عناصر الموضوع
الجاهلية
أولًا: المعنى اللغوي:
أصل مادة (جهل) تدل على معنين: أحدهما: خلاف العلم، والآخر: الخفة وخلاف الطمأنينة1.
والجاهلية في اللغة: «يعبّر بها عن التناهي في الجهل»2، «وأصل الجهل من قولهم: استجهلت الريح الغصن، إذا حرّكته، فكأن الجهل إنما هو حركةٌ تخرج عن الحق والعلم»3.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
الجاهلية في الاصطلاح: «هي عادة القوم قبل الإسلام»4؛ «لأن الناس الذين عاشوا فيها كانوا جاهلين بالله وبالشرائع»5، وقد أطلق عليها القرآن أحيانًا لفظ: (الجاهلية الأولى)، «ويجوز أن تكون الجاهلية الأولى- جاهلية الكفر قبل الإسلام. والجاهلية الأخرى- جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام»6.
فيكون بهذا لفظ الجاهلية ليس معناه شيئًا واحدًا! وإنما هو مجموعة العادات والتقاليد التي كان يتسم بها الناس قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، مما جاء الإسلام بإبطالها.
«وأحسب أن لفظ الجاهلية من مبتكرات القرآن، وصف به أهل الشرك تنفيرًا من الجهل، وترغيبًا في العلم؛ ولذلك يذكره القرآن في مقامات الذم في نحو قوله: (ﯾ ﯿ ﰀ) [المائدة: ٥٠]، (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ) [الأحزاب: ٣٣]»7.
العلاقة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي:
الجهل في اللغة ضد العلم، وفي الاصطلاح وصف به أهل الشرك تنفيرًا من الجهل، وترغيبًا في العلم.
ورد الجذر (ج هـ ل) في القرآن(٢٤) مرة 8.
والصيغ التي وردت هي:
الصيغة |
عدد المرات |
المثال |
الفعل المضارع |
٥ |
(ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [الأنعام:١١١] |
مصدر صناعي |
٤ |
(ﯾ ﯿ ﰀ) [المائدة:٥٠] |
اسم الفاعل |
١٠ |
(ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) [البقرة:٢٧٣] |
مصدر سماعي |
٤ |
(ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ) [النساء:١٧] |
صيغة مبالغة |
١ |
(ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ) [الأحزاب:٧٢] |
وجاءت الجاهلية في القرآن بمعناها في اللغة وهي من الجهل، والجهل في اللغة على ثلاثة أضرب9:
الأول: وهو خلو النفس من العلم، هذا هو الأصل.
الثاني: اعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه.
الثالث: فعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل، سواء اعتقد فيه اعتقادًا صحيحًا أو فاسدًا، كمن يترك الصلاة متعمدًا، ومنه قوله تعالى: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [البقرة:٦٧].
الإسلام:
الإسلام لغة:
الاستسلام، والانقياد10.
الإسلام اصطلاحًا:
الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله11.
الصلة بين الجاهلية والإسلام:
الجاهلية هي مجموعة العادات والتقاليد التي كان يتسم بها الناس قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، مما جاء الإسلام بإبطالها، فالإسلام مرحلة مهمة في إبطال مجموعة العادات والتقاليد المخالفة التي انتشرت في الجاهلية.
الشرك:
الشرك لغة:
مأخوذ من شرك، ومنه: (أشرك بالله: كفر، أي: جعل له شريكًا في ملكه تعالى الله عن ذلك)12، وقد يأتي بمعنى المخالطة والنصيب، لكن المراد هنا هو الكفر.
الشرك اصطلاحًا:
تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائصه سبحانه13.
الصلة بين الجاهلية والشرك:
من أخطر الأمور المتفشية في الجاهلية المتعلقة بالعقيدة هو الشرك، والذي كان للشياطين العلاقة الوطيدة فيه، روى الطبراني في «الكبير» عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة رنّ إبليس رنة اجتمعت إليه جنوده، فقال: ايئسوا أن تردّوا أمّة محمد على الشرك بعد يومكم هذا، ولكن افتنوهم في دينهم، وأفشوا فيهم النوح)14.
قال الله تعالى: (ﭥ ﭦ ﭧ) [النساء: ٢٨].
قال طاووس ومقاتل وغيرهما: «لا يصبر عن النساء»، وقال الحسن: «هو خلقه من ماءٍ مهينٍ»، وقال الزجاج: «ضعف عزمه عن قهر الهوى».
قال ابن القيم: «والصواب أن ضعفه يعم هذا كلّه، وضعفه أعظم من هذا وأكثر؛ فإنه ضعيف البنية، ضعيف القوة، ضعيف الإرادة، ضعيف العلم، ضعيف الصبر، والآفات إليه مع هذا الضعف أسرع من السيل في صيب الحدود»15.
لقد فطر الله الإنسان على صفات النقص كتقدير كوني، لكنه سبحانه أرشده إلى ما يزيل به نقصه ذلك أو بعضه، فمثلًا: طبع الله الإنسان على الخطأ، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كلّ بني آدم خطّاءٌ، وخير الخطّائين التّوّابون)16، فانظر كيف دلّه على ما يمحو به أخطاءه!
وكذلك طبع الإنسان على الظلم والجهل، فقال الله سبحانه وتعالى: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) [الأحزاب: ٧٢].
ثم دلّه ربّه سبحانه على ما يرفع به عن نفسه ذلك الظلم والجهل، فقال لرفع الظلم: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ) [المائدة: ٨].
وقال سبحانه لرفع الجهل: (ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [طه: ١١٤].
وقال: (ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) [النحل: ٤٣].
وعن أول خروج الإنسان للدنيا قال سبحانه: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) ثم أعطاه الله ما يرفع به عن نفسه ذلك الجهل الفطري فقال: (ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ) [النحل: ٧٨].
بهذا نعلم أن الجهل من طبيعة الإنسان البشري، لكنه مأمور شرعًا برفع ذلك الجهل عن نفسه؛ ليسلم من تبعات الأخطاء التي يرتكبها بسبب جهله، خاصة إن كان في حاضرة علم وعلماء.
الإيمان بأنبياء الله تعالى ركن من أركان الإيمان بالله تعالى، لا يصح إيمان عبد بدونه.
قال الله تعالى: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) [البقرة: ٢٨٥].
وقال تعالى: (ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [البقرة: ١٧٧].
ولا شك أن الأنبياء والرسل هم المبلّغون عن الله تعالى دينه ورسالته؛ لذا فلم يرسل الله تعالى لتلك المهمة إلا الخلّص من عباده.
قال سبحانه وتعالى: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [الحج: ٧٥].
أي: «يختار ويجتبي من الملائكة رسلًا ومن الناس رسلًا يكونون أزكى ذلك النوع، وأجمعه لصفات المجد، وأحقه بالاصطفاء، فالرسل لا يكونون إلا صفوة الخلق على الإطلاق، والذي اختارهم واصطفاهم ليس جاهلًا بحقائق الأشياء! أو يعلم شيئًا دون شيء! وإنما المصطفي لهم السميع البصير، الذي قد أحاط علمه وسمعه وبصره بجميع الأشياء، فاختياره إياهم عن علم منه أنهم أهل لذلك، وأن الوحي يصلح فيهم، كما قال تعالى: (ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [الأنعام: ١٢٤]»17.
وبعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى في سورة المائدة ثمانية عشر نبيًّا ورسولًا.
قال سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ) [الأنعام: ٨٩، ٩٠].
ولما أمر موسى عليه السلام قومه أن يذبحوا بقرة، كان جوابهم: (ﮫ ﮬ ﮭﮮ)! فكان جوابه عليه السلام أن: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ) [البقرة: ٦٧]: «تبرؤٌ وتنزٌه عن الهزء؛ لأنه لا يليق بالعقلاء الأفاضل، فإنه أخص من المزح؛ لأن في الهزؤ مزحًا مع استخفاف واحتقار للممزوح معه، على أن المزح لا يليق في المجامع العامة والخطابة، على أنه لا يليق بمقام الرسول؛ ولذا تبرأ منه موسى بأن نفى أن يكون من الجاهلين، كناية عن نفي المزح بنفي ملزومه، وبالغ في التنزه بقوله: (ﮰ ﮱ) أي: منه؛ لأن العياذ بالله أبلغ كلمات النفي، فإن المرء لا يعوذ بالله إلا إذا أراد التغلب على أمر عظيم لا يغلبه إلا الله تعالى»18.
إذن فهم عليهم الصلاة والسلام منزّهون معصومون عن الوقوع في أعمال الجاهلين.
وما بعث الله أنبياءه عليهم الصلاة والسلام إلا لينهوا أقوامهم وأممهم عن أعمال الجاهلين، فنبينا عليه الصلاة والسلام قرأ على قومه لوم الذين (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ) [آل عمران: ١٥٤].
وبلّغ أمّته نكير الله على الحاكمين بالجاهلية إذ قال: (ﯾ ﯿ ﰀﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ) [المائدة: ٥٠].
وتلا عليه الصلاة والسلام على نسائه ونساء المؤمنين: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ) [الأحزاب: ٣٣].
وكانت أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم تنهى عن حمية الجاهلية، وبيّنت هذه الآية أنها في قلوب الكافرين لا المؤمنين بالله: (ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) [الفتح: ٢٦].
بل إن المتأمل في سيرتهم عليهم الصلاة والسلام، يجد -بلا عناء- أنهم دعاة إلى ضد الجهل والجاهلية والجهالة، ولنستعرض هنا بعض الآيات التي تدل على ذلك:
فهذا نوح وهود وصالح وشعيب عليهم السلام يقول كلٌّ منهم لقومه: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) [الأعراف: ٥٩].
فتوحيد الله في العبادة هو أعظم العلم، والشرك به سبحانه أعظم الجهل.
وهذا هود عليه السلام يقول لقومه: (ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ) [هود: ٥٢].
وكما سيأتي معنا أن كلّ من عصى اللًّه فهو جاهلٌ، وكلّ من أطاعه فهو عالمٌ، وهذا الاستغفار الذي أمرهم به هو من أعظم العلم الذي يهدم جهل المعصية، وكلما كان العبد صادقًا في توبته واستغفاره كان أكثر علمًا بالله تعالى وبعظيم قدره.
بهذا نعلم مدى بعد أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام عن أخلاق الجاهلين وأعمالهم وصفاتههم. ولله الحمد.
تحدث القرآن عن أنواع الجاهلية، وسوف نبيّن ذلك فيما يأتي:
أولًا: الجاهلية العقدية:
وهذه أخطر أنواع الجاهلية؛ لأنها تمس دين المسلم وعقيدته -والعياذ بالله-.
ومن أدلة هذه الجاهلية العقدية:
أولًا: قوله جل في علاه: (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ) [الزمر: ٦٤].
و«إنما وصفهم بالجهل لأنه تقدم وصف الإله بكونه خالقًا للأشياء، وبكونه مالكًا لمقاليد السموات والأرض، وظاهر كون هذه الأصنام جمادات أنها لا تضر ولا تنفع، ومن أعرض عن عبادة الإله الموصوف بتلك الصفات الشريفة المقدسة، واشتغل بعبادة هذه الأجسام الخسيسة؛ فقد بلغ في الجهل مبلغًا لا مزيد عليه؛ فلهذا السبب قال: (ﮬ ﮭ) ولا شك أن وصفهم بهذا الأمر لائق بهذا الموضع»19.
ومثل هذه الآية قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ) [الأعراف: ١٣٨، ١٣٩].
ثانيًا: قول الحق سبحانه: (ﯾ ﯿ ﰀﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ) [المائدة: ٥٠].
قال ابن كثير رحمه الله في الكلام عن هذه الآية: «ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكزخان، الذي وضع لهم اليساق: وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعًا متبعًا، يقدّمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله؛ حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يحكّم سواه في قليل ولا كثير»20.
فالحكم من أعظم خصائص ألوهية الرب سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) [الأعراف: ٥٤].
فلا يجوز لأحد سواه أن يحكم في الناس بغير حكمه سبحانه، ولا يجوز لمسلم أن ينصاع لأحد يريد أن يحكمه بغير حكم الله تعالى، وقد حصر الله الحكم له سبحانه فقال في ثلاث آيات من القرآن: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [الأنعام: ٥٧]، [يوسف: ٤٠]، [يوسف: ٦٧].
ثالثًا: قول الله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ) [الأعراف: ١٣٨].
أي: «إنكم أيها القوم قوم تجهلون عظمة الله وواجب حقّه عليكم، ولا تعلمون أنه لا تجوز العبادة لشيء سوى الله الذي له ملك السموات والأرض»21.
قال الرازي: «اعلم أنه تعالى لما بيّن أنواع نعمه على بني إسرائيل، بأن أهلك عدوهم وأورثهم أرضهم وديارهم، أتبع ذلك بالنعمة العظمى: وهي أن جاوز بهم البحر مع السلامة، ولما بيّن تعالى في سائر السور كيف سيّرهم في البحر مع السلامة، وذلك بأن فلق البحر عند ضرب موسى البحر بالعصا، وجعله يبسًا؛ بيّن أن بني إسرائيل لما شاهدوا قومًا يعكفون على عبادة أصنامهم جهلوا وارتدوا وقالوا لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة! ولا شك أن القوم لما شاهدوا المعجزات الباهرة التي أظهرها الله تعالى لموسى على فرعون، ثم شاهدوا أنه تعالى أهلك فرعون وجنوده، وخص بني إسرائيل بأنواع السلامة والكرامة، ثم إنهم بعد هذه المواقف والمقامات يذكرون هذا الكلام الفاسد الباطل؛ كانوا في نهاية الجهل وغاية الخلاف»!!22.
وقد قال لهم موسى عليه السلام بعد بيانه جهلهم -محذّرًا لهم عاقبة أولئك العاكفين على عبادة غير الله تعالى-: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ).
ثم مبيّنًا لبعض نعم الله عليهم: (ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) [الأعراف: ١٤٠-١٤١]! أي: فكيف بعد كل هذه النعم تريدون عبادة غيره؟! ما هذا إلا من أعظم أدلة جهلكم بقدر خالقكم ومنجيكم سبحانه وتعالى!
ثانيًا: الجاهلية السلوكية:
وهذه الجاهلية السلوكية دون تلك العقدية، لكنها قد تصل بصاحبها إلى الكفر بالله تعالى عياذًا بالله إذا عملها مستحلًّا لها، بل حتى لو لم يعملها لكنه اعتقد حلّها بعد أن حرّمها الله تعالى.
ولهذا النوع من الجاهلية أمثلة في القرآن الكريم، نذكر هنا بعضها لتدل على ما سواها، فمن ذلك:
أولًا: قول نبي الله يوسف عليه السلام حين دعته امرأة العزيز والنسوة من ورائها (ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) [يوسف: ٣٣].
«فإن قلت: نزول السجن مشقة على النفس شديدة، وما دعونه إليه لذةٌ عظيمة، فكيف كانت المشقة أحبّ إليه من اللذة؟
قلت: كانت أحبّ إليه وآثر عنده نظرًا في حسن الصبر على احتمالها لوجه الله، وفي قبح المعصية، وفي عاقبة كل واحدة منهما، لا نظرًا في مشتهى النفس ومكروهها»23.
وقوله: (ﮘ ﮙ ﮚ) أي: «من الذين لا يعملون بما يعلمون؛ لأنّ من لا جدوى لعلمه فهو ومن لا يعلم سواء.
أو من السفهاء؛ لأنّ الحكيم لا يفعل القبيح»24.
والتعبير بـ«قوله: (ﮘ ﮙ ﮚ) أبلغ من قول: وأكن جاهلًا»25.
وفي قوله عليه السلام: (ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ...) دلالة «على أن أحدًا لا يمتنع عن معصية الله إلا بعون الله»26.
ثانيًا: وقال لوط عليه السلام لقومه: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) [النمل: ٥٥].
أي: «تفعلون فعل الجاهلين بأنها فاحشة مع علمكم بذلك! أو تجهلون العاقبة، أو أراد بالجهل السفاهة والمجانة التي كانوا عليها»27.
إن «مجرد الكشف عن هذه الفاحشة يكفي لإبراز شذوذها وغرابتها لمألوف البشرية، ولمألوف الفطرة جميعًا! ثم دمغهم بالجهل بمعنييه: الجهل بمعنى فقدان العلم، والجهل بمعنى السفه والحمق، وكلا المعنيين متحقق في هذا الانحراف البغيض؛ فالذي لا يعرف منطق الفطرة يجهل كل شيء، ولا يعلم شيئًا أصلًا! والذي يميل هذا الميل عن الفطرة سفيه أحمق معتدٍ على جميع الحقوق»!28.
«ثم إنه تعالى بيّن جهلهم بأن حكى عنهم أنهم أجابوا عن هذا الكلام بما لا يصلح أن يكون جوابًا له فقال: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) [النمل: ٥٦]!»29.
«سبحان الله! ومتى كان الطهر ذنبًا وجريمة تستوجب أن يخرج صاحبها من بلدة؟ إنها نغمة نسمعها دائمًا من أهل الباطل في كل زمان ومكان حينما يهاجمون أهل الحق، ويسعون لإبعادهم من الساحة لتخلو لباطلهم.
ومن عدل الله تعالى أن يظهر في منطقهم دليل إدانتهم وخبث طباعهم، فكلمة (ﭡ) التي نطقوا بها تعني: أنهم أنفسهم أنجاس تزعجهم الطهارة، وما أحلّ الله من الطيبات، وكأن الله تعالى يجعل في كلامهم منافذ لإدانتهم، وليحكموا بها على أنفسهم»30.
ثالثًا: (ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) [الأحزاب: ٣٣].
«وقوله تعالى: (ﭼ ﭽ) فيه وجهان:
أحدهما: أن المراد من كان في زمن نوح، والجاهلية الأخرى من كان بعده.
وثانيهما: أن هذه ليست أولى تقتضي أخرى؛ بل معناه تبرّج الجاهلية القديمة، كقول القائل:
أين الأكاسرة الجبابرة الأولى»31.
«كأن المعنى: ولا تحدثن بالتبرج جاهلية في الإسلام تتشبهن بها بأهل جاهلية الكفر»32.
ثم «أمرهن أمرًا خاصًّا بالصلاة والزكاة (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ)، ثم جاء به عامًّا في جميع الطاعات (ﮃ ﮄ ﮅﮆ)؛ لأن هاتين الطاعتين البدنية والمالية هما أصل سائر الطاعات، من اعتنى بهما حق اعتنائه جرّتاه إلى ما وراءهما.
ثم بيّن أنه إنما نهاهن وأمرهن ووعظهن؛ لئلا يقارف أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المآثم، وليتصوّنوا عنها بالتقوى، واستعار للذنوب: الرجس، وللتقوى: الطهر؛ لأنّ عرض المقترف للمقبحات يتلوّث بها ويتدنس، كما يتلوث بدنه بالأرجاس، وأما المحسنات فالعرض معها نقى مصون كالثوب الطاهر.
(ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) وفي هذه الاستعارة ما ينفر أولى الألباب عما كرهه الله لعباده ونهاهم عنه، ويرغّبهم فيما رضيه لهم وأمرهم به»33.
عرض القرآن الكريم صورًا للجهالة، نتناولها بالبيان فيما يأتي:
أولًا: الوقوع في المعصية:
قال الله تعالى: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ) [النساء: ١٧].
والسوء: «هو العمل القبيح الذي يسوء فاعله إذا كان عاقلًا سليم الفطرة»34.
قال ابن رجب: «فإنّ كلّ من عصى اللّه فهو جاهلٌ، وكلّ من أطاعه فهو عالمٌ، وبيانه من وجهين:
أحدهما: أنّ من كان عالمًا باللّه تعالى وعظمته وكبريائه وجلاله، فإنّه يهابه ويخشاه، فلا يقع منه -مع استحضار ذلك- عصيانه، كما قال بعضهم: لو تفكّر الناس في عظمة اللّه تعالى ما عصوه، وقال آخر: كفى بخشية اللّه علمًا، وكفى بالاغترار باللّه جهلًا.
والثاني: أنّ من آثر المعصية على الطاعة فإنّما حمله على ذلك جهله، وظنّه أنها تنفعه عاجلًا باستعجال لذّتها، وإن كان عنده إيمان فهو يرجو التخلّص من سوء عاقبتها بالتوبة في آخر عمره، وهذا جهل محضٌ!
فإنّه يتعجّل الإثم والخزي، ويفوته عزّ التقوى وثوابها ولذّة الطاعة، وقد يتمكّن من التوبة بعد ذلك، وقد يعاجله الموت بغتةً، فهو كجائع أكل طعامًا مسمومًا لدفع جوعه الحاضر، ورجا أن يتخلّص من ضرره بشرب الدّرياق بعده، وهذا لا يفعله إلا جاهلٌ»35.
ولهذا يوصف من لم يعمل بعلمه بالجهل وعدم العلم، «قال أبو العالية: سألت أصحاب محمد عن هذه الآية: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ...) فقالوا لي: كل من عصى الله فهو جاهل، وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب، ومنه قول ابن مسعود: كفى بخشية الله علمًا، وكفى بالاغترار بالله جهلًا! وقيل للشعبي: أيها العالم! فقال: العالم من يخشى الله!
وقد قال تعالى: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ) [فاطر: ٢٨]»36.
«وقيل: معنى الجهالة أن يأتي الإنسان بالذنب مع العلم بأنه ذنب، لكنه يجهل عقوبته»37.
ومثل هذه الآية قوله تعالى: (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ) [الأنعام: ٥٤].
وقوله سبحانه: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [النحل: ١١٩].
ثانيًا: عدم التثبت في الأخبار:
(ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [الحجرات: ٦].
«والجهل: فوق الخطأ؛ لأن المجتهد إذا أخطأ لا يسمى جاهلًا، والذي يبني الحكم على قول الفاسق إن لم يصب جهل، فلا يكون البناء على قوله جائزًا»38.
قال ابن عاشور: «والجهالة: تطلق بمعنى ضد العلم، وتطلق بمعنى ضد الحلم مثل قولهم 39:
بجهل كجهل السيف
فإن كان الأول: فالباء للملابسة، وهو ظرف مستقر في موضع الحال، أي: متلبسين أنتم بعدم العلم بالواقع لتصديقكم الكاذب، ومتعلق (ﭨ) على هذا الوجه محذوف دل عليه السياق سابقًا ولاحقًا، أي: أن تصيبوهم بضر، وأكثر إطلاق الإصابة على إيصال الضر.
وعلى الإطلاق الثاني: الباء للتعدية، أي: أن تصيبوا قومًا بفعلٍ من أثر الجهالة، أي: بفعل من الشدة والإضرار»40.
تحدث القرآن الكريم عن علاج الجهالة، وهذا ما سوف نبينه فيما يأتي:
أولًا: التوبة:
من رحمة الله تعالى أنه (ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاءً)41؛ لعلم الله سبحانه بضعف هذا الإنسان من كل جهة -كما سبق-، وداء الجهالة التي معناها: الوقوع في الذنب عن علم أو غير علم، جعل الله تعالى له علاجًا ناجعًا، وهذا العلاج مكوّن من أمرين اثنين، أولهما: التوبة الصادقة لله تعالى.
قال الله عز وجل: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [النحل: ١١٩].
والجهالة هنا إما:
«والتوبة: الرجوع، وصحتها مشروطة باستدامة الإصلاح بعدها في الشيء الذي تيب منه»44.
ففتح باب التوبة من أعظم نعم الله تعالى على عباده، فله الحمد سبحانه.
وعند قول الله تعالى: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) [آل عمران: ١٣٥] الآية، يروى عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قوله: «هذه الآية خيرٌ لأهل الذنوب من الدنيا وما فيها»45.
وقال ابن سيرين: «أعطانا اللّه عز وجل هذه الآية مكان ما جعل لبني إسرائيل في كفارات ذنوبهم»46.
وعند هاتين الآيتين: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ) [الأحزاب: ٧٢، ٧٣].
يلفت شيخ الإسلام رحمه الله الانتباه لنكتة قيّمة فيقول: «وذكر التوبة لعلمه سبحانه وتعالى أنه لابد لكل إنسان من أن يكون فيه جهل وظلم، ثم يتوب الله على من يشاء، فلا يزال العبد المؤمن دائمًا يتبين له من الحق ما كان جاهلًا به، ويرجع عن عمل كان ظالمًا فيه، وأدناه ظلمه لنفسه، كما قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ) [البقرة: ٢٥٧]..»47
ثانيًا: الإصلاح:
عطف الله سبحانه وتعالى الإصلاح على التوبة في ثماني آيات من القرآن الكريم، منها الآية التي ذكرت في العلاج الأول: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [النحل: ١١٩].
ومنها قوله تعالى: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [النور: ٥].
ومنها كذلك: (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) [النساء: ١٦].
ولا شك أن هذا التكرار لهذا العطف يدعو المسلم للتدبر في سر ومعنى هذا العطف.
قال الألوسي: «(ﮧ): أي: أصلحوا أعمالهم أو دخلوا في الصلاح، وفسّر بعضهم الإصلاح بالاستقامة على التوبة»48.
وقال ابن كثير: «أي: أقلعوا عما كانوا فيه من المعاصي، وأقبلوا على فعل الطاعات»49.
وقال شيخ الإسلام عن آدم عليه السلام: «فإن قيل: وهو قد تاب فلماذا بعد التوبة أهبط إلى الأرض؟ قيل: التوبة قد يكون من تمامها عمل صالح يعمله؛ فيبتلى بعد التوبة لينظر دوام طاعته، قال الله تعالى: (ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [آل عمران: ٨٩]»50.
وهنا لطيفة يسعفنا بها الشعراوي رحمه الله فيقول: «ومعنى كلمة (أصلح) أنه زاد شيئًا صالحًا على صلاحه، والكون ليس فيه شيء فاسد -اللهم إلا ما ينشأ عن فعل اختياري من الإنسان- وعلى التائب أن يزيد الصلاح في الكون، وهكذا نضمن ألا يجيء التائب إلى الشيء فيفسده؛ لأن من يريد أن يزيد الصالح صلاحًا، لن يفسد الشيء الصالح.
وربما كان هؤلاء الذين أسرفوا على أنفسهم في لحظة من لحظات غفلة وعيهم الإيماني ساعة يذكرون الذنب أو الجريرة التي اقترفوها بالنسبة لدينهم، يحاولون أن يجدّوا ويسارعوا في أمرٍ صالح حتى يجبر الله كسر معصيتهم السابقة بطاعتهم اللاحقة»51.
أرشد القرآن الكريم إلى وسائل التعامل مع الجاهلين؛ ليسلكها المؤمنون مع الجاهلين، وهذه الوسائل نذكرها فيما يأتي:
أولًا: الإعراض:
قال الله تعالى لنبيه الكريم عليه الصلاة والسلام: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [الأعراف: ١٩٩].
اعلم أن «الحقوق التي تستوفى من الناس وتؤخذ منهم، إما أن يجوز إدخال المساهلة والمسامحة فيها، وإما أن لا يجوز.
أما القسم الأول: فهو المراد بقوله: (ﭵ ﭶ) ويدخل فيه ترك التشدد في كل ما يتعلق بالحقوق المالية، ويدخل فيه أيضًا التخلق مع الناس بالخلق الطيب، وترك الغلظة والفظاظة، كما قال تعالى: (ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [آل عمران: ١٥٩].
ومن هذا الباب أن يدعو الخلق إلى الدين الحق بالرفق واللطف، كما قال تعالى: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [النحل: ١٢٥].
وأما القسم الثاني: وهو الذي لا يجوز دخول المساهلة والمسامحة فيه، فالحكم فيه أن يأمر بالمعروف، والعرف، والعارفة، والمعروف: هو كل أمر عرفٍ أنه لابد من الإتيان به، وأن وجوده خير من عدمه؛ وذلك لأن في هذا القسم لو اقتصر على الأخذ بالعفو ولم يأمر بالعرف ولم يكشف عن حقيقة الحال، لكان ذلك سعيًا في تغيير الدين وإبطال الحق وأنه لا يجوز، ثم إنه إذا أمر بالعرف ورغّب فيه ونهى عن المنكر ونفّر عنه، فربما أقدم بعض الجاهلين على السفاهة والإيذاء! فلهذا السبب قال تعالى في آخر الآية: (ﭹ ﭺ ﭻ) [الأعراف: ١٩٩].
وقال في آية أخرى: (ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ) [الفرقان: ٧٢].
وقال: (ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [المؤمنون: ٣].
وقال في صفة أهل الجنة: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) [الواقعة: ٢٥]»52.
«وفي قوله: (ﭹ ﭺ ﭻ) قولان:
أحدهما: أنهم المشركون، أمر بالإعراض عنهم، ثم نسخ ذلك بآية السيف.
والثاني: أنه عام فيمن جهل، أمر بصيانة النفس عن مقابلتهم على سفههم، وإن وجب عليه الإنكار عليهم.
وهذه الآية عند الأكثرين كلها محكمة، وعند بعضهم أن وسطها محكم وطرفيها منسوخان على ما بيّنا»53.
قال ابن جرير: «وذلك وإن كان أمرًا من الله نبيه؛ فإنه تأديب منه عز ذكره لخلقه باحتمال من ظلمهم أو اعتدى عليهم، لا بالإعراض عمن جهل الواجب عليه من حق الله، ولا بالصفح عمن كفر بالله وجهل وحدانيته وهو للمسلمين حرب!»54.
وقد ورد في البخاري مثال تطبيقي لهذه الآية مع الخليفة الثاني رضي الله عنه عمر بن الخطاب، يحكيه ابن عباس رضي الله عنهما، فيقول: (قدم عيينة بن حصن بن حذيفة فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته، كهولًا كانوا أو شبانًا»، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي، هل لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس: «فاستأذن الحر لعيينة فأذن له عمر»، فلما دخل عليه، قال: هي يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى همّ أن يوقع به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [الأعراف: ١٩٩]. وإن هذا من الجاهلين، «والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافًا عند كتاب الله)55.
ثانيًا: الخطاب بالحسنى:
لم يكتف الحق سبحانه وتعالى في أمر عباده الأتقياء بالإعراض عن الجاهلين فحسب، بل وحثهم على أن يقولوا لهم قولًا حسنًا، ويردوا عليهم ردًّا جميلًا، فقال تعالى حاكيًا حال عباده مع أهل الجهالة: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ) [الفرقان: ٦٣].
«أي: صوابًا من القول وسدادًا.
وقال الحسن البصري رحمه الله: هذا دأبهم في النهار، فإذا دخل الليل كانوا كما وصف الله في آخر الآية: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ)»56.
«وقال مجاهد: معنى ( ﯝ) قولًا سديدًا، أي: يقول للجاهل كلامًا يدفعه به برفق ولين فقالوا على هذا التأويل عامل في قوله (ﯝ) على طريقة النحويين، وذلك أنه بمعنى قولًا، وهذه الآية كانت قبل آية السيف فنسخ منها ما يختص الكفرة، وبقي أدبها في المسلمين إلى يوم القيامة»57.
قال الشعراوي: «والجاهل: هو السفيه الذي لا يزن الكلام، ولا يضع الكلمة في موضعها، ولا يدرك مقاييس الأمور، لا في الخلق ولا في الأدب.
وسبق أن فرقنا بين الجاهل والأمي:
الأمي خالي الذهن، ليس عنده معلومة يؤمن بها، وهذا من السهل إقناعه بالصواب. أما الجاهل فعنده معلومة مخالفة للواقع؛ لذلك يأخذ منك مجهودًا في إقناعه؛ لأنه يحتاج أولًا لأن تخرج من ذهنه الخطأ، ثم تدخل في قلبه الصواب.
والمعنى: إذا خاطبك الجاهل، فحذار أن تكون مثله في الرد عليه فتسفه عليه كما سفه عليك، بل قرعه بأدب وقل: (ﯝ) لتشعره بالفرق بينكما»58.
موضوعات ذات صلة: |
الأمية، العلم، الفقه |
1 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ١/ ٤٩٠.
2 كشف المشكل من حديث الصحيحين، ابن الجوزي ٢/ ٥٩٧.
3 نظم الدرر، البقاعي ٥/ ٢٢٠.
4 كشف المشكل، ابن الجوزي ٢/ ٣٧٥.
5 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٢/ ١٣.
6 الكشاف، الزمخشري ٣/ ٥٣٧.
7 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٤/ ١٣٦.
8 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، ص ١٨٤.
9 انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني، ص ٢٠٩.
10 انظر: الصحاح، الجوهري، ٥/ ١٩٥٢، مقاييس اللغة، ابن فارس، ٣/ ٩٠.
11 انظر: ثلاثة الأصول وشروط الصلاة والقواعد الأربع، محمد بن عبد الوهاب، ص١٤.
12 تاج العروس، الزّبيدي، ٢٧/٢٢٤.
13 أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة، نخبة من العلماء، ص ٥٨.
14 أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، ١٢/١١، رقم ١٢٣١٨. وحسنه الألباني في السلسة الصحيحة، ٧/١٣٧٣، رقم ٣٤٦٧.
15 طريق الهجرتين، ابن القيم ص ١٠٨.
16 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب صفة القيامة، باب رقم ٤٩، ٤/٦٥٩، رقم ٢٤٩٩، وابن ماجه في سننه، كتاب الزهد، باب ذكر التوبة، ٢/١٤٢٠، رقم ٤٢٥١. وحسنه الألباني في صحيح الجامع، ٢/٨٣١، رقم ٤٥١٥.
17 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٥٤٦.
18 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١/ ٥٤٨.
19 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٧/ ٤٧١.
20 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/ ١٣١.
21 جامع البيان. للطبري ١٣/ ٨٠.
22 مفاتيح الغيب، الرازي ١٤/ ٣٤٩.
23 الكشاف، الزمخشري٢/ ٤٦٧.
24 المصدر السابق.
25 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٧/ ٢٦٣.
26 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٩/ ١٨٥.
27 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٤/ ٥٦٢.
28 في ظلال القرآن، سيد قطب ٥/ ٢٦٤٧.
29 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٤/ ٥٦٢.
30 تفسير الشعراوي ١٧/ ١٠٨٠٦
31 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٥/ ١٦٧.
32 الكشاف، الزمخشري٣/ ٥٣٧.
33 المصدر السابق.
34 تفسير المراغي ٤/ ٢٠٧.
35 روائع التفسير. ابن رجب الحنبلي ١/ ٢٩٧.
36 مجموع فتاوى ابن تيمية ٧/ ٥٣٩.
37 لباب التأويل، الخازن ١/ ٣٥٥.
38 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٨/ ٩٩.
39 الشاهد من بيت لابن الرومى، تمامه:
بجهل كجهل السّيف والسيف منتضى
وحلم كحلم السيف والسّيف مغمد
انظر: الصناعتين. للعسكري ص ٤٢٤.
40 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٦/ ٢٣٢.
41 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الطب، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، رقم ٥٣٥٤.
42 مجموع الفتاوى، ابن تيمية ١٤/ ٢٣.
43 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٤٥١.
44 المحرر الوجيز، ابن عطية ٢/ ٢٩٧.
45 انظر: الترغيب والترهيب، قوام السنة ١/ ١٧١، رقم ٢١٩.
46 تفسير ابن رجب الحنبلي ١/ ٥٦٤.
47 مجموع فتاوى ابن تيمية ٣/ ٣٤٨.
48 روح المعاني، الألوسي ٧/ ٤٨٢.
49 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٤/ ٦١٠.
50 مجموع فتاوى ابن تيمية ٨/ ٣٢٢.
51 تفسير الشعراوي ٣/ ١٦٠٥.
52 مفاتيح الغيب، الرازي ١٥/ ٤٣٥.
53 زاد المسير، ابن الجوزي ٢/ ١٨١.
54 جامع البيان، الطبري ١٣/ ٣٣٢.
55 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، ٦/ ٦٠، رقم ٤٦٤٢.
56 انظر: لطائف الإشارات، التستري ١/ ١١٤.
57 المحرر الوجيز، ابن عطية ٤/ ٢١٨.
58 تفسير الشعراوي ١٧/ ١٠٥٠٢.