النصارى
أولًا: المعنى اللغوي:
مفردها نصراني، يقال: نصرته على عدوه ونصرته منه نصرًا:أعنته وقويته، والفاعل ناصر ونصير وجمعه أنصار، والنصرة بالضم اسم منه، وتناصر القوم مناصرة:نصر بعضهم بعضًا، وانتصرت من زيد انتقمت منه، واستنصرته طلبت نصرته، ونصارى:هم من يتبع دين المسيح، فيقال:رجلٌ نصراني، ثم أطلق النصراني على كل من تعبد بهذا الدين، وربما قيل:نصران ونصرانة، ونصرى وناصرة ونصورية:قرية بالشام، والنصارى منسوبون إليها، والتنصر:الدخول في النصرانية، ونصره:جعله نصرانيًا1.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
لا يخرج معناه الاصطلاحي عن معناه اللغوي، فالمقصود بالنصارى اصطلاحًا:هم أمة المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته عليه الصلاة والسلام 2.
قال الراغب الأصفهاني رحمه الله: «والنصارى قيل: سموا بذلك لقوله تعالى: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ) [الصف:١٤]. وقيل: سموا بذلك انتسابًا إلى قرية يقال لها:نصرانة، فيقال:نصرانيٌ، وجمعه نصارى.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ) [البقرة:١١٣]»3.
وردت مادة (نصر) في القرآن الكريم(١٥٨) مرة 4، يخص موضوع البحث منها (١٥) مرة.
والصيغ التي وردت، هي:
الصيغة |
عدد المرات |
المثال |
مفرد |
١ |
(ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) [آل عمران:٦٧] |
جمع |
١٤ |
(ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [التوبة:٣٠] |
النصارى هم أتباع عيسى عليه السلام، قيل: سموا بذلك لنصرتهم له وتناصرهم فيما بينهم، كما ورد في قوله تعالى: (ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ) [الصف:١٤].
وهذا يخص المؤمنين منهم في أول الأمر، ثم أطلق عليهم كلهم على وجه التغليب5.
أهل الكتاب:
أهل الكتاب لغة:
أهل الرجل عشيرته وذوو قرباه، وأهل المذهب:من يدين به، وأهل الإسلام:من يدين به، وأهل الأمر:ولاته، وأهل البيت:سكانه، وأهل الرجل:زوجه وأخص الناس به، وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم: أزواجه وبناته وصهره6.
والكتاب: كتبه كتبًا وكتابًا أي: خطه، وهو ما يكتب فيه، والدواة والتوراة والصحيفة والفرض والحكم والقدر7.
ويراد به أيضًا الكتب السماوية، وحيثما ذكر في القرآن الكريم التركيب الإضافي (ﯦ ﯧ) فإنما أريد بالكتاب التوراة والإنجيل، وكذلك إذا ذكر التركيب الإسنادي (ﯰ ﯱ) أو (آتيناه الكتاب)8.
وأهل الكتاب:«من يجتمعون حوله، والمراد اليهود والنصارى»9.
أهل الكتاب اصطلاحًا:
هم اليهود والنصارى، ومن دان دينهم بفرقهم المختلفة، ومن عدا هؤلاء من الكفار فليس من أهل الكتاب؛ بدليل قول الله تعالى: (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ)[الأنعام:١٥٦]10.
قال الشهرستاني:«الخارجون عن الملة الحنيفية والشريعة الإسلامية، ممن يقول بشريعة وأحكام وحدود وأعلام، وهم قد انقسموا إلى من له كتاب محقق مثل التوراة والإنجيل، وعن هذا يخاطبهم التنزيل بأهل الكتاب، وإلى من له شبهة كتاب، مثل:المجوس»11.
الصلة بين أهل الكتاب والنصارى:
ومن معاني اللغة والاصطلاح يمكن تعريف أهل الكتاب:بأنهم أهل الديانات التي لها كتاب سماوي من يهود وهم أهل التوراة، ونصارى وهم أهل الإنجيل، فإذًا النصارى بعض أهل الكتاب.
الحواريون:
الحواريون لغة:
جمع حواري:أي صاحب وناصر ومؤيد، وحواري الرجل:خاصته، ومنه الزبير حواري النبي صلى الله عليه وسلم وقال الزجاج الحواريون:«خلصان الأنبياء-عليهم السلام-»12، أي:المخلصون، وشاع استعماله في المخلصين للأنبياء عليهم الصلاة والسلام13.
وقيل:سمي الحواريون:«لبياض ثيابهم، ويطلق الحواري على الخالص، والخليل، والمخلص، والناصح، والخصيص والمجاهد، والمفضل، ومن يصحب الكبير، ومن يصلح لخلافة كبيرة»14.
الحواريون اصطلاحًا:
«هم صفوة الأنبياء الذي خلصوا وأخلصوا في التصديق بهم وفي نصرتهم»15.
قال الراغب الأصفهاني«الحواريون أنصار عيسى عليه السلام »16.
الصلة بين الحواريون والنصارى:
الحواريون هم أصحاب عيسى ابن مريم-عليهما السلام-وأنصاره، كما جاءت تسميتهم في قوله تعالى: (ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ) [الصف:١٤].
بنو إسرائيل:
إسرائيل اصطلاحًا:
لقب أطلق على يعقوب بن إسحاق عليهما السلام.
قال تعالى: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ) [آل عمران:٩٣].
وبنو إسرائيل:ذرية يعقوب عليه السلام وكانوا اثني عشر سبطًا.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ) [البقرة:٢١١]17.
قال ابن عباس رضي الله عنهما في كلمة إسرائيل:معناه:(عبدالله)، لأن إسرا بمعنى:عبد، وإيل:اسم الله، أي:أنه مركب من كلمتين:إسرا، وإيل، كما يقولون:بيت إيل18.
الصلة بين بني إسرائيل والنصارى:
أن النصارى هم من بني إسرائيل ذرية يعقوب عليه السلام.
اقتران النصارى باليهود في القرآن
تحدث القرآن الكريم عن اليهود والنصارى في آيات عديدة، ومعظمها يقرن فيها اليهود مع النصارى على سبيل الخبر أو الذم أو الثناء أو غير ذلك، ويبدو أن هذا الاقتران له حكمة أو أسباب كثيرة، منها:
والمتأمل في القرآن الكريم يجد كثيرًا من الصفات المشتركة بين اليهود والنصارى.
أولًا: إلوهية عيسى ابن مريم وأمه عليهما السلام:
لا شك أن وحدانية الله تعالى هي أصل ديانة أهل الكتاب، وما من نبي أو رسول إلا كانت دعوته الأولى لقومه هي وحدانية الله تعالى وإفراده بالعبادة، إلا أن النصارى زعموا مع الله تعالى الشريك، حيث جعلوا من المسيح وأمه عليهما السلام آلهة تعبد من دون الله تعالى، ورغم أن هذه العقيدة لا أصل لها إلا في الديانات الوثنية السابقة لدين النصارى إلا أنهم ساروا على ما سار عليه أصحاب تلك الأديان الوثنية من قبلهم حين حرفوا وبدلوا وضيعوا أصول دينهم الصحيح واعتقدوا بألوهية المسيح وأمه عليهما السلام الذي جاء يدعوهم إلى وحدانية الله تعالى شأنه شأن الأنبياء والرسل عليهم السلام الذين من قبله وبعده.
وكان منشأ هذه العقيدة في أول مجمع للنصارى سمي مجمع نيقية سنة ٣٢٥،19 الذي أقر بألوهية المسيح عليه السلام وفرضت هذه العقيدة على الناس بقوة السيف والسلطان فأصبحت مسألة ألوهية المسيح عليه السلام بعد ذلك عقيدة مترسخة عند النصارى إلى وقتنا الحاضر، واحتجوا بشبهات ونصوص من كتبهم المحرفة مثل صفات المسيح عليه السلام ومعجزاته وغير ذلك.
إلا أن القرآن الكريم رد على كل دعوة باطلة ادعتها النصارى في ألوهية المسيح وأمه عليهما السلام في أكثر من آية.
قال تعالى: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ) [المائدة:١٧].
قال ابن كثير رحمه الله: «يقول تعالى مخبرًا وحاكمًا بكفر النصارى في ادعائهم في المسيح ابن مريم، وهو عبدٌ من عباد الله، وخلق من خلقه أنه هو الله، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا، ثم قال مخبرًا عن قدرته على الأشياء وكونها تحت قهره وسلطانه: (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) أي: لو أراد ذلك فمن ذا الذي كان يمنعه؟ أو من ذا الذي يقدر على صرفه عن ذلك؟، ثم قال: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) أي: جميع الموجودات ملكه وخلقه، وهو القادر على ما يشاء، لا يسأل عما يفعل، لقدرته وسلطانه، وعدله وعظمته، وهذا رد على النصارى عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة»20.
فالآية الكريمة تدل على بشرية المسيح وأمه عليهما السلام وتبين عجز المسيح ابن مريم وعدم قدرته دفع الهلاك عن نفسه ولا عن أمه عليهما السلام، والعجز ضد القدرة وهو ليس من صفات الإله.
وقال تعالى: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) [المائدة:٧٢].
فهذا نص صريح يبين أن عيسى عليه السلام ما دعا إلا إلى الوحدانية ومبينًا لهم عاقبة الشرك بالله تعالى.
يقول ابن كثير رحمة الله: «يقول تعالى حاكما بتكفير فرق النصارى، من الملكية21 واليعقوبية 22 والنسطورية 23، ممن قال منهم بأن المسيح هو الله، تعالى الله عن قولهم وتنزه وتقدس علوا كبيرا، هذا وقد تقدم إليهم المسيح بأنه عبد الله ورسوله، وكان أول كلمة نطق بها وهو صغير في المهد أن قال: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [مريم:٣٠].
ولم يقل: أنا الله، ولا ابن الله إلى أن قال: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [مريم:٣٦]»24.
قال الزمخشري رحمه الله: لم يفرق عيسى عليه الصلاة والسلام بينه وبينهم في أنه عبد مربوب كمثلهم، وهو احتجاج على النصارى إنه من يشرك بالله في عبادته، أو فيما هو مختص به من صفاته أو أفعاله فقد حرم الله عليه الجنة التي هي دار الموحدين، أي حرمه دخولها ومنعه منه، كما يمنع المحرم من المحرم عليه، (ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) من كلام الله، على أنهم ظلموا وعدلوا عن سبيل الحق فيما يقولون على عيسى عليه السلام، فلذلك لم يساعدهم عليه ولم ينصر قولهم هذا بل رده وأنكره، وإن كانوا معظمين له بذلك ورافعين من مقداره25.
وقال تعالى: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) [المائدة:١١٦].
قال الإمام الرازي رحمه الله: «أن الله تعالى لما سأل عيسى: أنك هل قلت كذا؟ لم يقل عيسى بأني قلت أو ما قلت، بل قال: ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق، وهذا ليس بحق ينتج أنه ما يكون لي أن أقول هذا الكلام، ولما بين أنه ليس له أن يقول هذا الكلام شرع في بيان أنه هل وقع هذا القول منه أم لا، فلم يقل بأني ما قلت هذا الكلام لأن هذا يجري مجرى دعوى الطهارة والنزاهة، والمقام مقام الخضوع والتواضع، ولم يقل بأني قلته بل، فوض ذلك إلى علمه المحيط بالكل، فقال: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) وهذا مبالغة في الأدب وفي إظهار الذل والمسكنة في حضرة الجلال وتفويض الأمور بالكلية إلى الحق سبحانه»26.
ويقول ابن كثير رحمه الله: «وهذا تهديد للنصارى وتوبيخ وتقريع على رؤوس الأشهاد، هكذا قاله قتادة وغيره، واستدل قتادة على ذلك بقوله تعالى: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ) [المائدة:١١٩]»27.
قال ابن عباس رضي الله عنه: «هذا القول يكون من الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق، ليرى الكفار تبرئة عيسى مما نسبوه إليه، ويعلمون أنهم كانوا على باطل»28.
قال القشيري رحمه الله: «المراد من هذا السؤال إظهار براءة ساحته عما نسب إليه من الدعاء إلى القول بالتثليث، فهذا ليس خطاب تعنيف بل هو سؤال تشريف»29.
ومن خلال الآيات السابقة وأقوال بعض أهل التفسير فيها يتبين أن القرآن الكريم أثبت كفر من اعتقد بألوهية المسيح وأمه عليهما السلام، وبين براءتهما مما نسب إليهما زورًا وكذبًا وافتراءً، وبين أن دعوة عيسى عليه السلام لقومه كانت دعوة خالصة إلى عبادة الله تعالى ونبذ الشركاء وأنه حذر قومه من الوقوع بالشرك مع تأكيد بشريته وبشرية أمه عليهما السلام في العجز عن دفع الهلاك عن أنفسهما.
ويذكر ابن هشام في سيرته عن وفد نجران الذين جاؤوا يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم في شأن عيسى عليه السلام ما خلاصته: (فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو حارثة بن علقمة أسقفهم، وعبد المسيح أميرهم، والسيد الأيهم عالمهم، وكانوا على دين ملك الروم مع اختلاف أمرهم، يقولون عن عيسى: هو الله، ويقولون: هو ولد الله، ويقولون: هو ثالث ثلاثة، فلما كلمه الحبران، قال لهما رسول الله: أسلما، قالا: قد أسلمنا قبلك، قال: كذبتما، يمنعكم من الإسلام ادعاؤكما لله ولدًا، وعبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير) 30.
وهذا يدل على أن هؤلاء النصارى من نجران كانوا يعتقدون بألوهية عيسى عليه السلام، وأن النبي صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى الإسلام ونبذ تلك الضلالات التي يعتقدوها في عيسى عليه السلام، ومع ذلك فقد كذبوا وكفروا بما جاءهم من الحق.
ثانيًا: بنوة المسيح عليه السلام:
أشارت بعض الآيات الكريمة إلى دعوى القائلين من النصارى ببنوة عيسى عليه السلام.
ومن هذه الآيات قوله تعالى: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [التوبة:٣٠].
قال الإمام الرازي رحمه الله: «وأما حكاية الله عن النصارى أنهم يقولون: المسيح ابن الله، فهي ظاهرة لكن فيها إشكال قوي، وهي أنا نقطع أن المسيح صلوات الله عليه وأصحابه كانوا مبرئين من دعوة الناس إلى الأبوة والبنوة، فإن هذا أفحش أنواع الكفر، فكيف يليق بأكابر الأنبياء عليهم السلام؟!
وإذا كان الأمر كذلك فكيف يعقل إطباق جملة محبي عيسى من النصارى على هذا الكفر، ومن الذي وضع هذا المذهب الفاسد، وكيف قدر على نسبته إلى المسيح عليه السلام؟ فقال المفسرون في الجواب على هذا السؤال: إن أتباع عيسى عليه الصلاة والسلام كانوا على الحق بعد رفع عيسى حتى وقعت حرب بينهم وبين اليهود، وكان في اليهود رجل شجاع يقال له بولس قتل جمعا من أصحاب عيسى.
ثم قال لليهود: إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا والنار مصيرنا ونحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار، وإني أحتال فأضلهم، فعوقب فرسه وأظهر الندامة مما كان يصنع ووضع على رأسه التراب وقال: نوديت من السماء ليس لك توبة إلا أن تتنصر، وقد تبت فأدخله النصارى الكنيسة ومكث سنة لا يخرج وتعلم الإنجيل فصدقوه وأحبوه.
ثم مضى إلى بيت المقدس واستخلف عليهم رجلا اسمه نسطور، وعلمه أن عيسى ومريم والإله كانوا ثلاثة، وتوجه إلى الروم وعلمهم اللاهوت والناسوت، وقال: ما كان عيسى إنسانا ولا جسما ولكنه الله، وعلم رجلا آخر يقال له يعقوب ذلك، ثم دعا رجلا يقال له ملكا فقال له: إن الإله لم يزل ولا يزال عيسى.
ثم دعا لهؤلاء الثلاثة وقال لكل واحد منهم أنت خليفتي فادع الناس إلى إنجيلك، ولقد رأيت عيسى في المنام ورضي عني، وإني غدا أذبح نفسا لمرضاة عيسى، ثم دخل المذبح فذبح نفسه، ثم دعا كل واحد من هؤلاء الثلاثة الناس إلى قوله ومذهبه، فهذا هو السبب في وقوع هذا الكفر في طوائف النصارى31.
واختلف في سبب قولهم: (ابن الله) لذلك على قولين: أحدهما: أنه لما خلق من غير ذكر من البشر قالوا: إنه ابن الله، تعالى الله عن ذلك، الثاني: أنهم قالوا ذلك لأجل من أحياه من الموتى وأبرأه من المرضى32.
قال السمرقندي: «لأن المسيح كان يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله تعالى، فقالوا: لم يكن يفعل هذا إلا وهو ابن الله»33.
والمتأمل في هذه الدعوى الباطلة يرى بوضوح إن ادعاء بنوة عيسى عليه السلام بسبب طبيعة خلقه المخالفة للعادة من غير أب ليس بأعجب من خلق آدم عليه السلام من غير أب ولا أم، وأما معجزات عيسى عليه السلام فهي من جنس المعجزات التي أجراها الله على أيدي الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام من قبله، ولم تدل عند تلك الأمم على ألوهية أولئك الأنبياء والرسل الذين ظهرت على أيديهم المعجزات، فكذلك عيسى ابن مريم عليه السلام.
وعلى أية حال فإن الآية الكريمة أشارت إلى القائلين من النصارى بأن الله تعالى اتخذ عيسى عليه السلام ابنًا، إلا أن آياتٍ كثيرةً نقضت دعواهم وأبطلتها وردتها وبينت استحالة اتخاذ الله تعالى الولد سواء أكان عيسى عليه السلام أم غيره.
قال تعالى: (ﯸ ﯹ ﯺﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ) [الأنعام:١٠١].
وقال تعالى: (ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [المؤمنون:٩١].
وقال تعالى: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [مريم:٣٥].
ودلالة الآيات واضحة في استحالة أن يكون لله تعالى ولدٌ، فالكون كله خاضع إليه وعابد له جل وعلا.
قال تعالى: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ) [مريم:٩٣].
وهو المنفرد بخلق السموات والأرض وما بينهما، إذا أراد أمرًا يقول له كن فيكون، فليس له حاجة إلى الولد.
لذلك ينذر الله تعالى الذين يدعون لله تعالى الولد بقوله: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ) [الكهف:٤].
ووردت أيضًا عدة نصوص من السنة النبوية المطهرة تنفي دعوى النصارى في اتخاذ الله تعالى الولد، منها ما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: (كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني، ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي، فقوله لي ولد، فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا)34، وعلى هذا يتبين بطلان ادعائهم الولد لله تعالى.
ثالثًا: التثليث عند النصارى:
من المعلوم أن عقيدة التثليث هي أصل من أصول عقائد النصارى المنحرفة التي لا أصل لها إلا في الديانات الوثنية القديمة، ومع ذلك فالنصارى بفرقهم مجمعون على التثليث ويقولون: «إن الله جوهر واحد وله ثلاثة أقانيم، فيجعلون كل أقنوم إلها ويعنون بالأقانيم الوجود والحياة والعلم، وربما يعبرون عن الأقانيم بالأب والابن وروح القدس، فيعنون بالأب الوجود، وبالروح الحياة، وبالابن المسيح»35.
ولا تختلف عقيدة النصارى في التثليث عن عقيدة ألوهية المسيح وأمه عليهما السلام فكلاهما عقيدتان باطلتان فالأدلة التي أبطلت ألوهية المسيح وأمه عليهما السلام في القرآن الكريم هي نفسها التي تبطل دعواهم في التثليث، لأنهما جوهران من الأقانيم الثلاثة كما يزعمون، ومع ذلك فقد وردت آيتان كريمتان تنصان على بطلان عقيدة التثليث عند النصارى.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ) [النساء:١٧١].
والخطاب في الآية الكريمة وإن كان يشمل أهل الكتاب جميعا من يهود ونصارى، إلا أن النصارى هم المقصودون هنا قصدا أوليا، بدليل سياق الآية الكريمة، فقد ذكرت حججا تبطل ما زعمه النصارى في شأن عيسى عليه السلام36.
أي: ينهى الله تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء، وهذا كثير في النصارى، فإنهم تجاوزوا حد التصديق بعيسى عليه السلام حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله تعالى إياها، فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلها من دون الله يعبدونه كما يعبدونه، وهذا خطاب موجه إلى النصارى خاصة، وخوطبوا بعنوان أهل الكتاب تعريضا بأنهم خالفوا كتابهم37.
وقوله تعالى: (ﭰ ﭱ ﭲ): «يعني: ولا تقولوا الآلهة ثلاثة وذلك أن النصارى يقولون أب وابن وروح القدس، وقيل: إنهم يقولون إن الله بالجوهر ثلاثة أقانيم وذلك أنهم أثبتوا ذاتا موصوفة بصفات ثلاثة بدليل أنهم يجوزون على تلك الذات الحلول في عيسى وفي مريم فأثبتوا ذواتا متعددة ثلاثة، وهذا هو محض الكفر، فلهذا قال الله تعالى: (ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ)، يعني: يكون الانتهاء عن هذا القول خير لكم من القول بالتثليث»38.
ولذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الوقوع في الغلو والإطراء كما حدث مع طائفة من النصارى، فقد صح عن ابن عباس أنه سمع عمر رضي الله عنه، يقول على المنبر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تطروني، كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا عبد الله ورسوله)39.
أي: لا تجعلوني إلها من دون الله تعالى كما جعلت النصارى ابن مريم إلها من دون الله، وليس المقصود من الحديث تعظيمه وتوقيره، فهذا واجب على الأمة.
وقال تعالى: (ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [المائدة:٧٣].
ومعنى قولهم: «إن الله ثالث ثلاثة أن ما يعرفه الناس أنه الله هو مجموع ثلاثة أشياء، وأن المستحق للاسم هو أحد تلك الثلاثة الأشياء، وهذه الثلاثة قد عبروا عنها بالأقانيم وهي: أقنوم الوجود، وهو الذات المسمى الله، وسموه أيضا الأب وأقنوم العلم، وسموه أيضا الابن، وهو الذي اتحد بعيسى وصار بذلك عيسى إلها وأقنوم الحياة وسموه الروح القدس»40.
ويبين الإمام الرازي معنى التثليث في الآية الكريمة بقوله: «فهذا التثليث إما أن يكون لاعتقادهم وجود صفات ثلاثة، أو لاعتقادهم وجود ذوات ثلاثة، والأول باطل، لأن المفهوم من كونه تعالى عالما غير المفهوم من كونه قادرا ومن كونه حيا، وإذا كانت هذه المفهومات الثلاثة لا بد من الاعتراف بها، كان القول بإثبات صفات ثلاثة من ضرورات دين الإسلام، فكيف يمكن تكفير النصارى بسبب ذلك، ولما بطل ذلك علمنا أنه تعالى إنما كفرهم؛ لأنهم أثبتوا ذواتا ثلاثة قديمة مستقلة، ولذلك فإنهم جوزوا في أقنوم الكلمة أن يحل في عيسى، وجوزوا في أقنوم الحياة أن يحل في مريم ولولا أن هذه الأشياء المسماة عندهم بالأقانيم ذوات قائمة بأنفسها، لما جوزوا عليها الانتقال من ذات إلى ذات، فثبت أنهم قائلون بإثبات ذوات قائمة بالنفس قديمة أزلية وهذا شرك، وقول بإثبات الآلهة، فكانوا مشركين»41.
قال الشيخ رحمة الله الهندي في بيان عقيدة النصارى في التثليث: «عقيدة التثليث لم يأت بها نبي من الأنبياء، ولا نزلت في كتاب من الكتب السماوية، وعدم ورودها في التوراة غير محتاج إلى بيان؛ لأن من طالع التوراة الحالية لا يجد فيها ذكرًا صريحًا، ولا إشارةً أو تلميحًا لهذا الأمر.
وعلماء اليهود من عهد موسى عليه السلام إلى هذا الزمان لا يعترفون بعقيدة التثليث، ولا يرضون بنسبتها إلى كتبهم، فلو كانت عقيدة التثليث حقا لوجب على موسى وسائر أنبياء بني إسرائيل وآخرهم عيسى عليه السلام أن يبينوها حق التبيين، فقد كانوا مأمورين بالعمل بجميع أحكام التوراة في الشريعة والعقيدة.
وأهل التثليث يعتقدون أن عقيدتهم هذه هي مدار النجاة ولا يمكن نجاة أحد بدونها نبيا كان أو غير نبي، فكيف فارق أنبياء بني إسرائيل كلهم الدنيا دون أن يبينوا هذه العقيدة بيانا واضحا وصريحا؟!
وهم في نفس الوقت بينوا أمورا وأحكاما أقل أهمية من هذه العقيدة، وكرروا البيان لبعض الأحكام مرة بعد أخرى، وأكدوا على المحافظة عليها والعمل بها تأكيدا بليغا، وأوجبوا القتل على تارك بعضها.
فالعجب كل العجب أن عيسى عليه السلام الذي هو خاتم أنبياء بني إسرائيل والذي هو أحد أركان الثالوث عند النصارى عرج إلى السماء دون أن يبين لأتباعه هذه العقيدة بكلام واضح غير محتاج إلى التأويل، كأن يقول مثلا: إن الله ثلاثة أقانيم: الآب والابن والروح القدس، وأن أقنوم الابن - الإله الثاني - متعلق بي بالعلاقة الفلانية، أو بعلاقة فهمها خارج عن إدراك عقولكم، أو أن يقول أي كلام آخر صريح في بيان هذه العقيدة»42.
ويتضح مما تقدم من الآيات الكريمة وأقوال بعض المفسرين أن القرآن الكريم رد دعوى النصارى في التثليث حين جعلوا الله تعالى ثلاثة أقانيم كما يدعون، وأبطلها حين دعاهم إلى الحق والإيمان والتوحيد، ونهاهم عن الغلو في دينهم، وأن لا يقولوا على الله إلا الحق ولا يقولوا أنه واحد في ثلاثة أو ثلاثة في واحد أو الأقانيم الثلاثة، والإنتهاء عن هذه الدعوى التي تتنافى مع توحيد الله تعالى والمؤدية إلى الكفر الصريح، والتحذير من عدم الرجوع إليه لما ترتب عليه من التهديد والوعيد في الآيات الكريمة ففي هذا الإنتهاء الخير لهم، ثم بعد ذلك كله نزه الله تعالى نفسه عن قول النصارى بالتثليث فقال تعالى: (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ) [النساء:١٧١].
دعاوى النصارى وأقوالهم الباطلة
تحدث القرآن الكريم عن عقائد النصارى وبين انحرافهم عن دين عيسى عليه السلام كما مر ذكره، إلا أن النصارى لم تكتف بتلك العقائد الباطلة بل زادوا على ذلك دعاوى وأقوالًا باطلة رد عليها القرآن الكريم وهذا ما سوف نبينه من خلال النقاط الآتية:
أولًا: دعوى نفي دخول غيرهم الجنة:
ادعت طائفة من النصارى أن الجنة لا يدخلها غيرهم، وهذه الدعوى الباطلة لا دليل لهم عليها سوى الإدعاء بأنهم هم أصحاب الجنة، وكذلك قال بعض اليهود.
وتحدث القرآن الكريم عن هذه الدعوى الكاذبة حين قال تعالى حاكيا عن اليهود والنصارى: (ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ) [البقرة:١١١].
(ﯧ) أي:قالت اليهود والنصارى43.
ومعنى الآية: وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا يعني: يهوديا، أو نصارى وذلك أن اليهود قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا ولا دين إلا دين اليهودية، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا ولا دين إلا دين النصرانية، فحكموا لأنفسهم بالجنة وحدهم، وهذا مجرد أمانٍ غير مقبولة، إلا بحجة وبرهان، فأتوا بها إن كنتم صادقين، وهكذا كل من ادعى دعوى لا بد أن يقيم البرهان على صحة دعواه، وإلا فلو قلبت عليه دعواه، وادعى مدعٍ عكس ما ادعى بلا برهان لكان لا فرق بينهما، فالبرهان هو الذي يصدق الدعاوى أو يكذبها، ولما لم يكن بأيديهم برهان، علم كذبهم بتلك الدعوى44.
قيل في سبب نزول هذه الآية الكريمة: إنها نزلت في وفد نجران، وكانوا نصارى اجتمعوا مع اليهود في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فكذب بعضهم بعضا في دعواه45.
ورد الله تعالى على أصحاب هذه الدعوى بأن هذا من أمانيهم حيث قال تعالى: (ﯲ ﯳ): «أي: شهواتهم الباطلة التي تمنوها على الله بغير حق، قل: يعني: يا محمد (ﯶ ﯷ) أي: حجتكم على دعواكم أن الجنة لا يدخلها إلا من كان يهوديًّا أو نصرانيًّا دون غيرهم، (ﯸ ﯹ ﯺ) يعني فيما تدعون.
ثم قال تعالى ردا عليهم: (ﯼ) أي ليس الأمر كما تزعمون ولكن (ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ) فإنه الذي يدخل الجنة وينعم فيها، ومعنى أسلم وجهه لله أخلص في دينه لله، وقيل: أخلص عبادته لله، وقيل خضع وتواضع لله تعالى، لأن أصل الإسلام الاستسلام وهو الخضوع»46.
قال الإمام الطبري رحمه الله: «فإن قال قائل: وكيف جمع اليهود والنصارى في هذا الخبر مع اختلاف مقالة الفريقين؛ واليهود تدفع النصارى عن أن يكون لها في ثواب الله نصيب، والنصارى تدفع اليهود عن مثل ذلك؟
قيل: إن معنى ذلك بخلاف الذي ذهبت إليه، وإنما عنى به: وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا النصارى، ولكن معنى الكلام لما كان مفهوما عند المخاطبين به معناه، جمع الفريقان في الخبر عنهما، فقيل: (ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ)، أي: قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا»47.
ورد القرآن على دعواهم الباطلة أيضا في قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [البقرة:٩٤].
قال الإمام الرازي: إعلم أن هذا نوع آخر من قبائحهم وهو ادعاؤهم أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس ويدل عليه وجوه منها: ما حكى الله تعالى عنهم في قوله: (ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [البقرة:١١١].
واعتقادهم في أنفسهم أنهم هم المحقون؛ لأن النسخ غير جائز في شرعهم وأن سائر الفرق مبطلون، واعتقادهم أن انتسابهم إلى أكابر الأنبياء عليهم السلام أعني يعقوب وإسحاق وإبراهيم يخلصهم من عقاب الله تعالى ويوصلهم إلى ثوابه.
ثم إنهم لهذه الأشياء عظموا شأن أنفسهم فكانوا يفتخرون على العرب وربما جعلوه كالحجة في أن النبي المنتظر المبشر به في التوراة منهم لا من العرب وكانوا يصرفون الناس بسبب هذه الشبهة عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إن الله احتج على فساد قولهم بقوله: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ) [البقرة:٩٤]48.
فإن قيل: «إنهم إذا نفوا دخول غيرهم فيها ادعوا لأنفسهم الدخول، فإنما طولبوا بالبرهان على ما ادعوا، ليس على ما نفوا، قيل: لا يحتمل ذا؛ لأنهم لم يذكروا دخول أنفسهم تصريحًا، إنما نفوا دخول غيرهم وهو كمن يقول: لا يدخل هذه الدار إلا فلان وفلان، ليس فيه أن فلانًا وفلانًا يدخلان ولكن فيه نفي دخول غيرهما، أو نقول: نفوا دخول غيرهم تصريحًا، وادعوا لأنفسهم الدخول مستدلا، وإنما يطلب الحجة على مصرح قولهم، لا على مستدلهم.
ألا ترى أن الجواب من الله عز وجل بالإكذاب والرد عليهم خرج على ما نفوا دخول غيرهم، وهو قوله: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ) فعلى ذلك قوله: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) ليس فيه إثبات الدخول لهم تصريحًا، وفيه نفي دخول غيرهم تصريحًا، والله أعلم»49.
ويتضح مما تقدم أن النصارى يزعمون أنهم أصحاب حق، وأنهم أولى بالجنة من غيرهم، وأن من عداهم فمن أهل النار، وهذه أماني كاذبة لم يقم عليها دليل ولا حجة ظاهرة، لذلك أمر الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام بأن يطالب أهل الكتاب بتقديم برهانهم على دعواهم الباطلة وإثبات عجزهم التام عن إحضار الدليل والبرهان.
ولذلك قال الإمام الطبري: «وهذا الكلام وإن كان ظاهره ظاهر دعاء القائلين: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) إلى إحضار حجة على دعواهم ما ادعوا من ذلك، فإنه بمعنى تكذيب من الله لهم في دعواهم وقيلهم؛ لأنهم لم يكونوا قادرين على إحضار برهان على دعواهم تلك أبدا»50.
ثم جاءت الآية بعدها لتبين من الذين سوف يدخلون الجنة في قوله تعالى: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ) [البقرة:١١٢].
أي: «من أخلص عمله ونيته بالطاعة والإيمان، وخص الوجه بالذكر دون سائر الأعضاء؛ لأنه أشرف أعضاء بني آدم وأعظمها حرمة، فإذا خضع وجهه الذي هو أكرم الأعضاء كان ما سواه أحرى أن يخضع»51.
لذا كذب الله تعالى دعواهم وبين أنها مجرد أماني لا يدركوها بالتمني، وأن الجنة متاحة لكل من يعمل لها ولا تقتصر على طائفة دون أخرى بل هي لكل من عمل صالحًا وأسلم وجهه لله تعالى وهو محسن.
ثانيًا: دعوى أن الهدى في اتباع ملتهم:
تحدث القرآن الكريم عن هذه الدعوى الكاذبة حين قال تعالى حاكيا عن النصارى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [البقرة:١٣٥].
قال الإمام الطبري رحمه الله: «احتج الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أبلغ حجة وأوجزها وأكملها وعلمها محمدا نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد قل للقائلين لك من اليهود والنصارى ولأصحابك: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ) بل تعالوا نتبع ملة إبراهيم التي يجمع جميعنا على الشهادة لها بأنها دين الله الذي ارتضاه واجتباه وأمر به فإن دينه كان الحنيفية المسلمة، وندع سائر الملل التي نختلف فيها، فينكرها بعضنا، ويقر بها بعضنا، فإن ذلك على اختلافه لا سبيل لنا على الاجتماع عليه، كما لنا السبيل إلى الاجتماع على ملة إبراهيم»52.
أما سبب نزول هذه الآية، فقد قال الواحدي: «قال ابن عباس: نزلت في رؤوس يهود المدينة: كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف، وأبي ياسر ابن أخطب، وفي نصارى أهل نجران، وذلك أنهم خاصموا المسلمين في الدين كل فرقة تزعم أنها أحق بدين الله تعالى من غيرها، فقالت اليهود: نبينا أفضل الانبياء، وكتابنا التوراة أفضل الكتب، وديننا أفضل الأديان، وكفرت بعيسى والإنجيل ومحمد والقرآن، وقالت النصارى: نبينا أفضل الأنبياء، وكتابنا الإنجيل أفضل الكتب، وديننا أفضل الأديان، وكفرت بمحمد والقرآن، وقال كل واحد من الفريقين للمؤمنين: كونوا على ديننا فلا دين إلا ذلك ودعوهم إلى دينهم»53.
وقد رد الله تعالى دعوى النصارى الباطلة في الآية نفسها حين خاطب النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) «أي: بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا، قال ابن دريد: الحنيف: العادل عن دين إلى دين، وسمي الإسلام: الحنيفية؛ لأنها مالت عن اليهودية والنصرانية، وقال الأصمعي: ومن عدل عن دين اليهود والنصارى فهو حنيف عند العرب، وقال الأخفش: الحنيف: المسلم، وكان في الجاهلية يقال لمن اختتن وحج البيت: حنيف، وقال ابن عباس: الحنيف: المائل عن الأديان كلها إلى دين الإسلام، وقال مجاهد: الحنيفية: اتباع إبراهيم فيما أتى به من الشريعة التي صار بها إماما للناس»54.
ثم خاطب الله تعالى المؤمنين وأمرهم أن يقولوا للقائلين بهذه الدعوى، فقال لهم: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [البقرة:١٣٦].
ويتضح مما تقدم بطلان دعوى النصارى في أن الهداية في اتباع ملتهم، وأن الهدى في ملة إبراهيم عليه السلام، مع علمهم وإقرارهم بنبوة إبراهيم عليه السلام، وأن القرآن الكريم نقض هذه الدعوى حيث بين لهم أن الهداية الحقة ليست مع اليهودية ولا مع النصرانية بل باتباع ملة إبراهيم عليه السلام حنيفا، ولا تحصل الهداية إلا بذلك، ولو كانوا حقا يريدون الهدى لآمنوا بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام لأنه على ملة إبراهيم الخليل عليه السلام.
ثالثًا: دعوى أنهم أبناء الله وأحباؤه:
يزعم النصارى أنهم أبناء الله وأحباؤه، حيث قال الله تعالى عنهم وعن اليهود: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ) [المائدة:١٨].
يقول الطبري رحمه الله: «وهذا خبر من الله جل وعز عن قوم من اليهود والنصارى أنهم قالوا هذا القول»55.
«ومرادهم بالأبناء المقربون أي: نحن مقربون عند الله تعالى قرب الأولاد من والدهم، وبالأحباء: جمع حبيب بمعنى محب أو محبوب، ويجوز أن يكون أرادوا من الأبناء الخاصة كما يقال: أبناء الدنيا، وأبناء الآخرة، وأن يكون أرادوا أشياع من وصف بالبنوة أي قالت اليهود: نحن أشياع ابنه عزير، وقالت النصارى: نحن أشياع ابنه المسيح عليه السلام، وأطلق الأبناء على الأشياع مجازا إما تغليبا أو تشبيها لهم بالأبناء في قرب المنزلة56.
وأما النصارى ففي قولهم لذلك قولان: أحدهما: لتأويلهم ما في الإنجيل من قوله: «اذهب إلى أبي وأبيكم»، فقالوا لأجل ذلك: (ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ)، الثاني: لأجل قولهم في المسيح: ابن الله، وهم يرجعون إليه، فجعلوا نفوسهم أبناء الله وأحباءه57.
وقد تقدم الكلام على قول النصارى في بنوة عيسى عليه السلام وأدلتهم الباطلة ورد القرآن عليها وإبطالها.
وأما سبب نزول هذه الآية: فقد قال ابن عباس: (خوف رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما من اليهود العقاب فقالوا: لا نخاف فإنا أبناء الله وأحباؤه، فنزلت الآية، وقال ابن إسحاق: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن أضا وبحري بن عمرو وشأس بن عدي فكلموه وكلمهم، ودعاهم إلى الله عز وجل وحذرهم نقمته فقالوا: ما تخوفنا يا محمد؟، نحن أبناء الله وأحباؤه، كقول النصارى، فأنزل الله عز وجل فيهم هذه الآية)58.
ثم إنه تعالى أبطل عليهم دعواهم، وقال وإن كنتم كما تدعون أبناءه: (ﭚ ﭛ ﭜ) [المائدة:١٨].
يقول الإمام الرازي: «وفيه سؤال وهو أن حاصل هذا الكلام أنهم لو كانوا أبناء الله وأحباءه لما عذبهم لكنه عذبهم، فهم ليسوا أبناء الله ولا أحباءه، والإشكال عليه أن يقال: إما أن تدعوا أن الله عذبهم في الدنيا، أو تدعوا أنه سيعذبهم في الآخرة.
فإن كان موضع الإلزام عذاب الدنيا فهذا لا يقدح في ادعائهم كونهم أحباء الله؛ لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان يدعي أنه هو وأمته أحباء الله، ثم إنهم ما خلوا عن محن الدنيا، انظروا إلى وقعة أحد، وإلى قتل الحسن والحسين رضي الله عنهما.
وإن كان موضع الإلزام هو أنه تعالى سيعذبهم في الآخرة فالقوم ينكرون ذلك، ومجرد إخبار محمد صلى الله عليه وسلم ليس بكاف في هذا الباب، إذ لو كان كافيا لكان مجرد إخباره بأنهم كذبوا في ادعائهم أنهم أحباء الله كافيا، وحينئذ يصير هذا الاستدلال ضائعًا»59.
ويجيب الإمام الرازي رحمه الله على ذلك السؤال من وجوه:
«الأول: إن موضع الإلزام هو عذاب الدنيا، والمعارضة بيوم أحد غير لازمة لأنه يقول: لو كانوا أبناء الله وأحباءه لما عذبهم الله في الدنيا، ومحمد عليه الصلاة والسلام ادعى أنه من أحباء الله ولم يدع أنه من أبناء الله فزال السؤال.
الثاني: إن موضع الإلزام هو عذاب الآخرة، واليهود والنصارى كانوا معترفين بعذاب الآخرة كما أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا: (ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ) [البقرة:٨٠].
والثالث: المراد بقوله: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) فلم مسخكم، فالمعذب في الحقيقة اليهود الذين كانوا قبل اليهود المخاطبين بهذا الخطاب في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام، إلا أنهم لما كانوا من جنس أولئك المتقدمين حسنت هذه الإضافة، وهذا الجواب أولى لأنه تعالى لم يكن ليأمر رسوله عليه الصلاة والسلام أن يحتج عليهم بشيء لم يدخل بعد في الوجود فإنهم يقولون: لا نسلم أنه تعالى يعذبنا، بل الأولى أن يحتج عليهم بشيء قد وجد وحصل حتى يكون الاستدلال به قويا متينا، ثم قال تعالى: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ) يعني أنه ليس لأحد عليه حق يوجب عليه أن يغفر له، وليس لأحد عليه حق يمنعه من أن يعذبه، بل الملك له يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد»60.
وأن الاستفهام في الآية الكريمة مع دلالته على استنكار قولهم فيه دلالتان أخريان:
«إحداهما: إعلامهم بأنه سيعذبهم بذنوبهم، وأنهم مأخوذون بما يقترفون من سيئات، وما يجترحون من مآثم ومظالم.
الثانية: الدلالة على أن عمل الخير له ثوابه، وعمل السوء له عقابه، وأن من يقول غير ذلك فهو مبطل، وما كان لهم أن يدعوا محبة الله، وأنهم منه بمنزلة الأبناء من الآباء، ومع ذلك يعصونه، وينشرون في الأرض الفساد، فهذا استفهام مع ما فيه من إحكام واستنكار يتضمن معاني سامية، فيها التهديد لمن عصى، والتبشير لمن أطاع»61.
ويتضح مما تقدم بطلان دعوى اليهود والنصارى وبطلان استدلالهم واعتقادهم بالتمييز والأفضلية على غيرهم وأن الله تعالى قد كذبهم ونفاهم عنه في ادعائهم أنهم أبناؤه وأحباؤه، بل وبين عذابهم، فالله تعالى لا يحابي فريقًا من الناس دون الآخر، وكيف يحابي النصارى الذين يدعون إلوهية المسيح عليه السلام، وأن الله ثالث ثلاثة، وإن المسيح هو ابن الله، تعالى الله عما يقولون، ومع كل هذه الإدعاءات الباطلة، ثم بعد ذلك لا يعذبهم الله.
رابعًا: دعوى أن إبراهيم وبنيه كانوا هودًا أو نصارى:
ادعت النصارى أن إبراهيم عليه السلام كان منهم، وادعوا أن إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا على ملتهم أيضًا، وكذلك قال اليهود.
وذكر القرآن الكريم هذه الدعوى في قوله تعالى: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ) [البقرة:١٤٠].
ومعنى الآية: «قالوا: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ) وهم إثنا عشر سبطًا من ولد يعقوب، والسبط الجماعة الذين يرجعون إلى أب واحد، (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ) يعني: اليهود تزعم أن هؤلاء كانوا هودًا، والنصارى تزعم أنهم كانوا نصارى، فرد الله عليهم بأن الله تعالى أعلم بهم منكم، يعني: بأنهم لم يكونوا هودًا ولا نصارى»62.
قال الرازي: «إنما أنكر الله تعالى ذلك القول عليهم لوجوه، أحدها: لأن محمدا صلى الله عليه وسلم ثبتت نبوته بسائر المعجزات، وقد أخبر عن كذبهم في ذلك فثبت لا محالة كذبهم فيه، وثانيها: شهادة التوراة والإنجيل على أن الأنبياء كانوا على التوحيد والحنيفية، وثالثها: أن التوراة والإنجيل أنزلا بعدهم، ورابعها: أنهم ادعوا ذلك من غير برهان فوبخهم الله تعالى على الكلام في معرض الاستفهام على سبيل الإنكار والغرض منه الزجر والتوبيخ وأن يقرر الله في نفوسهم أنهم يعلمون أنهم كانوا كاذبين فيما يقولون»63.
وقوله تعالى: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ) أي: «تقرير وتوبيخ في ادعائهم بأنهم كانوا هودا أو نصارى، فرد الله عليهم بأنه أعلم بهم منكم، أي: لم يكونوا هودا ولا نصارى»64.
وهذا يقتضي الإيمان التام بأن الله تعالى هو الأعلم ولا ينبغي لأحد أن يصف نفسه بما وصف الله تعالى به نفسه.
وقوله تعالى: (ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) يعني: شهادة الله لإبراهيم بالحنيفية والبراءة عن اليهودية والنصرانية، والمعنى لا أحد أظلم من أهل الكتاب، لأنهم كتموا هذه الشهادة، أو منا لو كتمنا هذه الشهادة، وفيه تعريض بكتمانهم شهادة الله لمحمد عليه الصلاة والسلام بالنبوة في كتبهم وغيرها، وما الله بغافل عما تعملون وعيد لهم65.
قال الحسن البصري: «كانوا يقرؤون في كتاب الله الذي أتاهم: إن الدين عند الله الإسلام، وإن محمدا رسول الله، وإن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا برآء من اليهودية والنصرانية، فشهد الله بذلك، وأقروا به على أنفسهم لله، فكتموا شهادة الله عندهم من ذلك»66.
وقد أخبر الله تعالى بأنهم لم يكونوا هودا ولا نصارى، كما قال تعالى: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) [البقرة:١٣٣].
وقال تعالى: (ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [آل عمران:٦٥].
وقال تعالى: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [آل عمران:٦٧].
وهذه الآيات الكريمة تنفي كون إبراهيم عليه السلام يهوديا أو نصرانيا، وتبطل قولهم: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ) [البقرة:١٣٥].
وتبطل زعمهم أن يعقوب كان على اليهودية وأنه أوصى بها بنيه فلزمت ذريته فلا يحولون عنها، لذلك جيء هنا بتفصيل وصية يعقوب إبطالا لدعاوي أهل الكتاب ونقضا لمعتقدهم الذي لا دليل عليه، وأن التوراة والأنجيل ما كانت إلا من بعد إبراهيم عليه السلام وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وبنيه، وإن كان عندهم من علم بغير ذلك أم هم أعلم بهذا من الله تعالى، وأن إبراهيم وبنيه كانوا على ملة الإسلام وقد أوصوا ذريتهم بالثبات والموت على الإسلام.
وكذلك بيان كذب أهل الكتاب في زعمهم أن إبراهيم عليه السلام كان يهوديًا أو نصرانيًا لأن التوراة والإنجيل ما وجدت إلا من بعده، ثم أن العبرة في الاتباع وحسن الاقتداء بإبراهيم عليه السلام، وليس بالنسب لقوله تعالى: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ) [آل عمران:٦٨].
والنصارى مع إقرارهم بنبوة إبراهيم عليه السلام إلا أنهم لم يتبعوا دينه الذي جاء بالحنيفية القائمة على الوحدانية ونبذ الشركاء، وهم أشركوا بالله تعالى بادعائهم المسيح إله وابن الله وهذا ما يتناقض مع دعواهم الباطلة مع إبراهيم عليه السلام.
خامسًا: دعوى نفي الحق عمن سواهم:
تتمثل هذه الدعوى بادعاء كل فريق من أهل الكتاب أن صاحبه ليس على شيء.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) [البقرة:١١٣].
أي: «معناه: ادعى كل فريق منهم أن صاحبه ليس على شي، وأنه أحق برحمة الله منه»67.
قال ابن كثير: «وهذا القول يقتضي أن كلا من الطائفتين صدقت فيما رمت به الطائفة الأخرى، ولكن ظاهر سياق الآية يقتضي ذمهم فيما قالوه، مع علمهم بخلاف ذلك؛ ولهذا قال تعالى: (ﭝ ﭞ ﭟ) أي: وهم يعلمون شريعة التوراة والإنجيل، كل منهما قد كانت مشروعة في وقت، ولكن تجاحدوا فيما بينهم عنادا وكفرا»68.
أما سبب نزول هذه الآية: «ذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من أهل الكتابين تنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم لبعض، فأخبرنا الله أنه قد فعل هذا من كان قبلهم ممن لا يعلم، وأنهم فعلوا ذلك وهم يجدون في كتبهم كذبهم فيما يقولون لأن كتب الله تعالى يصدق بعضها بعضًا، فلذلك قال تعالى: (ﭝ ﭞ ﭟ) فهؤلاء قالوه وهم يعلمون أنهم كاذبون لأن في كتاب كل واحد منهم الأمر بالإيمان بالآخر وبمن جاء به، و (ﭣ ﭤ ﭥ) أمم كانت قبلهم، وقيل: عني بذلك الجاهلية في العرب، قالوا: ليس محمد على شيء»69.
ويقول الواحدي: «نزلت في يهود أهل المدينة، ونصارى أهل نجران وذلك أن وفد نجران لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتاهم أحبار اليهود فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم، فقالت اليهود: ما أنتم على شيء من الدين، وكفروا بعيسى والإنجيل، وقالت لهم النصارى: ما أنتم على شيء من الدين وكفروا بموسى والتوراة، فأنزل الله تعالى هذه الآية»70.
قال الماتريدي: «فإن قيل:كيف عاتبهم بهذا القول، وقد أمر نبيه عليه الصلاة والسلام في آية أخرى أن يقول لهم ذلك: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ)[المائدة:٦٨]؟ قيل: إنما أمر نبيه: أن يقول لهم: إنهم ليسوا على شيء إذا لم يقيموا التوراة، فأما إذا أقاموا التوراة وفيها أمر لهم بالإسلام، واتباع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فهم على شيء»71.
قال قتادة: «(ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ) قال: بلى، قد كانت أوائل النصارى على شيء، ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا، (ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) قال: بلى قد كانت أوائل اليهود على شيء، ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا»72.
وعلى هذا فإنهم يكونون على شيء حين يقيموا التوراة والإنجيل، ويطيعوا الله تعالى فيما أمرهم به في كتبهم وذلك باتباع النبي العربي صلى الله عليه وسلم، ومن لم يتبع منهم النبي صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه من قرآن فهو ليس على شيء.
ثم رد الله تعالى على هؤلاء اليهود والنصارى في الآية نفسها في قوله تعالى: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [البقرة:١١٣].
أي: يريهم من يدخل الجنة عيانًا، ومن يدخل النار عيانًا73.
ورد الله تعالى أيضًا على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [المائدة:٦٨].
أي: وما كان يمكنهم إقامتها إلا بإقامة القرآن الكريم، واتباع النبي صلى الله عليه وسلم، لكنهم أبوا ذلك وكفروا فضربت عليهم الذلة كما قال الله تعالى: (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) [آل عمران:١١٢].
ويتضح مما تقدم بطلان دعوى أهل الكتاب حيث ادعى كل فريق منهم أنه على شيء، مع أنهم على علم من دينهم وهم يتلون التوراة والإنجيل، لكنهم حرفوا وبدلوا أصول دينهم وأضاعوا ما جاء في التوراة والإنجيل فصاروا ليس على شيء، ولو أرادوا الحق لكانوا صادقين في قولهم، إذ كل فريق منهم قد جحد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أنه نبي ويجده في كتابه، وأما الذين من قبلهم من الأمم السالفة قالوه وهم غير عالمين بذلك.
لا شك أن المؤمنين الموحدين قبل الإسلام هم طائفة من الذين آمنوا بدين الله تعالى ورسله وأنبيائه جميعًا، وكتبه المنزلة عليهم سواءً أكانوا يهودا أم نصارى، والتزموا بشرائع أنبيائهم ورسلهم قولًا وعملًا، ثم آمنوا بما جاء ذكره في التوراة والإنجيل عن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وترقبوا قدومه ووجوب اتباعه بالإيمان به ونصرته، دون تكبر.
كما أخذ الميثاق بذلك على النبيين عليهم الصلاة والسلام في قوله تعالى: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ) [آل عمران:٨١-٨٢].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «ما بعث الله نبيًا من الأنبياء إلا أخذ الله عليه الميثاق: لئن بعث محمدًا وهو حي ليؤمنن به، ولينصرنه»74.
وأول من رأى النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة من النصارى الراهب بحيرا، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم مع ركب أبي طالب وهو في تجارته إلى الشام، فمر على راهب في صومعته في بصرى، وهو الراهب بحيرا الذي كان ينتهي إليه علم النصرانية، وقد نصح الراهب بحيرا أبا طالب بأن يرجع برسول الله صلى الله عليه وسلم خوفا عليه من اليهود75.
ومن أبرز من كان مؤمنا بدين المسيح الصحيح قبل الإسلام من النصارى هم: نسطورا، وصاحب بصرى، وأسقف الشام، والجارود العبدي، وسلمان الفارسي، ونصارى الحبشة، وأساقفة نجران، وعداس76.
لذلك نرى أن القرآن امتدح طائفة من المؤمنين من أهل الكتاب من النصارى وبين صفاتهم وأخلاقهم وعقيدتهم الصحيحة، وبالمقابل ذم الذين كفروا منهم في آيات عديدة، وهذا ما سوف نبينه في المطالب الآتية:
أولًا: النصارى المؤمنون الموحدون:
وردت في القرآن الكريم آيات عديدة ومتنوعة عن أهل الكتاب بصيغة (أهل الكتاب)، والأصل أن المقصود بأهل الكتاب هم اليهود والنصارى كما بينا سابقا لذلك يدخل النصارى في كل آية ذكر فيها أهل الكتاب، وإن وردت بعضها في الأحبار من اليهود إلا أن أغلب الآيات قصد بها اليهود والنصارى معًا.
قال تعالى: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) [البقرة:١٢١].
أي: «الذين آتيناهم الكتاب هم مؤمنون أهل الكتاب يتلونه حق تلاوته لا يحرفونه ولا يغيرون ما فيه من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك يؤمنون بكتابهم دون المحرفين ومن يكفر به من المحرفين فأولئك هم الخاسرون حيث اشتروا الضلالة بالهدى»77.
وقال تعالى: (ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [آل عمران:١١٣-١١٥].
أي: «لا يستوي من تقدم ذكرهم بالذم من أهل الكتاب وهؤلاء الذين أسلموا، ولهذا قال تعالى: (ﮬ ﮭ) أي: ليسوا كلهم على حد سواء، بل منهم المؤمن ومنهم المجرم، ولهذا قال تعالى: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ) أي: قائمة بأمر الله، مطيعة لشرعه متبعة نبي الله، فهي مستقيمة، (ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) أي: يقومون الليل، ويكثرون التهجد، ويتلون القرآن في صلواتهم، (ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ)78.
وقال تعالى: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ) [القصص:٥٢-٥٤].
وفي الآية وجهان: «أحدهما: يعني الذين آتيناهم التوراة والإنجيل من قبل القرآن هم بالقرآن يؤمنون، قاله يحيى بن سلام، والثاني: الذي آتيناهم التوراة والإنجيل من قبل محمد هم بمحمد يؤمنون، قاله ابن شجرة»79.
وفيمن نزلت هذه الآيات قولان:
«أحدهما: نزلت في عبد الله بن سلام، وتميم الداري، والجارود العبدي، وسلمان الفارسي، أسلموا فنزلت فيهم هذه الآية والتي بعدها، قاله قتادة.
الثاني: أنها نزلت في أربعين رجلًا من أهل الإنجيل كانوا مؤمنين بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، اثنان وثلاثون رجلًا من الحبشة أقبلوا مع جعفر بن أبي طالب وقت قدومه وثمانية قدموا من الشام، منهم بحيرا، وأبرهة، والأشراف، وعامر، وأيمن، وإدريس، ونافع، فأنزل الله فيهم هذه الآية والتي بعدها إلى قوله: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ) قال قتادة: بإيمانهم بالكتاب الأول وإيمانهم بالكتاب الآخر»80.
وقال تعالى: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [الإسراء:١٠٧-١٠٩].
وقوله: «(ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) أي: من قبل نزول القرآن وخروج النبي صلى الله عليه وسلم، وهم مؤمنو أهل الكتاب، في قول ابن جريج وغيره، قال ابن جريج: معنى (ﭳ ﭴ ﭵ) كتابهم، وقيل: القرآن، (ﭶ ﭷ ﭸ) قيل: هم قوم من ولد إسماعيل تمسكوا بدينهم إلى أن بعث الله تعالى النبي عليه السلام، منهم زيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل»81.
ويتضح من الآيات الكريمة أن القرآن الكريم أثنى على المؤمنين الموحدين من أهل الكتاب بما فيهم النصارى وهذا معناه أنهم ليسوا جميعا ضالين، بل منهم من يؤمن بالله تعالى وملائكته ورسله وكتبه.
ثانيًا: المبدلون لدينهم وعاقبتهم:
هم طائفة من بني إسرائيل سموا أنفسهم نصارى، أخذ الله تعالى الميثاق عليهم أن يؤمنوا بعيسى عليه السلام لأنه جاء مكملا ومتتما لرسالة موسى عليه السلام؛ فهم أبناء أمة واحدة، كما قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) [الصف:٦].
إلا أنهم نقضوا الميثاق ونسوا ما جاءهم به رسولهم وأهملوه كما قال تعالى حاكيًا عنهم: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [المائدة:١٤].
أي: «ومن الذين ادعوا لأنفسهم أنهم نصارى يتابعون المسيح ابن مريم عليه السلام، وليسوا كذلك، أخذنا عليهم العهود والمواثيق على متابعة الرسول ومناصرته ومؤازرته واقتفاء آثاره، والإيمان بكل نبي يرسله الله إلى أهل الأرض، أي: ففعلوا كما فعل اليهود، خالفوا المواثيق ونقضوا العهود.
ولهذا قال: (ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) أي: فألقينا بينهم العداوة والتباغض لبعضهم بعضا، ولا يزالون كذلك إلى قيام الساعة، وكذلك طوائف النصارى على اختلاف أجناسهم لا يزالون متباغضين متعادين، يكفر بعضهم بعضا، ويلعن بعضهم بعضا؛ فكل فرقة تحرم الأخرى ولا تدعها تلج معبدها، فالملكية تكفر اليعقوبية، وكذلك الآخرون، وكذلك النسطورية والأريوسية، كل طائفة تكفر الأخرى في هذه الدنيا ويوم يقوم الأشهاد»82.
قال قتادة رحمه الله: «نسوا كتاب الله بين أظهرهم، وعهد الله الذي عهده إليهم، وأمر الله الذي أمرهم به»83.
والمتأمل في الآية الكريمة يرى أن الله تعالى تحدث عن النصارى بقولهم: إنا نصارى ولم يقل من النصارى.
قال الحسن البصري: «إنما قال: قالوا: إنا نصارى ولم يقل من النصارى ليدل على أنهم ابتدعوا النصرانية وتسموا بها وأنهم ليسوا على منهاج الذين اتبعوا المسيح في زمانه من الحواريين وهم الذين كانوا نصارى في الحقيقة84.
وإلى هذا المعنى أشار بعض المفسرين في تفسيرهم هذه الآية85.
قال ابن عاشور: «وعبر عن النصارى بالذين قالوا إنا نصارى هنا وفي قوله تعالى: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) [المائدة:٨٢].
تسجيلا عليهم بأن اسم دينهم مشير إلى أصل من أصوله، وهو أن يكون أتباعه أنصارا لما يأمر به الله، (ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ) [الصف:١٤].
ومن جملة ذلك أن ينصروا القائم بالدين بعد عيسى من أتباعه، مثل بولس وبطرس وغيرهما من دعاة الهدى وأعظم من ذلك كله أن ينصروا النبي المبشر به في التوراة والإنجيل الذي يجيء بعد عيسى قبل منتهى العالم ويخلص الناس من الضلال، فجميع أتباع الرسل قد لزمهم ما التزمه أنبياؤهم وبخاصة النصارى، فهذا اللقب وهو النصارى حجة عليهم قائمة بهم متلبسة بجماعتهم كلها»86.
ويتضح مما مضى أن طائفة من بني إسرائيل يدعون أنهم نصارى أخذوا العهد من الله تعالى أن يؤدوا ما كلفهم الله تعالى به من متابعة رسلهم، ومن ثم اتباع ما جاء في التوراة والإنجيل من بشارات بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم ومناصرته، فنسوا ما أمرهم الله به ونقضوا الميثاق الذي أخذوه فكانت عاقبتهم أن ألقى الله تعالى عليهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة جزاء نقضهم ذلك الميثاق.
الإسلام هو آخر الديانات السماوية الذي جاء مكملًا لما قبله من الديانة اليهودية والنصرانية، كما أن عيسى عليه السلام جاء ليكمل دين موسى عليه السلام فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم جاء ليتم الدين كله، فكلها دين واحد تدعو إلى توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة، إلا أن الفرق بينها أن الإسلام ناسخ لما قبله من الشرائع لقوله تعالى: (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) [آل عمران:١٩].
لذلك فإن علماء أهل الكتاب من النصارى على علم بحقائق هذا الدين من خلال التوراة والإنجيل غير المحرفة التي جاء فيها ذكر بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وبشارة قدومه واسمه وصفاته، بخلاف الذين لا يعلمون بذلك من الأمم السالفة، فمن أهل الكتاب من النصارى من صدق وآمن واتبع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ومدحهم الله تعالى في القرآن الكريم في آيات عديدة وبين ثواب أجر إيمانهم، ومنهم من ذمهم الله تعالى لأنهم كذبوا وحرفوا وبدلوا دينهم وبين عاقبتهم على ذلك وهذا ما سوف نبينه في النقاط الآتية:
أولًا: المؤمنون بالنبي صلى الله عليه وسلم:
مدح الله تعالى المؤمنين بالله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام من أهل الكتاب -ومنهم النصارى- وأثنى عليهم في آيات عديدة.
قال تعالى: (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ) [آل عمران:١٩٩].
قال ابن كثير: «يخبر تعالى عن طائفة من أهل الكتاب أنهم يؤمنون بالله حق الإيمان، وبما أنزل على محمد مع ما هم يؤمنون به من الكتب المتقدمة، وأنهم خاشعون لله، أي: مطيعون له خاضعون متذللون بين يديه، (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ) أي: لا يكتمون بأيديهم من البشارات بمحمد صلى الله عليه وسلم، وذكر صفته ونعته ومبعثه وصفة أمته، وهؤلاء هم خيرة أهل الكتاب وصفوتهم، سواء كانوا هودًا أو نصارى»87.
قال الشوكاني رحمه الله في قوله تعالى: (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ): «هذه الجملة سيقت لبيان أن بعض أهل الكتاب لهم حظ من الدين، وليسوا كسائرهم في فضائحهم التي حكاها الله عنهم فيما سبق، فإن هذا البعض يجمعون بين الإيمان بالله وبما أنزل الله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزله على أنبيائهم حال كونهم خاشعين لله لا يشترون أي: يستبدلون بآيات الله ثمنا قليلا بالتحريف والتبديل، كما يفعله سائرهم، بل يحكون كتب الله سبحانه كما هي، والإشارة بقوله: (ﭲ) إلى هذه الطائفة الصالحة من أهل الكتاب، من حيث اتصافهم بهذه الصفات الحميدة لهم أجرهم الذي وعد الله سبحانه به بقوله: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ) [القصص:٥٤]88.
وأما سبب نزول هذه الآية فقد قال ابن عباس: (نزلت في النجاشي ملك الحبشة واسمه أصحمة، ومعناه بالعربية عطية، وذلك إنه لما مات نعاه جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: اخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم النجاشي، فخرج إلى البقيع وكشف له إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي فصلى عليه وكبر أربع تكبيرات واستغفر له)89.
وقال تعالى: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [المائدة:٨٢-٨٥].
وصف الله تعالى لين عريكة النصارى وسهولة ارعوائهم وميلهم إلى الإسلام، وجعل اليهود قرناء المشركين في شدة العداوة للمؤمنين، بل نبه على تقدم قدمهم فيها بتقديمهم على الذين أشركوا، وعلل سهولة مأخذ النصارى وقرب مودتهم للمؤمنين بأن منهم قسيسين ورهبانا أي: علماء وعبادا وأنهم قوم فيهم تواضع واستكانة ولا كبر فيهم، واليهود على خلاف ذلك90.
وأما سبب نزول هذه الآيات الكريمة فقد قال الواحدي: «قدم جعفر بن أبي طالب من الحبشة هو وأصحابه، ومعهم سبعون رجلا، بعثهم النجاشي وفدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عليهم ثياب الصوف، اثنان وستون من الحبشة، وثمانية من أهل الشام، وهم: بحيرا الراهب، وأبرهة، وإدريس، وأشرف، وتمام، وقيتم، ودريد، وأيمن، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة «يس» إلى آخرها، فبكوا حين سمعوا القرآن، وآمنوا وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآيات)»91.
ويحكى عن النجاشي رضي الله عنه أنه قال لجعفر بن أبى طالب حين اجتمع في مجلسه المهاجرون إلى الحبشة والمشركون لعنوا وهم يغرونه عليهم ويتطلبون عنتهم عنده: هل في كتابكم ذكر مريم؟ قال جعفر: فيه سورة تنسب إليها، فقرأها إلى قوله: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ)[مريم:٣٤].
وقرأ سورة طه إلى قوله: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ)[طه:٩]. فبكى النجاشي92.
وقال تعالى: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) [الأعراف:١٥٧].
ذكر الإمام فخر الدين الرازي في معنى هذه التبعية في الآية وجهين:
«أحدهما: أن المراد بذلك أن يتبعوه باعتقاد نبوته من حيث وجدوا صفته في التوراة إذ لا يجوز أن يتبعوه في شرائعه قبل أن يبعث إلى الخلق وفي قوله: (ﭿ) أن المراد وسيجدونه مكتوبا في الإنجيل؛ لأن من المحال أن يجده فيه قبل ما أنزل الله الإنجيل.
الوجه الثاني: إن المراد من لحق من بني إسرائيل زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فبين تعالى أن هؤلاء اللاحقين لا يكتب لهم رحمة الآخرة إلا إذا اتبعوه، قال: وهذا القول أقرب لأن اتباعه قبل أن يبعث لا يمكن فبين بهذه الآية أن هذه الرحمة لا يفوز بها من بني إسرائيل إلا من اتقى وآتى الزكاة وآمن بآيات الله في زمن موسى عليه الصلاة والسلام.
ومن كانت هذه صفته في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في شرائعه فعلى هذين الوجهين يكون المراد بقوله الذين يتبعون الرسول من بني إسرائيل خاصة»93.
ويقول ابن كثير رحمه الله في تفسيره لهذه الآيات السابقة: «والمشهور عن كثير من المفسرين كما ذكره محمد بن إسحاق وغيره، ورواه العوفي عن ابن عباس، أن هذه الآيات نزلت فيمن آمن من أحبار أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأسد بن عبيد وثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية وغيرهم»94.
وأما ما ورد في السنة النبوية المطهرة في شأن أولئك المؤمنين من أهل الكتاب ما صح بالحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: (رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه، وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه وصدقه، فله أجران)95.
وفي هذا الحديث حثٌ لأهل الكتاب على اتباع الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإيمان لا يتنافى مع ما جاء به النبي عيسى عليه السلام، مع تضاعف مقدار الأجر والثواب لمن آمن من أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
ويتضح مما مضى في الآيات الكريمة مكانة المؤمنين من النصارى بالقرآن الكريم، ومقدار أجرهم عند الله تعالى، وبينت الآيات الكريمة أن أهل الكتاب من النصارى ليسوا شرا كلهم، بل منهم من آمن بكتابه وبالقرآن ممن أدرك شريعة الإسلام، أو كان على استقامة فمات قبل أن يدركها، ومنهم قسيسون ورهبان فيهم تواضع لا يتكبرون على الحق، تفيض أعينهم من الدمع مما عرفوا من الحق.
ثانيًا: المحاربون للإسلام:
لا يخفى على أحد أن أعداء المسلمين من النصارى وغيرهم لا يفترون عن الكيد لدين الله تعالى بكل ما أوتوا من قوة وبكل ما لديهم من سبل ونراهم لا يتوانون عن الهجوم على دين الله كلما سنحت لهم الفرصة لذلك، وما ذلك إلا لصد المسلمين عن دينهم، ولعل ذلك واضح في قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ) [البقرة:١٢٠].
فالغاية هي الصد عن دين الله تعالى.
ومن جملة المحارببن للإسلام هم النصارى الذين لم يؤمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وناصبوها العداء علنًا أو سرًا وسيتبين هذا من خلال ما يأتي:
ذكر الله تعالى في محكم كتابه عدم محبة طائفة من أهل الكتاب من النصارى للمسلمين في قوله تعالى: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) [البقرة:١٠٥].
أي: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ) يعني: يهود أهل المدينة ونصارى أهل نجران، (ﯨ ﯩ) يعني: مشركي العرب (ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) يعني: أن ينزل على رسولكم من الوحي وشرائع الإسلام لأنهم كانوا كفارا، فيحبون أن يكون الناس كلهم كفارا مثلهم، وهذا كما قال في آية أخرى: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [النساء:٨٩].
فأخبر الله تعالى أن الأمر ليس على مرادهم حيث قال: (ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ) أي: يختار للنبوة من يشاء، من كان أهلا لذلك ويكرم بدينه الإسلام من يشاء، (ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ) أي: ذو المن العظيم لمن اختصه بالنبوة والإسلام»96.
وفي الآية الكريمة دلالة واضحة على وجوب الحذر من أهل الكتاب ومنهم النصارى؛ ما دام كثير منهم يكرهون أن ينزل الخير على المسلمين من ربهم، لذا يجب على المسلمين الحذر منهم وعدم الاستماع لأقوالهم مما يأتونهم به على وجه النصيحة؛ لأن الله تعالى عالم بما أسروا وإن أظهروا بألسنتهم خلاف ذلك، وينبه تعالى على ما أنعم به على المؤمنين من الشرع التام الكامل، الذي شرعه لنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، حيث أن أعظم الخير من الله تعالى أنه أرسل النبي صلى الله عليه وسلم من ولد إسماعيل مبشرا ونذيرا وهاديا للعالمين.
وقد رد الله تعالى كراهيتهم باختيار نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام على مقتضى حكمته وإرادته فقال تعالى: (ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) [البقرة:١٠٥].
يخبر الله تعالى في بعض آياته الكريمة أن طائفة من أهل الكتاب تسعى أن تصد المسلمين عن دينهم وتتمنى ذلك، رغم علمهم بالحق.
قال تعالى: (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [البقرة:١٠٩].
قال الإمام الرازي: «فالمراد أنهم كانوا يريدون رجوع المؤمنين عن الإيمان من بعد ما تبين لهم أن الإيمان صواب وحق، والعالم بأن غيره على حق لا يجوز أن يريد رده عنه إلا بشبهة يلقيها إليه، لأن المحق لا يعدل عن الحق إلا بشبهة والشبهة ضربان، أحدهما: ما يتصل بالدنيا وهو أن يقال لهم: قد علمتم ما نزل بكم من إخراجكم من دياركم وضيق الأمر عليكم واستمرار المخافة بكم، فاتركوا الإيمان الذي ساقكم إلى هذه الأشياء، والثاني: في باب الدين: بطرح الشبه في المعجزات أو تحريف ما في التوراة»97.
وقوله تعالى: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ)أي: «من بعد ما أضاء لهم الحق لم يجهلوا منه شيئا، ولكن الحسد حملهم على الجحود، فعيرهم ووبخهم ولامهم أشد الملامة، وشرع لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ما هم عليه من التصديق والإيمان والإقرار بما أنزل عليهم وما أنزل من قبلهم، بكرامته وثوابه الجزيل ومعونته لهم»98.
ومعلوم سبب حسد أهل الكتاب لأنهم كانوا من قبل يقرؤون في كتبهم مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وصفته وحال نبوته وكانوا يوعدون العرب بالقتل عند مبعثه لأنهم زعموا أنهم لا يتبعونه وكانوا يظنون أنه يكون من بني إسرائيل فلما بعثه الله تعالى من ولد إسماعيل حسدوا العرب وأظهروا الكفر به وجحدوا ما عرفوه، قال الله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [البقرة:٨٩]99.
ويحذر الله تعالى عباده المؤمنين عن سلوك طرائق الكفار من أهل الكتاب ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين، مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم، ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو والاحتمال، حتى يأتي أمر الله من النصر والفتح100.
وأما سبب نزول هذه الآية فقد قال الواحدي: «قال ابن عباس: نزلت في نفر من اليهود قالوا للمسلمين بعد وقعة أحد: ألم تروا إلى ما أصابكم؟ لو كنتم على الحق ما هزمتم، فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم»101.
وقيل أيضًا: أن نفرًا من أهل الكتاب قالوا لحذيفة بن اليمان، وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد: لو كنتم على الحق ما هربتم فارجعا إلى ديننا فنحن أهدى سبيلا منكم، فقال عمار بن ياسر: كيف نقض العهد فيكم قالوا شديد قال: إني عاهدت أن لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ما عشت، قالت اليهود، أما هذا فقد صبأ، وقال حذيفة: أما أنا فقد رضيت بالله ربا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا وبالقرآن إماما وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخوانا، ثم إنهما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه بذلك، فقال: أصبتما الخير وأفلحتما فأنزل الله تعالى هذه الآية»102.
ويتضح مما تقدم عداوة أهل الكتاب وحقدهم للمسلمين وتمنيهم رجوعهم عن الإسلام وذلك بسبب كراهيتهم أن يتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم لكونه من أبناء إسماعيل عليه السلام، وودوا أن يكون من بني إسرائيل لذلك قالوا للصحابة ارجعوا إلى ديننا فهو خير من دينكم وهذا دليل على تعصبهم وجهلهم بالدين.
يعلم كثير من علماء أهل الكتاب أن الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق ومع ذلك فإنهم يكتمونه، وقد أخبر الله تعالى عن ذلك في آيات عديدة.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) [البقرة:١٤٦].
وقوله تعالى: (ﭔ)، أي: «يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم معرفة جلية يميزون بينه وبين غيره بالوصف المعين المشخص كما يعرفون أبناءهم لا يشتبه عليهم أبناؤهم وأبناء غيرهم، وعن عمر رضى الله عنه أنه سأل عبد الله بن سلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنا أعلم به مني بابني، قال: ولم؟ قال: لأني لست أشك في محمد أنه نبي، فأما ولدي، فلعل والدته خانت، فقبل عمر رأسه»103.
وقيل في معنى الآية أيضًا: يعرفون أن البيت الحرام هو القبلة وهو قول قتادة وابن عباس رضي الله عنهم وغيرهم104.
وقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ) [آل عمران:٧١].
أي: «يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله بما نطقت به التوراة والإنجيل ودلت على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأنتم تشهدون أنها آيات الله أو بالقرآن وأنتم تشهدون نعته في الكتابين أو تعلمون بالمعجزات أنه حق»105.
قال الطبري: «والحق الذي كتموه ما في كتبهم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه ونبوته»106.
ثم فصل خلطهم الحق بالباطل فقال تعالى: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) [آل عمران:٧٢].
أي: «كان ذلك أمرًا منهم إياهم بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم في نبوته وما جاء به من عند الله، وأنه حق في الظاهر من غير تصديقه في ذلك بالعزم واعتقاد القلوب على ذلك، وبالكفر به وجحود ذلك كله في آخره»107.
ثم يتواصون فيما بينهم قائلين: (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) وهنا يأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) [آل عمران:٧٣].
وقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [البقرة:٨٩].
ومعنى الآية: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ) يعني: القرآن مصدق لما معهم يعني التوراة وهذا التصديق في صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن نبوته وصفته ثابتة في التوراة وكانوا يعني: -اليهود- من قبل أي: من قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم يستفتحون أي: يستنصرون به على الذين كفروا يعني: مشركي العرب وذلك أنهم كانوا إذا أحزنهم أمرٌ ودهمهم عدوٌ يقولون: اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد صفته في التوراة فكانوا ينصرون، وكانوا يقولون لأعدائهم من المشركين: قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم فلما جاءهم ما عرفوا أي: الذي عرفوه يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم عرفوا نعته وصفته وأنه من غير بني إسرائيل كفروا به أي: جحدوه وأنكروه بغيا وحسدا فلعنة الله على الكافرين»108.
قال ابن عباس: «يستنصرون بخروج محمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب - يعني: بذلك أهل الكتاب - فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ورأوه من غيرهم، كفروا به وحسدوه»109.
وقد وردت أحاديث في السنة النبوية المطهرة تبين معرفة أهل الكتاب ببعثة نبي آخر الزمان وصفاته وأتباعه، ومن ذلك ما ورد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (أن هذه الآية التي في القرآن: (ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [الأحزاب:٤٥].
قال في التوراة: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخاب بالأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله فيفتح بها أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا)110.
وعن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوب في الإنجيل: لا فظ ولا غليظ ولا سخاب بالأسواق، ولا يجزئ بالسيئة مثلها، بل يعفو ويصفح)111.
والمتأمل في كتب السير والتاريخ يجد الكثير من الشواهد والأدلة على ذلك112.
ويتضح مما تقدم أن نعت النبي صلى الله عليه وسلم موجود في الكتب السابقة، وأن طائفة من بني إسرائيل من النصارى قد جحدوا ما جاءهم به الرسول الذي انتظروه وبشروا به، ومع ذلك أخذهم الكبر رغم أنهم موقنون بمجيء الرسول الجديد وأوصافه موجودة عندهم في الإنجيل إلا أنهم رفضوا أن يؤمنوا فاستحقوا بذلك لعنة الله تعالى.
بعد أن بين الله تعالى في الآيات السابقة محاولة بعض أهل الكتاب رد المسلمين عن دينهم، أخبر في آيات أخرى عن محاولتهم إضلال المسلمين في دينهم.
قال تعالى: (ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ) [آل عمران:٦٩].
قال الطبري: «يعني بقوله جل ثناؤه: (ﯰ)، أي: تمنت، (ﯱ)، يعني جماعة من (ﯳ ﯴ)، وهم أهل التوراة من اليهود، وأهل الإنجيل من النصارى لو (ﯶ)، يقولون: لو يصدونكم أيها المؤمنون عن الإسلام، ويردونكم عنه إلى ما هم عليه من الكفر، فيهلكونكم بذلك»113.
ثم قال تعالى: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ)، وهو يحتمل وجوها منها: إهلاكهم أنفسهم باستحقاق العقاب على قصدهم إضلال الغير وهو كقوله تعالى: (ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [البقرة:٥٧].
ومنها إخراجهم أنفسهم عن معرفة الهدى والحق لأن الذاهب عن الاهتداء يوصف بأنه ضال، ومنها أنهم لما اجتهدوا في إضلال المؤمنين ثم إن المؤمنين لم يلتفتوا إليهم فهم قد صاروا خائبين خاسرين، حيث اعتقدوا شيئا ولاح لهم أن الأمر بخلاف ما تصوروه، ثم قال تعالى: (ﯻ ﯼ)، أي: ما يعلمون أن هذا يضرهم ولا يضر المؤمنين114.
وفي بيان بعض شبهات طائفة من أهل الكتاب في إضلال المسلمين يقول الإمام الرازي: يجتهدون في إضلال من آمن بالرسول عليه السلام بإلقاء الشبهات كقولهم: إن محمدا عليه الصلاة والسلام مقر بموسى وعيسى ويدعي لنفسه النبوة، وأيضا إن موسى عليه السلام أخبر في التوراة بأن شرعه لا يزول، وأيضا القول بالنسخ يفضي إلى البداء، والغرض منه تنبيه المؤمنين على أن لا يغتروا بكلام اليهود، ونظير قوله تعالى في سورة البقرة: (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [البقرة:١٠٩].
وقوله تعالى: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [النساء:٨٩]115.
ويتضح مما مضى تمني طائفة من أهل الكتاب إضلال المسلمين وردهم عند دينهم بشتى الأساليب الخبيثة والشبهات الضالة وذلك بإثارة الظنون والشكوك والأوهام حول الإسلام والتشكيك بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، والتشويش على عقيدة المسلمين إلا أن الله تعالى أكد وبين أنهم ما أضلوا إلا أنفسهم وما يشعرون.
ذكر الله تعالى في القرآن الكريم عن أهل الكتاب بأنهم يصدون المؤمنين عن سبيل الله بقوله تعالى: (ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [آل عمران:٩٩].
أي: «لم تصرفون عن دين الله من آمن وتصدونهم عن سبيل الله بإلقاء الشبهات والشكوك وذلك بإنكارهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم تبغونها عوجا، يعني: زيغا وميلا عن الحق بإلقاء الشبه في قلوب الضعفاء وأنتم شهداء أن نعت محمد صلى الله عليه وسلم وصفته مكتوب في التوراة، وأن دين الله الذي لا يقبل غيره هو الإسلام، وقيل معناه: وأنتم تشهدون المعجزات التي تظهر على يد محمد صلى الله عليه وسلم الدالة على نبوته، (ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ)، فيه وعيد وتهديد لهم، وذلك أنهم كانوا يجتهدون ويحتالون بإلقاء الشبهة في قلوب الناس ليصدوهم عن سبيل الله والتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم فلذلك قال الله تعالى: (ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ)»116.
قال قتادة: «لم تصدون عن الإسلام وعن نبي الله من آمن بالله، وأنتم شهداء فيما تقرؤون من كتاب الله: أن محمدًا رسول الله وأن الإسلام دين الله الذي لا يقبل غيره ولا يجزى إلا به، تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل»117.
يقول الزمخشري: «كانوا يفتنون المؤمنين ويحتالون لصدهم عنه، ويمنعون من أراد الدخول فيه بجهدهم، وقيل: أتت اليهود الأوس والخزرج فذكروهم ما كان بينهم في الجاهلية من العداوات والحروب ليعودوا لمثله (ﯶ ﯷ) تطلبون لها اعوجاجا وميلا عن القصد والاستقامة، فإن قلت: كيف تبغونها عوجا وهو محال؟ قلت: فيه معنيان: أحدهما أنكم تلبسون على الناس حتى توهموهم أن فيها عوجا بقولكم: إن شريعة موسى لا تنسخ، وبتغييركم صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وجهها ونحو ذلك، والثاني: أنكم تتبعون أنفسكم في إخفاء الحق وابتغاء ما لا يتأتى لكم من وجود العوج فيما هو أقوم من كل مستقيم وأنتم شهداء أنها سبيل الله لا يصد عنها إلا ضال مضل، أو وأنتم شهداء بين أهل دينكم، عدول يثقون بأقوالكم ويستشهدونكم في عظائم أمورهم، وهم الأحبار»118.
ويتضح من الآية الكريمة أن من صفات بعض أهل الكتاب الذين كفروا بالإسلام محاولة صد المسلمين عن دينهم وإقناعهم بالرجوع والإرتداد عن الإيمان بشتى الطرق وذلك بإلقاء الشبهات والشكوك، وتكذيبهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وإنكارهم ثبوت صفته في كتبهم، وإثارة الفتن والعداوات وإشاعة الفرقة والإختلاف والحروب بين المسلمين حتى ينالوا من دين الإسلام، ويبغون الدين عوجا برغم أنهم شهداء على أن ما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق، لذلك وبخ الله تعالى المعاندين منهم بسبب كفرهم وصدهم الناس عن سبيل الله وذكرهم بقوله: (ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ).
اقتضت حكمة الله تعالى تولية المسلمين وجوههم وتحويل قبلتهم من بيت المقدس إلى المسجد الحرام، واستجاب المسلمون لأمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فاتجهوا جميعا نحو قبلتهم الجديدة، إلا أن هذا الأمر لم يرض السفهاء من الناس ومنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى في قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ) [البقرة:١٤٢].
قال ابن كثير: «ولما وقع هذا حصل لبعض الناس من أهل النفاق والريب والكفرة من اليهود ارتياب وزيغ عن الهدى وتخبيط وشك، وقالوا: (ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) أي: ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا، وتارة يستقبلون كذا؟ فأنزل الله جوابهم في قوله: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) أي: الحكم والتصرف والأمر كله لله، وحيثما تولوا فثم وجه الله، و(ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ) [البقرة:١٧٧].
أي: الشأن كله في امتثال أوامر الله، فحيثما وجهنا توجهنا، فالطاعة في امتثال أمره، ولو وجهنا في كل يوم مرات إلى جهات متعددة، فنحن عبيده وفي تصريفه وخدامه، حيثما وجهنا توجهنا، وهو تعالى له بعبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه وأمته عناية عظيمة؛ إذ هداهم إلى قبلة إبراهيم خليل الرحمن، وجعل توجههم إلى الكعبة المبنية على اسمه تعالى وحده لا شريك له، أشرف بيوت الله في الأرض، إذ هي بناء إبراهيم الخليل، عليه السلام، ولهذا قال: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ)»119.
ومع علم أهل الكتاب من النصارى أن تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة حق وأنها قبلة إبراهيم عليه السلام، لكنهم يعاندون ويتبعون هواهم ويطالبون رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلامة على تصديق ذلك.
قال تعالى: (ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ) [البقرة:١٤٤-١٤٥].
وقوله تعالى: (ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ): «يعني: أن القبلة إلى الكعبة هي الحق وهي قبلة إبراهيم عليه السلام، (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ)، يعني: جحودهم القبلة إلى الكعبة فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ائتنا بعلامة على تصديق مقالتك وهم اليهود والنصارى، فنزل قوله تعالى: (ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ) وهم اليهود والنصارى بكل آية، أي: بكل علامة ما تبعوا قبلتك، أي: ما صلوا إلى قبلتك، وما أنت بتابع قبلتهم، أي بمصل إلى قبلتهم، وما بعضهم بتابع قبلة بعض، يقال: معناه كيف ترجو أن يتبعوك ويصلوا إلى قبلتك وهم لا يتبعون بعضهم بعضًا»120.
وقوله تعالى: (ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ): أي: برهان وحجة على أن الكعبة قبلة، والمعنى ما تركوا قبلتك لشبهة تزيلها بالحجة، وإنما خالفوك مكابرة وعنادًا، (ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ)، قطع لأطماعهم، فإنهم قالوا: لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن تكون صاحبنا الذي ننتظره، تعزيرًا له وطمعًا في رجوعه.
وقبلتهم وإن تعددت لكنها متحدة بالبطلان ومخالفة الحق، (ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ)، فإن اليهود تستقبل الصخرة، والنصارى مطلع الشمس لا يرجى توافقهم كما لا يرجى موافقتهم لك، لتصلب كل حزب فيما هو فيه، (ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ) على سبيل الفرض والتقدير، أي: ولئن اتبعتهم مثلا بعد ما بان لك الحق وجاءك فيه الوحي (ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ)، وأكد تهديده وبالغ فيه121.
ويتضح مما مضى عداوة وحقد بعض النصارى وغيرهم على الإسلام ومحاولتهم زعزعة عقيدتهم بالتشكيك في قبلة المسلمين ومطالبتهم النبي صلى الله عليه وسلم بعلامة على ذلك، فيبين الله تعالى لنبيه الكريم عليه الصلاة والسلام ولو جاءهم بكل علامة ما تبعوا قبلتك، وما أنت بتابع قبلتهم، وما بعضهم بتابع قبلة بعض.
أخبر الله تعالى في آياته الكريمة عن إيذاء بعض أهل الكتاب للمسلمين وإستهزائهم بهم.
قال تعالى: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) [المائدة:٥٧-٥٩].
أي: أن الله حذر المؤمنين ألا يتخذوا اليهود والنصارى أولياء، ووصفهم تعالى بأنهم اتخذوا الإسلام هزوًا ولعبًا، وهم قد أوتوا الكتاب من قبلنا، يعني: التوراة والإنجيل، ونهانا عن اتخاذهم أولياء، وأخبرنا أنهم اتخذوا ديننا هزوًا ولعبًا كما فعل أهل الكتاب، ومعنى اتخاذهم ديننا هزوًا ولعبًا: هو إيمانهم ثم كفرهم وإظهارهم خلاف ما يبطنون أخبر الله عنهم أنهم: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) [البقرة:١٤].
وقوله: (ﰒ ﰓ)، أي: اتقوه في اتخاذهم أولياء، (ﰔ ﰕ ﰖ) أي: مصدقين بالله»122.
لما حكى في الآية الأولى عنهم أنهم اتخذوا دين المسلمين هزوا ولعبا ذكر ههنا بعض ما يتخذونه من هذا الدين هزوا ولعبا فقال: وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا قيل: كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المؤذن بالمدينة يقول: أشهد أن محمدًا رسول الله يقول: أحرق الكاذب. فدخلت خادمته بنار ذات ليلة فتطايرت منها شرارة في البيت، فاحترق البيت واحترق هو وأهله.
وقيل: كان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي للصلاة وقام المسلمون إليها، فقالت اليهود: قاموا لا قاموا، صلوا لا صلوا على طريق الاستهزاء، فنزلت الآية.
وقيل: كان المنافقون يتضاحكون عند القيام إلى الصلاة تنفيرا للناس عنها.
وقيل: قالوا يا محمد لقد أبدعت شيئًا لم يسمع فيما مضى، فإن كنت نبيا فقد خالفت فيما أحدثت جميع الأنبياء، فمن أين لك صياح كصياح العير، فأنزل الله هذه الآية123.
ثم يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: «قل يا محمد لأهل الكتاب من اليهود والنصارى: يا أهل الكتاب، هل تكرهون منا أو تجدون علينا في شيء إذ تستهزؤون بديننا، وإذ أنتم إذا نادينا إلى الصلاة اتخذتم نداءنا ذلك هزوًا ولعبا (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) يقول: إلا أن صدقنا وأقررنا بالله فوحدناه، وبما أنزل إلينا من عند الله من الكتاب، وما أنزل إلى أنبياء الله من الكتب من قبل كتابنا، (ﭰ ﭱ ﭲ) يقول: وإلا أن أكثركم مخالفون أمر الله، خارجون عن طاعته، تكذبون عليه»124.
ويتضح مما تقدم عداوة بعض أهل الكتاب من النصارى لدين الإسلام ومحاولتهم المستمرة في تمزيقه بشتى الأساليب والطرق للنيل منه ومن أتباعه قديمًا وحديثًا وذلك بالإيذاء والإستهزاء والكذب مع علمهم المسبق بما يجدونه في كتبهم بأن الإسلام هو دين الحق، ومع ذلك فهم مصرون على العند والكبر.
[انظر: أهل الكتاب: موقف أهل الكتاب من المسلمين]
ثالثًا: تحذير القرآن المسلمين من النصارى:
وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة متنوعة في تحذير المسلمين وتنبيهم من الوقوع في أخطاء الأمم السابقة من النصارى وغيرهم منها ما يأتي:
قال تعالى: (ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [البقرة:١٠٤].
وفي الآية دلالة على النهي الشديد والتهديد والوعيد عن التشبه بالكفار في أقوالهم وأفعالهم، ولباسهم وأعيادهم، وعباداتهم وغير ذلك من أمورهم التي لم تشرع لنا ولا نقرر عليها125.
الذين يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله، وما منحهم به من إرسال رسوله ويتمنوا أن يكونوا كافرين، كما قال تعالى: (ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ) [آل عمران:١٠٠].
أي: «حذر الله تعالى المؤمنين من إغواء الكفار وإضلالهم وناداهم بوصف الإيمان تنبيها على تباين ما بينهم وبين الكفار، ولم يأت بلفظ: «قل» ليكون ذلك خطابا منه تعالى لهم وتأنيسا لهم، وأبرز نهيه عن موافقتهم وطواعيتهم في صورة شرطية، لأنه لم تقع طاعتهم لهم»126.
قال قتادة رحمه الله: «قد تقدم الله إليكم فيهم كما تسمعون وحذركم وأنبأكم بضلالتهم، فلا تأتمنوهم على دينكم، ولا تنتصحوهم على أنفسكم، فإنهم الأعداء الحسدة الضلال، كيف تأتمنون قومًا كفروا بكتابهم، وقتلوا رسلهم، وتحيروا في دينهم، وعجزوا عن أنفسهم؟! أولئك والله هم أهل التهمة والعداوة127.
قال تعالى: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ) [آل عمران:١٠٥].
أي:ينهى هذه الأمة أن تكون كالأمم الماضية في تفرقهم واختلافهم، وتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع قيام الحجة عليهم128.
والدعوة إلى الوحدة ونبذ الاختلاف والاعتصام بحبل الله تعالى، لقوله تعالى: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [آل عمران:١٠٣].
قال ابن عباس: «أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والفرقة وأخبرهم إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في الدين»129.
فإن هذا من صفات النصارى، كما قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [آل عمران:١٨٧].
أي: أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب يعني: اليهود والنصارى، والمراد منهم: العلماء خاصة، وقيل المراد بالذين أوتوا الكتاب: العلماء والأحبار من اليهود خاصة وأخذ الميثاق هو التوكيد والإلزام لبيان ما أوتوه من الكتاب وهو قوله تعالى: (ﭘ ﭙ)، يعني: لتبينن ما في الكتاب ولتظهرنه للناس حتى يعلموه وذلك أن الله أوجب على علماء التوراة والإنجيل أن يشرحوا للناس ما في هذين الكتابين من الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم (ﭚ ﭛ)، ولا تخفون ذلك عن الناس (ﭜ) يعني: الكتاب، وقيل: الميثاق (ﭝ ﭞ) أي: فطرحوه وضيعوه وتركوا العمل به (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) (ﭤ ﭥ ﭦ)، ذمهم الله تعالى على فعلهم ذلك130.
ولعنهم الله تعالى في قوله: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ) [البقرة:١٥٩].
وظاهر هذه الآيات وإن كان مخصوصا بعلماء أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى فلا يبعد أن يدخل فيه علماء هذه الأمة الإسلامية لأنهم أهل كتاب وهو القرآن وهو أشرف الكتب131.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [المائدة:٥١].
أي: «لا تعتمدوا على الاستنصار بهم، ولا تتوددوا إليهم، ولا تتخذوهم أولياء تنصرونهم وتستنصرونهم وتؤاخونهم وتصافونهم وتعاشرونهم معاشرة المؤمنين، ثم علل النهي بقوله (ﭛ ﭜ ﭝ) أي: إنما يوالي بعضهم بعضا لاتحاد ملتهم واجتماعهم في الكفر، فما لمن دينه خلاف دينهم ولموالاتهم ومن يتولهم منكم فإنه من جملتهم وحكمه حكمهم، وهذا تغليظ من الله وتشديد في وجوب مجانبة المخالف في الدين واعتزاله»132.
وورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر أبا موسى الأشعري أن يرفع إليه ما أخذ وما أعطى في أديم واحد، وكان له كاتب نصراني، فرفع إليه ذلك، فعجب عمر رضي الله عنه، وقال: إن هذا لحفيظ، هل أنت قارئ لنا كتابا في المسجد جاء من الشام؟ فقال: إنه لا يستطيع أن يدخل المسجد، فقال عمر: أجنب هو؟ قال: لا بل نصراني، قال: فانتهرني وضرب فخذي، ثم قال: أخرجوه، ثم قرأ: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ) [المائدة:٥١]133.
ومع أن الله تعالى ذكر في هذه الآية الكريمة: أن اليهود والنصارى بعضهم أولياء بعض، ولكنه بين في موضع آخر ذكرناه فيما مضى في المبدلين دينهم وعاقبتهم من النصارى حيث أن ولاية بعضهم لبعض ليست خالصة لله تعالى، بل تقوم على أساس عداوتهم لدين الإسلام، لذلك بين أن العداوة والبغضاء بينهم باقية ومستمرة إلى يوم القيامة، بقوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [المائدة:١٤].
قال تعالى: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ) [المائدة:٥٧].
أي: «أن أحدهم كان يظهر للمؤمنين الإيمان وهو على كفره مقيم، ثم يراجع الكفر بعد يسير من المدة بإظهار ذلك بلسانه قولا بعد أن كان يبدي بلسانه الإيمان قولا وهو للكفر مستبطن تلعبًا بالدين واستهزاءً به، كما أخبر تعالى ذكره عن فعل بعضهم ذلك بقوله: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) [البقرة:١٤- ١٥]134».
حيث ذمهم الله تعالى في قوله تعالى: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ) [المائدة:٧٩].
أي: «لا ينهى بعضهم بعضًا عن معاودة منكر فعلوه، أو عن مثل منكر فعلوه، أو عن منكر أرادوا فعله وتهيؤوا له، أو لا ينتهون عنه من قولهم تناهى عن الأمر وانتهى عنه إذا امتنع، (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ)، تعجيب من سوء فعلهم مؤكد بالقسم»135.
والدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإلتزام بقوله تعالى: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ) [آل عمران:١٠٤].
ولا يتحقق هذا الأمر إلا بالعودة إلى الله تعالى والتزام شرعه وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وعن عائشة رضي الله عنها، أن قريشًا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتشفع في حد من حدود الله، ثم قام فاختطب، ثم قال: إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)136.
وهناك كثير من الآيات الكريمة في القرآن الكريم غير التي ذكرت تحذر المسلمين من النصارى وغيرهم وتبين صفاتهم وأخلاقهم وعداوتهم وحقدهم على الإسلام وأهله.
بعد بيان عقائد النصارى ودعاواهم الباطلة ومحاولاتهم للنيل من دين الإسلام نتطرق في هذا المبحث إلى نماذج من سماحة الإسلام في التعامل معهم، حيث إن الإسلام دين السماحة والرحمة والعفو والإحسان والعدالة والإنصاف مع المسلمين وغير المسلمين من أهل الكتاب وغيرهم، والمتأمل في القرآن الكريم يرى بوضوح كيف تعامل الإسلام مع أهل الكتاب من النصارى، وكيف أنصفهم وبين المبادئ الصحيحة لدينهم وبين منزلة عيسى عليه السلام دون غلو، فدين الإسلام لا يتنافى مع ما جاء به عيسى عليه السلام، لذا نرى أنه أعطى حقوق أهل الكتاب من النصارى وأنصفهم، وهذا ما سوف نراه من خلال استقراء بعض الآيات القرآنية كما يأتي:
قال تعالى: (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [البقرة:١٠٩].
أي: «فتجاوزوا عما كان منهم من إساءة وخطأ في رأي أشاروا به عليكم في دينكم، إرادة صدكم عنه، ومحاولة ارتدادكم بعد إيمانكم، وعما سلف منهم من قيلهم لنبيكم صلى الله عليه وسلم: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ) [النساء:٤٦].
واصفحوا عما كان منهم من جهل في ذلك حتى يأتي الله بأمره، فيحدث لكم من أمره فيكم ما يشاء، ويقضي فيهم ما يريد، فقضى فيهم تعالى ذكره، وأتى بأمره، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم، وللمؤمنين به: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) [التوبة:٢٩].
فنسخ الله جل ثناؤه العفو عنهم والصفح، بفرض قتالهم على المؤمنين، حتى تصير كلمتهم وكلمة المؤمنين واحدة، أو يؤدوا الجزية عن يد صغارا »137.
وليس في قتالهم انتقام منهم، بل فيه ما يدعوهم إلى الإيمان بالله تعالى ورسوله، واذا آمنوا بذلك نجوا من العقاب، وفازوا بعظيم الثواب؛ فيصير القتال رحمة لهم لا عقوبة138.
قال الله تعالى: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ) [البقرة:٢٥٦].
ومع ذلك فأن الله تعالى دعا أهل الكتاب للإيمان والإسلام في قوله تعالى: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) [آل عمران:١١٠].
أي: «ولو صدق أهل التوراة والإنجيل من اليهود والنصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من عند الله؛ لكان خيرًا لهم عند الله في عاجل دنياهم وآجل آخرتهم»139.
ولا شك أن الإيمان خير لهم من الكفر.
شأنه شأن الأنبياء والرسل الذين من قبله دون تفريق بين نبي ونبي، فكلهم أنبياء الله تعالى ورسله الكرام عليهم الصلاة والسلام، والإيمان بما أنزل معه من الإنجيل كما قال تعالى: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ) [البقرة:٢٨٥].
أي: «يقولون آمنا بجميع الرسل ولا نكفر بأحد منهم ولا نفرق بينهم كما فرقت اليهود والنصارى»140.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (أنا أولى الناس بابن مريم، والأنبياء أولاد علات141، ليس بيني وبينه نبي)142.
قال تعالى: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) [آل عمران:٦٤].
أي: «تعالوا إلى كلمة سواءٍ بيننا وبينكم لا يختلف فيها الرسل والكتب، ألا نعبد إلا الله أن نوحده بالعبادة ونخلص فيها، ولا نشرك به شيئًا ولا نجعل غيره شريكًا له في استحقاق العبادة ولا نراه أهلًا لأن يعبد»143.
ومن ذلك قوله تعالى: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [آل عمران:٩٨-٩٩].
قال تعالى: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ) [المائدة:٥].
قال تعالى: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ) [المائدة:٧٢-٧٦].
قال تعالى: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [المائدة:٨٢-٨٥].
والمراد به النصارى الذين أسلموا، وفي سياق الآية دليل عليه، وهو قوله تعالى: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ)144.
حيث سمى في القرآن الكريم سورة باسم مريم عليها السلام، وذكر قصة عيسى عليه السلام كاملة دون تحريف من ولادته إلى أن رفعه الله تعالى إليه.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [العنكبوت:٤٦].
أي: ولا تجادلوا أيها المؤمنون بالله وبرسوله اليهود والنصارى، وهم أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن بالجميل من القول، وهو الدعاء إلى الله بآياته، والتنبيه على حججه145.
قال تعالى: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ) [القصص:٥٢-٥٤].
أي: «يؤتون أجرهم مرتين مرة على إيمانهم بكتابهم ومرة على إيمانهم بالقرآن، بما صبروا بصبرهم وثباتهم على الإيمانين، أو على الإيمان بالقرآن قبل النزول وبعده، أو على أذى المشركين ومن هاجرهم من أهل دينهم، ويدرؤن بالحسنة السيئة ويدفعون بالطاعة المعصية»146.
قال تعالى: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) [الروم:٢-٥].
قال أبو حيان الأندلسي: «وحين غلب الروم فارس سر رسول الله صلى الله عليه وسلم لغلبة أهل الكتاب لأهل عبادة النار، ولإهلاك العدو الأكبر بالعدو الأصغر إذ كان مخوفا على أهل الإسلام»147.
قال تعالى: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) [التوبة:٢٩].
بخلاف الكافرين والمشركين حيث أبيحت دماؤهم.
قال تعالى: (ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ) [محمد:٤].
أي: يعطوا الخراج عن رقابهم، الذي يبذلونه للمسلمين دفعًا عنها148، وهذا في حالة عدم إسلامهم، أما إذا أسلموا فلا جزية عليهم فحالهم حال المسلمين.
قال تعالى: (ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [الحديد:٢٧].
أي: الحواريون الذين اتبعوا عيسى على منهاجه وشريعته فيهم مودة للإسلام وأهله، وما ذاك إلا لما في قلوبهم، إذ كانوا على دين المسيح من الرقة والرأفة، وهو أشد الرحمة فكان يواد بعضهم بعضا، وقيل: هذا إشارة إلى أنهم أمروا في الإنجيل بالصلح وترك إيذاء الناس وألان الله قلوبهم لذلك، بخلاف اليهود الذين قست قلوبهم وحرفوا الكلم عن مواضعه 149.
قال الله تعالى: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ) [الممتحنة:٨].
أي: لا ينهاكم عن الإحسان إلى الكفرة الذين لا يقاتلونكم في الدين، كالنساء والضعفة منهم أن تبروهم وتحسنوا إليهم وتقسطوا إليهم، أي: تعدلوا إن الله يحب المقسطين150.
قال الزمخشري: «لا ينهاكم عن مبره هؤلاء، وإنما ينهاكم عن تولي هؤلاء، وهذا أيضا رحمة لهم لتشددهم وجدهم في العداوة متقدمة لرحمته بتيسير إسلام قومهم، حيث رخص لهم في صلة من لم يجاهر منهم بقتال المؤمنين وإخراجهم من ديارهم»151.
والمتأمل في القرآن الكريم يجد الآيات العديدة والمتنوعة في بيان سماحة الإسلام مع النصارى وغيرهم، وأن هذا التسامح هو جوهر تعاليم الإسلام التي جاءت لتحفظ كرامة الإنسان وحقوقه حتى وإن كان من غير المسلمين.
ويؤكد النبي صلى الله عليه وسلم على تلك السماحة حين تعامل مع النصارى بغاية التسامح عندما كتب لأهل نجران في عقد الصلح: (ولنجران وحاشيتهم جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله على أنفسهم وملتهم وأرضهم وأموالهم وغائبهم وشاهدهم وبيعهم وصلواتهم، لا يغيروا أسقفا عن أسقفيته، ولا راهبا عن رهبانيته، ولا واقفا عن وقفانيته، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، وليس ربا ولا دم جاهلية، ومن سأل منهم حقا فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين لنجران، ومن أكل ربا من ذي قبل فذمتي منه بريئة ولا يؤاخذ أحد منهم بظلم آخر وعلى ما في هذه الصحيفة جوار الله وذمة النبي أبدا حتى يأتي الله بأمره إن نصحوا وأصلحوا فيما عليهم غير مثقلين بظلم)152.
موضوعات ذات صلة: |
الإنجيل، أهل الكتاب، عيسى عليه السلام، مريم، اليهود |
1 انظر: لسان العرب، ابن منظور، ٥/٢١١، المصباح المنير، الفيومي، ٢/٦٠٧، معجم اللغة العربية المعاصرة، الدكتور أحمد مختار عبد الحميد عمر، ٣/٢٢٢١، المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية ٢/٩٢٥.
2 انظر: الملل والنحل، الشهرستاني، ١/٢٦٦.
3 المفردات، الراغب الأصفهاني ص٨٠٩.
4 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، ص٧٠٢-٧٠٤، المعجم المفهرس الشامل، عبد الله جلغوم، باب النون ص١٣٢٥-١٣٢٨.
5 انظر: بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي، ٥/٦٩-٧٠، عمدة الحفاظ، السمين الحلبي، ٤/١٨٣-١٨٤.
6 انظر: لسان العرب، ١١/٢٨، القاموس المحيط، الفيروزآبادي ص٩٦٣، مقاييس اللغة، ابن فارس، ١/١٥٠.
7 القاموس المحيط، ص١٢٨.
8 انظر: المفردات، ١/٧٠١، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، مجمع اللغة العربية، ص٩٤٩- ٩٥٠.
9 المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، ص٩٧.
10 انظر: المغني، ابن قدامة، ٩/٣٢٩.
11 الملل والنحل، الشهرستاني، ص٢٤٧.
12 انظر: لسان العرب، ٤/٤٥٤، تاج العروس، الزبيدي، ١١/١٠٣.
13 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، ص٣٢٨.
14 فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، ١/١٠٩.
15 مفاتيح الغيب، الرازي، ٨/٢٣٣.
16 انظر: المفردات، ص٨٠٩.
17 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، ص٥١، معجم اللغة العربية المعاصرة، ١/٩١.
18 التحرير والتنوير، ابن عاشور، ١/٤٥٠.
19 انظر: كتاب محاضرات في النصرانية، أبو زهرة، ص١٢٢.
20 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٣/٦٨.
21 هم أصحاب ملكا الذي ظهر بأرض الروم واستولى عليها، ومعظم الروم ملكانية حيث قالوا: إن الكلمة اتحدت بجسد المسيح، وتدرعت بناسوته، ويعنون بالكلمة: أقنوم العلم، ويعنون بروح القدس: أقنوم الحياة، فقال بعضهم: إن الكلمة مازجت جسد المسيح، كما يمازج الخمر أو الماء اللبن. انظر: الملل والنحل، للشهرستاني، ٢/٢٧.
22 هم أصحاب يعقوب: قالوا بالأقانيم الثلاثة أيضًا، إلا أنهم قالوا: انقلبت الكلمة لحما ودما، فصار الإله هو المسيح. وهو الظاهر بجسده، بل هو هو. انظر: الملل والنحل، للشهرستاني، ٢/٣٠.
23 هم أصحاب نسطور الحكيم الذي ظهر في زمان المأمون، وتصرف في الأناجيل بحكم رأيه حيث قال: إن الله تعالى واحد، ذو أقانيم ثلاثة: الوجود، والعلم، والحياة، وهذه الأقانيم ليست زائدة على الذات، ولا هي هو، واتحدت الكلمة بجسد عيسى عليه السلام، لا على طريق الامتزاج كما قالت الملكانية، ولا على طريق الظهور به كما قالت اليعقوبية، ولكن كإشراق الشمس في كوة على بلورة، وكظهور النقش في الشمع إذا طبع بالخاتم. انظر: الملل والنحل، للشهرستاني، ٢/٢٩.
24 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٣/١٥٧.
25 انظر: الكشاف، الزمخشري، ١/٦٦٣.
26 مفاتيح الغيب، الرازي، ١٢/٤٦٦.
27 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٣/٢٣٢.
28 التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي، ١/٢٥١.
29 تفسير القشيري، ١/٤٥٦.
30 انظر: السيرة النبوية، ابن هشام، ١/٥٧٥.
31 مفاتيح الغيب، الرازي، ١٦/٢٩.
32 انظر: النكت والعيون، الماوردي، ٢/٣٥٣، زاد المسير، ابن الجوزي، ٢/٢٥٢.
33 تفسير السمرقندي، ٢/٥٣.
34 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، باب (وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه)، ٦/١٩، رقم ٤٤٨٢.
35 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٦/٢٣.
36 انظر: التفسير الوسيط، سيد طنطاوي ٣/٤٠٠.
37 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٢/٤٧٧، التحرير والتنوير، ابن عاشور ٦/٥٠.
38 لباب التأويل، الخازن، ١/٤٥٢.
39 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله: (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها)، ٤/١٦٧، رقم ٣٤٤٥.
40 التحرير والتنوير، ٦/٢٨٢.
41 مفاتيح الغيب، الرازي، ٦/٤٠٩.
42 مختصر إظهار الحق، رحمت الله الهندي، ١/١٨٣.
43 انظر: جامع البيان، الطبري، ٢/٥٠٧، تفسير السمرقندي، ١/٨٤، مدارك التنزيل، النسفي، ١/١٢٠.
44 انظر: لباب التأويل، الخازن، ١/٧١، تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٦٢.
45 لباب التأويل، الخازن، ١/٧١.
46 المصدر السابق.
47 جامع البيان، الطبري، ٢/٥٠٧.
48 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي، ١/٥١٧.
49 تأويلات أهل السنة، الماتريدي، ١/٥٤١.
50 جامع البيان، الطبري، ٢/٥١٠.
51 الهداية إلى بلوغ النهاية، مكي بن أبي طالب، ١/٤٠٣.
52 جامع البيان، الطبري، ٣/١٠٢.
53 أسباب النزول، الواحدي، ص٢٥، العجاب في بيان الأسباب، ابن حجر العسقلاني، ١/٣٨٠.
54 تفسير الوسيط، الواحدي، ١/٢١٨.
55 جامع البيان، الطبري، ١٠/١٥٠.
56 روح المعاني، الألوسي، ٣/٢٧٢.
57 النكت والعيون، الماوردي، ٢/٢٣.
58 انظر: دلائل النبوة، البيهقي، ٢/٥٣٥، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٦/١٢٠، لباب التأويل، الخازن، ٢/٢٥، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٣/٦٩.
59 مفاتيح الغيب، الرازي، ١١/٣٢٩.
60 المصدر السابق، ١١/٣٢٩.
61 المعجزة الكبرى القرآن، أبو زهرة، ص١٦١.
62 النكت والعيون، الماوردي، ١/١٩٦.
63 مفاتيح الغيب، الرازي، ٤/٧٧.
64 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٢/١٤٧.
65 أنوار التنزيل، البيضاوي، ١/١١٠.
66 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ١/٤٥١.
67 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٢/٧٦.
68 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ١/٣٨٦.
69 انظر: جامع البيان، الطبري، ٢/٥١٣، الهداية إلى بلوغ النهاية، ١/٤٠٤.
70 أسباب النزول، الواحدي، ١/٣٩، العجاب في بيان الأسباب، ابن حجر العسقلاني، ١/٣٥٨.
71 تأويلات أهل السنة، الماتريدي، ١/٥٤٢.
72 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ١/٣٨٦.
73 مفاتيح الغيب، الرازي، ٤/١٠.
74 فتح الباري، ابن حجر، ٦/٤٣٤.
75 سيرة ابن إسحاق، ص٧٣.
76 انظر: منحة القريب المجيب، عبد العزيز آل معمر، ١/٢٨٦.
77 الكشاف، الزمخشري، ١/١٨٣.
78 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٢/١٠٥.
79 النكت والعيون، الماوردي، ٤/٢٥٧.
80 المصدر السابق، ٤/٢٥٧.
81 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ١٠/٣٤٠.
82 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٣/٦٧.
83 جامع البيان، الطبري، ١٠/١٣٥.
84 انظر: أحكام القرآن، الجصاص، ٤/٤٢.
85 انظر: الكشاف، الزمخشري، ١/٦١٦، مفاتيح الغيب، الرازي، ١١/٣٢٦، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٦/١١٧، مدارك التنزيل، النسفي، ١/٤٣٥.
86 التحرير والتنوير، ٦/١٤٦.
87 جامع البيان، الطبري، ٢/١٩٣.
88 فتح القدير، الشوكاني، ١/٤٧٥.
89 لباب التأويل، الخازن، ١/٣٣٥.
90 انظر: الكشاف، الزمخشري، ١/٦٦٨.
91 أسباب النزول لواحدي، ص٢٠٦.
92 الكشاف، الزمخشري، ١/٦٦٩.
93 مفاتيح الغيب، الرازي، ١٥/٣٨٠.
94 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٢/١٠٥.
95 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب فضل من أسلم من أهل الكتاب، ٤/٦٠، رقم ٣٠١١، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ١/١٣٤، رقم ١٥٤.
96 تفسير السمرقندي، ١/٨١.
97 مفاتيح الغيب، الرازي، ٣/٦٥١.
98 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ١/٣٨٣.
99 انظر: أحكام القرآن، الجصاص، ٣/١٧١.
100 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ١/٣٨٢.
101 العجاب في بيان الأسباب، ١/٣٥٤.
102 انظر: لباب التأويل، الخازن، ١/٧٠.
103 الكشاف، الزمخشري، ١/٢٠٤.
104 انظر: جامع البيان، الطبري، ٣/١٨٧-١٨٨.
105 أنوار التنزيل، البيضاوي، ٢/٢٢.
106 جامع البيان، الطبري، ٦/٥٠٥.
107 جامع البيان، الطبري، ٦/٥٠٧.
108 لباب التأويل، الخازن، ١/٦٠.
109 جامع البيان، الطبري، ٢/٣٣٤.
110 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، باب (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا)، ٦/١٣٥، رقم ٤٨٣٨.
111 أخرجه البخاري بنفس المعنى في المصدر السابق.
وانظر: دلائل النبوة، البيهقي، ١/٣٧٨-٣٧٧.
112 انظر: الطبقات الكبرى، ابن سعد، ١/٣٦٣، البداية والنهاية، ابن كثير، ٦/٦١، تاريخ دمشق، ابن عساكر، ١/٣٣٧.
113 جامع البيان، الطبري، ٦/٥٠٠.
114 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي، ٨/٢٥٥.
115 المصدر السابق.
116 انظر: لباب التأويل، الخازن، ١/٢٧٥.
117 جامع البيان، الطبري، ٦/٥٧.
118 الكشاف، الزمخشري، ١/٣٩٢.
119 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ١/٤٥٤.
120 تفسير السمرقندي، ١/١٠١.
121 انظر: أنوار التنزيل، البيضاوي، ١/١١٢.
122 الهداية إلى بلوغ النهاية، ٣/١٧٨٩.
123 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي، ١٢/٣٨٨.
124 جامع البيان، الطبري، ١٠/٤٣٣.
125 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ١/٣٧٤.
126 انظر: البحر المحيط، ٣/٢٨١.
127 انظر: جامع البيان، الطبري، ٦/٦٠.
128 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٢/٩١.
129 لباب التأويل، الخازن، ١/٢٨٢.
130 لباب التأويل، الخازن، ١/٣٣٠.
131 انظر: المصدر السابق.
132 مفاتيح الغيب، الرازي، ١٢/٣٧٥.
133 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٣/١٣٢.
134 جامع البيان، الطبري، ١٠/٤٢٩.
135 أنوار التنزيل، البيضاوي، ٢/١٣٩.
136 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار، ٤/١٧٥، رقم ٣٤٧٥، ومسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف وغيره، والنهي عن الشفاعة في الحدود، ٣/١٣١٥، رقم ١٦٨٨.
137 جامع البيان، الطبري، ٢/٥٠٤.
138 انظر: تأويلات أهل السنة، الماتريدي، ١٠/٢٨١.
139 جامع البيان، الطبري، ٧/١٠٧.
140 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٣/٤٢٥.
141 أولاد علات: الذين أمهاتهم مختلفة وأبوهم واحد.
انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير، ٣/٢٩١.
142 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله: (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها)، ٤/١٦٧، رقم ٣٤٤٢.
143 أنوار التنزيل، البيضاوي، ٢/٢١.
144 تفسير السمرقندي، ١/٤١١.
145 انظر: جامع البيان، الطبري، ٢٠/٤٦.
146 أنوار التنزيل، البيضاوي، ٤/١٨١.
147 البحر المحيط، ٤/٣٤٣.
148 جامع البيان، الطبري، ١٤/١٩٩.
149 انظر: جامع البيان، الطبري، ٢٣/٢٠٢، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٣/٢٨٩، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٣/١٦٧.
150 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٨/٩٠.
151 الكشاف، الزمخشري، ٤/٥١٦.
152 الطبقات الكبرى، ابن سعد، ١/٢٢٠.