم بالتكاثر.
يعني: حتى صرتم إلى المقابر فدفنتم فيها، وفي هذا دليل على صحة القول بعذاب القبر؛ لأن الله تعالى ذكره، قد أخبر عن هؤلاء القوم الذين ألهاهم التكاثر، أنهم سيعلمون ما يلقون إذا هم زاروا القبور وعيدًا منه لهم وتهددًا 31.
وجعل الغاية زيارة المقابر دون الموت؛ إيذانا بأنهم غير مستبقين ولا مستقرين في القبور، وأنهم فيها بمنزلة الزائرين، يحضرونها مرة ثم يظعنون عنها، كما كانوا في الدنيا كذلك زائرين لها، غير مستقرين فيها، ودار القرار هي الجنة أو النار32.
وكرر قوله: (ﮒ ﮓ ﮔ) مرتين؛ لأن العرب إذا أرادت التغليظ في التخويف والتهديد كرروا الكلمة مرتين.
ولذلك كان النبي يقول: فيما يرويه عنه مطرفٍ، عن أبيه، قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: (ﮋﮌ)، قال: (يقول ابن آدم: مالي، مالي، قال: وهل لك، يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟)33.
وعن أنس بن مالك، عن أبي بن كعب، قال: (كنا نرى أن هذا الحديث من القرآن: (لو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى واديا ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ثم يتوب الله على من تاب) حتى نزلت هذه السورة: (ﮋﮌ) إلى آخرها34.
ثم يرشد هؤلاء إلى ما ينبغي التحلي به فقال: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) يعني: فما هكذا ينبغي أن تفعلوا، أن يلهيكم التكاثر أيها الناس، -لو تعلمون أيها الناس علما يقينا-، أن الله باعثكم يوم القيامة من بعد مماتكم من قبوركم ما ألهاكم التكاثر عن طاعة الله ربكم، ولسارعتم إلى عبادته، والانتهاء إلى أمره ونهيه، ورفض الدنيا إشفاقا على أنفسكم من عقوبته. وهذا هو المقام الأول مقام علم اليقين وذلك بإيقان أنً البعث والموت حق.
فعلم اليقين: هو العلم الذي يصل به صاحبه إلى حدِّ الضروريات، التي لا يشك ولا يماري في صحتها وثبوتها. ولو وصلت حقيقة هذا العلم إلى القلب وباشرته لما ألهاه شيء عن موجبه، ولترتب أثره عليه.
فإنَّ مجرد العلم بقبح الشيء وسوء عواقبه قد لا يكفي في تركه. فإذا صار له علم اليقين كان اقتضاء هذا العلم لتركه أشد. فإذا صار عين يقين، كجملة المشاهدات، كان تخلف موجبه عنه أندر شيء35.
ثم يبين الحقُّ سبحانه وتعالى المقام الثاني وهو عين اليقين: والمقصود به يقين المشاهدة والرؤية، وهو ما استغنى به صاحبه عن الدليل؛ لأنه يراه رأي العين، ويشير إليه قوله: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ) فيبين الحق سبحانه وتعالى للمشركين في هاتين الآيتين ما أنذرهم منه وأوعدهم به من رؤية جنهم عيانًا يوم القيامة، أي: لترون أيها المشركون جهنم يوم القيامة، ثم لترونها عيانًا لا تغيبون عنها36.
قال صاحب زاد المسير: «لترونها عين اليقين، أي: مشاهدة، فكان المراد بـ (عين اليقين) نفسه؛ لأن عين الشيء: ذاته»37.
فالمراد بالأولى المعرفة وبالثانية الإبصار، وإنما كرر الرؤية لتأكيد الوعيد، فالمراد بعين اليقين: الرؤية التي هي نفس اليقين، حيث إن علم المشاهدة أعلى مراتب اليقين38.
فقوله: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ) هذا مصدر مؤكد، كأنه قيل: رؤية اليقين نفيًا لتوهم المجاز في الرؤية الأول39.
وفائدة تخصيص الرؤية الثانية باليقين؟ قلنا: لأنهم في المرة الأولى رأوا لهبًا لا غير، وفي المرة الثانية رأوا نفس الحفرة وكيفية السقوط فيها وما فيها من الحيوانات المؤذية، ولا شكَّ أن هذه الرؤية أجلى، والحكمة في النقل من العلم الأخفى إلى الأجلى التقريع على ترك النظر؛ لأنهم كانوا يقتصرون على الظنِّ ولا يطلبون الزيادة40.
أما المقام الثالث والأخير وهو مقام حقِّ اليقين: وهو مقام المباشرة والوجدان، هو مباشرة الشيء بذوقه والإحساس به، وقد جاء ذكره في سورة الواقعة في قوله تعالى: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ) [الواقعة: ٩٢ - ٩٥].
فالحقُّ يقول لنا: إن هذا الذي أخبرتكم به أيها الناس من الخبر عن المقربين وأصحاب اليمين، وعن المكذبين الضالين، وما إليه صائرة أمورهم (ﮱ ﯓ ﯔ) أي: لهو الحق من الخبر اليقين لا شك فيه.
وعن قتادة إنَّ الله تعالى ليس تاركًا أحدًا من خلقه حتى يوقفه على اليقين من هذا القرآن. فأمَّا المؤمن فأيقن في الدنيا، فنفعه ذلك يوم القيامة. وأما الكافر، فأيقن يوم القيامة حين لا ينفعه41.
يعني: وأمَّا إن كان - هذا المتوفى- (ﮤ ﮥ) أي: بآيات الله (ﮦ) أي: الجائرين عن سبيله. (ﮨ ﮩ ﮪ) أي: ماء انتهى حره. فهو شرابه يعني: من ماء قد بلغ أقصى درجات الحرارة.
وعبر عن المكان الذي ينزل فيه بالنزل، على سبيل التهكم؛ إذ النزل في الأصل يطلق على ما يقدم للضيف على سبيل التكريم.
(ﮬ ﮭ) أي: وجزاؤه أيضًا إحراق بالنار، يعني: إدخال في نار جهنم التي تشوى جسده وتحرقه.
إن هذا -أي: المذكور الذي قصصناه عليك- أيها الرسول الكريم- من أحوال الفرق الثلاثة وعواقبهم لهو (ﯓ ﯔ) أي: حقيقة الأمر، وجلية الحال، لا لبس فيه ولا ارتياب42.
فقوله: (ﯓ ﯔ) من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي: لهو اليقين الحق.. أو هو من إضافة الشيء إلى نفسه مع اختلاف اللفظين، كما في قوله تعالى: (ﭞ ﭟ) [ق: ١٦]؛ إذ الحبل هو الوريد، والقصد من مثل هذا التركيب التأكيد43.
وقد اشتمل هذا التذييل على أربعة مؤكدات وهي: (إن)، ولام الابتداء، وضمير الفصل، وإضافة شبه المترادفين44.
خلاصة القول: إن في قوله تعالى: (ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ) [التكاثر: ١ - ٦].
المرحلة الأولى: وهي أن يأتينا علم اليقين من الله سبحانه وتعالى، ثم تأتي المرحلة الثانية في قوله تبارك وتعالى: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ) [التكاثر: ٧].
أي: أنتم ستشاهدون جهنم بأعينكم يوم القيامة، هذا علم يقين وعين يقين، يأتي بعد ذلك حق اليقين في قوله تعالى: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ) [الواقعة: ٩٢ - ٩٥].
والمؤمن عافاه الله من أن يعاين النار كحق يقين، إنه سيراها وهو يمر على الصراط، ولكن الكافر هو الذي سيصلاها حقيقة يقين45.
المتدبر لآيات القرآن الكريم يتبين له أن القرآن قد بين ثلاثة أسباب تؤدي لحصول اليقين نوردها فيما يلي:
أولًا: الإيمان:
لا شك أن اليقين الحقيقي الثابت الذي لا يتزعزع بزمانٍ ولامكانٍ ولا حالٍ ينبع من معين الإيمان بالله ورسوله وبقضاءه وقدره واليوم الآخر، فهناك تلازم بين الإيمان واليقين، فالأول سبب في تحقق الثاني.
يقول تعالى في أول سورة البقرة في بيان مايتصف به المتقون من الإيمان وما أثمره عنه هذا الإيمان فقال تعالى: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [البقرة: ٤].
فهم يؤمنون ويصدقون بما جاء به الرسول من الله عز وجل وما جاء به من قبله من المرسلين، لا يفرقون بينهم، ولا يجحدون ما جاؤوهم به من عند ربهم، فوصف الله جل ثناؤه المؤمنين بما أنزل إلى نبيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل إلى من قبله من المرسلين بإيقانهم من أمر الآخرة، فهو إيقان بما كان المشركون به جاحدين: من البعث والنشور والثواب والعقاب والحساب والميزان، وغير ذلك مما أعد الله لخلقه يوم القيامة.
وقدم الإيمان بما أنزل عليه على الإيمان بما أنزل على الذين من قبله مع أن الترتيب يقتضى العكس؛ لأن إيمانهم بمن قبله لا قيمة له إلا إذا آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم 46.
قال صاحب اللباب: «فصل فيما استحق به المؤمنون المدح: قال ابن الخطيب: إنه تعالى مدحهم على كونهم متيقنين بالآخرة، ومعلوم أنه لا يمدح المرء بتيقن وجود الآخرة فقط، بل لا يستحق المدح إلا إذا تيقن وجود الآخرة مع ما فيها من الحساب والسؤال وإدخال المؤمنين الجنة والكافرين النار»47.
فأخبر عز وجل عن حال هؤلاء المؤمنين أنهم على يقين، ليسوا على الظن والشك كأولئك المشركين الذين قالوا: (ﰜ ﰝ ﰞ ﰟ ﰠ ﰡ ﰢ) [الجاثية: ٣٢].
فهذا اليقين نابع من الإيمان الحقيقي.
فالتأكيد بكلمة (هم) هو تصوير لليقين بصورة الجملة الاسمية، والجملة الاسمية تدل على بقاء اليقين واستمراره بحيث لا يضطرب ولا يتزعزع ولا ينسى ذلك اليوم أبدًا48.
فاليقين بالآخرة هو مفرق الطريق بين من يعيش بين جدران الحس المغلقة (يعني بدون الإيمان)، وبين من يعيش في الوجود المديد الرحيب. بين من يشعر أن حياته على الأرض هي كل ما له في هذا الوجود، وبين من يشعر أن حياته على الأرض ابتلاء يمهد للجزاء، وأن الحياة الحقيقية إنما هي هنالك، وراء هذا الحيز الصغير المحدود «وهذا لا ينتج إلا عن الإيمان وما يتبعه من يقين بوعد الله وحسابه»49.
وهذا ما أكده القرآن مرة أخرى في بيان ما يتصف به المؤمنون وما أثمره عنه هذا الإيمان فقال تعالى (ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) [النمل: ٣].
فهولاء المؤمنون بالمعاد إلى الله بعد الممات يوقنون، فيذلون في طاعة الله، رجاء جزيل ثوابه، وخوف عظيم عقابه، وليسوا كالذين يكذبون بالبعث ولا يبالون،أحسنوا أم أساؤوا، أطاعوا أم عصوا؛ لأنهم إن أحسنوا لم يرجوا ثوابا، وإن أساؤوا لم يخافوا عقابا50، ولايتأتي ذلك كله إلا بالإيمان.
كأنه قيل: وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هم الموقنون بالآخرة، ويدل عليه أنه عقد جملة اسمية، وكرر فيها المبتدأ الذي هو (هم) حتى صار معناه: وما يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح؛ لأن خوف العاقبة يحملهم على تحمل المشاق.
فلقوة هذه الخصلة الكريمة للمؤمنين وكونها لب الإيمان أكدها الله تعالى بعدة مؤكدات: أولها بتقديم الجار والمجرور، وثانيها بالجملة الإسمية، وذكر ضمير الفصل مرتين في صدر الجملة وآخرها51.
وهذا ما أكده مرة أخرى بنفس الآية في سورة لقمان فقال تعالى: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ) [لقمان: ٤].
ولذلك عندما حاول المشركون إظهار تحسرهم وندمهم - يوم لا ينفع الندم- لعدم يقينهم بوعد الله وحسابه الذي أخبرهم به النبي صلى الله عليه وسلم فكذبوا وتكبروا -وذلك بعكس المؤمنين- وتمنوا الرجوع إلى الحياة الدنيا؛ ليكونوا من المؤمنين الذين يكونون من أصحاب اليقين، ولكن هيهات فقد فات الأوان، والقرآن الكريم يصور ذلك فيقول: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) [السجدة: ١٢].
فقوله: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) حكاية لما يقولونه في هذا الموقف العصيب. أي: يقولون بذلة وندم: يا ربنا، نحن الآن نبصر مصيرنا، ونسمع قولك ونندم على ما كنا فيه من كفر وضلال، فارجعنا إلى الدنيا لكي نعمل عملا صالحًا، إنا موقنون الآن بأن ما جاءنا به رسولك هو الحق، وأن البعث حق، وأن الجزاء حق، وأن الجنة حق، وأن النار حق. ولكن هذا الإيقان والاعتراف منهم قد جاء في غير أوانه، ولذا لا يقبله سبحانه منهم، ولذا عقب سبحانه على ما قالوه بقوله: (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) أي: ولو شئنا أن نؤتى كل نفس رشدها وهداها وتوفيقها إلى الإيمان لفعلنا؛ لأن إرادتنا نافذة، وقدرتنا لا يعجزها شيء52، فلأجل عدم اليقين يكون العقاب والجزاء من الله كما سبق.
وتشير الآية التالية إلى ما فعله الله بهؤلاء المشركين نتيجة لعدم إيقانهم فقال: (ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [النمل: ٨٢].
يعني: فما دام هؤلاء المشركون لم يسمعوا للآيات ولم يقبلوها ولم يلتفتوا إلى منهج الله وصموا عنه آذانهم فلم يسمعوا كلام أمثالهم من البشر فسوف نخرج لهم دابة تكلمهم، وانظر إلى هذه الإهانة وهذا التوبيخ: أنتم لم تسمعوا كلام أمثالكم من البشر، ولم تفهموا من يخاطبكم بلغتكم، فاسمعوا الآن من الأدنى، وافهموا عنها، وفسروا قولها. لكن ماذا ستقول الدابة لهم؟ وما نوع كلامها؟53.
وجملة: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) تعليل لإظهار هذا الخارق للعادة، حيث لم يوقن المشركون بآيات القرآن، فجعل ذلك إلجاء لهم حين لا ينفعهم54.
ثانيًا: التفكر:
إن التفكر والتأمل والتدبر في الكون وما أوجده الله فيه من مخلوقات وأشياء عديدة ومتنوعة بعقل مجرد يوصل لا محالة إلى اليقين بألوهية وربوبية الخالق الموجد الحق سبحانه وتعالى، ولقد كانت قضية إعمال العقل والتفكر من وسائل الأنبياء لدعوة أقوامهم إلى الإيمان وتحقيق اليقين، ونجد ذلك واضحًا في حديث موسى إلى فرعون، يسأل فرعون موسى عن هذا الإله الذي يدعو الناس إليه وهو منهم (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) [الشعراء: ٢٣- ٢٤] إنه خالقهما.
قال أهل المعاني: أي كما توقنون هذه الأشياء التي تعاينونها فأيقنوا أن إله الخلق هو الله عز وجل، لأن خالق هذه الأشياء لا يمكن أن يكون إنسانا أو جانًّا؛ بل خالقهما المدبر القادر المقتدر وهو الله55.
وبتعبير آخر: إن كنتم موقنين بإسناد هذه المحسوسات إلى موجود واجب الوجود،فاعرفوا أنه لا يمكن تعريفه إلا بما ذكرته؛ لأنكم لما سلمتم انتهاء هذه المحسوسات إلى الواجب لذاته ثبت أن الواجب لذاته فرد مطلق، وثبت أن الفرد المطلق لا يمكن تعريفه إلا بآثاره، وثبت أن تلك الآثار لابد وأن تكون أظهر آثاره وأبعدها عن الخفاء، وما ذاك إلا السموات والأرض وما بينهما، فإن أيقنتم بذلك لزمكم أن تقطعوا بأنه لا جواب عن ذلك السؤال إلا هذا الجواب56.
فخالق جميع ذلك ومالكه والمتصرف فيه وإلهه لا شريك له هو الله الذي خلق الأشياء كلها، العالم العلوي وما فيه من الكواكب الثوابت والسيارات النيرات، والعالم السفلي وما فيه من بحار وقفار، وجبال وأشجار، وحيوان ونبات وثمار، وما بين ذلك من الهواء والطيور، وما يحتوي عليه الجو، الجميع عبيد له خاضعون ذليلون. إن كانت لكم قلوب موقنة وأبصار نافذة57.
معنى قوله: (ﭺ ﭻ ﭼ) إن كان يرجى منكم الإيقان الذي يؤدى إليه النظر الصحيح نفعكم هذا الجواب، وإلا لم ينفع. أو إن كنتم موقنين بشيء قط فهذا أولى ما توقنون به؛ لظهوره وإنارة دليله58.
وكأن القرآن يقول لنا: إذا نظرتم فيما حولكم واستخدمتم عقولكم ستصلون إلى النتيجة الحتمية وبأعلى الطمأنينة أن الخالق المدبر هو الله وهذا هو اليقين حقًّا (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) [الدخان: ٧].
ولقد استخدمت القوى العقلية وأساليب الفكر والمنطق لبناء اليقين وتدعيمه أيضًا من خلال الحديث عن السماوات والأرض مرة أخرى ولكن في مخاطبة مشركي قريش، ولكن حينما تنغلق العقول وتقفل القلوب لا يكون للكلام المنطقي أثر في تحقيق هذا اليقين.
يقول تعالى: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [الطور: ٣٥].
قال ابن عباس: «من غير ربٍّ خالق».
والمعنى: أم خلقوا من غير شيء خلقهم فوجدوا بلا خالق وذلك مما لا يجوز أن يكون؛ لأن تعلق الخلق بالخالق من ضرورة الاسم، فإن أنكروا الخالق لم يجز أن يوجدوا بلا خالق (ﭯ ﭰ ﭱ) أي: لأنفسهم، وذلك في البطلان أشد؛ لأن ما لا وجود له كيف يخلق؟ فإذا بطل الوجهان قامت الحجة عليهم بأن لهم خالقا، فليؤمنوا به وليوحدوه وليعبدوه. وقيل: في معنى الآية: أخلقوا باطلا فلا يحاسبون ولا يؤمرون ولا ينهون، أم هم الخالقون -أي: لأنفسهم- فلا يجب عليهم لله أمر؟
(ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) [الطور: ٣٦] يعني: أخلقوا السماوات والأرض فيكونوا هم الخالقين، وليس الأمر كذلك.
(ﭸ ﭹ ﭺ) [الطور: ٣٦] أي: بالحق، وهو توحيد الله تعالى وقدرته على البعث وأن الله تعالى هو خالقهم وخالق السموات والأرض فليؤمنوا به وليوقنوا أنه ربهم وخالقهم59.
وكأنه قيل لهم: ألا يتدبرون في الآيات فيعلموا خالقهم وخالق السموات والأرض ويصلوا بذلك إلى اليقين؟ ولو أيقنوا ذلك لما أعرضوا عن عبادته.
فهذا عرض عام للوجود كله، ففى كل نظرة ينظر بها المؤمن فى هذا الوجود يرى آيات دالة على قدرة الله وعلمه وحكمته.. فالكون كله فى نظر المؤمن بالله كتاب مفتوح، يقرأ فى صفحاته آيات تحدث عن جلال الله، وعظمته، وكماله.. وفى كل شىء له آية تدل على أنه الواحد.
أما غير المؤمن فلا يرى فيما يرى من هذا الوجود إلا أشباحا تتحرك، وكائنات تظهر وتختفى.. وقد ينبهر بما يرى، ويفتن بما يملأ عينيه من جمال، ولكنه يظل حيث هو فى تعامله مع كائنات الوجود وعوالمه، دون أن يصله شىء من هذا بخالق الكون ومبدعه!60.
ولهذا يري الحق سبحانه وتعالى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض؛ ليصل إلى مرحلة تأكيد اليقين لديه، قال: (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) [الأنعام: ٧٥].
فلما اهتدى سيدنا إبراهيم إلى أن عبادة الأصنام ضلال مبين، فسيريه الله ملكوت السموات والأرض ما دام قد اهتدى إلى أن هناك إلهًا حقًّا، فالإله الحق يبين له أسرار الكون؛ ليتفكر فيها والتي تجعله يزداد يقينًا وإيمانًا61.
قال المهايمي في الآية: «(ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ)؛ ليعلم أن شيئًا من روحانيات الأفلاك والكواكب والمشايخ والشياطين لا يصلح للإلهية، وليكون من الموقنين بالتوحيد بالاستدلال بالأدلة الكثيرة.
وقيل: وليكون علة لمقدر هو عبارة عن المذكور. أي: وليكون من الموقنين بالتوحيد فعلنا ما فعلنا من الإراءة والتبصير بآيات السماوات والأرض»62.
وإنما قال: (ﭣ ﭤ) بصيغة المضارع، مع أن الظاهر أن يقول: (أريناه)؛ لاستحضار صورة الحال الماضية التي كانت تتجدد وتتكرر بتجدد رؤية آياته تعالى في ذلك الملكوت العظيم63.
وهاهنا دقيقة عقلية، وهي أن نور جلال الله تعالى لائح غير منقطع ولا زائلٌ البتة، والأرواح البشرية لا تصير محرومة عن تلك الأنوار إلا لأجل حجاب، وذلك الحجاب ليس إلا الاشتغال بغير الله تعالى، فإذا كان الأمر كذلك فبقدر ما يزول ذلك الحجاب يحصل هذا التجلي64.
ولئن كانت الآيتان السابقتان قد جعلتا التفكر في كل من السماوات والأرض وسيلة وسببًا من أسباب اليقين إلا أن القرآن في موضع آخر ذكر أن الأرض بما حوته وما أودعه الله فيها وحدها من أشياء وخيرات تكون من أسباب اليقين (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ) [الذاريات: ٢٠].
ففي الأرض آياتٌ تدل على الصانع وقدرته وحكمته وتدبيره لمن يتدبر ويتفكر ويعقل، حيث هي مدحوة كالبساط لما فوقها كما قال: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [طه: ٥٣].
وفيها المسالك والفجاج للمتقلبين فيها والماشين في مناكبها، وهي مجزأة، فمن سهل وجبل وبر وبحر، وقطع متجاورات، من صلبة ورخوة وعذاة وسبخة، وهي كالطروقة تلقح بألوان النبات وأنواع الأشجار بالثمار المختلفة الألوان والطعوم والروائح تسقى بماء واحد (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ)[الرعد: ٤].
وكلها موافقة لحوائج ساكنيها ومنافعهم ومصالحهم في صحتهم واعتلالهم، وما فيها من العيون المتفجرة والمعادن المفتنة والدواب المنبثة في برها وبحرها المختلفة الصور والأشكال والأفعال: من الوحشي والإنسى والهوام، وغير ذلك للموقنين الموحدين الذين سلكوا الطريق السوي البرهاني الموصل إلى المعرفة، فهم نظارون بعيون باصرة وأفهام نافذة، كلما رأوا آية عرفوا وجه تأملها، فازدادوا إيمانا مع إيمانهم وإيقانا إلى إيقانهم65.
وإذا خرجنا من دائرة السماوات والأرض ونظرنا إلى الإنسان خلقًا وإيجادًا وما يبثه الحق من دابة تدب على الأرض من غير جنس البشر يصل بالإنسان إلى تحقيق اليقين.
وفي ذلك يقول تعالى: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ) [الجائية: ٤].
وفي خلقكم أي: من تراب ثم من نطفة إلى أن يتكامل خلق الإنسان، وإليه الإشارة بقوله تعالى: (ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ) [فاطر: ١١].
وقوله: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ) [غافر: ٦٧].
وقوله: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ) أي: وما يفرق في الأرض من جميع ما خلق على اختلاف ذلك في الخلق والصور آياتٌ تدل على وحدانيته66.
ووجه دلالتها على وجود الإله القادر المختار أن الأجسام متساوية، فاختصاص كل واحد من الأعضاء بكونه المعين وصفته المعينة وشكله المعين لا بد وأن يكون بتخصيص القادر المختار، ويدخل في هذا الباب انتقاله من سن إلى سن آخر ومن حال إلى حال67.
وإذا وسعنا الدائرة ونظرنا في قوله: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ) [الرعد: ٢].
لوجدنا أن التدبير والتفصيل متجدد متكرر بتجدد تعلق القدرة بالمقدورات. وهذا التدبير المحكم والتفصيل لكل الآيات يصل بالإنسان من خلال التفكير إلى اليقين والإيمان الحقيقي.
وتدبير الأمر: تصريفه على أحسن الوجوه وأحكمها وأكملها. والآيات: جمع آية. والمراد بها هنا: ما يشمل الآيات القرآنية، والبراهين الكونية الدالة على وحدانيته وقدرته سبحانه.
أي: إنه سبحانه يقضي ويقدر ويتصرف في أمر خلقه على أكمل الوجوه من تدبيره لأمور خلقه ومن تفصيله للآيات لعلكم عن طريق التأمل والتفكير فيما خلق توقنون بلقائه، وتعتقدون أن من قدر على إيجاد هذه المخلوقات العظيمة لا يعجزه أن يعيدكم إلى الحياة بعد موتكم لكي يحاسبكم على أعمالكم68.
فالنظر في تفصيله الآيات وتدبيره للأمور يوصل إلى اليقين، فقوله: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ) لكي تتفكروا فيها وتتحققوا كمال قدرته فتعلموا أن من قدر على خلق هذه الأشياء وتدبيرها قدر على الإعادة والجزاء69.
يعني أنه تعالى يبين الآيات الدالة على وحدانيته وكمال قدرته لكي توقنوا وتصدقوا بلقائه والمصير إليه بعد الموت؛ لأن من قدر على إيجاد الإنسان بعد عدمه قادر على إيجاده وإحيائه بعد موته، واليقين صفة من صفات العلم، وهو فوق المعرفة والدراية، وهو سكون الفهم مع ثبات الحكم وزوال الشك70.
جملة القول: إن القرآن ينبه ويوقظ العقل إلى التفكر والتدبر لكي يصل إلى اليقين والحقيقة عن اقتناع كامل، ولا أن يكون مجرد مقلد يتبع ما يقال له دون أن يصل إلى اليقين، وأن يلغي العقل والفكر ليكون حبيس التقليد والجمود كما فعل مشركو قريش أو قوم سيدنا إبراهيم وكل من على شاكلتهم. غير أن إعمال العقل والتفكير يكون بأصول الشرع وقواعده، وإلا يصل بالإنسان إلى الإلحاد كما راح إلى ذلك الفلاسفة الماديون.
ثالثًا: تدبر القرآن:
ويشير القرآن إلى ذلك من خلال سورة المدثر فيقول تعالى: (ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) [المدثر: ٣١].
ففي هذه الآية الكريمة رد على المشركين الذين سخروا من النبي صلى الله عليه وسلم عندما عرفوا منه أن على سقر تسعة عشر ملكا يتولون أمرها71.
قال الإمام ابن كثير: «يقول الله تعالى: (ﮊ ﮋﮌ ﮍ) أي: خزانها (ﮎ ﮏ) أي: غلاظا شدادا. وذلك رد على مشركي قريش حين ذكر عدد الخزنة فقال أبو جهل: يا معشر قريش، أما يستطيع كل عشرة منكم لواحد منهم فتغلبونهم؟ فقال الله تعالى: (ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ) أي: شديدو الخلق لا يقاومون ولا يغالبون.
وقد قيل: إن أبا الأشد -واسمه: كلدة بن أسيد بن خلف- قال: يا معشر قريش، اكفوني منهم اثنين وأنا أكفيكم سبعة عشر.إعجابا منه بنفسه، وكان قد بلغ من القوة- فيما يزعمون- أنه كان يقف على جلد البقرة ويجاذبه عشرة؛ لينتزعوه من تحت قدميه، فيتمزق الجلد، ولا يتزحزح عنه» 72.
وقال الجمل في حاشيته: «قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية (ﮆ ﮇ ﮈ) [المدثر: ٣٠]، قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم! محمد صلى الله عليه وسلم يخبر أن خزنة النار تسعة عشر، وأنتم الشجعان، أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم؟! فقال أبو الأشد: أنا أكفيكم منهم سبعة عشر، عشرة على ظهري، وسبعة على بطني، واكفوني أنتم اثنين. فأنزل الله تعالى: (ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ)»73.
يعني: (ﮊ ﮋﮌ ﮍ) أي: خزنتها (ﮎ ﮏ) لأنهم أقوى الخلق بأسا، وأشدهم غضبا لله؛ ليباينوا جنس المعذبين، فلا يستروحون لهم.
(ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) أي: من مشركي قريش. أي: إلا عدة من شأنها أن يفتتن بها الكافرون، فيجعلوها موضع البحث والهزء74.
قال الكعبي: «المراد من الفتنة الامتحان حتى يفوض المؤمنون حكمة التخصيص بالعدد المعين إلى علم الخالق سبحانه. قال: وهذا من المتشابه الذي أمروا بالإيمان به».
وقال الإمام الرازي: «وإنما صار هذا العدد سببا لفتنة الكفار من وجهين:
الأول: أن الكفار كانوا يستهزئون، ويقولون: لم لا يكونون عشرينبدلًا من تسعة عشر؟! وما المقتضى لتخصيص هذا العدد؟
والثاني: أن الكفار كانوا يقولون: هذا العدد القليل كيف يكون وافيا بتعذيب أكثر العالم من الجن والإنس؟!
وأجيب عن الأول بأن هذا السؤال لازم على كل عدد يفرض، وأفعال الله تعالى لا تعلل، فلا يقال فيها: لم كان هذا العدد؟ فإن ذكره لحكمة لا يعلمها إلا هو سبحانه.
وأجيب عن الثاني بأنه لا يبعد أن الله تعالى يعطى ذلك العدد القليل قوة تفي بذلك، فقد اقتلع جبريل وحده مدائن قوم لوط على أحد جناحيه، ورفعها إلى السماء ثم قلبها، فجعل عاليها سافلها.. وأيضًا فأحوال القيامة لا تقاس بأحوال الدنيا، وليس للعقل فيها مجال».
(ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) أي: رسالة النبي -صلوات الله عليه-؛ لإنبائه من وعيد الجاحدين المفسدين ما لديهم مصداقه75.
أي: ليتيقن أهل الكتاب من صدق محمد، وأن هذا القرآن من عند الله؛ إذ يجدون هذا العدد في كتبهم المنزلة (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ) أي: ويزداد المؤمنون تصديقًا لله ورسوله بما يشهدون من صدق أخبار نبيهم صلى الله عليه وسلم وتسليم أهل الكتاب لما جاء في القرآن موافقًا للتوراة والإنجيل76.
والاستيقان: قوة اليقين، فالسين والتاء فيه للمبالغة. والمعنى: ليستيقنوا صدق القرآن حيث يجدون هذا العدد مصدقا لما في كتبهم.
والاستيقان من شأنه أن يعقبه الإيمان إذا صادف عقلًا بريئًا من عوارض الكفر كما وقع لعبد الله بن سلام، وقد لا يعقبه الإيمان لمكابرة أو حسد أو إشفاق من فوات جاه أو مال كما كان شأن كثير من اليهود الذي قال الله فيهم: (ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [البقرة: ١٤٦].
ولذلك اقتصرت الآية على حصول الاستيقان لهم77.
وقوله تعالى: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) معطوف على قوله: ليستيقن.. وهو مؤكد لما قبله، من الاستيقان وازدياد الإيمان، ونفيٌ لما قد يعتري المستيقن من شبهة عارضة. أي: فعلنا ما فعلنا؛ ليكتسب أهل الكتاب اليقين من نبوته صلى الله عليه وسلم وصدق كتابه وهو القرآن، وليزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم. ولتزول كل ريبة أو شبهة قد تطرأ على قلوب الذين أوتوا الكتاب، وعلى قلوب المؤمنين78.
وفي التعبير بالاستيقان في جانب أهل الكتاب وبازدياد الإيمان في جانب المؤمنين مراعاة لمقتضى الحال في كل من الفريقين فأهل الكتاب والمقصود به من أهل الكتاب هنا هم أولو العلم منهم الذين سلموا من الهوى المضل الذي أفسد على كثير من علمائهم دينهم- هؤلاء يبعث فيهم هذا الخبر الجديد الذي جاء به القرآن يقينا بأن ما يتلقاه محمد هو وحي من عند الله. هذا إلى ما كان عندهم من علم بهذا النبي المبشر به فى كتبهم والمبينة صفاته فيها..
وأما المؤمنون فهم مؤمنون بصدق الرسول، من قبل نزول هذه الآيات ومن بعد نزولها.. ولكنهم يزدادون إيمانًا كلما تلقوا من آيات الله جديدًا، يثبت إيمانهم ويزيدهم قوة استبصار لمعالم الحق.. وهؤلاء المؤمنون هم الذين آمنوا إيمانا خالصا من شوائب الشك والارتياب79.
وهكذا فإن قراءة القرآن وتدبره بعناية ترسخ اليقين وتقوي منه، وتؤكد صدق القرآن ونبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم. فالإخبار عن المغيبات عن طريق القرآن الكريم من شأنه أن تجعل الإيمان في قلوب المؤمنين الصادقين يزداد رسوخا وثباتا، فمن تدبر القرآن طالبًا للهدى منه تبين له طريق الحق.
ولذا يقول النبـي المصطفى فيما يرويه أبو هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحاسد إلا في اثنتين: رجلٌ آتاه الله القرآن، فهو يتلوه آناء الليل والنهار، يقول: لو أوتيت مثل ما أوتي هذا لفعلت كما يفعل ورجلٌ آتاه الله مالًا ينفقه في حقه، فيقول: لو أوتيت مثل ما أوتي لفعلت كما يفعل)80.
لليقين ثمرات بينها القرآن ومن أهمها ما يأتي:
أولًا: الرضا بحكم الله:
وإليه الإشارة بقوله تعالى: (ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ) [المائدة: ٥٠].
لقد أتت الآية تذم اليهود ومن يتبع أحوالهم بالطبع - لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما على ذلك جمهرة المفسرين- وتشنع عليهم في سعيهم نحو حكم الجاهلية والرفض والتكبر لحكم الله، وتبين لنا الآية أن اليقين والإيمان الحقيقي من علاماته الرضا بحكم الله في كل الأحوال وفي كل الأمور ونبذ كل حكم يخالف حكم الله ورسوله.
وقد قيل في سبب نزول الآية: إنه كانت بين بني النضير وقريظة -وهما حيان من اليهود- دماء وذلك قبل أن يبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، فلما بعث وهاجر إلى المدينة تحاكموا إليه فقالت بنو قريظة: بنو النضير إخواننا؛ أبونا واحد وديننا واحد وكتابنا واحد، فإن قتل بنو النضير منا قتيلا أعطونا سبعين وسقا من تمر، وإن قتلنا منهم قتيلا أخذوا منا مائة وأربعين وسقا، وأرش جراحتنا على النصف من جراحتهم، فاقض بيننا وبينهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإني أحكم أن دم القرظي وفاء من دم النضيري، ودم النضيري وفاء من دم القرظي، ليس لأحدهما فضل على الآخر في دم ولا عقل ولا جراحة). فغضبت بنو النضير، وقالوا: لا نرضى بحكمك فإنك لنا عدو، وإنك ما تألو في وضعنا وتصغيرنا. فأنزل الله: (ﯾ ﯿ)81.
فيقول تعالى ذكره: أيبغي هؤلاء اليهود -الذين احتكموا إليك، فلم يرضوا بحكمك إذ حكمت فيهم بالقسط- (حكم الجاهلية)، -يعني: أحكام عبدة الأوثان من أهل الشرك- وعندهم كتاب الله فيه بيان حقيقة الحكم الذي حكمت به فيهم، وأنه الحق الذي لا يجوز خلافه؟!82.
فحكم الجاهلية كما قال ابن عباس: «ما كانوا عليه من الضلال والجور في الأحكام، وتحريفهم إياها عما أمر الله به»83.
فهذا استفهام معناه الإنكار على اليهود، حيث هم أهل كتاب وتحليل وتحريم من الله تعالى، ومع ذلك يعرضون عن حكم الله ويختارون عليه حكم الجاهلية، وهو مجرد الهوى من مراعاة الأشرف عندهم، وترجيح الفاضل عندهم في الدنيا على المفضول، وفي هذا أشد النعي عليهم حيث تركوا الحكم الإلهي بحكم الهوى والجهل84.
ثم قال تعالى ذكره موبخا لهؤلاء الذين أبوا قبول حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم ولهم من اليهود، ومستجهلا فعلهم ذلك منهم: ومن هذا الذي هو أحسن حكمًا، أيها اليهود، من الله -تعالى ذكره- عند من كان يوقن بوحدانية الله ويقر بربوبيته؟
وبتعبير آخر: أي حكمٍ أحسن من حكم الله، إن كنتم موقنين أن لكم ربًّا وكنتم أهل توحيدٍ وإقرار به؟85.
فاللام في قوله: (ﰇ ﰈ)؛ للبيان، كاللام في: (ﭛ ﭜ) أي: هذا الخطاب وهذا الاستفهام لقوم يوقنون فإنهم الذين يتيقنون أن لا أعدل من الله ولا أحسن حكما منه86.
قال العلماء: فمن أيقن تبين عدل الله في حكمه87.
فالقوم الموقنون هم الذين يتدبرون الأمور ويتحققون الأشياء بأنظارهم فيعلمون أن لا أحسن حكمًا من الله سبحانه وتعالى، فيرضون به ويقومون بتنفيذه دون تردد أو تكاسل؛ لأن ذلك نابع من إيمان حقيقي لا تردد فيه.
فقوله تعالى: (ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ) هو تسفيه لأهل الكتاب، وفضح لجهلهم وضلالهم، إذ يعدلون عن شرع الله ويخرجون عن حكمه إلى شريعة الجاهلية وأحكام السفاهة والضلال. وذلك من حماقة عقولهم، وسفه أحلامهم؛ إذ إنه لا يعرف فرق ما بين أحكام الله وأحكام غير الله إلا من أخلى قلبه من نزعات الهوى، وصفى مشاعره من وساوس النفاق، ونظر إلى الله بقلب سليم، فعرفه حق معرفته، وقدره حق قدره، ورأى أن هدى الله هو الهدى، وأن من اتبع غير سبيله ضل وهلك، ومن سلك سبيله رشد وسعد88.
ثانيًا: الثبات على الأعمال الصالحة:
يقول تعالى في آخر آية في سورة الحجر: (ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ) [الحجر: ٩٩].
فقوله: (ﮄ ﮅ ﮆ) أي: الموت، قاله ابن عباس ومجاهد والجمهور. وسمي يقينًا؛ لأنه موقن به، فمعنى الآية: اعبد ربك أبدًا، ولو قيل: اعبد ربك، بغير توقيت، لجاز إذا عبد الإنسان مرة أن يكون مطيعًا، فلما قال: (ﮄ ﮅ ﮆ) أمر بالإقامة على العبادة ما دام حيًّا89.
وللإمام ابن عطية كلام وجيه في قول الجمهور السابق، فيقول: «وليس اليقين من أسماء الموت، وإنما العلم به يقين لا يمتري فيه عاقل، فسماه هنا يقينا تجوزا، أي: يأتيك الأمر اليقين علمه ووقوعه وهذه الغاية معناها مدة حياتك»90.
والتعبير بـ (ﮃ) فيه إشارة إلى أن مقام الربوبية يقتضي العبادة الخالصة له، وقد حدد سبحانه وتعالى نهاية العبادة بقوله: (ﮄ ﮅ ﮆ)91.
فليس المراد به ما زعمه بعض الملحدين مما يسمونه بالكشف والشهود، وقالوا: إن العبد متى حصل له ذلك سقط عنه التكليف بالعبادة، وهي ليست إلا للمحجوبين، ولقد مرقوا بذلك من الدين وخرجوا من ربقة الإسلام وجماعة المسلمين92.
فالحق يشير إلى وجوب المداومة على العبادة وجميع أنواع الأعمال الصالحة وصنوف الطاعة والخير إلى أن يأتي أمر الله ووعده الذي لا شك فيه ولا ريب93.
وهذا مثل قوله: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [مريم: ٣١].
أي: أبدًا، ولو لم يقل: (ﮚ ﮛ ﮜ) لكان بصلاة واحدة وزكاة مرة يؤدي ما وصاه به94.
فالمؤمن الحقيقي تكون عبادته لله ليست عبادة مؤقتة أو مرتبطة بزمان معين أو مكان معين أو عبادة ليسر أو عسر، بل عبادة الموقن الحقيقي عبادة دائمة وفي كل الأوقات والأزمان والأمكان. ففائدة قوله: (ﮄ ﮅ ﮆ) بعد قوله: (ﮂ ﮃ) أنه إذا عبد مرة خرج عن موجب الأمر، فقال: (ﮄ ﮅ ﮆ)؛ ليدوم عليها إلى أن يموت95.
وهذا الكلام يشير إلى حقيقتين ثابتتين:
الحقيقة الأولى: وجوب العبادة طوال الحياة حتى الممات.
والحقيقة الثانية: فيه إشارة إلى أن العبادة تزيد اليقين فيزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم، ولله غيب السماوات والأرض وإليه مرجع الأمور96.
ويستدل من هذه الآية الكريمة، وهي قوله: (ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ)، على أن العبادة كالصلاة ونحوها واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتا، فيصلي بحسب حاله، كما ثبت في صحيح البخاري، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب)97.
ويستدل بها على تخطئة من ذهب من الملاحدة إلى أن المراد باليقين المعرفة، فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة سقط عنه التكليف عندهم. وهذا كفر وضلال وجهل، فإن الأنبياء عليهم السلام كانوا هم وأصحابهم أعلم الناس بالله وأعرفهم بحقوقه وصفاته وما يستحق من التعظيم، وكانوا مع هذا أعبد وأكثر الناس عبادة ومواظبة على فعل الخيرات إلى حين الوفاة، وإنما المراد باليقين هاهنا الموت، كما قدمناه. ولله الحمد والمنة والحمد لله على الهداية، وعليه الاستعانة والتوكل، وهو المسؤول أن يتوفانا على ذلك.
ثالثًا: الثقة في وعد الله ووعيده:
يقول تعالى في آخر سورة الروم (ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ)[الروم: ٦٠].
يختم الله سبحانه سورة الروم، بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على هؤلاء الجاهلين من المشركين، أي: فاصبر على أذاهم وعلى جهالاتهم، فإن وعد الله تعالى بنصرك عليهم حق لا شك في ذلك.
فجملة (ﰁ ﰂ ﰃ ﰄﰅ) تعليل للأمر بالصبر وهو تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم بتحقيق وعد الله من الانتقام من المكذبين ومن نصر الرسول صلى الله عليه وسلم98.
وإليه الإشارة بقوله: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [الصافات: ١٧١- ١٧٣].
(ﰆ ﰇ) أي: ولا يزعجنك ويحملنك على عدم الصبر الذين لا يوقنون بصحة ما تتلو عليهم من آيات، ولا بما تدعوهم إليه من رشد وخير. فقد ختمت السورة الكريمة بالوعد بالنصر، كما افتتحت بالوعد به للمؤمنين الصادقين: (ﭑ ﭒﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) [الروم: ٦]99.
وهذا مما يدل على أن كل مؤمن موقن رزين العقل يسهل عليه الصبر، وكل ضعيف اليقين ضعيف العقل خفيفه. فالأول بمنزلة اللب والآخر بمنزلة القشور، فالله المستعان100.
بهذه الآية تختم السورة الكريمة، وهى تحمل إلى النبي الكريم دعوة من الله سبحانه وتعالى إلى الصبر على ما يلقى من قومه من مكاره، مستعينا على الصبر واحتمال المكروه، بما وعده ربه من نصر لدين الله الذي يدعو إليه، ومن تمكين له وللمؤمنين معه في هذه الدنيا، ومغفرة من الله ورضوان فى الآخرة، هذا إلى ما يلقى هؤلاء المشركون الضالون من خزي وخذلان فى الدنيا، وعذاب شديد في الآخرة101.
ففي قوله تعالى: (ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ) إشارة لافتة إلى ما قد يرد على النبي -صلوات الله وسلامه عليه- من تلك الخواطر التي تساور بعض النفوس من المؤمنين الذين اشتدت عليهم وطأة البلاء وطال بهم الانتظار لملاقاة ما وعدهم الله من نصر، ففى ساعات الضيق والعسرة قد يتسرب إلى بعض المؤمنين شيء من القلق، وربما شيء من الشك والريب، ذلك أن للنفس البشرية حدًّا من الاحتمال والصبر على المكاره إذا بلغته زايلتها القدرة على الاحتمال، وآذنها الصبر بالرحيل، وعندئذ تنحل العزيمة، ويضعف اليقين، وتبرد حرارة الإيمان.
وفي هذا يقول الله تعالى: (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [البقرة: ٢١٤].
فهذه حال تعرض المؤمنين، ولن يعصمهم منها إلا التحصن بالإيمان، واللياذ باليقين الذي يدفع كل شك في قدرة الله وفي تحقيق ما وعد المؤمنين به من نصر وعافية مما هم فيه من بلاء102.
والآية إذ تدعو المؤمنين إلى أن يكونوا من الموقنين بالله والمستيقنين بنصره فإنها تدعو النبي إلى أن يثبت في موقفه من الإيمان بربه والثقة فيما وعده به، حتى ترتد عنه العوارض التي تعرض له داخل نفسه أو خارجها، حين تجده جبلا راسخا، لا تصادف أية خفة في أي جانب منه.. وقد كان صلوات الله وسلامه عليه على هذا اليقين الذي تزول الجبال ولا يزول.. حتى ليقول لعمه أبى طالب وقد جاء يدعوه إلى مهادنة قومه على أن يحتكم بما شاء فيهم من مال أو سلطان، فيقول: (والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يمينى والقمر في شمالى على أن أترك هذا الأمر ما تركته أو أهلك دونه)103.
وإذا كان هذا الخطاب بالصبر موجها للنبي صلى الله عليه وسلم فإن المراد به أمته، فعلى الأمة أن تصبر في تبليغ الدعوة الإسلامية لكل أمم الأرض، وأن تثبت في بيان أصول الدعوة إلى الإيمان؛ لأن حبل الخير متصل دائم إلى يوم القيامة، وحبل الخير لا يكون إلا بجهود الدعاة إلى الله تعالى. ولا يضير الداعية إلى ربه أن يقف الكافر الجاحد موقف العناد والتكبر، أو السخرية والاستهزاء؛ لأن هذه هي مواقف الجهلة المستبدين، الذين لا يصغون لنداء العقل والوجدان والتأمل في مشاهدات الكون الدالة على وجود الله وسلطانه وقدرته وتوحيده وتفرده بالخلق والإيجاد104.
رابعًا: الإمامة في الأرض:
قال تعالى: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [السجدة: ٢٤].
قال الزمخشري: «وجعلنا الكتاب المنزل على موسى عليه السلام هدىً لقومه وجعلنا منهم أئمةً يهدون الناس ويدعونهم إلى ما في التوراة من دين الله وشرائعه لصبرهم وإيقانهم بالآيات.
وكذلك لنجعلن الكتاب المنزل إليك هدى ونورا، ولنجعلن من أمتك أئمة يهدون مثل تلك الهداية لما صبروا عليه من نصرة الدين وثبتوا عليه من اليقين»105.
فتشير الآية إلى ما من الله به على بني إسرائيل؛ إذ جعل منهم أئمة يهدون بأمر الله، والأمر يشمل الوحي بالشريعة؛ لأنه أمر بها، ويشمل الانتصاب للإرشاد، فإن الله أمر العلماء أن يبينوا الكتاب ويرشدوا إليه فإذا هدوا فإنما هدوا بأمره وبالعلم الذي أتاهم به أنبياؤهم وأحبارهم، فأنعم الله عليهم بذلك لما صبروا وأيقنوا لما جاءهم من كتاب الله ومعجزات رسولهم106.
وفي هذا تعريض بالبشارة لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم يكونون أئمة لدين الإسلام وهداة للمسلمين إذا صبروا على ما لحقهم في ذات الله من أذى قومهم وصبروا على مشاق التكليف ومعاداة أهلهم وقومهم وظلمهم إياهم، وتقديم (ﮃ) على (ﮄ) للاهتمام بالآيات107.
وفي الآية، إشارة إلى ما ينبغي أن يكون المرشد عليه من الأوصاف، وهو الصبر على مشاق العبادات وأنواع البليات، وحبس النفس عن ملاذ الشهوات، والإيقان بالآيات، فمن يدعي الإرشاد وهو غير متصف بما ذكر فهو ضال مضل108.
ويؤخذ من فحوى الآية أن بني إسرائيل لما نبذوا الاعتصام بالكتاب ونبذوا الصبر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،وفقدوا الاستيقان بحقية الإيمان فغيروا وبدلوا سلبوا ذلك المقام، وأديل عليهم انتقامًا منهم. وتلك سنته تعالى: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ) [الرعد: ١١].
ففي طي هذا الترغيب ترهيب وأي ترهيب109!
خامسًا: الانتفاع بهداية القرآن ورحمته:
قال تعالى: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ) [الجاثية: ٢٠].
يبين الحق سبحانه وتعالى أن الإيمان واليقين بالقرآن وما فيه من شرع الله يجعل صاحبه يدرك الفلاح في الدنيا والآخرة.
يعني: هذا القرآن المشتمل على شرائع الله الخالدة إلى يوم القيامة هو دلائل وبراهين للناس جميعا فيما يحتاجون إليه من أحكام الدين، وهاد إلى الجنة من عمل به، ورحمة من الله في الدنيا والآخرة لقوم من شأنهم الإيقان وعدم الشك بصحته وتعظيم ما فيه. وإنما خص الموقنين بذلك؛ لأنهم المنتفعون به110.
فلا شك أن هذا القرآن واتباع الشريعة بصائر لقلوب الناس، كما جعل روحًا وحياة لها، فإن من تمسك بالكتاب والسنة وأمعن فيهما النظر وعمل بمقتضاهما فتحت بصيرته، وحيي قلبه، وهدى من الضلالة ورحم من العذاب. ولا يتحقق ذلك كله إلا لأصحاب اليقين الثابت الذي لايتزعزع ولا يتزحزح111.
وإنما كان هدي؛ لأنه طريق نفع لمن اتبع إرشاده، فاتباعه كالاهتداء للطريق الموصلة إلى المقصود. وإنما كان رحمة؛ لأن في اتباع هديه نجاح الناس أفرادا وجماعات في الدنيا؛ لأنه نظام مجتمعهم ومناط أمنهم، وفي الآخرة؛ لأنه سبب نوالهم درجات النعيم الأبدي. وكان بصائر؛ لأنه يبين للناس الخير والشر، ويحرضهم على الخير ويحذرهم من الشر، ويعدهم على فعل الخير ويوعدهم على فعل الشرور، فعمله عمل البصيرة112.
وجعل الهدى والرحمة لقوم يوقنون؛ لأنه لا يهتدي ببيانه إلا الموقن بحقيقته ولا يرحم به إلا من اتبعه المؤمن بحقيته. وذكر لفظ (قوم)؛ للإيماء إلى أن الإيقان متمكن من نفوسهم، كأنه من مقومات قوميتهم التي تميزهم عن أقوام آخرين113.
وإنما خص الموقنين بأنه لهم هدى ورحمة؛ لأنهم هم الذين ينتفعون بما فيه دون من كذب به من أهل الكفر فإنه عليهم عمى114.
فقوله تعالى: (ﯝ ﯞ) إشارة إلى أن هذا القرآن وما فيه من بصائر للناس جميعا وهدى ورحمة لهم لا يرد مورده ولا يرتوي من هذا المورد إلا من جاء إليه بقلب سليم، مهيأ لاستقبال الخير وتقبله115.
سادسًا: الفلاح في الدنيا والآخرة:
خص سبحانه وتعالى أهل اليقين بالفلاح، فقال: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [البقرة: ٤ - ٥].
والفلاح: الظفر بالبغية وإدراك الأمل116، ويكون في أحوال الدنيا وأحوال الآخرة. والمفلحون هم: «الفائزون بالجنة والباقون فيها»117.
يقول ابن كثير رحمه الله: «يقول الله تعالى: (ﭳ) أي: المتصفون بما تقدم من الإيمان بالغيب وإقام الصلاة والإنفاق من الذي رزقهم الله والإيمان بما أنزل إلى الرسول ومن قبله من الرسل والإيقان بالدار الآخرة، وهو مستلزم الاستعداد لها من الأعمال الصالحة وترك المحرمات على نور وبيان وبصيرة من الله تعالى: ( ﭹ ﭺ ﭻ) أي: في الدنيا والآخرة» 118. «وحصر الفلاح فيهم؛ لأنه لا سبيل إلى الفلاح إلا بسلوك سبيلهم، وما عدا تلك السبيل فهي سبل الشقاء والهلاك والخسار التي تفضي بسالكها إلى الهلاك»119.
موضوعات ذات صلة: |
الإيمان، التقوى، الشك، الظن |
1 مقاييس اللغة، ابن فارس، ٦/١٥٧.
2 انظر: الصحاح، الجوهري، ٦/٢٢١٩، لسان العرب، ابن منظور، ١٣/٤٥٧.
3 المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية ٢/١٠٦٦.
4 انظر: التعريفات، الجرجاني، ص٢٥٩، تاج العروس، الزبيدي، ٣٦ /٣٠٠.
5 الكليات، الكفوي، ١/٩٨٠.
6 المصباح المنير، الفيومي، ٢/٦٨١.
7 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبدالباقي ص ٧٤٨-٧٤٩.
8 انظر: الوجوه والنظائر، الدمغاني ص ٤٧٨، نزهة الأعين النواظر، ابن الجوزي ص ٦٣٥، ٦٣٦، الوجوه والنظائر، أبو هلال العسكري ص ٥١٠.
9 معجم مقاييس االلغة، ابن فارس، ٤/١٠٩، مجمل اللغة، ابن فارس، ١/٦٢٤.
10 المفردات، الراغب الأصفهاني، ١/٥٠٨.
11 الفروق اللغوية، أبو هلال العسكري، ١/٨١.
12 بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي، ٥/٣٩٧ بتصرف.
13 مقاييس اللغة، ابن فارس، ٣/٤٦٢، الصحاح، الجوهري، ٦/٢١٦٠.
14 المفردات، الراغب الأصفهاني ص ٥٣٩.
15 التعريفات، الجرجاني ص١٤٤.
16 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس، ٣/١٧٣.
17 المفردات، الراغب الأصفهاني ص ٢٦٥.
18 التعريفات ص ١٦٨.
19 انظر: بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي ٥/٣٩٥، مدارج السالكين، ابن القيم ٢/٣٧٤.
20 الحديث: أخرجه الطبراني في الكبير، ١٠/٢١٥.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد ٤/٧١: أخرجه الطبراني في الكبير، وفيه خالد بن يزيد العمري، واتهم بالوضع.
وأخرجه، من طريق أخرى، أبو نعيم في الحلية، ٥/١٠٦، والبيهقي في شعب الإيمان، ١/٢٢١. وفيه: عطية العوفي وهو ضعيف، ومحمد بن مروان السدي وهو متروك الحديث.
21 بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي ٥/٣٩٦، مدارج السالكين، ابن القيم ٢/٣٧٥.
22 أخرجه الإمام أحمد في مسنده، ١/١٨٤، رقم ٥.
23 أخرجه أحمد في مسنده، رقم ٦٦٥٤.
وحسنه الهيثمي في مجمع الزوائد، ١٠/١٤٨، والمنذري في الترغيب والترهيب، ٢/٤٩١، رقم ٤٩٢.
24 أخرجه الترمذي في سننه، ٥/٥٢٨، رقم ٣٥٠٢.
قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
وحسنه الألباني في صحيح الجامع، ١/٢١٥، رقم ٢١٤٨.
25 انظر: اليقين، ابن أبي الدنيا ص٤٥.
26 موسوعة نضرة النعيم ٨/٣٧٣٠. باختصار.
27 مدارج السالكين ٢/٣٧٨.
28 تفسير الشعراوي ١/٥٥٦.
29 مدارج السالكين، ابن القيم ٢/٣٨٠.
30 الكشاف ٤/٧٩١.
31 جامع البيان ٢٤/٥٨٠ بتصرف.
32 التفسير القيم ١/٥٧٥.
ولم يعين سبحانه المتكاثر به، بل ترك ذكره، إما لأن المذموم هو نفس التكاثر بالشيء، لا المتكاثر به. كما يقال: شغلك اللعب واللهو، ولم يذكر ما يلعب ويلهو به، وإما إرادة الإطلاق، وهو كل ما تكاثر به العبد غيره من أسباب الدنيا، من مال أو جاه أو عبيد. أو إماء أو بناء، أو غراس، أو علم لا يبتغى به وجه الله، أو عمل لا يقربه إلى الله. فكل هذا من التكاثر الملهي عن الله والدار الآخرة. ١/٥٧٦.
33 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الزهد والرقائق، رقم ٢٩٥٨.
34 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب لو أن لابن آدم واديين لابتغى ثالثًا، رقم ١٠٤٨.
35 التفسير القيم ١/٥٧٧.
36 انظر: جامع البيان، الطبري ٢٤/٥٨١، الكشاف، الزمخشري ٤/٧٩٢.
37 زاد المسير ٤/٤٨٦.
38 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٤/٤٦٥، أنوار التنزيل، البيضاوي ٥/٣٣٤.
39 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٢٠/٤٨١.
40 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٢/٢٧٣.
41 جامع البيان ٢٣/١٦٣.
42 انظر: محاسن التأويل، القاسمي ٩/١٣٥، التفسير الوسيط، سيد طنطاوي ١٤/١٩٠.
43 التفسير الوسيط، سيد طنطاوي ١٤/١٩٠.
44 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٧/٣٥٠
45 تفسير الشعراوي ١/٥٥٦.
46 التفسير الوسيط، طنطاوي ١/٤٦.
47 اللباب في علوم الكتاب ١/٣٠٢.
48 زهرة التفاسير، أبو زهرة ١/١١٢.
49 في ظلال القرآن، سيد قطب ١/٤١. بتصرف.
50 جامع البيان، الطبري ١٩/٤٢٦.
51 زهرة التفاسير ١٠/٥٤٣٠. بتصرف.
52 التفسير الوسيط، طنطاوي ١١/١٤٩.
53 تفسير الشعراوي ١٧/١٠٨٥١. بتصرف يسير.
54 التحرير والتنوير ٢٠/٣٩.
55 معالم التنزيل ٦/١١١ بتصرف.
56 مفاتيح الغيب ٢٤/٤٩٩.
57 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٦/١٣٨ بتصرف يسير.
58 الكشاف ٣/٣١٤.
59 لباب التأويل ٤/٢٠١. بتصرف
60 التفسير القرآني للقرآن ١٣/٢٢١.
61 تفسير الشعراوي بتصرف ٦/٣٧٣٩.
62 محاسن التأويل ٤/٤٠٠.
63 الوسيط، سيد طنطاوي ٥/١٠٩.
64 مفاتيح الغيب ١٣/٣٥.
65 الكشاف ٤/٣٩٩. بتصرف يسير.
66 زاد المسير ٤/٩٦.
67 مفاتيح الغيب ٢٧/٦٧٠.
68 الوسيط، سيد طنطاوي باختصار ٧/٤٤٠.
69 البيضاوي ٣/١٨٠.
70 لباب التأويل ٣/٤.
71 التفسير الوسيط ١٥/١٨٣.
72 ابن أبي حاتم ١٠/٣٣٨٤. تفسير القرآن العظيم ٨/٢٩٤. بتلخيص، الدر المنثور ٨/٣٣٣.
73 انظر: جامع البيان، الطبري ٢٩/١٥٩، الدر المنثور، السيوطي ٨/٣٣٣، السيرة النبوية، ابن هشام ١/٣٣٥.
74 مفاتيح الغيب، الرازي ١٥/١٨٤. ملخصًا.
75 محاسن التأويل ٩/٣٥٦. باختصار وتصرف.
76 صفوة التفاسير ٣/٤٥٤.
77 التحرير والتنوير ٢٩/٣١٥. ملخصًا.
78 التفسير الوسيط ١٥/١٨٣. بتصرف.
79 التفسير القرآني للقرآن ١٥/١٢٩٧.
80 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب القرآن، باب تمني القرآن والعلم رقم ٧٢٣٢.
81 زاد المسير ١/٥٥٧. لباب التأويل ٢/٥٢.
82 جامع البيان، الطبري ١٠/٣٩٤.
83 لباب التأويل ٢/٥٢.
84 البحر المحيط ٤/٢٨٧
85 جامع البيان، الطبري ١٠/٣٩٤.
86 الكشاف ١/٦٤٢.
87 زاد المسير ١/٥٥٧.
88 التفسير القرآني للقرآن ٣/١١١٣.
89 زاد المسير ٢/٥٤٧ بتصرف.
90 المحرر الوجيز ٣/٣٧٦.
91 زهرة التفاسير ٨/٤١١٩.
92 فتح القدير ٧/٣٢٩.
93 وعن العلاقة بين العبودية واليقين ينقل القشيري عن شيخه الدقاق قوله: «العبادة لمن له علم اليقين، والعبودية لمن له عين اليقين، والعبودة لمن له حق اليقين» الرسالة ص ٩٩.
94 الهداية ٦/٣٩٤٢.
95 تفسير السمعاني ٣/١٥٦.
96 زهرة التفاسير ٨/٤١١٩.
97 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجمعة، باب، إذا لم يطق قاعدًا صلى على جنبٍ رقم ١١١٧.
98 التفسير الوسيط، سيد طنطاوي ١١/١٠٣، بتلخيص.
99 المصدر السابق.
100 تيسير الكريم الرحمن ص٦٤٥.
101 التفسير القرآني للقرآن ١١/٥٤٩.
102 المصدر السابق ١١/٥٥٠.
103 المصدر السابق ١١/٥٥١.
104 التفسير الوسيط، الزحيلي ٣/٢٠١٥.
105 الكشاف ٣/٢٠١٥.
106 التحرير والتنوير ٢١/٢٣٧.
107 المصدر السابق.
108 روح المعاني، ١١/١٣٩.
109 محاسن التأويل ٨/٤٣.
110 التفسير المنير، الزحيلي ٢٥/٢٦٩.
111 البحر المديد ٥/٣٠٩، بتصرف.
112 التحرير والتنوير ٢٥/٣٥٠.
113 المصدر السابق.
114 المراغي ٢٥/١٥٢.
115 التقسير القرآني للقرآن ١٣/٢٤١.
116 المحرر الوجيز، ابن عطية ١/٨٦.
117 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١/١٨٢.
118 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ١/٨٢.
119 تيسير الكريم الرحمن ص ٤٠.