عناصر الموضوع
الذكر
أولًا: المعنى اللغوي:
(ذ ك ر) الذال والكاف والراء أصلان، عنهما يتفرع كلم الباب.
فالأصل الأول: الذكر (بالفتح): خلاف الأنثى، والأصل الآخر: الذكر (بالكسر): الحفظ للشيء، تذكره، والذكر: جري الشيء على اللسان، وذكرت الشيء: خلاف نسيته، ثم حمل عليه الذكر باللسان، ويقولون: اجعله منك على ذكرٍ، بضم الذال، أي: لا تنسه. والذكر: العلاء والشرف، وهو قياس الأصل.
فعلى الأصل الثاني (الذكر) بالكسر له معنيان: أحدهما: التلفظ بالشيء، والثاني: إحضاره في الذهن، بحيث لا يغيب عنه، وهو ضد النسيان، و(الذكر) بالضم للمعنى الثاني لا غير. أي: أن الذكر بالكسر ما يكون باللسان، وبالضم ما يكون بالجنان.
وإذا أريد بالذكر الحاصل بالمصدر جمع على (أذكار) وهو الإتيان بألفاظٍ ورد الترغيب فيها، ويطلق ويراد به المواظبة على العمل بما أوجب أو ندب إليه، كالتلاوة، وقراءة الأحاديث، ودرس العلم، والنفل بالصلاة1.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
قال ابن علان: «أصل وضع الذكر هو ما تعبدنا الشارع بلفظه، مما يتعلق بتعظيم الحق، والثناء عليه»2.
ونجد أن الذكر عند ابن تيمية واسع الدلالة؛ إذ هو عنده: «كل ما تكلم به اللسان، وتصوره القلب، مما يقرب إلى الله من تعلم علم، وتعليمه، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر فهو من ذكر الله؛ ولهذا من اشتغل بطلب العلم النافع بعد أداء الفرائض، أو جلس مجلسًا يتفقه، أو يفقه فيه الفقه الذي سماه الله ورسوله فقهًا، فهذا أيضًا من أفضل ذكر الله»3.
وعرفه ابن القيم في الوابل الصيب بقوله: «الذكر ثناء على الله عز وجل بجميل أوصافه وآلائه وأسمائه»4.
والمقصود: أن الذكر في الاصطلاح يستعمل بمعنى ذكر العبد لربه عز وجل، سواء بالإخبار المجرد عن ذاته أو صفاته أو أفعاله أو أحكامه، أو بتلاوة كتابه، أو بمسألته ودعائه، أو بإنشاء الثناء عليه بتقديسه، وتمجيده وتوحيده وحمده وشكره، وتعظيمه، ويستعمل الذكر اصطلاحًا بمعنى أخص من ذلك، فيكون بمعنى إنشاء الثناء بما تقدم دون سائر المعاني الأخرى المذكورة، ويشير إلى الاستعمال بهذا المعنى الأخص قوله تعالى: (ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ)[العنكبوت: ٤٥].
فبعد أن ذكر الصلاة وهي ذكر بالمعنى العام، قال بعدها: (ﯪ ﯫ ﯬ) أي: بالمعنى الأخص.
ويلحظ أن الذكر اصطلاحًا مخصوص بذكر العبد ربه عز وجل، بالثناء عليه.
وردت مادة (ذكر) في القرآن الكريم (٢٤٢) مرة5.
والصيغ التي وردت هي:
الصيغة |
عدد المرات |
المثال |
الفعل الماضي |
٢٧ |
(ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ) [الأعلى:١٥] |
الفعل المضارع |
٧١ |
(ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) [الأنبياء:٣٦] |
فعل الأمر |
٥٦ |
(ﮛ ﮜ ﮝ) [آل عمران:٤١] |
اسم فاعل |
١٠ |
(ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) [الأحزاب:٣٥] |
اسم مفعول |
١ |
(ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ) [الإنسان:١] |
مصدر |
٧٧ |
(ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ) [البقرة:٢٠٠] |
وجاء الذكر في القرآن على ثمانية أوجه6:
الأول: الطاعة والعمل الصالح، قال تعالى: (ﯩ ﯪ) [البقرة:١٥٢]، يعني: اذكروني بالطاعة وأطيعوني، أذكركم بخير.
الثاني: الحفظ، قال تعالى: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ) [البقرة:٦٣]، يعني: احفظوا ما في التوراة.
الثالث: التوحيد، قال تعالى: (ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ) [طه:١٢٤]، يعني: عن توحيده سبحانه.
الرابع: الشرف، قال تعالى: (ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [الأنبياء:١٠]، يعني: شرفكم.
الخامس: الوعظ، قال تعالى: (ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) [الأنعام:٤٤]، يعني: ما وعظوا به.
السادس: الخبر، قال تعالى: (ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ) [الكهف:٨٣]، يعني: خبرًا.
السابع: الوحي، قال تعالى: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [ص:٨]، يعني: الوحي.
الثامن: البيان، قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ) [ص:١]، يعني: ذي البيان.
التسبيح:
التسبيح لغةً:
تدل مادة (سبح) على التنزيه والتبرئة من السوء.
ومعنى: (سبحان الله): تنزيه الله وبراءته من السوء7.
التسبيح اصطلاحًا:
التنزيه والتعظيم لله تعالى 8.
الصلة بين التسبيح والذكر:
إن الذكر أعم من التسبيح، والتسبيح أخص من الذكر، فكل تسبيح ذكر وليس العكس.
الدعاء:
الدعاء لغة:
مأخوذ من مادة (د ع و) التي تدل في الأصل على إمالة الشيء إليك بصوت وكلام يكون منك، ومن هذا الأصل الدعاء في معنى الرغبة إلى الله عز وجل، وهو واحد الأدعية، والفعل من ذلك دعا يدعو، والمصدر الدعاء والدعوى9.
الدعاء اصطلاحًا:
هو سؤال العبد ربه حاجته.
الصلة بين الدعاء والذكر:
بينهما عموم وخصوص، فكل دعاء ذكر لله، وليس كل ذكر دعاء.
قال ابن القيم: «إن الدعاء هو ذكر للمدعو سبحانه، متضمن للطلب منه والثناء عليه بأسمائه وأوصافه، فهو ذكر وزيادة، كما أن الذكر سمي دعاء لتضمنه الطلب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الدعاء الحمد لله)، فسمى الحمد لله دعاء، وهو ثناء محض؛ لأن الحمد يتضمن الحب والثناء، والحب أعلى أنواع الطلب للمحبوب، فالحامد طالب لمحبوبه، فهو أحق أن يسمى داعيًا من السائل الطالب من ربه حاجة ما10.
أولًا: السر والجهر:
ذكر الله مشروع سرًا وجهرًا، إلا أن الأفضل فيه أن يكون دون الجهر من القول، أي: معتدلًا، فقد ذكر الله تعالى من آداب الذكر خفض الصوت، وعدم الجهر به، قال تعالى: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) [الأعراف: ٢٠٥].
ونظيره في الدعاء قوله تعالى: (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) [الأعراف: ٥٥].
فقوله: (ﯤ ﯥ) فيها استحباب إمرار الذكر بالقلب، أو يكون المعنى: أن يذكر الله بينه وبين نفسه بحيث لا يطلع عليه أحد من شدة المخافتة. أو (ﯤ ﯥ) بأن تستحضر معنى أسمائه وصفاته وآلائه وفضله عليك، وحاجتك إليه، متضرعًا له، خائفًا منه، راجيًا نعمه11.
قال الجصاص: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) هو الفكر في دلائل الله وآياته12.
وهذا الذكر لا بد أن يكون (ﮪ ﮫ) والتضرع: التذلل؛ ولما كان التذلل يستلزم الخطاب بالصوت المرتفع في عادة العرب كنى بالتضرع عن رفع الصوت مرادًا به معناه الأصلي والكنائي؛ ولذلك قوبل بالخفية في قوله: (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) وقوبل التضرع هنا بالخيفة، وهي اسم مصدر الخوف، فهو من المصادر التي جاءت على صيغة الهيئة، وليس المراد بها الهيئة مثل الشدة، ولما كانت الخيفة انفعالًا نفسيًا يجده الإنسان في خاصة نفسه كانت مستلزمة للتخافت بالكلام خشية أن يشعر بالمرء من يخافه؛ فلذلك كني بها هنا عن الإسرار بالقول مع الخوف من الله، فمقابلتها بالتضرع طباق في معنيي اللفظين الصريحين، ومعنييهما الكناءين، فكأنه قيل: تضرعًا وإعلانًا، وخيفة وإسرارًا.
وبين ابن القيم الفرق بين الخيفة والخفية بقوله: «وتأمل كيف قال في آية الذكر: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ)، وفي آية الدعاء: (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) فذكر التضرع فيهما معًا، وهو التذلل والتمسكن والانكسار، وهو روح الذكر والدعاء، وخص الدعاء بالخفية لما ذكرنا من الحكم وغيرها، وخص الذكر بالخيفة لحاجة الذاكر إلى الخوف، فإن الذكر يستلزم المحبة ويثمرها ولا بد، فمن أكثر من ذكر الله أثمر له ذلك محبته، والمحبة ما لم تقرن بالخوف فإنها لا تنفع صاحبها بل قد تضره؛ لأنها توجب الإدلال والانبساط، وربما آلت بكثير من الجهال المغرورين إلى أنهم استغنوا بها عن الواجبات، وقالوا: المقصود من العبادات إنما هو عبادة القلب وإقباله على الله ومحبته له وتألهه له، فإذا حصل المقصود فالاشتغال بالوسيلة باطل»13.
فذكر الله -الذي حثت عليه هذه الآية وغيرها- ليس مجرد الذكر بالشفة واللسان؛ ولكنه الذكر بالقلب والجنان، فذكر الله إن لم يرتعش له الوجدان، وإن لم يخفق له القلب، وإن لم تعش به النفس، إن لم يكن مصحوبًا بالتضرع والتذلل والخشية والخوف لن يكون ذكرًا، بل قد يكون سوء أدب في حق الله سبحانه، إنما هو التوجه إلى الله بالتذلل والضراعة، وبالخشية والتقوى، إنما هو استحضار جلال الله وعظمته، واستحضار المخافة لغضبه وعقابه، واستحضار الرجاء فيه، والالتجاء إليه، حتى يصفو الجوهر الروحي في الإنسان، ويتصل بمصدره اللدني الشفيف المنير، فإذا تحرك اللسان مع القلب وإذا نبست الشفاه مع الروح؛ فليكن ذلك في صورة لا تخدش الخشوع، ولا تناقض الضراعة؛ ليكن ذلك في صوت خفيض، لا مكاء وتصدية، ولا صراخًا وضجة، ولا غناء وتطرية!14.
وقوله: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) هو مقابل لكل من التضرع والخيفة، وهو الذكر المتوسط بين الجهر والإسرار، والمقصود من ذلك استيعاب أحوال الذكر باللسان؛ لأن بعضها قد تكون النفس أنشط إليه منها إلى البعض الآخر15.
فيستفاد من (ﯨ ﯩ) أي: دون الرفع في القول، أي: أسمع نفسك، كما قال: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) [الإسراء: ١١٠].
أي: بين الجهر والمخافتة، ودل هذا على أن رفع الصوت بالذكر -رفعًا فاحشًا- ممنوع16، فيكون في هذا التعبير استحباب ألا يكون الذكر نداء وجهرًا بليغًا.
والظاهر أن قوله: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) حالة مغايرة لقوله: (ﯤ ﯥ) لعطفها عليها، والعطف يقتضي التغاير، فكأن الأولى معناها: أن يذكر الله بينه وبين نفسه بحيث لا يطلع عليه أحد، والثانية: إمرار الذكر بالقلب دون نطق.
لكن الجمهور على أنهما حالة واحدة، والمعنى: اذكر ربك بحيث تسمع نفسك لكن دون الجهر من القول، أي: مخافتة.
قال ابن عطية: «والجمهور على أن الذكر لا يكون في النفس، ولا يراعى إلا بحركة اللسان، قال: ويدل عليه من هذه الآية قوله تعالى: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) فهذه مرتبة السر والمخافتة باللفظ»17.
قال في البحر: «ولا دلالة في ذلك لما زعم، بل الظاهر المغايرة بين الحالتين، وأنهما ذكران نفساني ولساني»18.
ولذلك قال الزمخشري: «ومتكلمًا كلامًا دون الجهر؛ لأن الإخفاء أدخل في الإخلاص، وأقرب إلى التفكر»19.
والحاصل: أن في الآية خطابًا للنبي الكريم ينضوي تحته المؤمنون جميعًا، ومطلوب هذا الخطاب هو ذكر الله دون الجهر من القول، وشغل القلب به في صمت وخشوع، وفي ضراعة لكبرياء الله، وخوف ورهب لسطوته وجبروته.
وهذا الذكر يشمل: ذكر القلب، حيث تسكن كل جارحة، وحيث يكون الإنسان كله مشاعر خاشعة، تلين بها الجلود، وتفيض منها العيون، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [الزمر: ٢٣]20.
ويشمل ذكر اللسان، وهو في درجة بعد هذه الدرجة، ومنزلة دون تلك المنزلة التي هي من شأن القلب وحده، ويلي هاتين المرتبتين مرتبة أعلى منهما، وهي أن يواطئ القلب اللسان في الذكر.
وهذه الآية قد اشتملت على الجمع بين الأمر بذكر الله والنهي عن ضده وهو الغفلة، وهذه الآية إضافة إلى دلالتها على ذلك، فقد اشتملت على جملة طيبة من الآداب الكريمة التي ينبغي أن يتحلى بها الذاكر، ومن هذه الآداب:
١. أن يكون الذكر سرًا.
فالإخفاء أدخل في الإخلاص، وأقرب إلى الإجابة، وأبعد من الرياء.
فإن قيل: فما وجه الفرق بين الذكر وقراءة القرآن؟ فلماذا طلب في الذكر أن يكون خفية ودون الجهر من القول، ولم يطلب ذلك في القرآن مع أن القراءة أيضًا ذكر؟ والجواب: أن القرآن مشتمل على الوعظ والقصص الموجبة للعبرة والأحكام، ونظمه معجز جاذب للقلوب السقيمة إلى الإسلام.
ولذا قال الله تعالى: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ) [التوبة: ٦].
وقراءته باللسان عبادة زائدة على الذكر الذي هو عبادة عن طرد الغفلة عن الجنان، وإسماعه غيره عبادة أخرى مرغوبة عند الرحمن بخلاف الذكر والدعاء، فإن المقصود من الدعاء الإجابة، ومن الذكر النسيان عما يشغله من العزيز المنان حتى يسقط عن بصيرته نفس الذكر، بل الذاكر أيضًا، ولا يبقى في بصيرته إلا الواحد القهار21.
٢. أن يكون مصحوبًا بالتضرع.
وهو التذلل والخضوع والاعتراف بالتقصير ليتحقق فيه ذلة العبودية، والانكسار لعظمة الربوبية.
٣. أن يكون مصحوبًا بخوف.
أي: الخوف من المؤاخذة على التقصير في العمل، والخشية من الرد، وعدم القبول، قال الله تعالى في صفة المؤمنين المسارعين في الخيرات، السابقين لأرفع الدرجات: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [المؤمنون:٦٠، ٦١].
٤. أن يكون دون الجهر؛ لأنه أقرب إلى حسن التفكر.
قال ابن كثير رحمه الله: «ولهذا قال: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) وهكذا يستحب أن يكون الذكر لا يكون نداءً ولا جهرًا بليغًا»22.
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكنا إذا أشرفنا على وادٍ هللنا وكبرنا، ارتفعت أصواتنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، إنه معكم، إنه سميع قريب)23.
٥. أن يكون باللسان لا بالقلب وحده.
وهو مستفادٌ من قوله: (ﯨ ﯩ)؛ لأن معناه: ومتكلمًا كلامًا دون الجهر، ويكون المراد بالآية الأمر بالجمع في الذكر بين اللسان والقلب، وقد يقال: هو ذكره في قلبه بلا لسانه بقوله بعد ذلك: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) إلا أن الأول هو الأصح، كما حقق ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم.
وقد نظر له رحمه الله بقوله صلى الله عليه وسلم فيما روى عن ربه أنه قال: (من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم)24.
قال: «وهذا يدخل فيه ذكره باللسان في نفسه، فإنه جعله قسيم الذكر في الملأ، وهو نظير قوله: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) والدليل على ذلك أنه قال: (ﯬ ﯭ) ومعلوم أن ذكر الله المشروع بالغدو والآصال في الصلاة وخارج الصلاة هو باللسان مع القلب، مثل صلاتي الفجر والعصر، والذكر المشروع عقب الصلاتين، وما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وعلمه وفعله من الأذكار والأدعية المأثورة من عمل اليوم والليلة المشروعة طرفي النهار بالغدو والآصال»25.
٦. أن يكون بالغدو والآصال.
أي: في البكرة والعشي، فتدل الآية على مزية هذين الوقتين؛ لأنهما وقت سكون ودعة وتعبد واجتهاد، وما بينهما الغالب فيه الانقطاع إلى أمر المعاش، وقد ورد أن عمل العبد يصعد أول النهار وآخره، فطلب الذكر فيهما ليكون ابتداء عمله واختتامه بالذكر26.
٧. النهي عن الغفلة عن ذكره.
قال تعالى: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) أي: من الذين يغفلون عن ذكر الله، ويلهون عنه، وفيه إشعارٌ بطلب دوام ذكره تعالى، والاستمرار عليه، وأحب العمل إلى الله أدومه وإن قل.
فهذه سبعة آداب عظيمة اشتملت عليها هذه الآية الكريمة، لخصناها من كلام القاسمي في كتاب محاسن التأويل27.
ومع ما تقدم يمكن القول: إن حكم الجهر والإسرار في الذكر يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، فالإسرار أفضل حيث خيف الرياء، أو تأذي المصلين أو النيام، والجهر أفضل حيث خلا مما ذكر28. ويستثنى من هذا الأصل مواضع ينبغي فيها الجهر بالذكر، ورفع الصوت به؛ لما في ذلك من المصالح التي قدرها الشرع في ذلك، ومنها:
فالطريقة المثلى في هذا الباب أن يجهر في الموضع الذي ورد فيه الجهر، ويسر في الموضع الذي ورد فيه الإسرار، والموضع الذي لم يرد فيه الدليل على الجهر أو السر فالذاكر فيه بالخيار، ولكن لا بد للذاكر فيه من ملاحظة الآية السابقة: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) [الأعراف: ٢٠٥].
قال الشيخ بكر أبو زيد: «مما تقدم يتبين أن الأصل في الذكر والدعاء هو الإسرار، وحده: التلفظ بتحرك اللسان بالحروف من مخارجها بصوت أقله أن يسمع نفسه، والجهر: هو التلفظ بتحريك اللسان بالحروف من مخارجها بصوت يسمعه غيره ممن يليه، ولا حد لأعلاه، والجهر في الذكر والدعاء استثناء لا يكون إلا بما ورد به الشرع، وهو دائر بين الوجوب والاستحباب، وأكثره في الذكر، أو في الذكر المشوب بالدعاء، ثم ذكر ما يجب فيه الجهر، وما يستحب.
ثم قال: ثم أحدث الناس جماعة أو فرادى الجهر الجهير، والمبالغة في رفع الصوت والصياح والصيحة، والذكر والدعاء بالجوقة وبمكبر الصوت، وما يتبع ذلك من الترنيم والتلحين والتطريب والترجيع واللحن بالتحزين»30.
ثانيًا: القلبي واللساني:
الذكر يكون باللسان، ويكون بالقلب، ويكون بهما معًا، والأفضل منه ما كان بالقلب واللسان جميعًا، فإن اقتصر على أحدهما فالقلب أفضل31. وقلنا: إن الأفضل منه الذكر بالقلب مع اللسان؛ لأن الذاكر هنا يعمل آلتين في الذكر وليست آلة واحدة.
١. الذكر اللساني.
المراد بالذكر باللسان: أن يتحرك به اللسان، ويسمع نفسه على الأقل، إن كان ذا سمع، ولم يكن هناك لغط يمنع السماع، وذكر اللسان على الوجه المبين يتأدى به الذكر المكلف به في الصلاة ونحوها، ولا يجزئ في ذلك مجرد إمرار الذكر المطلوب على القلب32.
والذكر اللساني هو المراد في إطلاق القرآن، فإذا أطلق الذكر حمل على القول اللساني؛ ولهذا قال الله في شأن التسبيح (ﮯ ﮰ ﮱ) [الحاقة: ٥٢].
فهناك اسم يذكر، وهذا يدل على وجود قول، قال الرازي: «ولو قال: فسبح ربك، ما أفاد الذكر لهم، وكان ينبئ عن التسبيح بالقلب؛ ولما قال: (ﮯ ﮰ ﮱ) والاسم هو الذي يذكر لفظًا دل على أنه مأمور بالذكر اللساني، وليس له أن يقتصر على الذكر القلبي»33.
وذكر الذكر باللسان في قوله: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) [الزخرف: ١٣].
أي: تنزهوا الله بصريح القول، ومنه قوله في سورة النساء: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) [النساء: ١٠٣].
يعني: اذكروه باللسان؛ ولهذا قال بعده: (ﮙ ﮚ) وقال في آل عمران مثل ذلك، وقال في سورة البقرة: (ﮡ ﮢ) [البقرة: ٢٠٠] باللسان (ﮣ ﮤ) بألسنتكم (ﮥ ﮦ ﮧ) يعني: باللسان.
وقال في سورة الأحزاب: (ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [الأحزاب: ٤١] يعني: باللسان.
وقال: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) [الأحزاب: ٣٥]. كذلك34.
ومنه قوله: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [المائدة: ٤]. أي: الذكر باللسان.
والذكر اللساني هو المأمور به في القرآن والسنة، والمترتب عليه الأجور المحددة، قال الفقهاء: وذلك معلوم من أقواله صلى الله عليه وسلم أن من قال كذا فله من الأجر كذا، فلا يحصل ذلك إلا بما يصدق عليه القول، لكن إذا صحب الذكر باللسان حضور القلب والتدبر والعمل بما تقتضيه هذه الأذكار فهذا قدر زائد لا يعرف قدره إلا الله جل وعلا؛ ولذا جاء في الحديث أنه -أي: الذكر-: (أفضل من أن تلقوا عدوكم)35.
والذكر اللساني مشروع في جميع الأوقات، ويتأكد في بعضها، فمما يتأكد فيه الذكر عقيب الصلوات المفروضات، قال تعالى: (ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ) [ق: ٤٠].
ويستحب أيضًا الذكر بعد الصلاتين اللتين لا تطوع بعدهما، وهما: الفجر والعصر، وهذان الوقتان -أعني: وقت الفجر ووقت العصر- هما أفضل أوقات النهار للذكر؛ ولهذا أمر الله تعالى بذكره فيهما في مواضع من القرآن36. كما سيأتي.
لكن الذكر باللسان فقط دون معرفة القلب ودون العمل فائدته قليلة وقد لا يفيد، فينبغي للإنسان أن يتعرف على معاني ما يقوله، ويعمل به، ألا ترى أن الفقهاء أجمعوا على أن الرجل إذا قال: بعت واشتريت، مع أنه لا يعرف معاني هذه الألفاظ، ولا يفهم منها شيئًا فإنه لا ينعقد البيع والشراء، فكذا ها هنا37.
٢. الذكر القلبي.
ومن أنواع الذكر: الذكر القلبي، وهو بمعنى تذكر عظمة الله عند أوامره ونواهيه، وإرادة الفعل الذي فيه رضاه فيفعله، أو الذي فيه سخطه فيتركه، والتفكير في عظمة الله وجبروته وآياته في أرضه وسماواته ومصنوعاته38.
قال ابن عاشور: «الذكر القلبي وهو ذكر الله عند أمره ونهيه، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أفضل من ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه، وهو الذي في قوله تعالى: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ) [آل عمران: ١٣٥].
فدخل فيه التوبة، ودخل فيها الارتداع عن المظالم كلها من القتل، وأخذ أموال الناس والحرابة، والإضرار بالناس في المعاملات، ومما يوضح شموله لهذه الشرائع كلها تقييده بـ(كثيرًا)؛ لأن المرء إذا ذكر الله كثيرًا فقد استغرق ذكره على المحملين جميع ما يذكر الله عنده»39.
وقال الشنقيطي: (ﮛ ﮜ) ذكرين، أما الذكر النفساني فهذا الذي يكون في نفسك لا يعلمه منك إلا ربك، من أن تتفكر في عظمته وسلطانه وجبروته وصفاته وعقابه وثوابه متضرعًا خائفًا منه جل وعلا، وهذا النوع من الذكر القلبي عظيم جدًا، الثاني: ذكر لساني، وقد علمهم جل وعلا آداب الذكر اللساني، وأنهم لا يرفعوا صوته جدًا ولا يخافتوا به جدًا40.
وقد استنبط المفسرون إشارات في القرآن يفهم منها الدلالة على هذا النوع من الذكر، وهو الذكر القلبي، قال في اللباب: «ثم قال تعالى: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) والمراد منه: أن العبد يجب أن يكون ذاكرًا لله تعالى في كل الأوقات؛ لأنه حثه على الذكر الغدوات وبالعشيات، ثم عمم بقوله: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) يعني: أن الذكر القلبي يجب أن يكون دائمًا، وأن لا يغفل الإنسان عنه لحظةً واحدةً بحسب الإمكان»41.
وقال ابن جزي: «(ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) يحتمل أن يريد الذكر بالقلب دون اللسان، أو الذكر باللسان سرًا، فعلى الأول يكون قوله: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) عطف متغاير، أي: حالة أخرى، وعلى الثاني: يكون بيانًا وتفسيرًا للأول»42.
وقال الثعالبي: «قوله تعالى: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) يدل على أن الذكر القلبي يجب أن يكون دائمًا، وألا يغفل الإنسان لحظةً عن استحضار جلال الله وكبريائه بقدر الطاقة البشرية، وتحقيق القول في هذا أن بين الروح والبدن علاقةً عجيبةً لأن كل أثر يحصل في البدن يصعد منه نتائج إلى الروح، ألا ترى أن الإنسان إذا تخيل الشيء الحامض ضرس منه، وإذا تخيل حالةً مكروهةً أو غضب سخن بدنه»43.
ويدخل في الذكر القلبي: الوقوف عند الحدود: إن رأى واجبًا ذكر الله بقلبه ففعله، وإن رأى محظورًا ذكر الله بقلبه فاجتنبه؛ ولهذا كان من دعاء العظماء: «اللهم إني أسألك أن لا ترانا حيث نهيتنا، ولا تفقدنا من حيث أمرتنا»44.
ويدخل في الذكر القلبي التفكر في مخلوقات الله وآياته، فالتفكر في الكون أرضه وسمائه، حيوانه وجماده، أخضره ويابسه، ليله ونهاره، نجومه وكواكبه لمن أجل الأعمال، وأعظم الطاعات، وأفضل العبادات التي ترفع الإنسان في مدارج السمو الروحي، وتنقل الإيمان من التقليد إلى الأصالة، ومن الشك إلى اليقين.
قال الزمخشري: «الفكرة -أي: التفكر- تذهب الغفلة، وتحدث للقلب الخشية، كما يحدث الماء للزرع النبات، وما جليت القلوب بمثل الأحزان، ولا استنارت بمثل الفكرة»45.
والتفكر المقصود هو التفكر في خلق الله، وما حواه كونه من آيات باهرات، وشواهد ناطقات بوجوده ووحدانيته، لا التفكر في ذاته العلية، فإن ذلك مظنة الزيغ والهلاك؛ لهذا نهي عنه.
ويدخل في الذكر القلبي: أن تذكر نعم الله وأفضاله وآلاءه، في قلبك، فيحملك ذلك على شكره والثناء عليه باللسان، قال تعالى: (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [البقرة: ٢٣١].
وقال عز وجل: (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [آل عمران: ١٠٣].
وذكر القلب نوعان:
أحدهما: وهو أرفع الأذكار وأجلها: الفكر في عظمة الله تعالى، وجلاله وجبروته وملكوته وآياته في سماواته وأرضه.
والثاني: ذكره بالقلب عند الأمر والنهي، فيمتثل ما أمر به، ويترك ما نهي عنه، ويقف عما أشكل عليه، فإذا اجتمع هذا مع ذكر اللسان كان أعظم، وأما ذكر اللسان مجردًا فهو أضعف الأذكار، ولكن فيه فضل.
فإذا اجتمعت هذه الأنواع للذاكر فذكره أفضل الذكر، وأجله وأعظمه46.
وقال شيخ الإسلام -وهو يتحدث عن مراتب الناس في الذكر-: «فإن الناس في الذكر أربع طبقات... وذكر منها: الذكر بالقلب فقط، فإن كان مع عجز اللسان فحسن، وإن كان مع قدرته فتركٌ للأفضل»47.
«وقال القاضي48: واختلفوا هل تكتب الملائكة ذكر القلب؟ فقيل: تكتبه، ويجعل الله تعالى لهم علامة يعرفونه بها، وقيل: لا يكتبونه؛ لأنه لا يطلع عليه غير الله، قال النووي: قلت: الصحيح أنهم يكتبونه، وأن ذكر اللسان مع حضور القلب أفضل من القلب وحده»49.
ونفهم من قول ابن تيمية السابق، وما نقله النووي عن القاضي عياض رحمهم الله، أنهما يذهبان إلى جواز الذكر بالقلب تهليلًا وتسبيحًا وقراءة للقرآن وغير ذلك، وهذا كله في الذكر القلبي بالمعنى المبين الخاص، أما الذكر القلبي بمعنى تذكر عظمة الله عند أوامره ونواهيه، وإرادة الفعل الذي فيه رضاه فيفعله، أو الذي فيه سخطه فيتركه، والتفكر في عظمة الله وجبروته وآياته في أرضه وسماواته ومصنوعاته، فقال عياض: «هذا النوع لا يقاربه ذكر اللسان فكيف يفضله؟!»50.
وقال في البحر: «ولا شك أن الذكر الذي يصرف الشيطان عن القلب إنما هو الذكر القلبي لا اللساني، فكم من ذاكر بلسانه وقلبه مشغول بهواه»51.
وعليه فإن الذكر بالقلب جائز بجميع اعتباراته التي ذكرت من العلماء، ولكن اشتراط أهل العلم في الأذكار التعبدية أن ينطق بها مثل الفاتحة، وتكبيرة الاحرام، وأذكار الصلاة، فلا يكفي فيها الذكر القلبي، بل لا بد من حركة اللسان بها، كما قال خليل في مختصره في الفقه المالكي: «وفاتحة بحركة لسان»52. بل يشترط أن يسمع القارئ نفسه.
والمقصود أن الذكر نوعان: قلبي ولساني، ولكل منهما شواهد من الكتاب والسنة، فالذكر اللساني باللفظ المركب من الأصوات والحروف، لا يتيسر للذاكر في جميع الأوقات؛ فإن البيع والشراء ونحوهما يلهي الذاكر عنه ألبتة، بخلاف الذكر القلبي فإنه بملاحظة مسمى ذلك اللفظ المجرد عن الحروف والأصوات لا شيء يلهي الذاكر عنه.
ثالثًا: المنفرد والجماعي:
الذكر عبادة من العبادات، بل هو من أعظم العبادات، والعبادات مبناها على النص والاتباع، لا على الإحداث والاختراع؛ إذ هي توقيفية، لا مجال للابتداع فيها، أو الاستحسان.
١. الذكر المنفرد.
الأصل في الذكر أن يقوم به كل إنسان بمفرده، ولعل هذا يفهم من قوله تعالى: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [الأعراف: ٢٠٥].
فيحمل قوله: (ﯤ ﯥ) معنى: الانفراد. قال السعدي: «فأمر الله عبده ورسوله محمدًا أصلًا، وغيره تبعًا بذكر ربه في نفسه، أي: مخلصًا خاليًا»53. فخاليًا أي: منفردًا.
ومدح زكريا عليه السلام بقوله: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ) [مريم: ٣].
ولا يكون نداء خفيًا إلا إذا كان منفردًا، خاليًا لوحده. قال أبو جعفر: «أي: سرًا»54. وقال الواحدي: «أي: خافيًا، يخفي ذلك في نفسه، لا يريد رياء، وهذا يدل على أن المستحب في الدعاء الإخفاء»55.
فهذا الأصل في الذكر أن يؤديه كل إنسان بمفرده إلا ما استثناه الشارع، كالدعاء من الإمام في الصلاة، والتأمين عليه، سواءً بعد الفاتحة، أو في القنوت ونحو ذلك.
٢. الذكر الجماعي.
الذكر الجماعي: هو ما ينطق به المجتمعون للذكر بصوت واحد، يوافق فيه بعضهم بعضًا، كما يفعله بعض الناس من الاجتماع أدبار الصلوات المكتوبة، أو في غيرها من الأوقات والأحوال ليرددوا بصوت جماعي أذكارًا وأدعية وأورادًا وراء شخص معين، أو دون قائد، لكنهم يأتون بهذه الأذكار في صيغة جماعية، ومن صوت واحد.
ولم نجد في القرآن ما يدل على الذكر الجماعي، أو يشير إليه.
وقد اختلف العلماء قديمًا وحديثًا في هذه المسألة، بين مجوز لها ومانع منها، وألفت فيها المؤلفات الكثيرة، ولا نستطيع بسط المسألة ومناقشة أدلتها، وأقوال العلماء هنا؛ لأن البحث في الذكر في القرآن.
فبالرجوع إلى القرآن الكريم وآيات الذكر فيه -كما قلنا- لا نجد نصًا يدل عليها، وإنما الموجود الأمر بالذكر، والحث عليه، وطلب الإكثار منه، ومدح أهله، ولم توجد إشارة إلى الذكر الجماعي نفيًا أو إثباتًا، إلا ما كان من استدلال بعضهم-وهو استدلال ضعيف- بقوله تعالى: (ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ) [طه: ٢٩-٣٤].
فموسى عليه السلام طلب من الله أن يرسل معه أخاه هارون؛ وعلل ذلك بقوله: (ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ) فقيل: يستفاد من ذلك أن التسبيح والذكر الجماعي أكثر تأثيرًا ونفعًا من التسبيح والذكر الفردي، مثله كمثل الصلاة، فهي في الجماعة أفضل، ومثله مثل الصيام عندما يصوم الناس مجتمعين في شهر رمضان، يخفف على الصائم مشاق الصوم عندما يشعر أنه ليس صائمًا بمفرده، والتعاون -كما يقال- يهيج الرغبات، ويؤدي إلى تكاثر الخير وتزايده.
أما بالنظر إلى السنة النبوية فإنه قد وردت أحاديث كثيرة يفاد منها الذكر الجماعي والذكر الفردي، والاحتمالان قائمان من ذات الدليل، كحديث: (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا)، قالوا: وما رياض الجنة يا رسول الله؟! قال: (حلق الذكر)56.
وهذا يحتمل أن يكون التسبيح والذكر جماعيًا، كما يحتمل أن يكون فرديًا، ولا حجة لأي الفريقين على الآخر؛ كما يحتمل أن يكون المراد بحلق الذكر هنا سماع الوعظ والقرآن.
ومن الأدلة المحتملة قوله صلى الله عليه وسلم: (ما جلس قوم مجلسًا يذكرون الله فيه إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده)57.
وفي تعليق الصنعاني على الحديث يقول: «وهذا من فضائل مجالس الذكر، تحضرها الملائكة بعد التماسهم لها، والمراد بالذكر هو التسبيح والتحميد وتلاوة القرآن، ونحو ذلك»58.
وقال النووي في كتابه الأذكار: «اعلم أنه كما يستحب الذكر يستحب الجلوس في حلق أهله، وقد تظاهرت الأدلة على ذلك»59. إلا أن الصواب: أن المراد بحلق الذكر في هذه الأحاديث: تعلم العلم، وقراءة القرآن، لا الذكر الجماعي من تسبيح وتحميد وغيره.
لكن بالرجوع إلى سيرته وسنته الفعلية عليه الصلاة والسلام يجد الحق من طلبه وتحراه؛ إذ إننا نجد من هديه عليه الصلاة والسلام في الذكر أنه لم يثبت أنه دعا إلى الذكر الجماعي أو فعله مع أصحابه، وكذلك أصحابه من بعده، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ولو كان خيرًا لفعله صلى الله عليه وسلم، واتبعه صحابته رضي الله عنهم، فكيف يمكن الزعم بعد هذا أن الدعاء الجماعي خير، والرسول لم يعمل به على الرغم من استطاعته على ذلك، وقد سبق القول: إن الذكر من العبادات التي يجب أخذها عن النبي صلى الله عليه وسلم، أضف إلى ذلك أن الذكر الجماعي فيه مفاسد، منها:
وقد أنكر كثير من العلماء هذه البدعة، فممن أنكرها الإمام الشافعي61، وشيخ الإسلام ابن تيمية62، والشاطبي63، وابن الحاج64، وابن باز65، وابن العثيمين66 والفوزان67 وغيرهم من العلماء قديمًا وحديثًا.
قال الإمام الشاطبي في بيان البدع: «كالجهر والاجتماع في الذكر المشهور بين متصوفة الزمان، فإن بينه وبين الذكر المشروع بونًا بعيدًا؛ إذ هما كالمتضادين عادة»68.
وقال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله: «في الذكر الجماعي قاعدة هذه الهيئة التي يرد إليها حكمها هي: أن الذكر الجماعي بصوت واحدٍ سرًا أو جهرًا لترديد ذكر معين، وارد أو غير وارد، سواءً كان من الكل أو يتلقونه من أحدهم، مع رفع الأيدي أو بلا رفع لها؛ كل هذا وصف يحتاج إلى أصل شرعي يدل عليه من الكتاب والسنة؛ لأنه داخل في عبادة، والعبادات مبناها على التوقيف والاتباع، لا على الإحداث والاختراع؛ ولهذا نظرنا في الأدلة في الكتاب والسنة فلم نجد دليلًا يدل على هذه الهيئة المضافة، فتحقق أنه لا أصل له في الشرع المطهر، وما لا أصل له في الشرع فهو بدعة؛ إذًا فيكون الذكر والدعاء الجماعي بدعة يجب على كل مسلم مقتدٍ برسول الله صلى الله عليه وسلم تركها، والحذر منها، وأن يلتزم بالمشروع»69.
إلا أن ثمة فرقًا بين الجهر بالأذكار في أدبار الصلوات وبين الذكر الجماعي، فالأول يقول به عامة علمائنا المعاصرين، وله أصل في السنة، ولا ينبغي أن يكون رفعًا يشوش على المصلين المسبوقين في صلاتهم، والثاني -أي: الذكر الجماعي- مبتدع لا أصل له في السنة النبوية.
وقد جاء عن جمع من السلف من الصحابة فمن بعدهم الإنكار على الذين يجتمعون فيدعون بصوت واحد، أو يذكرون الله بتهليل أو تكبير أو تسبيح بصوت واحد، فعن أبي عثمان النهدي قال: «كتب عامل لعمر بن الخطاب إليه: إن ههنا قومًا يجتمعون فيدعون للمسلمين وللأمير، فكتب إليه عمر: أقبل بهم معك، فأقبل، وقال عمر للبواب: أعد سوطًا، فلما دخلوا على عمر علا أميرهم ضربًا»70.
وفي قصة أبي موسى أنه قال لعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما: «يا أبا عبد الرحمن: إني رأيت في المسجد آنفًا أمرًا أنكرته، ولم أر -والحمد لله- إلا خيرًا، قال: فما هو؟ فقال: إن عشت فستراه، قال: رأيت في المسجد قومًا حلقًا جلوسًا ينتظرون الصلاة في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول: كبروا مائة، فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة، فيهللون مائة، ويقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة، قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئًا انتظار رأيك أو انتظار أمرك، إلى أن قال ابن مسعود رضي الله عنه لما وقف عليهم: ويحكم يا أمة محمد! ما أسرع هلكتكم! هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده، إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد، أو مفتتحو باب ضلالة؟ قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه»71.
فهذا أبو موسى الأشعري وابن مسعود رضي الله عنهما أنكرا على أولئك النفر تلك الكيفية والهيئة الجماعية للذكر مع أن الذكر مستحب ومرغب فيه، ولكن ليس على الطرق المبتدعة المخترعة، وكيفيته وهيئته يجب أن تكون على الطريقة المتلقاة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه البررة رضي الله عنهم.
من صور الذكر:
ذكر الله تعالى في القرآن أنواعًا من الذكر، كالتسبيح والتحميد والتكبير وغيرها، وفيما يلي ذكر بعض صور الذكر الواردة في القرآن.
أولًا: الاستغفار:
من صور الذكر وأعظمها الاستغفار، والاستغفار وإن كان يتنزل منزلة الدعاء إلا أن الدعاء يتضمن الذكر.
والغفر والمغفرة: التغطية على الذنوب، والعفو عنها72.
والاستغفار: طلب ذلك من الله، فـ(استغفر) تزيد على (غفر) معنى الطلب.
وعرفه الراغب بقوله: «الاستغفار: طلب المغفرة بالمقال والفعال»73.
قال ابن تيمية: «الاستغفار هو طلب المغفرة، وهو من جنس الدعاء والسؤال، وهو مقرون بالتوبة في الغالب»74.
فقول العبد: «أستغفر الله» وإن كان لفظه خبرًا، إلا أن معناه دعاءٌ وطلب، كما في قوله: (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) [الفاتحة: ٥].
والمقصود أن القرآن الكريم قد ورد فيه آيات كثيرة، تحث على الاستغفار، وتأمر به، وتبين فضله، وفي ذلك دلالة واضحة على أهمية طلب العبد المغفرة من ربه ليستر عيوبه، ويعفو عن سيئاته، ويجنبه عقوبته؛ ولأهمية الاستغفار وفضله تجد أن دعوة جميع الأنبياء جاءت بالاستغفار، كما في قصة نوح وهود وصالح وشعيب ومحمد -عليهم الصلاة والسلام-، بل إن سيرة رسولنا محمد عابقة بكثرة استغفاره، وهو الذي قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
قال ابن رجب في تفسيره: «كثر في القرآن ذكر الاستغفار، فتارة يؤمر به، كقوله: (ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [البقرة: ١٩٩].
وقوله: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) [هود: ٩٠].
وتارة يمدح أهله، كقوله: (ﭡ ﭢ) [آل عمران: ١٧].
وقوله: (ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) [آل عمران: ١٣٥].
وتارة يذكر أن الله يغفر لمن استغفره، كقوله: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ) [النساء: ١١٠].
وكثيرًا ما يقرن الاستغفار بذكر التوبة، فيكون الاستغفار حينئذٍ عبارة عن طلب المغفرة باللسان، والتوبة عبارة عن الإقلاع عن الذنوب بالقلوب والجوارح، وتارة يفرد الاستغفار، ويرتب عليه المغفرة»75.
ونهى الله تعالى عن الاستغفار للمشركين، ولو كانوا أولي قربى، فقال تعالى: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [التوبة: ١١٣-١١٤].
وقال في حق المنافقين: (ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [المنافقون: ٦].
فالاستغفار لا ينفعهم شيئًا وذلك لفداحة ما هم عليه من الاعتقاد الفاسد المبطن، ولإيغالهم في الكفر وانهماكهم في الفسق والقبائح، فاستحقوا هذا الجزاء الخطير، قال تعالى: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [النساء: ١٤٥].
والقرآن أطلق الأمر بالاستغفار ولم يذكر صيغته، ولمعرفة ذلك يرجع إلى السنة، فكان عليه الصلاة والسلام ينوع في طلب المغفرة، ويعدد الذنوب بأنواعها.
والاستغفار على هذا لا يكون باللسان فقط، بل باللسان وبالفعال، فقد قيل: الاستغفار باللسان من دون فعال فعل الكذابين، والله سبحانه وتعالى لما أثنى على عباده بالاستغفار قيده بعدم الإصرار؛ قال تعالى: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) [آل عمران: ١٣٥].
المعنى: أخبر سبحانه وتعالى عن شأن عباده المؤمنين إذا صدرت منهم أعمالٌ سيئة من ظلم النفس، فذكروا حق الله سبحانه وتعالى وعظمته الموجبة لخشيته وخوفه، والحياء منه، وتذكروا كذلك وعده ووعيده، بادروا بطلب المغفرة منه عز وجل فإنه لا يغفر الذنوب أحدٌ سواه، ولم يصروا على قبيح فعلهم، وهم عالمون بقبحه، والنهي عنه، والوعيد عليه.
ويأتي الاستغفار في القرآن بمعنى التوبة (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ) [النساء: ١١٠].
وهنا قد يلتبس الأمر على كثيرٍ من الناس، فيظنون أن الاستغفار هو التوبة، والتوبة هي الاستغفار، وبتتبع النصوص يظهر أن بين التوبة والاستغفار عمومًا وخصوصًا من وجه، فإذا تفرقا اجتمعا، وإذا اجتمعا تفرقا، فعند الإطلاق يدخل كلٌ منهما في مسمى الآخر، وعند اقترانهما يكون الاستغفار طلب وقاية شر ما مضى، والتوبة: الرجوع وطلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله.
فهما مختلفان عند الرازي، فالتوبة عنده غير الاستغفار؛ إذ يقول: والاستغفار طلب المغفرة، وهو غير التوبة76. وقال العسكري: «والفرق بين الاستغفار والتوبة: أن الاستغفار طلب المغفرة بالدعاء، والتوبة الندم على الخطيئة مع العزم على ترك المعاودة»77.
واختار ابن عاشور وابن القيم وغيرهما أن الاستغفار في لسان الشارع بمعنى التوبة، حيث يقول ابن عاشور: «ولما كان طلب الصفح عن المؤاخذة بالذنب لا يصدر إلا عن ندامة ونية إقلاع عن الذنب، وعدم العودة إليه كان الاستغفار في لسان الشارع بمعنى التوبة؛ إذ كيف يطلب العفو عن الذنب من هو مستمر عليه، أو عازم على معاودته، ولو طلب ذلك في تلك الحالة لكان أكثر إساءة من الذنب؛ فلذلك عد الاستغفار هنا رتبة من مراتب التقوى، وليس الاستغفار مجرد قول (أستغفر الله) باللسان والقائل ملتبس بالذنوب، وعن رابعة العدوية أنها قالت: (استغفارنا يحتاج إلى الاستغفار) وفي كلامها مبالغة، فإن الاستغفار بالقول مأمور به في الدين؛ لأنه وسيلة لتذكر الذنب، والحيلة للإقلاع عنه»78.
ويأتي الاستغفار في القرآن مفردًا، كما في قوله: (ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [البقرة: ١٩٩].
وغيرها من المواضع، ومقرونًا بالتوبة كما في قوله: (ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ) [هود: ٥٢].
وغيره، قال ابن القيم: «وأما الاستغفار فهو نوعان: مفرد، ومقرون بالتوبة.
فالمفرد كقول نوح عليه السلام لقومه: (ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ) [نوح: ١٠].
وكقول صالح لقومه: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [النمل: ٤٦].
والمقرون كقوله تعالى: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [هود: ٣].
وقول هود لقومه: (ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ) [هود: ٥٢].
فالاستغفار المفرد كالتوبة، بل هو التوبة بعينها، مع تضمنه طلب المغفرة من الله، وهو محو الذنب، وإزالة أثره، ووقاية شره، لا كما ظنه بعض الناس أنها الستر، فإن الله يستر على من يغفر له ومن لا يغفر له، ولكن الستر لازم مسماها أو جزؤه، فدلالتها عليه إما بالتضمن وإما باللزوم، وحقيقتها: وقاية شر الذنب، ومنه المغفر لما يقي الرأس من الأذى، والستر لازم لهذا المعنى وإلا فالعمامة لا تسمى مغفرًا ولا القبع ونحوه مع ستره، فلا بد في لفظ المغفر من الوقاية، وهذا الاستغفار هو الذي يمنع العذاب في قوله: (ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [الأنفال: ٣٣].
فإن الله لا يعذب مستغفرًا، وأما من أصر على الذنب، وطلب من الله مغفرته، فهذا ليس باستغفار مطلق؛ ولهذا لا يمنع العذاب، فالاستغفار يتضمن التوبة، والتوبة تتضمن الاستغفار، وكل منهما يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق، وأما عند اقتران إحدى اللفظتين بالأخرى فالاستغفار طلب وقاية شر ما مضى، والتوبة الرجوع وطلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله، فها هنا ذنبان ذنب قد مضى، فالاستغفار منه طلب وقاية شره، وذنب يخاف وقوعه، فالتوبة العزم على أن لا يفعله، والرجوع إلى الله يتناول النوعين، رجوع إليه ليقيه شر ما مضى، ورجوع إليه ليقيه شر ما يستقبل من شر نفسه، وسيئات أعماله، وأيضًا فإن المذنب بمنزلة من ركب طريقًا تؤديه إلى هلاكه، ولا توصله إلى المقصود، فهو مأمور أن يوليها ظهره، ويرجع إلى الطريق التي فيها نجاته، والتي توصله إلى مقصوده، وفيها فلاحه، فها هنا أمران، لا بد منهما، مفارقة شيء، والرجوع إلى غيره، فخصت التوبة بالرجوع، والاستغفار بالمفارقة، وعند إفراد أحدهما يتناول الأمرين؛ ولهذا جاء -والله أعلم- الأمر بهما مرتبًا بقوله: (ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ) [هود: ٥٢].
فإنه الرجوع إلى طريق الحق بعد مفارقة الباطل، وأيضًا فالاستغفار من باب إزالة الضرر، والتوبة طلب جلب المنفعة، فالمغفرة أن يقيه شر الذنب، والتوبة أن يحصل له بعد هذه الوقاية ما يحبه، وكل منهما يستلزم الآخر عند إفراده»79.
والعبد دائمًا دائرٌ بين نعمة من الله سبحانه وتعالى يحتاج معها إلى شكر، وبين ذنبٍ منه يحتاج فيه إلى الاستغفار، وكل من هذين الأمرين من الأمور اللازمة للعبد؛ ولهذا فهو محتاج إلى الاستغفار آناء الليل وأطراف النهار؛ بل هو مضطر إليه دائمًا في الأقوال والأفعال، وسائر الأحوال؛ لما فيه من المصالح، وجلب الخيرات، ودفع المضرات.
ولما كان الاستغفار بهذه الأهمية قرنه الله عز وجل في كتابه الكريم بتوحيده، قال تعالى: (ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ) [محمد: ١٩].
قال ابن تيمية رحمه الله: «وقد ثبتت دائرة الاستغفار بين أهل التوحيد، واقترانها بشهادة أن لا إله إلا الله، من أولهم إلى آخرهم، ومن آخرهم إلى أولهم، ومن الأعلى إلى الأدنى، وشمول دائرة التوحيد الاستغفار للخلق كلهم، وهم فيها درجات عند الله، ولكل عامل مقام معلوم»80.
ثمرات الاستغفار:
ذكر الله في القرآن للاستغفار مننًا كبرى، وفضائل عظمى، من عظيم الجزاء، وواسع العطاء، ومن ذلك:
١. أن الاستغفار سبب المغفرة، ولو عظمت الذنوب، وبلغت من الكثرة عنان السماء.
قال تعالى: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ) [النساء: ١١٠].
قال السعدي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: «أي: من تجرأ على المعاصي، واقتحم على الإثم، ثم استغفر الله استغفارًا تامًا يستلزم الإقرار بالذنب، والندم عليه، والإقلاع، والعزم على ألا يعود، فهذا قد وعده من لا يخلف الميعاد بالمغفرة والرحمة، فيغفر له ما صدر منه من الذنب، ويزيل عنه ما ترتب عليه من النقص والعيب، ويعيد إليه ما تقدم من الأعمال الصالحة، ويوفقه فيما يستقبله من عمره، ولا يجعل ذنبه حائلًا عن توفيقه؛ لأنه قد غفره، وكذا سائر المعاصي الصغيرة والكبيرة»81.
٢. الاستغفار أمان من العذاب.
قال تعالى: (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [الأنفال: ٣٣].
فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: «إنه كان قبل أمانان، قوله: (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) قال: أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد مضى، وأما الاستغفار فهو دائر فيكم إلى يوم القيامة»82.
فكان المطلوب من ذكر هذا الكلام استدعاء الاستغفار منهم، أي: لو اشتغلوا بالاستغفار لما عذبهم الله83.
٣. الاستغفار سبب للخيرات والبركات.
قال تعالى: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ) [نوح: ١٠-١٢].
ففي الآية دليل على أن الاستغفار والتوبة سبب لنزول الأمطار والحصول على الأموال والبنين والجنات والأنهار وسائر الخيرات.
٤. الاستغفار سبب الحصول على القوة بمعناها الشامل.
قال تعالى: (ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ) [هود: ٥٢].
ففسروا هذه القوة بالمال والولد، والشدة في الأعضاء؛ لأن كل ذلكم ما يتقوى به الإنسان84.
قال النسفي: «وقيل: أراد القوة بالمال أو على النكاح»85.
وفي قوله: (ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ) ظاهره العموم في جميع ما يحسن الله تعالى فيه إلى العباد86.
٥. الاستغفار سبب في الحصول على المتاع الحسن والسعادة.
قال تعالى: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [هود: ٣].
وهذا يدل على أن المقبل على عبادة الله، والمشتغل بها يبقى في الدنيا منتظم الحال، مرفه البال.
والمتاع الحسن في الدنيا بطيب النفس، وسعة الرزق، أو بالرضا بالميسور، والصبر على المقدور، أو بترك الخلق والإقبال على الحق، قاله سهل رضي الله عنه: «(ﯖ ﯗ) الموت، أو القيامة، أو وقت لا يعلمه إلا الله تعالى، (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) يهديه إلى العمل الصالح، أو يجزيه به في الآخرة»87.
قال شيخ الإسلام مبينًا حاجة العبد إلى الاستغفار: «الاستغفار يخرج العبد من الفعل المكروه إلى الفعل المحبوب، ومن العمل الناقص إلى العمل التام، ويرفع العبد من المقام الأدنى إلى الأعلى منه والأكمل، فهو يحتاج إلى الاستغفار آناء الليل وأطراف النهار، بل هو مضطرٌ إليه دائمًا في الأقوال والأحوال، في الغوائب والمشاهد؛ لما فيه من المصالح، وجلب الخيرات، ودفع المضرات، وطلب الزيادة في القوة في الأعمال القلبية والبدنية اليقينية الإيمانية»88.
وقال: «التوبة من أعظم الحسنات، والحسنات كلها مشروط فيها الإخلاص لله، وموافقة أمره باتباع رسوله، والاستغفار من أكبر الحسنات، وبابه واسع، فمن أحس بتقصير في قوله أو عمله أو حاله أو رزقه، أو تقلب قلب؛ فعليه بالتوحيد والاستغفار؛ ففيهما الشفاء إذا كانا بصدقٍ وإخلاص، وكذلك إذا وجد العبد تقصيرًا في حقوق القرابة والأهل والأولاد والجيران والإخوان؛ فعليه بالدعاء لهم والاستغفار»89.
أوقات الاستغفار:
الاستغفار مشروع ومستحب في كل وقت، إلا أن القرآن قد ذكر بعض الأوقات يتأكد فيها، ويكون له فيها مزية عن غيرها، ومن هذه الأوقات:
١. عند الوقوع في الذنب.
قال تعالى: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) [النساء: ٦٤].
فأخبر الله تعالى عن كرمه العظيم وجوده، ودعوته لمن اقترفوا السيئات أن يعترفوا ويتوبوا ويستغفروا الله، فقال: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) أي: معترفين بذنوبهم، باخعين بها (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) أي: لتاب عليهم بمغفرته ظلمهم، ورحمهم بقبول التوبة، والتوفيق لها، والثواب عليها، وهذا المجيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مختص بحياته؛ لأن السياق يدل على ذلك؛ لكون الاستغفار من الرسول لا يكون إلا في حياته، وأما بعد موته فإنه لا يطلب منه شيء بل ذلك شرك90.
٢. بعد الأعمال الصالحة.
قال تعالى: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [البقرة: ١٩٩].
قال ابن رجب في تفسيره: «والاستغفار: هو خاتمة الأعمال الصالحة، فلهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعله خاتمة عمره، كما يشرع لمصلي المكتوبة أن يستغفر عقبها ثلاثًا، وكما يشرع للمتهجد من الليل أن يستغفر بالأسحار، قال تعالى: (ﮓ ﮔ ﮕ) [الذاريات: ١٨].
وقال: (ﭡ ﭢ) [آل عمران: ١٧].
وكما يشرع الاستغفار عقيب الحج، قال تعالى: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [البقرة: ١٩٩].
وسبب هذا أن العباد مقصرون عن القيام بحقوق الله كما ينبغي، وأدائها على الوجه اللائق بجلاله وعظمته، وإنما يؤدونها على قدر ما يطيقونه، فالعارف يعرف أن قدر الحق أعلى وأجل من ذلك، فهو يستحي من عمله، ويستغفر من تقصير فيه، كما يستغفر غيره من ذنوبه وغفلاته، وكلما كان الشخص بالله أعرف، كان له أخوف، وبرؤية تقصيره أبصر»91.
٣. وقت السحر.
قال تعالى: (ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [آل عمران: ١٧].
وقال: (ﮓ ﮔ ﮕ) [الذاريات: ١٨].
والمستغفرون هنا هم المصلون، وقيل: هم المستغفرون92. فوقت السحر له فضيلة، وهو الوقت الذي أخر يعقوب إليه الاستغفار، قال: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ) [يوسف: ٩٨].
قال أكثر المفسرين: أخره من الليل إلى السحر؛ وذلك أن الدعاء بالأسحار لا يحجب عن الله93.
وخص تعالى السحر لما فسر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟)94.
قال الرازي: «واعلم أن الاستغفار بالسحر له مزيد أثر في قوة الإيمان، وفي كمال العبودية، من وجوه، الأول: أن وقت السحر يطلع فيه نور الصبح بعد أن كانت الظلمة شاملة للكل، وبسبب طلوع نور الصبح كأن الأموات يصيرون أحياء، فهناك وقت الجود العام، والفيض التام، فلا يبعد أن يكون عند طلوع صبح العالم الكبير يطلع صبح العالم الصغير، وهو ظهور نور جلال الصغير، وهو ظهور نور جلال الله تعالى في القلب، والثاني: أن وقت السحر أطيب أوقات النوم، فإذا أعرض العبد عن تلك اللذة، وأقبل على العبودية، كانت الطاعة أكمل»95.
والحاصل: أن الله يسر أمر الاستغفار للعباد، فبمقدور كل عبدٍ الإتيان به في جميع أحواله وأوقاته: في ليله ونهاره، وفي خلوته وجلوته، وفي صحته ومرضه، وفي ظعنه وإقامته، وفي قيامه وقعوده، وهو طاهر ومحدث، لا عذر للمرء في التكاسل عنه بوجهٍ من الوجوه.
ثانيًا: التسبيح:
ومن صور الذكر العظيمة الواردة في القرآن: (التسبيح)، وهو قول: سبحان الله، ومعناه: تنزيه الله تعالى عن كل نقص أو عيب، وتعظيمه وتمجيده، وإكبار قدرته المطلقة التي لا يحدها حد، ولا يحصيها عد، قال السمعاني: «سبحان: تنزيه الله من كل سوء، وحقيقته تعظيم الله بوصف المبالغة، ووصفه بالبراءة من كل نقص»96. ومنه قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ) [الإسراء: ١].
فسبحان: اسم مصدر، ولم يذكر هنا فاعل التسبيح من هو؟ ولا المكان الذي يسبح فيه؛ لأن من طبيعة المصدر في اللغة أنه حدث قائم بذاته مجرد من مسبباته، فلم يقدر هذا المصدر بفاعل ولا بزمن؛ وذلك بغرض الإطلاق والاستغراق في التنزه دون انقطاع، فهو تعالى وحده أهل التسبيح ومستحقه، سواء كان هنالك من يسبحه أو لم يكن، غير مقيد بفعل ولا فاعل ولا زمن.
وسبوحٌ: من صفات الله، قال ثعلب: «كل اسم على (فعول) فهو مفتوح الأول، إلا السبوح والقدوس فإن الضم فيهما أكثر، وكذلك الذروح»97.
والمفسرون كذلك ذكروا أن التسبيح هو التنزيه98، ولكنه ليس مجرد تنزيه أو نفي محض، بل فيه إثبات الكمال، فهو تنزيه يتضمن التعظيم، ودليل تضمنه التعظيم قول النبي عليه الصلاة والسلام: (فأما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل )99. والوارد في الركوع تسبيح. قال شيخ الإسلام: «والأمر بتسبيحه يقتضي أيضًا تنزيهه عن كل عيب وسوء، وإثبات صفات الكمال له؛ فإن التسبيح يقتضي التنزيه والتعظيم، والتعظيم يستلزم إثبات المحامد التي يحمد عليها، فيقتضي ذلك تنزيهه وتحميده وتكبيره وتوحيده»100.
وقال ابن القيم: «والتسبيح ثناء عليه سبحانه يتضمن التعظيم والتنزيه»101.
وكلمة (سبحان) خاصة بالله، قال السمعاني: «وكلمة سبحان كلمة ممتنعة، لا يحوز أن يوصف بها غير الله؛ لأن المبالغة في التعظيم لا تليق لغير الله»102.
وقال ابن عاشور: «وهو من الأسماء التي لا تضاف لغير اسم الله تعالى »103.
وقد جاء عن علي وابن عباس رضي الله عنهم أن (سبحان الله) كلمة رضيها الله تعالى لنفسه104.
وقال الحسن البصري رحمه الله: «سبحان الله: اسم لا يستطيع الناس أن ينتحلوه»105.
فلا يسبح غير الله تعالى؛ لأنه قد صار مستعملًا في أعلى مراتب التعظيم التي لا يستحقها سواه106.
وقال الماوردي رحمه الله: «ولا يجوز أن يسبح غير الله وإن كان منزهًا؛ لأنه صار علمًا في الدين على أعلى مراتب التعظيم التي لا يستحقها إلا الله تعالى »107.
وقد ورد لفظ (التسبيح) ومشتقاته في القرآن الكريم في مواضع كثيرة، وبصيغ مختلفة، فورد بصيغة الفعل الماضي (سبح، سبحوا)، وفي صيغة الفعل المضارع (يسبح، نسبح، تسبح) مفردة ومجموعة، وفي صيغة الفعل الأمر (سبح، سبحوا، سبحه، سبحوه)، وفي صيغة اسم الفاعل (مسبحون، مسبحين)، وفي صيغة مصدر (تسبيحه، تسبيحهم)، وفي صيغة مصدر علم على التسبيح (سبحان، سبحانك، سبحانه).
والفعل (سبح) قد يتعدى بنفسه بدون اللام؛ كقوله تعالى: (ﰂ ﰃ ﰄ) [الأحزاب: ٤٢].
وقد يتعدى باللام كقوله: (ﮊ ﮋ) [الحشر: ١].
وعلى هذا فسبحه وسبح له لغتان، كنصحه ونصح له، وشكره وشكر له108.
ومن تصاريف التسبيح: فعل الماضي (سبح)، وفعل المضارع (يسبح)، قال بعض أهل العلم: إنما عبر بالماضي تارة وبالمضارع أخرى؛ ليبين أن ذلك التسبيح لله هو شأن أهل السماوات وأهل الأرض، ودأبهم في الماضي والمستقبل109.
وافتتحت بالتسبيح سبع سور، سميت (المسبحات)، وهي: (الإسراء والحديد والحشر والصف والجمعة والتغابن والأعلى)، وقد ذكر ابن عاشور الحكمة من افتتاح بعض السور بالتسبيح، فقال: «الافتتاح بكلمة التسبيح من دون سبق كلام متضمن ما يجب تنزيه الله عنه يؤذن بأن خبرًا عجيبًا، يستقبله السامعون، دالًا على عظيم القدرة من المتكلم، ورفيع منزلة المتحدث عنه»110.
وختمت به سور (الحجر والطور والواقعة والحاقة).
ومن أكثر السور التي ذكر فيها ألفاظ التسبيح بمختلف الصيغ: سورة الإسراء، وهي تسمى سورة سبحان111، حيث ذكر فيها التسبيح (٧) مرات، ولم يذكر بهذا الكم في سورة غيرها، فلا سورة في القرآن تماثلها في التسبيح؛ لما اشتملت على واقعة الإسراء التي كذب بها المشركون جاء لفظ (سبحان) تنزيهًا لله تعالى، وتعظيمًا لقدرته، وتصديقًا للرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك اختتمت بالحمد والتكبير، ولعل في هذا إشارة إلى نقله صلى الله عليه وسلم حين عرج به إلى عالم التسبيح في السماء، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدًا لله تعالى )112.
بل يخبر الله تعالى ذكره عن قول ملائكته الذين ملئوا السماء: (ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ) [الصافات: ١٦٤]، أي: مكان معلوم في السماء خاص بكل ملك للعبادة والتسبيح (ﮐ ﮑ ﮒ) [الصافات: ١٦٥].
فأمرهم ليس فوضى؛ بل هو منتظم محكم (ﮔ ﮕ ﮖ) [الصافات: ١٦٦].
فهم لا يتركون التسبيح أبدًا، ما دامت السماوات والأرض، حتى ارتبطت بهم صفة التسبيح واسم التسبيح، فهم المسبحون (ﮔ ﮕ ﮖ) بل إنهم لا يفترون عن التسبيح، حتى مجرد فتور! ولا يتعبون من دوام تسبيح الله تعالى، ولا ينخفض مستوى تسبيحهم ولو للحظة واحدة، كما في قوله تعالى: (ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) [الأنبياء: ٢٠].
فقال: يسبحون الليل والنهار، فعرف بـ(ال) ولم يقل: يسبحون ليلًا ونهارًا؛ لأن المعنى يكون حينها جزءًا من الليل وجزءًا من النهار؛ بل قال: (ﮰ ﮱ ﯓ) أي: يسبحون الليل كله والنهار كله، لا يتركون التسبيح ولا للحظة واحدة من لحظات الليل والنهار، ولا يفترون، ولا حتى في جزء منهما.
إنه هديرٌ من التسبيح لا ينخفض، ولا ينقطع زجله إلا ما شاء الله، ولقد ورد التسبيح في سورة الإسراء سبع مرات، فكأنها سبع مرات لسبع سماوات، فكل سماء يملؤها التسبيح، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (وسبحان الله، والحمد لله، تملآن -أو تملأ- ما بين السماوات والأرض)113.
ونجد بعض السور ذكر فيها التسبيح في أولها وآخرها، وهي سورة (الحشر) بدأت بقوله تعالى: (ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [الحشر: ١].
وانتهت بقوله تعالى: (ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ) [الحشر: ٢٤].
والأمر بالتسبيح في القرآن يحمل على الندب إلا في التسبيح في الصلاة فهو أمر وجوب على الصحيح؛ كما دل عليه حديث عقبة بن عامرٍ رضي الله عنه قال: لما نزلت: (ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ) [الواقعة: ٧٤]. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اجعلوها في ركوعكم)، فلما نزلت: (ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ) [الأعلى: ١]. قال: (اجعلوها في سجودكم)114.
والتسبيح منه مطلق، ومنه مقيد بأدبار الصلوات، أو بالصباح والمساء، وسيأتي مزيد كلام عن هذا في أوقات الذكر.
والتسبيح يطلق في القرآن الكريم ويراد به ستة أشياء:
الأول: يطلق على التنزيه مع التعظيم، وهو أكثر ما ورد في القرآن، وهو المراد عند الإطلاق، ومنه قول الله تعالى: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) [الصافات: ١٥٩].
الثاني: يطلق على الصلاة، قال الله تعالى: (ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [طه: ١٣٠].
الثالث: يطلق على الدعاء، ومنه قول الله تعالى: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) [يونس: ١٠].
الرابع: يطلق على عموم الذكر، ومنه قول الملائكة عليهم السلام: (ﭣ ﭤ ﭥ) [البقرة: ٣٠].
قال الطبري: «يعني: إنا نعظمك بالحمد لك والشكر، وكل ذكر لله عند العرب فتسبيح وصلاة، يقول الرجل منهم: قضيت سبحتي من الذكر والصلاة، وقد قيل: إن التسبيح صلاة الملائكة»115.
وقال شيخ الإسلام: «ويراد بالتسبيح جنس ذكر الله تعالى، يقال: فلان يسبح إذا كان يذكر الله، ويدخل في ذلك التهليل والتحميد، ومنه سميت السباحة للإصبع التي يشير بها، وإن كان يشير بها في التوحيد»116.
الخامس: يطلق على عموم العبادة، ومنه قول الله تعالى: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [الصافات: ١٤٣].
عن وهب بن منبه: قال: «من العابدين»117.
السادس: يطلق على الاستثناء، ومنه قول الله تعالى: (ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) [القلم: ١٧-١٨]. والمراد به قول: إن شاء الله، لكن دلت الآيات على أنهم كانوا يسبحون مكانها (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ) [القلم: ٢٨].
قال السدي: «كان استثناؤهم في ذلك الزمان التسبيح»118. فيقولون: سبحان الله، بدل: إن شاء الله، فقوله: (ﮘ ﮙ) أي: تستثنون.
وجاء التسبيح في القرآن مفردًا ومقترنًا بالحمد، متقدمًا عليه، ومنه: (ﭣ ﭤ ﭥ) [البقرة: ٣٠]. (ﭻ ﭼ ﭽ) [الحجر: ٩٨].
فالتسبيح يتضمن نفي النقائص والعيوب، والتحميد يتضمن إثبات صفات الكمال التي يحمد عليها119.
قال ابن كثير: «ولما كان التسبيح يتضمن التنزيه والتبرئة من النقص بدلالة المطابقة ويستلزم إثبات الكمال، كما أن الحمد يدل على إثبات صفات الكمال مطابقة، ويستلزم التنزيه من النقص قرن بينهما في هذا الموضع، وفي مواضع كثيرة من القرآن»120.
ويأتي التسبيح مقترنًا بالتهليل، كقوله تعالى: (ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [التوبة: ٣١].
وقوله: (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [الأنبياء: ٨٧].
ومقترنًا بالاستغفار، كقوله: (ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ) [غافر: ٧].
وقوله: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) [غافر: ٥٥].
وذكر الله في القرآن تسبيح الجبال والطير (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ) [الأنبياء: ٧٩].
وتسبيح الرعد (ﯲ ﯳ ﯴ) [الرعد: ١٣].
وتسبيح كل الموجودات (ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [الحشر: ١]. (ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ) [الإسراء: ٤٤].
وهذه الآية تدل على أنه تسبيح حقيقي على كيفية لا يعرفها البشر، فلا يفقهون تسبيح هذه المخلوقات، وقد أخطأ من تأول تسبيحها لمعنى غير التسبيح المعهود في اللغة.
وتسبيح أهل الجنة، فقد أخبر الله تعالى عنهم بقوله: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) [يونس: ١٠].
إلا أنه مما يجب التنبيه عليه أن التسبيح اعتقاد وقول وعمل، ودليل ذلك أن الصلاة تسمى تسبيحًا، وهي تشمل اعتقاد القلب وعمله، وقول اللسان، وعمل الجوارح، كما جاء عن عائشة رضي الله عنها: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سبح سبحة الضحى، وإني لأسبحها)121.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «تسبيح الله تعالى قد يكون بالقلب -بالعقيدة-، وقد يكون باللسان، وقد يكون بهما جميعًا، والمقصود أن يسبح بهما جميعًا بقلبه لافظًا بلسانه»122.
وقال ابن عاشور: «والتسبيح قول أو مجموع قول مع عمل يدل على تعظيم الله تعالى وتنزيهه؛ ولذلك سمي ذكر الله تسبيحًا، والصلاة سبحة، ويطلق التسبيح على قول سبحان الله؛ لأن ذلك القول من التنزيه»123.
فهنيئًا لمن أكثر من التسبيح في الدنيا، ووجد لذة فيه، وفرحًا به، فإنه حري أن يتلذذ بالتسبيح في الجنة، كما تلذذ به في الدنيا، وقد جاء في الأحاديث الصحيحة أن أهل الجنة يلهمون التسبيح، وأنهم يسبحون الله تعالى بكرة وعشيًا.
يقول ابن تيمية: «أهل الجنة يتنعمون بالنظر إلى الله، ويتنعمون بذكره وتسبيحه، وإن كانت هذه الأمور في الدنيا أعمالًا يترتب عليها الثواب، فهي في الآخرة أعمال يتنعم بها صاحبها أعظم من أكله وشربه ونكاحه»124.
فما هم فيه من النعيم هو غايات الراغبين، بحيث إن أرادوا أن ينعموا بمقام دعاء ربهم الذي هو مقام القرب لم يجدوا أنفسهم مشتاقين لشيء يسألونه، فاعتاضوا عن السؤال بالثناء على ربهم، فألهموا إلى التزام التسبيح؛ لأنه أدل لفظ على التمجيد والتنزيه، فهو جامع للعبارة عن الكمالات125.
ثالثًا: التحميد:
ومن صور الذكر الواردة في القرآن: التحميد، وهو قول: الحمد لله.
والتحميد: حمدك الله عز وجل مرةً بعد مرة، فهو كثرة حمد الله سبحانه بالمحامد الحسنة، وهو أبلغ من الحمد، والحمد أعم من الشكر126؛ لأن الشكر: هو الثناء على المحسن بما أولاه من معروف، والحمد أعم من حيث ما يقع عليه، فإن الله تعالى ينبغي أن يحمد على كل حال، سواءً أعطي العبد النعمة أو لم يعط.
وأما المدح فهو أعم من الحمد؛ لأنه يكون للحي والميت وللجماد أيضًا، كما يمدح الطعام والمكان ونحو ذلك، ويكون من قبل الإحسان وبعده، وعلى الصفات المتعدية واللازمة أيضًا فهو أعم127.
ومعناه في الاصطلاح: الثناء باللسان والقلب على الجميل الاختياري128.
والجميل الاختياري: هو الثناء على المنعم بسبب كونه منعمًا على الحامد أو غيره، فحقيقة الحمد الثناء على المحمود بذكر نعوته الجليلة، وأفعاله الجميلة، وهو الثناء لله بصفات الكمال مع المحبة والتعظيم.
قال ابن عاشور: «فالحمد لله يشمل سائر صفات الكمال التي استحق الله لأجلها حصر الحمد له تعالى، بناء على ما تدل عليه جملة (الحمد لله) من اختصاص جنس الحمد به تعالى، واستحقاقه لذلك الاختصاص»129.
وقد ورد الحمد في القرآن الكريم في أكثر من (٤٠) موضعًا، والتحميد: مفتتح القرآن، فقد افتتح الله كتابه الكريم بـ(الحمد لله) وافتتح بعض السور فيه بالحمد، مثل سور (الأنعام والكهف وسبأ وفاطر)، قال السيوطي: «اعلم أن الله افتتح سور القرآن بعشرة أنواع من الكلام، لا يخرج شيء من السور عنها:
الأول: الثناء عليه تعالى، والثناء قسمان: إثبات لصفات المدح، ونفي وتنزيه من صفات النقص، فالأول: (التحميد) في خمس سور»130. ثم ذكر بقية الأوجه.
وافتتح الله تعالى خلقه بالحمد، فقال: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ) [الأنعام: ١].
واختتمه بالحمد، فقال بعد ما ذكر مآل أهل الجنة وأهل النار: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [الزمر: ٧٥].
والحمد له سبحانه في الأولى والآخرة، في جميع ما خلق وما هو خالق، كما قال سبحانه: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ) [القصص: ٧٠].
وأمر الله بالحمد في كتابه، فقال: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) [النمل: ٩٣].
وأثنى على عباده الحامدين، فقال: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋﮌ ﮍ ﮎ) [السجدة: ١٥].
وقال: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) [الفرقان: ٥٨].
وأول حمد جاء في القرآن وأعظمه أن حمد نفسه بنفسه بقوله: (ﭖ ﭗ) [الفاتحة: ٢].
في أعظم سورة في القرآن، وهي سورة الفاتحة، حيث ابتدأت بهذه الجملة العظيمة (ﭖ ﭗ). قال عليه الصلاة والسلام: (إذا قال العبد: (ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ) قال الله: حمدني عبدي)131.
والألف واللام في (الحمد) تفيد الجنس، فجنس الحمد وكل الحمد إنما هو لله وحده؛ لأنه رب العالمين الذي له كل المحامد، محمود على صفاته، ومحمود على أفعاله.
وكأنه لما علم سبحانه وتعالى شدة إرادة أوليائه بحمده وثنائه، وعجزهم عن القيام بحق مدحه على مقتضى عزه وسنائه، أخبرهم أنه قد حمد نفسه بنفسه، بما افتتح به خطابه بقوله: (ﭖ ﭗ)، وتتفاوت طبقات الحامدين؛ لتباينهم في أحوالهم، فطائفة حمدوه على ما نالوا من إنعامه وإكرامه من نوعي صفة نفعه ودفعه، وإزاحته وإتاحته، وما عقلوا عنه من إحسانه بهم أكثره ما عرفوا من أفضاله معهم، قال جل ذكره: (ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [النحل: ١٨].
وطائفة حمدوه على ما لاح لقلوبهم من عجائب لطائفه، وأودع سرائرهم من مكنونات بره، وفرق بين من يمدحه بعز جلاله، وبين من يشكره على وجود أفضاله132.
وإذا اجتمع التسبيح والحمد في القرآن يتقدم التسبيح؛ قال تعالى: (ﭿ ﮀ ﮁ) [النصر: ٣].
والسبب أن التسبيح يدل على كونه مبرأ في ذاته وصفاته عن النقائص، والتحميد يدل على كونه محسنًا إلى العباد، ولا يكون محسنًا إليهم إلا إذا كان عالمًا بجميع المعلومات ليعلم مواقع الحاجات، وإلا إذا كان قادرًا على المقدورات؛ ليقدر على تحصيل ما يحتاجون إليه، وإلا إذا كان غنيًا في نفسه وإلا شغله حاجة نفسه عن حاجة غيره، فثبت أن كونه محسنًا لا يتم إلا بعد كونه منزهًا عن النقائص والآفات133.
قال الرازي: «إن التسبيح أينما جاء فإنما جاء مقدمًا على التحميد، ألا ترى أنه يقال: سبحان الله والحمد لله، إذا عرفت هذا فنقول: إنه جل جلاله ذكر التسبيح عند ما أخبر أنه أسرى بمحمد صلى الله عليه وسلم، فقال: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ) [الإسراء: ١].
وذكر التحميد عند ما ذكر أنه أنزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم فقال: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) [الكهف: ١].
وفيه فوائد:
الفائدة الأولى: أن التسبيح أول الأمر؛ لأنه عبارة عن تنزيه الله عما لا ينبغي، وهو إشارة إلى كونه كاملًا في ذاته، والتحميد عبارة عن كونه مكملًا لغيره، ولا شك أن أول الأمر هو كونه كاملًا في ذاته، ونهاية الأمر كونه مكملًا لغيره، فلا جرم وقع الابتداء في الذكر بقولنا: (سبحان الله) ثم ذكر بعده الحمد لله تنبيهًا على أن مقام التسبيح مبدأ، ومقام التحميد نهاية.
إذا عرفت هذا فنقول: ذكر عند الإسراء لفظ التسبيح، وعند إنزال الكتاب لفظ التحميد، وهذا تنبيه على أن الإسراء به أول درجات كماله، وإنزال الكتاب غاية درجات كماله، والأمر في الحقيقة كذلك؛ لأن الإسراء به إلى المعراج يقتضي حصول الكمال له، وإنزال الكتاب عليه يقتضي كونه مكملًا للأرواح البشرية، وناقلًا لها من حضيض البهيمية إلى أعلى درجات الملكية، ولا شك أن هذا الثاني أكمل، وهذا تنبيه على أن أعلى مقامات العباد مقامًا أن يصير العبد عالمًا في ذاته، معلمًا لغيره»134.
والحاصل: أن جميع المحامد لله سبحانه إما وصفًا وإما خلقًا، فله الحمد لظهور سلطانه، وله الشكر؛ لوفور إحسانه، والحمد لله؛ لاستحقاقه لجلاله وجماله، والشكر لله؛ لجزيل نواله، وعزيز أفضاله، فحمده سبحانه له هو من صفات كماله وحوله، وحمد الخلق له على إنعامه وطوله وجلاله وجماله، واستحقاقه لصفات العلو، ونعوت العز والسمو، فله الوجود، وله الجود، وله الثبوت الأحدي، والكون الصمدي، والبقاء الأزلي، والبهاء الأبدي، والثناء الديمومي، وله السمع والبصر، والقضاء والقدر، والكلام والقول، والعزة والطول، والرحمة والجود، والعين والوجه والجمال، والقدرة والجلال، وهو الواحد المتعال، كبرياؤه رداؤه، وعلاؤه سناؤه، ومجده عزه، وكونه ذاته، وأزله أبده، وقدمه سرمده، وحقه يقينه، وثبوته عينه، ودوامه بقاؤه، وقدره قضاؤه، وجلاله جماله، ونهيه أمره، وغضبه رحمته، وإرادته مشيئته، وهو الملك بجبروته، والأحد في ملكوته، تبارك الله سبحانه! فسبحانه ما أعظم شأنه!135.
فالحمد لله كلمة جليلة؛ لكنها يجب أن تذكر في موضعها ليحصل المقصود، قال السري: «منذ ثلاثين سنة أستغفر الله لقولي مرة واحدة الحمد لله؛ وذلك أنه وقع الحريق في بغداد، وأحرقت دكاكين الناس، فأخبرني واحد أن دكاني لم يحترق فقلت: الحمد لله، وكان من حق الدين والمروءة أن لا أفرح بذلك، فأنا في الاستغفار منذ ثلاثين سنة».
والحمد على نعم الدين أفضل من الحمد على نعم الدنيا، والحمد على أعمال القلوب أولى من الحمد على أعمال الجوارح، والحمد على النعم من حيث إنها عطية المنعم أولى من الحمد عليها من حيث هي نعم، فهذه مقامات يجب اعتبارها حتى يقع الحمد في موضعه اللائق به136.
والمقصود: أن من صور الذكر العظيمة حمد الله تعالى، وقد جعل أجرها أنها تملأ الميزان، فهذه الكلمة العظيمة في ثوابها وثقلها تملأ الميزان، قال صلى الله عليه وسلم: (والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن -أو تملأ- ما بين السماوات والأرض)137.
فالحمد لله عدد ما خلق، والحمد لله ملء ما خلق، والحمد لله عدد ما في الأرض والسماء، والحمد لله ملء ما في الأرض والسماء، والحمد لله عدد ما أحصى كتابه، والحمد لله ملء ما أحصى كتابه، والحمد لله عدد كل شيءٍ، والحمد لله ملء كل شيءٍ.
رابعًا: التهليل:
ومن صور الذكر الذي جاء في القرآن: التهليل، وهو: قول: لا إله إلا الله، يقال: قد أكثرت من الهيللة، أي: من قول: لا إله إلا الله138.
قال الأزهري: «ولا أراه مأخوذًا إلا من رفع قائله به صوته»139.
ومعنى هذا القول: نفي الألوهية عن كل شيءٍ، وإثبات استحقاقها لله تعالى وحده، فلا رب غيره، ولا يعبد سواه، وتسمى هذه الكلمة كلمة التوحيد، فإنها تدل على نفي الشريك على الإطلاق.
وهي الكلمة التي دعا إليها الرسل كلهم، وإثبات التوحيد بهذه الكلمة باعتبار النفي والإثبات المقتضي للحصر، فإن الإثبات المجرد قد يتطرق إليه الاحتمال؛ ولهذا -والله أعلم- لما قال تعالى: (ﯽ ﯾ ﯿ) [البقرة: ١٦٣].
قال بعده: (ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ) [البقرة: ١٦٣].
فإنه قد يخطر ببال أحدٍ خاطر شيطاني: هب أن إلهنا واحد فلغيرنا إله غيره، فقال تعالى: (ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ).
وتسمى أيضًا كلمة الإخلاص، وهي خلاصة دعوة الرسل، كما قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [الأنبياء: ٢٥].
ولا يصح الإيمان للقادر إلا بالنطق بها مع التصديق بمعناها بالجنان.
وقد ذكر التهليل في القرآن الكريم (٣٧) مرة، قال العلامة الشيخ عبد الرحمن بن قاسم الحنبلي في حاشية الروض المربع شرح زاد المستقنع: «وجاءت كلمة (لا إله إلا الله) في سبعة وثلاثين موضعًا من القرآن»140.
وبالرجوع لبرنامج القرآن الحاسوبي كانت نتيجة البحث أنها جاءت بلفظ: (ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ) مرتين في الصافات ومحمد، ومرة واحدة بلفظ: (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) في الأنبياء، و(ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ) (٢٦) مرة، ومرة واحدة بلفظ: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ) في المائدة، وبلفظ: (ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) مرة واحدة في يونس، وبلفظ: (ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ) ثلاث مرات في النحل وطه والأنبياء، فيكون المجموع (٣٤) مرة فقط.
وأيهما أرفع وأعظم من هذه الجمل: (ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ) أو (ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ)؟ قيل: الأول أرفع درجة من لفظ: (ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ)؛ لأن الضمائر وضعت للذات البحت، ففي كلمة (ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ) ينتقل الذهن أولًا إلى الذات بلا ملاحظة اسم من الأسماء، وصفة من الصفات، وشأن من الشئونات، وكلمة (ﰏ) وإن كان اسمًا للذات، لكن الذهن هناك ينتقل أولًا إلى الاسم، وثانيًا إلى المسمى، وقد ينتقل الذهن من حيث الاشتقاق إلى معنى الألوهية، فيكون من أسماء الصفات غير أن صفة الألوهية يستدعي الاتصاف بجميع صفات الكمال، والتنزه عن جميع شوائب النقص والزوال، فيكون أتم وأشمل من سائر أسماء الصفات141.
وكلمة (ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ) هي كلمة (السواء) التي دعا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب وأهل الملل الأخرى، فهي باب الهداية على صراط الله المستقيم، وأمر الله الجامع (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) [آل عمران: ٦٤]142.
ووصفها بالطيبة، وضرب الله بها مثلًا: (ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [إبراهيم: ٢٤]143. ووصفها كذلك بالوصف الخالد السرمدي كونها تخرق السبع الطباق، وتخرق الحجب (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ) [فاطر: ١٠].
قال المفسرون: إن الطيب من القول والكلم هو لا إله إلا الله، والطيب المطلق هو معرفة لا إله إلا الله144.
غير أنه ليس المقصود من دعوة الرسل مجرد التلفظ بالكلمة فحسب، بل لا بد من توفر شروطها حتى تكون نافعة عند الله، وإلا لم تنفع، فهذا عدو الله فرعون لما جاءته المحنة وهي الغرق فزع إلى هذا الذكر، إلى كلمة التوحيد، قال: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) [يونس: ٩٠]، فلم تنفعه.
أما يونس عليه السلام حينما ابتلعه بطن الحوت، ودخل في ظلمات ثلاث قال تعالى: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [الأنبياء: ٨٧].
استجاب الله له، فلماذا قبلت هذه الكلمة من يونس عليه السلام ولم تقبل من فرعون وكلاهما في المحنة؟ وقد قالا جميعًا: لا إله إلا الله، قال العلماء: فرعون ما عرف الله قبل المحنة لذلك ما نفعته عند المحنة، ويونس عرف الله قبل المحنة، فلما جاءت المحنة نفعته هذه الكلمة، وأيضًا أن يونس عليه السلام قال: (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ) كلمة (أنت) يخاطبه وجهًا لوجهٍ، وكأنه يرى الله معه، أما فرعون فقال: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) ففرعون سمع أنه يوجد إله لموسى بيده كل شيء، فلما شرع في الغرق شعر أن إله موسى هو الذي أغرقه، فقال: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) فذكر ضمير الغائب دليل على أنه غير متحقق؛ فهو لم يعرفه في الرخاء حتى يعرفه في الشدة، والمقصود أنها قبلت (لا إله إلا الله) من سيدنا يونس؛ لأنه كان من المسبحين، ولم تقبل من فرعون لأنه لم يكن من المسبحين.
فلا بد من توفر شروط هذا الذكر (لا إله إلا الله) وقد ذكر العلماء من شروط (لا إله إلا الله) ما يلي:
١. العلم بمعناها.
وذلك بأن يعلم الناطق بها معنى هذه الكلمة، وما تضمنته من نفي الألوهية عن غير الله، وإثباتها له سبحانه، قال تعالى: (ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ) [محمد: ١٩].
٢. اليقين.
بمعنى ألا يقع في قلب قائلها شك فيها أو فيما تضمنته؛ لقوله تعالى: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) [الحجرات: ١٥].
٣. القبول لما اقتضته هذه الكلمة بقلبه ولسانه.
والمراد بالقبول هنا هو المعنى المضاد للرد والاستكبار، ذلك أن الله أخبرنا عن أقوام رفضوا قول لا إله إلا الله، فكان ذلك سبب عذابهم.
قال تعالى: (ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [الصافات: ٣٤-٣٥].
٤. الانقياد لما دلت عليه.
بمعنى: أن يكون العبد عاملًا بما أمره الله به، منتهيًا عما نهاه الله عنه.
قال تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) [لقمان: ٢٢].
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: «العروة الوثقى هي لا إله إلا الله»145.
٥. الصدق.
ومعناه أن يقولها صادقًا من قلبه، يوافق قلبه لسانه، قال تعالى: (ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ) [البقرة: ٨-٩].
٦. الإخلاص.
وهو إرادة وجه الله تعالى بهذه الكلمة، قال تعالى: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨ) [البينة: ٥].
٧. المحبة لهذه الكلمة.
ولأهلها العاملين بها الملتزمين بشروطها، وبغض ما ناقضها، قال تعالى: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ) [البقرة: ١٦٥].
فهذا هو معنى هذه الكلمة، وهذه هي شروطها التي بها تكون سبب النجاة عند الله سبحانه، وقد قيل للحسن: «إن أناسًا يقولون: من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال: من قال: لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها دخل الجنة»146.
والمقصود: أن هذا الذكر (التهليل) فضله عظيم، وقد ورد الأمر به في القرآن، قال تعالى: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) [التوبة: ١٢٩].
وقد ورد في فضل هذا الذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله)147.
وقال: (أفضل الذكر لا إله إلا الله)148.
قال المباركفوري رحمه الله: «لأنها كلمة التوحيد، والتوحيد لا يماثله شيء، وهي الفارقة بين الكفر والإيمان؛ ولأنها أجمع للقلب مع الله، وأنفى للغير، وأشد تزكية للنفس، وتصفية للباطن، وتنقية للخاطر من خبث النفس، وأطرد للشيطان»149.
خامسًا: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:
ومن صور الذكر في القرآن: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أمر الله تعالى بها في القرآن، فقال: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) [الأحزاب: ٥٦].
وهذا فيه تنبيه على كمال الرسول صلى الله عليه وسلم، ورفعة درجته، وعلو منزلته عند الله وعند خلقه، ورفع ذكره.
قال القرطبي: «وهذه الآية شرف الله بها رسوله عليه السلام حياته وموته، وذكر منزلته منه، وطهر بها سوء فعل من استصحب في جهته فكرة سوء، أو في أمر زوجاته ونحو ذلك، والصلاة من الله رحمته ورضوانه، ومن الملائكة الدعاء والاستغفار، ومن الأمة الدعاء والتعظيم لأمره»150.
وقال ابن كثير: «والمقصود من هذه الآية: أن الله سبحانه أخبر عباده بمنزلة عبده ونبيه عنده في الملأ الأعلى، بأنه يثني عليه عند الملائكة المقربين، وأن الملائكة تصلي عليه، ثم أمر تعالى أهل العالم السفلي بالصلاة والتسليم عليه، ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوي والسفلي جميعًا»151.
فقوله: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ) أي: يثني الله عليه بين الملائكة، وفي الملأ الأعلى لمحبته تعالى له، وتثني عليه الملائكة المقربون، ويدعون له ويتضرعون152.
وصلاة الله عليه هنا لا يصلح حملها على معناها اللغوي، وهو الدعاء؛ لأن المعنى غير معقول في حق الله تعالى؛ فإنه لا يدعو له؛ لأن الدعاء للغير طلب نفعه من ثالث153.
قال الألوسي: «والجملة صيغة خبر، ومعناها الدعاء بالسلامة، وطلبها منه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، واستشكل ذلك فيما إذا قال الله تعالى: السلام عليك أيها النبي أو نحوه بأن الدعاء لا يتصور منه عز وجل لأنه طلب، وهو يتضمن طالبًا ومطلوبًا ومطلوبًا منه، وهي أمور متغايرة، فإن كان طلبه سبحانه السلامة لنبيه عليه الصلاة والسلام من غيره تعالى فمحاليته من أجلى البديهيات، وإن كان من ذاته عز وجل لزم أن يغاير ذاته، والشيء لا يغاير ذاته ضرورة، وهذا منشأ قول بعضهم: إن في السلام منه تعالى إشكالًا له شأن، فينبغي الاعتناء به، وعدم إهمال أمره، فقل من يدرك سره»154.
فإن قيل: إذا صلى الله وملائكته عليه فأي حاجة إلى صلاتنا؟
وقد أجاب الرازي بقوله: «نقول: الصلاة عليه ليس لحاجته إليها، وإلا فلا حاجة إلى صلاة الملائكة مع صلاة الله عليه، وإنما هو لإظهار تعظيمه، كما أن الله تعالى أوجب علينا ذكر نفسه ولا حاجة له إليه، وإنما هو لإظهار تعظيمه منا شفقة علينا ليثيبنا عليه؛ ولهذا قال عليه السلام: (من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرًا)»155.
ونلحظ من هذه الآية أنه أضاف الصلاة إلى الله دون السلام، وأمر المؤمنين بهما معًا، والحكمة كما قال الحافظ ابن حجر في (الفتح): «وقد سئلت عن إضافة الصلاة إلى الله دون السلام، وأمر المؤمنين بها وبالسلام، فقلت: يحتمل أن يكون السلام له معنيان: التحية والانقياد، فأمر به المؤمنون لصحتهما منهم، والله وملائكته لا يجوز منهم الانقياد، فلم يضف إليهم دفعًا للإيهام، والعلم عند الله»156.
قال الشهاب الخفاجي عليه الرحمة: «قد لاح لي في ترك تأكيد السلام وتخصيصه بالمؤمنين نكتة سرية، وهي أن السلام عليه -عليه الصلاة والسلام- تسليمه عما يؤذيه، فلما جاءت هذه الآية عقيب ذكر ما يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم والأذية إنما هي من البشر، وقد صدرت منهم، فناسب التخصيص بهم والتأكيد»157.
وقوله: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) [الأحزاب: ٥٦]. اقتداء بالله وملائكته، وجزاء له على بعض حقوقه عليكم، وتكميلًا لإيمانكم، وتعظيمًا له صلى الله عليه وسلم، ومحبة وإكرامًا، وزيادة في حسناتكم، وتكفيرًا من سيئاتكم، وأفضل هيئات الصلاة عليه -عليه الصلاة والسلام- ما علم به أصحابه: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد)158.
وهذا الأمر بالصلاة والسلام عليه مشروع في جميع الأوقات، وأوجبه كثير من العلماء في الصلاة159.
والآية جمعت بين الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم فالأولى أن يقال: صلى الله عليه وسلم.
قال النووي: «إذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم فليجمع بين الصلاة والتسليم، ولا يقتصر على أحدهما، فلا يقل: صلى الله عليه فقط، ولا عليه السلام فقط»160.
قال ابن كثير: «وهذا الذي قاله منتزع من هذه الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) [الأحزاب: ٥٦]. فالأولى أن يقال: صلى الله عليه وسلم تسليمًا»161.
والتعبير بالجملة الاسمية في صدر الآية؛ للإشعار بوجوب المداومة، والاستمرار على ذلك162.
و(ﭵ) فعل مضارع يدل على الحال والاستقبال، أي: أن الله -جل جلاله- وملائكته منذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولًا يصلون عليه حال نزول الآية، ومستقبلًا وإلى يوم القيامة.
و(ﭿ): مفعول مطلق، أي: نسلم عليه كثيرًا ودوامًا عند زيارته في المسجد النبوي، وفي البعد، وحيث كنا من أرض الله تعالى 163. فهو تسليم عليه، وتسليم له، تسليم عليه بالدعاء له بالأمن والسلام من الله (السلام عليك أيها النبي) والتسليم له من المؤمنين بالطاعة والولاء، فهذه الصلاة وهذا التسليم من المؤمنين هو بعض ما يجزي به المؤمنون النبي من إحسان في مقابل الإحسان العظيم الذي أحسن به إليهم؛ إذ هداهم إلى الإيمان، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، وسلك بهم الطريق إلى رضوان الله، وإلى جنات لهم فيها نعيم مقيم، فما أقل ما يجزي به المؤمن هذا الإحسان الذي لرسول الله في عنقه164.
والضمير في (ﭵ) لله تعالى ولملائكته، وهذا قول من الله شرف به ملائكته، أو في الكلام حذف، والتقدير: إن الله يصلي، وملائكته يصلون.
قال القرطبي: «واختلف العلماء في الضمير في قوله: (ﭵ) فقالت فرقة: الضمير فيه لله والملائكة، وهذا قول من الله تعالى شرف به ملائكته، فلا يصحبه الاعتراض الذي جاء في قول الخطيب: «من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى» فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بئس الخطيب أنت، قل: ومن يعصي الله ورسوله)165.
قالوا: لأنه ليس لأحد أن يجمع ذكر الله تعالى مع غيره في ضمير، ولله أن يفعل في ذلك ما يشاء، وقالت فرقة: في الكلام حذف، تقديره: إن الله يصلي وملائكته يصلون، وليس في الآية اجتماع في ضمير؛ وذلك جائز للبشر فعله»166.
وظاهر صيغة الأمر مع قرينة السياق تقتضي وجوب أن يصلي المؤمن على النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنه مجملٌ في العدد، فمحمله محمل الأمر المجمل أن يفيد المرة؛ لأنها ضرورية لإيقاع الفعل ولمقتضى الأمر؛ ولهذا ذكر الفقهاء أن الصلاة على النبي (خارج الصلاة) واجبة على كل مؤمن مرة في العمر، فجعلوا وقتها العمر كالحج، وقد اختلفوا فيما زاد على ذلك في حكمه ومقداره، ولا خلاف في استحباب الإكثار من الصلاة عليه، وخاصة عند وجود أسبابها، ومن أسباب الصلاة عليه: أن يصلي عليه من جرى ذكره عنده، وعند الدعاء، وعند سماع الأذان، وعند انتهاء المؤذن، وعند دخول المسجد.
وذكر الفعل المضارع في (يصلون) إشارة إلى الترغيب في الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تأسيًا بصلاة الله وملائكته167.
قال القاسمي: «تدل الآية على وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مطلقًا؛ لأن الأصل في الأمر للوجوب، فذهب قوم إلى وجوبها في المجلس مرة، ثم لا تجب في بقية ذلك المجلس، وآخرون إلى وجوبها في العمر مرة واحدة، ثم هي مستحبة في كل حال، وآخرون إلى وجوبها كلما ذكر، وبعضهم إلى أن محل الآية على الندب»168.
قال ابن كثير: «وهذا قول غريب، فإنه قد ورد الأمر بالصلاة عليه في أوقات كثيرة، فمنها واجب، ومنها مستحب»169.
والظاهر أيضًا أنه لا يحصل الامتثال بأي ثناء ودعاء للنبي صلى الله عليه وسلم بغير هذه الصيغة التي تحتوي على لفظ الصلاة، قال الألوسي: «والظاهر أنه لا يحصل الامتثال باللهم عظم محمدًا التعظيم اللائق ونحوه، مما ليس فيه مشتق من الصلاة، كصل وصلى، فإنا لم نسمع أحدًا عد قائل ذلك مصليًا عليه صلى الله عليه وسلم؛ وذلك في غاية الظهور، إذا كان (قولوا: اللهم صل على محمد) تفسيرًا لقوله تعالى: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) أي: وقولوا: والسلام عليك أيها النبي ونحوه، وهذا ما عليه أكثر العلماء الأجلة»170.
والمقصود: أن من الأذكار العظيمة الواردة في القرآن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء الأمر بها في القرآن، إلا أنه لم يبين لنا عز وجل كيفية تلك الصلاة في كتابه، وبينها لنا رسوله صلى الله عليه وسلم، ورغب فيها، وحث عليها، وبين أن أجرها مضاعف، فقال صلى الله عليه وسلم: (فإنه من صلى علي صلاة، صلى الله عليه بها عشرًا)171، وقد شرعت عند ذكر اسمه، وبعد التشهد في الصلاة، وفي خطبة الجمعة والنكاح ونحوها.
وهي مما يدل على دوام أجره دون انقطاع؛ لأن صلوات الله تعالى عليه، وصلوات الملائكة والمؤمنين لا تنقطع ليلًا ولا نهارًا، وهي من الله تعالى رحمة، ومن الملائكة والمؤمنين دعاء172.
فيا لها من مرتبة سنية حيث تردد جنبات الوجود، ثناء الله على نبيه، ويشرق به الكون كله، وتتجاوب به أرجاؤه، ويثبت في كيان الوجود ذلك الثناء الأزلي القديم الأبدي الباقي، وما من نعمة ولا تكريم بعد هذه النعمة وهذا التكريم، وأين تذهب صلاة البشر وتسليمهم بعد صلاة الله العلي وتسليمه، وصلاة الملائكة في الملأ الأعلى وتسليمهم، إنما يشاء الله تشريف المؤمنين بأن يقرن صلاتهم إلى صلاته، وتسليمهم إلى تسليمه، وأن يصلهم عن هذا الطريق بالأفق العلوي الكريم الأزلي القديم173.
ففي الصلاة والسلام عليه اعتناء بإظهار شرفه ورفع شأنه، ومن هنا قال بعضهم: تشريف الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بقوله: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ) أبلغ من تشريف آدم بالسجود له.
سادسًا: قراءة القرآن:
ومن صور الذكر الوارد الأمر بها في القرآن: قراءة القرآن، والمتتبع لآي القرآن الكريم يجد الأمر واضحًا بتلاوته وتدبره، ويجد ما يترتب على ذلك من الأجر العظيم.
قال تعالى: (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ) [المزمل: ٢٠].
والمعنى: فاقرءوا من الليل ما تيسر لكم من القرآن في صلاتكم؛ وهذا تخفيف من الله عز وجل عن عباده فرضه الذي كان فرض عليهم بقوله: (ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ) [المزمل: ٢-٤]174.
فالأمر بقراءة القرآن هنا فيه قولان:
الأول: أن المراد من هذه القراءة الصلاة؛ لأن القراءة أحد أجزاء الصلاة، فأطلق اسم الجزء على الكل، أي: فصلوا ما تيسر عليكم.
والقول الثاني: أن المراد قراءة القرآن بعينها، والغرض منه دراسة القرآن؛ ليحصل الأمن من النسيان175. وليقف المؤمن بقراءته على إعجازه، وما فيه من دلائل التوحيد، وبعث الرسل.
فعلى القول الثاني يكون الأمر بقراءة مستقلة، ويؤيد هذا أن الله قد أمر بترتيل القرآن، فقال: (ﭢ ﭣ ﭤ) أي: اقرأه على تؤدة وتمهل وتبين حروف، بحيث يتمكن السامع من استيعابه، وتدبر معانيه.
والأمر في قوله: (ﭮ) للندب، وقال قوم منهم الحسن وابن سيرين: «هو فرض لا بد منه، ولو أقل ما يمكن»، حتى قال بعضهم: من صلى الوتر فقد امتثل هذا الأمر، وقيل: كان فرضًا ثم نسخ بالصلوات الخمس، وقيل: هو فرض على أهل القرآن دون غيرهم.
وذكر الله في هذه الآية الأعذار التي تكون لبني آدم تمنعهم من قيام الليل، فمنها: المرض، ومنها: السفر للتجارة، وهي الضرب في الأرض؛ لابتغاء فضل الله، ومنها: الجهاد، ثم كرر الأمر بقراءة ما تيسر؛ تأكيدًا للأمر به، أو تأكيدًا للتخفيف، وهذا أظهر؛ لأنه ذكره بأثر الأعذار176.
والحاصل: أن تلاوة القرآن سنة من سنن الإسلام، والإكثار منها مستحب؛ لأنها وسيلة إلى فهم كتاب الله، والعمل به، وفضلها ثابت في القرآن الكريم والسنة الشريفة، وأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بتلاوة القرآن، كما دل عليه قوله تعالى: (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ) [النمل: ٩١-٩٢].
ومدح المشتغلين بتلاوته، فقال: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) [البقرة: ١٢١].
وقال: (ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ) [فاطر: ٢٩].
وكان مطرف إذا مر بهذه الآية: (ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ) يقول: «هذه آية القراء»177، يعني: أثنى الله عليهم بقراءة القرآن.
فقوله: (ﯪ ﯫ ﯬ) يعني: يقرءون القرآن، وقيل: معناه: يتبعون كتاب الله تعالى، يقال: تلا يتلو إذا تبعه، كقوله تعالى: (ﭔ ﭕ ﭖ) [الشمس: ٢]178.
ولعل الجمع بين القولين أولى، فهم يقرءونه ويتبعونه، لا مجرد قراءة باللسان فقط.
قال السعدي: «أي: يتبعونه في أوامره فيمتثلونها، وفي نواهيه فيتركونها، وفي أخباره، فيصدقونها ويعتقدونها، ولا يقدمون عليه ما خالفه من الأقوال، ويتلون أيضًا ألفاظه، بدراسته، ومعانيه، بتتبعها واستخراجها»179.
فتلاوة كتاب الله تعني شيئًا آخر غير المرور بكلماته بصوت أو بغير صوت، تعني تلاوته عن تدبر، ينتهي إلى إدراك وتأثر، وإلى عمل بعد ذلك وسلوك، ومن ثم يتبعها بإقامة الصلاة، وبالإنفاق سرًا وعلانية من رزق الله، ثم رجاؤهم بكل هذا (ﯷ ﯸ ﯹ) فهم يعرفون أن ما عند الله خير مما ينفقون، ويتاجرون تجارة كاسبة مضمونة الربح، يعاملون فيها الله وحده، وهي أربح معاملة، ويتاجرون بها في الآخرة، وهي أربح تجارة، تجارة مؤدية إلى توفيتهم أجورهم، وزيادتهم من فضل الله180.
ومجيء الجملة فعلية يدل على مداومة القراءة وتجددها.
قال الألوسي: «أي: إنهم يداومون على قراءته حتى صارت سمة لهم وعنوانًا، كما يشعر به صيغة المضارع، ووقوعه صلة، واختلاف الفعلين»181.
فعطف الماضيين (أقاموا، وأنفقوا) على المضارع (يتلون)؛ لأن أوقات التلاوة أعم من أوقات الصلاة والزكاة، ويجوز أن يكون الماضيان سابقين على التلاوة، ويجوز أن تكون التلاوة في الصلاة.
فـ(يتلون) فعل مضارع و(أقاموا) فعل ماضي، والفعل المضارع يدل على الحال والتجدد والاستقبال والماضي مضى؛ وفي الآية ذكر تعالى أكثر ما يتجدد أولًا؛ لأن تلاوة القرآن أكثر من الصلاة، وإقامة الصلاة لا تكون إلا بقراءة القرآن، وقراءة القرآن تكون في كل وقت، وإقامة الصلاة هي أكثر من الإنفاق، إذن فالأفعال مرتبة في الآية بحسب الكثرة، وبحسب الاستمرار، فبدأ بالأكثر والأكثر استمرارًا، ثم بما دونها كثرة (الصلاة)، ثم الأقل (الإنفاق)182.
والمراد بكتاب الله: القرآن183، ولا وجه لما قيل: إن المراد به جنس كتب الله.
قال أبو السعود: «والمراد بكتاب الله تعالى: القرآن، وقيل: جنس كتب الله، فيكون ثناء على المصدقين من الأمم بعد اقتصاص حال المكذبين منهم، وليس بذاك، فإن صيغة المضارع منادية باستمرار مشروعية تلاوته، والعمل بما فيه واستتباعهما لما سيأتي من توفية الأجور، وزيادة الفضل، وحملها على حكاية الحال الماضية مع كونه تعسفًا ظاهرًا مما لا سبيل إليه، كيف لا، والمقصود الترغيب في دين الإسلام، والعمل بالقرآن الناسخ لما بين يديه من الكتب! فالتعرض لبيان حقيقتها قبل انتساخها والإشباع في ذكر استتباعها لما ذكر من الفوائد العظيمة مما يورث الرغبة في تلاوتها، والإقبال على العمل بها، وتخصيص التلاوة بما لم ينسخ منها باطل قطعًا؛ لما أن الباقي مشروعًا ليس إلا حكمها؛ لكن لا من حيث أنه حكمها، بل من حيث إنه حكم القرآن، وأما تلاوتها فبمعزل من المشروعية، واستتباع الأجر بالمرة، فتدبر!»184.
والمقصود: أن من صور الذكر وأعظمها قراءة القرآن، فقد جاء الترغيب في تلاوة القرآن، ولو في غير صلاة، ومن غير وضوء، ويؤجر المسلم على مجرد ترديد لفظه، ولو من غير فهمه، إلا أنه إذا ضم إلى التلاوة فهمًا زاد بذلك أجرًا على أجر، بل إن قراءة القرآن أفضل من الذكر والدعاء، وقد سئل ابن تيمية عمن يحفظ القرآن أيما أفضل له تلاوة القرآن أم الذكر؟
فأجاب: «جواب هذه المسألة ونحوها مبني على أصلين: فالأصل الأول أن جنس تلاوة القرآن أفضل من جنس الأذكار، كما أن جنس الذكر أفضل من جنس الدعاء»185.
سابعًا: الحسبلة:
ومن صور الذكر الواردة في القرآن قول: حسبنا الله ونعم الوكيل، وقد أثنى الله سبحانه على أهل التوحيد والتوكل من عباده، حيث أفردوه بالحسب، حيث قال: (ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) [آل عمران: ١٧٣-١٧٤].
فهؤلاء قالوا هذه الكلمة العظيمة (حسبنا الله ونعم الوكيل) أي: قالوا معبرين عن صادق إيمانهم بالله: الله يكفينا ما يهمنا من أمر الذين جمعوا الجموع لنا، فهو لا يعجزه أن ينصرنا على قلتنا وكثرتهم، أو يلقى في قلوبهم الرعب، فيكفينا شر بغيهم وكيدهم، وقد كان الأمر كما ظنوا، فألقى الله الرعب في قلب أبي سفيان وجيشه على كثرة عددهم، وتوافر عددهم، فولوا مدبرين، وكان في ذلك عزة لله ولرسوله وللمؤمنين186.
فـ(ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ) يعني: نعيم بن مسعود، وإنما أراد به جنس الناس، وكان رجلًا واحدًا (ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ) يعني: أبا سفيان وأصحابه (ﯿ) ولا تخرجوا إليهم (ﰀ ﰁ) أي: تصديقًا ويقينًا، وجرأة على القتال (ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ) أي: ثقتنا بالله، وأيقنوا أن الله لا يخذل محمدًا صلى الله عليه وسلم (ﰅ ﰆ) أي: نعم الثقة لنا (ﭑ) انصرفوا (ﭒ ﭓ ﭔ) أي: بأجر من الله (ﭕ) يعني: ما تسوقوا به من السوق، واشتروا الأشياء بسعر رخيص (ﭖ ﭗ ﭘ) يعني: قتال (ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) أي: ذو من عظيم187.
والحاصل: أنه يستحب قول هذا الذكر وهذه الكلمة عند الغم، والأمور العظيمة188.
وهي الكلمة التي قالها المؤمنون هنا، كما في هذه الآية، وهي التي قالها إبراهيم عليه السلام حينما ألقي في النار، فقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: «حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار»189.
وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: (ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ) [آل عمران: ١٧٣]190.
فالحسبلة مقتضى التوكل، وإنما يكون التوكل على الله وحده، كما قال لنبيه: (ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) [الزمر: ٣٨].
أي: عليه وحده، بدلالة تقديم الظرف، ومثله في هذا الحصر آيات كثيرة.
وقال في المنافقين: (ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) [التوبة: ٥٩].
أي: لكان خيرًا لهم، علمهم الله تعالى أن يسندوا الإعطاء من الصدقات إلى الله؛ لأنه المعطي الذي فرض الصدقات وأوجبها، وإلى رسوله؛ لأنه هو الذي يقسمها، وأن يسندوا كفاية الإحساب إلى الله وحده، وتكون رغبتهم إلى الله وحده، ولم يأمرهم أن يقولوا: حسبنا الله ورسوله؛ إذ لا يكفي العباد إلا ربهم وخالقهم، كما قال تعالى: (ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ) [الزمر: ٣٦].
ولا سيما الكفاية الكاملة التي يعبر عنها بحسبك، أي: التي يقول فيها المكفى: حسبي حسبي، وهي المرادة هنا -كما تقدم-، وإذا كان دأب آحاد المؤمنين وهجيراهم (حسبنا الله ونعم الوكيل) فأنبياء الله ورسله أولى بهذا؛ لأنهم أكمل توحيدًا وتوكلًا من غيرهم، وناهيك بخاتمهم وأفضلهم صلى الله عليه وسلم، ثم ناهيك بوعد الله تعالى إياه بهذه الكفاية191.
فإذا وفق الله عبدًا توكل بحفظه وكلاءته، وهدايته وإرشاده، وتوفيقه وتسديده، وإذا خذله وكله إلى نفسه أو إلى غيره؛ ولهذا كانت هذه الكلمة: «حسبنا الله ونعم الوكيل» كلمةً عظيمةً، قال من سبق ذكرهم من الأنبياء والصالحين، وممن قالها أيضًا عائشة رضي الله عنها حين ركبت الناقة لما انقطعت عن الجيش، وهي كلمة المؤمنين، فمن حقق التوكل على الله لم يكله إلى غيره، وتولاه بنفسه، وحقيقة التوكل: تكلة الأمور كلها إلى من هي بيده، فمن توكل على الله في هدايته وحراسته وتوفيقه وتأييده ورزقه، وغير ذلك من مصالح دينه ودنياه تولى اللًه مصالحه كلها، فإنه تعالى ولي الذين آمنوا، وهذا هو حقيقة الوثوق برحمة الله، فمن وثق برحمة ربه ولم يثق بغير رحمته، فقد حقق التوكل على ربه في توفيقه وتسديده، فهو جديرٌ بأن يتكفل الله بحفظه، ولا يكله إلى نفسه192.
فمدحوه سبحانه بأنه نعم الوكيل، والوكيل لا يستحق المدح إذا لم يجلب لمن توكل عليه منفعة، ولم يدفع عنه مضرة، والله خير من توكل العباد عليه، فهو نعم الوكيل يجلب لهم كل خير، ويدفع عنهم كل شر.
وقال تعالى: (ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ) [المزمل: ٩].
وقال: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) [الإسراء: ٢].
فأمر أن يتخذ وكيلًا، ونهى أن يتخذ من دونه وكيلًا؛ لأن المخلوق لا يستقل بجميع حاجات العبد، والوكالة الجائزة أن يتوكل الإنسان في فعل يقدر عليه، فيحصل للموكل بذلك بعض مطلوبه، فأما مطالبه كلها فلا يقدر عليها إلا الله، وذاك الذي يوكله لا يفعل شيئًا إلا بمشيئة الله وقدرته، فليس له أن يتوكل عليه وإن وكله، بل يعتمد على الله في تيسير ما وكله فيه، فلو كان الذي يحصل للمتوكل على الله يحصل وإن توكل على غيره، ويحصل بلا توكل لكان اتخاذ بعض المخلوقين وكيلًا أنفع من اتخاذ الخالق وكيلًا، وهذا من أقبح لوازم هذا القول الفاسد؛ لأن التوكل على الخلق يشهد نفعه193.
فالحسيب: هو الكافي، والوكيل: فعيل من التوكل، أي: متوكلًا عليه، تفوضون إليه أموركم، فيوصل إليكم النفع، ويكف عنكم الضر، أي: ربًا تكلون إليه أموركم.
قال ابن الجوزي: «قيل للرب: وكيل؛ لكفايته وقيامه بشئون عباده، لا على معنى ارتفاع منزلة الموكل وانحطاط أمر الوكيل»194.
وقال القرطبي: «وكيلًا، أي: شريكًا»195.
والمعاني متقاربة، ومرجعها إلى شيء واحد، وهو أن الوكيل: من يتوكل عليه، فتفوض الأمور إليه، ليأتي بالخير، ويدفع الشر، وهذا لا يصح إلا لله وحده جل وعلا؛ ولهذا حذر من اتخاذ وكيل دونه؛ لأنه لا نافع ولا ضار، ولا كاف إلا هو وحده جل وعلا، عليه توكلنا، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
ونظير الآية السابقة قوله تعالى: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ) [التوبة: ١٢٩].
وقوله: (ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) [التوبة: ٥٩].
وقوله: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ) [الأنفال: ٦٢].
وقوله: (ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ) [الأنفال: ٦٤].
ثامنًا: التكبير:
ومن صور الذكر القرآني: التكبير، وقد أمر الله به في قوله: (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ) [الإسراء: ١١١].
ونظيرها قوله تعالى: (ﯓ ﯔ) [المدثر: ٣].
والتكبير: التعظيم، وهو مصدر كبر بمعنى: عظم، وهو قول: الله أكبر.
والتكبير أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال، وفي الأمر بذلك بعد ما تقدم مؤكدًا بالمصدر المنكر من غير تعيين لما يعظم به تعالى إشارة إلى أنه مما لا تسعه العبارة، ولا تفي به القوة البشرية، وإن بالغ العبد في التنزيه والتمجيد واجتهد في العبادة والتحميد فلم يبق إلا الوقوف بإقدام المذلة في حضيض القصور، والاعتراف بالعجز عن القيام بحقه جل وعلا196.
والأمر هنا (ﯘ) وإن كان للرسول صلى الله عليه وسلم فهو أمر للناس جميعًا على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم؛ لأن أمر القدوة أمر لأتباعه. ومعنى: (ﯘ ﯙ) أي: قل: الله أكبر، الله أكبر، تكبيرًا مطلقًا، من غير مقايسة أو مفاضلة، الكبير في كل مقام، فهو سبحانه الكبير المتعال، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وقد يحمل المعنى على ما هو أشمل، أي: عظمه تعظيمًا197.
قال الرازي في هذا التكبير: «يحتمل أنواعًا من المعاني:
أولها: تكبيره في ذاته، وهو أن يعتقد أنه واجب الوجود لذاته، وأنه غني عن كل ما سواه.
وثانيها: تكبيره في صفاته؛ وذلك من ثلاثة أوجه:
أولها: أن يعتقد أن كل ما كان صفة له فهو من صفات الجلال والعز والعظمة والكمال، وهو منزه عن كل صفات النقائص.
وثانيها: أن يعتقد أن كل واحد من تلك الصفات متعلق بما لا نهاية له من المعلومات، وقدرته متعلقة بما لا نهاية له من المقدورات والممكنات.
وثالثها: أن يعتقد أنه كما تقدست ذاته عن الحدوث، وتنزهت عن التغير والزوال والتحول والانتقال، فكذلك صفاته أزلية قديمة سرمدية منزهة عن التغير والزوال والتحول والانتقال.
النوع الثالث: من تكبير الله تكبيره في أفعاله.
النوع الرابع: تكبير الله في أحكامه، وهو أن يعتقد أنه ملك مطاع، وله الأمر والنهي، والرفع والخفض، وأنه لا اعتراض لأحد عليه في شيء من أحكامه يعز من يشاء، ويذل من يشاء.
النوع الخامس: تكبير الله في أسمائه، وهو أن لا يذكر إلا بأسمائه الحسنى، ولا يوصف إلا بصفاته المقدسة العالية المنزهة.
النوع السادس: من التكبير هو أن الإنسان بعد أن يبلغ في التكبير والتعظيم والتنزيه والتقديس مقدار عقله وفهمه وخاطره يعترف أن عقله وفهمه لا يفي بمعرفة جلال الله، ولسانه لا يفي بشكره، وجوارحه وأعضاؤه لا تفي بخدمته، فكبر الله عن أن يكون تكبيره وافيًا بكنه مجده وعزته، وهذا أقصى ما يقدر عليه العبد الضعيف من التكبير والتعظيم»198.
والحاصل: أن هذه آية عظيمة ختمت بها سورة الإسراء، وقد احتوت على الأمر بحمد الله والتكبير.
وروى غير واحد أنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم الغلام من بني عبد المطلب إذا أفصح (ﮤ ﮥ) إلى آخر الآية سبع مرات، وسماها عليه الصلاة والسلام آية العز199.
وقال ابن كثير: «عن قتادة أنه قال: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أهله كبيرهم وصغيرهم هذه الآية (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) »200.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «قول العبد: الله أكبر خير من الدنيا وما فيها»201.
والمقصود أن التكبير هنا ورد ذكرًا مطلقًا، ولم يحدد بوقت معين، ولفظه: الله أكبر، ومعناه: أي: عظمه وأجله عما يقول الظالمون المعتدون تعظيمًا كبيرًا، فذلك التعظيم الذي يتناسب مع جلاله وعظمته وقدسيته، فهو الكبير المتعال في ذاته باعتقاد أنه واجب الوجود لذاته، وأنه غني عن كل الوجود وفي صفاته، فله صفات الكمال، المنزه عن كل صفات النقصان، وفي أفعاله: فلا يحدث شيء في ملكه إلا بمقتضى حكمته ومشيئته، وفي أحكامه: فله مطلق الأمر والنهي والعز والذل، لا معقب لحكمه، ولا اعتراض لأحد على شيء من أحكامه، وفي أسمائه: فلا يذكر إلا بأسمائه الحسنى، ولا يوصف إلا بصفاته المقدسة العالية.
وقد جاء التكبير في القرآن ذكرًا مقيدًا بعد انتهاء بعض العبادات، قال تعالى: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ) [البقرة: ١٨٥].
وقال: (ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ) [الحج: ٣٧].
ففي الآية الأولى التكبير عند إكمال شهر رمضان، يوم الفطر202، والآية الثانية في الأضاحي203.
تاسعًا: الاسترجاع:
ومن صور الذكر الوارد في القرآن: الاسترجاع، وهو قول العبد: إنا لله وإنا إليه راجعون.
قال تعالى: (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [البقرة: ١٥٦-١٥٧].
ففي هذه الآية أخبر الله أن المؤمن إذا سلم الأمر إلى الله، ورجع واسترجع عند المصيبة كتب له ثلاث خصال من الخير: الصلاة من الله، والرحمة، وتحقيق سبيل الهدى.
ومعنى: (ﭲ) أي: نطقوا بهذا الذكر العظيم، ولم يرد به القول اللساني فقط، بل لا بد أن يكون معه اعتقاد وعمل، فمن شرط اللفظ: العمل بمقتضاه، وهو أنه يصبر ويحتسب، فإن قاله قولًا فقط فلا فائدة فيه، وإن صبر ولم يقله فقد قاله بلسان الحال، ويحصل له (الأجر) وإن فعل الأمرين أخلفه الله الخير في الدنيا، وأعظم له الأجر في الآخرة.
قال أبو السعود: «وليس الصبر هو الاسترجاع باللسان بل بالقلب، بأن يتصور ما خلق له، وأنه راجع إلى ربه، ويتذكر نعم الله تعالى عليه، ويرى أن ما أبقى عليه أضعاف ما استرده منه، فيهون ذلك على نفسه، ويستسلم»204.
(ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ) يعني يقولون: نحن عبيد الله وفي ملكه، إن عشنا فعليه أرزاقنا، وإن متنا فإليه مردنا، وإليه راجعون بعد الموت، ونحن راضون بحكمه.
إنا لله كلنا، كل ما فينا، كل كياننا وذاتيتنا لله، وإليه المرجع والمآب في كل أمر، وفي كل مصير، التسليم المطلق، تسليم الالتجاء الأخير المنبثق من الالتقاء وجهًا لوجه بالحقيقة الوحيدة، وبالتصور الصحيح205. فإذا علم العبد أنه وجميع أهله وماله ملك لله طابت نفسه، وهانت عليه مصيبته.
ثم قال: (ﭹ) يعني: أهل هذه الصفة، إشارة إلى الصابرين باعتبار اتصافهم بما ذكر من النعوت، ومعنى البعد فيه للإيذان بعلو رتبتهم206.
(ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ) الصلاة اسم مشترك المعنى، فهي من الله تعالى الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار، ومن الناس الدعاء207. والصلاة هنا المراد بها الرحمة، وجمعها؛ لإرادة التكرار عليهم208.
وقد تحمل الصلاة من الله تعالى هنا على ثلاثة أشياء: توفيق الطاعة، والعصمة عن المعصية، ومغفرة الذنوب جميعًا، فبالصلاة الواحدة تتكون لهم هذه الأشياء الثلاثة، فقد وعد لهم الصلوات الكثيرة، ومقدار ذلك لا يعلمه إلا الله209.
(ﭾ) أي: عليهم رحمات كثيرة متعددة، ورحمة أخرى أعظم من الجميع، فلذلك أفردها بالذكر، وعطفها عليها، وليس فيه تكرار بوجه210.
ثم قال: (ﮀ ﮁ ﮂ) أي: الموفقون للاسترجاع، وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: لم يكن الاسترجاع إلا لهذه الأمة، ألا ترى أن يعقوب عليه السلام قال: (ﯡ ﯢ ﯣ) [يوسف: ٨٤].
فلو كان له الاسترجاع لقال ذلك211. فـ(ﮂ) أي: الذين اهتدوا إلى طريق الحق؛ فإن هذا الكلام الذي يقولونه مع الصبر هو الهداية.
والمقصود: أن هذه كلمة عظيمة يستحق عليها الإنسان المؤمن الثواب العظيم، وهو من أعظم الذكر الوارد في القرآن.
وقد جعل سبحانه هذه الكلمات ملجأ لذوي المصائب؛ لما جمعت من المعاني المباركة، من توحيد الله سبحانه، والإقرار له بالعبودية، والبعث من القبور، واليقين بأن رجوع الأمر كله إليه، كما هو له، قال الفخر: «قال أبو بكر الوراق: (ﭳ ﭴ) إقرار منا له بالملك (ﭵ ﭶ ﭷ) إقرار على أنفسنا بالهلاك».
وفى هذا التركيب العجيب من لطائف اللطائف وعوارف المعارف ما يدق ويرق، وما هو بهذا النظام أليق وأخلق، وحسب الإنسان أن يذكر في محنته أن لله بدأه، ولله نهايته؛ ليكون لله فيما بينهما (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ) [آل عمران: ١٥٤].
أما البشرى فقد أشارت إلى مضمونها الآية الكريمة في قوله تعالى: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [البقرة: ١٥٧].
سمعها عمر رضي الله عنه فقال: «نعم العدلان، ونعمت العلاوة»212.
فما أروعها من جملة، وما أطيبها من كلمة، جامعة مانعة، تجمع بين السهولة والقوة؛ سهولة اللفظ، وقوة المعنى، وبين العبودية والعزة، عبودية المخلوق للخالق؛ وعزة المخلوق بخالقه.
وجرت العادة أن هذه الكلمة إذا سمعت فإنها توحي بمصيبة، وهذا ما جاءت في القرآن لأجله؛ ولذلك ينطقها اللسان بنبرات حزينة، وربما برأس مخفوض، ووجه عبوس، وقلب مكلوم، نعم هي ترافق المصيبة، وتأتي معها؛ لكن لا لتزيدها أو تعمق جراحها، بل لتخففها، وتقوي الصبر عليها؛ وهل التعزية إلا التقوية؟! يقولها أهل المصائب مؤمنون بها، مستسلمون لحكمها.
أمر الله تعالى في القرآن بالإكثار من الذكر في جميع الأحوال والأوقات دون تقييد بوقت محدد أو عدد محدد، وجاء الأمر بالذكر في أوقات معينة، ويمكن تقسيم الذكر الوارد في القرآن إلى الذكر المطلق من التقييد بوقت أو حال أو عدد، والذكر المقيد بأوقات معينة:
أولًا: ذكر مقيد:
أمر الله تعالى في القرآن بالذكر عمومًا، والتسبيح خصوصًا، مقيدًا في الأوقات التالية:
١. البكور والعشي.
أمر الله تعالى في القرآن بالذكر بكرة وعشيًا، مقيدًا بهذين الزمانين، قال تعالى: (ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ) [الإنسان: ٢٥].
وخص من الذكر التسبيح، فقال: (ﰂ ﰃ ﰄ) [الأحزاب: ٤٢].
وقال: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ) [الفتح: ٩].
فـ(ﰃ) أول النهار (ﰄ) آخر النهار، وخصا بالذكر؛ لأن ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون فيهما213.
أو هو إشارة إلى المداومة؛ وذلك لأن مريد العموم قد يذكر الطرفين، ويفهم منهما الوسط، كقوله عليه السلام: (لو أن أولكم وآخركم)214 ولم يذكر وسطكم، ففهم منه المبالغة في العموم215.
فإذا أمر العبد بالذكر في هذين الوقتين، وهما وقتا شغل ابتداء أو انتهاء، فوجوب الذكر في غيرهما من باب الأولى.
وقيل: إن ذلك إشارة إلى صلاة الصبح والعصر، وقال ابن عطية: «أراد في كل الأوقات، فحد النهار بطرفيه»216.
وخص التسبيح بالذكر من جملة الذكر لفضله على سائر الأذكار، ففيه تنزيه عما لا يجوز عليه217.
والحاصل: أنه خص البكرة والأصيل في قوله: (ﰂ ﰃ ﰄ) بالذكر؛ لإظهار فضلهما، والتنويه بهما؛ لأن العبادة فيهما آكد على الإنسان، كما خص التسبيح وهو من أنواع الذكر؛ ليبين فضله على سائر الأذكار.
وقد يكون السر أيضًا في اختيار هذين الوقتين لأنهما أصلح الأوقات وأنسبها لذكر الله، واستحضار جلاله وعظمته.
ففي أول النهار يتزود الإنسان بهذا الزاد الطيب الذي يغذي به مشاعره وأحاسيسه، ويشحن به عواطفه ونوازعه، ثم يخرج إلى الحياة ومعه هذا الرصيد العظيم من أمداد الله ورحماته، فيواجه الحياة بقلب سليم، وعزم موثق، ولسان عف، ويد نقية، فيكون من هذا كله في حراسة أمينة يقظة، فلا يزل ولا ينحرف!
فإذا كان آخر النهار كان له إلى نفسه عودة ومراجعة، فيعرضها على الله، ويصلح ما وقع لها من خلل أثناء رحلتها مع الحياة طوال اليوم، وبهذا يظل المؤمن -المتصل بالله هذا الاتصال- على الصحة والسلامة أبدًا218.
وأمر الله تعالى بالذكر بالعشي والإبكار، مقيدًا بهذين الزمانين، فقال: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ) [آل عمران: ٤١].
و(العشي): هو من الزوال إلى الغروب، قاله مجاهد، وقيل: من العصر إلى ذهاب صدر الليل (والإبكار) أي: وقته وهو من الفجر إلى الضحى، وإنما قدر المضاف؛ لأن الإبكار بكسر الهمزة مصدر لا وقت، فلا تحسن المقابلة كذا قيل، وهو مبني على أن بالعشي جمع عشية، الوقت المخصوص، وإليه ذهب أبو البقاء، والذي ذهب إليه المعظم أنه مصدر أيضًا على فعيل لا جمع219.
وخص هذان الوقتان بالذكر؛ لأنهما وقت سكون ودعة وتعبد واجتهاد، وما بينهما من أوقات الغالب فيها الانقطاع لأمر المعاش.
٢. الغدو والآصال.
وأمر الله تعالى بالذكر بالغدو والآصال، مقيدًا بهذين الزمانين، فقال تعالى: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) [الأعراف: ٢٠٥].
وقال: (ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ) [النور: ٣٦].
والغدو: أول النهار، مصدر غدا يغدو، والمراد وقت الغدو، والآصال: جمع أصيل، وهو آخر النهار، وهو الوقت بعد العصر إلى المغرب، وقد يقال: اشتقاقه من الأصل، واليوم بليلته إنما يبتدئ في الشرع من أول الليل، فسمي آخر النهار أصيلًا؛ لكونه ملاصقًا لما هو الأصل لليوم الثاني220.
وأفرد الغدو بالذكر: لأن فيه صلاة واحدة هي صلاة الصبح، وجمع الأصيل؛ لأنه زمن ممتد فيه صلاة الظهر والعصر والعشاءين (المغرب والعشاء)221.
وخص سبحانه أوقات الغدو والآصال بالذكر؛ لشرفها، وكونها أشهر ما تقع فيه العبادات.
قال الرازي: «خص الغدو والآصال بهذا الذكر والحكمة فيه أن عند الغدوة انقلب الإنسان من النوم الذي هو كالموت إلى اليقظة التي هي كالحياة، والعالم انقلب من الظلمة التي هي طبيعة عدمية إلى النور الذي هو طبيعة وجودية، وأما عند الآصال فالأمر بالضد؛ لأن الإنسان ينقلب فيه من الحياة إلى الموت، والعالم ينقلب فيه من النور الخالص إلى الظلمة الخالصة، وفي هذين الوقتين يحصل هذان النوعان من التغيير العجيب القوي القاهر، ولا يقدر على مثل هذا التغيير إلا الإله الموصوف بالحكمة الباهرة، والقدرة الغير المتناهية، فلهذه الحكمة العجيبة خص الله تعالى هذين الوقتين بالأمر بالذكر.
ومن الناس من قال: ذكر هذين الوقتين والمراد: مداومة الذكر والمواظبة عليه بقدر الإمكان، كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في قوله: (ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [الأعراف: ١٩١].
لو حصل لابن آدم حالة رابعة سوى هذه الأحوال لأمر الله بالذكر عندها، والمراد منه أنه تعالى أمر بالذكر على الدوام»222.
وقال الشوكاني: «وخص هذين الوقتين لشرفهما»223. وفي البحر المديد: «وإنما خص الوقتين؛ لأنهما محل الاشتغال فأولى غيرهما»224.
والحاصل: أن من أعظم الأوقات لهذا الذكر وقتان أول النهار وآخره؛ لأنهما طرفا النهار، ومن افتتح نهاره بذكر الله واختتمه به كان جديرًا بأن يراقب الله ولا ينساه فيما بينهما، وأهم الذكر فيهما صلاتا الفجر والعصر اللتان تحضرهما ملائكة الليل وملائكة النهار، ويشهدان عند الله تعالى بما وجدا عليه العبد، كما ورد في الصحيح.
قال سيد: «وذكر الله لا يقتصر على هذه الآونة -في مطالع النهار وفي أواخره- فذكر الله ينبغي أن يكون في القلب في كل آن، ومراقبة الله يجب أن تكون في القلب في كل لحظة؛ ولكن هذين الآنين إنما تطالع فيهما النفس التغير الواضح في صفحة الكون من ليل إلى نهار، ومن نهار إلى ليل، ويتصل فيهما القلب بالوجود من حوله، وهو يرى يد الله تقلب الليل والنهار، وتغير الظواهر والأحوال، وإن الله سبحانه ليعلم أن القلب البشري يكون في هذين الآنين أقرب ما يكون إلى التأثر والاستجابة؛ ولقد كثر في القرآن التوجيه إلى ذكر الله سبحانه، وتسبيحه في الآونة التي كأنما يشارك الكون كله فيها في التأثير على القلب البشري وترقيقه وإرهافه وتشويقه للاتصال بالله»225.
٣. قبل طلوع الشمس وقبل غروبها.
قال تعالى: (ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [طه: ١٣٠].
وقال: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [ق: ٣٩].
قال ابن كثير: «وكانت الصلاة المفروضة قبل الإسراء ثنتين: قبل طلوع الشمس في وقت الفجر، وقبل الغروب في وقت العصر، وقيام الليل كان واجبًا على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أمته حولًا، ثم نسخ في حق الأمة وجوبه، ثم بعد ذلك نسخ الله ذلك كله ليلة الإسراء بخمس صلوات، ولكن منهن صلاة الصبح والعصر، فهما قبل طلوع الشمس، وقبل الغروب»226.
فالتسبيح هنا إما أن يكون المراد به الصلاة، وإما عموم الذكر، ولعل حمله على المعنيين أولى.
٤. من الليل وأطراف النهار.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ) [الإنسان: ٢٦].
وقال: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) [طه: ١٣٠].
وقال: (ﮊ ﮋﮌ) [ق: ٤٠].
[الطور: ٤٩].
وخص طرفي النهار؛ لشرفهما، وقيل: داوم على صلاة الفجر والظهر والعصر، فإن الأصيل يتناولهما.
(ﮊ ﮋ) بعض الليل (ﭓ ﭔ) فإنه وقت الاقتراب إليه؛ لدنو رحمته، وخلو الوقت للمناجاة، وقيل: صلاتي المغرب والعشاء، ويؤيده: (ﭕ ﭖ ﭗ) أي: نزهه، أو صل له تطوعًا.
والوجه في الاهتمام بـ(ﮔ ﮕ) وزلفه أن الليل وقت تميل فيه النفوس إلى الدعة، فيخشى أن يتساهل في أداء الصلاة فيه، وعلل له الفخر الرازي بقوله: «لأن الجمعية -أي جمع القلب والهمة- فيه أكثر؛ وذلك لسكون الناس وهدوء حركاتهم، وتعطيل الحواس عن الحركات وعن الأعمال؛ ولذلك قال سبحانه وتعالى: (ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) [المزمل: ٦].
وقال: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) [الزمر: ٩].
ولأن الليل وقت السكون والراحة، فإذا صرف إلى العبادة كانت على الأنفس أشق، وللبدن أتعب، فكانت أدخل في استحقاق الأجر والفضل»227.
ولعل النكتة البلاغية لجمع (طرف) في قوله جل شأنه: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) [طه: ١٣٠].
على الرغم من أن للنهار طرفان، ورد ذكرهما في قوله: (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) [هود: ١١٤].
وقوعه في حال الجمع معمولًا لـ(سبح)، ووقوعه في حال التثنية معمولًا لـ(أقم الصلاة)، وفي هذا ما يشير إلى أن الصلاة وإن كان الأمر فيها قاصرًا على طرفي النهار أوله وآخره، وهما على ما ترجح (الفجر والعصر)، فإنه لا يعني أن يخلو سائر يوم المسلم من تسبيح لله، وشغل للسان بذكره، وأنه إذا كان للنهار طرفان يتم شغلهما بتأدية الصلاة التي لا تشغل حيزًا كبيرًا من الوقت، فإن ثمة طرفين آخرين يستغرقان سائر ساعات النهار، ينبغي ملؤهما مع سابقيهما، بالتقديس والتنزيه لصاحب العظمة والكبرياء جل جلاله.
أولهما: عند انتهاء النصف الأول من الطرف الأول من النهار، وهو طرف سير الشمس في قوس الأفق، وبلوغ سيرها وسطه، والمعبر عنه بالزوال.
والثاني: عند ابتداء النصف الثاني من القوس، والذي يوافق الشطر الأول من النصف الثاني من النهار.
فيكون للنهار أربعة أطراف أوله وآخره، وآخر نصفه الأول وأول نصفه الثاني، والكل مستغرق بالتسبيح؛ ولذا نزع الخافض، وإن كان لا يوجد بأسًا في الاستئناس في ذلك من إمكانية أن يكون السر في جمع طرف حاصلًا من كون الطرف يتكرر في كل نهار ويعود، فتكون (أل) في النهار للجنس الشامل لكل نهار، ويكون الجمع باعتبار تعدد النهار، وأن لكلٍ طرفين، أو يكون من باب إطلاق الجمع على المثنى، وهو متسع فيه في العربية عند أمن اللبس؛ والذي حسن جمعه هنا وقوعه مشاكلة لجمع آخر هو قوله: (ﮓ ﮔ ﮕ) [طه: ١٣٠]228.
٥. أدبار السجود.
قال تعالى: (ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ) [ق: ٤٠].
(ﮍ ﮎ) قال ابن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ عن ابن عباس رضي الله عنهما: «هو التسبيح بعد الصلاة».
والقول الثاني: أن المراد بقوله تعالى: (ﮍ ﮎ) هما الركعتان بعد المغرب229.
٦. أدبار النجوم.
قال تعالى: (ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ) [الطور: ٤٩].
أي: آخر الليل، ويدخل فيه صلاة الفجر. والله أعلم230.
وقت القيام:
قال تعالى: (ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ) [الطور: ٤٨].
فقوله: (ﰈ ﰉ) فسر بإرادة القيام إلى الصلاة، وهو قول زيد بن أسلم والضحاك، وفسر بالقيام من النوم، وهو قول أبي الجود، وفسر بالقيام من المجالس231.
ومما جاء في الذكر المقيد بزمن أو مكان أو حال:
قوله تعالى: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [البقرة: ١٩٨].
وقوله تعالى: (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) [الكهف: ٢٤].
وقوله تعالى: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ) [البقرة (٢٠٣].
وقوله تعالى: (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ) [البقرة: ٢٠٠].
وقوله تعالى: (ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [البقرة: ٢٣٩].
ثانيًا: ذكر مطلق:
أمر الله في القرآن بالذكر مطلقًا في سائر الأوقات، والمراد بالمطلق: ما لم يقيد بزمان، ولا مكان، ولا عدد، فأطلق في العدد، فقال: (ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [الأحزاب: ٤١].
وقال تعالى في سياق صفات المؤمنين والمؤمنات: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [الأحزاب: ٣٥].
فقوله: (ﰀ) أي: في أكثر الأوقات، خصوصًا أوقات الأوراد المقيدة كالصباح والمساء، وأدبار الصلوات المكتوبات232.
قال مجاهد: «لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيرًا حتى يذكر الله قائمًا وقاعدًا ومضطجعًا»، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سبق المفردون)، قالوا: وما المفردون؟ قال: (الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات)233234.
قال الفخر: «(ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) يعني: هم في جميع هذه الأحوال يذكرون الله، ويكون إسلامهم وإيمانهم وقنوتهم وصدقهم وصبرهم وخشوعهم وصدقتهم وصومهم بنية صادقة لله، واعلم أن الله تعالى في أكثر المواضع حيث ذكر الذكر قرنه بالكثرة ها هنا، وفي قوله بعد هذا: (ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [الأحزاب: ٤١].
وقال من قبل: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ) [الأحزاب: ٢١]؛ لأن الإكثار من الأفعال البدنية غير ممكن أو عسر، فإن الإنسان أكله وشربه وتحصيل مأكوله ومشروبه يمنعه من أن يشتغل دائمًا بالصلاة، ولكن لا مانع له من أن يذكر الله تعالى وهو آكل، ويذكره وهو شارب أو ماشٍ أو بائع أو شارٍ.
وإلى هذا أشار بقوله تعالى: (ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [آل عمران: ١٩١]. ولأن جميع الأعمال صحتها بذكر الله تعالى، وهي النية»235.
وأطلق في كل الأحوال، فقال: (ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [آل عمران: ١٩١].
وقال تعالى: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) [الأعراف: ٢٠٥].
فكأنه قيل: تضرعًا وإعلانًا وخيفة وإسرارًا، وفي ذلك من الشمول والاستيعاب لجميع أحوال الإنسان، ومن التحذير من الغفلة ما لا يخفى.
الذكر عبادة عظيمة، وله منزلة رفيعة، ودرجة سامية، وأهمية عظيمة، وفوائد جليلة، شاملة للدين والدنيا والآخرة، أوصلها ابن القيم في كتابه الوابل الصيب إلى أكثر من سبعين فائدة، والذي يهمنا هنا ذكر فوائده المذكورة في القرآن:
أولًا: ذكر الله عز وجل لعبده الذاكر:
من أعظم فوائد الذكر ذكر الله تعالى للذاكر. قال تعالى: (ﯩ ﯪ) [البقرة: ١٥٢].
فقوله: (ﯩ) الفاء هنا هي فاء السببية، وهي ما يكون قبلها سببًا لما بعدها، وهي للتفريع، عاطفة جملة الأمر بذكر الله وشكره على جمل النعم المتقدمة، أي: إذ قد أنعمت عليكم بهاته النعم فأنا آمركم بذكري.
وهذا الأمر (ﯩ) جوابه (ﯪ) وفيه: معنى المجازاة236 والجزاء من جنس العمل في الخير والشر.
قال أبو عثمان النهدي: «إني لأعلم حين يذكرني ربي عز وجل، قيل: كيف ذلك؟ قال: إن الله عز وجل قال: (ﯩ ﯪ) وإذا ذكرت الله تعالى ذكرني»237. وقال الحكماء: إنما كان الذكر أفضل الأشياء؛ لأن ثواب الذكر الذكر، قال الله تعالى: (ﯩ ﯪ)238.
والذكر هنا يحمل على العموم، فيشمل الذكر باللسان، وهو: الحمد والتسبيح والتمجيد وقراءة كتب الله، وبالقلب، وهو: الفكر في الدلائل الدالة على التكاليف والأحكام، والأمر والنهي والوعد والوعيد، والفكر في الصفات الإلهية، والفكر في أسرار مخلوقات الله تعالى حتى تصير كل ذرة كالمرآة المجلوة المحاذية لعالم التقديس، فإذا نظر العبد إليها انعكس شعاع بصره منها إلى عالم الجلال، وبالجوارح بأن تكون مستغرقة في الأعمال المأمور بها، خالية عن الأعمال المنهي عنها، وعلى هذا الوجه سمى الله الصلاة ذكرًا بقوله: (ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ) [الجمعة: ٩]239.
وسمي الثواب المترتب على ذلك ذكرًا على سبيل المقابلة لما كان نتيجة الذكر وناشئًا عنه سماه ذكرًا240. هذا ذكر العبد ربه.
أما ذكر الله لعبده: فهو ثناؤه عليه في الملإ الأعلى بين الملائكة، ومباهاتهم به، وتنويهه بذكره241.
قال أبو جعفر: «أذكركم برحمتي إياكم، ومغفرتي لكم»242.
وعن السدي قال: «ليس من عبد يذكر الله إلا ذكره الله، لا يذكره مؤمن إلا ذكره برحمة»243.
فليس العجب من ذكر العبد الفقير المحتاج الضعيف لربه، إنما العجب والشأن في ذكر الرب الملك العظيم لعبده.
يا للتفضل الجليل الودود! الله جل جلاله يجعل ذكره لهؤلاء العبيد مكافئًا لذكرهم له في عالمهم الصغير، إن العبيد حين يذكرون ربهم يذكرونه في هذه الأرض الصغيرة، وهم أصغر من أرضهم الصغيرة! والله حين يذكرهم يذكرهم في هذا الكون الكبير، وهو الله العلي الكبير، أي تفضل! وأي كرم! وأي فيض في السماحة والجود؟! (ﯩ ﯪ) إنه الفضل الذي لا يفيضه إلا الله الذي لا خازن لخزائنه، ولا حاسب لعطاياه، الفضل الفائض من ذاته تعالى بلا سبب ولا موجب إلا أنه هكذا هو سبحانه فياض العطاء.
إنه ذلك الفضل الذي لا يصفه لفظ، ولا يعبر عن شكره الحق إلا سجود القلب، وذكر الله ليس لفظًا باللسان، إنما هو انفعال القلب معه أو بدونه، والشعور بالله ووجوده والتأثر بهذا الشعور تأثرًا ينتهي إلى الطاعة في حده الأدنى، وإلى رؤية الله وحده ولا شيء غيره لمن يهبه الله الوصول، ويذيقه حلاوة اللقاء244.
فالله سبحانه وتعالى لا ينسى حتى يذكر فيذكر، بل هو -جل شأنه- يذكرنا دائمًا ذكرناه أو لم نذكره! ولعل المراد بذكره لنا هنا إذا ذكرناه هو أننا إذا ذكرناه وجدناه سبحانه حاضرًا في قلوبنا وعقولنا، وأننا إذا لم نذكره فهو سبحانه حاضر كذلك، ولكن هذا الحضور لا نحس به، ولا نتأثر له.
فإذا ذكر المؤمن ربه وجد ربه تجاهه، وكأنه بتفلته عن ذكر ربه قد بعد عن الله، فإذا ذكر ربه، وأشرق عليه بنوره السني البهي، وفي الحديث القدسي: (من تقرب إلي شبرًا تقربت إليه ذراعًا، ومن تقرب إلي ذراعًا تقربت إليه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)245.
فذكر الله وامتلاء القلب بهذا الذكر يفيض على الذاكر أنوارًا من جلال الله وبهائه، وإذا هو في حمى عزيز لا ينال، وفي ضمان وثيق من أن يهون، أو يذل لغير الله الواحد القهار، وأسمى الذكر وأكمله هو ذكر العارفين بالله معرفة يطلعون منها على ما يملأ قلوبهم جلالًا وخشية لله، حيث يشهدون من كمالات الله ما لا يشهده إلا المقربون، الذي رضي الله عنهم، ورضوا عنه246.
فذكر الله لك أيها العبد أعظم من ذكرك له، وأكبر من ذكرك له، وأشرف من ذكرك له، وذكر الله تعالى امتلاء النفس بعظمته وقدرته وجلالته، والإحساس بنعمه الظاهرة والباطنة، وليس ذكره جلت قدرته بترديد اللسان فقط، بل إن الذكر طاعة لله، فمن أطاع الله فقد ذكر الله، ومن لم يطعه فليس بذاكر، وإن أكثر التسبيح وتلاوة الكتاب، قال أبو جعفر: «يعني: -تعالى ذكره- بذلك: فاذكروني أيها المؤمنون بطاعتكم إياي فيما آمركم به، وفيما أنهاكم عنه، أذكركم برحمتي إياكم ومغفرتي لكم»247.
ثانيًا: الحصول على المغفرة والأجر العظيم:
ومن فوائد الذكر: المغفرة، ودخول الجنة، قال تعالى: (ﮢ ﮣ ﮤ) إلى قوله: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [الأحزاب: ٣٥].
فالذاكرون الله بقلوبهم وألسنتهم وجوارحهم والذاكرات كذلك أعد الله لهم مغفرة لذنوبهم، و(ﯟ ﯠ) يعني: ثوابًا في الآخرة على ذلك من أعمالهم عظيمًا؛ وذلك الجنة248. وعطف (ﯚ) أي: كذلك في الحكم، فليس هذا الحكم خاص بالرجل فقط، ففي الآية الكريمة تسوية بين الرجل والمرأة في مقام التكليف والجزاء.
(ﯛ ﯜ ﯝ) أي: لهؤلاء الموصوفين بتلك الصفات الجميلة، والمناقب الجليلة، التي هي ما بين اعتقادات وأعمال قلوب، وأعمال جوارح، وأقوال لسان، ونفع متعدٍ وقاصر، وما بين أفعال الخير وترك الشر الذي من قام بهن فقد قام بالدين كله، ظاهره وباطنه، بالإسلام والإيمان والإحسان، فجازاهم على عملهم بالمغفرة لذنوبهم؛ لأن الحسنات يذهبن السيئات (ﯟ ﯠ) لا يقدر قدره إلا الذي أعطاه، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، نسأل الله أن يجعلنا منهم249.
وهذه الصفات الكثيرة التي جمعت في هذه الآية تتعاون في تكوين النفس المسلمة، فهي الإسلام والإيمان والقنوت والصدق والصبر والخشوع والتصدق والصوم وحفظ الفروج، وذكر الله كثيرًا، ولكل منها قيمته في بناء الشخصية المسلمة. وبقية ألفاظ الآية في غاية البيان والوضوح.
ثالثًا: الفلاح:
ومن فوائد الذكر: الحصول على الفلاح، وهو الفوز بالمطلوب، والنجاة من المرهوب.
قال تعالى: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) [الجمعة: ١٠].
وقال: (ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) [الأنفال: ٤٥].
وقد علم الله عباده هنا في هذه الآية الثانية إذا التقوا بالفئة -وهي الجماعة من المحاربين- نوعين من الأدب: الأول: الثبات، وهو أن يوطنوا أنفسهم على اللقاء ولا يحدثوها بالتولي، والثاني: أن يذكروا الله كثيرًا، وفي تفسير هذا الذكر قولان:
القول الأول: أن يكونوا بقلوبهم ذاكرين الله، وبألسنتهم ذاكرين الله، قال ابن عباس رضي الله عنهما: «أمر الله أولياءه بذكره في أشد أحوالهم تنبيهًا على أن الإنسان لا يجوز أن يخلي قلبه ولسانه عن ذكر الله، ولو أن رجلًا أقبل من المغرب إلى المشرق ينفق الأموال سخاء، والآخر من المشرق إلى المغرب يضرب بسيفه في سبيل الله كان الذاكر لله أعظم أجرًا».
والقول الثاني: أن المراد من هذا الذكر الدعاء بالنصر والظفر؛ لأن ذلك لا يحصل إلا بمعونة الله تعالى 250.
والآية محتملة للمعنيين.
وهنا أيضًا قال: (ﯲ) أي: ذكرًا كثيرًا. وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: (ﯰ ﯱ ﯲ) قال: «لا يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل لها حدًا معلومًا، ثم عذر أهلها في حال عذرٍ، غير الذكر، فإن الله لم يجعل له حدًا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدًا في تركه إلا مغلوبًا على عقله، فقال: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [النساء: ١٠٣].
بالليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسر والعلانية، وعلى كل حالٍ»251.
(ﯳ ﯴ) يقول: كيما تنجحوا فتظفروا بعدوكم، ويرزقكم الله النصر والظفر عليهم252؛ لأن مقاتلة الكافر إن كانت لأجل طاعة الله تعالى كان ذلك جاريًا مجرى بذل الروح في طلب مرضاة الله تعالى، وهذا هو أعظم مقامات العبودية، فإن غلب الخصم فاز بالثواب والغنيمة، وإن صار مغلوبًا فاز بالشهادة والدرجات العالية، أما إن كانت المقاتلة لا لله، بل لأجل الثناء في الدنيا، وطلب المال لم يكن ذلك وسيلة إلى الفلاح والنجاح253.
فالفلاح في هذه الآية له أوجه:
أحدها: على رجاء الفلاح.
والثاني: أي: لكي تفلحوا.
والثالث: على قطع وجوب الفلاح إذا فعل ذلك؛ بما قالوا: إن (لعل) و(عسى) من الله تعالى واجبة254.
والحاصل: أن (ﯴ) مضارع (أفلح الرجل يفلح فهو مفلح): إذا نال الفلاح، والفلاح يطلق في لغة العرب إطلاقين معروفين مشهورين:
أحدهما: تطلق العرب الفلاح بمعنى الفوز بالمطلوب الأكبر، فكل من فاز بالمطلوب الذي كان يهتم به جدًا، وهو من أكبر مطالبه، تقول العرب: أفلح هذا، أي: فاز بما كان يطلب، وهذا معنًى معروف في كلام العرب.
الإطلاق الثاني: هو إطلاق العرب الفلاح على البقاء السرمدي في النعيم، فالعرب تقول: أفلح هذا: إذا كان باقيًا خالدًا في نعيم سرمدي، وهذا المعنى معروف مشهور في كلام العرب أيضًا.
والمقصود: أن من أطاع الله جل وعلا وذكره كثيرًا نال الفلاح بمعنييه، ففاز بمطلوبه الأكبر، وهو الجنة ورضا الله، ونال البقاء السرمدي الأبدي في نعيم الجنات.
وهذه الآية الكريمة تدل على أن الذين إذا لقوا فئة من فئات الكفار في ميدان القتال ولم يثبتوا أو لم يذكروا الله كثيرًا أنهم لا يفلحون، وهو كذلك؛ لأن النصر من الله، كما قال تعالى: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [الأنفال: ١٠].
قال في بدر: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ) [آل عمران: ١٢٦].
مع أنه أنزل ملائكة السماء ناصرين، يعني: لا تظنوا أن الملائكة ينصرونكم، الناصر هو الله وحده جل وعلا؛ ولذا قال: (ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) [الأنفال: ٤٥]255.
والخلاصة: إننا أمرنا بالذكر على كل حال نكون عليها في الحرب، كما يدل على ذلك السياق، فأجدر بأن نؤمر به في حال السلم، إلى أن المؤمنين في جهاد مستمر، وحروب دائمة، فهم تارة يجاهدون الأعداء، وأخرى يجاهدون الأهواء، ومن ثم أمرهم الله بالذكر في كثير من الآي256.
وعن كعب الأحبار قال: «ما من شيء أحب إلى الله من قراءة القرآن والذكر؛ ولولا ذلك ما أمر الناس بالصلاة والقتال، ألا ترون أنه قد أمر الناس بالذكر عند القتال؟ فقال: (ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) [الأنفال: ٤٥]»257.
رابعًا: النجاة من البلاء:
ومن فوائد الذكر: النجاة من البلاء، قال تعالى: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [الصافات: ١٤٣-١٤٤].
يقول تعالى ذكره: (ﮠ ﮡ) يعني: يونس عليه السلام (ﮢ ﮣ ﮤ) من الذاكرين الله قبل ذلك، وكان عليه السلام كثير الذكر، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «من المصلين»، وقال وهب: «من العابدين»، وقال الحسن: «ما كانت له صلاة في بطن الحوت، ولكنه قدم عملًا صالحًا»، وقال الضحاك: «شكر الله تعالى له طاعته القديمة»، وقيل: فلولا أنه كان من المسبحين في بطن الحوت، قال سعيد ابن جبير: «يعني: قوله: (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [الأنبياء: ٨٧]»258. وكل الأقوال صحيحة.
قال سلمان الفارسي رضي الله عنه: «إن العبد إذا كان له دعاء في السر، فإذا نزل به البلاء قالت الملائكة: عبدك نزل به البلاء، فيشفعون له فينجيه الله، فإذا لم يكن له دعاء قالوا: الآن فلا تشفعون له»، بيانه: لفظة فرعون: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ) [يونس: ٩١]259.
والمقصود: أن من فوائد الذكر النجاة من الكروب، كما ذكر الله من حال يونس عليه السلام أنه كان من الذاكرين الله قبل البلاء، فذكره الله في حال البلاء، فأنقذه ونجاه.
خامسًا: اطمئنان القلوب:
ومن فوائد الذكر: حصول الطمأنينة، وقد مدح الله قومًا اطمأنت قلوبهم بذكره، وفي الذكر وجدوا سلوتهم، وبالذكر وصلوا إلى صفوتهم.
قال تعالى: (ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ) [الرعد: ٢٨].
قوله: (ﰒ ﰓ) أي: تسكن قلوبهم، وتستأنس بذكر الله260.
وفي هذا الذكر قولان:
أحدهما: أنه القرآن؛ لأنه يسمى ذكرًا، كما قال تعالى: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ) [الأنبياء: ٥٠].
وقال سبحانه: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ) [الحجر: ٩]. لأنه آية بينة تسكن القلوب، وتثبت اليقين فيها.
والثاني: ذكر الله على الإطلاق.
وفي معنى هذه الطمأنينة قولان:
أحدهما: أنها الحب له والأنس به.
والثاني: السكون إليه من غير شك، بخلاف الذين إذا ذكر الله اشمأزت قلوبهم، والمعنى: تطمئن القلوب التي هي قلوب المؤمنين؛ لأن الكافر غير مطمئن القلب261.
والمعنيان مرادان، ولا تعارض بينهما، فذكر الله تسبيحه وتهليله وتكبيره، ويحتمل أن يكون المراد به القرآن.
قال السعدي: «ثم ذكر تعالى علامة المؤمنين، فقال: (ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ) أي: يزول قلقها واضطرابها، وتحضرها أفراحها ولذاتها (ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ) أي: حقيق بها وحريٌ أن لا تطمئن لشيء سوى ذكره، فإنه لا شيء ألذ للقلوب، ولا أشهى ولا أحلى من محبة خالقها، والأنس به ومعرفته، وعلى قدر معرفتها بالله ومحبتها له يكون ذكرها له، هذا على القول بأن ذكر الله ذكر العبد لربه، من تسبيح وتهليل وتكبير وغير ذلك.
وقيل: إن المراد بذكر الله كتابه الذي أنزله ذكرى للمؤمنين، فعلى هذا معنى طمأنينة القلوب بذكر الله: أنها حين تعرف معاني القرآن وأحكامه تطمئن لها، فإنها تدل على الحق المبين المؤيد بالأدلة والبراهين؛ وبذلك تطمئن القلوب، فإنها لا تطمئن القلوب إلا باليقين والعلم؛ وذلك في كتاب الله، مضمون على أتم الوجوه وأكملها، وأما ما سواه من الكتب التي لا ترجع إليه فلا تطمئن بها، بل لا تزال قلقة من تعارض الأدلة، وتضاد الأحكام»262.
وعدل إلى صيغة المضارع؛ لإفادة دوام الاطمئنان واستمراره (ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ) أي: بذكره دون غيره تسكن القلوب أنسًا به، واعتمادًا عليه، ورجاء منه، وقدر بعضهم مضافًا، أي: بذكر رحمته ومغفرته، أو بذكر دلائله الدالة على وحدانيته263.
واختير المضارع في (ﰒ) مرتين لدلالته على تجدد الاطمئنان واستمراره، وأنه لا يتخلله شك ولا تردد.
وافتتحت جملة (ﰏ ﰐ ﰑ) بحرف التنبيه اهتمامًا بمضمونها، وإغراء بوعيه، وهي بمنزلة التذييل لما في تعريف القلوب من التعميم، وفيه إثارة الباقين على الكفر على أن يتسموا بسمة المؤمنين من التدبير في القرآن؛ لتطمئن قلوبهم، كأنه يقول: إذا علمتم راحة بال المؤمنين، فماذا يمنعكم بأن تكونوا مثلهم؟! فإن تلك في متناولكم؛ لأن ذكر الله بمسامعكم264.
إذن تطمئن القلوب بإحساسها بالصلة بالله، والأنس بجواره، والأمن في جانبه وفي حماه، تطمئن من قلق الوحدة، وحيرة الطريق، بإدراك الحكمة في الخلق والمبدأ والمصير، وتطمئن بالشعور بالحماية من كل اعتداء، ومن كل ضر، ومن كل شر إلا بما يشاء، مع الرضا بالابتلاء والصبر على البلاء، وتطمئن برحمته في الهداية والرزق والستر في الدنيا والآخرة (ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ) ذلك الاطمئنان بذكر الله في قلوب المؤمنين حقيقة عميقة يعرفها الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم، فاتصلت بالله، يعرفونها ولا يملكون بالكلمات أن ينقلوها إلى الآخرين الذين لم يعرفوها؛ لأنها لا تنقل بالكلمات، إنما تسري في القلب فيستروحها، ويهش لها، ويندى بها ويستريح إليها، ويستشعر الطمأنينة والسلام، ويحس أنه في هذا الوجود ليس مفردًا بلا أنيس، فكل ما حوله صديق؛ إذ كل ما حوله من صنع الله الذي هو في حماه.
وليس أشقى على وجه هذه الأرض ممن يحرمون طمأنينة الأنس إلى الله، ليس أشقى ممن ينطلق في هذه الأرض مبتوت الصلة بما حوله في الكون؛ لأنه انفصم من العروة الوثقى التي تربطه بما حوله في الله خالق الكون، ليس أشقى ممن يعيش لا يدري لم جاء؟ ولم يذهب؟ ولم يعاني ما يعاني في الحياة؟ ليس أشقى ممن يسير في الأرض يوجس من كل شيء خيفة؛ لأنه لا يستشعر الصلة الخفية بينه وبين كل شيء في هذا الوجود، ليس أشقى في الحياة ممن يشق طريقه فريدًا وحيدًا شاردًا في فلاة، عليه أن يكافح وحده بلا ناصر ولا هاد ولا معين، وإن هناك للحظات في الحياة لا يصمد لها بشر إلا أن يكون مرتكنًا إلى الله، مطمئنًا إلى حماه، مهما أوتي من القوة والثبات والصلابة والاعتداد، ففي الحياة لحظات تعصف بهذا كله، فلا يصمد لها إلا المطمئنون بالله265.
سادسًا: مغفرة الذنوب:
ومن فوائد الذكر: مغفرة الذنوب.
قال تعالى: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) [آل عمران: ١٣٥-١٣٦].
فهؤلاء إذا فعلوا فاحشة بادروا إلى التوبة والاستغفار، وذكروا ربهم، وما توعد به العاصين، ووعد به المتقين، فسألوه المغفرة لذنوبهم، والستر لعيوبهم، مع إقلاعهم عنها وندمهم عليها.
(ﮅ) الموصوفون بتلك الصفات (ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) تزيل عنهم كل محذور (ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ) فيها من النعيم المقيم، والبهجة والسرور والبهاء، والخير والسرور، والقصور والمنازل الأنيقة العاليات، والأشجار المثمرة البهية، والأنهار الجاريات في تلك المساكن الطيبات (ﮏ ﮐ) لا يحولون عنها، ولا يبغون بها بدلًا، ولا يغير ما هم فيه من النعيم (ﮒ ﮓ ﮔ) عملوا لله قليلًا، فأجروا كثيرًا، فـ «عند الصباح يحمد القوم السرى»، وعند الجزاء يجد العامل أجره كاملًا موفرًا266.
والمقصود: أنهم حصلوا على هذه المغفرة من الله، والجنات، والخلود فيها بسبب الاستغفار، وهو ذكر من الأذكار.
موضوعات ذات صلة: |
الاستعانة، الاستغاثة، الاستغفار، التسبيح، الحمد، الغفلة |
1 انظر: تهذيب اللغة، الأزهري ١٠/٩٤، مقاييس اللغة، ابن فارس ٢/٣٥٨، تاج العروس، الزبيدي ١١/٣٨٧.
2 الفتوحات الربانية شرح الأذكار النووية ١/٣٩٦.
3 مجموع فتاوى ابن تيمية ١٠/٦٦١.
4 الوابل الصيب من الكلم الطيب ص ٨٩.
5 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، ص٢٧٠- ٢٧٥.
6 انظر: الوجوه والنظائر في القرآن، مقاتل بن سليمان، ص٥١- ٥٥، الوجوه والنظائر، الدامغاني، ص٢١٧- ٢٢٠، نزهة الأعين النواظر، ابن الجوزي ص٣٠١- ٣٠٥.
7 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٣/١٢٥، لسان العرب، ابن منظور ٣/١٩١٤.
8 انظر: القاموس المحيط، الفيروزآبادي ص ٢٢٣، لسان العرب، ابن منظور ٢/٤٧٢.
9 انظر: الصحاح، الجوهري ٦/ ٢٣٣٧، مقاييس اللغة، ابن فارس ٢/٢٨٠.
10 بدائع الفوائد ٣/٩.
11 تفسير المراغي ٩/١٥٦.
12 أحكام القرآن، الجصاص ٤/٢٢٢.
13 التفسير القيم ص ٢٥٩.
14 انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب ٣/١٤٢٦.
15 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٩/٢٤٢.
16 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٧/٣٥٥.
17 المحرر الوجيز، ابن عطية ٢/٤٩٤.
18 البحر المحيط، أبو حيان ٥/٢٦٣.
19 الكشاف، الزمخشري ٢/١٩٢.
20 التفسير القرآني للقرآن، عبدالكريم الخطيب ٥/ ٥٥٣.
21 التفسير المظهري ٣/٤٥٤.
22 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/٥٣٩.
23 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير ٤/٥٧، رقم ٢٩٩٢.
24 أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: (ﯳ ﯴ ﯵ)، ٩/١٢١، رقم ٧٤٠٥.
25 مجموع فتاوى ابن تيمية ١٥/٣٥.
26 أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر ١/١١٥، رقم ٥٥٥، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر، والمحافظة عليهما ١/٤٣٩، رقم ٦٣٢.
27 محاسن التأويل، القاسمي ٥/٢٤٨.
28 الدر المختار، وحاشية ابن عابدين: رد المحتار ٦/ ٣٩٨.
29 انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية ٢١/ ٢٢٦.
30 تصحيح الدعاء ص٩٠-٩٢.
31 الأذكار، النووي ص ٩.
32 انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية ٢١/ ٢٢٦.
33 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٩/٤٢٤.
34 انظر: التصاريف لتفسير القرآن مما اشتبهت أسمائه وتصرفت معانيه ص ١٥٨.
35 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب الدعوات، ٥/٣٢٠، رقم ٣٣٧٧، وابن ماجه في سننه، كتاب الأدب، باب فضل الذكر، ٢/١٢٤٥، رقم٣٧٩٠.
وصححه الألباني في صحيح الجامع ١/٥١٣، رقم ٢٦٢٩.
36 جامع العلوم والحكم، ابن رجب ٢/٥٢٥.
37 الجواهر الحسان، الثعالبي ٣/١١٠، مفاتيح الغيب، الرازي ١٥/٤٤٢.
38 انظر: الفتوحات الربانية ١/١٠٦-١٠٨.
39 التحرير والتنوير ٢٢/٢٤.
40 العذب النمير ٤/٤٦٣.
41 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٩/٤٤١.
42 التسهيل، ابن جزي ١/٣١٩.
43 الجواهر الحسان، الثعالبي ٣/١١٠.
44 الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني ٢/٣٢٩.
45 الكشاف، الزمخشري ١/٤٥٤.
46 الوابل الصيب من الكلم الطيب، ابن القيم ص ٨٨.
47 مجموع فتاوى ابن تيمية ١٠/٥٦٦.
48 إكمال المعلم، القاضي عياض ٨/١٨٩.
49 المنهاج شرح صحيح مسلم، النووي ١٧/١٦.
50 المصدر السابق.
51 البحر المديد، ابن عجيبة ٥/٢٥١.
52 مختصر خليل ص ٣١.
53 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٣١٤.
54 جامع البيان، الطبري ١٥/٤٥٣.
55 الوسيط، الواحدي ٣/١٧٥.
56 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب الدعوات، ٥/٥٣٢، رقم ٣٥١٠.
قال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث ثابت عن أنس».
وضعفه الألباني في ضعيف الجامع ص ١٠٠، رقم ٦٩٩.
57 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر ٤/٢٠٧٤، رقم ٢٦٩٩.
58 سبل السلام ٢/٧٠٠.
59 الأذكار، النووي ص ٨.
60 انظر: الذكر الجماعي بين الاتباع والابتداع، محمد الخميس ص٥٢-٥٣.
61 الأم، الشافعي ١/ ١٥٠.
62 مجموع فتاوى ابن تيمية ٢٢/ ٥١٩.
63 الاعتصام، الشاطبي ١/ ٥٠٦.
64 المدخل، ابن الحاج ١/ ٩١.
65 مجموع فتاوى ابن باز ٣٠/ ٤٤.
66 مجموع فتاوى ورسائل العثيمين ١٦/ ٢٦٨.
67 مجموع فتاوى صالح الفوزان ١/ ٣٠٠.
68الاعتصام ٤/٣١٨.
69 تصحيح الدعاء ص١٣٤.
70 انظر: البدع، ابن وضاح ١/٤٧.
71 أخرجه الدارمي في سننه، ١/١٤٢، رقم٢٢٢.
72 المحكم والمحيط الأعظم ٥/٤٩٩.
73 المصدر السابق ص٥٤٣.
74 منهاج السنة النبوية ٦/٢١٠.
75 تفسير ابن رجب الحنبلي ١/ ١٥٠.
76 مفاتيح الغيب، الرازي ٣/٥٨١.
77 الفروق اللغوية، العسكري ص ٢٣٥.
78 التحرير والتنوير ٤/٩٢.
79 مدارج السالكين ١/٣١٤-٣١٥.
80 مجموع فتاوى ابن تيمية ١١/٦٩٧.
81 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٢٠١.
82 جامع البيان، الطبري ١٣/٥١٣.
83 مفاتيح الغيب، الرازي ١٥/٤٨٠.
84 المصدر السابق ١٨/٣٦٤.
85 مدارك التأويل، النسفي ٢/٦٧.
86 المحرر الوجيز، ابن عطية ٣/١٨٠.
87 تفسير القرآن، العز بن عبد السلام ٢/٨١.
88 مجموع فتاوى ابن تيمية ١١/٦٩٦.
89 المصدر السابق ١١/٦٩٨.
90 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ١٨٤.
91 تفسير ابن رجب الحنبلي ٢/٦٤٩.
92 جامع البيان، الطبري ٦/٢٦٦.
93 الكشف والبيان، الثعلبي ٥/٢٥٧.
94 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التهجد، باب الدعاء في الصلاة من آخر الليل، ٢/٥٣، رقم ١١٤٥، ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه ١/٥٢١، رقم ٧٥٨.
95 مفاتيح الغيب، الرازي ٧/١٦٧.
96 تفسير القرآن، السمعاني ٣/٢١٢.
97 الصحاح، الجوهري ١/٣٧٢.
98 انظر: جامع البيان، الطبري ١/٤٧٤، المحرر الوجيز، ابن عطية ٣/٤٧٢.
99 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود ١/٣٤٨، رقم ٤٧٩.
100 مجموع فتاوى ابن تيمية ١٦/١٢٥.
101 المنار المنيف ص٣٦.
102 تفسير القرآن، السمعاني ٣/٢١٢.
103 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٣٠/٢٧٣.
104 ينظر: الدر المنثور ١/٢٦٩.
105 أخرجه ابن أبي حاتم ١/٨١.
106 تفسير القرآن، العز بن عبدالسلام ١/١١٥.
107 النكت والعيون، الماوردي ١/٩٧.
108 أضواء البيان، الشنقيطي ٧/٥٤٠.
109 المصدر السابق ٧/٥٤١.
110 التحرير والتنوير ١٥/٩.
111 انظر: البرهان في علوم القرآن، الزركشي ١/٣٠، الإتقان في علوم القرآن، السيوطي ٣/٣٨٧.
112 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب الزهد، باب في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو تعلمون ما أعلم) ٤/١٣٤، رقم ٢٣١٢، وابن ماجه في سننه، كتاب الزهد، باب الحزن والبكاء ٢/١٤٠٢، رقم ٤١٩٠.
قال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب».
وحسنه الألباني في صحيح الجامع ١/٤٨١، رقم ١١٢٧.
113 أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء ١/٢٠٣، رقم ٢٢٣.
114 أخرجه أبو داود في سننه، تفريع أبواب الركوع والسجود، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده ١/٢٣٠، رقم ٨٦٩، وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، والسنة فيها، باب التسبيح في الركوع والسجود ١/٢٨٧، رقم ٨٨٧.
115 جامع البيان، الطبري ١/٤٧٢.
116 جامع المسائل، ابن تيمية ٣/٢٩٢.
117 تفسير عبد الرزاق الصنعاني ٢/١٠٣.
118 تفسير ابن أبي حاتم ١٠/٢٣٦٦.
119 جامع المسائل، ابن تيمية ٣/٢٧٨.
120 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٧/٤٦.
121 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التهجد، باب من لم يصل الضحى ورآه واسعًا ٢/٥٨، رقم ١١٧٧، ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة الضحى ١/٤٩٧، رقم ٧١٨.
122 تفسير القرآ ن الكريم، ابن عثيمين، جزء عم ص ١٥٨.
123 التحرير والتنوير ١/٤٠٥.
124 مجموع فتاوى ابن تيمية ٤/٣٣٠.
125 التحرير والتنوير ١١/١٠٣.
126 انظر: تهذيب اللغة، الأزهري ٤/٢٥٢، مختار الصحاح، الرازي ص ٨٠.
127 انظر: تفسير لقرآن العظيم، ابن كثير ١/٤٤.
128 انظر: البدائع ١/١٩، وفتح القدير ١/١٩.
129 التحرير والتنوير ١/١٣٤.
130 الإتقان في علوم القرآن ٣/٣٦١.
131 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، ١/٢٩٦، رقم ٣٩٥.
132 لطائف الإشارات، القشيري ١/٤٥.
133 انظر: غرائب القرآن، النيسابوري ١/٩٥.
134 مفاتيح الغيب، الرازي ٢١/٤٢١.
135 انظر: لطائف الإشارات، القشيري ١/٤٥.
136 غرائب القرآن، النيسابوري ١/٩٥.
137 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، ١/٢٠٣، رقم ٢٢٣.
138 انظر: العين، الفراهيدي ٣/٣٥٣، لسان العرب، ابن منظور ١١/٧٠٥.
139 تاج العروس، الزبيدي ٣١/١٤٩.
140 حاشية الروض المربع شرح زاد المستقنع ١/٢٣، حاشية رقم ٢.
141 انظر: التفسير المظهري ١/٥.
142 انظر: جامع البيان، الطبري ٥/٤٧٨، تفسير السمرقندي ١/٢٢١.
143 جامع البيان، الطبري ١٦/٥٦٧.
144 انظر: جامع البيان، الطبري ٢٠/٤٤٤، الكشف والبيان، الثعلبي ٨/١٠١.
145 أخرجه الطبري في تفسيره ٥/٤٢١.
146 ترتيب الأمالي الخميسية، الشجري ١/١٦.
147 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلاة، باب المساجد في البيوت، ١/٩٢، رقم ٤٢٥، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب الرخصة في التخلف عن الجماعة بعذر، ١/٤٥٥، رقم ٣٣.
148 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب الدعوات، باب ما جاء أن دعوة المسلم مستجابة، ٥/٤٦٢، رقم ٣٣٨٣، وابن ماجه في سننه، كتاب الأدب، باب فضل الحامدين، ٢/١٢٤٩، رقم ٣٨٠٠.
قال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث موسى بن إبراهيم».
وحسنه الألباني في صحيح الجامع ١/٢٤٨، رقم ١١٠٤.
149 تحفة الأحوذي ٩/٣٢٥.
150 الجامع لأحكام القرآن ١٤/٢٣٢.
151 تفسير القرآن العظيم ٦/٤٥٧.
152 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٦٧١.
153 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٢٥/١٨١.
154 روح المعاني، الألوسي ١١/٢٥٥.
155 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٥/١٨٢.
156 فتح الباري، ابن حجر ٨/٥٣٣.
157 حاشية الشهاب على أنوار التنزيل، البيضاوي ٧/١٨٣.
158 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الدعوات، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ٨/٧٧، رقم ٦٣٥٧، ومسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد، ١/٣٠٥، رقم ٤٠٦.
159 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٦٧١.
160 الأذكار، النووي ص ١١٧.
161 تفسير القرآن العظيم ٦/٤٧٩.
162 التفسير الوسيط، طنطاوي ١١/٢٤٣.
163 تفسير المنتصر الكتاني ٢١٠/٣.
164 التفسير القرآني للقرآن، الخطيب ١١/٧٤٨.
165 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، ٢/٥٩٤، رقم ٨٧٠.
166 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٤/٢٣٢.
167 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٢/٩٨.
168 محاسن التأويل ٨/١٠٧.
169 تفسير القرآن العظيم ٦/٤٦٩.
170 روح المعاني، الألوسي ١١/٢٥٥.
171 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه، ١/٢٨٨، رقم ٣٨٤.
172 انظر: أضواء البيان ٨/٢٤٧.
173 في ظلال القرآن، سيد قطب ٥/٢٨٧٩.
174 جامع البيان، الطبري ٢٣/٣٩٥.
175 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٣٠/٦٩٤، واللباب في علوم الكتاب ١٩/٤٨٧.
176 التسهيل، ابن جزي ٢/٤٢٦.
177 جامع البيان، الطبري ١٩/٣٦٦.
178 تفسير السمرقندي ٣/١٠٦.
179 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٦٨٩.
180 في ظلال القرآن، سيد قطب ٥/٢٩٤٣.
181 روح المعاني، الألوسي ١١/ ٣٦٥.
182 لمسات بيانية في نصوص من التنزيل، فاضل السامرائي ص ٧٤١.
183 غرائب التفسير، النيسابوري ٢/٩٤٦، روح المعاني، الألوسي ١١/٣٦٥.
184 إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٧/١٥٢.
185 مجموع فتاوى ابن تيمية ٢٣/٥٦-٦٠.
186 تفسير المراغي ٤/١٣٥.
187 تفسير السمرقندي ١/٢٦٦.
188 انظر: الإكليل في استنباط التنزيل، السيوطي ص ٧٤.
189 تفسير القرآن الكريم، المقدم ٢٨/ ٨.
190 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، باب قوله تعالى: (إن الناس قد جمعوا لكم)، ٦/٣٩، رقم ٤٥٦٣.
191 تفسير المنار ١٠/٦٤.
192 انظر: تفسير ابن رجب الحنبلي ١/٢٧٢.
193 محاسن التأويل، القاسمي ٤/٨٢.
194 زاد المسير ٣/٩.
195 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٠/٢١٣.
196 انظر: روح المعاني، الألوسي ٨/١٨٤.
197 تفسير يحيى بن سلام ١/١٦٩.
198 مفاتيح الغيب، الرازي ٢١/٤٢٠.
199 روح المعاني، الألوسي ٨/١٨٤.
200 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٥/١٢٩.
201 الكشف والبيان، الثعلبي ٦/١٤٢.
202 جامع البيان، الطبري ٣/٤٧٩.
203 مفاتيح الغيب، الرازي ٥/٣٢٩.
204 إرشاد العقل السليم، أبو السعود ١/١٨٠.
205 في ظلال القرآن، سيد قطب ١/١٤٥.
206 إرشاد العقل السليم، أبو السعود ١/١٨٠.
207 النكت والعيون، الماوردي ١/٢١٠.
208 تفسير ابن عرفة ٢/٤٧٠.
209 تفسير السمرقندي ١/١٠٦.
210 تفسير ابن عرفة ٢/٤٧٠.
211 تفسير السمرقندي ١/١٠٦.
212 معالم التنزيل، البغوي ١/١٨٧.
213 مدارك التأويل، النسفي ٣/٣٥.
214 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم ٤/١٩٩٤، رقم ٢٥٧٧.
215 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٥/١٧٢.
216 التسهيل، ابن جزي ٢/١٥٤.
217 غرائب القرآن، النيسابوري ٥/٤٦٨.
218 التفسير القرآني للقرآن، الخطيب ٥/٥٥٣.
219 روح المعاني، الألوسي ٢/١٤٦.
220 انظر: غرائب القرآن، النيسابوري ٣/٣٦٩.
221 التفسير القرآني للقرآن، الخطيب ٩/١٢٩١.
222 مفاتيح الغيب، الرازي ١٥/٤٤٤.
223 فتح القدير، الشوكاني ٢/٣٢٠.
224 البحر المديد، ابن عجيبة ٢/٣٠٠.
225 في ظلال القرآن ٣/١٤٢٦.
226 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٧/٤٠٩.
227 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٢/١١٤.
228 انظر: من بلاغة القرآن في التعبير بالغدو والأصال، محمد دسوقي ص ٥٤.
229 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٧/٣٨٣.
230 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٨١٨.
231 تفسير ابن رجب الحنبلي ١/٦٣٤.
232 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٦٦٥.
233 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب الحث على ذكر الله تعالى، ٤/٢٠٦٢، رقم ٢٦٧٦.
234 اللباب في علوم الكتاب ١٥/٥٥٠.
235 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٥/١٦٩.
236 فتح القدير، الشوكاني ١/١٨٢.
237 الكشف والبيان، الثعلبي ٢/٢١.
238 المصدر السابق ٧/٢٨٣.
239 البحر المحيط ٢/٤٩.
240 المصدر السابق ٢/٥٠.
241 تفسير ابن رجب الحنبلي ١/١٢٨.
242 جامع البيان ٣/٢١١.
243 أخرجه الطبري في تفسيره ٢/٦٩٦.
244 في ظلال القرآن، سيد قطب ١/١٣٩-١٤٠.
245 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الذكر والدعاء والتقرب إلى الله تعالى، ٤/٢٠٦٧، رقم ٢٦٧٥.
246 انظر: التفسير القرآني للقرآن، الخطيب ٧/١١٥.
247 جامع البيان ٣/٢١١.
248 المصدر السابق ٢٠/٢٦٩.
249 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٦٦٥.
250 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ١٥/٤٨٩.
251 أخرجه الطبري في تفسيره ٩/١٦٤.
252 انظر: جامع البيان، الطبري ١١/٢١٣.
253 مفاتيح الغيب، الرازي ١٥/٤٨٩.
254 تأويلات أهل السنة، الماتريدي ١٠/١٤.
255 انظر: العذب النمير ٥/٧٩.
256 تفسير المراغي ٥/ ١٤٣.
257 انظر: تفسير ابن أبي حاتم ٥/١٧١١.
258 انظر: معالم التنزيل، البغوي ٤/٤٧.
259 انظر: الكشف والبيان، الثعلبي ٢/٢٠.
260 جامع البيان، الطبري ١٣/٥١٨.
261 زاد المسير، ابن الجوزي ٢/٤٩٤.
262 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٤١٧.
263 محاسن التأويل، القاسمي ٦/٢٨٢.
264 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٣/١٣٨.
265 في ظلال القرآن، سيد قطب ٤/٢٠٦٠.
266 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ١٤٩.