عناصر الموضوع
الحرية
أولًا: المعنى اللغوي:
تدل مادة (ح ر ر) على معنين رئيسين:
الأول: ما خالف العبودية، وبرئ من العيب والنقص.
الثاني: خلاف البرد1.
فالحُرَّ: خلاف العبد2.
يقال: حرّ الرجل يحرّ من الحرية3 .
ويقال: حَرَّره، أي: أعتقه، والمحرِّر الذي جعل من العبد حرًّا، فأعتقه4.
فالحرية: الخلوص من الشوائب، والقدرة على التصرف بملء الإرادة والاختيار5.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
عرّفها الجرجاني بأنها: «الخروج عن رق الكائنات، وقطع جميع العلائق والأغيار»6.
وعرّفها بعضهم بأنها: «حالة يكون عليها الكائن الحيّ الذي لا يخضع لقهر أو قيد أو غلبة ويتصرّف طبقًا لإرادته وطبيعته»7.
ويرى ابن تيمية أن الحرية محلها القلب، فيقول: «الحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب» ثم يعلل ذلك بقوله: «إن أسر القلب أعظم من أسر البدن؛ فإن من استعبد بدنه واسترق وأسر لا يبالي إذا كان قلبه مستريحًا، بل يمكنه الاحتيال والخلاص، أما إذا كان القلب وهو ملك الجسم رقيقًا مستعبدًا متيّمًا بغير الله، فهذا هو الذل والأسر المحض»8.
وردت مادة (حرر) في القرآن (٧) مرات9.
والصيغ التي وردت هي:
الصيغة |
عدد المرات |
المثال |
المصدر |
٥ |
(ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) [النساء:٩٢] |
الصفة المشبهة |
١ |
(ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) [البقرة:١٧٨] |
اسم المفعول |
١ |
(ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) [آل عمران:٣٥] |
وجاءت الحرية في القرآن بمعناها اللغوي، وهو: الخلوص من الشوائب، والقدرة على التصرف بملء الإرادة والاختيار10، والتحرير: جعل الشيء حرًّا خالصًا11.
العبودية:
العبودية لغة:
مادة (ع ب د) تدلّ لغةً على اللّين والذل، وسمّي المملوك عبدًا؛ لأن فيه معنى الذل والخضوع والطاعة لغيره، وكلمة (العبد) تطلق على الإنسان حرًّا كان أو رقيقًا على معنى أنه مربوبٌ لباريه، وذليلٌ لمولاه جل وعلا 12.
والعبوديّة أصلها الذّلّة13.
العبودية اصطلاحًا:
لا يختلف معنى العبودية اصطلاحًا عن معناه اللغوي، فهي إظهار للتذلل والخضوع14.
الصلة بين الحرية والعبودية:
العبودية خلاف الحرية15.
والحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب، فما استرق القلب واستعبده، فالقلب عبده16.
أولًا: الحرية المقيدة وحدودها:
إننا إذا رجعنا إلى أصل الخلق والمنشأ تبين لنا أن هناك إرادة عليا قادرة خلّاقة أوجدت هذا الإنسان بالشكل والتكوين الذي هو عليه، ومن هنا يتأكد لنا أن إرادة الخلق لم تكن للإنسان وإنما لخالق الإنسان؛ ولهذا فإن الحرية معدومة في هذا الجانب، بمعنى أن الإنسان لم يستشره ربه عن رغبته في أن يوجد في هذه الحياة الدنيا، ولا بالشكل والصورة التي وجد عليها، ولا في اليوم الذي سيولد فيه، أو اليوم الذي سيموت، أو أن يكون سعيدًا أو شقيًّا، ذكيًّا أم غيبًّا، أبيض أم أسود، مرزوقًا أو مقترًا عليه؛ لذلك لا يكون مسئولًا عنها فهي خارجة عن مجال حريته.
وإنما الذي هو ضمن حدود حريته هو ما يمكنه أن يفضّله أو يدركه تحقيقًا لمقصوده؛ لأن العقل البشري هو الذي يعرف حدود الحرية التي أطلقت له؛ ولأن فاقد العقل غير مسئول مطلقًا، وإن تصرفاته لا يبنى عليها حكم إرادي.
وإن ما يوجبه العقل للإنسان من تحرك أو تصرف أو قول، أو إمساك عن ذلك هو ضمن حدود الحرية المعطاة للإنسان، فالمسئولية تترتب على حرية التصرف المنبثقة عن عقل الإنسان، والإرادة تتبع العقل، ولا تكون لمن لا عقل له.
والذات الإلهية أرادت أن نكون فكُنَّا كما أرادت، فهي التي أوجدتنا، وهي أعلم بنا منا نحن بأنفسنا، فأطلقت لنا الحرية فيما يعود علينا بالنفع، وأثابتنا على فعله، ومنعتنا ما يعود علينا بالضرر، وسمّته حدود الله، وحذّرت من تعديها، وعاقبت على تجاوزها، غير أن هذا التقيد لا يشل من انطلاقة الإنسان فيما ينفعه17.
وإنما هو لمصلحته، وإنه لم يأت منع لجانب إلا وكانت المضرة متحققة فيه، إذن الحرية في الإسلام لا تتصور إلا مقيدة؛ لأن الحرية ليست انطلاقًا من القيود؛ بل هي معنى لا يتصور في الوجود إلا مقيدًا، فالحر -كما سبق تعريفه-: هو الشخص الذي تتجلى فيه معاني الإنسانية العالية، الذي يضبط نفسه، ويحترم حقوق الآخرين، ولا يعاملهم إلا بالحسنى، وبما يجب أن يعاملوه به، بل يسمو عليهم بالتسامح، ولا يكون عبدًا لهواه، ولا أسيرًا لشهواته، بل يكون سيد نفسه، مالكًا لزمامها.
فالحرية الحقة لا يمكن أن نتصورها انطلاقًا من كل قيد أو ضابط؛ لأن الانطلاق في جانب تقييد له في جانب آخر18.
ومن هنا كانت حدود الحرية وضوابطها ثابتة لا تقبل التغيير والتعديل من حيث الأصل؛ لأنها قائمة على أساس الشريعة الإسلامية، وهي متصفة بالبقاء والثبات؛ لأن الواضع لها هو الله تعالى، وهو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، في الماضي والحاضر والمستقبل19.
والحرية معنى اجتماعي لا يتصوّر وجوده إلا في مجتمع متكافل يأخذ فيه الآحاد ويعطون، وإذا كانت كذلك فلابد من أن تكون في حدود رسمها المجتمع الفاضل من غير إرهاق نفسي، وفي التشريع الإسلامي هي حدود الله التي وضعها ورسمها لعباده، وحذّرهم من تجاوزها، وهو سبحانه أرحم وأرفق بهم من أنفسهم، ومن أي تشريع وضعي.
قال تعالى: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [الملك: ١٤].
وقال تعالى: (ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ) [فصلت: ٤٠].
وإن الذين يفهمون الحرية أنها انطلاق من كل قيد ولو أضرت بغيرهم هم عبيد لأهوائهم؛ لأنهم لا يرعون حق المجتمع، ولا حق أنفسهم، فلابد أن تأطرهم على الحق أطرًا؛ لأنه من كان عبدًا لنفسه وشهواته أولى به العصا، ولابد من ملاحظة أن القيود الضابطة للحرية هي في أصلها قيود نفسية، وليست قيودًا خارجية ابتداءً، وهي تتكون من حقيقتين:
الأولى: السيطرة على النفس، والخضوع لحكم العقل لا لحكم الهوى.
وثانيهما: الإحساس الدقيق بحق الناس عليه، وإلا كانت الأنانية المفرطة الجامحة.
ومن الإحساس بحق الآخرين ينبعث نور الحياء، والحياء لا يؤدي إلا إلى خير، كما تنبعث منه روح المساواة التي تفرض أن للناس حقوقًا كما لهذا الأناني من حقوق، وأنه ليس لأحد فضل على غيره إلا بعمل الخير، وكف الأذى.
والناس ليسوا سواء في مراعاة حرية الآخرين، فمنهم من يراعي هذه الحقوق، ومنهم من لا يراعيها، أو بعبارة أدق من الناس من هم أحرار بصدق تصرفاتهم، ومنهم من هم عبيد أهوائهم، وهم يحسبون أنهم الأحرار؛ لذلك كان لابد من تقييد حرية بعض الناس بقيود خارجية عن النفس بحكم الأنظمة التي يضعها ولي أمر المسلمين.
وأن التعبير الصادق في معناه أن نقول:
إن هذه حماية للحرية وليست قيودًا لها، وإنما هي قيود للذين انطلقوا غير مراعين لها حقًّا، أي: إن المصلحة في تقييد حرية أمثالهم حفظًا لحريات غيرهم.
ومن هنا نستطيع أن نقول أيضًا: إن القيود لا تكون للحرية إلا إذا ضعف المعنى النفسي، وتجاوز بعضهم على حقوق الآخرين.
وإن وضع الأنظمة والأوامر من خالق البشر، ومجاراة المجتمعات الإنسانية لذلك، ووضعهم ما يضبط تصرفات مواطنيهم، هو من المصلحة التي اقتضتها سلامة التعايش بين الناس، وما اضطر الناس إلى تولية أمير عليهم إلا لمراعاة هذه المعاني في ضبط الأمور، وحجز المتجاوزين لحدودهم عن ذلك، ولو تركوا وهواهم لما استقام أمر الناس، ولما تعايشوا20.
ثانيًا: ضوابط الحرية:
لا شك أن الحدود التي تقف عندها الحرية الإنسانية تبنى عادة على المرجعية التي تقوم عليها، والهدف والغاية التي تصبو إليها، وحين كانت المرجعية التي يقوم عليها مفهوم الحرية في الإسلام هو الوحي المنزل، وكانت الغاية التي تصبو إليها هو تحقيق الأهداف التي أرادها الله من الإنسان، وأهمها تحقيق العبودية لله عز وجل؛ فإن حدود الحرية في الإسلام انسجمت مع هذا النمط الهيكلي...، وارتسمت صورتها مع ما يتوافق معه.
ومجمل تلك الحدود يرجع إلى الضابط الآتي: «هو أن حرية الإنسان تظل مطلقة ما لم تؤدّ إلى الإضرار بدين المسلم وعبوديته لربه، أو إلى عرقلة كمال خضوعه له، وما لم تؤد إلى الإضرار بحياة الإنسان، وإفساد علاقته بالكون، أو بغيره من البشر، ومتى أدت إلى شيء من ذلك فإنه يجب أن تتوقف الحرية، ولا يجوز لها أن تقفز تلك السياج»، إذن فحدود الحرية مركبة من بعدين أساسين، هما:
ومن هنا وضع القرآن الكريم ضوابط للحرية، ويمكن تقسيمها إلى ثلاثة ضوابط:
أولًا: الضوابط العقدية:
وهي التي تتمثل في احترام المسلم لعقيدته هو، وتشمل كذلك احترامه لعقيدة أهل الكتاب، ومن ثمّ تشمل احترام الكتابي لعقيدة المسلم.
١. احترام المسلم لعقيدته.
ومعلوم أن الإسلام قد أوجب على متبعيه احترامه، فقد جعل لهم الحرية قبل الدخول فيه، ولكن إذا اتبعوه فلا يصح لهم الخروج منه، ومن هنا حرّم الإسلام الردة عنه، واعتناق دين آخر غيره، وهذا ما لا يرضاه الحق سبحانه .
قال تعالى: (ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [آل عمران: ١٠٠-١٠٢].
في هذه الآية يتعجب الحق سبحانه، وينكر على من يرتد عن الإسلام إلى الكفر مع قوة أسباب الإيمان، وقطع الكفر.
قال تعالى: (ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ) والتي تدفع الشبه والوساوس، وفيكم الرسول، وهو متمكن من قول الحق فيكم.
وقال تعالى: (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) الآية [البقرة: ٢١٧].
قال الرازي: «لما بيّن تعالى أن غرضهم من تلك المقاتلة هو أن يرتد المسلمون عن دينهم ذكر بعده وعيدًا شديدًا على الردة، فقال: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ) الآية [البقرة: ٢١٧]»22.
فالردة محرمة شرعًا، بل جعل سبحانه عليها عقوبة وهي الخلود في النار.
وتحريم الردة ليس من الحجر على حرية الرأي أو حرية العقيدة؛ لأن الحرية الرئيسة تعطى لغير المسلم قبل اعتناقه للإسلام وهو مخيّر حينها إن شاء دخل فيه، وإن شاء أبى، أما بعد الدخول في الإسلام وأصبح عضوًا في المجتمع المسلم فلا يجوز له أن يخرج من الإسلام بحال من الأحوال.
وخلاصة القول: أن الإسلام أعطى الحرية للمسلمين ولغير المسلمين، واعترف بها كحق إنساني يجب أن يتصف به الإنسان، ولكن لا يعني هذا في عرف الإسلام أن يلغي هذا من حدود الله، أو أن يعدّل بعض قوانين الإسلام إلا أن يجد له استنادًا من النصوص23.
٢. احترام الكتابي لعقيدة الإسلام.
وقد أعطى الإسلام أهل الديانات السماوية الحرية في عدم الدخول في الإسلام بشرط أن يحترموا العقيدة الإسلامية، ولا يتعمدوا إهانة شعائر الإسلام، وأما عن كيفية احترام هذا الدين الإسلامي فكما يلي:
وقد شرع القرآن هذه التشريعات مراعاة لمصلحة الجميع؛ لئلا تثور الفتن والاضطرابات بينهم وبين عوام المسلمين؛ ولئلا يكون في ذلك ترويج لعقائدهم، وتحريف لعقائد المسلمين، وإغراء السفهاء المسلمين على ترك دينهم، واتباع دين النصارى أو اليهود وثم يحكم عليهم بالقتل ردة، فتكون المفسدة أعم24.
٣. احترام المسلم أهل الكتاب.
لقد سمح الإسلام لأهل الكتاب أن يعيشوا في المجتمع الإسلامي بشرط أن يعطوا الجزية.
قال تعالى: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) الآية [التوبة: ٢٩].
فأهل الكتاب في حقيقتهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، وبسبب هذه الأوصاف أوجب الإسلام محاربتهم؛ حتى يذعنوا للإسلام بالدخول فيه، أو دفع الجزية؛ وذلك لإزالة العوائق المادية من جهة؛ ولتحرير الناس من الدينونة بغير دين الحق، على أن يدع لكل فرد حرية الاختيار، ويقصد بذلك كسر شوكة السلطات القائمة على غير دين الحق، وعندها يتم التحرير بضمان كل فرد أن يختار الدين الحق على اقتناع فإذا لم يقتنع بقي على عقيدته، وأعطى الجزية25.
ورغم ذلك فقد منحهم الإسلام الكثير من الحقوق، منها:
ثانيًا: الضوابط الشرعية:
وتتمثل الحدود الشرعية في العقوبات التي شرعها الحق سبحانه -لمصلحة الجماعة- على عصيان أمر الشارع، والمقصود منها إصلاح حال البشر وحمايتهم من المفاسد، وإنقاذهم من الجهل27.
والمقصود من العقوبة أمران: إصلاح المجتمع، وحمايته، ففيها إجراء وقائي وعلاجي في آن واحد.
لقد ضبطت الحرية بالعقوبة؛ لأن الله تعالى منع الناس من بعض الأعمال؛ لأنها تعود بالضرر على الإنسان والإنسانية، ولما كان الإنسان يحب العجلة ولا يفكر في عواقب أمره كان من الممكن أن يفعل هذه الأفعال رغم خطورتها، ورحمة من الله بعباده جعل هذه العقوبات زواجر للناس.
والعقوبات إما أن تكون حدًّا من حدود الله -وعلى الحاكم تنفيذها- كحد الزنا، ويتمثّل في قوله تعالى: (ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) [النور: ٢].
وهذا في حق غير المحصن، وأما المحصن فعقوبته الرجم، كما جاء في الحديث (أن رجلًا ممن أسلم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاعترف بالزنا، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم اعترف فأعرض عنه، حتى شهد أربع مرات، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فرجم)28.
وكحد القذف، ويتمثّل في قوله تعالى: (ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ) [النور: ٤].
لأن القاذف يؤلم المقذوف إيلامًا نفسيًّا، والجلد يؤلمه إيلامًا حسيًّا، فهذا الإيلام يساوي ذاك، ويضاف على إيلامه الحسي عقوبة أخرى معنوية في المجتمع، وهي عدم قبول شهادته؛ لأن القاذف يحقر المقذوف، فاستحل بذلك أن يحقره المجتمع؛ وذلك بعدم قبول شهادته29.
وكحد السرقة، ويتمثّل في قوله تعالى: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [المائدة: ٣٨].
وفائدتها هي أن السارق حينما يفكر في السرقة إنما يفكر في أن يزيد كسبه بكسب غيره، فهو يستصغر ما يكسبه عن طريق الحلال، ويريد أن ينميه عن طريق الحرام، وهو لا يكتفي بثمرة عمله، فيطمع في ثمرة غيره، فإذا قطعت يده أدى ذلك إلى نقص كسبه الذي لا يستحقه30.
وإما أن تكون العقوبات غير الحدود كالتعزيرات، وتشمل القصاص، ويتمثّل في قوله تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) [البقرة: ١٧٨].
والدافع للقتل هو حب التغلب والاستعلاء والتنازع على البقاء، فإذا علم أنه سيقتل فلن يقدم على قتل أخيه، وبهذه العقوبة يتوفر الأمن والاستقرار في المجتمع، ومن ثمّ يتمتع المجتمع بجميع مقومات الحياة؛ لنشر العدالة والسعادة بين الناس.
وأما عقوبة التعزير فقد ثبتت بقوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ) [النساء: ٣٤].
فقد استدل العلماء بهذه الآية على أن التعزير غير محدد؛ إذ لم يحدّد كم مدة الهجران، ولا كم عدد الضرب، بل راجع إلى المصلحة، فمتى ما تحققت امتنع الضرب أو الهجر؛ لقوله تعالى: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) [النساء: ٣٤]31.
وفي قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ) [التوبة: ١١٨].
فقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بمقاطعتهم حتى تاب الله عليهم، ولم تكن المقاطعة عقوبة محددة، ولما كانت التعازير أقل، وضررها أهون، جعلت تحت تصرف القاضي الذي يجب أن يراعي المصلحة العامة للمجتمع.
وكذلك الكفارات، وتتمثّل في قوله تعالى: (ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ) [البقرة: ١٨٤].
وقال تعالى: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ) [المائدة: ٩٥].
وغير ذلك من الآيات التي تشير إلى وجوب الكفارات على المخالفين والمتجاوزين لحدود الله.
ثالثًا: ضوابط اجتماعية:
والضوابط الاجتماعية تتمثل في العادات والأعراف.
والعادة هي: «كل عمل خيرًا كان أو شرًّا يصير عادة تميل النفس إليه، وإجابة هذا الميل بإصدار العمل مع تكرار ذلك»32.
وأما العرف فهو: «ما استقرت عليه النفوس بشهادة العقول، وتلقته الطبائع بالقبول»33.
والعرف وسيلة مهمة وجوهرية وأساسية في الضبط الاجتماعي، وهو يحكم في وجود القانون، وفي عدم وجوده، وتظهر أهميته في رعاية القيم الروحية والاجتماعية34.
وتكمن أهمية العرف في أن الفرد لا يستطيع مخالفة المبادئ المعرفية الموجودة في المجتمع، ولو فعل لتعرض للجزاء الاجتماعي؛ لهذا كان للعرف دورٌ أساس في ضبط الحرية، ولما جاء الإسلام وأقر العادات الحسنة، وخلص المجتمع الجاهلي من العادات السيئة أمرهم بالتزام الحسن، فقال تعالى: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [الأعراف: ١٩٩].
أي: خذ من أخلاق الناس وأعمالهم كل ما هو حسن35.
وقال صلى الله عليه وسلم: (ما رأى المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن)36.
والقاعدة الفقهية المشهورة تقول: «العادة محكمة»37.
وقد اعتبرت العادة العرف مرجعًا في الكثير من المسائل الفقهية، وليس هذا محل تفصيلها، فتراجع في مظانها38.
إذن فللضوابط الاجتماعية دور في ضبط الحرية، فمثلًا مخالفة الآداب الاجتماعية العامة يعتبر مرفوضًا، فالإنسان الذي يخرج من بيته إلى الأماكن العامة لابسًا ما يستر عورته فقط يرفضه المجتمع، ويعتبره شاذًّا، رغم أنه لم يفعل حرامًا.
ثانيًا: الحرية في الاختيار والالتزام:
هذا النوع من الحريات هو الذي انفرد به الإنسان عن سائر المخلوقات، أخذًا من قوله تعالى: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) [الأحزاب: ٧٢].
وتجمع أقوال المفسرين على أن المقصود من الأمانة هنا أنها: (التكليف)، وقبول الأوامر والنواهي بشرطها: وهو أنه إن قام بها أثيب، وإن تركها عوقب، فقبلها الإنسان على ضعفه وجهله وظلمه إلا من وفقه الله، والله المستعان39.
وهذا التكليف للإنسان فيه الخيار وليس الإلزام، أي فيه حرية الاختيار؛ لأن باقي الحيوانات مفطورة على ما أعدها الله له، فلا تستطيع الخروج عن ذلك خلافًا للإنسان الذي له إرادة مستقلة يستطيع بموجبها أن يختار ما يريد.
إنها الإرادة، والإدراك والمحاولة، وحمل المسئولية هي ميزة هذا الإنسان على كثير من خلق الله، وهي مناط التكريم الذي أعلنه الحق سبحانه في قوله: (ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [الإسراء: ٧٠].
وفي أمره للملائكة بالسجود لآدم في قوله: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ) [البقرة: ٣٤].
فليعرف الإنسان مناط تكريمه عند الله، ولينهض بالأمانة التي اختارها، والتي عرضت على السماوات والأرض والجبال (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) [الأحزاب: ٧٢]40.
ويقول تعالى: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [فصلت: ١١].
فمن هذه الآيات نجد أن السماوات والأرض وهما أكبر أجرام الكون أطاعتا أمر الله دون تردد، ولم تتمردا على أمره؛ لأنهما لم تقبلا بالخيار: أي: تحمل الأمانة، أما الإنسان فإنه على خلاف ذلك، فقد كان له الحق في الخيار؛ وذلك على مسئوليته الشخصية فمن البشر من آمن بحريته دون إكراه أو إلزام، ومنهم من كفر بحريته واختياره.
قال تعالى: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) [الحج: ١٨].
فهذه الآية تجمع في مضمونها أنواع المخلوقات جميعها بما في ذلك الناس؛ لأن النص ورد بصيغة الجمع، أي: كل من في السموات ومن في الأرض دون استثناء، ومنها مخلوقات الله المشاهدة للإنسان مثل: الشمس والقمر والنجوم...
فهذه المخلوقات باستثناء الإنسان تسجد لله دون تردد؛ لأنها مفطورة على الطاعة، وليس لها خيار في غير ذلك.
أما الناس فكثير منهم أطاع الله سبحانه بالسجود والامتثال لأمره بحريته واختياره، وكثير منهم اتبعوا طريق الشيطان فامتنعوا عن السجود دون إكراههم على ذلك، وهو القادر سبحانه؛ لأنه لو أكرههم لما كان لهم حق الاختيار، ولما كانت لهم حرية قبول تحمّل المسئولية أو التكاليف التزامًا واجتنابًا41.
وهنا ينشأ سؤال مهم وهو: هل الحرية فطرة أم مكتسبة؟
يقول ابن تيمية: «الحرية فطرة في النفس البشرية، ولدت مع خلافة الإنسان في الأرض، وتحمّله للأمانة دون السماوات والأرض والجبال.
قال تعالى: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) [الأحزاب: ٧٢].
وهي من الصفات التي اختص بها الإنسان كالعقل والعلم والتفكير التصوري»42.
فهي نعمة عظمى على الإنسان، لكن في الناس من يسيئون استخدامها، ربما عن عمد، وربما عن جهل، كأولئك الذين يريدون الحياة فوضى باسم الحرية، أو يعمدون إلى نشر الرذيلة، وإشاعة الفاحشة في المجتمع باسم الحرية الشخصية... الخ، ومثل هؤلاء إن لم يأخذ المجتمع على أيديهم أوشك الله أن يعمهم بعذاب من عنده.
قال تعالى: (ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ) [الأنفال: ٢٥].
يقول ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيرها: «أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين ظهرانيهم، فيعمهم الله بعذاب»43.
ويعضد هذا التفسير ما رواه أبو بكر رضي الله عنه حيث قال: «إنكم تقرؤون هذه الآية: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) [المائدة: ١٠٥].
وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب)»44.
ويقول الدكتور راشد الغنوشي: «إن الحرية في التصور الإسلامي أمانة، أي: مسئولية، ووعي بالحق والتزام به، وإخلاص في طلبه، وتضحية من أجله، تبلغ حد الاستشهاد، نعم إن الحرية بالمعنى التكويني هي إباحة واختيار أو هي فطرة، فقد اختصنا الله بخلقة تملك القدرة على فعل الخير والشر، والسير في أكثر من اتجاه...، وكانت تلك مسئولية، أما بالمعنى الأخلاقي أو التشريعي فهي: (تكيف) حسب عبارة الأصوليين، الحرية: أن نمارس مسئوليتنا ممارسة إيجابية، أن نفعل الواجب طوعًا...، بإتيان الأمر، واجتناب النهي، فنستحق درجة الخلفاء، وأولياء الله الصالحين»45.
ويرى بعض المحدثين: «أنها مكتسبة، وتعلّل لذلك بأن الشخص الذي يولد في أسرة تتمتع بتربية أفرادها على الحرية والاختيار ينشأ حرًّا مختارًا له شخصيته واختياره، ويظهر أثر ذلك في تصرفاته كلها وآرائه؛ وأما الشخص الذي ينشأ في أسرة ترزح تحت نيران الاستعباد والقهر ينشأ خائفًا جبانًا يعتمد على توجيه الآخرين له»46 ولكن يردّ على هذا الرأي بأن عدم ظهور الشخصية كان بسبب ما تراكم عليها من أنواع الظلم والاستعباد، أما إذا تخلص من هذا الاستعباد فسوف ينتج عن ذلك نوع من الاستقلال؛ لذا فحرية الإنسان فطرية، ولكن قسر الإنسان لأخيه هو الذي يكبت هذه الحرية فيؤدي إلى عدم ظهورها.
ويرى الدكتور راشد الحارثي: «أن الحرية لها جانبان: جانب فطري تؤيده مظاهر الحرية، أو في الفطرة، ولها جانب مكتسب وذلك بإبراز هذه الفطرة وتنميتها»47.
قلت: والحرية فطرة وهذا هو الأصل، ولكن يمكن انحراف الإنسان عن أصله وفطرته، إما بعوامل مكتسبة من البيئة، كأن يكون الشخص قد نشأ في بيئة مضطهدة مستعبدة وتريض عليها، فرغمًا عنه يخضع لبيئته، راضيًا بواقعه؛ حفاظًا على حياته، وهذه الصورة ينطبق عليها قوله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)48 الحديث.
وإما بعوامل ذاتية فكرية كأن ينحرف فكر الشخص ولا يهتدي للصواب رغم وضوحه، كما هو حال الكفار مع الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم رغم معرفتهم اليقينية له بأنه الصادق الأمين، وصدق الله إذ يقول: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [الأنعام: ٣٣].
ويقول سبحانه: (ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [القصص: ٥٦].
ثالثًا: الحرية المطلقة والفوضى:
ليس من شك أن الحرية المطلقة تقود إلى فوضى مطلقة، ومن ثمّ لابد من وجود ضوابط صارمة لممارسة الحرية بالطريقة الصحيحة، ولعل من الواضح أن المجتمعات المتخلفة لا تحسن في الغالب ممارسة الحرية بالطريقة الصحيحة، فيخطئ من يجعل الحرية مركبًا يستبيح بها كل شيء دون ضوابط، كما يخطئ من يجعل مقاييسه الشخصية معيارًا يتصرف من خلاله كما يشاء، وإن أخطر ما في الحرية أن يمارسها من لا يعرف حدودها، ولا يحسن استعمالها.
والجدير بالذكر أنه لا يوجد خلاف على أن الاستقرار في الأمة الإسلامية، بل وفي أي أمة يحتاج إلى أمن وأمان، وأن هذا الأمر لا يتحقق إلا في غياب الفوضى بكل مظاهرها؛ ولكي يتحقق ذلك لابد أن يبدأ الأمر بتصحيح السلوك الفردي والجماعي، والإحساس بقدر المسئولية المنوطة بالأعناق؛ لأن الإنسان لبنة في كيان المجتمع، وخير له ولمجتمعه أن يكون لبنة صالحة؛ كي لا يتأثر به الآخرون عن فساده وإفساده؛ لذلك يكون ضرره بنفسه ضررًا بفرد من أفراد المجتمع، كما أن ضرره بالآخرين يوجب مساءلته، فإذا قصّر المجتمع في واجبه تجاه من يريد الضرر به، أو بأحد من أفراده يتحمل هو مسئولية ذلك، وتقع عليه نتائج ما قصّر فيه، وإن تدارك السيئ إلى الأصلح خير من إهماله.
فالمسئولية أمر مجمع على وجوبه، وقد أقرتها الشريعة الإسلامية، بل وسائر المجتمعات البشرية على اختلاف عقائدها وسلوكها، تجمع على إقرارها49.
والمسئولية تكون فردية فيما يتعلق بفرض العين، إذا قصّر به من وجب عليه، ولا يتأثر غيره بتقصيره فيه، وتكون هناك مسئولية جماعية تدخل في مفهوم الفرض الكفائي الذي إذا قام به البعض سقط إثمه عن الآخرين، كما أن درء المفاسد وجلب المصالح هو مسئولية كل فرد كما هو مسئولية الجميع، والمساءلة في ذلك لا شك أنها تكون من الأعلى للأدنى، وليس فوق الإنسان إلا خالقه جل وعلا.
قال تعالى: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) [الأنبياء: ٢٣].
وقال تعالى: (ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ) [الحجر: ٩٢-٩٣].
وقال تعالى: (ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ) [النحل: ٩٣].
وكل إنسان مسئول بمفرده عما صدر منه، ولا يؤاخذ بجريرة غيره، قال تعالى: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ) [الإسراء: ١٥].
وقال تعالى: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) [الطور: ٢١].
والأمة تسأل عما صدر عنها، ولا تسأل عما صدر من غيرها؛ لقوله سبحانه: (ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ) [البقرة: ١٣٤].
والمسئولية هي مناط التكليف.
وقال صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع، وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته، وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده، وهي مسئولة عنهم، وعبد الرجل راع على مال سيده، وهو مسئول عن رعيته، ألا كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته)50.
إذا تقرر ذلك فبدهي أن المسئولية والحرية -من حيث الظاهر- متناقضتان؛ لأن الإنسان لا يكون حرًّا فيما إذا كان مسئولًا، فالحرية كما يتصورها بعض الناس هي الانطلاق من كل مسئولية، أي إن له أن يفعل ما يشاء، وألا يسأل عما يفعل، وهذا أمر لا وجود له في طبائع البشر؛ لأن التصرف الذي يصدر عن الإنسان ويتعدى غيره؛ لابد وأن يكون صاحبه مسئولًا عنه؛ لأن هذا التصرف قد يكون ضارًّا، فهل يقبل أي إنسان أن يصاب بالضرر ولا يكون فاعل ذلك مسئولًا؟!
إن المسئولية منوطة بالشخص ومكانته الاجتماعية، وليس هناك أصدق من قول الرسول صلى الله عليه وسلم حينما عمّم المسئولية بقوله: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته) والحرية لا يمكن أن تكون مطلقة دون قيود؛ لأنها تكون حينئذٍ فوضى وليست حرية، وإنما هي حيوانية انفلاتية.
ومن تقييد الحرية تحميل المسئولية للإنسان عما يصدر عنه، وهنا نجد أن الحرية والمسئولية غير متناقضتين، وإنما هما متعاونتان في تحقيق السلام والوئام، وحسن التعايش بين الأفراد، ولو لم يكن الإنسان مسئولًا لم يكن حرًّا51.
ولهذا وجدنا الأمم جميعها تضع الشرائع والأنظمة لضبط تصرفات أفرادها، وتفرض عليهم الالتزام بها، وعدم الخروج عنها تحت طائلة العقوبة، كما أن العقوبات لم تفرض على مرتكبيها إلا لخروجهم عن الالتزام بهذه النظم، فهي كما يقال: عقوبات رادعة وزاجرة.
يقول الماوردي: «إن الحدود زواجر وضعها الله تعالى للردع عن ارتكاب ما حظر، وترك ما أمر؛ لما في الطبع من مغالبة الشهوات الملهية عن وعيد الآخرة بعاجل اللذة، فجعل الحق سبحانه من زواجر الحدود ما يردع به ذا الجهالة حذرًا من ألم العقوبة...»52.
وإن أبرز عقوبة على ترك الحرية للإنسان في أن يفعل بنفسه ما يريد هي العقوبة على الانتحار، وهذه العقوبة لا تعرفها المجتمعات غير المسلمة، ولكنها عقوبة رادعة وزاجرة لمن يقذف بنفسه إلى الهلاك.
وقد قال تعالى محذّرًا من ذلك: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ) [البقرة: ١٩٥].
وقال صلى الله عليه وسلم: (من قتل نفسه بحديدةٍ فحديدته في يده يتوجّأ بها في بطنه في نار جهنّم خالدًا فيها أبدًا، ومن شرب سمًّا فقتل نفسه فهو يتحسّاه في نار جهنّم خالدًا مخلّدًا فيها أبدًا، ومن تردّى من جبلٍ فقتل نفسه فهو يتردّى في نار جهنّم خالدًا مخلّدًا فيها أبدًا)53 الحديث.
فإذا قيل: إن الإنسان حر في أن يفعل بنفسه ما يشاء، نقول له: إنك لم تخلق نفسك ولا تملك إزهاقها، فإذا تصرفت بما يضر هذه النفس المكرّمة فلابد من تحمّل العقوبة على ذلك؛ ردعًا لمن تسوّل له نفسه أن يفعل بنفسه مثل هذا، وإذا أخذنا مسئولية الوالد في تربية أولاده، تأكد لنا أن مصلحة هؤلاء الأولاد أن يلتزموا بأوامر والدهم، كما أن مصلحة المجتمع تتحقق في مؤاخذة الوالد عن تسيب أولاده؛ لأن عاقبة تصرفاتهم الضارة تعود على المجتمع، ولو أننا قلنا: إن إلزام الوالد لأولاده بما يراه في مصلحتهم ليس تقييدًا لحرياتهم لكنّا كمن يهرف بما لا يعرف، ولأضحكنا منا أصحاب العقول الذين يجمعون على أن في تربية الأولاد ما يكون فيه أخذًا على أيديهم بما يصلح شئونهم ويقيّدهم من بعض الحريات؛ لأن الأولاد كالعود النابت في مهب الرياح إن لم تضع له ما يسنده تقاذفته الريح وأهلكته54.
وكذلك مسئولية ولي الأمر توجب عليه أن يأخذ رعاياه بما يعود عليهم بالنفع المشترك، ومن هنا كانت المسئولية هي صون الحرية من أن تهدد في غير موضعها، أو أن تهان في إساءة فهمها، أو إساءة استعمالها، كما أن فطرة الإنسان اقتضته أن يكون مسئولًا عما تحمّله أو تعهد به أمام خالقه، وإن حريته في التفلت من هذه المسئولية توقعه فيما لا يحمد عقباه؛ لهذا تكون حريته في تكريم هذه الحرية، وعدم تجاوز حريات الآخرين.
وعلى هذا تكون المسئولية مقيّدة للحرية في علاقات الناس بعضهم مع بعض، ما دام الناس يعيشون في ظل نظام يحاسبهم على سيئ أعمالهم55.
رابعًا: شبهات وردود حول الحرية:
يزعم البعض أن إقامة الحدود فيها تضييق على الأقليات من المواطنين، وإكراه لهم أن يأخذوا بخلاف ما تقرره أديانهم ومذاهبهم، وفي هذا سلب للحرية واعتداء على قداستها، وللجواب على هذه الشبه إجمالًا نقول56:
أما عن التفصيل فنقول:
الشبهة الأولى:
إنّ العقوبات الشرعية من جلد وقذف ورجم تعتبر إهدار للآدمية المحرمة، وإيذاء غير مقبول في عصرنا الحاضر، كما أنّ العقوبات تعتبر تدخلًا في الجريمة الشخصية والسلوك الخاص للإنسان، فعقوبة الزاني إذا زنا برضا المجني عليه من مصادرة الحرية، وكذا شرب الخمر.
ويردّ على هذا بالآتي57:
الشبهة الثانية:
عارض بعض شرّاح القوانين الوضعية عقوبة الجلد؛ وذلك لسببين:
ويردّ على هذه الشبهة بالآتي59:
وهكذا نرى أنّ الشريعة الإسلامية قد سبقت القوانين الوضعية في تقرير عقوبة الجلد.
الشبهة الثالثة:
الاعتراضات على الحرية الدينية في الإسلام:
يعترض عادة على الحرية الدينية في الإسلام باعتراضين شهيرين، وهما: الجهاد في سبيل الله، والعقوبة على الردة، وعادة ما يشترك في توجيههما صنفان، وهما: المعارضون لكل الأديان من الملاحدة وغيرهم، وبعض أتباع الأديان الأخرى، وخاصة اليهودية والنصرانية.
وسوف نقف مع كل اعتراض وقفة سريعة موجزة، نكشف من خلالها عن حقيقة الجهاد في سبيل الله، وعن أهدافه وغاياته، وعن حقيقة عقوبة المرتد، وعن أهدافها ومصالحها، ونجيب في كل ذلك عن سؤال منافاتها للحرية بصورة واضحة وجلية.
الاعتراض الأول: مشروعية الجهاد في سبيل الله:
الجهاد في الإسلام معنى واسع جدًّا، فهو يشمل الجهاد باليد، والجهاد باللسان والبيان، والدعوة إلى الحق، وإنكار المنكر، والجهاد بالمال بإنفاقه في سبيل الله، وجهاد النفس على التزام طاعة الله تعالى .
ولكن كون جهاد العدو وقتاله باليد في سبيل الله أمرًا مشروعًا ومأمورًا به فهو من القضايا البدهية في الإسلام، وهو من أوضح الأمور وأجلاها.
وفهم حقيقة الجهاد، وحسن التعامل مع أحكامه ومع النصوص الشرعية التي جاءت في شأنه مبني بشكل أساس على معرفة المراحل التي مر بها تشريعه وإقراره في الإسلام؛ لأنه بإدراك هذه المراحل يدرك الباحث أهداف الجهاد وغايته، ويدرك أيضًا دلالات النصوص المتعلقة به، ويدرك أيضًا التطورات التي مر بها، ومن ثمّ يحسن الاستدلال بكل نص في المحل الذي يناسبه.
ومن أكبر الإشكالات الاستدلالية عند المعاصرين المنكرين لجهاد الطلب هو أنهم أغفلوا تلك المراحل، ولم يراعوا التدرج التشريعي فيه.
وقد أكد عدد كبير من العلماء في التفسير والفقه على أن المراحل التي مر بها تشريع الجهاد في الإسلام هي أربع مراحل أساسية60، وهي:
المرحلة الأولى: مرحلة المنع من الجهاد، وهي المرحلة المكية، وقد قال الجصاص: «لم تختلف الأمة أن القتال كان محظورًا قبل الهجرة»61.
ويدل على هذا حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابًا ل ه أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فقالوا: يا رسول الله إنا كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة، فقال: إني أمرت بالعفو، فلا تقاتلوا)62.
المرحلة الثانية: مرحلة الإذن بالجهاد من غير أمر به؛ وذلك أنه حين هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أذن الله للمؤمنين بقتال من قاتلهم من الكفار، كما جاء في قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ) [الحج: ٣٩].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم! إنا لله وإنا إليه راجعون، ليهلكن، فنزلت: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ) فقال أبو بكر: فعرفت أنه سيكون قتال، قال ابن عباس رضي الله عنهما: فهي أول آية نزلت في القتال»63.
المرحلة الثالثة: مرحلة الأمر بقتال من قاتل المسلمين، والكف عن غيرهم، وقد جاء في هذه المرحلة نصوص كثيرة، وهي أطول المراحل في العهد المدني، ومما جاء فيها قوله تعالى: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) [البقرة: ١٩٠].
وقوله تعالى: (ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [النساء: ٩٠].
المرحلة الرابعة: مرحلة الأمر بجهاد الكفار، ونشر الدعوة الإسلامية، وفرض حكم الشريعة، وكان تشريع هذه المرحلة في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء فيها نصوص كثيرة، ومنها قوله تعالى: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ) [التوبة: ٢٩].
وغيرها وسبق الحديث هذه المراحل.
الشبهة الرابعة:
العقوبة على الردة:
تعدّ عقوبة الردة في الإسلام -مع قضية الجهاد- من أكثر الموضوعات الاعتراضية التي يلوّح بها المخالفون للإسلام والساعون إلى نقده، فتراهم في كل حين وفي كل مناسبة يظهرونها على أنها تمثّل نقصًا وخلـلًا في بنية الإسلام وأحكامه، وأنها مؤشر ودليل على محاربة الإسلام للحرية الدينية في نظرهم.
والمراد بالردة: الخروج من الإسلام، وترك التدين به، سواء كان بالقول أو الفعل أو الاعتقاد.
والإسلام يحرّم هذا الخروج، ويعدّه جريمة من أكبر الجرائم وأفظعها، ويرتّب عليها عقوبة قاسية، هي عقوبة القتل والإعدام بعد الإصرار على ترك التدين به.
وفي بداية الحديث عن عقوبة الردة في الإسلام لابد من التأكيد على أن البحث فيها يكون على ثلاثة مستويات:
أما المستوى الأول: فهو العلة الموجبة للعقوبة، وهي -كما سيأتي الكشف عنه- الخروج من الإسلام، والكفر به، فمجرد أن يخرج الشخص من دائرة الإسلام، ويترك التدين به، فقد قامت به العلة التي توجب إلحاق العقوبة به.
وأما المستوى الثاني: فهو شروط إنزال العقوبة بالشخص المرتد، وفي هذا المستوى يشدّد الإسلام كثيرًا، ويحتاط غاية الاحتياط في إنزال عقوبة الارتداد بالمعيّن، وقد دلت النصوص الشرعية على أنه لا يجوز إنزال العقوبة بالمرتد مباشرة، وإنما لابد من توفر شروط ثلاثة أساسية، هي:
الشرط الأول: أن يظهر الارتداد من الشخص، ويعلنه للآخرين، وأن يثبت ذلك لدى القاضي الشرعي، أما إذا لم يظهره للآخرين، ولم يقم بإعلانه لهم، ولم يثبت لدى القاضي أنه ارتد عن الدين، فإنه لا يجوز إقامة الحد عليه، ويعامل معاملة المسلمين في الظاهر، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع المنافقين، فإنهم كانوا يقولون الكفر ويفعلونه، وسمع منهم بعض الصحابة كفرهم، ولكنهم لم يكونوا يظهرونه في المجتمع، وينكرونه أمام النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يقم عليهم الحد، وحين أبلغ بعض الصحابة كفرهم إلى النبي عليه الصلاة والسلام لم يأخذهم بمجرد ذلك؛ وإنما تحقق من الأمر، فأنكروا ما نسب إليهم.
ولا يجوز أيضًا التجسس على الأشخاص لمعرفة إذا وقعوا في الردة أو لا ما داموا لم يظهروها، ولا يباح القيام بحملات تفتيشية عنهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك مع المنافقين، مع علمه بوجودهم، وقد روي أن ابن مسعود رضي الله عنه قيل له: هذا فلان يعني الوليد بن عقبة، تقطر لحيته خمرًا -يقصد المتكلم المبالغة في وصف كثرة شربه للخمر- فلو بحثنا عن ذلك الآن وجدناه كذلك، فقال ابن مسعود رضي الله عنه: «إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به»64.
ثم إن الحكم بثبوت الارتداد في حق شخص ما ليس متروكًا لكل أحد، وإنما هو راجع للعلماء والخبراء، وهو حكم قضائي لابد فيه من التأكد من كل الإثباتات الموجبة لثبوت وصف الارتداد في الشخص.
الشرط الثاني: أن يتم التحقق من انتفاء كل الإكراهات والضغوطات والأعراض النفسية والعقلية التي تؤثر على قرارات الشخص السوية، فلا يصح إقامة حد الردة على الشخص؛ حتى يتم التحقق من توفر جميع الشروط، وانتفاء جميع الموانع التي توصل إلى اليقين في ثبوت الكفر والردة في حقه.
الشرط الثالث: أن يراجع الشخص المعلن لردته ويناقش في موقفه الذي اتخذه؛ وذلك عن طريق ما يعرف عند الفقهاء بـ(الاستتابة) والمراد بها: أن يقوم المختصون بمراجعة من وقعت منه الردة، ومناقشته ومحاورته بالطريقة الصحيحة.
والصحيح أن الاستتابة واجبة، وأنه لا يجوز قتل المرتد قبل استتابته، وهو قول جمهور العلماء65، وقد أجمع الصحابة على الأخذ بها66.
الاعتراضات العقلية على عقوبة الردة في نظر المنكرين لها:
أخذ بعض المنكرين لحد الردة يورد اعتراضات عدة، أهمها:
أن العقوبة على الردة، والمنع من إبداء الآراء مهما كانت مخالفتها لنصوص الشريعة ولقطعياتها سيؤدي ذلك إلى ظهور النفاق والمراوغة خوفًا من العقوبة، والنفاق أمر مذموم وقبيح في الدين، بل هو أقبح من الكفر، ومن ثمّ فإن الأوفق للدين -في نظرهم- هو ألا يتعرض لأحد في رأيه، سواء تبنى الإسلام أو دينًا آخر، وسواء وافق قطعيات الدين أو خالفها؛ حتى لا يقع النفاق في المجتمع؛ فوجود الكفر الظاهر أخف من وجود النفاق.
وهذا النوع من الاستدلال لقي انتشارًا كبيرًا، وأمسينا نسمع به في كثير من الحوارات واللقاءات، ولكننا عند التأمل في مضمونه نجده مشتملًا على أخطاء منهجية واستدلالية عدة، تجعله لا يصلح دليلًا لبناء ما بني عليه من رؤى ومواقف67، وبيان ذلك بالأمور الآتية:
الأمر الأول: أن وجود النفاق في مجتمع ما ليس دليلًا على فساد ذلك المجتمع، ولا على فساد أخلاقه ولا نظامه، فلا يشك مسلم في أن أكمل المجتمعات وأعلاها أخلاقًا، وأكثرها التزامًا بتعاليم الإسلام هو المجتمع النبوي، ومع هذا فقد وجد فيه النفاق والمنافقون، وهذا لا يعني أن الإسلام يقصد ويرحّب بوجود ذلك، أو أنه يحثّ عليه، وإنما هو نتيجة طبيعية لقوة نظام الإسلام، ولشدة تمسك المجتمع بشعائر الدين.
وقد تتالت تأكيدات العلماء على أن سبب وجود النفاق في المجتمع النبوي في المدينة راجع إلى خشية المنافقين من العقوبة، سواء كان من النبي صلى الله عليه وسلم، أو من المجتمع الذي تربى على يديه عليه الصلاة والسلام، وفي بيان هذا يقول ابن جرير الطبري عن المنافقين: «وطابقهم سرًّا على معاداة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وبغيهم الغوائل، قومٌ من أراهط الأنصار الذين آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصروه، وكانوا قد عسوا في شركهم وجاهليتهم...، وظاهروهم على ذلك في خفاءٍ غير جهار، حذار القتل على أنفسهم، والسّباء من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وركونًا إلى اليهود لما هم عليه من الشرك وسوء البصيرة بالإسلام، فكانوا إذا لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان به من أصحابه قالوا لهم -حذارًا على أنفسهم-: إنا مؤمنون بالله وبرسوله وبالبعث، وأعطوهم بألسنتهم كلمة الحقّ، ليدرأوا عن أنفسهم حكم الله فيمن اعتقد ما هم عليه مقيمون من الشرك، لو أظهروا بألسنتهم ما هم معتقدوه من شركهم»68.
وينقل ابن تيمية عن الإمام أحمد وغيره تفسيرهم لكون النفاق لم يظهر في مكة، فقال: «قال أحمد وغيره: لم يكن من المهاجرين منافق، وإنما كان النفاق في قبائل الأنصار؛ فإن مكة كانت للكفار مستولين عليها، فلا يؤمن ويهاجر إلا من هو مؤمن، ليس هناك داعٍ يدعو إلى النفاق، والمدينة آمن بها أهل الشوكة، فصار للمؤمنين بها عز ومنعة بالأنصار، فمن لم يظهر الإيمان آذوه، فاحتاج المنافقون إلى إظهار الإيمان مع أن قلوبهم لم تؤمن»69.
فوجود النفاق إذن نتيجة طبيعية لظهور أحكام الإسلام، وقوة تمسك المجتمع به، ولتأكيد الإلزام بتعاليمه وشرائعه.
وقد حاول بعض المعاصرين أن يفسّر وجود النفاق في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لم يكن نتيجة الخوف من العقوبة الشرعية، وإنما نتيجة الخوف من المجتمع.
ولكن هذا التفسير لا ينفعه؛ لأن ذلك المجتمع هو أشرف وأكمل وأنبل مجتمع عرف في تاريخ البشرية، وكان يعيش فيه الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام، فوجود النفاق فيه خشية العقوبة مع إقرار النبي صلى الله عليه وسلم له دليل على أنه ليس نقصًا في حد ذاته.
الأمر الثاني: أن الإسلام في تشريعه للحدود والتعزيرات لم يراع رضا كل الناس بتلك الأفعال التي تترتب عليها العقوبة، وإنما جعل الحدود متعلقة بمجرد الفعل، فقال سبحانه: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [المائدة: ٣٨].
وقال سبحانه: (ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ) [النور: ٢].
وترتب على هذه العقوبة أن عددًا من الراغبين في السرقة والزنى يتخفى بأفعاله الشنيعة، وينافق المجتمع في حاله، فهل هذا يعني أن تلك التشريعات باطلة؛ لأنها أدت إلى حصول النفاق من بعض أفراد المجتمع؟!
الأمر الثالث: أنه لا يخلو نظام في العالم من مبدأ الإلزام، ولا من المعاقبة على المخالفة له، ومن المعلوم أنه ليس كل أفراد المجتمع سيكون راضيًا بما تضمنه النظام؛ ومع ذلك فبعضهم يلتزم به ولا يظهر في العلن مخالفته له، فهل يصح لنا أن نأخذ من هذا فساد فكرة النظام؛ لأنها أدّت إلى حدوث النفاق في المجتمع؟!
ومن يقول: يجب ألا نلزم الناس بشيء من أحكام الشريعة إلا من خلال القانون، ولا نعاقب أحدًا على مخالفته لتعاليم الدين إلا من خلاله هو في الحقيقة يدعو أيضًا إلى النفاق؛ لأن فكرة القانون قائمة على الإلزام، وكثير من أفراد المجتمع لم يرض بفكرة التصويت ولا الانتخاب ولا بالعملية الديمقراطية، فكيف يلزم بها؟! أليس في هذا دعوة إلى النفاق؟!
الأمر الرابع: أن العادة في المجتمعات المتمسكة بتعاليم دينها بشكل جيد أن تكون أعداد المخالفين لأحكام الشريعة فيها قليلة جدًّا، ويمثّلون دائمًا نسبة ضئيلة، وتزداد النسبة قلة في حالة الارتداد والخروج من الدين، فمنع هؤلاء ومعاقبتهم -وهم العدد الأقل- لأجل مصلحة العدد الأكبر والأكثر هو الأولى بالتقديم من جهة العقل ومن جهة الشرع، فحتى لو نافق أولئك العدد القليل من أجل خوفهم من العقوبة، فوقوعهم في النفاق أقل ضررًا في إعلانهم الكفر والردة والفساد في المجتمع المسلم المتمسك بتعاليم دينه.
ثم إن عدم الوقوف ضد الكفر الظاهر سيؤدي إلى انتشار الكفر في المجتمع، والتباس الرؤية على من كان ضعيف التصور من المسلمين، وأما تشريع المنع من انتشاره فإنه وإن كان يؤدي إلى وجود المنافقين، فإن أعدادهم ستكون قليلة، ووجود نفاق قليل أخف بكثير من انتشار الفكر الظاهر في المجتمع المسلم.
ولعل من المستغرب من خلال طرح البعض لهذا الاعتراض أنه يصوّر لك بأن هناك أعدادًا كبيرة في المجتمع المسلم تريد الردة والخروج من الدين، ولكنها امتنعت خوفًا من العقوبة، وأن هذا تسبّب في إحداث النفاق بصورة كبيرة! ولكن الحقيقة أن هذا مجرد تهويل لهذا الاعتراض؛ فإن من يرغب في الخروج من الدين عدد قليل جدًّا، وكلما ازداد المجتمع تمسكًا بالدين وظهرت معالمه قلّت نسبة تلك الفئة؛ فلماذا التهويل إذن؟!70.
أولًا: مجال العقيدة:
لقد دعا الرسل جميعًا أقوامهم إلى عبادة الله دون إجبار، فسيدنا نوح عليه السلام أول أولي العزم من الرسل الذي لبث في قومه يدعوهم إلى التوحيد ألف سنة إلا خمسين عامًا.
قال تعالى: (ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) [العنكبوت: ١٤].
استهزأ به قومه وعيّروه بأنه لم يتبعه إلا من هم ينظرون إليهم بازدراء وسخرية، وكذّبوا به؛ لأنه بشر مثلهم.
قال تعالى: (ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) [هود: ٢٧].
خاطبهم عليه السلام بخطاب الداعية الذي يريد الخير.
قال تعالى: (ﯳ ﯴﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ) [هود: ٢٨].
قال: يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي، والبينة: البرهان والشاهد بصحة دعواه، «وقيل: الرحمة والنبوة، وقيل: الهداية، وقيل: النبوة والحكمة»71 .
ولا مانع من أن تكون كل هذه المعاني من البينة، فقد كان نبيًّا وجاءهم بالبرهان على ذلك، وبما يشهد له صحة دعواه، وبالرحمة التي ينالونها لو اتبعوه، وبالحكمة، ولكن هذا البرهان وهذه الرحمة.
(ﰀ ﰁ) بضم العين وتشديد الميم على قراءة حمزة والكسائي وخلف وحفص، وبفتح العين وتخفيف الميم على قراءة الباقين، وهما بمعنى واحد «لأن العرب تقول: عمّى على الأمر بالتشديد، وعَمِيَ بالتخفيف بمعنى واحد»72، والتشديد يفيد المبالغة في الأمر، فإذا كانت الحجة واضحة ولكنكم لم تهتدوا ماذا نفعل بكم بعد ذلك؟ أنلزمكموها وأنتم لها كارهون؟ أي: أنكرهكم على قبولها، ونجبركم على الاهتداء بها «وهذا الاستفهام للإنكار، أي: لا نفعل ذلك؛ لأنه لا إكراه في الدين»73.
وقد روى الطبري عن قتادة «أنه قال: أما والله لو استطاع نبي الله لألزمها قومه، ولكنه لم يستطع ذلك، ولم يملكه»74.
فهذا الأمر من الأمور التي تتفق فيه الشرائع الدينية الإلهية، فلم يستطع الأنبياء السابقون إكراه أقوامهم لا بسبب قلة العدد أو العدة؛ إذ إن الله قادر على أن يمدهم بالملائكة حتى لا يبقوا على الأرض أحدًا غير مؤمن بهم...، ولكن دعاهم وألان لهم القول، وعاش سنوات عديدة يدعوهم، ولعل نوحًا هو أكثر من عانى؛ إذ دعا قومه ألف سنة إلا خمسين، وهم يزدادون عنادًا وكفرًا وتكذيبًا، فعاقبهم الله سبحانه وتعالى بعد ذلك بالعذاب في الدنيا، ولهم عذاب عظيم في الآخرة، وليس هذا إكراهًا في الدين؛ إذ إنه لو كان إكراهًا لعذّبهم منذ الوهلة الأولى، ولم يستمر نبيهم يدعوهم هذه الفترة الطويلة.
وقال تعالى: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) [مريم: ٤١-٤٧].
ففي هذه الآيات من لطف العبارة في النصح ما يكون نبراسًا للداعية؛ إذ إنه عليه السلام خاطب أباه بالأبوة الدالة على توقيره، ثم أخرج الكلام مخرج السؤال، ولم يقل له: إنك جاهل، بل قال: إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك، ونسب الخوف إلى نفسه دون أبيه، كما يفعل الشفيق الخائف على من يشفق عليه؛ وهذا هو خطاب الأنبياء لأممهم في القرآن، إذا تأملته وجدته ألين خطاب وألطفه75.
فهذه نماذج من دعوات الأنبياء السابقين عليهم أفضل الصلاة وأزكى التسليم لا يريدون تنفير أقوامهم، ولا يخاطبونهم بالشدة والإكراه.
ولقد خلق الله الإنسان وجعل له القدرة على فعل الخير والشر، وجعل له عقلًا يميّز به بين الخير والشر، وحثّه على اختيار الخير، وحذّره من اختيار الشر.
قال تعالى: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [الكهف: ٢٩].
فهذه الآية تعطي الخيار للإنسان أن يختار الطريق الذي يميل إليه قلبه، وتترجم هذا الميل جوارحه، يعمل العمل الصالح الذي يسعد به، أو عمل السوء الذي يشقى به في الدنيا والآخرة.
قال تعالى: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ) [فصلت: ٤٠].
وهذه السور كلها مكية، فهي تخاطب كفار قريش المعاندين المستكبرين، وتخاطب من يأتي بعدهم، ويسير على مناهجهم من المشركين، ولا يدل هذا على استحسان القرآن لما يختارونه، سواء أكان حقًّا أم باطلًا، ولكن فيه تحذير لمصيرهم إذا اختاروا السوء، فلا أحد يجبرهم على شيء، وفي هذه الآيات دليل على ذلك، فهي «تنفي مطلق الإكراه، وتكرّس تكريسًا أبديًّا للحرية التي قام عليها الإسلام»76.
وقد عبّرت هذه الآية بهذا التخيير بعد ما بيّنت أن الحق هو «ما يكون من جهة الله، لا ما يقتضيه الهوى»77، أو هو القرآن78.
وهو أمر للرسول صلى الله عليه وسلم بأن يرد على قومه، ويخاطبهم بهذا الأسلوب «أيها الناس الحق من ربكم، ليس إلي من ذلك شيء، ولست بطارد لهواكم من كان للحق متبعًا، وبالله وما أنزل علي مؤمنًا، فإن شئتم فآمنوا، وإن شئتم فاكفروا، فإنكم إن كفرتم فقد أعد لكم ربكم على كفركم نارًا أحاط بكم سرادقها، وإن أمنتم به، وعملتم بطاعته، فإن لكم ما وصف الله لأهل طاعته»79.
حقًّا إنه تخيير وحرية، لا جبر ولا إكراه، حدد مصير المؤمن، ومصير الكافر، ثم وضع كل ذلك تحت مشيئة الإنسان، والتي لابد أن تتعلق مشيئته بمشيئة الله، فهو ليس له مشيئة منفصلة، وقد اقتضت مشيئة الله هذه الحرية بهذا الشرط والجزاء، من شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، ومع هذا فقد قدّم الإيمان؛ حثًّا للناس على اختياره، وأما في التحذير وبيان مصير الطرفين فقد قدّم مصير الكافر حتى يصاب بالخوف والقشعريرة، ويقر طالبًا بيان الطريق الثاني ومصيره، فلا يدعه عقله إلا اتباعه، والاستقامة على الحق الذي هو من عند الله؛ كي لا تحيط بهم سرادق النار، ولا يشوي وجوههم المهل.
وقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [الإسراء: ١٨-١٩].
فالعاجلة هي الحياة الدنيا، بدليل قوله: (ﭤ ﭥ ﭦ) والذي يريدها سوف ينالها بلا شك، ولكن بالقدر الذي يريده الله سبحانه وتعالى، ولمن يريد سبحانه وتعالى منهم أن يعطيه، أو من يريد التعجيل له. ثم في الآخرة يندم على هذا الاختيار السيئ؛ إذ يلقى في جهنم مذمومًا مدحورًا، وأما الذي يريد الآخرة، ويعمل لتحقيق هذه الرغبة مع توفر الإيمان، فإن الله لا يضيع عمله.
وقد أيدت هذه المنهجية الكثير من الآيات، ومنها الآية الأربعون من سورة فصلت: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ) [فصلت: ٤٠].
يقال: بأنها نزلت في أبي جهل المشرك الطاغية كبير كفار قريش، وعمار بن ياسر الصحابي المستضعف في الجاهلية، أعزه الله بالإسلام «فعمار خير؛ لأنه يأتي آمنًا يوم القيامة، وأبو جهل شر؛ لأنه يلقى في النار»80.
وهناك آيات تبيّن نعم الله سبحانه وتعالى على عباده، وما رزقهم به من الخير، سواء أكان خيرًا معنويًّا، وهو الرشد والهداية والدين الحنيف، أو خيرًا ماديًّا كتسخير الليل والنهار الذي جعلهما الله سبحانه وتعالى خلفة.
قال تعالى: (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [الفرقان: ٦٢].
«يخلف هذا إذا ذهب هذا جاء هذا، أي: خلفه، أو يخالف أحدهما صاحبه»81.
كل هذا خلقه الله سبحانه وتعالى للإنسان؛ لكي يتفكر فيه للوصول إلى معرفة الخالق سبحانه، والإيمان به.
«ومن هذه الآيات آيات تذكّر الناس بما أعدّ لهم يوم القيامة، وبهول الحشر والنشر، وأنه إذا ماتوا فلن يتركوا سدى، بل هناك جنة ونار، نعيم وجحيم، رضوان وسخط، وتذكّرهم كذلك بمصائر الأقوام التي سبقتهم، وما آلوا إليه، ثم تطلق لهم حرية العمل بعد أن توسع آفاقهم بالمعرفة، وتنير ضمائرهم الشخصية الكامنة في الاختيار المناسب، وتحقيق مشيئتهم (ﭹ ﭺ ﭻ) [المدثر: ٥٥].
أي: هذا القرآن قد بلغ في العظمة إلى هذا الحد العظيم، فأي حاجة به إلى أن يقبله هؤلاء الكفار سواء قبلوه أو لم يقبلوه، فلا تلتفت إليهم، ولا تشغل قلبك»82.
(ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) [الإنسان: ٣٩، والمزمل: ١٩].
(ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) [النبأ: ٣٩].أي: مرجعًا.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «فمن شاء الله به خيرًا هداه حتى يتخذ إلى ربه مآبًا»83.
(ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ) [التكوير: ٢٨].
التقدير: إن هو إلا ذكر لمن شاء منكم أن يستقيم، وفائدته إن الذين شاءوا الاستقامة بالدخول في الإسلام هم المنتفعون بالذكر، فكأنه لم يوعظ به غيرهم، ثم بيّن أن مشيئة الاستقامة متوقفة على مشيئة الله، وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين84.
كل هذا واضح وضوحًا لا يشك فيه أحد يريد الحق، أن مشيئة الإنسان أطلق لها العنان في الاختيار، ثم هي التي تتحمل مسئولية هذا الاختيار بلا جبر ولا إكراه، بل هي حرية تامة، وهذا من عظيم رحمة الله، فعلى الإنسان أن يطلب الحق والنجاة؛ كي يوفّقه الله سبحانه وتعالى على الاختيار السليم، ويترك العناد، وطلب الشهوات؛ لئلا يخذله الله، إن الله على كل شيء قدير.
ولا إكراه في الدين، قال تعالى: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ) [البقرة: ٢٥٦].
فعموم الإكراه بشتى أنواعه منهي عنه في الإسلام «فالنفي في (ﯿ ﰀ) بمعنى: النهي»85.
واختلف في سبب نزول هذه الآية، فروى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت المرأة تكون مقلاةً86، فتجعل نفسها إن عاش لها ولد أن تهوّده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا، فأنزل الله عز وجل: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ)87.
وقيل: «إنها نزلت في رجل من الأنصار يكنى أبا الحصين، وكان له ابنان، فقدم تجّار الشام إلى المدينة يحملون الزيت، فلما أرادوا الرجوع من المدينة أتاهم ابنا أبي الحصين فدعوهما إلى النصرانية، فتنصّرا، وخرجا إلى الشام قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قدما المدينة في نفر من الأنصار يحملون الطعام، فأتاهما أبوهما فلزمهما، وقال: والله لا أدعكما حتى تسلما، فأبيا أن يسلما، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر؟! فأنزل الله: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ) فخلى سبيلهما»88.
وأيًّا كان سبب النزول فالآية تفيد فائدة لا مرية فيها أن الدين الإسلامي لا يعتمد على الإكراه والجبر، وخصصنا الدين الإسلامي بذلك «لأن اللام في الدين للعهد، وهو الإسلام، أو أن اللام بدل من الإضافة، والمراد دين الله، كما قال بعض المفسرين»89.
والإكراه هو الحمل على فعل مكروه «والعاقل لا يحتاج للإكراه على الدين، بل يختار تلقائيًّا الدين الحق»90.
ورغم هذا فنرى الآيات الكريمة تخاطب أصحاب العقول، وتثير حفيظتهم لكي ينتبهوا إلى هذا الخطاب الإلهي وهذه الشريعة السمحاء، فيتبعون النبي الكريم.
وهناك سبب آخر يجعل القرآن يقر حرية الاعتقاد، ويجعله يأمر أتباعه بعدم إكراه الغير ألا وهو «أن الدين سلسلة من المعارف العلمية التي تتبعها سلسلة أخرى عملية يجمعها أنها اعتقادات، والاعتقاد والإيمان من الأمور القلبية التي لا يحكم فيها الإكراه ولا الإجبار»91.
وكذلك فقد علّلت نهاية الآية هذا الحكم بقوله تعالى: (ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ) فقد ظهر الهدى والرشد، وظهر الضلال والكفر، والرشد هو «إصابة وجه الأمر ومحجة الطريق، والهدى إصابة الثاني، فهو أخص من الرشد»92.
ولكن القرآن عبر بالأعم وهو الرشد؛ ليشمل الهدى وغيره، وهذا هو أسلوب القرآن الحكيم، وبلاغته العالية: ومن ثمّ دعت الآية المسلمين بالاستمساك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها «أي: لا انقطاع»93، ويكون الاستمساك بالعروة الوثقى هو الاستقامة على طريق الحق القويم.
وهو ما طبّقه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده، وهي «تمثّل قاعدة كبرى من قواعد الإسلام، وركنًا عظيمًا من أركان سياسته، فهو لا يجيز إكراه أحد على الدخول فيه، ولا يسمح لأحد أن يكره أحدًا من أهله على الخروج منه»94.
وقد اختلف المفسرون في حكم هذه الآية هل هو منسوخ أم باقٍ؟ أم مخصوص بأهل الكتاب؟ أم ناسخ لغيره؟ يجدر بنا أن نعرض هذه الآراء بشكل مختصر مع تأييد ما يرجّحه الدليل، ويطمئن إليه القلب:
قيل: إن هذه الآية نسخها أمر الحرب، في قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ) [التوبة: ٧٣].
وقيل: نزلت بسبب أهل الكتاب في أن لا يكرهوا بعد أن يؤدّوا الجزية، أما مشركو العرب فلا يقبل منهم جزية، وليس في أمرهم إلا القتل أو الإسلام، وهو الذي رجحه النحاس95، والطبري96.
وقيل: معنى: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ) «أي: لا تقولوا فيه لمن دخل بعد حرب أنه دخل مكرهًا؛ لأنه إذا رضي بعد الحرب وصح إسلامه فليس بمكره»97.
وقال الرازي: «إن أمر الدين لم يبن على الإجبار والقسر، وإنما بني على التمكين والاختيار»98.
ويقول ابن عاشور: «وعلى هذا تكون الآية ناسخة لما تقدم من آيات القتال، مثل قوله تعالى: (ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊﮋﮌ ﮍ) [التحريم: ٩].
على أن الآيات النازلة قبلها أو بعدها أنواع ثلاثة:
أحدها: آيات أمرت بقتال الدفاع، كقوله تعالى: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ) [التوبة: ٣٦].
وقوله: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ) [البقرة: ١٩٤].
وهذا قتال ليس للإكراه على الإسلام، بل هو لدفع غائلة المشركين.
النوع الثاني: آيات أمرت بقتال المشركين والكفار، ولم تغيّ بغاية، فيجوز أن يكون إطلاقها مقيدًا بغاية آية: (ﮓ ﮔﮕ) [التوبة: ٢٩].
فلا تعارضه آيتنا هذه (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ).
النوع الثالث: ما غُيِّيَ بغاية، كقوله تعالى: (ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ) [البقرة: ١٩٣].
فيتعين أن يكون منسوخًا بهذه الآية وآية: (ﮓ ﮔﮕ) كما نسخ حديث: (أمرت أن أقاتل الناس)99 هذا ما يظهر لنا في معنى الآية، والله أعلم»100.
والقول الثاني هو الذي يؤيده فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد أخذ الجزية من اليهود، وألزم المشركين الإسلام أو القتال، وليس إلزام المشركين الإسلام أو القتال بسبب الإكراه؛ لأننا بيّنا أن من ضوابط الحرية عدم التعارض مع الفطرة، والشرك معارض للفطرة بدون أدنى شك، وكذلك لم يقبل منهم إلا الإسلام بسبب معاندتهم وحربهم للإسلام والمسلمين، ومحاولتهم تدمير دولة المسلمين، فدمّر الله دولتهم، وأزال ملكهم، وكذلك من أسباب قتال المشركين هو شرط توفر المستوى الحضاري للإنسان الذي يميز بين الإسلام والشرك، وهو غير متوفر في مشركي العرب، وأما القول بأن هذه الآية منسوخة فهو لا يؤيده فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك لا يمكننا أن نبطل حكم آية بمجرد أننا لم نستطع تأويلها، فإن الآية التي يمكن حملها على غير النسخ فهو أجدر بها؛ إذ إبقاء الآية على حكمها أفضل من تعطيلها، وكذلك عدم الإكراه هو قاعدة كبيرة تحلى بها الإسلام، وهذه الآية من أوضح الآيات التي تدل على هذه القاعدة.
أما القول الثالث فهو ينبني على تكلف وتفسير بعيد لا يؤيده سبب نزول هذه الآية، وإن كنا لا نقول بخصوص السبب مع عموم اللفظ101.
وأما القول الرابع فهو قول فلسفي في حقيقته، صحيح لا شك فيه، ولكن هذه الآية عملية وليست مجرد اعتقاد، وأما القول الخامس: فهو الذي ذهب إليه ابن عاشور، ويردّ عليه بأن سبب الآية يذكر بأنها نزلت بعد غزوة بني النضير، كما تقدم، وقوله هذا يدل على أنها تأخر نزولها حتى فتحت شبه الجزيرة العربية، ودخل العرب في الإسلام، ثم جاءت هذه القاعدة، وهذا لا دليل له.
وذكر المفسرون في قوله تعالى: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) [يونس: ٩٩].
«أي: أنه لن يؤمن بك، ويقر برسالتك إلا من شاء الله، وإنك لن تستطيع أن تكره أحدًا على اتباعك، ولو حاولت بكل سبيل»102؛ لأن حكمة الله سبحانه وتعالى اقتضت خلق هذا الكائن البشري مستعدًّا للخير والشر، ومنحته القدرة على اختيار هذا الطريق أو ذلك «فالإيمان إذن متروك للاختبار، لا يكره الرسول صلى الله عليه وسلم أحدًا»103.
وقال تعالى: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) [الأنعام: ١٤٨-١٤٩].
هذه الآية تحاور المشركين الذين يدّعون بأنهم مجبورون على الكفر والشرك، ويقولون: إن الله لا يريد إيماننا وإلا لآمنا، فهم ادعوا القسر والإكراه، ولكن الله تعالى يرد شبهتهم هذه، ويقول لهم: إنه لا جبر ولا إكراه، والدليل على ذلك «أن الله عاقب المشركين السابقين لسوء فعلهم، ولو أن أعمالهم السيئة كانت بمشيئة الله لما عاقبهم عليها، وأن الاعتذار بالمشيئة نوع من الكذب على الله، ثم بعد ذلك طالب الله المشركين بدليل على زعمهم: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ) [الأنعام: ١٤٨].
ولو شاء الله أن يجبر الناس لأجبرهم على الهدى، ولن يجبرهم على الكفر؛ لأن الله لا يحب الكفر لعباده، ولكن الناس لهم الحرية في سلوك طريق معين»104.
وقد أرسل الله سبحانه الرسل، وأيدهم بالدليل والحجة، وحذّر وأنذر، وبشّر المؤمنين، كل ذلك لكي يختار الناس الخير والإيمان، ولو شاء أن يجبرهم على الهدى لما عجز عن ذلك، ولكن حكمة الله اقتضت أن يعطي الناس الحرية في الاختيار.
الفرع الثاني: المفارقة القرآنية في الدين:
قد أمر الله رسوله بأن يدعو الناس إلى عبادة الله، وهذه الآيات القرآنية الكثيرة التي تحث على ذلك، والمبيّنة لهم الهدى والضلال، والمبشرة المهتدين بالثواب الجزيل في الدنيا والآخرة، والمنذرة الضالين المضلين بالويل والثبور، والعذاب الأليم يوم القيامة، وبعد ذلك أتت آيات المفارقة، فهذا هو الحق فإن اتبعتموه رشدتم، وإن توليتم فلي ديني، ولكم دين، أنا بريء منكم، وأنتم بريئون مني.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [الكافرون: ١-٦].
هذه السورة مكية105، «نزلت في أفراد متعنتين من كفار قريش، أرادوا مساومة النبي صلى الله عليه وسلم إذ قالوا له: يا محمد اتبع ديننا، ونتبع دينك، نعبد إلهك سنة، وتعبد آلهتنا سنة، فإن كان الذي جئت به خيرًا مما بأيدينا قد شركناك فيه، وأخذنا بحظنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خيرًا ما في يدك قد شركت في أمرنا، وأخذت بحظك، فقال: (معاذ الله أن أشرك به غيره) فأنزل الله هذه السورة، فغدا رسول الله إلى المسجد الحرام، وفيه الملأ من قريش، فقرأها عليهم حتى فرغ من السورة، فأيسوا عند ذلك106.
ولا يهمنا من هؤلاء النفر؟ هل الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب، وأمية بن خلف؟107 أو معهم كذلك أبي بن خلف، وأبو جهل، وابنا الحجاج الذين قتلوا في بدر إلا أن ما يهمنا في هذه السورة هذه المفاصلة في العقيدة، وشدة التمسك بالحق، فهو ليس تجارة دنيوية تتأثر بقضية العرض والطلب إذا دفعوا أكثر فيوافق وإلا فلا، وليس الدين يؤخذ بالهوى، يطاع عامًا، ويرفض عامًا، بل من أراد الدين فليأخذه كاملًا في كل وقت، وإن رفض فإن الله غني عن العالمين «وهذه المفاصلة ضرورية لإيضاح معالم الاختلاف الجوهري الكامل الذي يستحيل معه اللقاء؛ لأن الاختلاف في جوهر الاعتقاد، وأصل التصور، وحقيقة المنهج، فالتوحيد منهج، والشرك منهج آخر، وهذه المفاصلة ضرورية للداعية، وضرورية للمدعوين»108.
ونظرًا لأهمية هذه السورة فقد ذكر بعض العلماء «أنها تعدل ثلث القرآن، وقيل: ربعه»109، وكذلك تعددت أوصاف هذه السورة، فوصفت بأنها سورة المنابذة، ووصفت بسورة الإخلاص110 وإذا نظرنا إلى تركيبة هذه السورة اللغوية نجد أنها تعبّر تعبيرًا لا يجعل مطلق الشك لأحد بمدى حزم القرآن في أن يفاصل المشركين، فقد كرر نفي أن يعبد ما يعبدون مرتين، ونفى أن يعبدوا ما يعبد مرتين، ثم ختم السورة بقوله: (ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [الكافرون: ٦].
إمعانًا في هذا المعنى، وقطعًا لكل من تسوّل له نفسه أن يساوم الرسول صلى الله عليه وسلم، أو أحد الدعاة في عقيدته؛ لذا ذكر في سبب النزول بعد أن أورد السبب «فأيسوا عند ذلك»111 وقد تعددت آراء المفسرين في فوائد هذا التكرار، ولا بأس أن نذكر هذه الآراء مختصرة:
قال الطبري: «لا أعبد ما تعبدون من الآلهة والأوثان الآن، ولا أنتم عابدون ما أعبد الآن، ولا أنا عابد فيما استقبل ما عبدتم فيما مضى، ولا أنتم عابدون فيما تستقبلون أبدًا ما أعبد أنا الآن وفيما أستقبل»112.
وقال أبو حيان ناقلًا عن الزمخشري ومؤيدًا ذلك: «أن الأول للمستقبل، والثانية للماضي»، ثم علق أبو حيان بقوله: «وهذا أبلغ؛ لأن (لا) في الغالب تنفي المستقبل على سبيل المقابلة، والثانية نفيًا للحال؛ لأن اسم الفاعل العامل الحقيقة فيه دلالته على الحال»113 وهذا أبلغ لقطع أطماع الكافرين أن تنفي في المستقبل، ثم في الوقت الحاضر.
وقيل: «للتأكيد، وفائدة التوكيد قطع أطماع الكافرين»114.
وقيل: «لمقابلة قولهم إذ قالوا: تعبد آلهتنا، ونعبد إلهك...، فنفى كلا القولين»115.
وعلى العموم فإن الآيات نفي قاطع بقبول ترك الدين الحق، واتباع الأوثان، وتعليم للدعاة؛ لئلا يرضوا بالمساومة في دين الله، وإن كان الأبلغ ما قاله أبو حيان، ونقله عن الزمخشري: بأن الأول للمستقبل، والثاني للماضي والحاضر؛ لأنه تؤيده الأدلة اللغوية؛ وللمبالغة في قطع أطماع الكافرين.
ولقد ختم هذه السورة بقوله تعالى: (ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [الكافرون: ٦].
ولهذه فوائد عظيمة تؤيد المفاصلة، منها كما ذكره المفسرون:
ثانيًا: مجال الرأي:
تقرر فيما قبل أن الحرية في المفهوم الشرعي هي: التصرف عن محض إرادة واختيار، دون إكراه، وهذا يشمل القول والفعل.
وقد تعرضت كثير من نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية لهذا النوع من النشاط الإنساني، أعني: (التعبير) أو (القول والكلام)، وجاء التوجيه القرآني الكريم بالتزام القول الحسن، وترك ما عداه مما لا فائدة منه، أو مما فيه مضرة في الدين، أو في العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع المسلم.
وقد حدّد القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ضوابط الكلام وآدابه تحديدًا دقيقًا وواضحًا، نجمل شيئًا منه فيما يلي:
الأول: حسن اختيار الألفاظ.
ويدل على ذلك قوله سبحانه وتعالى: (ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ) [البقرة: ١٠٤].
وقوله: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ) [البقرة: ١٥٤].
الثاني: مراعاة مضمون الكلام.
ومنه قوله سبحانه: (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [الأعراف: ٣٣].
وقوله: (ﯦ ﯧ ﯨ) [البقرة: ٨٣].
وقوله: (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [الإسراء: ٥٣].
وقوله عز وجل: (ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) [الأحزاب: ٧٠].
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: «أي: مستقيمًا لا اعوجاج فيه ولا انحراف»118.
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي المسلمين أفضل؟ قال: (من سلم المسلمون من لسانه ويده)119.
وفي الحديث الآخر: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت)120.
الثالث: حسن اختيار التوقيت والتثبت من المعلومة.
قال الله سبحانه وتعالى: (ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [النساء: ٨٣].
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: «إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها، فيخبر بها، ويفشيها وينشرها، وقد لا يكون لها صحة، وقد قال مسلم في مقدمة صحيحه: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع)121.
وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (نهى عن قيل وقال)122، أي: الذي يكثر من الحديث عما يقول الناس من غير تثبت، ولا تدبر، ولا تبيّن.
وفي سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بئس مطية الرجل زعموا)123.
وفي الصحيح124: (من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين)»125.
وقد حرّم الله ورسوله الكذب والغيبة والنميمة وشهادة الزور والسب والشتم والقذف في أدلة ظاهرة معلومة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
ويستفاد من هذه الأدلة وأمثالها أن ممارسة الإنسان للتعبير ليست مطلقة، وإنما هي مقيدة بضوابط ومعايير، كما اتضح في العرض السابق، بل إن مما توحي به تلك النصوص في دلالاتها أن الأصل هو القيد، كما في صدر الآية من قوله سبحانه: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) [النساء: ١٤٨].
وكما في الحديث السابق: (فليقل خيرًا أو ليصمت) ففي حال القول فهو مطالب بقول الخير، فإن لم يكن ذلك فهو مطالب حينئذٍ بالتزام الصمت والسكوت، وهو في كل حال خاضع لرقابة الله عز وجل له: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [ق: ١٨].
ومن خلال ما سبق نخلص إلى القول: بأن حرية الكلام في الإسلام مقيدة وليست مطلقة، وقد يكون القيد فعلًا، أو تركًا، خاصة في حال ما إذا كان الأمر متعلقًا بحماية الدين والدفاع عنه، أو كان متعلقًا بمصلحة الأمة ومقوماتها العلمية والعملية، أو بالمجتمع في عقيدته وأخلاقه ومثله ومصالحه، أو كان متعلقًا بالغير وحقوقهم، ما دام الإنسان قادرًا مستطيعًا.
وما أحوج الإعلامي المسلم لتفهّم مثل هذه المعاني، وهو يتعامل مع المادة الإعلامية التي يقدّمها لجمهوره، وما أحوجه إليها وهو يوازن بين ما ينبغي أن يقال، ومتى يقال، وكيف يقال، وبين ما ينبغي أن يترك، ومتى يترك، وكيفية ذلك؛ حتى لا يضيع الحق العام، وتنتهك حرمات الله والناس بحجة المحافظة على الحقوق الشخصية، ولا يتعدى على حقوق الأفراد بدافع الأنانية والذاتية.
والناظر في واقع المسلمين اليوم يجد خللًا مدمّرًا في النظر إلى حجم حرية التعبير، والتعامل معها، ويجد تعسفًا في فهمها وتجنيًا باسمها على الثوابت والمسلمات، كما يجد خللًا أكبر في حجم وطبيعة القدر المتاح في الدفاع عن الحرية وأهله بحجة المحافظة على الحريات، ولا مخرج من ذلك إلا بالفهم الحقيقي لدين الله عز وجل، والعمل بمقتضى ذلك الفهم عن إيمان ورضا126.
ثالثًا: مجال السلوك:
اختلف الباحثون في تصوير مفهوم الحرية الشخصية؛ وذلك نظرًا لتنوع المجالات التي يتعلق بها هذا النوع من الحرية، واختلاف الاختصاصات التي تهتم بها.
يقول عبد الوهاب خلاف في بيان مفهومها: «أن يكون الشخص قادرًا على التصرف في شئون نفسه، وفي كل ما يتعلق بذاته، آمنًا من الاعتداء عليه في نفس أو عرض أو مال أو مأوى، أو أي حق من حقوقه، على ألا يكون تصرفه عدوانًا على غيره»127.
والحريات الشخصية من أهم أنواع الحريات التي اهتمت بها المواثيق الدولية عن حقوق الإنسان، وكذلك الشريعة الإسلامية، وهي أساس الحريات ولبّها وقاعدتها التي ترتكز عليها، وبتوفر هذه الحرية للإنسان يتوفر لديه الإحساس بآدميته، والشعور بكرامته، وبدونها تفقد الحياة حيويتها ومضمونها الإنساني الكريم.
وقد قيّدت الشريعة الإسلامية الحرية الشخصية، ولم تجعلها مطلقة.
ففي حرية المأكل والمشرب منعت الشريعة من أصناف كثيرة؛ وذلك تحقيقًا لمصلحة الدين؛ كالنهي عن شرب الخمر، وإما تحقيقًا لمصلحة الجسد في صحته أو في طبعه، كالنهي عن أكل النجاسات والمستقذرات، وذوات السموم، وذوات الأنياب والمخالب128.
وكذلك الحال في كل الأبواب والمجالات التي أتاحت فيها الشريعة الحرية الشخصية للإنسان، فإنها لم تجعل ذلك مطلقًا، وإنما قامت بتشريع تقييدات تساعد على استمتاع الإنسان بتلك المباحات على الوجه الأكمل، دون الإضرار بالآخرين.
والشريعة حين شرعت تلك القيود على الحرية لم يكن القصد منها التضييق على الإنسان، ولا إنزال المشقة به، ولا مجرد التحكم في حياته من غير مبرر، وإنما قصدت بها تحقيق المصلحة له ولغيره، وإزالة المفاسد أو تقليلها.
ومن يتأمل في كل التقييدات التي قامت بها الشريعة في مجال الحرية الشخصية يجد القاسم المشترك بينها هو الحرص على عدم وقوع الضرر الديني بالفرد والمجتمع، فإن من حكمة الشارع كما يقول ابن القيم: «رفع الضرر عن المكلفين ما أمكن، فإن لم يكن رفعه إلا بضرر أعظم منه أبقاه على حاله، وإن أمكن رفعه بالتزام ضرر دونه رفعه به»129.
وهناك شواهد كثيرة في النصوص تدل على أن حرية التصرف تنتهي عند إلحاق الضرر بالآخرين.
فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الجلوس في الطرقات، وقال لأصحابه: (إياكم والجلوس على الطرقات) فقالوا: ما لنا بد، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها، قال: (فإذا أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقها) قالوا: وما حق الطريق؟! قال: (غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر)130.
ونهى صلى الله عليه وسلم عن إلقاء الأذى في الطريق، فقال: (اتقوا اللعانين) قالوا: وما اللعانان يا رسول الله؟ قال: (الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم)131.
وأمر صلى الله عليه وسلم باجتناب كل ما يمكن أن يلحق الضرر بالآخرين، فقال صلى الله عليه وسلم: (إذا مرَّ أحدكم في مسجدنا أو في سوقنا ومعه نبل، فليمسك على نصالها بكفه أن يصيب أحدًا من المسلمين منها بشيء) أو قال: (ليقبض على نصالها)132.
وهذا معنى عام، يشمل كل أذى، حسيًّا كان أو معنويًّا.
وفي مجال التملك والاتجار نهت الشريعة عن كل ما يؤدي إلى التضييق على الناس فيها، أو يحدث الخلل والاضطراب في الأسواق، ومن ذلك: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الاحتكار، حيث قال: (لا يحتكر إلا خاطئ)133.
وامتنع النبي صلى الله عليه وسلم عن التسعير حين طلب منه، وقال: (إن الله هو المسعّر)134، ونهى صلى الله عليه وسلم عن تلقي الركبان، وعن أن يبيع حاضر لباد.
ومن حكم هذه التشريعات: إغلاق الأبواب والمنافذ في وجه أي أسلوب يؤدي إلى إلحاق الضرر بالناس في بيعهم وشرائهم.
هناك بعض الأحكام الشرعية يظن بعض الناس أنها تخالف مبدأ الحرية، وأن فيها اعتداء على حريات الناس.
وفي النقاط الآتية نتحدث عن أهم تلك الأحكام، ونبين المقاصد الشرعية منها.
أولًا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصلته بالحرية:
مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مبدأ عظيم في الدين.
كل فرد في المجتمع الإسلامي سواء أكان فردًا عاديًّا أم متقلدًا لمركز في السلطة، تقع على عاتقه مسئولية الالتزام بالتكاليف الشرعية أولًا، وحمل غيره بما أوتي من صلاحية على تنفيذ هذه التكاليف، فليس لأحد في الدولة أن ينفّذ ما عليه من حقوق وواجبات، ثم لا يهمه أمر الآخرين بعد ذلك، بل هو مسئول عن حمل غيره على مراعاة الحقوق والواجبات، وصيانتها من العبث والانتقاص.
قال تعالى: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [التوبة: ٧١].
وقال عز وجل: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [آل عمران: ١٠٤].
«والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجبًا على كل فرد من الأمة بحسبه، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان)»135136.
وهذا المبدأ -الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- مبدأ عظيم جدًّا يؤدي إلى حماية الحقوق والحريات بشكل كبير، ويسهم في خضوع الدولة أفرادًا وسلطة للأحكام الشرعية، ويجعل كل فرد في المجتمع قوّامًا على تنفيذ القانون الإسلامي، ورعاية الحقوق والحريات، وقد نشأ لتطبيق هذا المبدأ ما سمي بنظام الحسبة في الإسلام137.
يقول الإمام الغزالي في ربع العادات من كتابه إحياء علوم الدين: «فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوي بساطه، وأهمل علمه وعمله...، فشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد...، فمن سعى في تلافي هذه الفترة، وسد هذه الثلمة، إمّا متكفلًا بعملها، أو متقلدًا لتنفيذها، مجددًا لهذه السنة الداثرة، ناهضًا بأعبائها، ومتشمرًا في إحيائها، كان مستأثرًا من بين الخلق بإحياء سنة أفضى الزمان إلى إماتتها، ومستبدًا بقربة تتضاءل درجات القرب دون ذروتها»138.
ويقول الإمام الماوردي: «والحسبة من قواعد الأمور الدينية، وقد كان أئمة الصدر الأول يباشرونها بأنفسهم؛ لعموم صلاحها، وجزيل ثوابها»139.
والحسبة عند الفقهاء: أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله140.
وهي إحدى الولايات العامة في الدولة الإسلامية، تولاها أئمة الصدر الأول، حيث كانوا يباشرونها بأنفسهم؛ لعموم صلاحها، وجزيل ثوابها، ثم لما توسع المجتمع أقاموا مؤسسة الحسبة، فتولاها أشخاص أكفاء، خبيرون بأحوال الناس، يمشون في الشوارع والأسواق، ويقتحمون أبواب المحالات العامة، ودواوين الحكومة، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، سواء تعلق الأمر بقيمة من قيم الإسلام منيعة، أو بمصلحة من مصالح الناس معطّلة، لا يتجسسون على الناس، مكتفين بالمنكرات الظاهرة أيًّا كان فاعلها141.
وقد أطلق الفقهاء على من يعيِّنه ولي الأمر للقيام بهذه الولاية اسم المحتسب، وأما من يقوم بها من دون تعيين من ولي الأمر فقد أطلقوا عليه اسم المتطوع، ثم راحوا يفرّقون بين المحتسب والمتطوع142.
وفي العصر الحديث توزعت مهام الحسبة على الجهات الحكومية المختلفة، فملاحظة الأسواق العامة والطرقات، وحماية المواطنين من الاعتداء على أنفسهم وأموالهم تقوم به الشرطة، ومراقبة النظافة والموازين تقوم به البلديات، ومراقبة الصيدلة والصحة والأغذية تقوم به وزارة الصحة، ومراقبة الأسعار والتلاعب بها ومنع الاحتكار تقوم به وزارة التموين أو الاقتصاد، وهكذا143.
ومما تقدم يتبين لنا أن ميدان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واسع جدًّا، يشمل جميع تصرفات الإنسان، سواء ما يتعلق منها بحقوق الله، أو ما يتعلق بحقوق الآدميين، وقد أشار العلماء السابقون إلى هذه السعة، فهذا الإمام الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية يقول: «وإذا استقر ما وصفناه في موضوع الحسبة، ووضع الفرق بينهما وبين القضاء والمظالم، فهي تشتمل على فصلين: أحدهما: الأمر بالمعروف، والثاني: نهي عن المنكر، فأما الأمر بالمعروف فينقسم ثلاثة أقسام: أحدهما: ما يتعلق بحقوق الله تعالى، والثاني: ما يتعلق بحقوق الآدميين، والثالث: ما يكون مشتركًا بينهما»144.
وفي موضع آخر يقول: «وأما النهي عن المنكر فينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: ما كان من حقوق الله تعالى، والثاني: ما كان من حقوق الآدميين، والثالث: ما كان مشتركًا بين الحقين»145.
ثم راح الماوردي يذكر أمثلة على كل قسم من هذه الأقسام بما هو واقع في زمانه ومكانه.
وهذا الإمام أبو حامد يعقد في كتابه (الإحياء) بابًا خاصًّا للحديث عن أمر الأمراء والسلاطين بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وبابًا خاصًّا للحديث عن منكرات العادات المألوفة في زمانه، فذكر منكرات المساجد، والأسواق والشوارع، ومنكرات الضيافة، والمنكرات العامة146.
وهكذا نلاحظ أن العلماء السابقين بحديثهم عن منكرات زمانهم قد استوعبوا المكانة البارزة التي يحتلها مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الحياة الإسلامية، وأدركوا أن هذا المبدأ غير منحصر فقط في إطار المسلكيات الفردية للناس العاديين، وإنما هو عملية تصحيحية وردعية لكل ذي سلطة تحدّثه نفسه بظلم الناس، أو بهضم حقوقهم، كما أدركوا أهمية مسئولية الفرد والجماعة في هذا الميدان.
وهنا تكمن القيمة الحقيقية لهذا المبدأ باعتباره وسيلة شعبية لمقاومة كل الأفعال والتصرفات التي تتنافى مع القيم والتعاليم الإسلامية في كل زمان ومكان، وللدفاع عن كل الحقوق والحريات التي أقرها الإسلام، ليس فقط في جانبها السياسي، وإنما في كل جوانبها التي تمس كرامة الإنسان، فرغيف الخبز المعيب، والسلعة التموينية الفاسدة، والدواء المغشوش، والفحش في الأسعار، وإهدار مصالح الناس في ظل البيروقراطية الفاسدة، والمعاناة الشديدة لحصول الإنسان على مطالبه الضرورية، كلها أمور تجرح كرامة الإنسان، وتحطّ من قدره، بنفس القدر الذي يجرحها إنكار الحق في إبداء الرأي، أو الانتخاب أو الترشيح، أو في القبض والاحتجاز بدون تهمة، أو في المحاكمة غير العادلة، وكلها أمور يكون التصدي لها داخلًا في نطاق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ويظهر لنا من خلال ما تقدم أن الجهات التي تتولى مسئولية القيام به هي: الدولة، والجماعة، والأفراد147.
فالدولة تقع عليها مسئولية إصلاح المجتمع، وحراسة الحقوق بكل أنواعها، ومدافعة الباطل في مختلف صوره وأشكاله، لما تمتلكه من قوة مادية ومعنوية تمكنها من ذلك، وصدق سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، حيث قال: «يزع الناس السلطان أكثر مما يزعهم القرآن»148.
وقد تقررت مسئولية الدولة بعموم قوله تعالى: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [النساء: ٥٨].
وبقوله صلى الله عليه وسلم: (ما من والٍ يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاش لهم إلا حرّم الله عليه الجنة)149.
وجماعة المسلمين تقع على عاتقها مسئولية إعانة الدولة على القيام بواجباتها في حراسة الدين، وسياسة الدنيا به، وذلك من خلال قيامها بمهام النصيحة لأفراد المسلمين وعامتهم، ومراقبة انحرافهم عن تطبيق أحكام الشرع، وزجرهم عن ذلك، وقيامها بالعمل على تثقيف أفراد المسلمين، ونشر الأفكار الإسلامية بينهم، والتي تعالج شئون الأمة الإسلامية السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وأما الأفراد فكل منهم تقع عليه مسئولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب استطاعته، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (من رأى منكم منكرًا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان)150.
وإذا قامت هذه الجهات الثلاث بأمانة المسئولية الملقاة على عاتقها سارت الأمة في طريق الرقي، مصانة من عوامل الهدم والانحطاط الذي هو نتيجة حتمية للانحراف عن شرع الله ودينه الحق.
ثانيًا: العقوبات بالحدود والقصاص والتعزيرات وصلتها بالحرية:
لتشريع العقوبات في الشريعة الإسلامية عدة مقاصد، منها151:
ومن الأمثلة على العقوبات الشرعية التي قصد بها منع وقوع الجريمة: عقوبة الردة عن الإسلام، ومن مقاصدها152:
ومن العقوبات الشرعية ما قصد منها حفظ العقل وصيانته، ومن ذلك عقوبة شرب الخمر.
قال ابن القيم: «إن الله تعالى حرّم الخمر لما فيها من المفاسد الكثيرة المترتبة على زوال العقل»153.
فالإسلام في تحريمه للخمر يستهدف إيجاد شخصية قوية في جسمها ونفسها وعقلها، وما من شك أن الخمر تضعف الشخصية، وتذهب بمقوماتها؛ حيث تذهب العقول، وإذا ذهب عقل الإنسان تحوّل إلى حيوان شرير، وصدر عنه الشر والفساد، فالقتل والعدوان والفحش وإفشاء الأسرار وخيانة الأوطان من آثاره154.
ومن العقوبات التي نصت عليها الشريعة الإسلامية: التغريب155، ومن مقاصدها:
وهكذا نرى أن التغريب وإن كان عقوبة إلا أنه شرع لمصلحة الجاني أولًا، ولصالح المجتمع ثانيًا، وفي عصرنا الحاضر نرى أن كثيرًا من الزناة يهجرون موطن الجريمة مختارين؛ لينأوا بأنفسهم عن الذلة والمهانة التي تصيبهم في هذا المكان156.
ومن العقوبات التي قصد منها زجر الناس عن الاعتداء على أموال الآخرين: عقوبة السرقة.
ولعقوبة السرقة مقاصد، منها:
وقد شرعت الشريعة الإسلامية القصاص في حق القاتل، حفاظًا على حياة الناس.
قال سبحانه وتعالى: (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [البقرة: ١٧٩].
وفائدة القصاص لا تعود إلى أهل القتيل فقط، ولكنّها تعود إلى الجماعة كلها؛ ولذلك صدّر سبحانه وتعالى النص بقوله تعالى: (ﯔ) فالقصاص فائدة عائدة عليكم، وليس انتقامًا تعود فائدته إلى المجني عليه وحده، بل إنّ فائدته تعمّ ولا تخصّ.
وحياة الجماعة ليست في حياة أفراد متنافرين متناحرين، يهدر القوي حق الضعيف، وتحلّ فيها الثارات محل القانون الرادع للعصاة، القاطع الحاسم للشر، إنما حياة الجماعة في الترابط بالمودة الواصلة، والرحمة العادلة، ولا يكون ذلك إلا بالقصاص الذي يسوّي بين الجريمة والعقوبة، وتكون فيه العقوبة من جنس الجريمة، ومماثلة لها تمام التماثل163.
ويقول سبحانه: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [المائدة: ٣٢].
«وقتل نفس واحدة بلا مبرر ولا موجب من قصاص أو دفع فساد عام كجريمة قتل الناس جميعًا، وحماية نفس واحدة في أي صورة من الصور -ومنها القصاص- كأنها استحياء للناس جميعًا؛ ذلك أن الاعتداء على نفس واحدة هو اعتداء على حق الحياة الذي يصون للناس جميعًا حياتهم، فالاستهتار بهذا الحق اعتداء على كل من يدلي به ويتحصن، والمحافظة عليه محافظة على الحق الذي يصون للناس جميعًا حياتهم، فالاستهتار بهذا الحق اعتداء على كل من يدلي به ويتحصن، والمحافظة عليه محافظة على الحق الذي تصان به دماء الناس وأرواحهم»164.
وقد شرعت الشريعة الإسلامية عقوبات تعزيرية، المقصد الأساس منها لا يخرج عن المقاصد العامة للعقوبة؛ من الردع والزجر، والإصلاح والتهذيب.
والمعاصي التي تستوجب التعزير منها ما يعتبر ارتكابًا لمحرّم، ومنها ما يكون تركًا لواجب، والمقصد من التعزير في المحرّمات هو الامتناع عن ارتكابها، وفي الواجب الكفّ عن تركه، بأن يعاقب التارك حتى يؤدي ما يجب عليه، فيجوز أن يعزّر مرة بعد مرة حتى يفعل ما يجب عليه، بالنسبة لغير الجاني فإنّه بتعزير الجاني يمتنع عن ارتكاب المحرّم، أو عن ترك الواجب عليه لعلمه أنّ العقاب في الحالتين ينتظره165.
والشريعة الإسلامية وقد شرع فيها التعزير للزجر والإصلاح إنما قصدت بذلك إيجاد مجتمع صالح تسود فيه المحبة، وترفع عنه البغضاء، وأسباب الكراهة، ويعرف فيه كل مواطن ما له وما عليه، ويعرف فيه طريق الشر واضحًا فيجتنب، وطريق الخير واضحًا فيتبع، فلا يكون فيه مجال للجريمة، وهذا الغرض البعيد من أهم الأغراض التي يتوق إليها اليوم المصلحون والعلماء، وهو واضح في أقوال كثير من الفقهاء، فهم يقولون: إن التعزير محتاج إليه لدفع الفساد، وإخلاء العالم منه، وإزالة المنكر166.
فعقوبة التعزير في الواقع أساس قوي لاستقرار النظام، ودليل واضح على صلاحية تطبيق أحكام الشرع في مختلف البيئات والأزمنة، والشريعة وإن تركت تحديد العقوبة في الجرائم التعزيرية إلى ولي الأمر فإنها قيّدته في ذلك بما يقتضيه حال الجماعة وتنظيمها، والدفاع عن مصالحها في حدود القواعد العامة للشريعة، ومع هذا فالمقصود بعدم التحديد تمكين ولي الأمر من أن يضع من العقوبات ما يتناسب مع حاجة العصر والبيئة، وأن يكون له حق العفو عن المجرم دون مساس بحق المعتدي عليه، كما أن سلطة القاضي واسعة عند التطبيق، فإنه يصح أن يقضي بأقصى العقوبة أو أدناها حسب الظروف المختلفة أو المشدّدة، ومن حق القاضي أن يعزّر المجرم على جرمه سواء تنازل صاحب الحق أم لم يتنازل، وسلطة القاضي من توقيع العقوبات لا يتوقف على دعوى يتقدم بها المجني عليه أو وليه، وإنما يكتفي أن يشعر القاضي بالجريمة عن طريق الدعوى العامة، وليس للمجني عليه أو وليه أن يمنع حكم التعزير أو يوقف تنفيذه؛ لأن الحق ليس خالصًا له، وإنما فيه حق الجماعة، والقاضي إنما يعزره نيابة عن المسلمين عامة167.
موضوعات ذات صلة: |
السياسة، العبادة، العنصرية |
1 مقاييس اللغة، ابن فارس ١/١٨٨.
2 جمهرة اللغة، ابن دريد ١/٩٦.
3 مقاييس اللغة، ابن فارس ١/١٨٨.
4 لسان العرب، ابن منظور، ص١١٨.
5 انظر: المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ١/١٦٥، التعريفات، الجرجاني، ص٨٦.
6 التعريفات، الجرجاني ص٤٣.
7 معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار ١/٤٧٠.
8 العبودية، ابن تيمية ص٦١.
9 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي ص ١٩٧، المعجم المفهرس الشامل، عبد الله جلغوم، ص٤٢٧.
10 انظر: المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ١/١٦٥، التعريفات، الجرجاني، ص٨٦.
11 انظر: التوقيف، المناوي، ص٩٢.
12 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ١/٢٠٦، لسان العرب، ابن منظور ٣/٢٧٩، تاج العروس، الزبيدي ٢/٤١٠.
13 جامع البيان، الطبري ١/١٦١.
14 المفردات، الراغب الأصفهاني ص ٥٤٢.
15 المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية ٢/٥٨٠.
16 انظر: العبودية، ابن تيمية ص٨٨.
17 الإنسان وحريته في الإسلام، محمود بابللي ص١٠٣-١٠٥.
18 في المجتمع الإسلامي، د. محمد أبو زهرة ص١٧.
19 انظر: حرية الرأي في الإسلام، محمد الخطيب ص٤٥.
20 المصدر السابق ص١٣٦-١٣٧.
21 فضاءات الحرية، سلطان العميري ص٨٧.
22 مفاتيح الغيب، الرازي ٦/٣٦.
23 الإسلام وحقوق الإنسان، محمد خضر ص٤٣.
24 غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، يوسف القرضاوي ص٤١-٤٢.
25 حرية الاعتقاد في الشريعة الإسلامية، عبدالله ناصح علوان ص٥٢.
26 الإسلام نظام إنساني، مصطفى صادق الرافعي ص٢٠٢.
27 التشريع الجنائي الإسلامي مقارنة بالقانون الوضعي، عبدالقادر عودة ص٦٠٩.
28 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحدود، باب لا يرجم المجنون والمجنونة، ٨/ ١٦٥، رقم ٦٨١٥، ومسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى ٣/١٣١٨، رقم ١٦٩١.
29 الحماية الجنائية للغرض في الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، عبد العزيز محسن ص٤٠٦.
30 بحوث في جريمة السرقة وعقوبتها في الفقه الإسلامي، علي عبد العال ص ١٩-٢٢.
31 المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، يوسف العالم ص٣٠٨.
32 الأخلاق والعرف، هنية القماطي ص١٣.
33 التعريفات، الجرجاني ص١٥٤.
34 القيم والعادات الاجتماعية، فوزية دياب ص١٨٩.
35 جامع البيان، الطبري ٣/٣٢٦.
36 أخرجه، أحمد في مسنده ٦/ ٨٤، رقم ٣٦٠٠ .
قال الألباني في السلسلة الضعيفة ٢/١٤: لا أصل له.
37 الأشباه والنظائر، السيوطي ص١١٩.
38 المصدر السابق ص١٢٠.
39 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/٥٢٣، التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٠/٩٨.
40 في ظلال القرآن، سيد قطب ٣/٤١٨.
41 الإنسان وحريته في الإسلام، محمود بابللي ص١٠٨.
42 انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية ٨/٤٨٢.
43 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٢/٩٦.
44 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي، ٤/١٢٢، رقم ٤٣٣٨، والترمذي في سننه، أبواب الفتن، باب ما جاء في نزول العذاب إذا لم يغير المنكر، ٤/٣٧، رقم ٢١٦٨.
وصححه الألباني في صحيح الجامع ١/٣٩٨، رقم ١٩٧٣.
45 الحريات العامة في الدولة الإسلامية، راشد الغنوشي ص٣٨.
46 وصاحب هذا الرأي هو الدكتور محمد عزيز الحبابي. انظر: من الحريات إلى التحرر، له ص١٩١.
47 الحرية في القرآن الكريم دراسة موضوعية، راشد الحارثي ص٢٦.
48 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات، هل يصلى عليه؟ وهل يعرض على الصبي الإسلام، ٢/٩٤، رقم ١٣٥٨، ومسلم في صحيحه، كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، ٤/٢٠٤٧، رقم ٢٦٥٨.
49 الإنسان وحريته في الإسلام، محمود بابللي ص٨٧.
50 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى والمدن، ٢/٥، رقم٨٩٣، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل، ٣/١٤٥٩، رقم ١٨٢٩.
51 الإنسان وحريته في الإسلام، محمود بابللي ص١٢٧.
52 الأحكام السلطانية ص٢٥٠.
53 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الطب، باب شرب السم والدواء به وبما يخاف منه والخبيث، ٧/١٣٩، رقم ٥٧٧٨، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، ١/١٠٣، رقم ١٠٩.
54 الإنسان وحريته في الإسلام، محمود بابللي ص١٢٩.
55 المصدر السابق ص١٣٠.
56 الآثار التربوية لإقامة الحدود، علي آل علوي ص٣٣.
57 انظر: أثر تطبيق الحدود، الغزالي عيد ص١٧٨.
58 انظر: أضرار الزنا ص١٣٦.
59 انظر: التشريع الجنائي، عودة عبدالقادر ١/٦٣٧.
60 انظر: أحكام القرآن، الشافعي ٢/٩-١٢، أحكام القرآن الجصاص ١/٣١٩-٣٢١، أحكام القرآن، ابن العربي ٢/٤٢٧.
61 أحكام القرآن ١/٣١٩.
وانظر مزيدًا من نقل الإجماع: موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي، مسائل الإجماع في أبواب الجهاد، صالح الحربي ص٢٧.
62 أخرجه النسائي في سننه، كتاب الجهاد، باب وجوب الجهاد، ٦/٢، رقم ٣٠٨٦.
وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي ٦/٢، رقم ٣٠٨٦.
63 أخرجه أحمد في مسنده، ٣/٣٥٨، رقم ١٨٦٥، والترمذي في سننه، أبواب تفسير القرآن، باب من سورة الحج، ٥/١٧٧، رقم ٣١٧١، والنسائي في سننه، كتاب الجهاد، باب وجوب الجهاد، ٦/٢، رقم ٣٠٨٥.
وصححه الألباني في التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان ٧/١٠٣، رقم ٤٦٩٠.
64 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب النهي عن التجسس، ٤/٢٧٢، رقم٤٨٩٠.
وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود ٤/٢٧٣.
65 انظر: المغني، ابن قدامة ١٢/٢٦٦.
66 انظر: محاكم التفتيش، داغي تستاس ص٤٩، محاكم التفتيش، رمسيس عوض ص٩٥.
67 فضاءات الحريةـ العميري ص٤٠٢.
68 تفسير ابن جرير الطبري ١/١٥٠.
69 مجموع فتاوى ابن تيمية ٧/٢٠١.
وانظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ١/١٧٦.
70 فضاءات الحرية، العميري ص٤٠٥.
71 البحر المحيط، أبو حيان ٦/ ١٤٢.
72 انظر: إعراب القراءات السبع وعللها، ابن خالويه ١/٣٧٩.
73 صفوة التفاسير، الصابوني ٢/١١.
74 جامع البيان، الطبري ١٢/٣٩.
75 بدائع التفسير، ابن القيم ٣/١٤٢.
76 الحرية عند العرب، إبراهيم حداد ص٦٦.
77 أنوار التنزيل، البيضاوي ٣/٤٩٤.
78 تفسير السمرقندي ٢/٣٤٥.
79 جامع البيان، الطبري ١٥/٢٩٦.
80 لباب النقول، السيوطي ص٩٨.
81 غريب القرآن، السجستاني ص١٩١.
82 مفاتيح الغيب، الرازي ٣١/٥٥.
83 المصدر السابق ٣١/٢٦.
84 المصدر السابق ٣١/٧١.
85 محاسن التأويل، القاسمي ١/ص٣٢٤.
86 أي: لا يعيش لها ولد.
انظر: لسان العرب، ابن منظور ١٥/١٩٨.
87 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الجهاد، باب الأسير يكره على الإسلام، ٣/٥٨، رقم ٢٦٨٢، والنسائي في السنن الكبرى، كتاب التفسير، قوله تعالى: (لا إكراه في الدين)، ١٠/٣٦، رقم ١٠٩٨٣.
وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود ٣/٥٩.
88 انظر: أسباب النزول، الواحدي ص٨٥-٨٧.
89 مفاتيح الغيب، الرازي ٤/١٦.
90 إعراب القرآن الكريم، محيي الدين الدرويش ١/٣٨٨.
91 الميزان في تفسير القرآن، الطباطبائي ٧/ ٣٤٣٢.
92 المنار، محمد رشيد رضا ٣/٣٥.
93 عمدة الحفاظ، السمين الحلبي ص٤٢٧.
94 المنار، محمد رشيد ٣/٣٩.
95 الناسخ والمنسوخ، النحاس ص٢٥٨.
96 المصدر السابق ص٢٥٩.
97 معاني القرآن وإعرابها، الزجاج ص٣٢٨.
98 مفاتيح الغيب، الرازي ٤/١٧.
99 أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب قوله تعالى: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)، ١/١٤، رقم ٢٥، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ١/٥٣، رقم ٢٢.
100 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٣/٢٦.
101 هي قاعدة أصولية قالها الكثير من علماء الأصول، وبعضهم رأى عكس ذلك، وقال: العبرة بخصوص السبب وإن كان اللفظ عامًّا.
انظر: الموافقات، الشاطبي ٣/٢٥٠.
102 انظر: جامع البيان، الطبري ١١/٢٢٤.
103 في ظلال القرآن، سيد قطب ٣/١٨٢١.
104 روح الدين الإسلامي، عفيف طبارة ص١٥٨.
105 روي عن قتادة أنها مدنية، ولكن سبب النزول يؤيد ما ذكرنا، بأنها مكية.
انظر: البحر المحيط، أبو حيان ١/٥٥٨.
106 انظر: أسباب النزول، الواحدي ص٣٧٨.
107 ذكر القرطبي أنه الأسود بن عبد المطلب، والظاهر أنه خطأ، فالمشهور أن الذي عاند الرسول صلى الله عليه وسلم هو الأسود بن المطلب، ولا يوجد الأسود بن عبد المطلب، وهذا الذي ذكره الطبري.
انظر: جامع البيان ١٥/٤٣٠.
108 في ظلال القرآن، سيد قطب ٣/٣٩٩٢.
109 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٣/١٥٦.
110 مفاتيح الغيب، الرازي ٣١/ ١٤٨ بتصرف.
111 أسباب النزول، الواحدي ص٣٧٨.
112 جامع البيان، الطبري ٣٠/٤٣٠.
113 البحر المحيط، أبو حيان ١٠/٥٦٠.
114 المصدر السابق.
115 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٢٠/١٥٦.
116 مفاتيح الغيب، الرازي ٣١/١٤٨.
117 المصدر السابق.
118 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٣/٥٢١.
119 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب أي الإسلام أفضل، ١/١١، رقم ١١، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان تفاضل الإسلام، وأي أموره أفضل، ١/٦٦، رقم ٤٢.
120 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان، ٨/١٠٠، رقم ٦٤٧٥، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الحث على إكرام الجار والضيف، ١/٦٨، رقم ٤٧.
121 أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع ١/٣١، رقم ٧.
122 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب ما يكره من قيل وقال، ٨/ ١٠٠، رقم٦٤٧٣، ومسلم في صحيحه، كتاب الأقضية، باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة، ٣/١٣٤١، رقم ٥٩٣.
123 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب في قول الرجل زعموا، ٤/٢٩٤، رقم ٤٩٧٢.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، ١/٥٤٧، رقم ٢٨٤٦.
124 أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه، ١/٨، بلفظ: (من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين).
125 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ١/٥٢٩.
126 الحرية في القرآن الكريم، راشد الحارثي ص١٤٥.
127 السياسة الشرعية ص٤٠.
128 انظر: أحكام الأطعمة في الشريعة الإسلامية، عبد الله الطريقي ص١١٣-١١٦.
129 إعلام الموقعين، ابن القيم ٢/١٣٩.
130 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المظالم، باب أفنية الدور والجلوس فيها، ٣/١٣٢، رقم ٢٤٦٥، ومسلم في صحيحه، كتاب اللباس والزينة، باب النهي عن الجلوس في الطرقات وإعطاء الطريق حقه، ٣/١٦٧٥، رقم ٢١٢١.
131 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب النهي عن التخلي في الطرق والظلال، ١/٢٢٦، رقم ٢٦٩.
132 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والأدب، باب أمر من مر بسلاح في مسجد أو سوق، ٤/٢٠١٩، رقم ٢٦١٥.
133 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساقاة، باب تحريم الاحتكار في الأقوات، ٣/١٢٢٨، رقم ١٦٠٥.
134 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب أبواب الإجارة، باب في التسعير، ٣/٢٧٢، رقم ٣٤٥١، والترمذي في سننه، أبواب البيوع، باب ما جاء في التسعير، ٢/٥٩٦، رقم ١٣١٤، وابن ماجه في سننه، كتاب التجارات، باب من كره أن يسعر، ٢/٧٤١، رقم ٢٢٠٠.
وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، ٢/٨٧٥، رقم ٢٨٩٤.
135 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، ١/٦٩، رقم ٤٩.
136 مختصر تفسير ابن كثير، الصابوني ١/٣٠٦.
137 النظام السياسي الإسلامي، منير البياتي ص٣٣٩.
138 إحياء علوم الدين، الغزالي ٢/٣٠٦.
139 الأحكام السلطانية، الماوردي ص٣٢٢.
140 المصدر السابق.
141 الحريات العامة في الدولة الإسلامية، راشد الغنوشي ص٣٠٣.
142 انظر: الأحكام السلطانية، الماوردي ص٢٩٩-٣٠٠.
143 المجتمع المتكامل في الإسلام، عبد العزيز الخياط ص١٧٦.
144 الأحكام السلطانية، الماوردي ص٣٠٣-٣٠٨.
145 انظر: إحياء علوم الدين، الغزالي ٢/٣٤٢.
146 انظر: المجتمع المتكامل في الإسلام، عبدالعزيز الخياط ص١٦٦-١٧١.
147 جامع الأصول، ابن الأثير ٤/٨٤، رقم ٢٠٧١.
148 أخرجه ابن شبة في تاريخ المدينة ٣/٩٨٨.
149 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأحكام، باب من استرعي رعية فلم ينصح، ٩/٦٤، رقم ٧١٥١، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار، ١/١٢٥، رقم ١٤٢.
150 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، ١/٦٩، رقم ٤٩.
151 انظر: التشريع الجنائي، عودة ص٦٥٦.
152 انظر: التشريع الجنائي، عودة ١/٦٦٢.
153 أعلام الموقعين ٣/١٣٩.
154 حكمة تحريم الخمر في الإسلام ص٤٥.
155 انظر: عقوبة الزنا ص١١٥.
156 التشريع الجنائي، عودة ص٦٤٠.
157 انظر: عقوبة السارق ص١٠٨، أثر تطبيق الشريعة الإسلامية ص١٠٧.
158 منهج الإسلام في مكافحة الجريمة، علي النمر ٢/٦٢٢.
159 قواعد الأحكام ص١١٦.
160 انظر: منهج الإسلام في مكافحة الجريمة، النمر ٢/٦٢٥، أحكام السرقة في الشريعة والقانون، أحمد الكبيسي ص٢١١.
161 انظر: الفقه على المذاهب الأربعة، الجزيري ٥/٦٦٩، فقه السنة، سيد سابق ٢/٢٣٦.
162 الجنايات وعقوباتها، محمد بلتاجي ص٢٥٠.
163 العقوبة، أبو زهرة ص٣٠٠.
164 في ظلال القرآن، سيد قطب ٦/٥٢.
165 انظر: التعزير في الشريعة الإسلامية ص٢٩٤، أثر تطبيق الشريعة ص١٦٠.
166 التعزير في الشريعة الإسلامية ص٢٩٨.
167 انظر: الأحكام السلطانية ص٢٩٥، المدخل للفقه الإسلامي ص٧٤٨.