عناصر الموضوع
النجوى
أولًا: المعنى اللغوي:
النجوى: اسم مصدر مأخوذ من مادة (ن ج و) قال ابن فارس: «النون والجيم والحرف المعتل أصلان، يدل أحدهما على كشط وكشف، والآخر على ستر وإخفاء1.
والنجوى: السر بين اثنين، يقال: (ناجيته)، و(تناجوا) و(انتجوا)، وهو(نجي) فلان والجمع (أنجيةٌ)2.
والنجي: هو المناجي المخاطب للإنسان والمحدث له دون من سواه، ومنه موسى نجي الله3.
وقد يطلق اسم (النجوى) ويراد به فعل المتناجي، كقوله تعالى: (ﯵ ﯶ ﯷ) [الإسراء:٤٧].
فجعلهم هم (النجوى)، وإنما (النجوى) فعلهم، كما تقول: قوم رضا، وإنما الرضا فعلهم.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
قال الراغب الأصفهاني في تفسيره: «والنجوى تقال للحديث الذي تفرد به اثنان فصاعدًا أو للقوم المتناجين»4.
وباعتبار أن النجوى قد تكون في خير، وقد تكون في مقابل ذلك في شر، كما قررته آية النساء عند قوله تعالى:(ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ) [النساء:١١٤].
فإن التعريف الاصطلاحي لكلمة النجوى هو: المسارة بين اثنين فأكثر في خير أو في شر5.
وردت مادة (نجو) في القرآن الكريم (٨٣) مرة، يخص موضوع البحث منها (١٧) مرة6.
والصيغ التي وردت، هي:
الصيغة |
عدد المرات |
المثال |
الفعل الماضي |
٢ |
(ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ) [المجادلة:١٢] |
الفعل المضارع |
٢ |
(ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) [المجادلة:٨] |
فعل الأمر |
١ |
(ﯙ ﯚ ﯛ) [المجادلة:٩] |
المصدر |
١١ |
(ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ) [طه:٦٢] |
اسم |
١ |
(ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [يوسف:٨٠] |
وجاءت النجوى في القرآن بمعناها في اللغة، وهو: السر بين اثنين7. وناجيته أي: ساررته، وأصله أن تخلو به في نجوة من الأرض8.
الخلوة:
الخلوة لغة:
«(الخلو):الانفراد، (خلا) به أي: انفرد»9، قال صاحب التهذيب: «ويقول الرجل للرجل: اخل معي حتى أكلمك، و(اخلني) حتى أكلمك أي: كن معي خاليًا»10.
و(خلا) الشيء من باب سما، و(خلوت) به (خلوةً) و (خلاءً) و (خلا) إليه اجتمع معه في (خلوةٍ)، قال الله تعالى: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) [البقرة:١٤]11.
قال الزمخشري: «وخلوت بفلان وإليه، إذا انفردت معه»12.
و(خلا) الرجل بصاحبه وإليه ومعه، عن أبي إسحاق (خلوًا وخلاءً وخلوةً) الأخيرة عن اللحياني: اجتمع معه في (خلوة)13.
الخلوة اصطلاحًا:
المعنى الذي دل عليه لفظ خلا في بعض معانيه اللغوية، والسياق القرآني الذي جاء فيه، يدلان على أن خلوة أولئك المختلين كانت من أجل الإسرار بكلام لا يحبون أن يطلع عليه أحد من المؤمنين،14 فهي كقوله تعالى:(ﯪ ﯫ)[طه:٦٢].
الصلة بين الخلوة والنجوى:
اتحدت كلمة خلا مع كلمة النجوى في بعض معانيها في اللغة، واتحدا أكثر حسب السياق القرآني الذي جاءت فيه هذه الكلمة بصيغتيها (خلو) و(خلا).
السر:
السر لغة هو:
ما يكتم في النفس من الحديث، وهو خلاف الإعلان، والجمع الأسرار، يقال: سررته: كتمته15.
السر اصطلاحًا هو:
اسم لما يكتم ويخفى في القلوب من العقائد والنيات والأقوال والأعمال وغيرها16.
الصلة بين والسر والنجوى:
النجوى فيها إسرار، فهي صورة من صور السر، فالصلة بينهما صلة عموم وخصوص.
الإخفاء:
الإخفاء لغة:
الستر والكتمان، يقال: خفيت الشيء أخفيه: كتمته، وأخفيت الشيء: سترته وكتمته، ويقابله الإبداء والإعلان، والإخفاء: تغييب الشيء، وأن لا يجعل عليه علامة يهتدى إليه من جهتها، وهو من الأضداد17.
والإخفاء اصطلاحًا هو:
الستر ويقابله الإبداء والإعلان، والإخفاء تغييب الشيء، وأن لا يجعل عليه علامة يهتدى إليه من جهتها18.
الصلة بين الإخفاء والنجوى:
الإخفاء أعم، يشمل الحديث وغيره، تقول: أخفيت الدرهم في الثوب. ولا تقول: كتمت ذلك، والنجوى تقال للحديث الذي تفرد به اثنان فصاعدًا أو للقوم المتناجين.
الجهر:
الجهر لغة:
جهرت الشيء إذا كشفته، وجهرته واجتهرته أي: رأيته بلا حجاب بيني وبينه، والجهر العلانية وفي الحديث (وكان عمر رجلًا مجهرًا)19 أي: صاحب جهرٍ ورفع لصوته، والجهر هو ما ظهر وهو رفع الصوت يقال: جهر بالقراءة إذا رفع صوته بها20.
الجهر اصطلاحًا:
هو «رفع الصوت بحيث يسمع نفسه ومن جاوره»21.
الصلة بين الجهر والنجوى:
أن الجهر خلاف النجوى، وهو إظهار المعنى للنفس ورفع الصوت به.
أولًا: علم الله بأحوال المتناجين:
لا يخفى على القارئ للآيات المتعلقة بالنجوى ـ والتي عرضت في المبحث أعلاه ـ أن كلا من الأخبار والأحكام التي جاء لفظ النجوى في سياقها هي تعبير واضح عن علم الله الواسع.
فكل خبر أخبرنا الله تعالى من خلاله عن المتناجين ونجواهم، مع حرصهم الشديد على توخي السر والستر والكتمان؛ ليدل دلالة قاطعة أن من أخبر عن كل تلك الأحداث بتفاصيلها ليعلم كل شيء.
كما أن الحكم لا يمكن أن يكون له واقع إلا إذا علم بأصل القضية، وجوهر المسألة التي سيصدر من أجلها ذلكم الحكم، فكان العلم بكل ذلك شرط لصدور الأحكام المناسبة، والله تعالى قد شرع تلك ما يتعلق بالنجوى من أحكام وهو يعلم أحوال أصحابها، وملابساتهم، ومن ثم فإن كل الأحكام التي تضمنتها آيات النجوى أيضا تدل على واسع علم الله عز وجل.
وقد قرر الله تعالى أنه يعلم بكل المتناجين، وبكل ما يتناجون به فقال عز وجل: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) [المجادلة:٧].
قال ابن جرير: «يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ألم تنظر يا محمد بعين قلبك فترى (ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ) من شيء، لا يخفى عليه صغير ذلك وكبيره، يقول جل ثناؤه: فكيف يخفى عليَّ من كانت هذه صفته؟! أعمال هؤلاء الكافرين وعصيانهم ربهم، ثم وصف جل ثناؤه قربه من عباده وسماعه نجواهم، وما يكتمونه الناس من أحاديثهم، فيتحدثونه سرًا بينهم، فقال:(ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) من خلقه (ﭢ ﭣ ﭤ)،يسمع سرهم ونجواهم، لا يخفى عليه شيء من أسرارهم (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ) يقول: ولا يكون من نجوى خمسة إلا هو سادسهم كذلك (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) يقول: ولا أقل من ثلاثة (ﭮ ﭯ) من خمسة، (ﭰ ﭱ ﭲ) إذا تناجوا (ﭳ ﭴ ﭵ) يقول: في أي موضع ومكان كانوا. وعني بقوله: (ﭣ ﭤ) بمعنى: أنه مشاهدهم بعلمه، وهو على عرشه»22.
وهذا ما أجمع عليه السلف من أئمة السنة، قال ابن كثير: «ولهذا حكى غير واحد الإجماع على أن المراد بهذه الآية معية علم الله تعالى، ولا شك في إرادة ذلك، ولكن سمعه أيضا مع علمه محيط بهم، وبصره نافذ فيهم، فهو سبحانه مطلع على خلقه، لا يغيب عنه من أمورهم شيء»23.
وهذه الآية قد جاءت في سياق آية ابتدأها الله تعالى بالعلم واختتمها بالعلم.
قال القرطبي: «(ﭢ ﭣ ﭤ) يعلم ويسمع نجواهم، يدل عليه افتتاح الآية بالعلم ثم ختمها بالعلم»24.
ليستدل بذلك كله على علمه تعالى بأي متناج وبأي نجوى، مهما أسرها أصحابها، ومهما أخفوها عن غيرهم، ومهما قل عددهم أو كثر، فهو معهم يعلم سرهم ونجواهم، كما قال تعالى: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ) [التوبة:٧٨].
قال ابن جرير: « يقول تعالى ذكره: ألم يعلم هؤلاء المنافقون الذين يكفرون بالله ورسوله سرًا، ويظهرون الإيمان بهما لأهل الإيمان بهما جهرًا (ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) الذي يسرونه في أنفسهم، من الكفر به وبرسوله (ﯡ) يقول: (ﯡ) إذا تناجوا بينهم بالطعن في الإسلام وأهله، وذكرهم بغير ما ينبغي أن يذكروا به، فيحذروا من الله عقوبته أن يحلها بهم، وسطوته أن يوقعها بهم، على كفرهم بالله وبرسوله، وعيبهم للإسلام وأهله، فينزعوا عن ذلك ويتوبوا منه (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) يقول: ألم يعلموا أن الله علام ما غاب عن أسماع خلقه وأبصارهم وحواسهم، مما أكنته نفوسهم، فلم يظهر على جوارحهم الظاهرة، فينهاهم ذلك عن خداع أوليائه بالنفاق والكذب، ويزجرهم عن إضمار غير ما يبدونه، وإظهار خلاف ما يعتقدونه»25.
بل إن الله سبحانه يعلم أكبر من ذلك، وعلى علم بما يخفى عن غيره، فهو تعالى يعلم ما في السماوات وكل ما في الأرض بأدق تفاصيله قال تعالى: (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ) [الأنعام:٥٩].
قال ابن جرير: «يقول تعالى ذكره: ولا تسقط ورقةٌ في الصحاري والبراري، ولا في الأمصار والقرى، إلا الله يعلمها (ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ) يقول: ولا شيء أيضًا مما هو موجود، أو مما سيوجد ولم يوجد بعد، إلا وهو مثبت في اللوح المحفوظ، مكتوبٌ ذلك فيه، ومرسوم عدده ومبلغه، والوقت الذي يوجد فيه، والحال التي يفنى فيها»26.
ولعل الكفار الذين لا يؤمنون بالله عز وجل ولا بأسمائه ولا بصفاته قد ظنوا أن الله تعالى لا يعلم سرهم ونجواهم، فهم يخفون أسرارهم عن غيرهم من البشر، ويعتقدون أن لا أحد غيرهم يعلم بأمرهم وسرهم (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ) [النساء:١٠٨].
فأبطل الله تعالى تصورهم وبين سوء ظنهم وقبح اعتقادهم فقال: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) [الزخرف:٨٠].
قال ابن جرير:«(ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) يقول: أم يظن هؤلاء المشركون بالله أنا لا نسمع ما أخفوا عن الناس من منطقهم، وتشاوروا بينهم وتناجوا به دون غيرهم، فلا نعاقبهم عليه لخفائه علينا.
وقوله: (ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) يقول تعالى ذكره: بل نحن نعلم ما تناجوا به بينهم، وأخفوه عن الناس من سر كلامهم، وحفظتنا لديهم، يعني: عندهم يكتبون ما نطقوا به من منطق، وتكلموا به من كلامهم»27
وجلى الله هذا العلم ـ علمه الواسع ـ حينما فضح من عادوا إلى التناجي بعد أن نهوا عنه وهم اليهود والمنافقون، وبين أنواع تناجيهم، فوبخهم على تعمد ذلك، وذمهم لرجوعهم إليه، مما يوضح شدة تمردهم وطغيانهم، وإلحاحهم على التناجي، رغم أن الله قد بين لهم أنه يعلم سرهم ونجواهم.
قال تعالى: (ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) [المجادلة:٨].
ثانيًا: علم الله بمقاصد الشيطان من النجوى:
لم يترك الله تعالى أمر النجوى يمر دون أن يذكر ما للشيطان من يد في واقع المتناجين، وما له من تأثير على مشاعر المؤمنين، موضحًا مقصده من أز المنافقين والكفار إلى التناجي، وإن كان المؤمنون وغيرهم لا يعلمون أن الشيطان بوسوسته كان وراء فعل الكافر، وأيضا كان وراء ما حدث للمؤمن من تأثر بفعل نجواهم، وهذا ما بينه الله عز وجل حينما قال: (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [المجادلة:١٠].
قال ابن كثير: «أي: إنما النجوى-وهي المسارة-حيث يتوهم مؤمن بها سوءًا (ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ) يعني: إنما يصدر هذا من المتناجين عن تسويل الشيطان وتزيينه»28.
ولا شك أن النجوى التي يكون الشيطان سببا فيها، هي ما تكون بالإثم والعدوان، لا التي فيها البر والإحسان، فلا تعم جميع أنواع النجوى، كما قال الفخر الرازي: «الألف واللام في لفظ النجوى لا يمكن أن يكون للاستغراق؛ لأن في النجوى ما يكون من الله ولله، بل المراد منه المعهود السابق وهو النجوى بالإثم والعدوان، والمعنى أن الشيطان يحملهم على أن يقدموا على تلك النجوى التي هي سبب لحزن المؤمنين»29.
وليس ما يشعر به المؤمن من الحزن قاصر على نجوى المنافقين واليهود، بل إن ما يلقيه الشيطان من الحزن في قلب المؤمن، هو ناتج عن كل نجوى حصلت في حضرة من انعزل الناس دونه يتناجون، بغض النظر عن دين من يتناجى، سواء كان كافرًا أو مؤمنًا؛ لذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تناجي اثنين دون الثالث فما رواه عبد الله بن مسعود حينما قال: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه، فإن ذلك يحزنه)30.
فالشيطان بوساوسه حاضر في كل نجوى، إذا كان سيحقق من خلالها ما به يدخل الحزن على المؤمن، فهو بتزيينه لأمر النجوى، وحمل الناس على فعلها يسهل وقوعها، فيجني ثمرة الإيقاع بالمؤمن في الغيظ والحزن؛ مما ينتج عنه التباغض والتنافر، وإن كان مقصد الشيطان من النجوى قد يتعدى ذلك الحزن إلى أغراض أخرى، ليست مقصورة على محاولة إيقاع الحزن في قلوب المؤمنين، يقول ابن عاشور: «لأن الأغراض التي يتناجون فيها من أكبر ما يوسوس الشيطان لأهل الضلالة بأن يفعلوه؛ ليحزن الذين آمنوا بما يتطرقهم من خواطر الشر بالنجوى، وهذه العلة ليست قيدًا في الحصر فإن للشيطان عللا أخرى مثل إلقاء المتناجين في الضلالة، والاستعانة بهم على إلقاء الفتنة، وغير ذلك من الأغراض الشيطانية»31.
لذلك فإن إخبار الله تعالى بأحوال المتناجين، وبيانه لمقصد الشيطان من تناجي المتناجين، وما وقع في قلب المؤمنين من الحزن؛ ليعد دليلًا واضحًا على سعة علمه، وإحاطته بكل شيء ولو كان في كوامن القلوب.
ثالثًا: علم الله بما يشعر به المؤمنون عند تناجي المتناجين:
لقد أخبر الله عز وجل عن تسبب الشيطان في حصول النجوى بتزيين شأنها، وتهوين أمرها، ولم يكتف بذلك إنما تعداه بذكره تعالى لما تحدثه تلك النجوى في قلوب المؤمنين.
فشعور المؤمن بالحزن من تناجي المتناجين قد علمه الله، وإن حاول المؤمن إخفاءه، ولم يستطع أحد إدراكه والتحقق من وقوعه؛ لأنه يتعلق بالشعور الذي مكمنه في القلب، لكن الله علمه فبينه ووضحه وجلاه، وأعطى الاطمئنان لمن وقع في قلبه.
قال تعالى:(ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ).
قال الشوكاني في تفسيره: «إنما النجوى -يعني: بالإثم والعدوان ومعصية الرسول -من الشيطان لا من غيره، أي: من تزيينه وتسويله؛ ليحزن الذين آمنوا أي: لأجل أن يوقعهم في الحزن بما يحصل لهم من التوهم أنها في مكيدة يكادون بها، وليس بضارهم شيئا أو: وليس الشيطان أو التناجي الذي يزينه الشيطان بضار المؤمنين شيئًا من الضرر إلا بإذن الله أي: بمشيئته، وعلى الله فليتوكل المؤمنون أي: يكلون أمرهم إليه، ويفوضونه في جميع شؤونهم، ويستعيذون بالله من الشيطان، ولا يبالون بما يزينه من النجوى»32.
فالله عز وجل برحمته بالمؤمنين وحبه لهم لم يشأ أن يقع ذلك كله بهم إلا اختبارًا وابتلاءًا لهم؛ حتى يصدقوا في توكلهم على الله، وفي ذلك يقول القرطبي:«(ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) أي: يكلون أمرهم إليه، ويفوضون جميع شؤونهم إلى عونه، ويستعيذون به من الشيطان ومن كل شر، فهو الذي سلط الشيطان بالوساوس ابتلاء للعبد وامتحانًا ولو شاء لصرفه عنه»33.
فازداد المؤمن يقينًا ألا أحد يمكن أن يضرهم إلا بقدر الله ومشيئته، وليس ما يوسوس لهم به الشيطان وما يقذفه في قلوبهم من الحزن، قال السعدي: «يقول تعالى:(ﯣ ﯤ) أي: تناجي أعداء المؤمنين بالمؤمنين، بالمكر والخديعة، وطلب السوء من الشيطان، الذي كيده ضعيف ومكره غير مفيد (ﯧ ﯨ ﯩ) هذا غاية هذا المكر ومقصوده، (ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ) فإن الله تعالى وعد المؤمنين بالكفاية والنصر على الأعداء، وقال تعالى: (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ)[فاطر:٤٣].
فأعداء الله ورسوله والمؤمنين، مهما تناجوا ومكروا فإن ضرر ذلك عائد إلى أنفسهم، ولا يضر المؤمنين إلا شيء قدره الله وقضاه (ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) أي: ليعتمدوا عليه ويثقوا بوعده، فإن من توكل على الله كفاه، وتولى أمر دينه ودنياه»34.
فرفع الله بهذه الآية ما كان يقع في قلوب المؤمنين من الحزن، وبين لهم أن هذا من تزيين الشيطان ومكره السيئ بالكفار، فطمأنهم أن ضرر الشيطان غير لاحق بهم، ومكر الكفار لن يطولهم، وأمرهم بالتوكل عليه والاستعاذة به.
قال ابن عطية: «ثم أخبر تعالى أن الشيطان أو التناجي الذي هو منه ليس بضار أحدًا إلا أن يكون ضر بإذن الله، أي: بأمره وقدره. ثم أمر بتوكل المؤمنين عليه تبارك وتعالى، وهذا كله يقوي أن التناجي الذي من الشيطان إنما هو الذي وقع منه للمؤمنين خوف»35.
وهكذا أسدلت هذه الآيات الستارة على ما كان يعانيه المؤمنون من الأحزان؛ بسبب ما كان يقذفه الشيطان في قلوبهم، نتيجة سعيه الحثيث بوساوسه المتواصلة أن يقع التناجي من أعداء هذا الدين ويكثر، ففضح الله أمر إبليس وبين مقصده وغايته، وحدد أعوانه، كما أنه جل وعلا وصف العلاج الناجع للقضاء على ظاهرة تناجي الكفار لإضعاف المسلمين، بإرشادهم إلى وجوب التوكل عليه سبحانه؛ لأنه هو العاصم من كل القواصم، وتنبيههم إلى أن الضرر لن يلحق بهم إلا بمشيئة الله وإذنه، فكبت بهذا البيان الواضح الكفار، وأكد ضعف كيد الشيطان، وطمأن المؤمنين لأنهم أولياء الرحمان.
الكثير من النجوى كما بين ذلك الله تعالى في كتابه لا تكون إلا مذمومة، ولا تكون إلا في الشر وسوء الصنيع، لكنه تعالى استثنى من ذلك الكثير نجوى أخرى محمودة، رغب فيها الله عز وجل وأرشد إليها، وجعل الأجر الكبير في ابتغائها.
ففي سورة النساء قوله سبحانه: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ)[النساء:١١٤].
بين الله تعالى أن الكثير من النجوى لا تكون إلا في الشر، ومن ثم فإن كثيرًا من المتناجين يتناجون فيما بينهم بما فيه شر أو ما لا فائدة منه؛ لأن نفي الخير عن نجواهم لا يعني فقط أن تناجيهم لا يكون إلا شرًا، بل يشمل أيضًا ما لا نفع فيه ولا ضرر منه على غيرهم، وإن كان يلحق ضررًا بهم هم أنفسهم من جهة تضييعهم لأوقاتهم وأعمارهم فيما لا نفع فيه.
وقريبًا من هذا المعنى يقول السعدي في تفسيره: «أي: لا خير في كثير مما يتناجى به الناس ويتخاطبون، وإذا لم يكن فيه خير، فإما لا فائدة فيه كفضول الكلام المباح، وإما شر ومضرة محضة كالكلام المحرم بجميع أنواعه»36.
فنفي الخيرية عن كثير من تناجي المتناجين يشمل ما فيه تدبير للشر، وكل ما لا منفعة شرعية ترجى منه، وإن لم يكن فيه ضرر يمكن أن يمس الغير، فإن فيه تفويتًا للخير، وهذا ضرر في حد ذاته يكون على العبد لا له.
قال ابن عاشور: «ومعنى لا خير أنه أشر، بناء على المتعارف في نفي الشيء أن يراد به إثبات نقيضه؛ لعدم الاعتداد بالواسطة، كقوله تعالى: (ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ) [يونس:٣٢].
ولأن مقام التشريع إنما هو بيان الخير والشر.
وقد نفى الخير عن كثير من نجواهم أو متناجيهم، فعلم من مفهوم الصفة أن قليلًا من نجواهم فيه خير، إذ لا يخلو حديث الناس من تناج فيما فيه نفع»37.
فعلم من هذا أن النجوى على نوعين: محمودة ومذمومة.
أولًا: النجوى المحمودة:
بين الله تعالى من خلال آيات سورة النساء وسورة المجادلة - التي لها علاقة بموضوعنا - أن النجوى لا تكون محمودة إلا إذا كانت في خمسة أمور:
قال الرازي عند تفسيره لآية النساء: «لا خير فيما يتناجى فيه الناس ويخوضون فيه من الحديث إلا ما كان من أعمال الخير»38.
فثبت أن مجامع الخيرات مذكورة في هذه الآية39.
وبتفصيل أكثر قال ابن العربي في تفسيره: «قوله تعالى:(ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ)[النساء:١١٤].
هذه الآية آية بكر لم يبلغني عن أحد فيها ذكر، والذي عندي فيها أن الله تعالى أمر عباده بأمرين عظيمين: أحدهما: الإخلاص، وهو أن يستوي ظاهر المرء وباطنه. والثاني: النصيحة لكتاب الله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولأئمة المسلمين وعامتهم. فالنجوى خلاف هذين الأصلين، وبعد هذا فلم يكن بد للخلق من أمر يختصون به في أنفسهم، ويخص به بعضهم بعضًا، فرخص في ذلك بصفة الأمر بالمعروف، والحث على الصدقة، والسعي في إصلاح ذات البين»40.
والمقصود من الأمر في الآية هو الحث.
قال البغوي في تفسيره ومعنى الآية: «لا خير في كثير مما يدبرونه بينهم إلا من أمر بصدقة أي: حث عليها41.
أما المراد بالصدقة فقد تنوعت تفاسير المفسرين بين مضيق وموسع.
قال الشوكاني في تفسيره: « قوله: (ﭛ)الظاهر أنها صدقة التطوع، وقيل: إنها صدقة الفرض»42.
وجزم أبو حيان حينما قال: «والصدقة تشمل الفرض والتطوع»43.
وذهب السعدي إلى أن المراد بالصدقة أوسع من قصرها على مجرد الفرض أو التطوع، حيث جعلها شاملة لكل ما يسمى صدقة في عرف الشرع، فقال رحمه الله: «ثم استثنى تعالى فقال:(ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ) من مال أو علم أو أي نفع كان، بل لعله يدخل فيه العبادات القاصرة كالتسبيح والتحميد ونحوه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة)44.
وبين القاسمي في تفسيره السر في إباحة التناجي بالأمر بالصدقة فقال: «(ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ)أي: إلا في نجوى من أمر، بخفية عن الحاضرين، بصدقة ليعطيها سرًا، يستر به عار المتصدق عليه»45.
وبالنسبة للمعروف فقد عرفه البغوي بقوله: «أو معروف أي: بطاعة الله وما يعرفه الشرع وأعمال البر كلها معروف؛ لأن العقول تعرفها»46.
وصحح القرطبي قول البغوي فقال في تفسيره: «والمعروف لفظ يعم أعمال البر كلها. وقال مقاتل: المعروف هنا الفرض، والأول أصح. وقال صلى الله عليه وسلم: (كل معروف صدقة وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق)47.
ووسع العيني في عمدة القاري في تعريف المعروف فقال: «قوله:(ﭜ ﭝ) المعروف اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله عز وجل، والتقرب إليه والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع، ونهى عنه من المحسنات والمقبحات، وهو من الصفات الغالبة، أي: أمر معروف بين الناس إذا رأوه لا ينكرونه»48.
واشترط الماوردي ـ كما نقل عنه القرطبي في تفسيره ـ لفعل المعروف لمن يريد الامتثال لأمر الله شروطًا فقال: «فينبغي لمن يقدر على إسداء المعروف أن يعجله حذار فواته، ويبادر به خيفة عجزه، وليعلم أنه من فرص زمانه، وغنائم إمكانه، ولا يهمله ثقة بالقدرة عليه، فكم من واثق بالقدرة فاتت فأعقبت ندمًا، ومعولٍ على مكنةٍ زالت فأورثت خجلًا، كما قال الشاعر49:
ما زلت أسمع كم من واثق خجلٍ
حتى ابتليت فكنت الواثق الخجلا
ثم قال القرطبي: «ومن شرط المعروف ترك الامتنان به، وترك الإعجاب بفعله، لما فيهما من إسقاط الشكر وإحباط الأجر»50.
ونبه السعدي إلى أن الأمر بالمعروف إذا أطلق دخل فيه النهي عن المنكر فقال: «وإذا أطلق الأمر بالمعروف من غير أن يقرن بالنهي عن المنكر دخل فيه النهي عن المنكر، وذلك لأن ترك المنهيات من المعروف، وأيضا لا يتم فعل الخير إلا بترك الشر. وأما عند الاقتران فيفسر المعروف بفعل المأمور، والمنكر بترك المنهي»51.
كما أوضح القاسمي في تفسيره العلة من الأمر بستر الأمر بالمعروف فقال: «وسر التناجي فيه أن لا يأنف المأمور عن قبوله لو جهر به»52.
أما الأمر بالإصلاح بين الناس فيعني به: الإصلاح بين المتخاصمين؛ ليتراجعا إلى ما كانا فيه من الألفة والاجتماع، على ما أذن الله فيه وأمر به53.
وهذا الإصلاح عام في الدماء والأعراض والأموال، وفي كل شيء يقع التداعي فيه54.
حتى في الأديان كما قال السعدي في تفسيره واستدل لذلك بقوله تعالى: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) [آل عمران:١٠٣].
وقوله سبحانه: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ) [الحجرات:٩].
ثم بين رحمه الله فضل من يمشي في الإصلاح بين الناس فقال: «قال تعالى: (ﭡ ﭢ) [النساء:١٢٨].
والساعي في الإصلاح بين الناس أفضل من القانت بالصلاة والصيام والصدقة، والمصلح لا بد أن يصلح الله سعيه وعمله»
كما أن الساعي في الإفساد لا يصلح الله عمله ولا يتم له مقصوده كما قال تعالى: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ) [يونس:٨١].
فهذه الأشياء حيثما فعلت فهي خير، كما دل على ذلك الاستثناء55.
وحاول صاحب أضواء البيان أن يبين المراد بالناس في قوله تعالى:(ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) فقال: «لم يبين هنا هل المراد بالناس المسلمون دون الكفار أو لا؟
ولكنه أشار في مواضع أخر أن المراد بالناس المرغب في الإصلاح بينهم هنا المسلمون خاصة كقوله تعالى: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) [الحجرات:١٠].
وقوله: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [الحجرات:٩].
فتخصيصه المؤمنين بالذكر يدل على أن غيرهم ليس كذلك كما هو ظاهر، وكقوله تعالى: (ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ) [الأنفال:١]»56.
وأما الثواب على تلك الخصال المستثناة من النجوى المنهي عنها، فخص بمن فعله تقربًا إلى الله.
يقول ابن رجب: «وأما الثواب عليه من الله، فخصه بمن فعله ابتغاء مرضاة الله، وإنما جعل الأمر بالمعروف من الصدقة والإصلاح بين الناس وغيرها خيرًا، وإن لم يبتغ به وجه الله؛ لما يترتب على ذلك من النفع المتعدي، فيحصل به للناس إحسان وخير، وأما بالنسبة إلى الأمر فإن قصد به وجه الله وابتغاء مرضاته كان خيرًا له، وأثيب عليه، وإن لم يقصد ذلك لم يكن خيرًا له، ولا ثواب له عليه، وهذا بخلاف من صام وصلى وذكر الله، يقصد بذلك عرض الدنيا، فإنه لا خير له فيه بالكلية؛ لأنه لا نفع في ذلك لصاحبه لما يترتب عليه من الإثم فيه، ولا لغيره لأنه لا يتعدى نفعه إلى أحد، اللهم إلا أن يحصل لأحد به اقتداء في ذلك»57.
وقال ابن عبد البر في التمهيد: «فإصلاحه فيما بينه وبين الناس أفضل إذا فعل ذلك لله، وكراهة أذى المسلمين، وهو أولى به من أن يتعرض لعداوة صاحبه وبغضته، فإن البغضة حالقة الدين»58.
فلهذا ينبغي للعبد أن يقصد وجه الله تعالى، ويخلص العمل لله في كل وقت وفي كل جزء من أجزاء الخير؛ ليحصل له بذلك الأجر العظيم؛ وليتعود الإخلاص فيكون من المخلصين؛ وليتم له الأجر، سواء تم مقصوده أم لا؛ لأن النية حصلت واقترن بها ما يمكن من العمل59.
وأما الحكمة من وصف الأجر بالعظم فقال البيضاوي: «تنبيهًا على حقارة ما فات في جنبه من أعراض الدنيا»60.
وخص الله تعالى بالذكر الصدقة والإصلاح من المعروف وإن كان المعروف لفظًا يعم الصدقة والإصلاح؛ اهتمامًا بهما؛ إذ هما عظيما الغناء في مصالح العباد61.
وهنا تساؤل طرحه الراغب الأصفهاني جدير بالذكر فقال: «فإن قيل: فهاهنا أفعال أخر تحسن فلم خص هذه الثلاثة؟
قيل: هذه الثلاثة متضمنة للأفعال الحسنة كلها؛ وذلك أنه نبه بالصدقة على الأفعال الواجبة، وخص الصدقة لكونها أكثر نفعًا في إيصال الخير إلى الغير، ونبه بالمعروف على النوافل التي هي الإحسان والتفضل، وبالإصلاح بين الناس على سياستهم، وما يؤدي إلى نظم كلهم وإيقاع الألفة بينهم، ذلك أفضل الأفعال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة، قيل: بلى يا رسول الله، قال: صلاح ذات البين)»62.
وإن كانت آية النساء هذه قد قيدت جواز النجوى بما يكون من الأمر بالصدقة، أو الأمر بالمعروف، أو الإصلاح بين الناس، إلا أن آية سورة المجادلة أطلقت ذلك، وجعلت النجوى المباح فعلها تشمل جميع أنواع البر، وكل ما فيه تقوى الله تعالى.
قال السعدي في تفسير هذه الآية: «فأمر الله تعالى المؤمنين أن يتناجوا بالبر، وهو اسم جامع لكل خير وطاعة، وقيام بحق لله ولعباده، والتقوى، وهي هنا: اسم جامع لترك جميع المحارم والمآثم، فالمؤمن يمتثل هذا الأمر الإلهي، فلا تجده مناجيًا ومتحدثًا إلا بما يقربه من الله، ويباعده من سخطه»63.
وقد ذهب الماتريدي إلى أن البر والتقوى وإن اختلفا في العبارة فهما في الحقيقة يمثلان شيئًا واحدًا، قال في تفسيره: «وهما أي: البر والتقوى في العبارة مختلفان وفي الحقيقة واحد؛ لأنه إذا اتقى كل شر ومعصية عمل كل خير وبر، وإذا كسب كل خير وبر اتقى كل معصية وشر»64.
وهذا استنباط جيد، وفهم رائق يدل على وجود علاقة تلازمية بين اللفظين، وإن كان كل لفظ له معنى خاص به وله أعمال تتحقق به.
وجعل الواحدي البر شاملًا لكل طاعة، والتقوى شاملة لترك كل معصية، عند تفسيره لقوله تعالى: (ﯙ ﯚ ﯛ) [المجادلة:٩]65.
أما الرازي فقد جعل البر المأمور به في مقابل ما ذكره الله من العدوان المنهي عنه، والتقوى ما يقي من النار حينما قال: «وأمرهم أن يتناجوا بالبر الذي يضاد العدوان، وبالتقوى وهو ما يتقى به من النار من فعل الطاعات وترك المعاصي»66.
وهكذا حددت كل من آية سورة النساء وآية سورة المجادلة أنواعًا من النجوى المحمودة، التي يستطيع من خلالها المتناجي المؤمن أن يتناجى، دون أن يرتكب محذورًا شرعيًا، إن هو تقيد بما شرعه الله تعالى له في هذين الآيتين.
ثانيًا: النجوى المذمومة:
عرفنا مما مضى أن الكثير من النجوى إنها محرمة؛ لما فيها من الشر الذي جبلت الأنفس على إخفائه والخوف من إظهاره، فكانت بذلك مذمومة غير محمودة.
قال الراغب الأصفهاني في تفسيره: «ولما كان التناجي مكروهًا في الأصل حتى قال: (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ) [المجادلة:١٠] صار ذلك من الأفعال التي تقبح ما لم يقصد به وجه محمود كالمكر والخديعة، فبين تعالى أن النجوى لا تحسن ما لم تخص بها هذه الوجوه المستثناه»67.
وهي النجوى المحرمة من سوء أدب المجالسة التي نهى الله عنها وأدب عباده بها68.
قال صاحب التحرير والتنوير في معرض تفسيره لآية النجوى من سورة النساء: «وعلى هذا فالمقصود من الآية تربية اجتماعية دعت إليها المناسبة، فإن شأن المحادثات والمحاورات أن تكون جهرة؛ لأن الصراحة من أفضل الأخلاق لدلالتها على ثقة المتكلم برأيه، وعلى شجاعته في إظهار ما يريد إظهاره من تفكيره، فلا يصير إلى المناجاة إلا في أحوال شاذة يناسبها إخفاء الحديث، فمن يناجي في غير تلك الأحوال رمي بأن شأنه ذميم، وحديثه فيما يستحيي من إظهاره، كما قال صالح بن عبدالقدوس:
الستر دون الفاحشات ولا
يغشاك دون الخير من ستر
وقد نهى الله المسلمين عن النجوى غير مرة...» إلى أن قال: «فعلمنا من ذلك أنها لا تغلب إلا على أهل الريب والشبهات، بحيث لا تصير دأبا إلا لأولئك، فمن أجل ذلك نفى الله الخير عن أكثر النجوى..»69.
ونحن إذا ما تأملنا آية النساء وجدناها تثبت أصلًا وتستثني فرعًا، فالأصل الذي تثبته هو أن النجوى محرمة مذمومة باعتبار الأكثر الغالب، والفرع الذي تستثنيه ـ الأقل ـ هو النجوى المحمودة المرغوب فيها والتي تكون في مجال الأمر بالصدقة والمعروف والإصلاح بين الناس والبر والتقوى.
ومن ثم فإن الأفعال المذمومة المتناجى بها في النجوى المحرمة كثيرة لا يمكن حصرها أو إحصاؤها.
والمهم في نظري هو ما احتوت عليه آية المجادلة، بحيث إنها جمعت وحصرت كل خلال الشر في النجوى غير المستثناة في آية النساء، وهي قوله تعالى: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ) [المجادلة:٩].
فالإثم والعدوان ومعصية الرسول مما حرم الله التناجي به.
وذكر ابن الجوزي في زاد المسير وجهين في معنى تناجيهم بالإثم والعدوان، أحدهما: «يتناجون بما يسوء المسلمين، فذلك الإثم والعدوان، ويوصي بعضهم بعضًا بمعصية الرسول. والثاني: يتناجون بعد نهي الرسول لهم، ذلك هو الإثم والعدوان ومعصية الرسول»70.
فالكذب والغيبة والنميمة والبهتان، وغيرها من الذنوب التي يمكن أن يقع التناجي بها تجمعه كلمة الإثم، وكل أنواع الظلم والاعتداء على الغير يدخل في كلمة العدوان، وكل مخالفة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم ونهيه تحتويها كلمة معصية الرسول، فكانت بذلك هذه الآية جامعة لكل خلال الشر المتناجى به.
وإن كان العديد من المفسرين قد ذهب إلى أن المنافقين هم المرادون بهذه الآية71، إلا أن منهم من صرف النهي إلى المؤمنين مثل: الماتريدي في تفسيره حينما قال: «إن أهل التأويل صرفوا الآية إلى المنافقين، وعندنا يحتمل صرف النهي إلى المؤمنين عن التناجي بمثل ما تناج أولئك، أي: لا تتناجوا أنتم يا أهل الإيمان فيهم بالإثم والعدوان كما تناجوا فيكم، يقول: لا تجازوهم بالذي فعلوا هم بكم، ولكن تناجوا فيهم بالبر والتقوى، وهو كقوله تعالى: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) [المائدة:٢].
نهى المؤمنين أن يجازوهم جزاء الاعتداء الذي كان منهم من صدهم عن المسجد الحرام؛ بل أمرهم بالتعاون على البر والتقوى، قال: (ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [المائدة:٢].
فعلى ذلك يحتمل هذا، والله أعلم»72
كما ذكر رحمه الله معنى آخر محتملًا للآية فقال: «وجائز أن يكون في المؤمنين حقيقة على الابتداء؛ نهيا منه لهم، يقول: إذا تناجيتم فلا تتناجوا فيما يؤثمكم ويحملكم على العدوان: على المجاوزة عن الحد، ومعصية الرسول فيما يأمركم وينهاكم، (ﯙ ﯚ ﯛ) يحتمل كل أنواع الخير، وأما التقوى فهو كل ما يقون به أنفسهم عن النار، وقد تقدم ذكره»73.
وفي الحكمة من ترتيب هذه الأمور التي نهى الله تعالى المؤمنين عنها.
يقول أبو حيان: « ثم نهى المؤمنين أن يكون تناجيهم مثل تناجي الكفار، وبدأ بالإثم لعمومه، ثم بالعدوان لعظمته في النفوس، إذ هي ظلامات العباد، ثم ترقى إلى ما هو أعظم، وهو معصية الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي هذا طعن على المنافقين، إذ كان تناجيهم في ذلك»74.
أشار القرآن الكريم إلى أن الكثير من النجوى لا خير فيها ممنوعة غير جائزة، ولجوازها ضوابط لم يغفلها الشرع الحكيم، بل ذكرها وجعلها مستثناة من النجوى الممنوعة.
قال الله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) [النساء:١١٤].
وقال عز وجل: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [المجادلة:٩-١٠].
ومن الضوابط التي أشارت إليها الآيات الكريمات:
إن المتأمل في الآيات التي ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم والمتعلقة بموضوع النجوى، يلاحظ أنها ركزت فقط على جانب الأحكام المتناجى فيها، دون أن تتحدث عن أحكام المتناجين.
وإذا ما بحثنا في السنة فإننا سنجد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تولى بيان ذلك؛ امتثالا منه عليه الصلاة وأزكى التسليم لأمر الله حين خاطبه ربه قائلًا: (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [النحل:٤٤].
لذلك ومن هذا المنطلق يمكن أن نقسم مبحث أحكام النجوى إلى قسمين: قسم يتعلق بأحكام الأمور المتناجى فيها، وآخر يتعلق بأحكام المتناجين، إلا أن القسم الأول هو من له علاقة بموضوع البحث لصلته الوثيقة بالقرآن؛ لذلك سنقتصر عليه دون الآخر.
والنجوى على نوعين محمودة ومذمومة تبعًا للأمور المتناجى فيها، والمحمود بالنسبة للأحكام الشرعية إما أن يكون واجبًا أو مستحبًا أو مباحًا، والمذموم منها إما أن يكون حرامًا أو مكروهًا؛ لذلك فإن النجوى في الحكم الشرعي الفقهي تعتريها الأحكام الشرعية الخمسة، وهي:
تكون النجوى واجبة إذا علم أن في إفشاء الأمر المتناجى فيه مضرة تلحق الغير، أو علم أن في إظهارها تفويتًا لمنفعة عامة أو خاصة، وتيقن المتناجون ألا مناص لهم من النجوى لجلب المصالح ودرء المفاسد، أو علم أن أمرًا واجبًا من أمور الشرع لا سبيل إليه إلا بالنجوى؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
هي النجوى التي تكون وسيلة لتحقيق أعمال البر والإحسان المتطوع بها لوجه الله، وعلم أن في إظهارها تضييعًا لأعمال الخير، وهروبًا من الرياء والسمعة.
وكل من النجوى الواجبة والمستحبة وحتى المباحة يشترط لجوازها عدم دخول الحزن على الآخرين. قال القرطبي: «وظاهر حديث ابن مسعود (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس من أجل أن يحزنه) يعم جميع الأزمان والأحوال، وإليه ذهب ابن عمر ومالك والجمهور. وسواء أكان التناجي في مندوب أو مباح أو واجب فإن الحزن يقع به»76.
هي النجوى التي تكون سببًا لإلحاق الأذى بالآخرين أو فتحًا لباب الفساد أو إشاعة للفواحش، كالتناجي بالنميمة أو الغيبة، أو الكذب أو البهتان، أو الاستهزاء أو السخرية من الآخرين، أو محاولة المكر والكيد بهم، أوفيها حكاية المعاصي.
قال الصنعاني: «واعلم أن فضول الكلام لا تنحصر، بل المهم محصور في كتاب الله تعالى حيث قال: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) [النساء:١١٤].
وآفاته لا تنحصر فعد منها الخوض في الباطل، وهو الحكاية للمعاصي من مخالطة النساء ومجالس الخمر ومواقف الفساد وتنعم الأغنياء وتجبر الملوك ومواسمهم المذمومة وأحوالهم المكروهة، فإن كل ذلك مما لا يحل الخوض فيه، فهذا حرام. ومنها الغيبة والنميمة وكفى بها هلاكًا في الدين ومنها المراء، والمجادلة، والمزاح. ومنها الخصومة، والسب، والفحش، وبذاءة اللسان، والاستهزاء بالناس والسخرية، والكذب»77.
هي التي لا منفعة منها ولا ضرر فيها على الغير؛ وإنما تكون سببًا في إهدار الوقت وتضييع الأعمار فيما لا فائدة ترجى منه، كالقيل والقال وكثرة السؤال وغيرها كثير.
هي ما لم يكن فيها أي شيء مما سبق في الأحكام الأخرى.
رأينا آنفا أن الله تعالى نهى عن التناجي؛ لما فيه من إلحاق الضرر بالغير والتسبب في إذايته، وجعل الله النجوى في الكثير منها شرا لا خير فيه؛ لما تحمله في حقيقة أمرها زيادة على ما ذكرنا من إهدار للوقت وتضييع للجهود فيما لا منفعة ترجى منه. إلا أن الله تعالى استثنى من تلك النجوى المنهي عنها نجوى أخرى تماثل في شكلها وتخالف في مضمونها تناجي المخالفين لأمر الله، فكانت بذلك نجوى محمودة، ولها منافع عند الحرص على تطبيقها، ومن ثم سوف يحصل من خلال الائتمار بها آثار محمودة يعود نفعها على الفرد والمجتمع.
أولًا: الآثار المحمودة:
ولنبدأ بآثار النجوى المحمودة على المجتمع ثم نثني بآثارها المذمومة.
لقد حدد الله عز وجل في كتابه العزيز الأمور التي يمكن للمسلم أن يتناجى فيها كما بين النبي صلى الله عليه وسلم كيفية وطريقة التناجي فيها.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ)[النساء:١١٤].
فنحن نلاحظ من خلال الاستثناء الموجود في الآية عدة أمور:
أولًا: إن الحث على الصدقة والترغيب فيها سواء كانت بمعناها الخاص أو بمعناها العام، له آثار جليلة: فبها تسد حاجات المجتمع ويتقلص بها عدد الفقراء والمحتاجين، وتنمحي بها مظاهر التسول والتشرد التي إن عمت مجتمعًا حكمت عليه بالتفكك والانحلال، فكان الإنفاق على الغير بطريق النجوى حفاظًا على المروءات وقضاء للحاجات وستر للعورات وسد للثغرات، ورفع للمشقة عن اليتامى والأرامل والمرضى والضعفاء، في صور حضارية تدل على الوحدة، وتزكي أواصر المحبة والأخوة، وتظهر التماسك والتعاطف والتلاحم والتراحم، وتقضي على البطالة والتشرد، وتخفف على الدولة أعباء عظيمة وتقيها أخطارًا جسيمة.
وثانيها: إن الترغيب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، له آثار عظيمة: فبهما يصلح المجتمع، ويقوم الاعوجاج، ويسد الخلل، وتحفظ الأعراض، ويشاع الخير ويقضى على الفواحش، وتختفي مظاهر الفسوق والعصيان، وتظهر الفضائل وتقمع الرذائل، وتتحقق الولاية بين المؤمنين، ويقوى الإيمان وتتآلف القلوب، حتى تصبح على قلب رجل واحد، وتتلاشى مظاهر العصبية، وتضمحل أسباب الحمية، وتندثر الأهواء، ويحكم الشرع، ويسود العدل، وتصفو الخواطر، وتطمئن النفوس وتحيى الضمائر، وتشتد العزائم، وترتفع الهمم، ويصبح المجتمع كله عبارة عن جسد واحد وكيان قائم له رادع ووازع؛ حتى يقوم الاعوجاج ويصلح الخلل بلطف وروية، مصداقا لقوله تعالى: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [التوبة:٧١].
وهذا ما أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم حينما قال: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)78.
أما ثالثها: فهو فعل كل ما من شأنه أن يصلح ذات البين بين المتخاصمين والمتنازعين، ومن آثار ذلك: بقاء الود والمحبة والالتحام قائمًا بين أفراد المجتمع؛ لأن من عادة المنازعات والخصومات إحداث الشقاق والشحناء، وما يتبع ذلك من تفكك بين الأفراد، فكان في التناجي لإصلاح ذات البين بين المسلمين قطع للقيل والقال، وإيقاف لهوى النفوس في استطالتها للفوز بسمعة القوة، ومنع المتخاصمين من التمادي في الخلاف، وتقليل المراجعين للمحاكم؛ فتقل بذلك نفقة الدولة على قضايا المتنازعين، فتنشر المحبة ويرجع الوئام؛ لأنه وكما هو معلوم كلما طالت الخصومة بين المتخاصمين وما تحدثه من جروح نفسية غائرة في الصدور كلما كان تحقيق التآلف بينهم صعبًا إلى حد يمكن ألا يتصالح المتخاصمون، مما يكون سببًا في قطع الأرحام وتفكك الأسر وبروز ظواهر اجتماعية سلبية.
كما يجب ألا ننسى أن فيه أفراد من المجتمع يكون لديهم قوة اجتماعية تفوق بكثير قوة القضاء؛ إذ أنهم حينما يتوسطون في حل المنازعات بين المتخاصمين مع ما لديهم من سمعة ووجاهة ومحبة الناس لهم يفلحون في الغالب في حل المنازعات؛ بل الأهم من ذلك سعيهم الحثيث ألا يبقى هناك أي غل في قلوب المتخاصمين؛ فتندثر العداوات وتختفي وتحل محلها الأخوة بمعناها الشمولي؛ فتقل الجرائم التي تكون نسبة كبيرة منها بسبب انتقام بعض المتنازعين من بعض، فتسود الطمأنينة وتحل السعادة وينتشر الأمن وتتحقق الأخوة ويزداد ترابط المجتمع مما يزيد من هيبة الدولة وقوتها، ويعطي نظرة إيجابية على المجتمع المسلم، مما قد يكون سبيلًا وسببًا لدخول كثير من الناس في دين الإسلام.
ثانيًا: الآثار المذمومة:
بسبب إمكانية إلحاق الضرر بالغير الذي هو سعي من الشيطان ليوقعه بين أفراد المجتمع، كما قال تعالى: (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ) [المجادلة:١٠].
حرم الله الكثير من النجوى من خلال قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) [النساء:١١٤].
ومن آثار ذلك وقوع الحزن في قلوب المؤمنين؛ مما يجعل باب سوء الظن بالغير يفتح على مصراعيه؛ لتتوالى بعد ذلك الأمراض الاجتماعية بالظهور: كالحقد والكراهية وانعدام الثقة وشيوع الغيبة والنميمة وغيرها، كل هذا بسبب رؤية فعل من يتناجى دون معرفة حقيقة ما يتناجى به، أما لو أردنا أن نذكر الأمور المتناجى بها وهي التي أطلق عليها الله عز وجل صفة الشر حينما قال: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ) [النساء:١١٤] فسيكون الأمر أكثر سوءًا وأشد بلاء.
وما نهي الله عز وجل للمؤمنين عن التناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول إلا لعلمه جل وعلا بخطر ذلك على الأمة أجمع.
فالتناجي بالإثم يدخل فيه كما رأينا سابقًا كل ذنب جعل موضوعًا للنجوى؛ فيتجرأ الناس بعد اتفاقهم وتدبيرهم على فعل المخالفات وارتكاب المحرمات، مما سيؤدي إلى إشاعة الفواحش وانتشار الرذائل وتساهل الناس في ارتكاب المعاصي.
وما إن يقع ذلك حتى ترى قلة أو انعدام من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فيقمع الحق ويتقوى الباطل، ويتصدى أهل الزيغ والأهواء ليلبسوا على الناس أمور دينهم ودنياهم، بدعوتهم إلى التحرر زعموا، وما يريدون من وراء ذلك إلا أن ينفلت الناس من اتخاذ دين الإسلام منهجا لحياتهم.
أما التناجي بالعدوان الذي هو الظلم فسيجعل المجتمع يعيش في الفوضى والخوف؛ فينعدم الأمن وتكثر الجرائم، ويضيع العدل، ويشيع الزور، ويحكم الجور، وتتناول الرشوة، وتنعدم الثقة، ويتهم البريء، ويبرأ المجرم، ويتجرأ على محارم الله، وتغصب الحقوق، ويظهر التزوير، وتضيع الأمانة، ويكثر الفحش في الكلام؛ فيصبح السب والشتم شعارًا يرفع لواؤه عند كل خصومة أو خلاف؛ لأن كل هذه الجرائم الاجتماعية نواتها وأساسها قد وجد حينما تناجى المتناجون بإثمٍ وشر، فهي في بدايتها لا تعدو أن تكون كلامًا في السر بين اثنين أو أكثر، إلا أنها سرعان ما تصبح تطبيقًا على أرض واقع حياة الناس.
أما التناجي بمعصية الرسول، فهو وإن كان لا يتصور وقوعه من المؤمن؛ لأنه في الأصل هو من أفعال المنافقين، إلا أن ضعف الإيمان قد يدفع كثيرًا من الناس إلى الاتفاق على تعمد مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بشبه متعددة، فينتج عن ذلك ظهور مخالفات شرعية في المجتمع، لم يكن يتصور المسلم أن يراها على أرض واقع المسلمين، كحلق اللحى والتبرج والسفور، والتشبه الواضح بغير المسلمين في مأكلهم ومشربهم ومختلف شؤون حياتهم، وظهور بين الفينة والأخرى من يجتمعون في الساحات العامة؛ ليتعمدوا هتك حرمة شهر الصيام بالأكل في رابعة النهار من غير عذر شرعي، اللهم إلا دعوتهم أنهم أحرار في أن يصوموا أو لا يصوموا زعموا.
إن شيوع تعمد معصية الرسول صلى الله عليه وسلم جعل كل من يستقيم على هدي محمد عليه الصلاة والسلام في هذا الزمان غريبًا بين أهله وذويه، فانقسم المجتمع إلى قسمين: قسم متبع لهدي الحبيب وهم قلة، وقسم آخر يعصي محمدًا صلى الله عليه وسلم وهم الكثرة.
موضوعات ذات صلة: |
الإصلاح، الحزن، السر، العلاقات الاجتماعية، العلن، الكتمان، المعروف |
1 مقاييس اللغة ٥/ ٣٩٧.
2 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٥/ ٣٩٨، تهذيب اللغة، الأزهري ١١/ ١٣٥، تاج العروس، الزبيدي ٤٠/ ٣٠.
3 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب المناقب، باب فضل النبي صلى الله عليه وسلم، رقم ٣٦١٦ .
وضعفه الألباني في ضعيف الترمذي، رقم ٤٨٣.
4 انظر: تفسير الراغب الأصفهاني ٤/١٤٨، التفسير الوسيط ٢/١١٥، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٥/٣٨٢.
5 انظر تيسير الكريم الرحمن ص٨٤٥ .
6 انظر: المعجم المفهرس الشامل لألفاظ القرآن الكريم، عبد الله إبراهيم جلغوم، ص ١٣٠٨-١٣٠٩.
7 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٥/ ٣٩٩.
8 انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني، ص ٧٩٣.
9 البحرالمحيط ص١٠٢.
10 تهذيب اللغة، الأزهري ٧/٢٣٢.
11 انظر: الصحاح، الجوهري ٦/٢٣٣٠، مجمل اللغة، ابن فارس ١/ ٢٩٨.
12 الكشاف ١/٦٥.
13 لسان العرب١٤/٢٣٨.
14 انظر جامع البيان، الطبري ٧/١٥١ـ١٥٢.
15 انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني ص ٤٠٤، لسان العرب، ابن منظور ٤/٣٦٣، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للفيومي ١/٢٧٣، تاج العروس، الزبيدي ١٢/٧.
16 انظر: المفردات ص ٤٠٤، الكشاف، الزمخشري ٤/٧٣٦.
17 انظر: معاني القرآن وإعرابه، الزجاج ١/٣٥٤، مقاييس اللغة، ابن فارس ٢/٢٠٢، لسان العرب، ابن منظور ١٤/٢٣٤، تاج العروس، الزبيدي ٣٧/٥٦٤، التوقيف على مهمات التعاريف، المناوي ص ٤٢.
18 انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني ص ٢٨٩، التوقيف على مهمات التعاريف، المناوي ص ٤٢، الكليات، الكفوي ص ٥١٤.
19 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب السنة، باب في استخلاف أبي بكر رضي الله عنه، رقم ٤٦٦٢، وأحمد في مسنده، رقم ١٨٩٢٦، ٤/٣٢٢.
وصححه الألباني في صحيح أبي داود.
20 لسان العرب، ابن منظور ٤/١٤٩، القاموس المحيط، الفيروزآبادي ١/٤٧١.
21 معجم لغة الفقهاء،فلعجي ص١٦٨.
22 جامع البيان، الطبري ٢٣/ ٢٣٦ ـ٢٣٧.
23 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٨/٤٢.
24 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٧/٢٩٠.
25 جامع البيان، الطبري ١٤/٣٨١.
26 جامع البيان، الطبري ١١/٤٠٣.
27 المصدر السابق ٢١/٦٤٧.
28 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٨/٤٤.
29 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٩/٤٩٢.
30 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاستئذان، باب لا يتناجى اثنان دون الثالث، رقم ٦٢٩٠، ومسلم في صحيحه، كتاب السلام، باب تحريم مناجاة الاثنين دون الثالث بغير رضاه، رقم ٢١٨٤.
31 التحرير والتنوير ٢٨/٣٤.
32 فتح القدير٥/٢٢٤.
33 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٧/٢٩٥.
34 تيسير الكريم الرحمن ص٨٤٦.
35 المحرر الوجيز ٥/٢٧٨.
36 تيسير الكريم الرحمن ص٢٠٢.
37 التحرير والتنوير ٥/١٩٩.
38 مفاتيح الغيب، الرازي١١/٢١٧.
39 المصدر السابق ١١/٢١٨.
40 أحكام القرآن ١/٦٢٦ـ٦٢٧.
41 معالم التنزيل، البغوي ١/٧٠٠.
42 فتح القدير ١/٥٩٤.
43 البحر المحيط ٤/٦٥.
44 تيسير الكريم الرحمن ص٢٠٢.
والحديث أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي ذر، كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، رقم ١٠٠٦.
45 محاسن التأويل، القاسمي ٣/٣٢٧.
46 معالم التنزيل، البغوي ١/٧٠٠.
47 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي٥/٣٨٣.
والحديث أخرجه أحمد في مسنده، مسند جابر، رقم ١٤٧٠٩، والترمذي في سننه، أبواب البر والصلة، باب ما جاء في طلاقة الوجه، رقم ١٩٧٠.
قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وحسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد رقم ١٢٨.
48 عمدة القاري ١٣/٢٦٥.
49 انظر: نهاية الأرب ٣/١٠٧، التمثيل والمحاضرة ص٢٨.
50 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٥/٣٨٣.
51 تيسير الكريم الرحمن ص٢٠٢.
52 محاسن التأويل، القاسمي ٣/٣٢٧.
53 المصدر السابق.
وانظر: الموسوعة الكويتية ٥/٦٢.
54 فتح القدير ١/٥٩٤.
55 تيسير الكريم الرحمن ص٢٠٢.
56 أضواء البيان ١/٣٠٦.
57 جامع العلوم والحكم ١/٦٧,
58 التمهيد ١٦/٢٥١.
59 تيسير الكريم الرحمن ص٢٠٢.
60 أنوار التنزيل، البيضاوي ٢/٩٦.
61 المحرر الوجيز ٢/١١٢.
62 تفسير الراغب الأصفهاني ٤/١٥٠.
63 تيسير الكريم الرحمن ص٨٤٥.
64 تأويلات أهل السنة، الماتريدي ٦/١٣٨.
65 التفسير الوسيط ٤/٢٦٤.
66 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٩/٤٩٢.
67 تفسير الراغب الأصفهاني٤/١٤٩.
68 بيان المعاني، العاني ٦/٢٠٦.
69 التحرير والتنوير ٥/١٩٨.
70 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ٤/٢٤٦، التفسير الوسيط، الواحدي ٤/٢٦٣.
71 انظر: جامع البيان، الطبري ٢٣/٢٤٢، الكشاف، الزمخشري ٤/٤٩١، معاني القرآن، الزجاج ٥/١٣٧.
72 تأويلات أهل السنة، الماتريدي ٩/٥٦٩.
73 المصدر السابق.
74 البحر المحيط ١٠/١٢٦.
75 مدارك التنزيل، النسفي٣/٤٤٨.
76 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي١٧/٢٩٥.
77 سبل السلام ٢/٦٥٤.
78 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، رقم ٧٨.