عناصر الموضوع
النكاح
أولًا: المعنى اللغوي:
النون والكاف والحاء أصل واحد، وهو البضاع، نكح ينكح، يقال نكحت: تزوجت، وأنكحت غيري1.
النكاح -بالكسر-: الوطء في الأصل، وقيل: هو العقد له، وهو التزويج؛ لأنه سببٌ للوطء المباح، واستعماله في الوطء والعقد مما وقع فيه الخلاف، قالوا: لم يرد النكاح في القرآن إلا بمعنى العقد؛ لأنه في الوطء صريحٌ في الجماع، وفي العقد كنايةٌ عنه2.
نكحتها ونكحت هي، أي: تزوجت، وهي ناكحٌ في بني فلان، أي: هي ذات زوج منهم، ومعنى نكحها وأنكحها أي: زوجها، ورجلٌ نكحةٌ: كثير النكاح، والنكح والنكح لغتان، وهي كلمة كانت العرب تتزوج بها، والاسم النكح والنكح3.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
تعددت تعريفات العلماء للنكاح وهي على النحو التالي:
«عقد يرد على تمليك منفعة البضع قصدًا»4.
وقيل: «إيلاج ذكر في فرج؛ ليصير بذلك كالشيء الواحد»5.
وقيل: عقد يتضمن إباحة وطء بلفظ إنكاح أو تزويج أو ترجمة6.
وقيل: عقد ينشئ بين الرجل والمرأة حقوقًا شرعية تقوم على المودة والرحمة والمعروف والإحسان7.
ولعل التعريف الأخير تضمن إبرام عقد النكاح، وحدد طرفي العقد وبين الثمرة المرجوة والغاية، وهي المودة والرحمة والمعروف والاحسان والسكن بين المتعاقدين، فهو بذلك أكثر وضوحًا وشمولًا.
وردت مادة (نكح) في القرآن الكريم(٢٣) مرة8.
والصيغ التي وردت، هي:
الصيغة |
عدد المرات |
المثال |
الفعل الماضي |
٢ |
(ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) [النساء:٢٢] |
الفعل المضارع |
١٣ |
(ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [النور:٣] |
فعل الأمر |
٣ |
(ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [النساء:٣] |
المصدر |
٥ |
(ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) [البقرة:٢٣٥] |
وجاء النكاح في القرآن على ستة أوجه9:
الأول: العقد: ومنه قوله تعالى: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) [البقرة: ٢٢١].يعني: لا تتزوجوهن.
الثاني: الجماع: ومنه قوله تعالى: (ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ) [البقرة: ٢٣٠]. يعني: حتى تجامع زوجًا غيره، ويجامعها زوجًا غيره.
الثالث: الحلم: ومنه قوله: (ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ) [النساء: ٦]. يعني الحلم.
الرابع: العقد والوطء: ومنه قوله تعالى: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) [النساء: ٢٢].
الخامس: المهر: ومنه قوله تعالى: (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ) [النور: ٣٣].
الزواج:
الزواج لغةً:
(زوج) الزاء والواو والجيم أصلٌ يدل على مقارنة شيءٍ لشيءٍ، من ذلك الزوج زوج المرأة، والمرأة زوج بعلها، وهو الفصيح، ويقال: لفلانٍ زوجان من الحمام، يعني: ذكرًا وأنثى10.
الزواج اصطلاحًا:
هو عقد يقصد به حل استمتاع كل من الزوجين بالآخر وائتناسه به طلبًا للنسل على الوجه المشروع، أو هو عقد يرد على ملك المتعة قصدًا11، أو هو: عقد يفيد حل استمتاع كل من العاقدين بالآخر على الوجه المشروع12.
الصلة بين النكاح والزواج:
النكاح: اشتراك بين الرجل والمرأة في الوطء والجماع والمودة والمحبة، الزواج: اشتراك بين الرجل والمرأة قائم على المحبة والتعاون والرحمة، والظاهر أنهما مترادفتان في المعنى.
الوطء:
الوطء لغةً:
الواو والطاء والهمزة، كلمة تدل على تمهيد شيء وتسهيله، والوطاء: ما توطأت به من فراش13. والوطء: كناية عن الجماع، وطئ امرأته: إذا جامعها ووطئ الرجل امرأته، يطأ فيهما، وسقطت الواو من يطأ، كما سقطت من يسع؛ لتعديهما14.
الوطء اصطلاحًا:
هو جماع بين الرجل والمرأة بهدف المتعة، والانجاب؛ لتكثير النسل.
الصلة بين النكاح والوطء:
النكاح: أعم في معناه ودلالته وآثاره، أما الوطء: فهو يختص بالجماع الحاصل بين الرجل والمرأة.
العقد:
العقد لغةً:
العين والقاف والدال أصل واحد يدل على شد وشدة وثوق، وإليه ترجع فروع الباب كلها، والجمع أعقاد وعقود، وعقدة النكاح وكل شيء: وجوبه وإبرامه15.
والعقدة -بالضم-: موضع العقد، وهو ما عقد عليه، والعقد -بالكسر-: القلادة16.
العقد اصطلاحًا:
«هو اسم لما يعقد من نكاح ويمين»17.
وقيل: «هو ربط أجزاء التصرف بالإيجاب والقبول شرعًا»18.
الصلة بين النكاح والعقد:
النكاح: أخص في معناه من العقد؛ لأنه يراد به الجمع بين الرجل والمرأة بكل ثمراتها، أما العقد: فهو في معناه أعم، فقد يراد به البيع والعهد والنكاح والحبل وغيرها.
رغب القرآن الكريم في النكاح، وحض عليه، وأخبر أنه آية من آيات الله تعالى، وأنه من سنن المرسلين، وسوف نتناول ذلك بالبيان فيما يأتي:
أولًا: أنه من سنن المرسلين:
الزواج آية من آيات الله، وسنة من سنن المرسلين، فقد كان لهم أزواج وذرية، كما قال تعالى: (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [الرعد: ٣٨].
أي: كما أرسلناك يا محمد رسولًا بشريًا، كذلك قد بعثنا المرسلين قبلك بشرًا، يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، ويأتون الزوجات، ويولد لهم، وجعلنا لهم أزواجًا وذرية19.
أي: جعلناهم بشرًا يقضون ما أحل الله من شهوات الدنيا، وجعلنا لهم النساء والبنين، وما جعلناهم ملائكة، لا يأكلون، ولا يشربون، ولا ينكحون، وذكر هذا في سياق الامتنان.
وكان هذا كمالًا في حقهم، ولم يكن ذلك قادحًا في صحة رسالتهم، ولا تلك العلاقات كانت شاغلة لهم؛ لأن من اشتغل بالله فكثرة العيال، وتراكم الأشغال، لا تؤثر في حاله، ولا يضره ذلك.
فنجد أن الله تعالى جعل الميل إلى النساء فطري في طبع الذكور؛ لأن في الأنس بهن انتعاش للروح، وتناوله محمودٌ إذا وقع على الوجه المبرأ من الإيقاع في فساد، كما في تناول الطعام والشراب20.
وفي هذه الآية ردٌ على من عاب على الرسول صلى الله عليه وسلم كثرة النساء، وقال: لو كان مرسلًا حقًا لكان مشتغلًا بالزهد، وترك الدنيا والنساء، ولشغلته النبوة عن تزوج النساء، والتماس الولد، فرد الله مقالتهم، وبين أن محمدًا صلى الله عليه وسلم ليس ببدعٍ في ذلك، بل هو كمن تقدم من الرسل21. جعل الله لهم أزواجًا وذرية، فقد كان لأكثر الرسل أزواج، ولأكثرهم ذرية، وقد كان لسليمان بن داود عليه السلام مائة امرأة كما جاء في البخاري22. ومثل نوح وإبراهيم ولوط وموسى وسليمان وغير هؤلاء عليهم السلام 23.
وأصحاب الشبهة هؤلاء إما أن يكونوا هم اليهود أو المشركين24.
والصحيح أن القائلين هم المشركون؛ إذ هذه السورة مكية، ولم يكن لليهود حديث مع أهل مكة، ولا كان منهم في مكة أحد، على أنه لا يلزم أن يكون هذا نازلًا على سبب. وقد تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة ثم سودة رضي الله عنهما في مكة، فاحتمل أن المشركين قالوا قالة إنكار تعلقًا بأوهن أسباب الطعن في النبوءة، وهذه شبهة لا تعرض إلا للسذج، أو لأصحاب التمويه، وقد يموه بها المبشرون من النصارى على ضعفاء الإيمان، فيفضلون عيسى عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم بأن عيسى لم يتزوج النساء وهذا لا يروج على العقلاء؛ لأن تلك بعض الحظوظ المباحة التي لا تقتضي تفضيلًا، وإنما التفاضل في كل عمل بمقادير الكمالات الداخلة في ذلك العمل، ولا يدري أحد الحكمة التي لأجلها لم يتزوج عيسى عليه السلام؛ فلعله لعارض آخر أمره الله به لأجله، وقد كان يحيى عليه السلام حصورًا، فلعل عيسى عليه السلام قد كان مثله25.
وأيضًا قد قيل: إن عيسى عليه السلام سينكح إذا نزل الأرض، ويولد له26.
وأما وصف الله تعالى يحيى عليه السلام بقوله: (ﭳ) [آل عمران: ٣٩].
فليس مقصودًا منه أنه فضيلة، ولكنه أعلم أباه زكريا عليه السلام بأنه لا يكون له نسل؛ ليعلم أن الله أجاب دعوته، فوهب له يحيى عليه السلام كرامة له، ثم قدر أنه لا يكون له نسل27.
والتحقيق -كما قال الشنقيطي- أن معنى قوله: (ﭳ) أنه الذي حصر نفسه عن النساء، مع القدرة على إتيانهن؛ تبتلًا منه، وانقطاعًا لعبادة الله، وكان ذلك جائزًا في شرعه، وأما سنة النبي صلى الله عليه وسلم فهي التزويج، وعدم التبتل28.
وما قيل: من أن يحيى عليه السلام قد تزوج ولم يجامع، وإنما فعل ذلك؛ لنيل الفضل، وإقامة السنة، ولغض البصر29. فالظاهر أن هذا لا يصح.
وقوله في الآية: (ﮤ) امتنان بالأولاد والذرية، وقد ترجم البخاري: «(باب طلب الولد)30 فطلب الولد مطلوب لما يرجوه الإنسان من نفعه في حياته وبعد مماته، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا مات أحدكم انقطع عمله إلا من ثلاث) وذكر منها: (أو ولد صالح يدعو له)»31.
والمقصود أن هذه الآية تدل على أن النكاح سنة قديمة منذ خلق الله آدم، وبقيت في بنيه من الرسل والأنبياء، ومن دونهم، وتدل على الترغيب في النكاح، والحض عليه، وتنهى عن التبتل، وهو ترك النكاح، وقد جاءت السنة بمعناها، قال صلى الله عليه وسلم: (تزوجوا، فإني مكاثر بكم الأمم)32.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج)33.
وقال: (وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)34.
وفي الحديث: (أربع من سنن المرسلين: الحياء35 -ويروى الختان- والتعطر، والسواك، والنكاح)36.
وقوله: (من سنن المرسلين) أي: فعلًا وقولًا، يعني: التي فعلوها وحثوا عليها، وفيه تغليب؛ لأن بعضهم كعيسى ما ظهر منه الفعل في بعض الخصال وهو النكاح. قال المناوي: المراد أن الأربع من سنن غالب الرسل، فنوح لم يختتن، وعيسى لم يتزوج37.
ومما يدل على أهمية النكاح، وأنه من سنن الأنبياء ما ورد في سورة القصص من قصة موسى عليه السلام أنه بقي ثمان سنين أو عشر يعمل لأجل أن يحصل مهر النكاح.
قال تعالى: (ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [القصص: ٢٧].
ومما يدل على أهميته أيضًا أن الله تعالى مدح أولياءه بسؤال ذلك في الدعاء، فقال تعالى: (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [الفرقان: ٧٤].
وما كان النكاح من سنن المرسلين إلا لمنفعته وآثاره سواء في الدنيا، أو في الآخرة، فله منافع دينية ومنافع دنيوية، ففيه تحصيلٌ لأفضل وخير متاع الدنيا ألا وهي المرأة الصالحة، وفيه إكمال لشطر الدين، وهو سبب لعون الله عز وجل وتوفيقه، وسبب لزيادة عدد الأمة، وله أثر صحي وبدني ونفسي.
ومن فوائده تحصين النفس وحمايتها من الوقوع في الفاحشة، وبه يتيسر للرجل والمرأة أنواع من العبادة والقرب لا تتيسر بغيره، من حسن العشرة، والصحبة بالمعروف، وقضاء حق العيال، والرحمة بهم، والانشغال بمصالحهم، كل ذلك قربة إلى الله عز وجل يحصل عليها المتزوج، ولا يحصل عليها الأيم.
والزواج مع أنه عبادة وقربة فإنه تحصل فيه راحة النفس ولذتها، وقضاء رغبتها، بل إن اللقاء بين الزوجين وتحصيل الشهوة أمر يثابان ويؤجران عليه، وفي الزواج أيضًا إتباع السنة، وابتغاء الولد الصالح، والمعونة على الطاعة، والمحافظة
عن المعصية، إضافة إلى ما يثمره الزواج من ترابط الأسرة، وتوطيد أواصر المحبة.
وفيه إشباع دافع الأمومة والأبوة لكلٍ من الزوجين، والشعور بالنوع، فالزواج يحقق إشباعًا اجتماعيًا يورث توازنًا في الشخصية، فالإنسان لا يستطيع أن يعيش في عزلة عن الآخرين.
والزواج يلائم الفطرة الإنسانية ويوافقها، وينسجم معها، ويحفظ المجتمع من الشرور، وتحلل الأخلاق، وانتشار الرذائل، وفيه بقاء النوع الإنساني على وجه سليم، وتدريب الذات على تحمل المسئولية، والقيام بشئون الطرف الآخر، وشئون الأولاد والرحم، كل هذه وغيرها من ثمار النكاح؛ ولهذا كان من سنن الأنبياء، رغبوا فيه، وحثوا عليه.
ثانيًا: الأمر بالنكاح:
أمر الله تعالى في القرآن الكريم بالنكاح في عدة آيات، فقال تعالى: (ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) [النساء: ٣].
وقال: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [النــور: ٣٢].
وظاهر الأمر في قوله: (ﮊ) الوجوب على كل من قدر عليه؛ لخبر الصحيحين عن ابن مسعود: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج)38.
وعورض ظاهر الأمر بقوله تعالى: (ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚﯛ) [النساء: ٢٥].
فالصواب: أنه ليس بواجب. حتى على التسليم بالوجوب، فالوجوب بحالة الخوف، فلا يلزم منه الوجوب على الإطلاق39.
ولأن الله تعالى قال: (ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ) ثم قال: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) فخير سبحانه وتعالى بين النكاح والتسري؛ ولو كان النكاح واجبًا لما خير بينه وبين التسري؛ لأنه لا يصح عند الأصوليين التخيير بين واجب وغيره؛ لأنه يؤدي إلى إبطال حقيقة الواجب، وأن تاركه لا يكون آثمًا، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (فمن رغب عن سنتي فليس مني)40.
فمعناه: من رغب عنها إعراضًا عنها، غير معتقد لها على ما هي41.
والذي يبدو أن الزواج يختلف حكمه باختلاف الأحوال، فمن كان-مثلًا- قادرًا على الزواج، ويخشى إذا ترك الزواج أن يقع في الفاحشة، فإن الزواج بالنسبة له يكون واجبًا، بخلاف من أمن الوقوع في الفاحشة، فإن الزواج بالنسبة له يكون مستحبًا.
فالأمر بالنكاح يختلف من شخص إلى شخص، ومن نازلة إلى أخرى، ففي نازلة: يتصور وجوبه، وفي نازلة قد يكون مندوبًا، وغير ذلك، حسبما هو مذكور في كتب الفقه.
ويختلف الحكم في ذلك أيضًا باختلاف حال المؤمن من خوف العنت، ومن عدم صبره، ومن قوته على الصبر، وزوال خشية العنت عنه، فإذا خاف الهلاك في الدين أو الدنيا أو فيهما، فالنكاح حتم، وإن لم يخش شيئًا وكانت الحال مطلقة، فالنكاح مستحب.
إلا أنه يبقى أن المبادرة بالزواج أمر مطلوب شرعًا لمن استطاع، ويتأكد هذا الأمر في حق الشباب؛ لقول-في الحديث السابق-: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج)42.
وعلى من عجز أن يستعفف، وأن يصون نفسه من الوقوع في الفاحشة، وأن يراقب الله -جل جلاله-، ويكبح نفسه الأمارة بالسوء ويمنعها من الطموح إلى كل شهوة، فلا يكون أسيرًا لشهوات نفسه ولذاتها، بل ينتظر الفرج إلى أن يرزقه الله جل جلاله.
وقوله في الآية: (ﮋﮌ) يعني: من النساء؛ وقرئ: (مَنْ طَابَ) على ذكر من يعقل43، و (ﮋ) هنا موصولة، وحكى البعض أن (ﮋ) في هذه الآية ظرفية، أي: ما دمتم تستحسنون النكاح، وفي هذا المنزع ضعف44.
وقال: (ﮋ) ولم يقل: ﭮ؛ لأنه لم يرد تعيين من يعقل، وإنما أراد الجنس الذي هو الطيب من جهة التحليل، فكأنه قال: (فانكحوا الطيب)45. مثلما تقول: ما عندك؟ فيقال: رجل أو امرأة، تريد ما ذلك الشيء الذي عندك، أو ما تلك الحقيقة؟
ولأن الإناث من العقلاء تنزل منزلة غير العقلاء، ومنه قوله تعالى: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [النساء: ٣].
ولأن (ما) و(من) يتعاقبان.
قال تعالى: (ﭠ ﭡ ﭢ) [الشمس: ٥].
وقال: (ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ) [النور: ٤٥]46.
وقد يكون مرجع (ما) إلى النكاح نفسه لا إلى النساء، ومعناه: فانكحوا نكاحًا طيبًا، وقد يكون معنى قوله: (ﮊ ﮋﮌ) الفعل دون أعيان النساء وأشخاصهن، فلذلك قيل: (ﮋ) ولم يقل: ﭮ، كما يقال: «خذ من رقيقي ﮋ أردت» إذا عنيت: خذ منهم إرادتك، ولو أردت: خذ الذي تريد منهم، لقلت: خذ من رقيقي من أردت منهم47. أو أنه جاء بـ (ﮋ)؛ لأنه نحا بها منحى الصفة، وهو الطيب بلا تعيين ذات، ولو قال: (من) لتبادر إلى إرادة نسوة طيبات معروفات بينهم48.
ومعنى: (ﮋﮌ ﮍ) أي: ما حل لكم من النساء؛ لأن فيهن من يحرم نكاحها، وما حرمه الله فليس بطيب، واعترض عليه بأن قوله: (ﮊ) أمر إباحة، فيئول المعنى إلى قوله: أبحت لكم نكاح من هي مباحة لكم، وهذا كلام مكرر، إلا إذا قلنا: إن الآية مجملة؛ لأن أسباب الحل والإباحة غير مذكورة في هذه الآية.
وعلى كلٍ فيدخل في الطيب: ما أباحه الشرع، وهو ما بقي بعد ما أخرجته آية: المحرمات من النساء، ويدخل في الطيب ما تستلذه الحواس، وما تستلذه النفوس، أو ما طاب حلًا وخلقًا وخلقًا.
وقال بعض المحققين: (ﮋﮌ ﮍ) معناه: ما لا تحرج منه؛ لأنه في مقابل المتحرج منه من اليتامى، ولا يخلو عن حسن، وكيفما كان فالتعبير عن الأجنبيات بهذا العنوان فيه من المبالغة في الاستمالة إليهن، والترغيب فيهن ما لا يخفى، والسر في ذلك الاعتناء بصرف المخاطبين عن نكاح اليتامى عند خوف عدم العدل؛ رعاية ليتمهن، وجبرًا لانكسارهن؛ ولهذا الاعتناء أوثر الأمر بنكاح الأجنبيات على النهي عن نكاحهن، مع أنه المقصود بالذات، وذلك لما فيه من مزيد اللطف في استنزالهم، فإن النفس مجبولة على الحرص على ما منعت منه49.
ومثنى وثلاث ورباع، أي: فانكحوا الطيبات لكم معدودات هذا العدد، ثنتين ثنتين، وثلاثًا ثلاثًا، وأربعًا أربعًا (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) بين هذه الأعداد (ﮘ) فالأمر كله يدور مع العدل، فأينما وجدتموه فعليكم به، ثم قال: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ) فسوى في السهولة بين الحرة الواحدة وبين ما شاء من الإماء؛ لأنهن أقل تبعة، وأخف مؤنة من الحرائر، لا على المرء أكثر منهن أو أقل، عدل بينهن في القسم أم لم يعدل، عزل عنهن أم لم يعزل50.
ثالثًا: امتنان الله على خلقه به:
النكاح نعمة من الله امتن بها على عباده؛ إذ يحصل به مصالح دينية ودنيوية، فردية واجتماعية، مما يجعله من الأمور المطلوبة شرعًا، ومما يدل على ذلك قوله تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ) [الروم: ٢١].
وقال: (ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ) [النحل: ٧٢].
وقال: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) [النساء: ١].
وقال: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) إلى غير ذلك من الآيات التي تلفت النظر إلى هذه النعمة.
فقوله: (ﮉ ﮊ) أي: من نعمه تبارك وتعالى التي تستحق الشكر، وتستحق المحافظة عليها (ﮋﮌ ﮍ) خلقنا من ذكر وأنثى، فخلق الذكر للأنثى؛ لأنها لا تستقر حياتها من دونه، وخلق الأنثى للذكر لأنه لا يستقر عيشه بدونها.
فهي آية ونعمة اختص بها الإنسان؛ إذ ألهمه الله جعل قرين له، وجبله على نظام محبة وغيرة، لا يسمحان له بإهمال زوجه، كما تهمل العجماوات إناثها، وتنصرف إناثها عن ذكورها، وجعل البنين للإنسان نعمة، وجعل كونهم من زوجة نعمة أخرى؛ لأن بها تحقق كونهم أبناءه بالنسبة للذكر، ودوام اتصالهم به بالنسب، ووجود المشارك له في القيام بتدبير أمرهم في حالة ضعفهم51.
والخطاب بضمير الجماعة المخاطبين في قوله: (جعل لكم) موجه إلى الناس كلهم، وغلب ضمير التذكير52.
وفي النكاح نعمة أخرى؛ إذ جعل قرين الإنسان متكونًا من نوعه، فقال: (ﮎ ﮏ) ولو لم يجعل له ذلك لاضطر الإنسان إلى طلب التأنس بنوع آخر، فلم يحصل التأنس بذلك للزوجين، وهذه الحالة وإن كانت موجودة في أغلب أنواع الحيوان، فهي نعمة يدركها الإنسان، ولا يدركها غيره من الأنواع، وليس من قوام ماهية النعمة أن ينفرد بها المنعم عليه53.
ومعنى: (ﮎ ﮏ) أي: جعل هذه الزوجة من نوعكم ومن جنسكم من بني آدم، فجميع الأزواج من نوع الناس، وأما قول تأبط شرًا54:
وتزوجت في الشبيبة غولًا
بغزال وصدقتي زق خمر
فمن تكاذبيهم، وكذلك ما يزعمه المشعوذون من التزوج بالجنيات، وما يزعمه أهل الخرافات والروايات من وجود بنات في البحر، وأنها قد يتزوج بعض الإنس ببعضها55.
ويدل على أن (ﮎ ﮏ) أي: من جنسكم قوله تعالى: (ﮑ ﮒ)[الروم: ٢١].
لأن الجنسين المختلفين لا يسكن أحدهما إلى الآخر، أي: لا يثبت نفسه معه، ولا يميل قلبه إليه56.
وذلك لما بين الاثنين من جنس واحد من الإلف والسكون، وما بين الجنسين المختلفين من التنافر57. ولو تصورنا أن الله تعالى جعل الزوجين من غير جنس واحد، فلن يشعرا بالسرور واللذة أبدًا، ولكن الله تبارك وتعالى خلقهما من جنس واحد، يميل أحدهما إلى الآخر، ويأنس به، فسبحان الله العليم الحكيم.
ومعنى: (ﮑ ﮒ) أي: لتميلوا للأزواج، وتألفوهن، فإن الجنس إلى الجنس أسكن، والسكون هنا مستعار للتأنس، وفرح النفس؛ لأن في ذلك زوال اضطراب الوحشة والكمد بالسكون الذي هو زوال اضطراب الجسم، كما قالوا: اطمأن إلى كذا، وانقطع إلى كذا، وضمن (ﮑ) معنى: (لتميلوا) فعدي بحرف (إلى) وإن كان حقه أن يعلق بـ(عند) ونحوها من الظروف58.
والسكن إلى المرأة يشمل سكن النفس وسكن الجسم، وهذه إحدى الحكم الإلهية من وراء الزواج.
وجعل الله بين الزوجين المودة والرحمة، فقال: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ) [الروم: ٢١].
أي: جعل بين الزوجين المودة والرحمة، فهما يتوادان ويتراحمان من غير سابقة معرفة، ولا قرابة، ولا سبب يوجب التعاطف، وما شيء أحب إلى أحدهما من الآخر، من غير تراحم بينهما، وهذا لا يحصل إلا للزوجين، فالمودة وحدها آصرة عظيمة، وهي آصرة الصداقة والأخوة وتفاريعهما، والرحمة وحدها آصرة منها الأبوة والبنوة، فما ظنكم بآصرة جمعت الأمرين! وكانت بجعل الله تعالى، وما هو بجعل الله فهو في أقصى درجات الإتقان59.
والمودة والرحمة من أجمل المشاعر التي خلقها الله، فإذا وجد ذلك كله مع الشعور بالحل والهداية إلى الفطرة، ومرضاة الله سبحانه وتعالى كملت هذه المتعة، ولم ينقصها شيء، وقد ساعد على ذلك بالطبع الأصل الأول للخلق وغريزة الميل التي خلقها الله في كل من الذكر والأنثى للآخر.
فلا ألفة أعظم مما بين الزوجين؛ ولهذا ذكر تعالى أن الساحر ربما توصل بكيده إلى التفرقة بين المرء وزوجه، فقال: (ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ) [البقرة: ١٠٢].
فلشدة ارتباط هذه العلاقة بين الزوجين فلا يستطيع أحد التفريق بينهما، إلا أن يكون هذا التفريق باستعمال مفسدات لعقل أحد الزوجين حتى يبغض زوجه، وإما بإلقاء الحيل والتمويهات والنميمة حتى يفرق بينهما؛ ولهذا قال تعالى: (ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ) [البقرة: ١٠٢].
ولعل في قوله: (ﮕ ﮖ) إشارة إلى أن الزواج الناجح لا بد أن تسوده المودة والرحمة؛ ولهذا يجب المحافظة على هذه المودة حتى في حالة الغضب والصعوبات؛ لتستمر الحياة هادئة وسعيدة، فالمودة هي الأساس في بداية العلاقة الزوجية، فلا زواج ناجح من دون الحب بين الطرفين، ولعل الزوجة هي الأقدر في إظهار هذا الجانب وتفعيله مع الزوج.
ثم قال: (ﮘ ﮙ ﮚ) [الروم: ٢١].
الذي ذكر من (ﮛ) جمع، مع أنها-في الحقيقة- آية واحدة، إلا أنها تنطوي على عدة آيات، منها: أن جعل للإنسان ناموس التناسل، وأن جعل تناسله بالتزاوج، ولم يجعله كتناسل النبات من نفسه، وأن جعل أزواج الإنسان من صنفه، ولم يجعلها من صنف آخر؛ لأن التآنس لا يحصل بصنف مخالف، وأن جعل في ذلك التزاوج أنسًا بين الزوجين، ولم يجعله تزاوجًا عنيفًا، أو مهلكًا كتزاوج الضفادع، وأن جعل بين كل زوجين مودة ومحبة، فالزوجان يكونان من قبل التزاوج متجاهلين، فيصبحان بعد التزاوج متحابين، وأن جعل بينهما رحمة، فهما قبل التزاوج لا عاطفة بينهما، فيصبحان بعد التزاوج متحابين، وأن جعل بينهما رحمة، فهما قبل التزاوج لا عاطفة بينهما، فيصبحان بعده متراحمين كرحمة الأبوة والأمومة؛ ولأجل ما ينطوي عليه هذا الدليل، ويتبعه من النعم والدلائل جعلت هذه الآية آيات عدة، في قوله: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ)
وجعلت الآيات لقوم يتفكرون؛ فقال: (ﮜ ﮝ)؛ لأن التفكر والنظر في تلك الدلائل هو الذي يجلي كنهها، ويزيد الناظر بصارة بمنافع أخرى في ضمنها.
ويتفكرون أي: في عظمة الله وقدرته، فهو متعلق بـ (ﮛ) والذين يتفكرون: المؤمنون، وأهل الرأي من المشركين الذين يؤمنون بعد نزول هذه الآية60.
هكذا يصور القرآن العلاقة الزوجية تصويرًا رفافًا شفيفًا، يشع منه التعاطف، وترف فيه الظلال، ويشيع فيه الندى، ويفوح منه العبير: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ) [الروم: ٢١].
وقال تعالى: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ) [البقرة: ١٨٧].
فهي صلة النفس بالنفس، وهي صلة السكن والقرار، وهي صلة المودة والرحمة، وهي صلة الستر والتجمل.
إن الإنسان ليحس في الألفاظ ذاتها حنوًا ورفقًا، ويستروح من خلالها نداوة وظلًا، وإنها لتعبير كامل عن حقيقة الصلة التي يفترضها الإسلام لذلك الرباط الإنساني الرفيق الوثيق؛ ذلك في الوقت الذي يلحظ فيه أغراض ذلك الرباط كلها، بما فيها امتداد الحياة بالنسل، فيمنح هذه الأغراض كلها طابع النظافة والبراءة، ويعترف بطهارتها وجديتها، وينسق بين اتجاهاتها ومقتضياتها؛ ذلك حين يقول: (ﯡ ﯢ ﯣ) [البقرة: ٢٢٣].
فيلحظ كذلك معنى الإخصاب والإكثار61.
وأخبر الله تعالى أيضًا في الآية الأخرى عن منته العظيمة على عباده، حيث جعل لهم من أزواجهم أولادًا تقر بهم أعينهم ويخدمونهم، ويقضون حوائجهم، وينتفعون بهم من وجوه كثيرة، فقال: (ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ) [النحل: ٧٢].
والحفدة في كلام العرب: جمع حافد، كما أن الكذبة: جمع كاذب، والفسقة: جمع فاسق، والحافد في كلامهم؛ هو المتخفف في الخدمة والعمل، والحفد: خفة العمل، يقال: مر البعير يحفد حفدانًا: إذا مر يسرع في سيره، ومنه قولهم: (إليك نسعى ونحفد)62 أي: نسرع إلى العمل بطاعتك، يقال منه: حفد له يحفد حفدًا وحفودًا وحفدانًا63. ومنه قول الراعي64:
كلفت مجهولها نوقًا يمانيةً
إذا الحداة على أكسائها حفدوا
وعلى هذا فالمراد بالحفدة الأولاد، أو هم الأصهار أختان الرجل على بناته، ومنه قول الشاعر65:
ولو أن نفسي طاوعتني لأصبحت
لها حفدٌ مما يعد كثير
ولكنها نفس علي أبية
عيوفٌ لأصهار اللئام قذور
وقد يكون المراد بهم أولاد الأولاد، أو بنو امرأة الرجل من غيره، أو يكون المراد بهم: الأعوان، أو: الخدم، ومنه قول جميل66:
حفد الولائد حولهم وأسلمت
بأكفهن أزمة الأجمال
وذهب بعض العلماء في تفسير قوله تعالى: (ﰋ ﰌ) إلى أن البنين الصغار، والحفدة الكبار67.
وإذا كان معنى الحفدة ما ذكرنا من أنهم المسرعون في خدمة الرجل، المتخففون فيها.
وكان الله تعالى أخبرنا أن مما أنعم به علينا أن جعل لنا حفدة تحفد لنا، وكان أولادنا وأزواجنا الذين يصلحون للخدمة منا ومن غيرنا وأختاننا الذين هم أزواج بناتنا من أزواجنا، وخدمنا من مماليكنا إذا كانوا يحفدوننا، فيستحقون اسم حفدة، ولم يكن الله تعالى دل بظاهر تنزيله، ولا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولا بحجة عقل على أنه عنى بذلك نوعًا من الحفدة دون نوع منهم، وكان قد أنعم بكل ذلك علينا، لم يكن لنا أن نوجه ذلك إلى خاص من الحفدة دون عام، إلا ما اجتمعت الأمة عليه أنه غير داخل فيهم. فكل الأقوال التي ذكرنا لها وجه في الصحة، ومخرج في التأويل68.
وهي أقوال متقاربة؛ لأن اللفظ يحتمل الكل بحسب المعنى المشترك.
وبالجملة فإن الحفدة هم غير البنين؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: (ﰋ ﰌ) فجعل بينهما مغايرة69.
قال الرازي: والأولى دخول الكل فيه؛ لأن اللفظ محتمل للكل بحسب المعنى المشترك70.
وأطلق الحافد على ابن الابن؛ لأنه يكثر أن يخدم جده؛ لضعف الجد بسبب الكبر، فأنعم الله على الإنسان بحفظ سلسلة نسبه بسبب ضبط الحلقة الأولى منها، وهي كون أبنائه من زوجه، ثم كون أبناء أبنائه من أزواجهم، فانضبطت سلسلة الأنساب بهذا النظام المحكم البديع.
وغير الإنسان من الحيوان لا يشعر بحفدته أصلًا، ولا يشعر بالبنوة إلا أنثى الحيوان مدة قليلة قريبة من الإرضاع، والحفدة للإنسان زيادة في مسرة العائلة.
قال تعالى: (ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ) [هود: ٧١]71.
ثم قال تعالى في الآية الثالثة: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ) [النساء: ١].
يعني: آدم، وفي ذلك نعمة عليكم؛ لأنه أقرب إلى التعاطف بينكم، (ﭚ ﭛ ﭜ) يعني: حواء. وقوله: (ﭛ) أي: من آدم، فالنفس الواحدة: هي آدم، والزوج: حواء، فإن حواء أخرجت من آدم، من ضلعه، كما يقتضيه ظاهر قوله: (ﭛ). وقال بعضهم: معنى: (ﭛ) من جنسها، واللفظ يتناول المعنيين، أو يكون لحمها وجواهرها من ضلعه، ونفسها من جنس نفسه.
فإن قيل: إنه تعالى قادر على خلق حواء من التراب، فأي فائدة في خلقها من ضلع من أضلاع آدم؟ والجواب: أن الأمر لو كان كذلك لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفس واحدة، وهو خلاف النص، وخلاف ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن المرأة خلقت من ضلع أعوج، فإن ذهبت تقيمها كسرتها)7273.
و(من) في قوله: (ﭛ) تبعيضية، ومعنى التبعيض أن حواء خلقت من جزء من آدم، قيل: من بقية الطينة التي خلق منها آدم، وقيل: فصلت قطعة من ضلعه، وهو ظاهر قوله في الحديث: (خلقت من ضلع). ومن قال: إن المعنى: وخلق زوجها من نوعها لم يأت بطائل؛ لأن ذلك لا يختص بنوع الإنسان، فإن أنثى كل نوع هي من نوعه74.
وقد شمل قوله: (ﭚ ﭛ ﭜ) العبرة بهذا الخلق العجيب الذي أصله واحد، ويخرج هو مختلف الشكل والخصائص، والمنة على الذكران بخلق النساء لهم، والمنة على النساء بخلق الرجال لهن، ثم من على النوع بنعمة النسل في قوله: (ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ) مع ما في ذلك من الاعتبار بهذا التكوين العجيب.
ومعنى: (ﭝ ﭞ) البث: النشر والتفريق للأشياء الكثيرة، أي: نشر وأظهر، رجالًا كثيرًا ونساء، كقوله تعالى: (ﭩ ﭪ) [القارعة: ٤].
أي: المنتشر، يعني: خلق منهما يعني من آدم وحواء، ونشر منهما رجالًا كثيرًا ونساء، وذكر هذا كله لبيان القدرة؛ وإظهار المنة.
وحصره ذريتها إلى نوعين الرجال والنساء في قوله: (ﭟ ﭠ ﭡ) مقتضٍ أن الخنثى ليس بنوع مستقل، وأنه وإن فرضناه مشكل في الظاهر فله حقيقة ترده إلى أحد هذين النوعين75. ووصف الرجال وهو جمع بـ(كثير) وهو مفرد؛ لأن كثير يستوي فيه المفرد والجمع، كما في قوله تعالى: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ) [آل عمران: ١٤٦].
واستغنى عن وصف النساء بكثير لدلالة وصف الرجل به ما يقتضيه فعل البث من الكثرة76.
وقد تعرف الله تعالى في هذه الآية إلى العقلاء على كمال القدرة بما ألاح من براهين الربوبية، ودلالات الحكمة حيث خلق جميع هذا الخلق من نسل شخص واحد، على اختلاف هيئتهم، وتفاوت صورهم، وتباين أخلاقهم، وإن اثنين منهم لا يتشابهان، فلكل وجه في الصورة والخلق، والهمة والحالة، فسبحان من لا حد لمقدوراته، ولا غاية لمعلوماته77.
وخلق أشخاص غير محصورة من إنسان واحد مع تغاير أشكالهم، وتباين أمزجتهم، واختلاف أخلاقهم دليل ظاهر، وبرهان باهر على وجود مدبر مختار وحكيم قدير..، فإذا عرفوا ذلك تركوا المفاخرة، وأظهروا التواضع، وحسن الخلق78.
رابعًا: وصفه بالميثاق الغليظ:
وصف الله عقد النكاح بالميثاق الغليظ في سياق النهي عن الرجوع في شيء مما أعطى الأزواج زوجاتهم، ولو كان المعطى قنطارًا، وبين أن أخذه بهتانًا وإثمًا مبينًا، وبين أن السبب المانع من أخذ شيء منه هو أنه أفضى إليها بالجماع، فقال: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ) [النساء: ٢٠-٢١].
والمعنى: فمتى (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ) أي: تطليق زوجة وتزوج أخرى، أي: فلا جناح عليكم في ذلك ولا حرج. ولكن إذا (ﭗ ﭘ) أي: المفارقة، أو التي تزوجها (ﭙ) أو أقل أو أكثر، أي: من الذهب أو الفضة، مهرًا وصداقًا، والمقصود: مالًا كثيرًا، فلا تأخذوا منه شيئًا. والنهي بعده يدل على عموم ما آتاها، سواء كان مهرًا، أو غيره79. والسبب أنه قد صار بينهما من الاختلاط والامتزاج ما لا يناسب أن يأخذ شيئًا مما آتاها، سواء كان المهر أو غير المهر.
فلا يمتنع أن يكون أول الخطاب عمومًا في جميع ما تضمنه الاسم، ويكون المعطوف عليه بحكم خاص فيه، ولا يوجب ذلك خصوص اللفظ الأول. قال أبو بكر الرازي (الجصاص): ويحتج به -أي بهذه الآية- فيمن أسلف امرأته نفقتها لمدة، ثم ماتت قبل المدة أنه لا يرجع في ميراثها بشيء مما أعطاها لعموم اللفظ؛ لأنه جائز أن يريد أن يتزوج بأخرى بعد موتها مستبدلًا بها مكان الأولى، فظاهر اللفظ قد تناول هذه الحالة80.
وفي الآية دليل على جواز الإصداق بالمال الكثير؛ لأن القنطار: المال الكثير الذي هو أقصى ما يتصور من مهور؛ ولأن الله تعالى لا يمثل إلا بمباح...، وقال قوم: لا تعطى الآية جواز المغالاة في المهور؛ لأن التمثيل بالقنطار إنما هو على جهة المبالغة كأنه قال: وآتيتم هذا القدر العظيم الذي لا يؤتيه أحد.
فالآية الكريمة وإن كانت تفيد جواز الإصداق بالمال الجزيل إلا أن الأفضل عدم المغالاة في ذلك، مع مراعاة أحوال الناس من حيث الغنى والفقر وغيرهما81.
وقد ينهى عن كثرة الصداق إذا تضمن مفسدة دينية، وعدم مصلحة تقاوم.
وضمير (ﭘ) راجع إلى النساء، وهي المرأة التي يراد طلاقها82.
ثم قال: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) بل أدوه أي: مباهتين وآثمين، أو بالبهتان والإثم الظاهر، والبهتان: الكذب الذي يبهت المكذوب عليه، فالبهتان كالشكران والغفران مصدر بهته كمنعه، إذا قال عليه ما لم يفعل83.
والاستفهام في (ﭟ) إنكاري، وانتصب (ﭠ) على الحال من الفاعل في (تأخذونه) بتأويله باسم الفاعل، أي: مباهتين، وإنما جعل هذا الأخذ بهتانًا؛ لأنهم كان من عادتهم إذا كرهوا المرأة، وأرادوا طلاقها رموها بسوء المعاشرة، واختلفوا عليها ما ليس فيها؛ لكي تخشى سوء السمعة، فتبذل للزوج مالًا فداء ليطلقها. فصار أخذ المال من المرأة عند الطلاق مظنة بأنها أتت ما لا يرضي الزوج، فقد يصد ذلك الراغبين في التزوج عن خطبتها.
وأما وصفه الإثم بكونه (ﭢ) لأنه قد صار معلومًا للمخاطبين من قوله: (ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ) أو من آية البقرة: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) أو مما تقرر عندهم من أن حكم الشريعة في الأموال أن لا تحل إلا عن طيب نفس84.
ثم استعظم ذلك فقال: (ﭤ ﭥ) استفهام تعجبي بعد الإنكار، أي: ليس من المروءة أن تطمعوا في أخذ عوض عن الفراق بعد معاشرة امتزاج، وعهد متين85.
فالمقصود أنه علل النهي من الأخذ بعلتين:
الأولى: الإفضاء وخلوص كل زوج لنفس صاحبه، حتى صارا كأنهما نفس واحدة.
والثانية: الميثاق الغليظ الذي أخذ على الرجال بأن يعاملوا النساء معاملة كريمة.
فقوله: (ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) الواو هنا: للحال، والجملة بعدها: في محل نصب، وأتى بـ(قد)؛ ليقرب الماضي من الحال86.
وأصل أفضى: ذهب إلى فضاه أي: ناحية سعته، يقال: أفضى فلان إلى فلان أي: وصل إليه، وأصله أنه صار في فضائه وفرجته، وقيل: أصل الإفضاء الوصول إلى الشيء من غير واسطة، والمعنى: خلص الزوج إلى عورة زوجته، والزوجة كذلك.
وهذا الإفضاء يحتمل أنه: كناية عن الجماع، وعلى هذا فالزوج إذا طلق قبل المسيس فله أن يرجع في نصف المهر وإن خلا بها، أو يكون الإفضاء هو الخلوة وإن لم يجامعها، بأن يكون معها في لحاف واحد جامعها أو لم يجامعها؛ لأن الخلوة في الأنكحة الصحيحة تقرر المهر87.
وقيل: إذا طال مكثه معها السنة ونحوها، واتفقا على ألا مسيس، وطلبت المهر كله كان لها، والظاهر أن المراد بالإفضاء الجماع لوجوهٍ:
أحدها: ما تقدم من المعنى اللغوي للإفضاء: أنه يصير في فرجته وفضائه، وهذا المعنى إنما يحصل في الحقيقة عند الجماع، أما في غير وقت الجماع فهذا غير حاصل.
وثانيها: أنه تعالى ذكر في معرض التعجب، فقال: (ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) والتعجب إنما يتم إذا كان هذا الإفضاء سببًا قويًا في حصول الألفة والمحبة؛ وذلك لا يحصل بمجرد الخلوة، وإنما يحصل بالجماع، فيحمل عليه.
وثالثها: أن الإفضاء إليها لا بد وأن يكون مفسرًا بفعل منه ينتهي إليه؛ لأن كلمة (إلى) لانتهاء الغاية، ومجرد الخلوة ليس كذلك؛ لأن عند الخلوة المحضة لم يصل كل واحد منهما إلى الآخر، فامتنع تفسير قوله: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) بمجرد الخلوة88.
ورابعها: أن المهر قبل الخلوة ما كان متقررًا، وقد علق الشرع تقريره على إفضاء البعض إلى البعض، وقد اشتبه في المراد بهذا الإفضاء هل هو الخلوة أو الجماع؟ وإذا وقع الشك وجب بقاء ما كان على ما كان، والأصل براءة الذمة89.
ومما يرجح أن الإفضاء هنا المراد به الجماع: أن الكلام كناية بلا شبهة، والعرب إنما تستعملها فيما يستحى من ذكره كالجماع، والخلوة لا يستحى من ذكرها فلا تحتاج إلى الكناية، و أيضًا في تعدية الإفضاء بـ(إلى) ما يدل على معنى الوصول والاتصال، وذلك أنسب بالجماع، ومن ذهب إلى الثاني قال: إنما سميت الخلوة إفضاءً لوصول الرجل بها إلى مكان الوطء، ولا يسلم أن الخلوة لا يستحى من ذكرها90.
والآية تنهى عن أخذ شيء من الزوجة بعد هذا الإفضاء، أي: على أي حال أو في أي حال تأخذونه، والحال أنه قد جرى بينكم وبينهن أحوال منافية له من الخلوة، وتقرر المهر، وثبوت حق خدمتهن لكم وغير ذلك91.
والمقصود أن المراد بالميثاق الغليظ في قوله: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ) [النساء: ٢٠-٢١].
هو عقد النكاح، وأطلق عليه ذلك لأنه عهد مؤكد، وقد سماه الله في آية أخرى بعقدة النكاح، في قوله: (ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) [البقرة: ٢٣٥].
يعني: ولا تعقدوا العقد بالنكاح حتى تنقضي العدة.
أو يكون الميثاق الغليظ هو كلمة النكاح التي يستحل بها الفروج، وهي قول الولي عند العقد: زوجتكها على ما أخذ للنساء على الرجال من إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان. مأخوذ من قوله تعالى: (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ) [البقرة: ٢٢٩].
وكان يقال للناكح في صدر الإسلام: عليكم لتمسكن بمعروف، أو لتسرحن بإحسان. وقد أشار إليه في حديث: (اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله)92 وقيل: كلمة الله هي التشهد في الخطبة93.
أو يكون: المراد بالميثاق الغليظ هو: إفضاء بعضهم إلى بعض، وصفه بالغلظة لعظمة ما يحدث بين الزوجين من الاتحاد والألفة والامتزاج94.
وقال قوم: الميثاق الولد؛ إذ به تتأكد أسباب الحرمة، وتقوى دواعي الألفة، أو هو: ما شرط في العقد من أن على كل واحد منهما تقوى الله، وحسن الصحبة، والمعاشرة بالمعروف، وما جرى مجرى ذلك95.
ووصفه بالغلظ لقوته وعظمه، فقد قالوا: صحبة عشرين يومًا قرابة، فكيف بما يجري بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج؟!96.
والغليظ: صفة مشبهة من (غلظ) -بضم اللام- إذا صلب، والغلظة في الحقيقة صلابة الذوات، ثم استعيرت إلى صعوبة المعاني وشدتها في أنواعها.
قال تعالى: (ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ) [التوبة: ١٢٣]97.
والضمير في قوله: (ﭫ) للنساء، والآخذ في الحقيقة إنما هو الله تعالى، إلا أنه سبحانه نسبه إليهن؛ للمبالغة في المحافظة على حقوقهن، حتى جعلن كأنهن الآخذات له، قال بعضهم: وهذا الإسناد مجاز عقلي؛ أي: وقد أخذ الله عليكم العهد لأجلهن وبسبيهن، فهو مجاز عقلي من الإسناد إلى السبب98.
وفي هذه الآية فوائد، منها:
بين القرآن الكريم صور من النكاح محظورة لحكم إلهية ومنافع إنسانية، وسوف نتناولها فيما يأتي:
أولًا: نكاح زوجة الأب:
حرم الله على الابن وإن نزل أن يتزوج زوجة أبيه أو جده وإن علا؛ وذلك لقوله تعالى: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ) [النساء: ٢٢].
فقد نهى الله تعالى في هذه الآية الكريمة عن نكاح المرأة التي نكحها الأب، ولم يبين ما المراد بنكاح الأب، هل هو العقد أو الوطء؟ ولكنه بين في موضع آخر أن اسم النكاح يطلق على العقد وحده، وإن لم يحصل مسيس؛ وذلك في قوله تعالى: (ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ) [الأحزاب: ٤٩].
فصرح بأنه نكاح، وأنه لا مسيس فيه.
وقد أجمع العلماء على أن من عقد عليها الأب حرمت على ابنه، وإن لم يمسها الأب، وكذلك عقد الابن محرم على الأب إجماعًا، وإن لم يمسها100.
وإنما خص هذا النكاح بالنهي، ولم ينظم في سلك نكاح المحرمات الآتية بعدها في الآيات مبالغة في الزجر عنه، حيث كان ذلك ديدنًا لهم في الجاهلية.
وعدل عن أن يقال: لا تنكحوا نساء آبائكم؛ ليدل بلفظ: (نكح) على أن عقد الأب على المرأة كافٍ في حرمة تزوج ابنه إياها101. ولفظة: (آباؤكم) في الآية تعم كل من له أبوة، سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة، وسواء كانت من جهة الأب أو من جهة الأم.
فيحرم أصوله وفصوله، وزوجتهما، يعني: أنه يحرم على الشخص أن يتزوج امرأة تزوجها أحد من آبائه وإن علوا، أو بنيه وإن سفلوا. وإن لم يدخل بها الأب، فالتحريم بمجرد كتابة العقد.
والآية تسمي هذا النكاح: فاحشة ومقتًا وساء سبيلًا، وقد كان زواج الأبناء بزوجات الآباء بعد موتهم فاشيًا في الجاهلية، فانزل الله هذه الآية102. وصار نكاح المقت أن يتزوج الرجل امرأة أبيه إذا طلقها أو مات عنها.
والعلة في تحريم زوجات الآباء تكريمًا لهم واحترامًا، ووفاء بحقهم في البر، وعدم انتهاك حرمتهم، ومعنى: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) أي: لكن ما سلف قبل التحريم، فلا جناح عليكم فيه، ونظيره قوله تعالى: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ) [النساء٢٣].
وقال في الصيد قبل التحريم: (ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ) [المائدة: ٥٩] الآية103.
وليس معنى: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) أنه وافقهم على ما تم قبل ذلك ولا زال ساريًا من نكاح الأبناء لزوجات الآباء، بل أمر الإسلام بفسخه، وإنما المعنى: أنه رفع الجناح عليهم، فلا إثم عليهم قبل التحريم، ولا يؤاخذون به.
قال في الفواكه الدواني: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) أي: ما وقع قبل الإسلام، وفسخه الإسلام، فلا يؤاخذ فاعله به؛ لأنه يغفر بالإسلام؛ لأنه يجب ما قبله.
قال تعالى: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) [الأنفال: ٣٨].
والاستثناء في الآية منقطع، والمعنى: لكن ما قد سلف لا إثم فيه104.
خاصة ما تعذر تداركه في عهد الجاهلية لموت الزوجين، من حيث إنه يترتب عليه ثبوت أنساب، وحقوق مهور ومواريث، و أيضًا بيان تصحيح أنساب الذين ولدوا من ذلك النكاح، وأن المسلمين انتدبوا للإقلاع عن ذلك اختيارًا منهم105.
فإن كان نكاح الأب نكاحًا فاسدًا حرم على الابن العقد عليها أيضًا، كما يحرم بالصحيح؛ فإن زنى رجل بامرأة فالراجح أنه يحرم تزوجها على أولاده لهذه الآية؛ لأن النكاح فيها محمول على الوطء، وقال من أجازه: إن الآية لا تتناوله؛ إذ النكاح فيها بمعنى العقد106. قال ابن المنذر: وأجمعوا على أن الرجل إذا وطئ نكاحًا فاسدًا أنها تحرم على ابنه وأبيه وعلى أجداده، وولد ولده107. يعني: إلى الأبد، ما تناسلوا؛ لهذه الآية الكريمة.
حكم من تزوج زوجة أبيه أو إحدى محارمه:
من تزوج بإحدى محارمه، إما أن يكون جاهلًا بالحرمة، كمن يكون حديث عهد بإسلام، فهذا لا إثم عليه ولا حد، وإما أن يقع على ذوات محارمه عالمًا بالتحريم لكنه غير مستحل، فلا يكفر مع أنه يقتل حدًا، وإما أن يكون مستحلًا له فيقتل ردة، ويخمس ماله لأجل الكفر؛ لحديث أبي بردة بن نيار لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى من تزوج امرأة أبيه، فأمره أن يضرب عنقه، ويخمس ماله108، فإن تخميس المال دال على أنه كان كافرًا لا فاسقًا، وكفره بأنه لم يحرم ما حرم الله ورسوله.
واعتبر شيخ الإسلام ابن تيمية قرينة تخميس المال في الحديث دليلًا على أنه فعل ذلك مستحلًا، وأنه كان كافرًا109.
فيحمل هذا الحديث على المستحل، والباقي يبقى على الأصل، وهو معاملته معاملة الزاني بكرًا كان أو ثيبًا، عقد عليها أو زنا بها بدون عقد.
ثانيًا: النكاح المحرم بسبب النسب:
بعد أن ذكر الله تعالى حرمة نكاح ما نكح الآباء بقوله: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ) [النساء: ٢٢].
ذكر المحرمات بسبب النسب، وغير أسلوب النهي فيه؛ لأن (لا تفعل) نهي عن المضارع الدال على زمن الحال، فيؤذن بالتلبس به، بخلاف (حرمت) فيدل على أن تحريمه أمر مقرر؛ ولذلك قال ابن عباس: «كان أهل الجاهلية يحرمون ما يحرم الإسلام إلا امرأة الأب، والجمع بين الأختين».
فمن أجل هذا أيضًا نجد حكم الجمع بين الأختين عبر فيه بلفظ الفعل المضارع، فقال: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [النساء: ٢٣]110.
والمحرمات بسبب النسب: هن النساء اللاتي حرم نكاحهن من هذه الجهة.
والنسب: أن يجتمع إنسان مع آخر في أب أو أم، قرب ذلك أو بعد.
وقد ذكر الله المحرمات من النساء، فقال: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) [النساء: ٢٣].
فحرم الله تعالى في هذه الآية نكاح أربع عشرة امرأة: سبعًا بنسب، وسبعًا بسبب، فأما النسب: فقال: (ﮃ ﮄ) فبني الفعل للمجهول للعلم به؛ لأن المحرم والمحلل هو الله، فهو فاعل هذا التحريم وحده.
ومعنى: (ﮃ ﮄ) المراد: تحريم نكاحهن؛ لقوله: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ) [النساء: ٢٢].
ولأن تحريم نكاحهن هو الذي يفهم من تحريمهن، كما يفهم من تحريم الخمر تحريم شربها، ومن تحريم لحم الخنزير تحريم أكله111. ولأن من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن المراد منه تحريم نكاحهن، والأصل فيه أن الحرمة والإباحة إذا أضيفتا إلى الأعيان فالمراد تحريم الفعل المطلوب منها في العرف، فإذا قيل: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ) فهم كل أحد أن المراد تحريم نكاحهن112.
فليس المراد بقوله: (ﮃ) تحريم ذاتهن؛ لأن الحرمة لا تتعلق بالذوات، وإنما تتعلق بأفعال المكلفين، فالكلام على حذف مضاف، أي: حرم عليكم نكاح أمهاتكم وبناتكم.
ويدخل في قوله: (ﮅ) الجدات من جهة الأب أو الأم وإن سفلن. والأم هي: كل امرأةٍ يرجع نسبك إليها بالولادة من جهة أبيك، أو من جهة أمك بدرجة أو درجات، سواء رجعت إليها بذكور، أو بإناث فهي أمك113.
ولفظ الأم إن أريد به ههنا الأم الأصلية فتحريم نكاحها هنا مستفادٌ بالنص، وأما تحريم نكاح الجدات فمستفادٌ من الإجماع114.
وحرمة الأمهات والبنات كانت ثابتة من زمن آدم عليه السلام إلى زماننا، ولم يثبت حل نكاحهن في شيء من الشرائع الإلهة...، وأما نكاح الأخوات فقد نقل: إنه كان مباحًا في زمن آدم عليه السلام، وإنما أباحه الله للضرورة، وأنكر بعضهم ذلك، وقال: إنه تعالى كان يبعث الجواري من الجنة ليتزوج بهن أبناء آدم عليه السلام، ويبعث أيضًا لبنات آدم من يتزوج بهن من الحور، وهذا بعيد؛ لأنه إذا كان زوجات أبنائه، وأزواج بناته من الجنة فحينئذٍ لا يكون هذا النسل من أولاد آدم فقط، وذلك باطل بالإجماع115.
والمراد من (الأمهات) وما عطف عليها الدنيا وما فوقها، وهؤلاء هن المحرمات من النسب، وقد أثبت الله تعالى تحريم من ذكرهن، وقد كن محرمات عند العرب في جاهليتها تأكيدًا لذلك التحريم، وتغلظًا له؛ إذ قد استقر ذلك في الناس من قبل116 وقد روى ابن عطية في تفسيره عن ابن عباس: أن المحرمات المذكورات هنا كانت محرمة في الجاهلية إلا امرأة الأب، والجمع بين الأختين117.
وذكر العلماء أن سبب تحريم نكاح هؤلاء المذكورات أن الوطء إذلالٌ وإهانةٌ، فإن الإنسان يستحي من ذكره، ولا يقدم عليه إلا في الموضع الخالي، وأكثر أنواع الشتم لا يكون إلا بذكره، وإذا كان الأمر كذلك وجب صون الأمهات عنه؛ لأن إنعام الأم على الولد أعظم وجوه الإنعام؛ فوجب صونها عن هذا الإذلال، والبنت بمنزلة جزء من الإنسان وبعض منه، قال عليه السلام: (فاطمة بضعةٌ مني)118 فيجب صونها عن هذا الإذلال، وكذا القول في البقية119.
فشريعة الإسلام قد نوهت ببيان القرابة القريبة، فغرست لها في النفوس وقارًا، ينزه عن شوائب الاستعمال في اللهو والرفث؛ إذ الزواج وإن كان غرضًا صالحًا باعتبار غايته إلا أنه لا يفارق الخاطر الأول الباعث عليه، وهو خاطر اللهو والتلذذ، فوقار الولادة أصلًا وفرعًا مانع من محاولة اللهو بالوالدة أو المولودة؛ ولذلك اتفقت الشرائع على تحريمه، ثم تلاحق ذلك في بنات الأخوة، وبنات الأخوات، وكيف يسري الوقار إلى فروع الأخوات، ولا يثبت للأصل، وكذلك سرى وقار الآباء إلى أخوات الآباء وهن العمات، ووقار الأمهات إلى أخواتهن وهن الخالات، فمرجع تحريم هؤلاء المحرمات إلى قاعدة المروءة التابعة لكلية حفظ العرض من قسم المناسب الضروري، وذلك من أوائل مظاهر الرقي البشري120.
والصنف الثاني: من المحرمات بسبب النسب البنات؛ قال تعالى: (ﮆ) والبنات: جمع البنت؛ فلفظ البنات شامل للبنات، ولبنات البنات، وبنات بناتهن، وهذا لا نزاع فيه بين العلماء121.
والبنت: هي كل امرأة لك عليها ولادة، سواء أكانت بنتًا مباشرة أم بواسطة، فتشمل حرمة النكاح البنات وبنات الأبناء وبنات البنات وإن نزلن، وقد انعقد الإجمال على تحريم الفروع من النساء مهما تكن طبقتهن122.
قال العلماء: فلما حرم الله البنات فحرمت بذلك بنت البنت بإجماع، علم أنها بنت، ووجب أن تدخل في حبس أبيها إذا حبس على ولده، أو عقبه123.
والمراد بهن: البنات للأصلاب ليس المراد بنات التبني، فإذا تبنيت طفلة وألحقتها بك يحل لك أن تتزوجها، فالتبني لا يحرم، إنما المحرم هنا البنت للصلب.
ويلحق بالبنت هنا مسألةٌ، وهي مسألة البنت المخلوقة من ماء الزاني، يعني رجلٌ زنى بامرأة فولدت له بنتًا، هذه بنت الزنا هل يحل للزاني أن يتزوجها؟ فالجمهور قالوا: بالمنع، فيحرم عليه أن يتزوجها، والإمام الشافعي رحمه الله يرى جواز ذلك124.
وقد احتج شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله للمنع بما حاصله: ليست كل من لا ترث يحل الزواج بها؛ فأمك من الرضاعة لا ترث، ولا يحل لك أن تتزوج بها، وابنتك من الرضاعة لا ترث ولا يحل لك الزواج بها، وأطال النفس في تعقباته على هذا الرأي125.
وقد قال ابن كثير: «وقد استدل جمهور العلماء على تحريم المخلوقة من ماء الزاني عليه بعموم قوله تعالى: (ﮆ) فإنها بنت فتدخل في العموم، وقد حكي عن الشافعي شيء في إباحتها؛ لأنها ليست بنتًا شرعية، فكما لم تدخل في قوله تعالى: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ) فإنها لا ترث بالإجماع، فكذلك لا تدخل في هذه الآية، والله أعلم»126.
والصنف الثالث: من المحرمات بسبب النسب الأخوات.
قال تعالى: (ﮇ) يعني: من النسب، من الأوجه الثلاثة، وكذلك الباقيات، فيشمل: الشقيقات، أو لأب، أو لأم.
والأخت: هي عبارة عن كل امرأة شاركتك في أصلك، فتدخل فيه الأخوات من الأب والأم، والأخوات من الأب، والأخوات من الأم.
والرابع والخامس: من المحرمات بسبب النسب العمات والخالات.
قال تعالى: (ﮈ ﮉ) فالعمات والخالات: جمع العمة والخالة، والعمة: كل أنثى وَلَدَها مَنْ وَلَدَ ذكرًا وَلَدَكَ.
ويمكن القول- أن العمة: هي كل امرأة شاركت أباك في أصله، وهن جميع أخوات الأب، وأخوات آبائه، وإن علون، وقد تكون العمة من جهة الأم أيضًا، وهي أخت أبي الأم127.
والخالة: كل أنثى ولدها من ولد أنثى ولدتك قريبًا أو بعيدًا128. ويمكن القول- أن الخالة: هي كل امرأة شاركت الأم في أصلها، فيدخل فيه جميع أخوات الأم وأخوات أمهاتها، وقد تكون الخالة من جهة الأب أيضًا، وهي أخت أم الأب129. فيكون معنى: (ﮈ) أي: أخوات آبائكم وأجدادكم (ﮉ) أي: أخوات أمهاتكم وجداتكم130.
والصنف السادس والسابع: من المحرمات بسبب النسب بنات الأخ وبنات الأخت.
قال تعالى: (ﮊ ﮋﮌ ﮍ) بنات الأخ الشقيق أو للأب، وما تناسل منهم، و(بنات الأخت) فيدخل كل ما تناسل من الأخت الشقيقة، أو للأب، أو للأم.
وهي عبارة عن كل امرأة لأخيك أو لأختك، عليها ولادة يرجع نسبها إلى الأخ أو الأخت، فيدخل فيهن جميع بنات أولاد الأخ والأخت، وإن سفلن131. و(ال) في قوله: (ﮊ ﮋﮌ ﮍ) عوض عن المضاف إليه، أي: بنات أخيكم، وبنات أختكم.
فهؤلاء هن المحرمات من النسب، ثم ذكر بعدها المحرمات بسبب الرضاع، والمحرمات بالصهر، فقال تعالى: (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [النساء: ٢٣].
وسيأتي ذكرهن إن شاء الله.
ثالثًا: النكاح المحرم من الرضاع:
ذكر الله تعالى هنا ما يحرم بسبب الرضاع، فقال: (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) [النساء: ٢٣].
فذكر القرآن صنفين، وحرمت السنة من الرضاع كل ما يحرم من النسب، قال صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)132 فيدخل الأصناف السبعة، وهي الأم من الرضاع، والبنت، والأخت، والعمة، والخالة، وبنت الأخ، وبنت الأخت133. فكل أنثى انتسبت باللبن إليها فهي أمك، وبنتها أختك، وإنما نص الله على ذكر الأم والأخت ليدل بذلك على جميع الأصول والفروع، فنبه بذلك أنه تعالى أجرى الرضاع مجرى النسب134.
وفي قوله: (ﮎ ﮏ ﮐ) سمى المراضع أمهات؛ جريًا على لغة العرب، وما هن بأمهات حقيقة، ولكنهن تنزلن منزلة الأمهات؛ لأن بلبانهن تغذت الأطفال؛ ولما في فطرة الأطفال من محبة لمرضعاتهم محبة أمهاتهم الوالدات؛ ولزيادة تقرير هذا الإطلاق الذي اعتبره العرب، ثم ألحق ذلك بقوله: (ﮏ ﮐ)؛ دفعًا لتوهم أن المراد أمهات النسب؛ إذ لولا قصد إرادة المرضعات لما كان لهذا الوصف جدوى.
وقد أجملت هنا صفة الإرضاع ومدته وعدده إيكالًا للناس إلى متعارفهم، وملاك القول في ذلك: أن الرضاع إنما اعتبرت له هذه الحرمة لمعنى فيه، وهو أنه الغذاء الذي لا غذاء للطفل يعيش به، فكان له من الأثر في دوام حياة الطفل ما يماثل أثر الأم في أصل حياة طفلها، فلا يعتبر الرضاع سببًا في حرمة المرضع على رضيعها إلا ما استوفى هذا المعنى من حصول تغذية الطفل، وهو ما كان في مدة عدم استغناء الطفل عنه؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الرضاعة من المجاعة)135136.
ولما حرم الله تعالى الأم من الرضاعة من غير تعرض لما به يحصل الرضاع من مقدار الرضاع ومدته، فيكون التعلق بهذه الآية في إثبات التحريم بالرضعة الواحدة تعلق بالعموم الذي سيق لغرض آخر غير غرض التعميم137. فالصحيح من أقوال أهل العلم أن عدد الرضعات المحرمة خمس رضعات؛ لما ثبت في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (كان فيما أنزل الله من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى لله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن)138.
ولا يصح الاستدلال بعموم الآية على أنه يحرم مجرد الرضاع، كما ذهب إليه البعض.
فمن رضع من امرأة خمس رضعات، وهو في سن الحولين تحرم عليه، ويحرم عليه أمهاتها، وبناتها، وأخواتها، وكذا بنات زوجها، وأمهاته139.
لأن الله أنزل المرضعة منزلة النسب، حتى سمى المرضعة أما، والمرضعة أختًا، وأمرها على قياس النسب، باعتبار المرضعة والدة الطفل الذي در عليه اللبن140.
وقد قال بعض الفقهاء: كما يحرم بالنسب يحرم بالرضاع إلا في أربع صور، أو ست صور، مذكورة في كتب الفروع، والتحقيق أنه لا يستثنى شيء من ذلك؛ لأنه يوجد مثل بعضها في النسب، وبعضها إنما يحرم من جهة الصهر، فلا يرد على الحديث شيء أصلًا ألبتة.
ومما يلحق بهذه المسالة لبن الفحل، وهو أن يتزوج المرأة فتلد منه ولدًا، ويدر لها لبنًا بعد ولادتها منه، فترضع منه صبيًا، فأكثر العلماء على أن لبن هذا الفحل يحرم هذا الصبي على أولاد الرجل، وإن كانوا من غيرها، ومن لا يعتبر لا يوجب تحريمًا بينه وبين أولاده من غيرها. قال ابن كثير: واختلفوا؛ هل يحرم لبن الفحل كما هو قول جمهور الأئمة الأربعة وغيرهم أو إنما يختص الرضاع بالأم فقط ولا ينتشر إلى ناحية الأب كما هو لبعض السلف؟ على قولين، تحرير هذا كله في كتاب الأحكام الكبير141.
رابعًا: النكاح المحرم بسبب المصاهرة:
ثم ذكر الله تعالى بعد ذلك ما يحرم بالمصاهرة، فقال: (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) [النساء: ٢٣].
فهؤلاء المذكورات إلى قوله: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ) هن المحرمات بسبب الصهر، ولم يكونوا أهل الجاهلية يحرمون شيئًا منها، كيف وقد أباحوا أزواج الآباء، وهن أعظم حرمة من جميع نساء الصهر، فكيف يظن أنهم يحرمون أمهات النساء والربائب؟!
وقد أشيع أن النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يتزوج درة بنت أبي سلمة وهي ربيبته؛ إذ هي بنت أم سلمة، فسألته إحدى أمهات المؤمنين، فقال: (لو لم تكن ربيبتي لما حلت لي إنها ابنة أخي من الرضاعة؛ أرضعتني وأبا سلمة ثويبة)142 وكذلك حلائل الأبناء؛ إذ هن أبعد من حلائل الآباء، فكأن هذا من تحريم الإسلام، وأن ما حكى ابن عطية عن ابن عباس من قوله: «كان أهل الجاهلية يحرمون ما يحرم الإسلام إلا امرأة الأب، والجمع بين الأختين»143 ليس على إطلاقه.
والحكمة من تحريم هؤلاء تسهيل الخلطة، وقطع الغيرة بين قريب القرابة، حتى لا تفضي إلى حزازات وعداوات، قال الفخر: «من تزوج بامرأة، فلو لم يدخل على المرأة أب الرجل وابنه، ولم تدخل على الرجل أم المرأة وبنتها لبقيت المرأة كالمحبوسة في البيت، ولتعطل على الزوج والزوجة أكثر المصالح، ولو أذنا في هذا الدخول ولم نحكم بالمحرمية فربما امتد عين البعض إلى البعض، وحصل الميل والرغبة، وعند حصول التزوج بأمها أو ابنتها تحصل النفرة الشديدة بينهن؛ لأن صدور الإيذاء عن الأقارب أقوى وقعًا وأشد إيلامًا وتأثيرًا، وعند حصول النفرة الشديدة يحصل التطليق والفراق، أما إذا حصلت المحرمية انقطعت الأطماع، وانحبست الشهوة، فلا يحصل ذلك الضرر، فبقي النكاح بين الزوجين سليمًا عن هذه المفسدة».144 وعليه فيكون تحريم هؤلاء من قسم الحاجي.
وقوله: :ﮔ ﮕ) أي: سواء دخلتم بنسائكم أم لم تدخلوا بهن، فأم امرأة الرجل محرمة عليه بمجرد أن يعقد على بنتها تصبح أمها حرامًا. ولهذا قال الفقهاء قاعدة ذهبية، وهي: العقد على البنات يحرم الأمهات، والدخول بالأمهات يحرم البنات.
وسبب التفرقة أن الإنسان يحب ابنه أو بنته كنفسه بعكس حب الأصل، فلا تتألم الأم لو عقد على بنتها بعد العقد عليها145.
والقيد في قوله: (ﮜ ﮝ ﮞ) معتبر إجماعًا، فلو عقد على المرأة ولم يدخل بها فله طلاقها، ويأخذ ابنتها؛ ولذلك قال: (ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) أن تنكحوهن.
وممن يحرم على الرجل بسبب المصاهرة الربيبة.
قال تعالى: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) والربائب: جمع ربيبة، وهي فعيلة بمعنى: مفعولة، من ربه إذا كفله ودبر شئونه، فزوج الأم راب، وابنتها مربوبة له؛ لذلك قيل لها: ربيبة.
والحجور: جمع حجر -بفتح الحاء وكسرها مع سكون الجيم-، وهو ما يحويه مجتمع الرجلين للجالس المتربع، والمراد به هنا معنى مجازي، وهو الحضانة والكفالة؛ لأن أول كفالة الطفل تكون بوضعه في الحجر، كما سميت حضانة؛ لأن أولها وضع الطفل في الحضن146.
وظاهر الآية أن الربيبة لا تحرم على زوج أمها إلا إذا كانت في كفالته؛ لأن قوله: (ﮗ ﮘ ﮙ) وصف والأصل فيه إرادة التقييد، كما أريد من قوله: (ﮎ ﮏ ﮐ) فظاهر هذا أنها لو كانت بعيدة عن حضانته لم تحرم، إلا أن هذا الظاهر غير مراد، والقيد لا مفهوم له؛ لأنه جرى مجرى الغالب، فهي محرمة كانت في حجره أم لا، على قول الجمهور.
والذين أخذوا بظاهر الآية كالظاهرية كأنهم نظروا إلى أن علة تحريمها مركبة من كونها ربيبة، وما حدث من الوقار بينها وبين حاجزها إذا كانت في حجره.
وأما جمهور أهل العلم فجعلوا هذا الوصف بيانًا للواقع، خارجًا مخرج الغالب، وجعلوا الربيبة حرامًا على زوج أمها، ولو لم تكن هي في حجره، وكأن الذي دعاهم إلى ذلك هو النظر إلى علة تحريم المحرمات بالصهر147.
وممن يحرم على الرجل بسبب المصاهرة حليلة الابن.
قال تعالى: (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) وهي التي عقد عليها الابن فحلت له، فتحرم على الأب بمجرد العقد، والحاصل: أن زوجة الأب وزوجة الابن وأم الزوجة يحرمن بالعقد، وأما بنت المرأة فلا تحرم إلا بالدخول بأمها، فالعقد على البنات يحرم الأمهات، والدخول بالأمهات يحرم البنات كما سبق ذكره.
والعدول عن أن يقال: (وما نكح أبناؤكم) أو (ونساء أبنائكم) إلى قوله: (ﮧ ﮨ) تفنن لتجنب تكرير أحد اللفظيين السابقين، وإلا فلا فرق في الإطلاق بين الألفاظ الثلاثة، وقد سمي الزوج أيضًا بالحليل، وهو يحتمل الوجهين كذلك، وتحريم حليلة الابن واضح العلة كتحريم حليلة الأب148.
والقيد في قوله تعالى: (ﮩ ﮪ ﮫ) [النساء: ٢٣].
احترز به من زوجة المتبني فلا تحرم حليلته، كقضية زيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم 149. فيكون قوله: (ﮩ ﮪ ﮫ) تأكيد لمعنى الأبناء لدفع احتمال المجاز؛ إذ كانت العرب تسمي المتبني ابنًا، وتجعل له ما للابن حتى أبطل الإسلام ذلك، وقال تعالى: (ﮗ ﮘ) [الأحزاب: ٥].
فما دعي أحد لمتبنيه بعد إلا المقداد بن الأسود وعدت خصوصية، وأكد الله ذلك بالتشريع الفعلي بالإذن لرسوله صلى الله عليه وسلم بتزوج زينب ابنة جحش بعد أن طلقها زيد بن حارثة الذي كان تبناه، وكان يدعى زيد بن محمد. وابن الابن وابن البنت وإن سفلا أبناء من الأصلاب؛ لأن للجد عليهم ولادة لا محالة150.
وحرم الله كذلك الجمع في وقت واحد بين الأختين بنسب أو رضاع؛ لقوله: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [النساء: ٢٣].
سواء كن شقيقتين، أو للأب، أو للأم.
والحكمة في تحريم الجمع بين الأختين دفع الغيرة عمن يريد الشرع بقاء تمام المودة بينهما، وقد علم أن المراد الجمع بينهما فيما فيه غيرة، وهو النكاح أصالة، ويلحق به الجمع بينهما في التسري بملك اليمين؛ إذ العلة واحدة. فإن تسرى بإحدى الأختين ثم أراد التسري بالأخرى وقف حتى يحرم الأولى بما تحرم به من بيع أو كتابة أو عتق، ولا يحد إذا جمع بينهما151.
وقالت الظاهرية: يجوز الجمع بين الأختين في التسري؛ لأن الآية واردة في أحكام النكاح، أما الجمع بين الأختين في مجرد الملك فلا حظر فيه152.
فيكون هذا الحكم عندهم في النكاح، وأما في الملك دون الوطء فلا بأس. وروي عن عثمان بن عفان: أنه سئل عن الجمع بين الأختين في التسري، فقال: «أحلتهما آية» يعني: قوله تعالى: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [النساء: ٢٤].
«وحرمتهما آية»، يعني: هذه الآية، أي: إنه متوقف، وروي مثله عن علي (ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ) رضي الله عنه.
وكما حرم الجمع بين الأختين كذلك حرم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، كما جاء في السنة153. وقوله: (ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ) أي: في الجاهلية، فقد عفا عنكم. انتهى ذكر أنواع المحرمات من النساء في هذه الآية.
واعلم أن الله تعالى وضع هذا التحريم على ترتيب عجيب، فحرم أولًا أصول الإنسان عليه وفصوله، وفصول أصوله الأولى بلا نهاية، وحرم فصول فصوله بلا نهاية، وحرم أول فصول كل أصل ليس قبله أصل إلى غير نهاية، وهو أولاد الإخوة والأخوات، وحرم أول فصل من كل أصل قبله أصل آخر بينه وبين الناكح، وهو أولاد الجد وأبو الجد، فإن التحريم مقصور، وابنة الخال، على أول فصل، فابنة العم، وابنة العمة، وابنة الخالة حلال، ثم قال: (ﮎ ﮏ ﮐ) [النساء: ٢٣].
فحرم من الرضاع ما حرم من النسب، غير أن في الرضاع لم يذكر بنات الأخ والعمات والخالات من الرضاعة، ودل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)154155.
خامسًا: نكاح الزاني أو الزانية:
أخبر الله تعالى في كتابه الكريم أن الزاني لا يطأ إلا زانية أو مشركة، أي: لا يطاوعه على مراده من الزنا إلا زانية عاصية أو مشركة، لا ترى حرمة ذلك، وكذلك: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ) [النور: ٣].
أي: عاصٍ بزناه، (ﮄ ﮅ) لا يعتقد تحريمه، فقال: (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) [النــور: ٣].
وسبب نزول هذه الآية ما رواه أبو داود والترمذي وصححه: (أنه كان رجل يقال له: مرثد بن أبي مرثد الغنوي من المسلمين، كان يخرج من المدينة إلى مكة يحمل الأسرى، فيأتي بهم إلى المدينة، وكانت امرأة بغي بمكة، يقال لها: عناق، وكانت خليلة له، وأنه كان وعد رجلًا من أسارى مكة ليحمله، قال: فجئت حتى انتهيت إلى حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة، قال: فجاءت عناق، فقالت: مرثد! قلت: مرثد، قالت: مرحبًا وأهلًا، هلم فبت عندنا الليلة، قال: فقلت: حرم الله الزنا، فقالت عناق: يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم، فتبعني ثمانية من المشركين، إلى أن قال: ثم رجعوا ورجعت إلى صاحبي فحملته، ففككت كبله، حتى قدمت المدينة، فأتيت رسول الله، فقلت: يا رسول الله أنكح عناق؟ فأمسك رسول الله، فلم يرد علي شيئًا حتى نزلت: (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) [النور: ٣]. فقال رسول الله: (يا مرثد لا تنكحها)156.
وقوله في الآية: (ﭸ) يقال: زاني بصيغة المفاعلة؛ لأن الفعل حاصل من فاعلين؛ ولذلك جاء مصدره الزناء بالمد أيضًا بوزن الفعال، ويخفف همزه فيصير اسمًا مقصورًا، وأكثر ما كان في الجاهلية أن يكون بداعي المحبة والموافقة بين الرجل والمرأة دون عوض، فإن كان بعوض فهو البغاء يكون في الحرائر ويغلب في الإماء، وكانوا يجهرون به، فكانت البغايا يجعلن رايات على بيوتهن مثل راية البيطار؛ ليعرفن بذلك، وكل ذلك يشمله اسم الزنا في اصطلاح القرآن، وفي الحكم الشرعي157.
وهل المراد بالنكاح في قوله: (ﭹ ﭺ) الوطء أو التزويج؟ الظاهر أن معنى (ينكح) هنا في الآية بمعنى: الوطء الذي هو الفعل لا العقد. ومع هذا قد نرى أن الزاني قد ينكح المؤمنة العفيفة، والزانية قد ينكحها المؤمن العفيف158.
وعليه فالمراد بالآية -والله أعلم-: أن الزاني لا يطاوعه على فعله ويشاركه في مراده إلا زانية مثله، أو مشركة لا ترى حرمة الزنا، فيكون المقصود منها تشنيع الزنا، وتشنيع أهله، وأنه محرم على المؤمنين، ويكون معنى (ﭸ ﭹ ﭺ): الوطء لا العقد أي: الزاني لا يزني إلا بزانية، والزانية لا تزني إلا بزانٍ، وزاد ذكر المشركة والمشرك؛ لكون الشرك أعم في المعاصي من الزنا.
وهذا الذي عليه الجمهور، وهو رأي الحافظ ابن كثير159 وغيره من العلماء رحمهم الله تعالى؛ إذ الغالب أن المائل إلى الزنا لا يرغب في نكاح الصوالح، والمسافحة لا يرغب فيها الصلحاء، فإن المشاكلة علة للألفة والتضام، والمخالفة سبب للنفرة والافتراق، وكان من حق المقابلة أن يقال: والزانية لا تنكح إلا من هو زانٍ أو مشرك، لكن المراد بيان أحوال الرجال في الرغبة فيهن؛ لأن الآية نزلت في ضعفة المهاجرين لما هموا أن يتزوجوا بغايا يكرين أنفسهن؛ لينفقن عليهم من أكسابهن على عادة الجاهلية؛ ولذلك قدم الزاني.
وقال: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ)؛ لأنه تشبه بالفساق، وتعرض للتهمة، وتسبب لسوء القالة، والطعن في النسب، وغير ذلك من المفاسد؛ ولذلك عبر عن التنزيه بالتحريم مبالغة160.
ورد هذا الزجاج وقال: لا يعرف النكاح في كتاب الله إلا بمعنى: العقد، ويرد عليه: بأن النكاح بمعنى: الوطء ثابت في كتاب الله سبحانه أيضًا، ومنه قوله: (ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ) [البقرة: ٢٣٠].
فقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم بأن المراد به: الوطء161.
ووافق الزجاج شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى حيث ذهب إلى أن النكاح هنا في هذه الآية المراد به: الزواج، وعلل ذلك بقوله: إن قول القائل: الزاني لا يطأ إلا زانية، أو الزانية لا يطؤها إلا زان، كقوله: الآكل لا يأكل إلا مأكولًا، والمأكول لا يأكله إلا آكل، والزوج لا يتزوج إلا بزوجة، والزوجة لا يتزوجها إلا زوج، وهذا كلام ينزه عنه كلام الله162.
ومما يدل على أن النكاح في هذه الآية بمعنى: الوطء أمور، منها:
الأول: أن القرآن جاء فيه النكاح بمعنى: الوطء، وذلك في قوله تعالى: (ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ) [البقرة: ٢٣٠].
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر قوله: (ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ) بأن معنى نكاحها له: مجامعته لها، حيث قال: (لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك)164 ومراده بذوق العسيلة: الجماع كما هو معلوم.
الوجه الثاني: أن العرب الذين نزل القرآن بلغتهم يطلقون النكاح على الوطء، قال الجوهري في صحاحه: النكاح الوطء، وقد يكون العقد165.
وأما قول ابن القيم: «إن حمل الزنا في الآية على الوطء ينبغي أن يصان عن مثله كتاب الله»166. فيرده أن ابن عباس وهو في المعرفة باللغة العربية، وبمعاني القرآن صح عنه حمل الزنا في الآية على الوطء، ولو كان ذلك ينبغي أن يصان عن مثله كتاب الله لصانه عنه ابن عباس، ولم يقل به، ولم يخف عليه أنه ينبغي أن يصان عن مثله167.
قال الشنقيطي بعد الكلام على هذه الآية: «وهذه الآية الكريمة من أصعب الآيات تحقيقًا؛ لأن حمل النكاح فيها على التزويج لا يلائم ذكر المشركة والمشرك، وحمل النكاح فيها على الوطء لا يلائم الأحاديث الواردة المتعلقة بالآية، فإنها تعين أن المراد بالنكاح في الآية: التزويج، ولا أعلم مخرجًا واضحًا من الإشكال في هذه الآية إلا مع بعض تعسف، وهو أن أصح الأقوال عند الأصوليين كما حرره أبو العباس بن تيمية في رسالته في علوم القرآن، وعزاه لأجلاء علماء المذاهب الأربعة هو جواز حمل المشترك على معنييه أو معانيه، فيجوز أن تقول: عدا اللصوص البارحة على عين زيد، وتعني بذلك أنهم عوروا عينه الباصرة، وغوروا عينه الجارية، وسرقوا عينه التي هي ذهبه أو فضته.
وإذا علمت ذلك، فاعلم أن النكاح مشترك بين الوطء والتزويج، خلافًا لمن زعم أنه حقيقة في أحدهما، مجاز في الآخر وإذا جاز حمل المشترك على معنييه فيحمل النكاح في الآية على الوطء، وعلى التزويج معًا، ويكون ذكر المشركة والمشرك على تفسير النكاح بالوطء دون العقد، وهذا هو نوع التعسف الذي أشرنا له، والعلم عند الله تعالى »168.
سادسًا: نكاح المشرك والمشركة:
كان المسلمون ما يزالون مختلطين مع المشركين بالمدينة، وما هم ببعيد عن أقربائهم من أهل مكة، فربما رغب بعضهم في تزوج المشركات، أو رغب بعض المشركين في تزوج نساء مسلمات، فبين الله الحكم في هذه الأحوال، وقد أوقع هذا البيان بحكمته في أرشق موقع وأسعده به، وهو موقع تعقيب حكم مخالطة اليتامى، فإن للمسلمين يومئذٍ أقارب وموالي لم يزالوا مشركين، ومنهم يتامى فقدوا آباءهم في يوم بدر وما بعده، فلما ذكر الله بيان مخالطة اليتامى، وكانت المصاهرة من أعظم أحوال المخالطة تطلعت النفوس إلى حكم هذه المصاهرة بالنسبة للمشركات والمشركين، فعطف حكم ذلك على حكم اليتامى لهذه المناسبة169.
فقال تعالى: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) [البقرة: ٢٢١].
وسبب نزول هذه الآية قصة أبي مرثد الغنوي السابقة الذكر170.
ففي هذه الآية حرم الله عز وجل على المؤمنين أن يتزوجوا المشركات من عبدة الأوثان، ثم إن كان عمومهًا مرادًا وأنه يدخل فيها كل مشركة من كتابية ووثنية فقد خص من ذلك نساء أهل الكتاب بقوله: (ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [المائدة: ٥].
وقيل: بل المراد بذلك المشركون من عبدة الأوثان، ولم يرد أهل الكتاب بالكلية، والمعنى قريب من الأول171.
ومعنى قوله: (ﭲ ﭳ ﭴ) لا تتزوجوا المشركات، وقرئ بضم التاء، أي: لا تتزوجوهن، أو لا تزوجوهن172.
والمراد بالنكاح: التزويج، وهو حقيقة في اللغة، وإن كان مجازًا في الوطء173.
واستعير للجماع بدلالة أن عامة أسماء الجماع كنايات، وأنهم يتحاشون النكاح من التصريح بذكر الجماع وآلاته، كما يتحاشون من إظهاره حتى سموا ذلك العضو: (السوءة).
و(ﭴ) جمع مشركة؛ والمشركة أو المشرك هو من جعل لله شريكًا فيما يختص به، سواء كان ذلك في الربوبية، أو في الألوهية، أو في الأسماء والصفات؛ فمن اتخذ إلهًا يعبده فهو مشرك -ولو آمن بأن الله خالق للكون-؛ ومن اعتقد أن مع الله خالقًا للكون، أو منفردًا بشيء في الكون، أو معينًا لله تعالى في خلق شيء من الكون فهو مشرك174.
فالمشرك في لسان الشرع من يدين بتعدد آلهة مع الله سبحانه، والمراد به في مواضعه من القرآن مشركو العرب الذين عبدوا آلهة أخرى مع الله تعالى، ويقابلهم في تقسيم الكفار أهل الكتاب، وهم الذين آمنوا بالله ورسله وكتبه، ولكنهم أنكروا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم 175.
فإن قال قائل: من أين يقال لمن كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم مشرك وإن قال: إن الله عز وجل واحد؟ فالجواب: أنه إذا كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم فقد زعم أن ما أتى به من القرآن من عند غير الله جل وعلا والقرآن إنما هو من عند الله عز وجل؛ لأنه يعجز المخلوقين أن يأتوا بمثله، فقد زعم أنه قد أتى غير الله بما لا يأتي به إلا الله عز وجل فقد أشرك به غيره176.
وإن قال قائل: فكيف نجمع بين قوله هنا: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) [البقرة: ٢٢١].
وبين قوله في الآية الأخرى: (ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [المائدة: ٥]؟
فالجواب: أن الآيتين لا تعارض بينهما، فإن ظاهر لفظ الشرك لا يتناول أهل الكتاب؛ لقوله تعالى: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ) [البقرة: ١٠٥].
ففرق بينهم في اللفظ، وظاهر العطف يقتضي مغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، و أيضًا فاسم الشرك عموم وليس بنص.
فالشرك المطلق في القرآن لا يدخل فيه أهل الكتاب؛ وإنما يدخلون في الشرك المقيد.
قال تعالى: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [البينة: ١].
فجعل المشركين قسمًا غير أهل الكتاب، وقال تعالى: (ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ) [الحج: ١٧].
فجعلهم قسمًا غيرهم.
فأما دخولهم في المقيد، ففي قوله تعالى: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [التوبة: ٣١].
فوصفهم بأنهم مشركون.
وسبب هذا أن أصل دينهم الذي أنزل الله به الكتب، وأرسل به الرسل ليس فيه شرك؛ كما قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [الأنبياء: ٢٥].
ولكنهم بدلوا وغيروا، فابتدعوا من الشرك ما لم ينزل الله به سلطانًا، فصار فيهم شرك باعتبار ما ابتدعوا؛ لا باعتبار أصل الدين.
فيكون في قوله: (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ) تحريم لتزويج المسلمة من المشرك، فإن كان المشرك محمولًا على ظاهره في لسان الشرع، فالآية لم تتعرض لحكم تزويج المسلمة من الكافر الكتابي، فيكون دليل تحريم ذلك الإجماع، وهو إما مستند إلى دليل تلقاه الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم وتواتر بينهم، وإما مستند إلى تضافر الأدلة الشرعية، كقوله تعالى: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) [الممتحنة: ١٠].
فعلق النهي بالكفر، وهو أعم من الشرك، وإن كان المراد حينئذٍ المشركين177.
وقوله: (ﭵ ﭶ) غاية للنهي، فإذا آمن زال النهي؛ ولذلك إذا أسلم المشرك ولم تسلم زوجته تبين منه، إلا إذا أسلمت عقب إسلامه بدون تأخير178.
والمعنى: أي: يدخلن في دين الله؛ ودخولهن في دين الله يلزم منه التوحيد.
فالحاصل أن التزويج بين الكفار والمسلمين ممنوع في جميع الصور إلا صورة واحدة، وهي تزوج الرجل المسلم بالمرأة المحصنة الكتابية، والنصوص الدالة على ذلك قرآنية كما رأيت.
والحكمة من تحريم نكاح كل كافرة تحقيق أمرين:
الأمر الأول: المفاصلة بين عباد الله المؤمنين، وأعدائهم الكافرين، في تكوين نواة الأمة، وهي الأسرة؛ لأن النواة الفاسدة تثمر نباتًا فاسدًا.
الأمر الثاني: تأكيد الولاء بين المسلمين، وتقويته في أساس الأمة، وهي الأسرة.
ولا يشكل على هذا جواز نكاح الكتابيات؛ لأنه لا ضرر على المسلم في نكاح الكتابية، فجانب الضرر على عقيدة المسلم مأمون، مع ما فيه من مصلحة للطرف الآخر، وذلك أن يبعد الكتابيات عن ملة الكفر، ويمنعهن من إظهار الكفر في بيوت أزواجهن، ويفرض عليهن إسلام الأبناء والبنات من الأزواج المسلمين، مع ما أوجبه الله على الأزواج المسلمين من إحسان عشرتهن، ومعاملتهن بالمعروف، فيكون هذا وسيلة لاستدراجهن وأقربائهن إلى الإسلام.
ومن الحكم أيضًا في تخصيص حل نكاح نساء أهل الكتاب دون غيرهم من الكفار إيجاد أرضية مشتركة ببيننا وبينهم من الإيمان بالله وبرسله وكتبه على وجه الإجمال، فكان هذا عاملًا محفزًا لدعوتهم؛ ليبين لهم الهدى فيما ضلوا فيه.
ومع هذا فمنهم من فرق بين الزواج من الكتابية في دار الإسلام ودار الحرب، فأجازه في الأول، ولم يجزه في الثاني؛ لأن الزوجة الكتابية في بلاد الحرب تكون أكثر تمسكًا بدينها، وأخلاقها وعاداتها، وأقل ميلًا إلى دين زوجها، وأخلاقه، بل إنه ليخشى على زوجها المسلم أن يتأثر بمحيط الكفر الذي يعيش فيه، ويخشى أكثر على ذريته من التدين بدين أمهم التي تربيهم عليه.
فقد ذكر القرطبي رحمه الله: أن ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن نكاح أهل الكتاب إذا كانوا حربًا؟ فقال: «لا يحل، وتلا قوله تعالى: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ) [التوبة: ٢٩].
قال المتحدث: حدثت بذلك إبراهيم النخعي فأعجبه -يعني: أن إبراهيم يقول بالتحريم-، وكره مالك تزوج الحربيات، لعلة ترك الولد في دار الحرب؛ ولتصرفها في الخمر والخنزير»179.
فإن قيل: فقد قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) [المجادلة: ٢٢].
والنكاح يجلب المودة؛ لقوله: (ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ) [الروم: ٢١].
وقد نهانا عن مودتهم، فيجب ألا نواصلهم؟!
والجواب: قيل: المودة المنهي عنها هي الدينية لا المودة النفعية أو الشهوية، فإنا إذا أوددناهم لنفع ما، فإنما نود النفع كمودتنا لذمي يعيننا على مدافعة المشركين، فقوله: (ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) عنى بها المودة الدينية180.
وقد أشارت الآية إلى وجه الحكمة في تحريم زواج المسلمة من الكافر حتى يسلم؛ لأن في إنكاح المؤمنة الكافر خوف وقوع المؤمنة في الكفر؛ لأن الزوج يدعوها إلى دينه، والنساء في العادات يتبعن الرجال فيما يؤثرون من الأفعال، ويقلدونهم في الدين، وإليه وقعت الإشارة في آخر الآية بقوله عز وجل: (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) لأنهم يدعون المؤمنات إلى الكفر، والدعاء إلى الكفر دعاء إلى النار؛ لأن الكفر يوجب النار، فكان نكاح الكافر المسلمة سببًا داعيًا إلى الحرام، فكان حرامًا.
وحرمة زواج المسلمة بغير المسلم -من كتابي أو مشرك- مبنية على أن الزوج له القوامة على المرأة، والتوجيه للحياة الأسرية، وأن أولاده منها ينسبون إليه، وينشئون على دينه، ويتبعونه في الأحكام قبل سن التكليف، وهذا إجحاف بالزوجة، والذرية، بخلاف زواج المسلم من كتابية؛ فالإسلام يضمن لها حرية البقاء على دينها، لكن أولاده منها يحكم لهم بالإسلام.
كما أن الكتابية حين تقترن بمسلم تقترن بزوج يؤمن بنبيها، وسائر أنبياء الله، ولا يفرق بين أحد منهم، في حين أن الكتابي من يهودي أو نصراني لا يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأنه خاتم الأنبياء، فكيف يسوغ أن يجمعه عقد واحد، ويظله سقف واحد مع مسلمة؟!
وقوله: (ﭸ ﭹ) أي: امرأة مؤمنة حرة؛ لأن سبب نزولها العيب على من تزوج أمة، وترغيبه في نكاح حرة مشركة (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ) هذه الجملة تعليل للنهي عن نكاح المشركات، مؤكدة بلام الابتداء؛ وقوله تعالى: (ﭺ ﭻ ﭼ) أطلق الخيرية؛ ليعم كل ما كان مطلوبًا في المرأة.
ووقع في الكشاف: حمل الأمة على مطلق المرأة؛ لأن الناس كلهم إماء الله وعبيده181، وهذا باطل من جهة المعنى، ومن جهة اللفظ، أما المعنى: فلأنه يصير تكرارًا مع قوله: (ﭲ ﭳ ﭴ)؛ إذ قد علم الناس أن المشركة دون المؤمنة، وبقيت المقصود من التنبيه على شرف أقل أفراد أحد الصنفين على أشرف أفراد الصنف الآخر.
وأما من جهة اللفظ: فلأنه لم يرد في كلام العرب إطلاق الأمة على مطلق المرأة، ولا إطلاق العبد على الرجل إلا مقيدين بالإضافة إلى اسم الجلالة في قولهم: يا عبد الله، ويا أمة الله، وكون الناس إماء الله وعبيده إنما هو نظر للحقائق، لا للاستعمال، فكيف يخرج القرآن عليه182.
وجملة: (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) تعليل لما سبق؛ والمشار إليه فيها أهل الشرك، أي: يدعون الناس إلى النار بأقوالهم وأفعالهم وأموالهم؛ حتى إنهم يبنون المدارس والمستشفيات، ويلاطفون الناس في معاملتهم خداعًا ومكرًا؛ ولكن قد بين الله نتيجة عملهم في قوله تعالى: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ) [الأنفال: ٣٦].
وقيل: معناه يدعون إلى ترك المحاربة والقتال، وفي تركهما وجوب استحقاق النار.
وقيل: المعنى أن الولد الذي يحدث ربما دعاه الكافر إلى الكفر فيوافق، فيكون من أهل النار، والذي يدل عليه ظاهر الآية: أن الكفار يدعون إلى النار قطعًا، إما بالقول، وإما أن تؤدي إليه الخلطة والتآلف والتناكح، والمعنى: أن من كان داعيًا إلى النار يجب اجتنابه لئلا يستميل بدعائه معاشره فيجيبه إلى ما دعاه فيهلك.
وفي هذه الآية تنبيه على العلة المانعة من المناكحة في الكفار، لما هم عليه من الالتباس بالمحرمات من: الخمر والخنزير، والانغماس في القاذورات، وتربية النسل، وسرقة الطباع من طباعهم، وغير ذلك مما لا تعادل فيه شهوة النكاح في بعض ما هم عليه، وإذا نظر إلى هذه العلة فهي موجودة في كل كافر وكافرة، فتقتضي المنع من المناكحة مطلقًا183.
وفي الآية دلالة من باب أولى على النهي عن مخالطة كل مشرك ومبتدع؛ لأنه إذا لم يجز التزوج مع أن فيه مصالح كثيرة، فالخلطة المجردة من باب أولى، وخصوصًا الخلطة التي فيها ارتفاع المشرك ونحوه على المسلم، كالخدمة ونحوه184.
وقوله: (ﭽ ﭾ) أي: سرتكم، ونالت إعجابكم في جمالها، وخلقها ومالها وحسبها، وغير ذلك من دواعي الإعجاب. وفيه تنبيه على دناءة المشركات، وتحذير من تزوجهن، ومن الاغترار بما يكون للمشركة من حسب أو جمال أو مال.
وضمير: (ﭽ ﭾ) يعود إلى المشركة، (ﭽ) وصلية للتنبيه على أقصى الأحوال التي هي مظنة تفضيل المشركة، فالأمة المؤمنة أفضل منها حتى في تلك الحالة185. فإن قيل: كيف جاءت الآية بلفظ: (ﭺ ﭻ ﭼ) مع أن المشركة لا خير فيها؟ فالجواب من وجهين:
الأول: أنه قد يرد اسم التفضيل بين شيئين، ويراد به التفضيل المطلق، أي: مجرد الوصف -وإن لم يكن في جانب المفضل عليه شيء منه-، كما قال تعالى: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [الفرقان: ٢٤].
الثاني: أن المشركة قد يكون فيها خير حسي من جمال ونحوه؛ ولذلك قال تعالى: (ﭽ ﭾ) فبين سبحانه وتعالى أن ما قد يعتقده ناكح المشركة من خير فيها، فإن نكاح المؤمنة خير منه186.
والمقصود أن من لم يستطع تزوج حرة مؤمنة فليتزوج أمة مؤمنة خير له من أن يتزوج حرة مشركة، فالأمة هنا هي المملوكة، والمشركة الحرة بقرينة المقابلة بقوله: (ﭸ ﭹ) فالكلام وارد مورد التناهي في تفضيل أقل أفراد هذا الصنف على أتم أفراد الصنف الآخر، فإذا كانت الأمة المؤمنة خيرًا من كل مشركة، فالحرة المؤمنة خير من المشركة بدلالة فحوى الخطاب التي يقتضيها السياق؛ ولظهور أنه لا معنى لتفضيل الأمة المؤمنة على الأمة المشركة، فإنه حاصلٌ بدلالة فحوى الخطاب لا يشك فيه المخاطبون المؤمنون؛ ولقوله: (ﭽ ﭾ) فإن الإعجاب بالحرائر دون الإماء.
رغب القرآن الكريم في صور من النكاح نوضحها فيما يأتي:
أولًا: نكاح العفيفات المؤمنات:
حث الإسلام على الزواج من الحرة المؤمنة في حالة الطول، أي: القدرة على نكاح الحرة.
قال تعالى: (ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﯻ) [النساء: ٢٥].
وذلك أن الحرة تحصنها الحرية؛ وتعلمها كيف تحفظ عرضها، وكيف تصون حرمة زوجها، فهن محصنات هنا لا بمعنى متزوجات؛ ولكن بمعنى حرائر، محصنات بالحرية وما تسبغه على الضمير من كرامة، وما توفره للحياة من ضمانات.
فالحرة ذات أسرة وبيت وسمعة ولها من يكفيها، وهي تخشى العار، وفي نفسها أنفة وفي ضميرها عزة، فهي تأبى السفاح والانحدار، ولا شيء من هذا كله لغير الحرة187.
وحذر من التزوج من الإيماء، وفي التحذير من نكاح الإيماء وجوهٌ، منها:
فلهذه الاعتبارات كلها آثر الإسلام للمسلمين الأحرار ألا يتزوجوا من غير الحرائر، إذا هم استطاعوا الزواج من الحرائر، وجعل الزواج من غير الحرة رخصة في حالة عدم الطول، مع المشقة في الانتظار189.
فقال الله تعالى في هذه الآية: (ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ) (ﮂ) هنا شرطية، وهو الظاهر، ويجوز أن تكون موصولة190.
والطول: الغنى والسعة، ويطلق على العلو، مصدر طال طولًا، وهو مفعول (ﮄ) أو مصدر له؛ لتقارب معناهما، و (ﮇ ﮈ) بدل منه على الأول، أو مفعول به على الثاني، أي: لأن ينكح191.
والطول يستلزم المقدرة على المناولة؛ فلذلك يقولون: تطاول لكذا أي: تمطى ليأخذه، ثم قالوا: تطاول بمعنى: تكلف المقدرة (وأين الثريا من يد المتطاول) فجعلوا لطال الحقيقي مصدرًا (بضم الطاء) وجعلوا لطال المجازي مصدرًا (بفتح الطاء) وهو مما فرقت فيه العرب بين المعنيين المشتركين192.
فدل قوله: (ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ) على أن الحرائر كانت مهورهن أعلى من مهور الإماء، فيأخذ منه من طرف خفي مشروعية مهر المثل، فللحرائر سنة في الصداق، وللإماء سنة في الصداق، أي: قدر معين، وهذا القدر ليس بثابت، بل هو يختلف من مكان إلى مكان، ومن زمان إلى زمان.
ودلت الآية على أنه لا يجوز للحر نكاح الأمة إلا بشرطين؛ وهما:
ومع هذا فالصبر عن نكاحهن أفضل لما فيه من تعريض الأولاد للرق، ولما فيه من الدناءة والعيب، وهذا إذا أمكن الصبر، فإن لم يمكن الصبر عن المحرم إلا بنكاحهن وجب ذلك؛ ولهذا قال: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ) .
وقوله: (ﮉ ﮊ) المراد بالمحصنات: الحرائر، بدليل مقابلتهن بالمملوكات، فإن حريتهن أحصنتهن عن ذل الرق والابتذال وغيرهما من صفات القصور والنقصان194.
وقد وصف المحصنات هنا بالمؤمنات جريًا على الغالب، ومعظم علماء الإسلام على أن هذا الوصف خرج للغالب، ولعل الذي حملهم على ذلك أن استطاعة نكاح الحرائر الكتابيات طول إذ لم تكن إباحة نكاحهن مشروطة بالعجز عن الحرائر المسلمات، وكان نكاح الإماء المسلمات مشروطًا بالعجز عن الحرائر المسلمات، فحصل من ذلك أن يكون مشروطًا بالعجز عن الكتابيات أيضًا بقاعدة المساواة.
وعلة ذلك أن نكاح الأمة يعرض الأولاد للرق، فلذلك ألغوا الوصف هنا، وأعملوه في قوله: (ﮏ ﮐ ﮑ) وشذ البعض فاعتبروا رخصة نكاح الأمة المسلمة مشروطة بالعجز عن الحرة المسلمة، ولو مع القدرة على نكاح الكتابية، وكأن فائدة ذكر وصف المؤمنات هنا أن الشارع لم يكترث عند التشريع بذكر غير الغالب المعتبر عنده، فصار المؤمنات هنا كاللقب في نحو: (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)195196.
والمعنى: ومن لم يجد طول حرة أي: ما يتزوج به الحرة المسلمة (ﮋﮌ ﮍ ﮎ) فلينكح امرأة، أو أمة من النوع الذي ملكته أيمانكم (ﮏ ﮐ ﮑ) حال من الضمير المقدر في ملكت الراجع إلى (ما) أي: من إمائكم المسلمات197.
وظاهر هذه الآية الكريمة أن الأمة لا يجوز نكاحها ولو عند الضرورة إلا إذا كانت مؤمنة، بدليل قوله: (ﮐ ﮑ) فمفهوم مخالفته أن غير المؤمنات من الإماء لا يجوز نكاحهن على كل حال، وهذا المفهوم يفهم من مفهوم آية أخرى، وهي قوله تعالى: (ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [المائدة: ٥].
فإن المراد بالمحصنات فيها: الحرائر على أحد الأقوال، ويفهم منه أن الإماء الكوافر لا يحل نكاحهن، ولو كن كتابيات198.
والذي يظهر من جهة الدليل -والله تعالى أعلم- جواز وطء الأمة بملك اليمين، وإن كانت عابدة وثن، أو مجوسية؛ لأن أكثر السبايا في عصره صلى الله عليه وسلم كفار العرب وهم عبدة أوثان، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حرم وطأهن بالملك لكفرهن، ولو كان حرامًا لبينه199.
قال ابن القيم في (زاد المعاد) ما نصه: «ودل هذا القضاء النبوي على جواز وطء الإماء الوثنيات بملك اليمين، فإن سبايا أوطاس لم يكن كتابيات، ولم يشترط رسول الله صلى الله عليه وسلم في وطئهن إسلامهن، ولم يجعل المانع منه إلا الاستبراء فقط، وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع، مع أنهم حديثو عهد بالإسلام، ويخفى عليهم حكم هذه المسألة وحصول الإسلام من جميع السبايا، وكن عدة آلاف بحيث لم يتخلف منهن عن الإسلام جارية واحدة، مما يعلم أنه في غاية البعد، فإنهن لم يكرهن على الإسلام، ولم يكن لهن من البصيرة والرغبة والمحبة في الإسلام ما يقتضي مبادرتهن إليه جميعًا، فمقتضى السنة، وعمل الصحابة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده جواز وطء المملوكات على أي دين كن، وهذا مذهب طاووس وغيره، وقواه صاحب (المغني) فيه ورجح أدلته»200.
وفي قوله: (ﮓ ﮔ ﮕ) تأنيس بنكاح الإماء، وإزالة الاستنكاف منه، أي: أعلم بتفاضل ما بينكم، وبين أرقائكم في الإيمان، فربما كان إيمان الأمة أرجح من إيمان الحرة، وإيمان المرأة من إيمان الرجل، فلا ينبغي للمؤمن أن يطلب الفضل والرجحان إلا باعتبار الإيمان والإسلام، لا بالأحساب والأنساب.
ولهذا قال: (ﮗ ﮘ ﮙ) أي: أنتم وأرقاؤكم متناسبون، نسبكم من آدم، ودينكم الإسلام، كما قيل201:
الناس من جهة التمثال أكفاء
أبوهمُ آدم والأم حواء
فبينكم وبين أرقائكم المؤاخاة الإيمانية، والجنسية الدينية، لا يفضل حر عبدًا إلا برجحان في الإيمان، وقدم في الدين202.
والخطاب في (ﮕ) للمؤمنين ذكورهم وإناثهم، حرهم ورقهم، وانتظم الإيمان في هذا الخطاب، ولم يفردن بذلك، فلم يأت -والله أعلم-: (ﯓ)؛ لئلا يخرج غيرهن عن هذا الخطاب. والمقصود: عموم الخطاب؛ إذ كلهم محكوم عليه بذلك203.
والإضافة في قوله: (ﮎ) وقوله: (ﮏ ﮐ)؛ للتقريب، وإزالة ما بقي في نفوس العرب من احتقار العبيد والإماء، والترفع عن نكاحهم وإنكاحهم، وكذلك وصف المؤمنات، وإن كنا نراه للتقييد، فهو لا يخلو مع ذلك من فائدة التقريب؛ إذ الكفاءة تعتمد الدين أولًا204.
والضمير في قوله: (ﮛ) أي: المملوكات. وذكر بعد الأمر بنكاحهن بيان كيفية ذلك، فقال: (ﮜ ﮝ) وشرط الإذن لئلا يكون سرًا وزنًا؛ ولأن نكاحهن دون ذلك اعتداء على حقوق أهل الإماء.
ومعنى: (ﮝ) أي: سيدهن واحدًا أو متعددًا. وفي اشتراط إذن الموالي دون مباشرتهم للعقد إشعار بجواز مباشرتهن له.
والأهل هنا بمعنى: السادة المالكين، وهو إطلاق شائع على سادة العبيد في النصوص الشرعية، وهو من مصطلحات القرآن تلطفًا بالعبيد، كما وقع النهي أن يقال: أطعم ربك، وضئ ربك، اسق ربك، بل يقال: سيدي مولاي، ولا: يقال عبدي أمتي، وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي205، ووقع في حديث بريرة: (فذهبت إلى أهلها)206 وأبوا إلا أن يكون الولاء لهم.
والآية دليل على ولاية السيد لأمته، وأنه إذا نكحت الأمة بدون إذن السيد فالنكاح مفسوخ، ولو أجازه سيدها، واختلف في العبد: فقيل: هو كالأمة، وقيل: إذا أجازه السيد جاز، ويحتج بها لاشتراط أصل الولاية في المرأة احتجاجًا ضعيفًا، واحتج بها على عكس ذلك؛ إذ سمى الله ذلك إذنًا، ولم يسمه عقدًا، وهو احتجاج ضعيف؛ لأن الإذن يطلق على العقد، لا سيما بعد أن دخلت عليه باء السببية المتعلقة بـ(انكحوهن)207.
فدل على أن السيد هو ولي أمته لا تزوج إلا بإذنه، وكذلك هو ولي عبده، ليس لعبده أن يتزوج إلا بإذنه، كما جاء في الحديث: (أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو عاهر)208 أي: زانٍ.
وقوله تعالى: (ﮞ ﮟ ﮠ) أي: ولو كن إماء، فإنه كما يجب المهر للحرة فكذلك يجب للأمة. وإضافة الأجور إليهن دليل على أن الأمة أحق بمهرها من سيدها؛ ولذلك قال مالك في كتاب الرهون من المدونة: إن على سيدها أن يجهزها بمهرها209.
وليعلم أنه لا يجوز نكاح الإماء إلا إذا كن (ﮡ) أي: عفيفات عن الزنا (ﮢ ﮣ) أي: زانيات علانية (ﮤ ﮥ ﮦ) أي: أخلاء في السر. بهذه الشروط التي ذكرت في الآية.
وقوله: (ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) أي: خاف الزنا، وهو في الأصل انكسار العظم بعد الجبر، فاستعير لكل مشقة وضرر أعظم من موافقة الاسم بأفحش القبائح، وإنما سمى الزنا به؛ لأنه سبب المشقة بالحد في الدنيا، والعقوبة في العقبى.
ثم ختم الآية بقوله: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ) أي: إذا استطعتم الصبر مع المشقة إلى أن يتيسر له نكاح الحرة؛ فذلك خير؛ لئلا يوقع أبناءه في ذل العبودية المكروهة للشارع لولا الضرورة؛ ولئلا يوقع نفسه في مذلة تصرف الناس في زوجه210. وختم هذه الآية بقوله: (ﯡ ﯢ ﯣ) بهذين الاسمين الكريمين (الغفور والرحيم) لكون هذه الأحكام رحمةً بالعباد، وكرمًا وإحسانًا إليهم، فلم يضيق عليهم، بل وسع غاية السعة. ولعل في ذكر المغفرة بعد ذكر الحد إشارة إلى أن الحدود كفارات، يغفر الله بها ذنوب عباده، كما ورد بذلك الحديث: (ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له)211.
ثانيًا: إنكاح الأيامى والصالحين:
أمر الله تعالى بتزويج الأيامى والصالحين من العبيد، فقال: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [النــور: ٣٢].
والمعنى: زوجوا من لا زوج له من الأحرار والحرائر، أي: من الرجال والنساء، والمراد بذلك مد يد المساعدة بكل الوسائل حتى يتسنى لهم ذلك، كإمدادهم بالمال، وتسهيل الوسائل التي بها يتم ذلك الزواج والمصاهرة.
والخطاب في قوله: (ﭑ ﭒ) لكل من تصور أن ينكح في نازلة ما، فهم المأمورون بتزويج من لا زوج له. فهو خطاب للأولياء أن ينكحوا أيامهم من أكفائهن، إذا دعون إليه؛ لأنه خطاب خرج مخرج الأمر الحتم؛ فلذلك يوجه إلى الولي دون الزوج. وقد يكون خطاب للأزواج أن يتزوجوا الأيامى عند الحاجة212.
وقرئ: (من عبيدكم) والجمهور على (ﭖ) والمعنى واحد، إلا أن قرينة الترفيع بالنكاح يؤيد قراءة الجمهور.
والأيم: يقال للرجل وللمرأة213.
قال الشاعر214:
فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي
وإن كنت أفتى منكم أتأيم
ومعنى الأيامى: أي: الذين لا أزواج لهم من الرجال والنساء، واحدهم أيم، فأيامى مقلوب أيايم، واتفق أهل اللغة على أن الأيم في الأصل هي: المرأة التي لا زوج لها، بكرًا كانت أو ثيبًا، حكى ذلك أبو عمرو والكسائي وغيرهما. تقول العرب: تأيمت المرأة إذا أقامت لا تتزوج215.
وصيغة الأمر في قوله تعالى: (ﭑ ﭒ) مجملة، فتحتمل الوجوب والندب، بحسب ما يعرض من حال المأمور بإنكاحهم: فإن كانوا مظنة الوقوع في مضار في الدين أو الدنيا، كان إنكاحهم واجبًا، وإن لم يكونوا كذلك فمندوب216. فيكون الأمر بالنكاح ندب لقوم، وإباحة لآخرين، بحسب قرائن المرء، والنكاح في الجملة والأغلب مندوب إليه.
ومن القرائن التي صرفت الأمر من الوجوب إلى الندب أنه لم يخل عصر من الأعصار من وجود الأيامى، ولم ينكر ذلك، ولا أمر الأولياء بالنكاح217. بل قد وجد أيامى على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لم يزوجوا، ولو كان الأمر للوجوب لزوجهم.
ويدل على عدم وجوبه أيضًا أمور:
أحدها: أنه لو كان ذلك واجبًا لورد النقل بفعله من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن السلف مستفيضًا شائعًا؛ لعموم الحاجة إليه، فلما وجدنا عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وسائر الأعصار بعده، قد كان في الناس أيامى من الرجال والنساء، فلم ينكروا عدم تزويجهن، ثبت أنه ما أريد به الإيجاب.
وثانيها: الإجماع على أن الأيم الثيب لو أبت التزوج لم يكن للولي إجبارها عليه.
وثالثها: اتفاق الكل على أنه لا يجبر على تزويج عبده وأمته، وهو معطوف على الأيامى، فدل على أنه غير واجب في الجميع، بل ندب في الجميع.
ورابعها: أن اسم الأيامى ينتظم فيه الرجال والنساء، وهو في الرجال ما أريد به الأولياء دون غيرهم، كذلك في النساء.
وقد قيل: يكون تزويج الأيامى واجبًا إذا التمست المرأة الأيم من الولي التزويج218. ومنهم من قال: أن الأمر للوجوب، لا بمعنى أن يجبر الإمام الأيامى على الزواج، ولكن بمعنى أنه يتعين إعانة الراغبين منهم في الزواج، وتمكينهم من الإحصان، بوصفه وسيلة من وسائل الوقاية العملية، وتطهير المجتمع الإسلامي من الفاحشة، وهو واجب، ووسيلة الواجب واجبة.
وينبغي أن نضع في حسابنا -مع هذا- أن الإسلام بوصفه نظامًا متكاملًا يعالج الأوضاع الاقتصادية علاجًا أساسيًا، فيجعل الأفراد الأسوياء قادرين على الكسب، وتحصيل الرزق، وعدم الحاجة إلى مساعدة بيت المال، ولكنه في الأحوال الاستثنائية يلزم بيت المال ببعض الإعانات، فالأصل في النظام الاقتصادي الإسلامي أن يستغني كل فرد بدخله، وهو يجعل تيسير العمل وكفاية الأجر حقًا على الدولة واجبًا للأفراد، أما الإعانة من بيت المال فهي حالة استثنائية لا يقوم عليها النظام الاقتصادي في الإسلام.
فإذا وجد في المجتمع الإسلامي-بعد ذلك- أيامى فقراء وفقيرات، تعجز مواردهم الخاصة عن الزواج فعلى الجماعة أن تزوجهم، وكذلك العبيد والإماء، غير أن هؤلاء يلتزم أولياؤهم بأمرهم ما داموا قادرين، ولا يجوز أن يقوم الفقر عائقًا عن التزويج متى كانوا صالحين للزواج، راغبين فيه، رجالًا ونساء، فالرزق بيد الله، وقد تكفل الله بإغنائهم، إن هم اختاروا طريق العفة النظيف: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [النور: ٣٢].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة حق على الله عونهم) ومنهم: (والناكح الذي يريد العفاف)219.
وفي انتظار قيام الجماعة بتزويج الأيامى يأمرهم بالاستعفاف حتى يغنيهم الله بالزواج: (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ) [النــور: ٣٣].
وفي هذه الآية قال: (ﭡ ﭢ ﭣ) [النور: ٣٢].
أي: لا يضيق على من يبتغي العفة وهو يعلم نيته وصلاحه.
هكذا يواجه الإسلام المشكلة مواجهة عملية، فيهيئ لكل فرد صالح للزواج أن يتزوج، ولو كان عاجزًا من ناحية المال؛ لأن المال هو العقبة الكئود غالبًا في طريق الإحصان220.
واستدل بالأمر في قوله: (ﭑ ﭒ) على اعتبار الولي؛ لأن الخطاب له، وعدم استقلال المرأة بالنكاح. واستدل بعموم الآية من أباح نكاح الإماء بلا شرط، ونكاح العبد الحرة، واستدل بها من قال: بإجبار السيد على نكاح عبده وأمته221.
ومعنى: (ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ) أي: والقادرين والقادرات على النكاح والقيام بحقوق الزوجية من الصحة والمال، ونحو ذلك.
وفي هذه الآية رد على من قال: إن القاضي يفرق بين الزوجين إذا كان الزوج فقيرًا، لا يقدر على النفقة؛ لأن الله قال: (ﭪ ﭫ) ولم يقل: يفرق بينهما، وهذا انتزاع ضعيف؛ لأن هذه الآية ليست حكمًا فيمن عجز عن النفقة، وإنما هي وعد بالإغناء، كما وعد به مع التفرق في قوله: (ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [النساء: ١٣٠].
ونفحات رحمة الله مأمولة في كل حال موعود بها222.
وجملة: إن يكونوا فقراء... إلخ استئناف بياني؛ لأن عموم الأيامى والعبيد والإماء في صيغة الأمر يثير سؤال الأولياء، والموالي أن يكون الراغب في تزوج المرأة الأيم فقيرًا فهل يرده الولي؟ وأن يكون سيد العبد فقيرًا لا يجد ما ينفقه على زوجه، وكذلك سيد الأمة يخطبها رجل فقير حر أو عبد، فجاء هذا لبيان إرادة العموم في الأحوال.
وهو كذلك وعد من الله للمتزوج من هؤلاء إن كان فقيرًا أن يغنيه الله، وإغناؤه تيسير الغنى إليه إن كان حرًا، وتوسعة المال على مولاه إن كان عبدًا، فلا عذر للولي، ولا للمولى أن يرد خطبته في هذه الأحوال223.
وفي هذا ترغيب في الزواج بالفقير والفقيرة، وألا يكون عدم وجدان المال حائلًا عن إتمامه؛ ولهذا فقال: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) أي: لا تنظروا إلى فقر من يخطب إليكم، أو فقر من تريدون زواجها، ففي فضل الله ما يغنيهم والمال غاد ورائح. (ﭡ ﭢ ﭣ) أي: والله ذو سعة وغنى، فلا انتهاء لفضله، ولا حد لقدرته224.
ثالثًا: نكاح المهاجرات في سبيل الله:
أباح الله تعالى للمؤمنين نكاح المؤمنات المهاجرات بعد فراقهن لأزواجهن المشركين، وبعد استبرائهم لأرحامهن، ودفع مهورهن كاملة غير منقوصة، فقال تعالى: (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ) [الممتحنة: ١٠].
والسبب في نزوله هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم هادن قريشًا عام الحديبة، فقالت قريش: على أن ترد علينا من جاءك منا، ونرد عليك من جاءنا منك، فوافق النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الشرط؛ لأنه لا حاجة له بمن اختار الكفر على الإيمان، ورجع إلى الكفار225.
والآية بينت أن العهد الذي أعطى كان في الرجال دون النساء، ومن ثم لم يردهن حين جئن مؤمنات.
يقول الحق جل جلاله: (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) سماهن مؤمنات لنطقهن بكلمة الشهادة؛ أو لظهور إيمانهن بالامتحان؛ ولا يعلم بالامتحان إلا ظاهر إيمانهن أما الباطن فالله يعلمه؛ فالحكم عليهن معتبرًا بالظاهر. ومعنى: (ﮭ) أي: من الكفار.
ونص على امتحان المؤمنات المهاجرات فقال: (ﮮ) وهو أمر بمعنى: الوجوب، أو بمعنى: الندب، والمعنى: فاختبروهن بما يغلب على ظنكم موافقة قلوبهن للسانهن، وكان صلى الله عليه وسلم يستحلفهن: ما خرجن من بغض زوج، ولا رغبة من أرض إلى أرض، ولا التماس دنيا، ولا عشقًا لرجل، بل حبًًا لله ورسوله226.
وقيل: كان امتحانهن بالبيعة الآتية: (ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ) [الممتحنة: ١٢].
ومفهومه أن الرجال المهاجرين لا يمتحنون، وفعلًا لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يمتحن من هاجر إليه، والسبب في امتحانهن دون الرجال هو ما أشارت إليه هذه الآية في قوله تعالى: (ﯕ ﯖ ﯗ) كأن الهجرة وحدها لا تكفي في حقهن بخلاف الرجال، فقد شهد الله لهم بصدق إيمانهم بالهجرة في قوله: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) [الحشر: ٨].
وذلك أن الرجل إذا خرج مهاجرًا يعلم أن عليه تبعة الجهاد والنصرة، فلا يهاجر إلا وهو صادق الإيمان فلا يحتاج إلى امتحان، ولا يرد عليه مهاجر أم قيس؛ لأنه أمر جانبي، ولا يمنع من المهمة الأساسية للهجرة المنوه عنه في أول هذه السورة: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [الممتحنة: ١].
بخلاف النساء، فليس عليهن جهاد، ولا يلزمهن بالهجرة أية تبعية، فأي سبب يواجههن في حياتهن سواء كان بسبب الزوج أو غيره فإنهن يخرجن باسم الهجرة، فكان ذلك موجبًا للتوثق من هجرتهن بامتحانهن؛ ليعلم إيمانهن، ويرشح لهذا المعنى قوله تعالى: (ﮰ ﮱ ﯓ) وفي حق الرجال قال: (ﯢ ﯣ ﯤ).
وكذلك من جانب آخر وهو أن هجرة المؤمنات يتعلق عليها حق مع طرف آخر وهو الزوج فيفسخ نكاحها منه، ويعوض هو عما أنفق عليها، وإسقاط حقه في النكاح، وإيجاب حقه في العوض قضايا حقوقية، تتطلب إثباتًا بخلاف هجرة الرجال227.
وقال بعد الأمر بامتحانهن: (ﮰ ﮱ ﯓ) أي: الله أعلم بصدقهن في دعوى الإيمان؛ لأنه تعالى المطلع على قلوبهن، والجملة اعتراضية لبيان أن هذا الامتحان بالنسبة للمؤمنين، وإلا فالله عالمٌ بالسرائر لا تخفى عليه خافية؛ ولهذا قال: (ﯕ ﯖ ﯗ) أي: فإن تحققتم من إيمانهن بعد امتحانهن فلا تردوهن إلى أزواجهن الكفار.
فإن قيل: كيف سمى الظن علمًا في قوله: (ﯕ ﯖ)؟ نقول: إنه من باب أن الظن الغالب وما يفضي إليه الاجتهاد والقياس جارٍ مجرى العلم، وصاحبه غير داخل في قوله: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [الإسراء: ٣٦]228.
فإن قال قائل: كيف التوفيق بين قوله: (ﯕ ﯖ ﯗ) وبين قوله: (ﮰ ﮱ ﯓ)؟ والجواب عنه: أن معنى قوله: (ﯕ ﯖ ﯗ)، أي: إيمان الإقرار والامتحان، كأنهن أقررن بالإيمان، وحلفن عند الامتحان، وكأنه يشير في قوله: (ﮰ ﮱ ﯓ) إلى أن: العلم الذي يمكنكم تحصيله هو الظن الغالب بالحلف وظهور الأمارات، فهذا ظن غالب، وإنما سماه علمًا؛ إيذانًا بأنه كالعلم في وجوب العمل به229.
فإذا تحقق إيمانهن فلا يجوز ردهن إلى الكفار؛ ولهذا قال: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) أي: فلا تردوهن إلى أزواجهن المشركين. وموقع قوله: (ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) موقع البيان والتفصيل للنهي في قوله: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ)؛ تحقيقًا لوجوب التفرقة بين المرأة المؤمنة وزوجها الكافر بخروجها مسلمة.
والتكرير في قوله: (ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) للتأكيد والمبالغة في الحرمة، وقطع العلاقة بين المؤمنة والمشرك230.
فردهن إلى الكفار مفسدة كبيرة راعاها الشارع، وراعى أيضًا الوفاء بالشرط، بأن يعطوا الكفار أزواجهن ما أنفقوا عليهن من المهر وتوابعه عوضًا عنهن.
وإذا كان المخاطب بذلك النهي جميع المؤمنين، كما هو مقتضى قوله: (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ)... إلى آخره، تعين أن يقوم بتنفيذه من إليه تنفيذ أمور المسلمين العامة في كل مكان وكل زمان، وهم ولاة الأمور من أمراء وقضاة؛ إذ لا يمكن أن يقوم المسلمون بما خوطبوا به من مثل هذه الأمور العامة إلا على هذا الوجه، ولكن على كل فرد من المسلمين التزام العمل به في خاصة نفسه، والتزام الامتثال لما يقرره ولاة الأمور231.
وقد اختلف: هل كان النهي في شأن المؤمنات المهاجرات أن يرجعوهن إلى الكفار نسخًا لما تضمنته شرط الصلح الذي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، أو كان الصلح غير مصرح فيه بإرجاع النساء؛ لأن الصيغة صيغة جمع المذكر فاعتبر مجملًا، وكان النهي الذي في هذه الآية بيانًا لذلك المجمل.
وقد قيل: إن الصلح صرح فيه بأن من جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم من غير إذن وليه من رجل أو امرأة يرد إلى وليه، فإذا صح ذلك كان صريحًا، وكانت الآية ناسخة لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم.
والذي في سيرة ابن إسحاق من رواية ابن هشام خليٌ من هذا التصريح؛ ولذلك كان لفظ الصلح محتملًا لإرادة الرجال؛ لأن الضمائر التي اشتمل عليها ضمائر تذكير، فيكون الشرط في الرجال لا في النساء، فكانت هذه الآية تشريعًا للمسلمين فيما يفعلونه إذا جاءهم المؤمنات مهاجرات، وإيذانًا للمشركين بأن شرطهم غير نص، وشأن شروط الصلح الصراحة لعظم أمر المصالحات والحقوق المترتبة عليها.
وقد أذهل الله المشركين عن الاحتياط في شرطهم؛ ليكون ذلك رحمة بالنساء المهاجرات؛ إذ جعل لهن مخرجًا وتأييدًا لرسول صلى الله عليه وسلم، كما في الآية التي بعدها لقصد أن يشترك من يمكنه الاطلاع من المؤمنين على صدق إيمان المؤمنات المهاجرات، تعاونًا على إظهار الحق؛ ولأن ما فيها من التكليف يرجع كثير منه إلى أحوال المؤمنين مع نسائهم232.
وأمر الله تعالى إذا أمسكت المرأة المسلمة أن يرد على زوجها ما أنفق، وذلك من الوفاء بالعهد؛ لأنه لما منع من أهله بحرمة الإسلام أمر برد المال حتى لا يقع عليهم خسران من الوجهين: الزوجة والمال233. فقال: (ﯦ ﯧ ﯨ) أي: وأعطوا أزواجهن مثل ما دفعوا إليهن من المهور. والمراد بما أنفقوا ما أعطوه من المهور، والعدول عن إطلاق اسم المهور والأجور على ما دفعه المشركون لنسائهم اللائي أسلمن من لطائف القرآن؛ لأن أولئك النساء أصبحن غير زوجات، فألغي إطلاق اسم المهور على ما يدفع لهم.
وقد سمى الله بعد ذلك ما يعطيه المسلمون لهن أجورًا، بقوله تعالى: (ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) والمكلف بإرجاع مهور الأزواج المشركين إليهم هم ولاة أمور المسلمين، مما بين أيديهم من أموال المسلمين العامة234.
ولا جناح حينئذٍ على المسلمين أن ينكحوهن، ولو كان لهن أزواج في دار الشرك، ولكن بشرط أن يؤتوهن أجورهن من المهر والنفقة؛ ولهذا قال: (ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) أي: ولا إثم عليكم، ولا حرج في نكاح هؤلاء المؤمنات المهاجرات، بشرط أن تتعهدوا بالمهور، وتلتزموا بأدائها، وإنما جاز هذا لأن الإسلام حال بينهن وبين أزواجهن الكفار، فكان من المصلحة أن يكون لهن عائل من المؤمنين يكفل أمر أرزاقهن235.
ونص على دفع المهر لهن -مع أنه أمر معلوم- لكي لا يتوهم متوهم أن رد المهر إلى الزوج الكافر يغنى عن دفع مهر جديد لهن إذا تزوجن بعد ذلك بأزواج مسلمين؛ إذ المهر المردود للكفار لا يقوم مقام المهر الذي يجب على المسلم إذا ما تزوج بامرأة مسلمة فارقت زوجها الكافر.
والمراد بالإيتاء: ما يشمل الدفع العاجل، والتزام الدفع في المستقبل.
ويدل بمفهومه أن النكاح بدون الأجور فيه جناح، وقد جاء النص بهذا المفهوم في قوله تعالى: (ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) [الأحزاب: ٥٠].
فهبة المرأة نفسها بدون صداق خاص به صلى الله عليه وسلم، فقوله تعالى: (ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) لا يحله لغيره صلى الله عليه وسلم، وقوله: (ﯯﯰ ﯱ) ظاهر في أن النكاح لا يصح إلا بإتيان الأجور.
وقد جاء ما يدل على صحة العقد بدون إتيان الصداق كما في قوله تعالى: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ) الآية. [البقرة: ٢٣٦].
وقد ذكر الفقهاء حكم المفوضة أنه إن دخل بها فلها صداق المثل، ويدل لإطلاق الأجور على الصداق قوله تعالى في نكاح الإماء لمن لم يستطع طولًا للحرائر: (ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) إلى قوله: (ﮛ ﮜ ﮝ) [النساء: ٢٥].
وفي نكاح أهل الكتاب: (ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [المائدة: ٥]. الآية236.
ونهى الله المسلمين عن إبقاء النساء الكوافر في عصمتهم، وهن النساء اللائي لم يخرجن مع أزواجهن لكفرهن، فقال: (ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ) فلما نزلت هذه الآية طلق المسلمون من كان لهم من أزواج بمكة.
فطلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأتين له بقيتا بمكة مشركتين، وهما: قريبة بنت أبي أمية، وأم كلثوم بنت عمرو الخزاعية، وطلق طلحة بن عبيد الله إحدى زوجاته وكانت مشركة237.
ثم قال: (ﯷ ﯸ ﯹ) أيها المؤمنون حين ترجع زوجاتكم مرتدات إلى الكفار، فإذا كان الكفار يأخذون من المسلمين نفقة من أسلمت من نسائهم استحق المسلمون أن يأخذوا مقابلة ما ذهب من نسائهم إلى الكفار، وهذا إنصاف بين الفريقين، والأمر للإباحة.
وفي هذا دليل على أن خروج البضع من الزوج متقوم، فإذا أفسد مفسد نكاح امرأة رجل برضاع أو غيره كان عليه ضمان المهر، وقوله: (ﯾ ﯿ ﰀ) أي: ذلكم الحكم الذي ذكره الله وبينه لكم يحكم به بينكم (ﰅ ﰆ ﰇ) فيعلم تعالى ما يصلح لكم من الأحكام، ويشرع لكم ما تقتضيه الحكمة238.
أخبر القرآن الكريم عما يتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم من خصوصيات في النكاح نوضحها فيما يلي:
أولًا: نكاح الواهبة نفسها:
أخبر الله تعالى أنه أحل لنبيه صلى الله عليه وسلم المرأة المؤمنة إذا وهبت نفسها له أن يتزوجها بغير مهر إن شاء ذلك، فقال: (ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ) [الأحزاب: ٥٠].
ونصبت: (ﯕ) بفعل يفسره ما قبله، أو عطف على ما سبق، والمعنى: أعلمناك حل امرأة مؤمنة تهب لك نفسها، ولا تطلب مهرًا239.
أو أحللنا لك امرأة. والوصف بالمؤمنة قيد معتبر، فإن وهبت امرأة يهودية أو نصرانية أو مشركة نفسها، فإنه لا يحل للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها.
ومعنى: (ﯘ ﯙ ﯚ) أنها ملكته نفسها بدون مهر تمليكًا شبيهًا بملك اليمين؛ ولهذا عطفت على (ﮊ ﮋﮌ) وهذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم، فليس لغير النبي صلى الله عليه وسلم أن يستبيح وطء امرأة بلفظ الهبة من غير ولي ولا مهر ولا شاهد.
والمقصود بالإحلال في الآية الكريمة: الإذن العام، والتوسعة عليه صلى الله عليه وسلم في الزواج من هذه الأصناف، والإباحة له في أن يختار منهن من تقتضي الحكمة الزواج منها، واختصاصه صلى الله عليه وسلم بأمور كثيرة تتعلق بالنكاح، لا تحل لأحد سواه، وهذا منها240.
وفي قوله: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) إظهار في مقام الإضمار؛ لأن مقتضى الظاهر أن يقال: إن وهبت نفسها لك، والغرض من هذا إظهار ما في لفظ: (ﯛ) من تزكية فعل المرأة التي تهب نفسها بأنها راغبة لكرامة النبوة241.
وقد ورد أن النسوة اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم أربع، هن: ميمونة بنت الحارث، وزينب بنت خزيمة الأنصارية الملقبة أم المساكين، وأم شريك بنت جابر الأسدية أو العامرية، وخولة بنت حكيم بنت الأوقص السلمية، فأما الأوليان فتزوجهما النبي صلى الله عليه وسلم، وهما من أمهات المؤمنين242.
وقوله: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ) [الأحزاب: ٥٠].
جملة معترضة بين جملة (ﯗ ﯘ) وبين (ﯠ) وليس مسوقًا للتقييد؛ إذ لا حاجة إلى ذكر إرادة نكاحها، فإن هذا معلوم من معنى الإباحة، وإنما جيء بهذا الشرط لدفع توهم أن يكون قبوله هبتها نفسها له واجبًا عليه كما كان عرف أهل الجاهلية243.
ونلحظ في هذه الآية أنه توالى فيها شرطان: (ﯗ ﯘ)، (ﯗ ﯜ ﯝ) وهذا كثير في القرآن، من ذلك قوله تعالى إخبارًا عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ) [هود: ٣٤].
وكقول موسى: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ) [يونس: ٨٤]244.
وفي كلتا حالتي الشرط الوارد على شرط يجعل جواب أحدهما محذوفًا، دل عليه المذكور، أو جواب أحدهما جوابًا للآخر على خلافٍ في ذلك245.
والعدول عن الإضمار في قوله: (ﯜ ﯝ) بأن يقال: إن أراد أن يستنكحها لما في إظهار لفظ: (ﯛ) من التفخيم والتكريم. والسين والتاء في (ﯟ) ليستا للطلب، بل هما لتأكيد الفعل كقول النابغة246:
وهم قتلوا الطائي بالحجر عنوة
أبا جابر واستنكحوا أم جابر
أي: بنو حن قتلوا أبا جابر الطائي، فصارت أم جابر المزوجة بأبي جابر زوجة بني حن، أي زوجة رجل منهم، وهي مثل السين والتاء في قوله: (ﭑ ﭒ ﭓ) [آل عمران: ١٩٥]247.
ودليل هذه الخصوصية قوله: (ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) فليس لامرأة أن تهب نفسها لرجل بغير شهود، ولا ولي، ولا مهر إلا النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا من خصائصه في النكاح، كالتخيير والعدد في النساء.
ولو تزوجها غيره بلفظ الهبة لم ينعقد النكاح، وقيل: إذا وهبت نفسها منه وقبلها بشهود ومهر، فإن النكاح ينعقد، والمهر يلزم به، فأجازوا النكاح بلفظ الهبة، وقالوا: كان اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم في ترك المهر، والله تعالى قد سمى النكاح باسمين التزويج والنكاح، فلا ينعقد بغيرهما248.
وقد جاء ما يدل على صحة العقد بدون إتيان الصداق، كما في قوله تعالى: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ) [البقرة: ٢٣٦].
وقد ذكر الفقهاء حكم المفوضة أنه إن دخل بها فلها صداق المثل.
وانتصب (ﯠ) على الحال من (ﯕ) أي: خالصة لك تلك المرأة، أي: هذا الصنف من النساء، والخلوص بمعنى: عدم المشاركة، أي: مشاركة بقية الأمة في هذا الحكم؛ إذ مادة الخلوص تجمع معاني التجرد من المخالطة249.
أي: لا يحل لأحد أن يتزوج بطريق الهبة، وقيل: إن خالصة يرجع إلى كل ما تقدم من النساء المباحات له صلى الله عليه وسلم؛ لأن سائر المؤمنين قصروا على أربع نسوة، وأبيح له عليه الصلاة والسلام أكثر من ذلك250 فيكون قوله: (ﯠ) يرجع إلى جميع ما في الآية، أي: هذا الإكثار من النكاح وهذه المرأة الواهبة خالصة لك، وقوله: (ﯠ ﯡ) وخاصة مصدران يستوي فيهما المذكر والمؤنث، كالخاطبة والكاذبة واللاغية251.
ويدل على خصوصيته بهذا النوع وهي الواهبة وجهان:
أحدهما: أنه لما أحل له الواهبة، قال: (ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﯥ)؛ ليبين اختصاصه بذلك، فعلم أنه حيث سكت عن الاختصاص كان الاشتراك ثابتًا، وإلا فلا معنى لتخصيص هذا الموضع ببيان الاختصاص.
الثاني: أن ما أحله من الأزواج ومن المملوكات ومن الأقارب أطلقه، وفى الموهوبة قيدها بالخلوص له؛ فعلم أن سكوته عن التقييد في أولئك دليل الاشتراك252.
ثانيًا: تزويج الله لنبيه:
ومن خصوصياته صلى الله عليه وسلم في النكاح أن الله تعالى زوجه زينب بنت جحش من غير عقد ولا مهر ولا ولي.
قال تعالى: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [الأحزاب: ٣٧].
فتكون هذه خصوصية للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر في الروايات أن النبي عليه الصلاة والسلام أصدقها، فعده بعض أهل السير من خصوصياته صلى الله عليه وسلم أيضًا، فيكون في تزوجها خصوصيتان نبويتان253.
وكان سبب نزول هذه الآية: أن الله تعالى أراد أن يشرع شرعًا عامًا للمؤمنين: أن الأدعياء ليسوا في حكم الأبناء حقيقة من جميع الوجوه، وأن أزواجهم لا جناح على من تبناهم في نكاحهن، وكان هذا من الأمور المعتادة التي لا تكاد تزول إلا بحادث كبير، فأراد أن يكون هذا الشرع قولًا وفعلًا من رسوله، وإذا أراد الله أمرًا جعل له سببًا، وكان زيد بن حارثة يدعى: زيد بن محمد قد تبناه النبي صلى الله عليه وسلم، فصار يدعى إليه، حتى نزل: (ﮗ ﮘ) [الأحزاب: ٥].
فقيل له: زيد بن حارثة وكانت تحته زينب بنت جحش ابنة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد وقع في قلب الرسول لو طلقها زيد لتزوجها، فقدر الله أن يكون بينها وبين زيد ما اقتضى أن جاء زيد بن حارثة يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في فراقها254.
فقص الله هذه القصة، فقال: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ) أي: بالإسلام، (ﭱ ﭲ) بالتبني والعتق، والمراد زيد رضي الله عنه، (ﭳ ﭴ) أي: لا تفارقها، واصبر على ما جاءك منها، (ﭶ ﭷ) تعالى في أمورك عامة، وفي أمر زوجك خاصة، فإن التقوى تحث على الصبر، وتأمر به.
(ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ) والذي أخفاه أنه لو طلقها زيد لتزوجها صلى الله عليه وسلم 255.
وذكر بعضهم أن إرادته صلى الله عليه وسلم طلاقها وحبه إياها كان مجرد خطوره بباله الشريف بعد العلم بأنه يريد مفارقتها، وليس هناك حسد منه -عليه الصلاة والسلام، وحاشاه- له عليها، فلا محذور، فلو كان المضمر محبتها وإرادة طلاقها ونحو ذلك لأظهره جل وعلا، وللقصاص في هذه القصة كلام لا ينبغي أن يجعل في حيز القبول256.
ولم يقدر منافق ولا غيره على الخوض في ذلك ببنت شفة مما يوهنه ويؤثر فيه، فلو كان الذي أضمره رسول الله صلى الله عليه وسلم محبتها أو إرادة طلاقها لكان يظهر ذلك؛ لأنه لا يجوز أن يخبر أنه يظهره ثم يكتمه فلا يظهره، فدل على أنه إنما عوتب على إخفاء ما أعلمه الله تعالى من أنها ستكون زوجة له، وإنما أخفاه استحياء أن يقول لزيد: إن التي تحتك وفي نكاحك ستكون امرأتي257.
ولهذا قال الحسن: ما أنزل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وسلم آية أشد منها، ولو كان كاتمًا شيئًا من الوحي لكتمها258.
قال صاحب الظلال: وهذا الذي أخفاه النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه وهو يعلم أن الله مبديه هو ما ألهمه الله أنه سيفعله، ولم يكن أمرًا صريحًا من الله، وإلا ما تردد فيه ولا أخره، ولا حاول تأجيله، والجهر به في حينه مهما كانت العواقب التي يتوقعها عن إعلانه، ولكنه صلى الله عليه وسلم كان أمام إلهام يجده في نفسه، ويتوجس في الوقت ذاته من مواجهته ومواجهة الناس به حتى أذن الله بكونه، فطلق زيد زوجه في النهاية، وهو لا يفكر لا هو ولا زينب فيما سيكون بعد.
وهذه الأقوال جميعها تهدم هدمًا تامًا كل الروايات التي رويت عن هذا الحادث، والتي تشب بها أعداء الإسلام في كل زمان ومكان، وصاغوا حولها الأساطير والمفتريات.
إنما كان الأمر كما قال الله تعالى: (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) وكانت هذه إحدى ضرائب الرسالة الباهظة حملها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حمل؛ وواجه بها المجتمع الكاره لها كل الكراهية، حتى ليتردد في مواجهته بها وهو الذي لم يتردد في مواجهته بعقيدة التوحيد، وذم الآلهة والشركاء؛ وتخطئة الآباء والأجداد!259.
ومعنى: (ﭾ ﭿ) في عدم إبداء ما في نفسك (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) وأن لا تباليهم شيئًا (ﮅ ﮆ ﮇ) ومعنى: (ﮆ) استوفى وأتم، واسم (ﮇ) إظهار في مقام الإضمار؛ لأن مقتضى الظاهر أن يقال: فلما قضى منها وطرًا، أي: قضى الذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه، فعدل عن مقتضى الظاهر للتنويه بشأن زيد.
لأنه كان يقال له: زيد بن محمد، فلما نزع عنه هذا الشرف حين نزل: (ﮗ ﮘ) وعلم الله وحشته من ذلك شرفه بخصيصة لم يكن يخص بها أحدًا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهي أن سماه في القرآن، ومن ذكره الله تعالى باسمه في الذكر الحكيم نوه غاية التنويه260.
ومعنى: (ﮉ) أي: حاجته من نكاحها. وقيل: أن الوطر هنا هو الطلاق، وروي عن زينب أنها قالت: «ما كنت أمتنع منه غير أن الله منعني منه»، وقيل: إنه مذ تزوجها لم يتمكن من الاستمتاع بها، وروي أنه كان يتورم ذلك منه حين يريد أن يقربها، فيكون الوطر هنا: الطلاق261. وهذا ضعيف.
والمقصود أنه لما قضى زيد وطره منها، ولم يعد في قلبه ميل إليها، ولا وحشة من فراقها وطابت نفسه، ورغب عنها، طلقها، وفارقها بانقضاء عدتها منه؛ لأن به يعرف أنه لا حاجة له فيها، وأنه قد تقاصرت عنها همته وإلا لكان راجعها. فلما حصل هذا زوجها الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (ﮊ) أي: جعلناها زوجة لك، بلا واسطة عقد إصالة، أو وكالة. أي: لم نحوجك إلى ولي من الخلق يعقد لك عليها تشريفًا لك ولها، بما لنا من العظمة التي خرقنا بها عوائد الخلق حتى أذعن لذلك كل من علم به، وسرت به جميع النفوس.
فهي الوحيدة التي زوجه الله إياها من فوق سبع سموات، وأنزل عليه: (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) فقام فدخل عليها بلا استئذان، وكانت تفخر بذلك على سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وتقول: زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سماواته، وهذا من خصائصها؛ لأن الله جل وعلا قد صرح بأنه هو الذي زوجه إياها. وما أولم على امرأة ما أولم عليها، فذبح شاة، وأطعم الناس الخبز واللحم حتى امتد النهار.
وكانت زينب تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأدل عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهن: جدي وجدك واحد، وأني أنكحنيك الله في السماء، وإن السفير لجبريل عليه السلام »262.
وكانت تفتخر على نساء النبي عليه الصلاة والسلام فتقول: أنا أكرمكن وليًا، وأكرمكن سفيرًا -جبرائيل-، وزوجكن أقاربكن وزوجني الله عز وجل 263.
وأشار سبحانه وتعالى إلى حكمة هذا التزويج، فقال: (ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) وهي إبطال الحرج الذي كان يتحرجه أهل الجاهلية من أن يتزوج الرجل زوجة دعيه، فلما أبطله الله بالقول؛ إذ قال: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) [الأحزاب: ٤].
أكد إبطاله بالفعل حتى لا يبقى أدنى أثر من الحرج أن يقول قائل: إن ذاك وإن صار حلالًا فينبغي التنزه عنه لأهل الكمال، فاحتيط لانتفاء ذلك بإيقاع التزوج بامرأة الدعي من أفضل الناس وهو النبي صلى الله عليه وسلم 264؛ ليكون قدوة في إبطال هذه العادة المرذولة، ولا يتحرج المسلمين بعد ذلك من التزوج بزوجات من كانوا يتبنونهم بعد طلاقهن.
وقد كانت العرب تظن أن حرمة المتبني مشتبكة كاشتباك الرحم، فبين الله تعالى الفرق بينهما، وأن حلائل الأدعياء غير محرمة، وليست كحلائل أبناء الصلب؛ لذلك قال: (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [النساء: ٢٣] فقيد.
وكون الله هو الذي زوجه إياها لهذه الحكمة العظيمة صريح في أن سبب زواجه إياها ليس هو محبته لها التي كانت سببًا في طلاق زيد لها كما زعموا، ويوضحه قوله تعالى: (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) الآية؛ لأنه يدل على أن زيدًا قضى وطره منها، ولم تبق له بها حاجة، فطلقها باختياره265. وما كان هذا إلا لبيان الشريعة بفعله، فإن الشرع يستفاد من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله.
والجمع بين اللام وكي في قوله: (ﮋﮌ)؛ لتوكيد التعليل، كأنه يقول: ليست العلة غير ذلك، ودلت الآية على أن الأصل في الأحكام التشريعية أن تكون سواء بين النبي صلى الله عليه وسلم والأمة، حتى يدل دليل على الخصوصية266.
وجملة: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) تذييل لجملة (ﮊ) وأمر الله يجوز أن يراد به من إباحة تزوج من كن حلائل الأدعياء، فهو معنى الأمر التشريعي فيه267. ففي قوله تعالى أولًا: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ)، وقوله ثانيًا: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ) لطيفة وهي أنه تعالى لما قال: (ﮊ) قال: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) أي: تزويجنا زينب إياك كان مقصودًا متبوعًا مقضيًا، مراعى268.
وفي هذه الآيات المشتملات على هذه القصة، فوائد، منها:
ثالثًا: إباحة الزواج له بأكثر من أربع:
من خصائصه صلى الله عليه وسلم إباحة الزواج بأكثر من أربع؛ لقوله تعالى: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) [الأحزاب: ٥٠].
وكن أكثر من أربع، فهذا لا شركة لأحد معه فيه270.
وهذا لا تناقض فيه ولا عيب، فالذي شرع للمسلمين أربع زوجات، شرع لنبيهم أكثر من أربع، فمنزل التشريع في الحالتين واحد، فلا انتهاك للشرع، ولا مخالفة بحمد الله، كما أن الذي شرع للأخت في الميراث نصيبًا هو نفسه الذي شرع لأخيها نصيبين، ولم ير أحدٌ أن الأخ قد انتهك شرع الله عندما أخذ ضعف نصيب أخته، فطالما صاحب التشريع واحد وهو الله تبارك وتعالى فلا إشكال ولا شبهة، ويبقى بعد هذا النظر في وجوه الحكمة من وراء هذه الخصوصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن الحكمة في ذلك: أنه معصوم من الجور الذي قد يقع فيه غيره في جانب النساء، إضافةً لما في ذلك من مصالح عامة دعت إليها الحاجة، واقتضتها ظروف الدعوة، وفي ظلها تحققت الكثير من الأهداف النبيلة، والتي كان منها:
نشر الدعوة الإسلامية، ونقل جوانب حياته الخاصة داخل إطار بيته إلى الأمة من بعده، وبيان بطلان الحقوق المقررة للتبني -من خلال زواجه بزينب بنت جحش رضي الله عنها، والارتباط بعدد من القبائل ورجالها بالمصاهرة، مما يعطي الدعوة قوة ومنعة. فما تزوج صلى الله عليه وسلم زوجةً إلا بأمر من الله، بل هو الذي زوجه زينب بنت جحش كما سبق.
وسببٌ آخر هامٌ جدًا: ألا وهو تربية وتخريج مرشدات داعيات للنساء، فهو صلى الله عليه وسلم المدرسة التي خرجت المرشدين الداعين للإسلام بالطريق القويم الصحيح، وكذا المرشدات (زوجاته الطاهرات العليات) فعلى يديه صلى الله عليه وسلم تخرجت نساؤه المرشدات لنساء العالم، واللواتي بدورهن غدين مرشدات لتخريج النساء بكل الأصقاع والبقاع في العالم.
ولم يكن زواجه صلى الله عليه وسلم بأكثر من أربع لدافع الشهوة؛ بل كان للحكم السابق ذكرها؛ ولهذا لم يكن زواجه صلى الله عليه وسلم في مرحلة الشباب، بل في سن متأخر، فلو كان تعدد نسائه لشهوة كان أولى به أن يعدد في قوة شبابه، لو كان كما يزعمون، وإنما هو الدين والعبودية والنبوة.
ونعلم أن معظم زوجات النبي كن كبيرات في السن، وبعضهن كن لا إربة لهن في مسألة الرجل، لكنهن يحرصن على شرف الانتساب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى شرف كونهن أمهات المؤمنين؛ لذلك كانت الواحدة منهن تتنازل عن قسمها في البيتوتة لضرتها مكتفية بهذا الشرف.
ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم بدعًا من الرسل في زواجه من النساء بأكثر من أربع، بل إن من الأنبياء من تزوج بأكثر من ذلك؛ ولهذا قال: (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) والسنة الطريقة المعتادة، أي: ليس على الأنبياء حرج فيما أحل الله لهم كما أحل لداود مثل هذا في نكاح من شاء271.
ومما يدل على اختصاصه صلى الله عليه وسلم بالزواج بأكثر من أربع قوله تعالى: (ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) أي: أن جميع الأحكام السابقة المذكورة في الآية، ومنها: الزيادة على الأربع مزية خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره؛ لأن سائر المؤمنين قصروا على أربع نسوة، وأبيح له عليه الصلاة والسلام أكثر من ذلك272. وهذا إجماع أن أحدًا من الأمة لا يجوز له أن يزيد على أربع نسوة إلا النبي صلى الله عليه وسلم 273.
رابعًا: حرمة زواج نسائه من بعده:
وكان مما خص الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم حرمة زواج نسائه من بعده قال تعالى: (ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ) [الأحزاب: ٥٣].
فحرم نكاح نسائه من بعده على العالمين، ليس هكذا نساء أحد غيره صلى الله عليه وسلم 274.
والسبب أنهن أمهات المؤمنين.
قال تعالى: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ) [الأحزاب: ٦].
فقوله: (ﯞ ﯟ) أي: منزلات منازلهن في وجوب التعظيم والاحترام، وتحريم النكاح، كما قال تعالى: (ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ) وأما فيما عدا ذلك من النظر إليهن، والخلوة بهن، والمسافرة معهن، والميراث، فهن كالأجنبيات، فلا يحل رؤيتهن، كما قال تعالى: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ)275؛ لأن الإنسان لا يسأل أمه الحقيقية من وراء حجاب، ومعلوم أنهن رضي الله عنهن لم يلدن جميع المؤمنين الذين هن أمهاتهم. ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها: (لست لك بأم إنما أنا أم رجالكم)276 تعني: أنهن إنما كن أمهات الرجال، لكونهن محرمات عليهم كتحريم أمهاتهم، والدليل على ذلك: أن هذا التحريم لم يتعد إلى بناتهن.
ودلت جملة: (ﯬ ﯭ ﯮ) [الأحزاب: ٥٣].
على الحظر المؤكد؛ لأن (ﯬ ﯭ ﯮ) نفي للاستحقاق الذي دلت عليه اللام، وإقحام فعل (ﯭ) لتأكيد انتفاء الإذن، وهذه الصيغة من صيغ شدة التحريم.
وذكر أن هذه الآية نزلت في رجل قال: لئن مات محمد لأتزوجن امرأة من نسائه سماها، فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك: (ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ).
والمعنى: وما ينبغي لكم أن تؤذوا رسول الله، وما يصلح ذلك لكم (ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ) يقول: وما ينبغي لكم أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدًا لأنهن أمهاتكم، ولا يحل للرجل أن يتزوج أمه، فإنهن محرمات على الرجال تحريم الأمهات تحريمًا مؤبدًا لا يحل بحال.
ويقال: إنما نهى عن ذلك لأنهن أزواجه في الدنيا والآخرة. وروي عن حذيفة أنه قال لامرأته: «إن أردت أن تكوني زوجتي في الجنة فلا تتزوجي بعدي، فإن المرأة لآخر أزواجها؛ ولذلك حرم الله تعالى على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجن بعده»277.
فتضمنت هذه الآية: تحريم أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس بقوله تعالى: (ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ) وهو تقرير لحكم أمومة أزواجه للمؤمنين السالف في قوله: (ﯞ ﯟ) [الأحزاب: ٦].
وإنما شرعت الآية أن حكم أمومة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين حكم دائم في حياة النبي عليه الصلاة والسلام، أو من بعده؛ ولذلك اقتصر هنا على التصريح بأنه حكم ثابت من بعد؛ لأن ثبوت ذلك في حياته قد علم من قوله: (ﯞ ﯟ)[الأحزاب: ٦]278. فأزواجه صلى الله عليه وسلم اللاتي مات عنهن لا يحل لأحدٍ نكاحهن، ومن استحل ذلك كان كافرًا.
ومعنى: (ﯷ ﯸ ﯹ) من بعد وفاته، أو فراقه279.
والإشارة بقوله: (ﯻ ﯼ) إلى ما ذكر من إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، وتزوج أزواجه، أي: ذلكم المذكور. والعظم هنا في الإثم والجريمة بقرينة المقام. وتقييد العظيم بكونه عند الله للتهويل والتخويف؛ لأنه عظيم في الشناعة، وعلة كون تزوج أحد المسلمين إحدى نساء النبي صلى الله عليه وسلم إثمًا عظيمًا عند الله أن الله جعل نساء النبي عليه الصلاة والسلام أمهات للمؤمنين، فاقتضى ذلك أن تزوج أحد المسلمين إحداهن له حكم تزوج المرء أمه، وذلك إثم عظيم280.
ومعنى: (ﯽ ﯾ ﯿ) أي: في حكمه وقضائه وشرعه ذنبًا عظيمًا، لا يقادر قدره، ولا يعرف مدى جزائه وعقوبته إلا الله تعالى.
وفي الآية: تعظيم من الله لرسوله، وإيجاب لحرمته حيًا وميتًا؛ ولذلك بالغ في الوعيد عليه.
واعلم أنه لم يتبين هل التحريم الذي في الآية يختص بالنساء اللاتي بنى بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو هو يعم كل امرأة عقد عليها مثل الكندية التي استعاذت منه، فقال لها: (الحقي بأهلك)281 فتزوجها الأشعث بن قيس في زمن عمر بن الخطاب، ومثل قتيلة بنت قيس الكلبية التي زوجها أخوها الأشعث بن قيس من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حملها معه إلى حضرموت، فتوفي رسول الله قبل قفولهما، فتزوجها عكرمة بن أبي جهل، وأن أبا بكر هم بعقابه، فقال له عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدخل بها، على أنه يظهر أن الإضافة في قوله: (ﯶ) بمعنى: لام العهد، أي: الأزواج اللائي جاءت في شأنهن هذه الآيات من قوله: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) [الأحزاب: ٥٢].
فهن اللائي ثبت لهن حكم الأمهات، والبحث في هذه المسألة مجرد تفقه، لا يبنى عليه عمل282.
ومن طريف ما أفاده صاحب روح البيان عند الكلام على هذه الآية أنه قال: ثم إن حرمة نكاحهن من احترام النبي عليه السلام، واحترامه واجب، وكذا احترام ورثته الكمل؛ ولذا قال بعض الكبار: لا ينكح المريد امرأة شيخه إن طلقها، أو مات عنها، وقس عليه حال كل معلم مع تلميذه، وهذا لأنه ليس في هذا النكاح يمن أصلًا، لا في الدنيا ولا في الآخرة، وان كان رخصة في الفتوى، ولكن التقوى فوق أمر الفتوى، فاعرف هذا283.
وهل نساء النبي صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنات كما أنهن أمهات للمؤمنين؟ قيل: هن أمهات المؤمنين والمؤمنات جميعًا، وقيل: هن أمهات المؤمنين دون النساء.
والذي يظهر أنهن أمهات الرجال والنساء تعظيمًا لحقهن على الرجال والنساء، ويدل عليه صدر الآية: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورة، فيكون قوله: (ﯞ ﯟ) عائدًا إلى الجميع، ثم إن في مصحف أبي بن كعب: (ﯞ ﯟ) وهو أب لهم فنبقي على الأصل الذي هو العموم الذي يسبق إلى الفهوم.
قال ابن العربي المالكي في تفسيره: (ﯞ ﯟ) اختلف الناس هل هن أمهات الرجال والنساء أم هن أمهات الرجال خاصة؟ على قولين، فقيل: ذلك عام في الرجال والنساء، وقيل: هو خاص للرجال؛ لأن المقصود بذلك إنزالهن منزلة أمهاتهم في الحرمة حيث يتوقع الحل والحل غير متوقع بين النساء، فلا يحجب بينهن بحرمة، وقد روي أن امرأة قالت لعائشة: يا أماه، فقالت: (لست لك بأم إنما أنا أم رجالكم)284 قال ابن العربي «وهو الصحيح»285.
ومن وطئهن النبي صلى الله عليه وسلم بملك اليمين لسن من أمهات المؤمنين، حيث تذكر كتب السير أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له جاريتان يتسرى بهن، أي: يطؤهن بملك اليمين، وهاتان الجاريتان هما مارية القبطية، وريحانة بنت شمعون، أما مارية فقد كانت مهداة من المقوقس صاحب الإسكندرية (عظيم مصر) إلى رسول الله فنكحها الرسول بملك اليمين، فولدت له إبراهيم، فأصبحت أم ولد، وكانت قد أسلمت رضي الله عنها، توفيت سنة ١٦ هـ، أما ريحانة فقد كانت من بني قريظة، وقعت في السبي فأسلمت، وكانت من سراري النبي صلى الله عليه وسلم، وهاتان الجاريتان ليستا من أمهات المؤمنين، فأمهات المؤمنين زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء لسن من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، بل من السراري، وهؤلاء وطئهن النبي صلى الله عليه وسلم بملك اليمين، وهؤلاء وطئهن النبي صلى الله عليه وسلم بعقد زواج.
فيكون تعريف أم المؤمنين: أنها كل امرأة عقد عليها النبي صلى الله عليه وسلم، ودخل بها، وإن طلقها بعد ذلك على الراجح، فإن طلقت قبل الدخول لا يطلق عليها لقب أم المؤمنين كالكلبية التي قالت: أعوذ بالله منك، فقال لها: (لقد استعذت بمعاذ الحقي بأهلك)286 فقيل: أنه تزوجها عكرمة بن أبي جهل في خلافة الصديق، أو خلافة عمر، فهم برجمها، فقيل له: أنه لم يدخل بها: فخلى عنها.
وهل من خصوصياته في النكاح الزواج بالصغيرة؟
حكى ابن حزم عن ابن شبرمة أن الأب لا يزوج ابنته الصغيرة حتى تبلغ وتأذن، وزعم أن تزوج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وهي بنت ست سنين كان من خصائصه287 والأصل عدم الخصوصية، ومن أدعى الخصوصية، فعليه بالدليل.
موضوعات ذات صلة: |
الإحصان، البنوة، الرجولة، الزنا، الفواحش، النساء |
1 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٥/٤٧٥، مجمل اللغة، ابن فارس ١/٨٨٤.
2 انظر: تاج العروس، الزبيدي ٧/١٩٥.
3 انظر: الصحاح، الجوهري ١/٤١٣، لسان العرب، ابن منظور ٢/٦٢٦.
4 التعريفات، الجرجاني ص٢٤٦.
5 التوقيف على مهمات التعاريف، المناوي ص٣٢٠.
6 مغني المحتاج، الشربيني ٣/١٢٣.
7 من قضايا الأسرة في التشريع الإسلامي، محمد دسوقي ص ١٥.
8 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبدالباقي ص ٧١٨.
9 انظر: الوجوه والنظائر، الدامغاني ص ٤٣٦، نزهة الأعين النواظر، ابن الجوزي ص ٥٩١-٥٩٢.
10 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس، ٣/٣٥.
11 انظر: كنز الدقائق، النسفي ٢/١٧٤ مع شرحه النهر الفائق.
12 انظر: الأحوال الشخصية، أبو زهرة، ص١٧.
13 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٦/١٢٢.
14 انظر: الصحاح، الجوهري ١/٨١، شمس العلوم، نشوان الحميرى ١١/٧٠٢٩.
15 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٤/٨٦.
16 انظر: الصحاح، الجوهري ٢/٥١٠.
17 التوقيف على مهمات التعاريف، المناوي ص٢٤٤، المفردات، الراغب الأصفهاني ص٥٧٧.
18 التعريفات، الجرجاني ص١٥٣.
19 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٤/٤٦٨.
20 انظر: التحرير والتنوير ٢٩/٤٠٧.
21 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٩/٣٢٧.
22 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب من طلب الولد للجهاد، رقم ٢٨١٩.
23 انظر: التحرير والتنوير ١٣/١٦٢.
24 المصدر السابق ١/٢٥٤.
25 التحرير والتنوير ١/٢٥٤.
26 البحر المديد، ابن عجيبة ٣/٣٦.
27 التحرير والتنوير ١/٢٢٥.
28 أضواء البيان ٧/٥٠.
29 البحر المديد ٣/٣٦.
30 انظر: صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب طلب الولد ٥/٢٠٠.
31 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، رقم ٤٣١٠.
32 أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب النكاح، باب ما جاء في فضل النكاح، رقم ١٨٤٦.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم ٦٨٠٧.
33 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : (من استطاع منكم الباءة فليتزوج)، رقم ٤٧٧٨، ومسلم في صحيحه، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، رقم ٣٤٦٤.
34 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، رقم ٥٠٦٣، ومسلم في صحيحه، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، رقم ١٤٠١.
35 في رواية: الحناء بالحاء المهملة والنون المشددة وهذه الرواية غير صحيحة ولعلها تصحيف، لأنه يحرم على الرجال خضاب اليد والرجل تشبهًا بالنساء، وأما خضاب الشعر به فلم يكن قبل نبينا عليه الصلاة والسلام، فلا يصح إسناده إلى المرسلين. انتهى ما في المرقاة.
36 أخرجه أحمد في مسنده، ٣٨/٥٥٤، رقم ٢٣٥٨١، والترمذي في سننه، أبواب النكاح، باب ما جاء في فضل التزويج، رقم ١٠٨٠.
وحسنه الألباني في تعليقه مشكاة المصابيح، ١/١٢٢ ، رقم ٣٨٢.
37 التيسير بشرح الجامع الصغير، المناوي ١/٢٧٥.
38 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : (من استطاع منكم الباءة فليتزوج) رقم ٤٧٧٨، ومسلم في صحيحه، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، رقم ٣٤٦٤.
39 غرائب القرآن، النيسابوري ٢/٣٤٥.
40 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، رقم ٥٠٦٣، ومسلم في صحيحه، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، رقم ١٤٠١.
41 انظر: شرح صحيح مسلم، النووي ٩/١٧٣.
42 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : (من استطاع منكم الباءة فليتزوج)، رقم ٤٧٧٨، ومسلم في صحيحه، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، رقم ٣٤٦٤.
43 هذه قراءة ابن أبي عبلة، انظر: المحرر الوجيز ٢/٧٠.
44 المحرر الوجيز ٢/٧١.
45 المصدر السابق.
46 انظر: غرائب القرآن، النيسابوري ٢/٣٤٥.
47 انظر: جامع البيان، الطبري ٧/٥٤٢.
48 التحرير والتنوير ١/٨٨٦.
49 انظر: روح المعاني، الألوسي ٣/٤١١.
50 انظر: غرائب القرآن، النيسابوري ٢/٣٤٦.
51 نظر: التحرير والتنوير ١٤/٢١٨.
52 المصدر السابق.
53 المصدر السابق.
54 البيت منسوبة للبهراني في شرح نهج البلاغة ١٩/٤١٦. وأثبتنا ما كتبه صاحب الأصل، قال الجاحظ: أصدقها الخمر لطيب ريحها، والغزال، لأنه من مراكب الجن.
55 التحرير والتنوير ٢١/٧٢.
56 اللباب في علوم الكتاب ١٥/٣٩٦.
57 مدارك التنزيل، النسفي ٢/٦٩٥.
58 التحرير والتنوير ٢١/٧٢.
59 انظر: المصدر السابق ١/٦٤٤.
60 التحرير والتنوير ٢١/٧٢.
61 في ظلال القرآن ٦/٣٥٩٥.
62 أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، ٢/٦١، من دعاء عمر.
وصححه الألباني في إرواء الغليل ٢/١٧٠.
63 جامع البيان، الطبري ١٧/٢٥٨.
64 ديوان الراعي النميري ١/٥٢.
65 انظر: أخبار أبي القاسم الزجاجي ١/٣ ، نثر الدر ٣/٣٠.
66 انظر: أمالي المرزوقي ١/٦٥، الجليس الصالح والأنيس الناصح ١/٣٧١.
67 النكت والعيون، الماوردي ٣/٢٠٢.
68 جامع البيان، الطبري ١٧/٢٥٨.
69 لباب التأويل، الخازن ٣/٨٩.
70 مفاتيح الغيب، ٢٠/٢٤٥.
71 التحرير والتنوير ١٤/٢١٨.
72 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب خلق آدم، ٤/١٣٣، رقم ٣٣٣١، ومسلم في صحيحه، كتاب الرضاع، باب الوصية بالنساء، رقم ٣٧١٩.
73 غرائب القرآن، النيسابوري ٢/٣٤٠.
74 التحرير والتنوير ٤/٢١٥.
75 المحرر الوجيز، ابن عطية ٢/٤.
76 التحرير والتنوير ٤/٢١٧.
77 لطائف الإشارات، القشيري ١/٣١٢.
78 غرائب القرآن، النيسابوري ٢/٣٣٩.
79 البحر المحيط ٤/٧٧.
80 أحكام القرآن، الجصاص ٣/٤٨.
81 الوسيط، سيد طنطاوي ٢/٩٠٠.
82 التحرير والتنوير ١/٩١٩.
83 المصدر السابق.
84 المصدر السابق.
85 انظر: المصدر السابق.
86 اللباب في علوم الكتاب ٥/٩١.
87 انظر: تفسير السمرقندي ١/٣٧١.
88 روح المعاني، الألوسي ٣/٤٨٦.
89 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٥/٩٢.
90 انظر: روح المعاني، الألوسي ٣/٤٨٦.
91 إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٢/١٥٩.
92 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، رقم ٣٠٠٩.
93 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٢/٢٤٥.
94 اللباب في علوم الكتاب ٥/٩٢.
95 البحر المحيط ٤/٧٨.
96 المصدر السابق.
97 التحرير والتنوير ١/٩١٩.
98 انظر: الوسيط، سيد طنطاوي ١/٨٩٩.
99 انظر: السابق ١/٩٠١.
100 أضواء البيان ٥/٢٠.
وانظر: الإجماع، ابن المنذر ص٢٢.
101 التحرير والتنوير ١/٩٢٠.
102 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٥/١٠٣.
103 أضواء البيان ٣/٢٨٣.
104 الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني ٥/١٠٦.
105 التحرير والتنوير ١/٩٢١.
106 التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي ١/٢٤٣.
107 الإجماع، ابن المنذر ص٢٢.
108 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب الأحكام، باب فيمن تزوج امرأة أبيه، رقم ١٣٦٢، وابن ماجه في سننه، كتاب الحدود، باب من تزوج امرأة أبيه من بعده، رقم ٢٦٠٧.
وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، رقم ٢٦٠٧، والإرواء، رقم ٢٣٥١.
109 مجموع فتاوى ابن تيمية ٢٠/٩٢.
110 انظر: التحرير والتنوير ١/٩٢١.
111 الكشاف ١/٣٩٤.
112 اللباب في علوم الكتاب ٥/١٠٣.
113 المصدر السابق ٥/١٠٤.
114 المصدر السابق.
115 المصدر السابق.
116 التحرير والتنوير ١/٩٢١.
117 المحرر الوجيز ٢/٩٨.
118 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنقبة فاطمة عليها السلام، رقم ٣٥١٠، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل فاطمة بنت النبي عليها الصلاة والسلام، رقم ٦٤٦١.
119 اللباب في علوم الكتاب ٥/١٠٤.
120 انظر: التحرير والتنوير ١/٩٢١.
121 انظر: المصدر السابق ١/٩٢٢.
122 الوسيط، سيد طنطاوي ١/٩٠٤.
123 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٦/٧٨.
124 في المجموع ١٦/٢٢٢ أن مذهب الشافعي الكراهة.
125 انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية ٣٢/١٣٧.
126 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٢/٢٤٨.
127 لباب التأويل، الخازن ٢/٦٠.
128 أنوار التنزيل، البيضاوي ١/١٦٥.
129 لباب التأويل، الخازن ٢/٦٠.
130 تفسير الجلالين ١/١٠٢.
131 لباب التأويل، الخازن ٢/٦٠.
132 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الشهادات، باب الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض والموت القديم، رقم ٣١٠٥، ومسلم في صحيحه، كتاب الرضاع، باب تحريم ابنة الأخ من الرضاعة، رقم ١٤٤٤.
133 البحر المديد ١/٤١١.
134 لباب التأويل، الخازن ٢/٦٠.
135 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الشهادات، باب الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض والموت القديم، رقم ٢٥٠٤، ومسلم في صحيحه، كتاب الرضاع، باب إنما الرضاعة من المجاعة، رقم ١٤٥٥.
136 التحرير والتنوير ١/٩٢١.
137 أحكام القرآن، الكيا الهراسي ٢/٨٦.
138 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الرضاع، باب التحريم بخمس رضعات، رقم ٣٦٧٠.
139 أيسر التفاسير ١/٤٥٦.
140 أنوار التنزيل، البيضاوي ١/١٦٥.
141 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٢/٢٤٩.
142 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النفقات، باب المراضع من المواليات وغيرهن، رقم ٥٠٥٧.
143 المحرر الوجيز ٢/٩٨.
144 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٥/١٢٩.
145 الفقه الإسلامي وأدلته ٩/١٢٣.
146 التحرير والتنوير ١/٩٢٤.
147 انظر: المصدر السابق.
148 المصدر السابق.
149 البحر المديد ١/٤١١.
150 التحرير والتنوير ١/٩٢٤.
151 انظر: المصدر السابق ١/٩٢٥.
152 المصدر السابق.
153 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها، رقم ٤٨٢٠، ومسلم في صحيحه، كتاب النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح، رقم ١٤٠٨.
154 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الشهادات، باب الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض والموت القديم، رقم ٣١٠٥، ومسلم في صحيحه، كتاب الرضاع، باب تحريم ابنة الأخ من الرضاعة، رقم ١٤٤٤.
155 أحكام القرآن، الكيا الهراسي ٢/٨٦.
156 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة النور، ٥/٣٢٨، ٣١٧٧.
وصححه الألباني في غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام ٢٢٣.
157 التحرير والتنوير ١/٢٨٦٨.
158 مفاتيح الغيب، الرازي ١١/٢٤٠.
159 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٦/٩.
160 أنوار التنزيل، البيضاوي ١/١٧٣.
161 فتح القدير ٤/٨.
162 الفتاوى الكبرى ٣/١٧٦.
163 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٦/٩.
164 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الطلاق، باب إذا طلقها ثلاثًا ثم تزوجت بعد العدة زوجًا غيره فلم يمسها، رقم ٥٠١١، ومسلم في صحيحه، كتاب النكاح، باب لا تحل المطلقة ثلاثًا لمطلقها حتى تنكح زوجًا، رقم ٣٥٩٩.
165 الصحاح، الجوهري ٢/٤٣٦.
166 إغاثة اللهفان ١/٦٥.
167 انظر: أضواء البيان ٢/١١٨ بتصرف.
168 المصدر السابق.
169 انظر: التحرير والتنوير ١/٦١٨.
170 انظر: معالم التنزيل، البغوي ١/٢٥٥.
171 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ١/٥٨٢.
172 الكشاف، الزمخشري ١/٢٦٤.
173 النكت والعيون، الماوردي ١/٢٨١.
174 تفسير القرآن الكريم، ابن عثيمين ٥/٥٩.
175 التحرير والتنوير ١/٦١٩.
176 معاني القرآن وإعرابه، الزجاج ١/٢٩٥.
177 انظر: التحرير والتنوير ١/٦٢٠.
178 المصدر السابق ١/٦١٩.
179 الجامع لأحكام القرآن ٣/٦٩.
180 تفسير الراغب الأصفهاني ١/٤٥٤.
181 الكشاف ١/١٩٥.
182 انظر: التحرير والتنوير ١/٦٢٠.
183 البحر المحيط ٢/٤١٩.
184 انظر: تيسير الكريم الرحمن ص٩٩.
185 التحرير والتنوير ١/٦٢٠.
186 تفسير القرآن الكريم، ابن عثيمين ٥/٥٩.
187 انظر: في ظلال القرآن ٢/٩١.
188 اللباب في علوم الكتاب ٥/١٢٩.
189 في ظلال القرآن ٢/٩١.
190 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٥/١٢٧.
191 البحر المديد ١/٤١٤.
192 التحرير والتنوير ١/٩٢٩.
193 اللباب في علوم الكتاب ٥/١٢٨.
194 روح البيان، حقي ٢/٤٤١.
195 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، رقم ٥٧٨٢، ومسلم في صحيحه، كتاب الزهد والرقائق، باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، رقم ٧٦٩٠.
196 التحرير والتنوير ١/٩٢٩.
197 روح البيان، حقي ٢/٤٤١.
198 أضواء البيان ٥/٣٥.
199 المصدر السابق.
200 زاد المعاد ٥/١١٨.
201 البيت في خريدة القصر وجريدة العصر ٣/٣٤ غير منسوبة لقائل.
202 روح البيان، حقي ٢/٤٤١.
203 البحر المحيط ٤/٩٦.
204 انظر: التحرير والتنوير ١/٩٣٠.
205 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العتق، باب كراهية التطاول على الرقيق، رقم ٢٤١٤، ومسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والأدب، باب حكم إطلاق لفظة العبد والأمة والمولى والسيد، رقم ٦٠١٤.
206 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العتق، باب استعانة المكاتب وسؤاله الناس، رقم ٢٤٢٤، ومسلم في صحيحه، كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق، رقم ٣٨٥٢.
207 التحرير والتنوير ١/٩٣٠.
208 أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب النكاح، باب تزويج العبد بغير إذن سيده، ١/٦٠٣، رقم ١٩٦٠.
وحسنه الألباني في صحيح الجامع، ١/٥٣٠، رقم ٢٧٣٤.
209 المدونة ٥/٤٠٢.
210 التحرير والتنوير ١/٩٣١.
211 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب علامة الإيمان حب الأنصار، رقم ١٨، ومسلم في الحدود، باب الحدود كفارات لأهلها، رقم ١٧٠٩.
212 النكت والعيون، الماوردي ٤/٩٨.
213 المحرر الوجيز، ابن عطية ٤/١٨٠.
214 البيت في الجليس الصالح والأنيس الناصح ١/٤١٨ غير منسوب لقائل.
215 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٢/٢٣٩.
216 التحرير والتنوير ١٨/٢١٧.
217 البحر المحيط ٨/٣٧.
218 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٢٣/٣٦٨.
219 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب فضل الجهاد، باب ما جاء في المجاهد والناكح والمكتاب، ٤/١٨٤، رقم ١٦٥٥.
قال الترمذي: حديث حسن.
وحسنه الألباني في صحيح الجامع، ١/٥٨٥، رقم ٣٠٥٠.
220 في ظلال القرآن ٤/٢٥١٥.
221 محاسن التأويل، القاسمي ٧/٣٨١.
222 انظر: المحرر الوجيز، ابن عطية ٤/١٨٠.
223 التحرير والتنوير ١٨/٢١٧.
224 تفسير المراغي ١٨/١٠٣.
225 انظر: النكت والعيون، الماوردي ٥/٥٢٠.
226 البحر المديد ٦/٣٠٥.
227 انظر: تتمة أضواء البيان، عطية محمد سالم ٨/١٣٨.
228 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٩/٥٢٣.
229 انظر: تفسير السمعاني ٥/٤١٨ بتصرف.
230 صفوة التفاسير ٣/٣٤٤.
231 التحرير والتنوير ٢٨/١٥٦.
232 انظر: المصدر السابق ٢٨/١٥٥ بتصرف.
233 اللباب في علوم الكتاب ١٥/٢٣٩.
234 التحرير والتنوير ٢٨/١٥٨.
235 تفسير المراغي ٢٨/٧٣.
236 أضواء البيان ٨/١٠١.
237 انظر: التفسير الوسيط، طنطاوي ١٤/٣٤٠.
238 تيسير الكريم الرحمن ص ٨٥٧.
239 أنوار التنزيل، البيضاوي ١/٣٨٠.
240 انظر: الوسيط، سيد طنطاوي ١/٣٤٦ بتصرف.
241 التحرير والتنوير ١/٣٧٨.
242 المصدر السابق.
243 المصدر السابق.
244 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٦/٤٤٢.
245 انظر: التحرير والتنوير ٤/٢٤١.
246 ديوان النابغة الذبياني ١/٤٥.
247 التحرير والتنوير ١/٣٧٨.
248 الكشف والبيان، الثعلبي ١١/١٥٩.
249 التحرير والتنوير ١/٣٣٧٨.
250 التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي ٢/٣٧٢.
251 غرائب التفسير وعجائب التأويل ٢/٩٢٠.
252 التحرير والتنوير ١/٣٣٧.
253 المصدر السابق ١/٣٣٦.
254 تيسير الكريم الرحمن ص٦٦٥.
255 المصدر السابق.
256 روح المعاني، الألوسي ١٦/١٢٨.
257 السراج المنير ١/٣٣٨٢.
258 تفسير السمرقندي ٣/٤١٠.
259 في ظلال القرآن ٦/٨٨.
260 التحرير والتنوير ١/٣٦٣.
261 البحر المحيط ٩/١٥٦.
262 معالم التنزيل، البغوي ٦/٣٥٦.
263 الكشف والبيان، الثعلبي ١١/١٥٠.
264 التحرير والتنوير ١/٣٣٦.
265 أضواء البيان ٣٦/١٠٧.
266 التحرير والتنوير ١/٣٣٦.
267 المصدر السابق.
268 مفاتيح الغيب، الرازي ١٢/٣٥٥.
269 انظر: تيسير الكريم الرحمن ص٦٦٥.
270 أضواء البيان ٨/٣٩.
271 النكت والعيون، الماوردي ٤/٤٠٨.
272 انظر: التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي ٢/١٥٥.
273 مراتب الإجماع ص ٦٣.
274 تفسير الإمام الشافعي ٣/١٢١٤.
275 روح البيان ٧/١٣٩.
276 أخرجه البيهقي في سننه الكبرى، رقم ١٣٢٠٠.
277 تفسير السمرقندي ٣/٧١.
278 التحرير والتنوير ٢٢/٩٥.
279 أنوار التنزيل، البيضاوي ٤/٢٣٧.
280 التحرير والتنوير ٢٢/٩٥.
281 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الطلاق، باب من طلق وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق، رقم ٤٩٥٥.
282 التحرير والتنوير ٢٢/٩٥.
283 روح البيان ٧/١٣٩.
284 أخرجه البيهقي في سننه الكبرى، رقم ١٣٢٠٠.
285 أحكام القرآن، ابن العربي ٦/٣١١.
286 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الطلاق، باب من طلق وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق، رقم ٤٩٥٥.
287 المحلى ٩/٤٥٩.