عناصر الموضوع
التفكر
أولًا: المعنى اللغوي:
يحدد ابن فارس الجذر الثلاثي لمصطلح التفكر بقوله: «الفاء والكاف والراء تردد القلب في الشيء، يقال: تفكر إذا ردد قلبه معتبرًا»1.
أما عند ابن منظور: «الفكر والفكر: إعمال الخاطر في الشيء، قال سيبويه: ولا يجمع الفكر ولا العلم ولا النظر»2.
ويذكر صاحب القاموس: «الفكر -بالكسر ويفتح-: إعمال النظر في الشيء»3.
وفي المعجم الوسيط: «(فكر) في الأمر فكرًا: أعمل العقل فيه، ورتب بعض ما يعلم؛ ليصل به إلى مجهول... (التفكير): إعمال العقل في مشكلة؛ للتوصل إلى حلها... (الفكر): إعمال العقل في المعلوم؛ للوصول إلى معرفة مجهول»4.
هذه خلاصة ما جادت به كتب اللغة في هذا المصطلح، ومن خلال التمعن في هذه التعريفات يلاحظ أنها تشترك في المعاني التالية وهي أن التفكر:
يعتمد على إعمال القلب والعقل والنظر والخاطر، ويكون بالتردد والتكرار، ويكون في المعلوم طلبًا للمجهول.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
اعتمادًا على ما جاء في التعريفات اللغوية اختلفت تعاريف المفسرين والعلماء لمصطلح التفكر على أن أغلبها لم تخرج عن إطار المعاني اللغوية، وفيما يأتي عرض لبعض التعريفات:
يقول الراغب الأصفهاني: «الفكرة: قوة مطرقة للعلم إلى المعلوم، والتفكر: جولان تلك القوة بحسب نظر العقل؛ وذلك للإنسان دون الحيوان، ولا يقال إلا فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب...، ورجل فكير كثير الفكرة، قال بعض الأدباء: الفكر مقلوب عن الفرك، لكن يستعمل الفكر في المعاني، وهو فرك الأمور وبحثها طلبًا للوصول إلى حقيقتها»5.
ويقول الجرجاني: «التفكر تصرف القلب في معاني الأشياء؛ لدرك المطلوب»6.
وخلاصة القول: أن هذه التعريفات اتفقت على ما يأتي:
ومن مجموع هذه التعاريف يمكن استخراج تعريف عام للتفكر بأنه:
عملية عقلية وجدانية، تعمل على استثمار المعارف والدلائل للتوصل إلى حقائق الأمور، بالنظر فيها، والاعتبار بنتائجها.
وردت مادة (فكر) في القرآن بصيغ متعددة، بلغت(٨) مرة7.
والصيغ التي وردت هي:
الصيغة | عدد المرات | المثال |
الفعل الماضي | ١ | (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ) [المدثر:١٨] |
الفعل المضارع | ١٧ | (ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ) [الجاثية:١٣] |
وجاء التفكر في الاستعمال القرآني بمعناها اللغوي، وهو: إعمال الخاطر في الشيء8.
العقل:
العقل لغةً:
جاء في لسان العرب: العقل: الحجر والنهى ضد الحمق، مأخوذ من عقلت البعير إذا جمعت قوائمه، وقيل: العاقل الذي يحبس نفسه ويردها عن هواها، وسمي العقل عقلًا؛ لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك، أي: يحبسه9. إذًا فمعنى العقل في اللغة يدور حول المنع والإمساك والإحكام، كما يستخدم أيضًا في الفهم.
العقل اصطلاحًا:
قيل: هو «القوة المتهيئة لقبول العلم، ويقال للعلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة: عقل»10.
وقيل: «العقل: العلم بصفات الأشياء من حسنها وقبحها وكمالها ونقصانها»11.
ويمكن تعريفه بأنه هو: الإدراك المانع من الخطأ لحقيقة الأشياء والعلم بصفاتها عن طريق استعمال الحواس. فأساسه الاعتماد على المعنى اللغوي الذي يعود إلى المنع والحبس للإدراك.
الصلة بين التفكر والتعقل:
يظهر الفرق بينهما من خلال أن التعقل هو ربط المعلومات الناتجة عن الإدراك الحسي لها في صورة منظمة، وأن التفكر هو تعميق الفكر في هذه الصورة، فالتعقل من المراحل الأساسية في عملية التفكر.
التدبر:
التدبر لغةً:
«هو آخر الشيء...، والتدبير: أن يدبر الإنسان أمره؛ وذلك أنه ينظر إلى ما تصير عاقبته وآخره، وهو دبره»12. ويعرفه الفيومي بقوله: «دبرت الأمر تدبيرًا فعلته عن فكر وروية»13.
التدبر اصطلاحًا:
عرفه الجرجاني بقوله: «عبارة عن النظر في عواقب الأمور»14.
الصلة بين التفكر والتدير:
يظهر الفرق بينهما في أن «التدبر تصرف القلب بالنظر في العواقب، والتفكر تصرف القلب بالنظر في الدلائل»15.
التذكر:
التذكر لغةً:
«ذكرت الشيء خلاف نسيته، ثم حمل عليه الذكر باللسان»16.
فالتذكر في اللغة يدور حول حفظ الشيء، والذي قد يكون بالقلب أو باللسان.
التذكر اصطلاحًا:
«وهو محاولة النفس استرجاع ما زال من المعلومات، ثم الذكر وهو رجوع الصورة المطلوبة إلى الذهن»17، فهو يجعل من التذكر عملية للقيام بالذكر.
الصلة بين التفكر والتذكر:
التفقه:
التفقه لغةً:
أصل الفقه في اللغة: «العلم بالشيء والفهم له، وغلب على علم الدين؛ لسيادته وشرفه وفضله على سائر أنواع العلم...، وفقه الشيء: علمه...، والفقه: الفطنة»20. فالفقه في اللغة هو الفهم والعلم بالشيء وحسن إدراكه.
التفقه اصطلاحًا:
يأتي بمعنى: «التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد، فهو أخص من العلم»21. ويرى البقاعي أنه «العلم بمفهوم الكلام ظاهره الجلي وغامضه الخفي بسرعة فطنة وجودة قريحة»22.
ويمكن تعريف الفقه بأنه: إعمال العقل للتوصل للمعاني الخفية، اعتمادًا على الفهم الدقيق للأمور والنظر في أعماق الأشياء.
الصلة بين التفكر والتفقه:
«التفقه هو خطوة عقلية أبعد مدى من التفكير، فالتفقه هو الحصيلة التي تنتج عن عملية التفكير، وتجعل الإنسان أكثر وعيًا لما يحيط به، وأعمق إدراكًا لأبعاد وجوده وعلائقه في الكون، كما تجعله متفتح البصيرة دومًا»23. وهذا المعنى وارد إن كان المقصود به عملية التفكير التي تختلف في أصلها عن عملية التفكر التي قد تشير إلى مرحلة تعقل الأشياء فقط.
بهذا يكون مصطلح الفقه يعبر عن مرحلة الفهم الدقيق والعميق لخفايا الأمور والمعاني.
الاعتبار:
الاعتبار لغةً:
جاء عند ابن منظور «عبر الكتاب يعبره عبرًا: تدبره في نفسه...، العبر جمع عبرة، وهي كالموعظة مما يتعظ به الإنسان ويعمل به ويعتبر؛ ليستدل به على غيره»24. فمعنى الاعتبار في اللغة هو النظر في الأمور المتساوية والانتقال فيها من حال إلى حال عن طريق الاستدلال على غيرها والاتعاظ بها.
الاعتبار اصطلاحًا:
قال الرازي: «الاعتبار هو النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالتها ليعرف بالنظر فيها شيء آخر من جنسها»25. وجاء في التحرير والتنوير: «الاعتبار: النظر في دلالة الأشياء على لوازمها وعواقبها وأسبابها، وهو افتعال من العبرة، وهي الموعظة»26. فالاعتبار اصطلاحًا يعني: النظر في حقائق الأشياء المعلومة ودلالتها على أسبابها ونتائجها والاتعاظ بها.
الصلة بين التفكر والاعتبار:
إذا كان التفكر هو عملية عقلية وجدانية، تعمل على استثمار المعارف والدلائل؛ للتوصل إلى حقائق الأمور بالنظر فيها، فإن الاعتبار هو نتيجة هذه العملية العقلية، وما تم التوصل إليه من نتائج من خلال التفكر.
تنوعت أساليب القرآن في الحث على التفكر، وسوف نتناول هذه الأساليب بالبيان فيما يأتي:
أولًا: سرد القصص والتعقيب عليها:
القصة هي أحد أساليب الهداية في القرآن الكريم؛ لما فيها من سحر يطغى على النفوس؛ ولأن الإنسان بطبعه مولع بتتبع الأخبار ومعرفة الأحوال، فهي تجعل الإنسان يعيش وقائعها وكأنه يحضرها، فيعيش بإحساسه وعقله الموقف القصصي، ما يرسخ نتائجه وعبره ويطبعها داخل النفس، فالاتعاظ والاعتبار هو الغرض الأساس الذي سيقت من أجله القصة في القرآن لا مجرد الاطلاع على قصص الأمم السابقة والشخصيات الماضية.
وتمتاز صياغة القصة في القرآن بإيصال المعنى في قالب سهل، يشد القارئ فيثير انتباهه ويرسخ المعنى في الذهن، كما تعمل على هز العقول ودغدغة المشاعر، وتغيير السلوك عن طريق تجديد الهمم، وزيادة خبرات الإنسان والانتفاع بخلاصة تجارب السابقين، فهي أسلوب رقيق دقيق يأخذ بالألباب يلخص المعنى في أسمى صورة وأبدع عبارة؛ لأنها تعتمد على أسلوب المشاركة الوجدانية للأحداث، واستعمال أسلوب الإقناع العقلي من خلال الدعوة للتفكر فيها، وأخذ العبرة منها وتذكر الدروس الإيمانية والحياتية، ما يجعل قارئها لا يمل منها، ويستشف في كل مرة معنى جديدًا؛ لأجل هذا كانت القصة القرآنية مدعاة للتفكر فيها، فالاعتبار لا يكون إلا بعد النظر في الدلائل.
ويلخص سيد قطب هدف القصة بقوله: «يتمثل في إثارة الفكر البشري ودفعه للبحث عن الحق، وتقديم خلاصات للتجارب البشرية، والخروج بالعبر والعظات والسنن التي تحكم حركة الإنسان ومصيره، وإزاحة ستار النسيان عنه، وإمداده بطاقات تضيء له الطريق، وتساعده على مقاومة الإغراءات؛ تجنبًا للمصير السيئ، فتساعده على الفوز والسعادة في الدنيا والآخرة»27.
ومن القصص التي وردت في موضوع التفكر قصة تابع الهوى الذي آتاه الله الآيات، لكنه انزوى عنها، ورضي بسفاسف الأمور، وقد وردت قصته في سورة الأعراف التي جاءت؛ لتبين أسباب الهداية والضلال، فوافق أن ترد فيها قصة المنسلخ من آيات الله.
قال تعالى: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ) [الأعراف: ١٧٥- ١٧٦].
جاء في التفاسير أن قصة هذا الرجل تخص عالمًا من العلماء آتاه الله آياته، وقد اختلفوا على تسميته، فقد أورد الطبري28 عن ابن مسعود و ابن عباس رضي الله عنهما أنه بلعم بن باعوراء، وهو من بني إسرائيل، كما ذكر رواية عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنها نزلت في أمية بن أبي الصلت29.
وذكر ابن أبي حاتم في تفسيره30 رواية عن ابن عباس أنها في زوج البسوس، وهي من بني إسرائيل أعطي ثلاث دعوات مستجابات أذهبها على زوجته، وروايات أخرى ملئت بها كتب التفسير أغلبها من الإسرائيليات لا يمكن الاعتماد عليها؛ لعدم ثبات صحتها، والمختار أن هذه الآية عامة في كل من كانت هذه حاله وصفته، فالإبهام بصلة الموصول (الذي) يدل على أن لا حكمة في معرفة اسمه ونسبه، بل هي حال عام لكل من يسلك دربه ويتبع هواه.
بدأت القصة بالأمر الإلهي للرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقرأ على قريش قصة ذلك العالم الذي آتاه الله تعالى العلم وحججه فأصبح عالمًا ربانيًا، وهذا من فضله تعالى وحسن توفيقه له، ولم يكن بتحصيله لها وجهده كما ظن، ما جعله يكفر بها وينبذها وراء ظهره، وقد شبه الله هذا الإعراض عن آياته بالانسلاخ كانسلاخ الجلد من الشاة، «وحقيقة السلخ كشط الجلد وإزالته بالكلية عن المسلوخ عنه، ويقال لكل شيء فارق شيئًا على أتم وجه: انسلخ منه، وفي التعبير به ما لا يخفى من المبالغة»31.
وإسناد فعل السلخ للعالم (ﮡ ﮢ) [الأعراف: ١٧٥].
يدل على أنه كان باختيارٍ منه، ما سهل وصول الشيطان له بعد أن كان محجوبًا عنه ببركة آيات الله وعلمه، فأصبح من الغاوين، والغواية بمعنى الانهماك في الغي والضلال.
ويذكر الله في الآية التي بعدها أنه لو كان في هذا العالم خير لرفعه الله بتلك الآيات إلى المقام الأعلى، (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) [الأعراف ١٧٦].
وأسند الرفعة له جل وعلا؛ لأنه هو الموفق لها والهادي إليها، قال تعالى: (ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ) [المجادلة: ١١].
لكن لسبق علمه تعالى بأنه سيختار الخلود والميل والنزول إلى الأرض انحطاطًا وهوانًا، وقد رضي بالدنيا لما تزينت له وسار وفق هواه فيها، فاجتمع عليه الشيطان والهوى، فضاع في الدنيا، وأضاع الآخرة.
هذه هي القصة التي تتكرر في كل زمان ومكان، ومع كل عالم لم ينفعه علمه؛ إذ لم يقده إلى العمل؛ وليبين الله عظم الظلم الذي ارتكبه هذا العالم الجاهل في نفسه، ويوضح صورته ومكانته، مثل له بحيوان هو الأكثر خسة في مجموع الحيوانات، وهو الكلب ومن يقبل أن يشبه به، ثم بين محل التشابه بينهما (ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ) [الأعراف ١٧٦].
فهو حيوان دائم اللهاث في حال التعب أو الراحة، والعالم الجاهل دائم اللهفة على الدنيا والحرص على ما يطيب له هواه فتراه لا يشبع منها أبدًا، ثم ختم الآية بالتعميم وضربها مثلًا للمكذبين بآيات الله (ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [الأعراف: ١٧٦].
فمشركي مكة جاءهم نور الله، ودعاهم داعي الهدى، فأبوا واتبعوا أهواءهم، فكانوا بمنزلة الكلب، ويذكر أن حالة اللهاث طبيعية في الكلب؛ لضيق في مجاري تنفسه إلا أنها في المكذبين حالة مكتسبة تخالف ما فطروا عليه من العهد الذي واثقوا الله به، وفي فاصلة الآية «تذييل للقصة الممثل بها يشملها وغيرها من القصص التي في القرآن، فإن في القصص تفكرًا وموعظة، فيرجى منه تفكرهم وموعظتهم؛ لأن للأمثال واستحضار النظائر شأنًا عظيمًا في اهتداء النفوس بها وتقريب الأحوال الخفية إلى النفوس الذاهلة أو المتغافلة؛ لما في التنظير بالقصة المخصوصة من تذكر مشاهدة الحالة بالحواس، بخلاف التذكير المجرد عن التنظير بالشيء المحسوس»32.
ومن جميل القصص التي سردها القرآن على الناس والتي تستحثهم معانيها على التفكر في ملكوت الله قصة سيدنا إبراهيم مع عبدة الكواكب الواردة في سورة الأنعام، رغم أنه لم يرد فيها التفكر كمصطلح إلا أن معانيها تشير إليه وتبرز دوره في هداية البشر.
يقول تعالى: (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﮊ ﮋﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [الأنعام: ٧٥-٧٩].
وهذا المنهج الحكيم الذي سار عليه سيدنا إبراهيم عليه السلام في نقض دعوى قومه؛ من أن الكواكب آلهة تعبد هو من فيض التفكر في ملكوت الله؛ ليجعلها سنة باقية في قومه ومن بعدهم، لمن أراد السير في طريق البحث الجاد الموصل إلى الحقيقة، فأراه الله سبيل التفكر في الكون؛ ليقوى إيمانه ويصل إلى «درجة عين اليقين من معرفة الله تعالى، وهذا لا يقتضي سبق الشك كما لا يخفى»33.
والقصة تبدأ بانتظار إبراهيم الليل، ومسايرته لقومه في عبادة الكواكب، فلما تبدى له أحد الكواكب أظهر أمام قومه اعترافه له بالربوبية، لكن هذا الكوكب ما لبث أن اختفى، هنا سلك سيدنا إبراهيم طريق العقل؛ ليبين لقومه كيف يعقل أن يعبد إله يأفل ويختفي، وأين يذهب إذا أفل؟ ومن سيخلفه ويسير الكون في هذه الحال؟ ما يدل على ضعف هذا المعبود وعجزه، وهو ما أراد سيدنا إبراهيم أن يوصل قومه إليه بقوله: (ﭺ ﭻ) ثم عاد يبحث عن كوكب آخر يصلح؛ لأن يعبد، فرأى القمر وضاءً بنوره باهي الجمال، فأظهر لقومه استحقاقه للربوبية، لكن وجد أنه كسابقه يختفي، هنا كان على عقول البشر بمبادئها البسيطة أن تعي خطأ عقيدتها ومنهجها، وتنقض منهج العبادة، ما أقام عليهم الحجة بضلالهم.
نقل الألوسي عن ابن المنير أنه قال: «وإنما ترقى عليه السلام إلى ذلك؛ لأن الخصوم قد أقامت عليهم بالاستدلال الأول حجة، فأنسوا بالقدح في معتقدهم، ولو قيل هذا في الأول فلعلهم كانوا ينفرون، ولا يصغون إلى الاستدلال، فما عرض لهم عليه السلام بأنهم على ضلالة إلا بعد أن وثق بإصغائهم إلى تمام المقصود، واستماعهم له إلى آخره»34.
ومجاراةً لقومه، واستدراجًا لهم؛ ليكملوا بقية الاستدلال، وجه نظره إلى الشمس وقال: (ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ) [الأنعام: ٧٨].
فالنظر فيها يدل على أنها أكبر الكواكب وأعظمها نورًا، إذًا هو الرب الذي يجب أن يعبد بلا شك، ومع أفولها ظهرت البراءة التامة من عبادة هذه الكواكب، وتحقق إعلان الخضوع التام لخالق هذه الكواكب والسموات والأرض دون إشراك لأي شيء في فرض العبودية له.
بهذا التدرج وهذه المرونة وباستعمال طريق التفكر اهتدى إبراهيم عليه السلام إلى محاججة قومه وإبطال دعاويهم ومعتقداتهم، مشيرًا أن الإله الأعظم يجب أن يتقبله العقل والحس معًا، وهذه الكواكب تخالف بديهيات العقل في تصور عظمة الإله، ولا تتوافق مع مقتضيات الإحساس بالربوبية، فكيف يليق بكم أن تعبدوه؛ لهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (نحن أحق بالشك من إبراهيم)35.
إن التفكر في قصة المنسلخ من الآيات، وقصة إبراهيم عليه السلام، هما نموذجان من مجموع قصص القرآن، يوحي بهدف القرآن من الدعوة للتفكر في قصصه، واستخلاص العبر منه، كي يلامس الإيمان القلوب الضالة، ويزين اليقين القلوب المسترشدة، ولم يكن هدفها التثقيف فقط.
ثانيًا: ضرب الأمثال والتعقيب عليها:
اعتمد القرآن أسلوب ضرب المثل كلون من ألوان الهداية الربانية، وأسلوب من أساليب البيان الإلهي، يعالج فيها قضايا التوحيد وأحكام الشريعة، وإقامة الحجة عليها، ويعرض الحقائق؛ ليقربها من الأفهام، ويوضح خفاياها، بما يحفل به من حكم ومواعظ مجملة ومختصرة ذات طابع عقلي وجداني؛ لأنه: «تمثيل المعاني المعقولة بالصور الحسية وعكسه»36.
وأورد صاحب البرهان أنه سمي مثلًا؛ «لأنه ماثلٌ بخاطر الإنسان أبدًا، أي: شاخص، فيتأسى به ويتعظ ويخشى ويرجو»37.
واهتم القرآن بهذا اللون البلاغي لما له من قوة على النفس البشرية تطغى على انفعالاتها، وتوجه فكرها وتحركه؛ ليستبين التشخيص الحسي للأمر المجرد عبر صور بيانية ذات طابع فني تحقق المقصود؛ من تصحيح للعقائد، وتهذيب للسلوك، واكتساب للأخلاق، والتزام بالنهج الصحيح، بأبلغ معنى، وأوجز عبارة، يتحرك خلالها الفكر لتجلية معانيها، قال تعالى: (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [العنكبوت: ٤٣].
فكان واجبًا على تالي كتاب الله أن يتمعن في أمثاله، ويفهمها، ويعرف المراد الله منها باستخراجه للحكم المقصودة منها، وارتبطت الأمثال بموضوع التفكر في خمس آيات كريمات؛ وذلك لدقة معانيها الخفية التي تتطب جهدًا وتركيزًا؛ لاستبيانها.
فالآية الأولى هي آية سورة البقرة عند قوله تعالى: (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [البقرة: ٢٦٦].
وهذه الآية جاءت في سياق الحديث عن مجموعة أمثال ساقها الله في موضوع الإنفاق في سبيله، واختلفت أقوال المفسرين في مضرب هذا المثل، فمنهم من يعد أن هذا المثل ضرب للمنفق المرائي38، ومنهم من يقول: ضرب مثلًا للمرائي بأعماله39، ومن المفسرين من يعده ضرب للذي عمل بالطاعة في حياته ثم ختمها بعمل سيئ أذهب ما كان يعمل40.
وأخرج البخاري في صحيحه عن عبيد بن عمير قال: قال عمر رضي الله عنه يومًا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيم ترون هذه الآية نزلت: (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) [البقرة: ٢٦٦].
قالوا: الله أعلم، فغضب عمر، فقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم، فقال ابن عباس رضي الله عنه: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، قال عمر: يا أخي قل، ولا تحقر نفسك، قال ابن عباس: ضربت مثلًا لعمل، قال عمر: أي عمل؟ قال ابن عباس: لعمل، قال عمر: لرجل غني يعمل بطاعة الله عز وجل، ثم بعث الله له الشيطان، فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله»41.
وقد بدأ هذا المثل باستفهام إنكاري في قوله: (ﭮ ﭯ) والود هو محبة الشيء الكاملة مع تمنيه، وجاء بصيغة أحدكم؛ ليدل أن الخطاب فردي لكل إنسان؛ لأن الإنسان أناني بطبعه، ولا يوجد من لا يحب لنفسه أن يمتلك مثل هذه الجنة، والتي وصفها الله سبحانه وتعالى بأعظم صفات الجنان؛ فقد حوت أكرم الشجر من نخيل وأعناب وأكثرهما نفعًا، مياهها تجري أنهارًا، وفيها من كل صنوف الثمار؛ ليأتي بعدها على وصف حال صاحبها بأشد صفات الحاجة والحرص؛ فقد أصابه الكبر، وكان له عيال صغار لا يقدرون على كسب قوتهم، وكانت هذه الجنة مورد رزقهم فعظم حرصه لجني ثمارها، فإذا هم كذلك حتى أصاب الجنة إعصار شديد، وفي جمع الإعصار مع النار معنى آخر: «فلو اقتصر على ذكر الإعصار لكان كافيًا، ولكن لما علم الله سبحانه أن مجرد الإعصار لا تحصل به سرعة الهلاك، كما يحصل إذا كان فيه نار، قال سبحانه: (ﮇ ﮈ) [البقرة: ٢٦٦].
ثم أخبرنا باحتراقها؛ لاحتمال أن تكون النار ضعيفة لا يقوم احراقها بإطفاء أنهارها، وتجفيف أوراقها وثمارها، فأخبر بإحراقها؛ احتراسًا من ذلك؛ وهذا أحسن استقصاء وأتمه، بحيث لم يبق في المعنى موضع استدراك»42.
والتفكر في مورد المثل ومضربه يوحي لنا بالتشابه الكبير بين الحالتين من ناحية وجه الشبه، وهو حصول الخيبة في وقت انتظار الحصاد؛ ولهذا قال الحسن: «هذا مثل قل والله من يعقله من الناس شيخ كبير ضعف جسمه، وكثر صبيانه أفقر ما كان إلى جنته، وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا»43.
وختم الله هذا المثل بالدعوة للتفكر فيما بينه الله من حكم وعبر فيه، ولكي يحسن الناس التفكر في عواقب الأعمال ونتائجها وأسبابها وغاياتها؛ ولهذا سأل عمر عنها من حضره من الصحابة؛ ليثير انتباههم للتفكر فيه.
والمثل الثاني الذي يدعو الله فيه عباده للتفكر في معانيه قوله تعالى: (ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ)[الأعراف: ١٨٤].
وهو مثل خاص بموضوع النبوة، ورد في معرض الحديث عن الذين يكذبون بآيات الله المنزلة على نبيه، فأمر الله الرسول أن يقول لهم أن ما يطلبونه منه ليس في مقدوره، «ولأن أمر الرسالة في خيالهم ينافي البشرية التي حقرها في أنفسهم جهلهم وسوء حالهم وفساد أعمالهم»44. فنفى عن نفسه قدرة التصرف في خزائن العطاء والإحاطة بالعلم الغيب، وما خفي من أمورهم في المستقبل مما هي من خصائص الإله، ثم نفى خصائص الملك وقدرته على الخوارق مما ليس في إمكان البشر؛ ليبين لهم أن حقيقة الرسالة تكمن في كونه بشرًا أرسل إلى بشر؛ يعايش واقعهم، ويحس بهم، ويكون قدوة وأسوة لهم حتى يلتزموا ما جاءهم به، فهو رسول يتبع ما جاءه من عند الإله العظيم، وإذا بدت هذه الحقيقة فمن أعرض عنها فهو مثل الأعمى، «وهذا تمثيل لحال المشركين في فساد الوضع لأدلتهم وعقم أقيستهم، ولحال المؤمنين الذين اهتدوا ووضعوا الأشياء مواضعها، أو تمثيل لحال المشركين التي هم متلبسون بها، والحال المطلوبة منهم التي نفروا منها؛ ليعلموا أي الحالين أولى بالتخلق»45.
والمثل الثالث جاء في سورة يونس في قوله تعالى: (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ) [يونس: ٢٤].
وهو مثل ساقه الله بعدما ذكر بغي الناس في الأرض وإفسادهم فيها، وهوان الآخرة في قلوبهم مقابل عظم الدنيا وزينتها عندهم، واستعمل المثل؛ لأنه أبلغ في الوصف وأقرب لإصابة المعنى، وأكثر تأثيرًا في النفوس، فالحديث عن الدنيا والآخرة من الأمور المجردة التي لا يستطيع الإنسان استحضارها أو تصورها، لذلك فالكلام عنها لا يقنع كما يقنع تصويرها بالأرض التي هي بين ناظريهم يوميًا، وهي حقيقة يدركها الكبير والصغير.
واستهل المثل بقصر دورة هذه الحياة الدنيا على دورة حياة النبات بكلمة (إنما) وهي «هنا لتشير إلى أن قصر الحياة الدنيا على هذا المثل المصور لبدايتها ونهايتها، أمر واضح معلوم لا يجوز لذي عقل أن ينكره، فما أشد جهل أولئك الغافلين عن هذه الحقيقة، المطمئنين لهذه الحياة الدنيا»46.
وتم تشبيه الماء النازل من السماء بالخبرات والنعم النازلة من عند المولى، ووجه الشبه بين الصورتين أن الماء هو سبب حياة النبات، وكانت النعم التي أعطاها الله للناس من مال وجاه وعلم وصحة وشباب هي سبب افتتان الناس بالدنيا، قال ابن عاشور: «شبه به ابتداء أطوار الحياة من وقت الصبا؛ إذ ليس ثمة سوى الأمل في نعيم العيش ونضارته، فذلك الأمل يشبه حال نزول المطر من السماء في كونه سبب ما يؤمل منه من زخرف الأرض ونضارتها»47.
فاختلط هذا الأمل الناتج عن هذه النعم بحياة الناس، فازدهرت وطاب عيشهم بسرعة، وامتزجت هذه النعم بحياة الناس بحيث لم تعد منفصلة عن حقيقة الدنيا، وبدت مظاهر زينة لها، كاختلاط الماء بالنبات بحيث لم يعد يظهر أمام نضارة النبات.
وقوله تعالى: (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ) فيه وصف لنمو النبات ونضوجه وتكاثره وتنوعه «وذلك؛ لأن التزخرف عبارة عن كمال حسن الشيء، فجعلت الأرض آخذة زخرفها على التشبيه بالعروس إذا لبست الثياب الفاخرة من كل لون»48. وتزينت؛ لتحلو في عين زوجها، وعظم رجاء أصحاب الأرض فيها، وظنوا أن خيراتها لهم ولن يمنعهم منها أحد، وفي هذا إشارة إلى زخرف الدنيا وملذاتها وبهجتها وتزينها في عين طلابها حتى ظنوا أنه لا حائل بينهم وبين التمتع الدائم بها، ونسوا العمل للدار الآخرة، فلما جاء أمر الله بالهلاك أصبحت كالأرض المحصودة؛ حتى إذا رأيتها كأنها لم تكن ذات بهجة، ما أصاب صاحبها بالحسرة والندامة، ومثلها الدنيا إذا جاء أمر الله بإهلاكها، وقيام القيامة وتغيرت حالها، وتقلبت شئونها، ولم يجد صاحب الدنيا حينئذٍ ما ينفعه، وجملة: (ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ)ﯺ تشير إلى قصر مدة التمتع بها، ولو كانت في نظر الإنسان طويلة.
لمثل هذه الحكم والعبر ختم الله الآية بالدعوة للتفكر في هذا المثل بعد أن فصل الآيات؛ ببيان مراحل نمو النبات من بداية النشأة إلى عاقبته، فقوله: «(ﯻ ﯼ ﯽ) يعني: نبين علامات غرور الدنيا وزوالها؛ لكيلا يغتروا، ونبين بقاء الآخرة؛ ليطلبوها، (ﯾ ﯿ) بأمثال القرآن ويعتبرون بها»49.
والمثل الرابع الذي ورد بشأنه التفكر هو قوله تعالى: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ) [الأعراف ١٧٥- ١٧٦].
وهي قصة العالم الذي لم ينفعه علمه وهو مثل «من آتاه الله آياته فكان عالمًا بها حافظًا لقواعدها وأحكامها، قادرًا على بيانها والجدل بها، ولكنه لم يؤت العمل مع العلم، بل كان عمله مخالفًا لعلمه تمام المخالفة فسلبها»50.
وتشبيه هذا العالم بالكلب؛ لتشابههما في الحال، فالكلب دائم اللهاث في حال الإعياء أو الراحة عادة وطبيعة فيه، يقول الرازي: «وهو مواظب عليه كعادته الأصلية، وطبيعته الخسيسة، لا لأجل حاجة وضرورة، فكذلك من آتاه الله العلم والدين أغناه عن التعرض لأوساخ أموال الناس، ثم إنه يميل إلى طلب الدنيا، ويلقى نفسه فيها، كانت حاله كحال ذلك اللاهث، حيث واظب على العمل الخسيس، والفعل القبيح، لمجرد نفسه الخبيثة وطبيعته الخسيسة، لا لأجل الحاجة والضرورة»51.
واختيار الكلب للتشبيه؛ لأنه «من أخبث الحيوانات وأوضعها قدرًا، وأخسها نفسًا، وهمته لا تتعدى بطنه، وأشدها شرهًا وحرصًا، ومن حرصه أنه لا يمشي إلا وخطمه52 في الأرض يتشمم»53، وبهذا يشبهه العالم الحريص على اتباع هواه واللاهف على الدنيا، وذيلت الآية بالدعوة للتفكر «رجاء أن يتفكروا فيه فيحملهم سوء حالهم، وقبح مثلهم على التفكر والتأمل، فإذا هم تفكروا في ذلك تفكروا في المخرج منه، ونظروا في الآيات وما فيها من البينات بعين العقل والبصيرة، لا بعين الهوى والعداوة، ولا طريق لهدايتهم غير هذه»54؛ لأن هذا المثل هو أسوأ الأمثال المضروبة والتي لا يطيقها أي بشر.
أما المثل الخامس فجاء في قوله تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [الحشر: ٢١].
وهو مثل ضربه الله لإيقاظ القلوب الغافلة عن التدبر في معاني كتابه الجليل، يتمثل فيه عظم الجبل وصلابته مع قلة تأثره بما ينزل عليه، يتشقق ويتصدع لما في هذا القرآن من المواعظ وعلو شأنه مقابل إهمال الإنسان له، والغرض منه «توبيخ الإنسان على قسوة قلبه، وقلة تخشعه عند تلاوة القرآن، وتدبر قوارعه وزواجره»55.
فالجبل بشموخه وانتصابه يخشع لنزول القرآن عليه، فيذل ويستكين ويخشع، يقول ابن عاشور: «الخشوع: التطأطؤ والركوع، أي: لرأيته ينزل أعلاه إلى الأرض»56. كما فيه إشارة إلى أن الجبل لو تميز بمكرمة الإنسان في العقل، وأدرك ما في هذا القرآن لتصدع وانهار؛ لشدة عظمته، ما يوحي أن الذي لا يلين قلبه لهذا الذكر هو غير عاقل أبدًا، ولا يختلف عن الأشياء التي لا تعقل، وقد استعمل الله تعالى ملمح الجبل؛ لتظل الصورة ثابتة في الأذهان على مر الزمن لجميع الأجيال، كونها صورة موجودة في كل عصر، وكون حقيقة الإعراض عما في القرآن موجودة في كل زمان.
ثالثًا: أسلوب الاستفهام:
الاستفهام في اللغة: «طلب الإفهام، والإفهام تحصيل الفهم... وقد يكون الاستفهام لفظًا وهو في المعنى توبيخ أو تقرير»57.
والاستفهام في القرآن «إنما يقع في خطاب الله تعالى على معنى أن المخاطب عنده علم ذلك الإثبات، أو النفي حاصل فيستفهم عنه، ونفسه تخبره به؛ إذ قد وضعه الله عندها...، فإن الرب تعالى لا يستفهم خلقه عن شيء، وإنما يستفهمهم؛ ليقررهم ويذكرهم أنهم قد علموا حق ذلك الشيء، فهذا أسلوب بديع انفرد به خطاب القرآن، وهو في كلام البشر مختلف»58.
فكل استفهام في القرآن لا يقصد الله به انتظار الإجابة من الناس، بل هو تقرير لما وقر في أنفسهم وعلموه.
وجاء أسلوب الاستفهام في القضايا التي فيها آيات وبراهين ظاهرة للعيان وبادية للعقل، «فلكي يبلغ تأثيرها مبلغه من قلب المخاطب، ويثير عواطفه ورغبته في التفكر والتأمل، جاءت على شكل أسئلة تتحدى فكره وتثير انفعالاته، وتفتح بصيرته أو تعينه على الاستبصار والتعلم بجهده الذاتي...؛ لذلك تركت النصوص القرآنية الشريفة مجالًا للمتأمل؛ ليجيب بنفسه عن أسئلة القرآن الكريم، ويكون جوابه مرة من المقدمات البرهانية...، وتارة يصل بجوابه إلى النتيجة المطلوبة في الاستدلال أو البرهان؛ ليجد لذة وقناعة»59.
لذلك استعمل أسلوب الاستفهام الإنكاري عادة كتقريع لأفعال المشركين، وتوبيخًا لهم على أعمالهم، وعدم استخدام عقولهم وتفكرهم في القضايا المطروحة بين أيديهم، وقد ورد مرتين بصيغة (ﮜ ﮝ) في سورة الأعراف الآية (١٨٤)، وفي سورة الروم الآية (٨)، وورد بصيغة (ﯜ ﯝ) مرة واحدة في سورة الأنعام الآية (٥٠)، وجاءت هذه الصيغة الاستفهامية موجهة للمشركين؛ للتفكر في أمور قد عاينوا حقيقتها بأنفسهم، وكانت مدركة لهم، وموصولة بحياتهم، وهي أمور عظيمة بالنسبة لعدم تفكرهم فيها، فآيتا الأعراف والأنعام أثارتا استفهامًا حول قضية الوحي، وإنزاله على الرسول صلى الله عليه وسلم، واستنكرت معاداتهم له.
ففي آية الأنعام جاء الخطاب للرسول؛ ليبين لقومه ماهية رسالته وطبيعة بعثته، فأمره الله أن ينفي لهم ما طالبوه به من معجزات وخوارق، وقرنه بمثل ضربه لبعد الاستواء بين الأعمى والبصير؛ ليدلل على الفرق الشاسع بين من يسمع الحجج فيخضع، وبين من تأخذه العزة بالإثم فيعمى عن رؤية الحق؛ لذا ختم الآية بسؤال على وجه التبكيت والتقريع لعدم تفكرهم واستخدامهم عقولهم بالنظر في أمر النبوة، ولم يكن ينتظر منهم الجواب، فالجواب واضح وضوح الشمس لمن تأمل في صورة الاستواء بين الأعمى والبصير، «فإن قالوا: نعم، كابروا الحس، وإن قالوا: لا، قيل: فمن تبع هذه الآيات الجليات فهو البصير، ومن أعرض عنها فهو الأعمى، ومن سوى بين الخالق وبين شيء من خلقه فهو أعمى العمي؛ ثم أمره بعد الإنكار للتسوية بينهما بأن ينكر عليهم فساد نظرهم وعمى فكرهم بقوله: (ﯜ ﯝ) [الأنعام: ٥٠]. أي: فيردكم فكركم عن هذه الضلالات»60.
ومثلها آية الأعراف التي جاءت؛ لتوبيخ الكافرين على اتهام الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنون، قال الطبري: «أولم يتفكر هؤلاء الذين كذبوا بآياتنا، فيتدبروا بعقولهم، ويعلموا أن رسولنا الذي أرسلناه إليهم لا جنة به ولا خبل، وأن الذي دعاهم إليه هو الرأي الصحيح، والدين القويم، والحق المبين»61.
وورود الاستفهام؛ تعجبًا للطريقة التي ينظرون بها إلى الأمور بها، فهذا الذي ولد منهم وعاش بينهم، وعرفوا حاله، وخبروا معدنه وصفاته ورزانته، ثم يصفونه بالجنون كبرًا وعنادًا: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [الحجر: ٦].
وقال تعالى: (ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ) [الدخان: ١٤].
وهو الذي بعث؛ لينذرهم يوم الحساب، ويبين لهم العقاب والعذاب المقدر لكفرهم، «وفي هذا استغباء أو تسفيهٌ لهم بأن حاله لا يلتبس بحال المجنون للبون الواضح بين حال النذارة البينة، وحال هذيان المجنون، فدعوى جنونه إما غباوة منهم بحيث التبست عليهم الحقائق المتمايزة، وإما مكابرة وعناد وافتراء على الرسول»62.
وفي آية الروم جاء الاستفهام بصيغة التعجب، قال تعالى: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ) [الروم: ٨].
وهذه الآية وردت في غفلة الناس عن يوم القيامة، والانشغال بالدنيا، قال ابن عاشور: «والاستفهام تعجيبي من غفلتهم وعدم تفكرهم، والتقدير: هم غافلون، وعجيب عدم تفكرهم، ومناسبة هذا الانتقال أن لإحالتهم رجوع الدالة إلى الروم بعد انكسارهم سببين: أحدهما: اعتيادهم قصر أفكارهم على الجولان في المألوفات دون دائرة الممكنات؛ وذلك من أسباب إنكارهم البعث، وهو أعظم ما أنكروه لهذا السبب، وثانيهما: تمردهم على تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن شاهدوا معجزته، فانتقل الكلام إلى نقض آرائهم في هذين السببين»63.
«وجاءت هذه الآية؛ للتدليل على قضية البعث، وهي من أهم قضايا العقيدة التي جاء القرآن يدعو للتفكر في مقدماتها الظاهرة في حياة الناس؛ وذلك بالتفكر في النفس البشرية وغاية وجودها ومحلها بعد نهاية أجلها، ومن بعدها النظر في السموات والأرض، أين سيدرك أن لكل شيء في هذا الوجود نهاية، ويتفطن بعدها إلى حقيقة اللقاء الأخروي والحساب والجزاء، هذه الحقيقة التي يسعى الناس لإنكارها؛ لظنهم الخلود في دار الدنيا؛ لذا قال الألوسي: (ﭩ ﭪ) إنكار واستقباح لقصر نظرهم على ما ذكر من ظاهر الحياة الدنيا مع الغفلة عن الآخرة»64.
وبهذا يظهر هدف استخدام أسلوب الاستفهام الانكاري كمحرض على التفكر كونه شديدًا على أنفس الكافرين، ويحمل في طياته الإنذار بالوعيد، وبهذا يمنحهم فرصة للتفكر العميق، ثم الإجابة السليمة عن هذه الأسئلة الموجهة إليهم بعدها الاستجابة التلقائية لنداء الفطرة وداعي الحق.
رابعًا: الثناء على المتفكرين:
«اعتمد القرآن أسلوب المدح في إثارة عملية التفكر؛ لأنه أسلوب محبب للنفوس، فالإنسان بطبيعته يحب المدح والثناء والظهور في مظهر حسن خلقًا وخلقًا؛ ليثير إعجاب من حوله، كما أن الإنسان لا يميل إلى الأسلوب المباشر في النصح والإرشاد؛ لأنه يحب دائمًا أن يشعر أنه عندما يأتي فعلًا طيبًا، فإنما يفعل ذلك بدافع داخلي لا بناء على أوامر ونواهٍ»65. والله تعالى يخاطب النفس على ما جبلت عليه؛ فذلك أدعى للاستجابة؛ لهذا جاء الثناء على المتفكرين من أولي الألباب، هذه الفئة التي استحقت الثناء بجدارة؛ لأنها عملت بوصايا ربها، فوصلت إلى أعلى منازل السالكين إليه، فكانت بحق قدوة وجب التأسي بها.
وقد نالوا هذه المرتبة حين مدحهم الله سبحانه وتعالى في أواخر سورة آل عمران بقوله تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) [آل عمران: ١٩٠-١٩١].
و(أولو الألباب) هم أصحاب العقول الصافية، والقلوب النيرة، والألباب جمع (لب) ويذكر اللب في مقابل القشر، يقول ابن عاشور: «واللب في الأصل خلاصة الشيء وقلبه، وأطلق هنا على عقل الإنسان؛ لأنه أنفع شيء فيه»66.
وقد وردت لفظة (أولي الألباب) في القرآن ست عشرة مرة، كلها على سبيل المدح والثناء.
وحاز أولو الألباب هذه المكانة المرموقة في رحاب الله؛ لأنهم تمسكوا بحبلي الذكر والفكر، هذا الذكر الذي ملأ القلوب وفاض على الألسنة، وكان مرافقًا لهم في كل حركاتهم وسكناتهم، ما يدل على استحضارهم للمعية الربانية في كل وقت، وعلى كل حال.
فهم قيام في نهارهم يعملون ويجاهدون ويذكرون الله، وهم قعود وقت الراحة لا ينسون ذكره، بل حتى وهم نيام على جنوبهم يذكرونه.
هذه الحالة الربانية والخوف الشديد من الله جعلهم يرون كل شيء في هذا الكون دليلًا على وجود الله، وبديع خلقه، وعظيم حكمته.
فانطلقوا بأبصارهم يتفكرون ما بين السموات والأرض، فزادهم الانفتاح على كتاب الله المنظور معرفة لأسرار الوجود، وفقهًا لسننه ونظامه الدقيق، فامتلأت قلوبهم بنور الله، وفاضت خشوعًا وإنابة لرب الكون (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [آل عمران: ١٩١].
لتتفجر ينابيع التسبيح والإقرار بتلك العظمة والقدرة من قلوبهم على ألسنتهم فتلهج بالدعاء، راجين النجاة من عذاب النار، فبعملية التفكر هذه يغذون القلب بالإيمان، ويزيدون فيه نفحة اليقين، كما يصبغونه بصبغة الجمال النابع من جمال الكون وسحره، فتنطبع أقوالهم وأفعالهم ذوقًا وإحسانًا مع الناس، وإبداعًا وإتقانًا في الحياة.
وقد جاء في صحيح ابن حبان عن عطاء قال: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة -رضي الله عنها- فقالت لعبيد بن عمير: قد آن لك أن تزورنا، فقال: أقول يا أمه، كما قال الأول: (زر غبًا تزدد حبًا). قال: فقالت: دعونا من رطانتكم هذه، قال ابن عمير: أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فسكتت، ثم قالت: لما كان ليلة من الليالي قال: (يا عائشة ذريني أتعبد الليلة لربي) قلت: والله إني لأحب قربك، وأحب ما سرك، قالت: فقام فتطهر، ثم قام يصلي، قالت: فلم يزل يبكي حتى بل حجره، قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل لحيته، قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله لم تبك وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟ قال: (أفلا أكون عبدًا شكورًا، لقد نزلت علي الليلة آية، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها (ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ) [آل عمران: ١٩٠])67.
وفي وصف السيدة عائشة رضي الله عنها لحالة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية، بيانٌ لأسمى نموذج للمتفكرين في ملكوت الله سبحانه وتعالى، وفي هذه صورة لما ينتج عن التفكر من زيادة في العبادة، وسمو في الإيمان.
والظاهر أن الذكر الوارد في الآية على العموم، ويشمل الصلاة، وهو ذكر باللسان، وحضور القلب، فهم «الذين لا يغفلون عنه تعالى في عامة أوقاتهم باطمئنان قلوبهم بذكره واستغراق سرائرهم في مراقبته»68.
ولما وصفهم تعالى بالذكر، ثنى بعدها بالفكر؛ لأن الذكر لا يكمل إلا مع الفكر.
وفي هذا يقول الألوسي: «قدم الذكر على الدوام على التفكر للتنبيه على أن العقل لا يفي بالهداية ما لم يتنور بنور ذكر الله تعالى وهدايته، فلا بد للمتفكر من الرجوع إلى الله تعالى ورعاية ما شرع له»69.
يقول الرازي في تفسيره: «في هذه الآية جمع لأصناف العبودية الثلاث، وتحقيق لمعنى الإيمان الذي هو تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح، فقوله تعالى: (ﮕ ﮖ ﮗ) [آل عمران: ١٩١].
إشارة إلى عبودية اللسان، وقوله: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) إشارة إلى عبودية الجوارح والأعضاء، وقوله: (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ) إشارة إلى عبودية القلب والفكر والروح، والإنسان ليس إلا هذا المجموع»70.
ولنا في قصص السلف الصالح عبرة ومثل، فقد قال الشيخ أبو سليمان الداراني: إني لأخرج من منزلي، فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله علي فيه نعمة، أو لي فيه عبرة71. وأخرج ابن المنذر72 عن عون قال: سألت أم الدرداء: ما كان أفضل عبادة أبي الدرداء؟ قالت: التفكر والاعتبار.
فـ(أولو الألباب) ناس ارتقوا بقلوبهم وعقولهم عن براثن الأرض، فلم تعد تلامسها، وحلقوا ما بين السموات والأرض في رحلة فكرية قلبية، وصلوا من خلالها إلى عمق الأشياء، وانقلبت عقولهم من حالها إلى حال اللب، وهو أكمل وأخلص الأحوال، رأوا من خلالها غاية الوجود وحكمه العجيبة، وأسراره العظيمة، فنادوا ربنا ما خلقت هذا باطلًا، فكانت نتيجة هذا التواصل اعترافًا بالربوبية وتنزيها عن العبثية، منبعها الذكر الكثير والفكر الرصين؛ لينتهوا من هذه الرحلة الإيمانية بإدراك عظم ذنوبهم وتقصيرهم أمام نعم الله فاختاروا الآخرة، وطمعوا في الوقاية من عذاب النار.
تعددت مجالات التفكر في القرآن وسوف نتناولها فيما يأتي بالبيان:
أولًا: التفكر في الآفاق:
يعتبر الكون مجالًا واسعًا ورحبًا تدور فيه أنظار الناس، ويعملون فيه عقولهم، ما جعل ميدان الآفاق أوسع مجالات في موضوع التفكر حتى غلب عليه، وأصبح إذا أطلق مصطلح التفكر أريد به آيات الله المنظورة المنتشرة في الكون، فكان مجالًا تنوعت فيه الصور والمظاهر، وتعددت حوله الآيات والدلائل، وكثرت داخله الأسرار والحكم.
والتفكر في الكون يكون تفكرًا في خلق الله من جهة دلالته على خالقه؛ لهذا استعمل لفظ (خلق) في قوله تعالى: (ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [آل عمران: ١٩١].
فالتفكر ليس مقصودًا لذاته، بل الهدف منه بيان سر الإعجاز والقدرة، ومعرفة عظمة الخلق والخالق، والتفكر في خلق السموات يكون من جهة ارتفاعها بغير عمد ورحابة آفاقها، وإحكام صنعها، وشدة إتقانها، ودقة نظامها، وثبات نواميسها بما يوافق حياة الإنسان، وما حوته من كواكب كالشمس والقمر وغيرها، ونجوم مسخرات، وفي كل ذلك آية على صنع القدير، فلو أن الشمس تبتعد عن الأرض لتجمد كل شيء، ولو أنها تقترب منها لاحترق كل شيء، فكل قوانين الكون مبنية على نسب كمية وكيفية تناسب وجود الإنسان وتسهيل مهمته على الأرض، ففي اختلاف الليل والنهار من جهة الظلام والنور مراعاة لتحقيق الراحة والهدوء في الليل، والحاجة للضوء في النهار سعيًا للعمل.
والتفكر في الأرض وما حوته من آيات وعجائب تعجز الألباب عن حصرها، من تنوع للكائنات إلى عظم الجبال وشق الأنهار واتساع البحار، وما تحويه من معادن، وفي كل منها عالم دقيق كبير المعاني كثير الغرائب تعجز العقول عن إدراكه؛ لذلك خصها الله سبحانه وتعالى بالتفصيل، وهي أقرب للإنسان من عالم السماء، فآفاق الكون لا يستطيع معرفة كنهها عوام الناس.
قال تعالى: (ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [الرعد: ٣].
فالأرض بسيطة للإنسان يسير فيها ويتقلب بين جنباتها، منها خلق، وفيها يعاد، وبها معاشه، جعلها الله قرارًا للإنسان، وسخر له ما فيها؛ ليقيم شئونه عليها، فمدها فيه تسهيل لعمل الإنسان من إقامة الزراعة على سطحها التي هي عماد أكله وحياته، وبسطها طولًا وعرضًا يسهل الانتقال في أجزائها شرقًا وغربًا شمالًا وجنوبًا، ومن عظيم آيات الله فيها تثبيت تربتها بالجبال الرواسي، وشق الأنهار فيها، وجعل فيها المياه الباطنية قريبة من سطح الأرض؛ ليسهل على الإنسان استغلالها، فلو كان على الإنسان إحضار المياه من البحار لما قامت زراعة ولا تجارة ولا حضارة، وذكر الأنهار بعد الجبال؛ لأن ماء النهر عادة ما يكون من ذوبان ثلج الجبل، فهذه آيات عظيمة على الإنسان الانتباه لها.
ولأن الإنسان بطبعه يكره البقاء على نمط واحد كان تنوع الثمار وكثرتها آية أخرى، وجعل من هذه الأنواع زوجين اثنين الحلو والحامض، الأبيض والأسود...، كما أن فيه إشارة إلى وجود الذكر والأنثى في كل نبات، فبهما يتحقق معنى الزوجية، ويتكاثر النبات.
«ومن هذا يتبين أن كلمة زوجين تتضمن التقابل الذي يعم التقابل بين الذكر والأنثى، والتقابل في الألوان، والتقابل في الطعم، والتقابل في الصغر والكبر، وهذا كله في أرض واحدة، وكان في اتحاد الأرض واتحاد الماء أن تكون شيئًا واحدًا في لونه أو طعمه...، ولكن تعددت وتخالفت، فدل هذا على وحدة الصانع الحكيم العليم المريد الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى»73.
وأشار إلى سنة التسخير، وهي سنة لها ارتباط وثيق بموضوع التفكر؛ لأنها تدخل ضمن إطار مهمة الإنسان على الأرض، وجاء البيان الإلهي عامًا شاملًا في قوله تعالى: (ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ) [الجاثية: ١٣]؛ ليطلب من الإنسان «أن يحلق في فضاء السموات وأن يغوص في أعماق الأرض بفكره ولما تفيده (ما) من الإبهام، فإنها تدفع الإنسان إلى التعمق في اكتشاف أسرار ما في السموات وما في الأرض، فهي شاملة للباطن المخفي، وللظاهر المشاهد من أسباب التسخير؛ لاستثماره في نفع الإنسان»74.
فإبهام الآيات يشير إلى كثرتها وتنوعها «وذلك؛ لأن فيها من الآيات العجيبة ما يبهر الناظرين، ويقنع المتفكرين، ويجذب أفئدة الصادقين، وينبه العقول النيرة على جميع المطالب الإلهية»75.
كما أن في تنكيرها دلالة على الكثرة والتعظيم، فكل ذلك يتناسق مع العموم المدلول عليه بقوله: (ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ) [الجاثية: ١٣].
ولأن التسخير بعيد الإدراك والمشاهدة جيء بالتفكر الذي يغوص في معاني ودلائل الأشياء، وكل إنسان على قدر علمه وفهمه وتركيزه يصل إلى إدراك المطلوب.
وبالمقابل من ذكر التفكر في الأمور الكبيرة في الكون جاءت الإشارة إلى الأمور الصغيرة والتي قد يغفل عنها كثير من الناس، والتي تمثل في حد ذاتها معجزة من معجزات الخلق.
قال تعالى: (ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ) [النحل: ٦٩].
قوله: (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ) أي: إن في إلهام الله لهذه الدواب الضعيفة الخلقة إلى السلوك في هذه المهام والاجتناء من سائر الثمار، ثم جمعها للشمع والعسل وهو من أطيب الأشياء، لآية لقوم يتفكرون في عظمة خالقها ومقدرها ومسخرها وميسرها، فيستدلون بذلك على أنه الفاعل القادر الحكيم العليم الكريم الرحيم76.
فجاء لفت الانتباه في القرآن إلى عالم النحل، هذه المملكة الحصينة التي تحكمها قواعد وأركان يستحق أن يعي الإنسان نظامها ويحتذي به، والعجيب من أمرها أنها تسير بدقة متناهية لا ترى فيها عوجًا أبدًا، فتختار مكانًا آمنًا في الجبال، وعلى الشجر؛ لتبني فيه خليتها حتى لا تصلها الحيوانات، ولا تطالها الأيدي، وتهندسه في أشكال سداسية؛ لتضمن استغلالًا تامًا للمكان يساعدها على وضع البيض والاعتناء به، كما أن كل فرد في هذه الخلية مكلف بمهام يدركها منذ فقسه، إضافة إلى أن النحل مضرب المثل للتفاني في الجد والنشاط، ودليل ذلك الشراب المعجز الذي شهد له القرآن الحكيم بالنفع والشفاء.
يقول الألوسي: «إن من تفكر في اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة والأفعال العجيبة التي مرت الإشارة إليها، وخروج هذا الشراب الحلو المختلف الألوان، وتضمنه الشفاء جزم قطعًا أن لها ربًا حكيمًا قادرًا، ألهمها ما ألهم وأودع فيها ما أودع، ولما كان شأنها في ذلك عجيبًا يحتاج إلى مزيد تأمل ختم سبحانه الآية بالتفكر»77.
ومن حكم المولى أنه بين أن التفاضل بين الخلق ليس من جهة الفضل والاستحقاق؛ إذ إنه لا ميزة للنحل في الطول أو العرض أو الجمال، لكن بعمله وجهده وإتقانه نال العسل، وفوقها اختصاصه بسورة تتلى إلى يوم القيامة، وفي هذا لفت لعقول الناس، ألا يحقروا خلق الله، أو يحقروا أنفسهم، فكل ميسر لما خلق له.
فنظرة القرآن للكون جاءت مناقضة لما شاع في فكر الإنسان القديم، من أن الكون والطبيعة مضادة تمامًا «للتصورات الكونية الميثولوجية القديمة التي جعلت الإنسان البدائي يستشعر الخوف من الكون، ويعتبره خارجًا تمامًا عن نطاق عمله وقدرته، ويفسر ظواهره المختلفة بعلل وهمية خيرة أو شريرة، أو آلهة يسترضيها بألوان الطقوس البدائية»78. بل جعل منها دلائل على قضايا مصيرية؛ ليكون ذلك أزيد في إيمانه بالاعتماد على العلم واليقين، ويحسن التصرف في هذا الكون.
ثانيًا: التفكر في الأحكام الشريعة:
قال تعالى: (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ) [البقرة: ٢١٩].
أي: كما فصل لكم هذه الأحكام وبينها وأوضحها كذلك يبين لكم سائر الآيات في أحكامه ووعده ووعيده، لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة. قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يعني: في زوال الدنيا وفنائها، وإقبال الآخرة وبقائها79.
قال ابن عاشور رحمه الله: «ولا يخفى أن الذي يصلح للتفكر هو الحكم المنوط بالعلة، وهو حكم الخمر والميسر»80.
من أدب المؤمن مع ربه التفكير في أحكامه الشرعية، واليقين بأن المصالح متحققة يقينًا بالأخذ بأحكامه سبحانه وتعالى، وما أصاب الأمة من بؤس وانحطاط إلا بالبعد عن تطبيق الأحكام الشرعية.
ثالثًا: التفكر في النفس الإنسانية:
إن النفس البشرية مجال صغير من مجالات التفكر في الخلق، لكنه عظيم عظم ما يحويه من آيات ودلائل على قدرة المولى -جل وعلا-، ودعوة القرآن للتفكر في النفس تعمل على إثارة العقل للبحث في آفاقها، وتجلية كنهها واكتشاف أسرارها، وجاء الحديث عن النفس في قوله تعالى: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﮊ ﮋ ﭾ ﭿ ﮀ) [الروم: ٨].
وفيه توبيخ للكفار الذين قصرت مداركهم على الحياة الدنيا وشواغلها ونسوا العمل للآخرة، وفي خضم هذه الحياة تكون النفس البشرية مجالًا قريب التأمل، فلو تفكر الإنسان في أصله ونشأته81 ومراحل خلقه، أطوارًا في بطن أمه يتقلب ما بين النطفة والعلقة والمضغة؛ ليتشكل جنينًا، ويخرج من الرحم وليدًا، لا قدرة له على الإدراك أو التعقل ولا طاقة له بأي عمل، ثم يصير طفلًا فشابًا يافعًا، ثم شيخًا هرمًا، نفذت قوته، وساءت حاله؛ ليستقبله بعدها القبر، لأدرك قصر هذه الدنيا وفناء لذاتها، ما يبعث على إعادة النظر في حياته وتصرفاته؛ ليجعل منها دربًا موصلًا إلى الجنة.
وجاءت آيات كثيرة تنبئ الإنسان بحقيقة نشأته وتذكره بأصله، حتى لا تأخذه العزة بنفسه وقوتها وجمالها وينسى فضل الخالق عليه وما أمره به من تكاليف، وتفرقت آيات الخلقة في القرآن وتشعبت الدلائل في كل آية بما يخدم السياق القرآني في كل سورة، وليعظم الأثر في القلب، ويحصل الإدراك الواعي بالمعجزات البينات، فيعترف القلب والعقل بقدرة الخالق وإعجازه.
فشكل الإنسان وجمال صورته واستواء أعضائه ووظائفها على هذه الهيئة المعتدلة «أمر يستحق التدبر الطويل، والشكر العميق، والأدب الجم، والحب لربه الكريم، الذي أكرمه بهذه الخلقة تفضلًا منه ورعاية ومنة...، وإن عجائب الإبداع في خلقه لأضخم من إدراكه هو، وأعجب من كل ما يراه حوله»82.
كما أن هناك من الحقائق التي تعيش في داخل الإنسان وهو غير قادر عن إدراكها كماهية العقل والروح، ولا يمكنه الاستغناء عنها «فهي وإن كانت من مكونات الإنسان التي بها صار إنسانًا إلا أنها ليست مادية، ولا يمكن حصرها بين فكي الزمان والمكان اللذين لا قدرة للعقل البشري على الإدراك خارج نطاقهما، فهذا في حد ذاته أكبر تحد يدعو الإنسان للتواضع والإذعان»83، وعدم قدرته للوصول إلى حقيقة الأشياء نابعة من كونه بعيدًا عن منهج الحق والإيمان.
والتفكر في النفس ينبه إلى التفكر في صفاتها وأعمالها، فالنفس كما يقول ابن القيم: «النفس دنيئة وطبيعتها أنها أمارة بالسوء»، وأمارة من صيغ المبالغة الدالة على الكثرة والاستمرار، فإذا عرف الإنسان طبيعة النفس حاول تغييرها ومجاهدتها وعدم الخضوع لطلباتها.
قال تعالى: (ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ)[النازعات: ٤٠-٤١].
لذا يبين ابن القيم أن أصل أفعال الإنسان نابع من أفكاره وخواطره التي تركها تجول في نفسه ولم يمحصها ويدافعها، وفي هذا يقول: «دافع الخطرة، فإن لم تفعل صارت فكرة، ودافع الفكرة فإن لم تفعل صارت شهوة، فحاربها، فإن لم تفعل صارت عزيمة وهمة، فإن لم تدافعها صارت فعلًا، فإن لم تتداركه بضده صار عادة فيصعب عليك الانتقال عنها»84.
وقوله تعالى: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ) [الروم: ٨].
فيه دعوة للنظر في النفس من جانبين؛ جانب خلقها وعجائب صفاتها وسيرورة أجهزتها، وجانب النظر في أفعالها ومقاربتها للصواب، وصفاتها وكيفية تهذيبها.
وجعل أبو حامد الغزالي مجاري الفكر تصب كلها بما يزكي النفس ويهذبها، فهي أربعة عنده: الطاعات، المعاصي، الصفات المهلكات والصفات المنجيات، ثم يفصل في كيفية استشعار هذه المعاني الروحية بواسطة التفكر في كل نوع على حدة، نذكر مثالًا منها، يقول فيه: «فليتفكر كل يوم في قلبه ما الذي يعوزه من هذه الصفات التي هي المقربة إلى الله، فإذا افتقر إلى شيء منها فليعلم أنها أحوال لا يثمرها إلا علوم، وإن العلوم لا يثمرها إلا أفكار، فإذا أراد أن يكتب لنفسه أحوال التوبة والندم فليفتش في ذنوبه أولًا، وليتفكر فيها، وليجمعها على نفسه، وليعظمها في قلبه، ثم لينظر في الوعيد الشديد الذي ورد في الشرع فيها، وليتحقق عند نفسه أنه متعرض لمقت الله تعالى حتى ينبعث له حال الندم»85.
وقلما ينتبه الإنسان إلى فضل المولى عليه في منحه نعمة الزوجية، وكونها من نفسه؛ ليسهل التقارب والتوافق، وجعل في تلك العلاقة التي بين الجنسين «سكنًا للنفس والعصب، وراحة للجسم والقلب، واستقرارًا للحياة والمعاش، وأنسًا للأرواح والضمائر، واطمئنانًا للرجل والمرأة على السواء»86.
قال تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ) [الروم: ٢١].
فالسكينة والمودة والرحمة أسس بناء الأسرة السعيدة، وأركانها القويمة التي تقف بها سدًا منيعًا في وجه المشكلات التي تعصف بها، فوجود هذه الأسس لا يعني انعدام المشاكل الزوجية؛ لأن الاختلاف حاصل بين البشر خاصة بين الزوجين من جهة التركيب والوظيفة والتفكير.
«واختلفت أقوال العلماء في المراد بالمودة والرحمة، فعن ابن عباس ومجاهد المودة: الجماع، والرحمة: الولد؛ وقاله الحسن. وقيل: المودة والرحمة عطف قلوبهم بعضهم على بعض، وقال السدي: المودة: المحبة، والرحمة: الشفقة؛ وروي معناه عن ابن عباس قال: المودة حب الرجل امرأته، والرحمة رحمته إياها أن يصيبها بسوء»87.
وكلها حالات يتجسد فيها معنى المودة والرحمة وليس بينها تعارض، «فتفسير المودة بالجماع هو بداية ومؤشر على السكن القلبي، والجماع غالبًا لا يحدث إلا بعد وجود طمأنينة وسكينة بين الزوجين، فهذا هو الاستقرار الجسدي المؤقت يتبعه استقرار دائم، هو وجود التراحم والرحمة بين الزوجين، فهذه المودة والرحمة مدعاة لحصول التناسل وإيجاد الولد»88.
ونلاحظ أن هذه الأسس المتينة هي في حقيقتها أسس عاطفية لبناء اللبنة الأساسية في المجتمع والحضارة وهي الأسرة.
فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لم ير للمتحابين مثل النكاح)89 .
وهذا يدل على أن الإسلام لم يهمل هذا الجانب المتأصل في الإنسان، وراعى فيه تكوينه النفسي والروحي، وجعلها آيات يتعمق فيها العقل بالتفكر؛ ليكتشف مدى دلالتها على مبدع هذه النفس البشرية.
فالمودة بين الزوجين تمحو آثار الأخطاء والزلات الواقعة في الحياة، وتنمي روح المشاركة بينهما في مصاعب الحياة بالتعاون والتكافل في الأفراح والأتراح، والرحمة بينهما تجعلهما يغضان الطرف عن التقصير الوارد منهما، وتحمل بعضهما في حال المرض أو الكبر.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: «وأما الود فهو خالص الحب وألطفه، وأرقه وأصفاه، وهو من الحب بمنزلة الرأفة من الرحمة»90.
والمقصود من السكينة السكن القلبي؛ لأنها ارتبطت بحرف الجر (إلى)، والتي تأتي بمعنى الغاية، في حين تأتي (عند) بمعنى المكان؛ لأنه «يقال: سكن (إليه) للسكون القلبي، ويقال: سكن (عنده) للسكون الجسماني»91.
وهي من السكون، والذي يكون بعد الحركة والنشاط.
وتعلقت السكينة بالمرأة لحاجة الرجل لها وطلبه لها حتى إذا وجدها هدأت نفسه واستقرت حياته، واستطاع أن يحقق النجاح في حياته، وهذه السكينة هي خصيصة في المرأة ووظيفتها الأساسية، بما ركب الله فيها من العاطفة والحنان؛ لتكون ملاذ الرجل الآمن، ومحضن الأولاد الحصين، وفق فطرة الله التي فطرها عليها، وبالمقابل يعمل الرجل على مبادلة المرأة مشاعر المودة والرحمة؛ وذلك لحاجة المرأة لهما، فطبيعة المرأة العاطفية تجعلها تنظر للأمور بمقياس العواطف، ونقصها في العقل والدين يجعلها تحتاج دائمًا إلى الرحمة، وبمعنى أشمل، فالسكينة والمودة والرحمة مطلوبة في كل طرف.
ثم تأتي الرحمة في آخر هذه الأسس «لأن البشر عامة أبناء أغيار، وكثيرًا ما تتغير أحوالهم، فالقوي قد يصير إلى الضعف، والغني قد يصير إلى فقر، والمرأة الجميلة تغيرها الأيام أو يهدها المرض»92.
وبهذا الرباط المتين تتوثق عرى البيت النموذجي، ويلاحظ في الآية أن الله سبحانه وتعالى جعل السكينة هدفًا للتزاوج، ومقصدًا له، فهي هبة ربانية، في حين أن المودة والرحمة ربطهما بفعل الجعل، والذي يقتضي إحداث الشيء بعد تكوينه فهما أمران يعمل الإنسان على إحداثهما؛ ذلك أن الرجل لا تربطه بالمرأة أية معرفة أو رابطة، لكن بفطرته يميل إليها ويسكن لها، حتى إذا تم الزواج يحدث الله بينهما المودة والرحمة بعد أن لم تكن.
من أجل هذه المعاني استدعي التفكر في آية الزوجية؛ لاحتوائها على عدة آيات، يفصلها الطاهر بن عاشور بقوله: «منها أن جعل للإنسان ناموس التناسل، وأن جعل تناسله بالتزاوج، ولم يجعله كتناسل النبات من نفسه، وأن جعل أزواج الإنسان من صنفه، ولم يجعلها من صنف آخر؛ لأن التأنس لا يحصل بصنف مخالف، وأن جعل في ذلك التزاوج أنسًا بين الزوجين ولم يجعله تزاوجًا عنيفًا أو مهلكًا كتزاوج الضفادع، وأن جعل بين كل زوجين مودة ومحبة، فالزوجان يكونان من قبل التزاوج متجاهلين فيصبحان بعد التزاوج متحابين، وأن جعل بينهما رحمة، فهما قبل التزاوج لا عاطفة بينهما فيصبحان بعده متراحمين كرحمة الأبوة والأمومة»93.
فالذكورة والأنوثة ضرورتان متكاملتان كتكامل الليل والنهار...، لذلك تأمل دقة البيان القرآني حين جمع بين الليل والنهار، وبين الذكر والأنثى، وتدبر هذا المعنى الدقيق في قوله تعالى: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ) [الليل: ١-٤].
فهذا الاختلاف ناتج؛ لأن لكلٍ منهما مهمته، كما أن الليل للراحة، والسكون والنهار للسعي والعمل، وبتكاملهما تمضي الأيام، وفي هذا إشارة إلى التكامل بين الرجل والمرأة، فكما أن الليل لا يساوي النهار في العمل المؤدى في كل منهما، فلا مجال لمساواة وظيفة الرجل بوظيفة المرأة في الحياة، فلكل منهما خصائصه الجسدية والعقلية والنفسية التي تمنحه القدرة على أداء مهمته، ومن أجل ذلك كان المناسب لآية الزوجية لما تحتويه من آيات عدة وأسرار في خلق الله تعالى وحكمه أن يربط تحصيلها بالتفكر.
رابعًا: التفكر في آلاء الله ونعمه:
يعتبر عرض آلاء الله ونعمه المتفضل بها على البشر من أكثر الأساليب انتشارًا في القرآن الكريم، وذلك بهدف تنبيه الناس على آيات الله وبيان قدرته وعظمته وحكمته في الخلق، ودعوة لهم للتفكر فيها قصد زيادة الإيمان وشكرًا لخالقها، وإيقاظ الهمم النائمة للاستفادة مما مكن الله الإنسان منه، كما أن فيها لمسة من الجمال تريح الإنسان، هذا ما يؤثر على نفسية الناظر والمتفكر فيها بما يكسبه الراحة والتركيز، ويحدث تغييرًا في معتقداته وأفكاره. وهذه الآلاء تملأ السماء وتفيض بها الأرض، لكن قلوب الناس غافلة عنها، فتكريرها وإعادة التذكير بها يبعثها من جديد ويستثير العقل فيها.
ويهدف القرآن من عرض الآيات الكونية والمخلوقات وربطها بالعمليات العقلية تنبيه الإنسان إلى دور العقل في اكتشاف نعم الله عليه، وتسخيرها لإقامة الخلافة الخاضعة لله وإحداث التكامل والتوازن الكوني، وكل آلاء الله المرتبطة بموضوع التفكر تعتبر من أساسيات الوجود.
ويعرضها القرآن الكريم كنموذج يحتذى به، ولعقل الإنسان الحرية في استكشاف باقي الآيات بواسطة المنهج الذي علمه الله له في القرآن.
ونعم الله تعالى على الإنسان كثيرة، يقول تعالى: (ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) [النحل: ١٨].
وهي دعوة لذوي العقول النيرة أن ينهضوا بأعباء النظر الدقيق في آلاء الله ونعمه، التي لا يحصيها حاصٍ، ولا يعدها عاد، ولو اجتمع كل البشر وأعملوا عقولهم لن ينتهوا أبدًا من القراءة، ولن يطووا هذه الصحف؛ إذ كلما نظروا إلى آيات الله جاءهم منها جديد، كما نبه سبحانه وتعالى إلى أن هذه النعم تحتاج إلى إعمال الملكات العقلية التي أمد الله بها الإنسان، وعلى رأسها التفكر؛ للقيام بأداء حق هذه النعم في الشكر.
ومن أعظم هذه النعم نعمة الهداية الربانية، فما كان إنزال القرآن عبثًا بل هو الحق، به تستبين حياة الناس، فلولا القرآن ما كان العقل وحده قادرًا على كشف نظم الحياة، وإدراك مغزاها، ولما كان القرآن معجزة تعجز عن فهم بعض آياته العقول، أرسل الله الرسل؛ لتبين للناس معاني الذكر الحكيم، وليكونوا قدوة لهم في التطبيق، وأيدهم بالمعجزات؛ لإقامة الدليل القاطع على منكري الرسالة.
كما ذكرهم تعالى بنعمة الماء التي بها يحيا من على الأرض، فهو شرابهم، وهو سقي زروعهم التي منها غذاؤهم وحيواناتهم، ونسب الإنزال إليه؛ لأنه لو تركه في أيدي البشر لاستقوى به القوي، وضاع حق الضعيف فيه؛ لذلك جعله آية يستحق الشكر عليها، وهذه النعمة في حد ذاتها قد تصبح نقمة إذا ابتعد الإنسان عن المنهج القويم، فتكون مطرًا شديدًا يدك عرش الظالمين.
والتذكير بالنعم يكون في جو مليء بصفات الرحمة والكرم والفضل، تجعل قلب الإنسان يستحي من خالقه وتستنهضه للتأمل فيها وفي غيرها، وترغبه في البحث والاستكشاف؛ لأن هذه النعم من الممكن التفكر فيها وإعمال العقل من غير أدوات علمية أو أجهزة مخبرية أو وسائل تكنولوجية دقيقة، فمجرد النظر الدقيق والبحث في دلالتها وغايتها يجعلها موضوعًا قابلًا للتفكر.. إضافة إلى أنها موجودة على مر الزمن، ظاهرة للعيان ليلًا ونهارًا، تعاقب عليها جميع البشر، ثابتة لمن أراد تجديد النظر فيها.
وهي متعددة الأشكال، فمن السماء إلى الأرض، وما بينهما من كائنات، هذا التنوع يضفي عليها طابع التعدد والتجدد، فأين حلقت ببصرك تجد آية من آيات الله تأخذ بألباب العقول في حسنها وجمال إبداعها، ما ينفي عنها رتابة السأم والملل.
وما يميز هذه الآلاء أن كلها هدفها واحد، فهي لم ترد عبثًا في القرآن، بل هي دلائل لقضايا أكبر منها تتعلق بأصول الإيمان (الألوهية، النبوة والوحي، البعث)، تعتمد على مرتكزات مشتركة، وإن اختلفت مواضيعها، وتنوعت، فهي ليست غاية في نفسها، بقدر ما هي دليل للوصول إلى اليقين، وهو ضابط ينبغي التنبه له، والتقيد به لكي لا يجنح التفكر فيها إلى مجال التفلسف، ويخرج عن دائرة الإيمان؛ لذلك استعمل القرآن أسلوب التعميم والإجمال في عرض هذه النعم، حتى لا يبتعد عن الغاية الأصيلة من عرضها، مع دعوته إلى البحث في أعماقها، واستثارة الفكر والوجدان؛ لاستلهام الحكم والعبر منها.
وهو منهج قرآني فريد، يخرج القرآن من دائرة الكتب العلمية التفصيلية، ويبقي له دور الدافع المثير للعقل لكي يقوم بدوره المنوط به، وهو دور قد لا يبين للمستشرقين الذين ينفون عن القرآن دوره في الاهتمام بالعقل والعلم، ويطمسون أعينهم عن حقيقة موقع العقل كأداة ووسيلة كشف لنواميس الكون، لا كما يقدسونه هم ويجعلونه مصدر المعرفة الأساسي.
خامسًا: التفكر في المآل والمصير:
وهذا المجال هو أحد مجالات التفكر التي أمر الله عز وجل بها، فالدنيا دار ابتلاء وعمل، والآخرة دار راحة وقرار، وكان التفكر في الدنيا والآخرة أول دعوة قرآنية للتفكر، قال تعالى: (ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿﰀ ﭑ ﭒ ﭓ) [البقرة: ٢١٩-٢٢٠]؛ لأنها وردت في سورة البقرة، وفيها دعوة؛ لتحصيل الخير الكثير، وتحقيق لمصالح الدارين، ومعرفة فضل الآخرة على الدنيا، وجاءت هذه الآية بعد بيان حكم الشرع في أمور شديدة تميل إليها النفس هي الخمر والميسر والإنفاق. وختمت الآية بالتفكر؛ تحريضًا على استحضار العقل دائمًا، في كل ما يخص أحكام الحياة، ومعرفة الغاية منها.
وبيان حقيقة الدنيا وسرعة زوالها جاء في عدد كثير من الآيات والأحاديث، وكان هديه صلى الله عليه وسلم أن يحث الصحابة والمؤمنين على الزهد في الدنيا والعمل للآخرة، فقد أورد مسلم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء)94.
وعند البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله، فقال: (إني مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها)95.
ومن الآيات التي دعت للتفكر في الدنيا قوله تعالى في سورة يونس: (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ) [يونس: ٢٤].
ففي هذه الآية يضرب تعالى مثلًا للحياة الدنيا التي يتنافس عليها الجاهلون، ويتكالب عليها الغافلون، حتى ينسون العمل للآخرة، وهي في حقيقتها كأرض أنبتت نباتًا فنما وازدهر وافتتن به الناس، وظنوا أنهم أحاطوا بثمره وجنيه، حتى جاء أمر الله بالإهلاك، وغدت الجنة حصيدًا خامدًا، وهذا لاغترار أهلها بها، ونسيانهم فضل الله عليهم.
وجاء تشبيه الحياة الدنيا بالنبات لعدة وجوه96 ملخصها:
«أحدها: أن عاقبة هذه الحياة التي ينفقها المرء في هذه الدنيا، كعاقبة هذا النبات، الذي حين عظم الرجاء في الانتفاع به وقع اليأس منه؛ لأن المتمسك بالدنيا إذا عظمت رغبته فيها يأتيه الموت.
وثانيها: أنه تعالى بين أنه كما لم يحصل لذلك الزرع عاقبة تحمد، فكذلك المغتر بالدنيا المحب لها، لا يحصل له عاقبة تحمد.
وثالثها: لما صار سعي هذا الزرع باطلًا بسبب حدوث المهلك، فكذلك سعي المغتر بالدنيا.
ورابعها: أن مالك هذا البستان لما أتعب نفسه في عمارته، وعلق قلبه بالانتفاع به، فإذا حدث السبب المهلك صار العناء الشديد سببًا لحصول الشقاء الشديد له في المستقبل، فكذلك حال من أحب الدنيا وأتعب نفسه في تحصيلها، فإذا مات صار العناء الذي تحمله في تحصيل الدنيا سببًا لحصول الشقاء العظيم له في الآخرة.
وخامسها: لعله تعالى إنما ضرب هذا المثل لمن لا يؤمن بالمعاد؛ لأنا نرى الزرع الذي انتهى إلى الغاية في الحسن، ثم إن ذلك الحسن يزول بالكلية، ثم تصير تلك الأرض موصوفة بتلك الزينة مرة أخرى، فذكر تعالى هذا المثال؛ ليدل على أن من قدر على ذلك كان قادرًا على إعادة الأحياء في الآخرة؛ ليجازيهم على أعمالهم».
والتعبير بالأكل عن التمتع بالحياة تعبير حسي غاية في البلاغة، فهو يوحي بالحركية في الوصف، كصورة الناس وهم يتهافتون في يومهم، وهمهم كسب القوت، وتحصيل لقمة العيش، كل ذلك والغفلة تغمرهم، والشهوات محيطة بهم يتسابقون نحوها، وعند تأمل المثل يلاحظ «أن المثل يحكي قصة مضت وانتهت، ويتحدث عن حياة قامت ثم بادت، ولكن هذه اللقطة (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ) [يونس: ٢٤].
تظل تنبض بالحركة ترى فيها الناس والأنعام لا يزالون يأكلون».
وفي تصوير زينة الأرض وزخرفتها كالعروس إبراز لحقيقة الدنيا في عيون الغافلين والمفتتنين بها، وفي ظن أهلها تصوير لجهالة الإنسان بتمكنه من نعيمها، لظنه أنه أصبح أقوى وأقدر، وأنه وصل إلى كل ما يتمنى من الدنيا، فكلما رأى لذة أو زينة أو منصبًا أو مالًا سعى ليكون صاحبها، لهذا ارتبط التفكر بحقيقة الدنيا؛ لينبئ على أن معرفة حقيقتها من الأمور العظيمة التي لا يجب أن يذهل العقل عنها، فهي دار بناء ومزرعة للآخرة، وعدم إدراك هذه الحقيقة يعني الخسران في الدارين.
ولكون هذه الحقيقة قد تغيب في لحظات النشوة الدنيوية، فينسى الإنسان حقيقة الموت ويغره أمل الحياة، فلا دوام لحال ولا لبشر أو لذة فيها؛ لهذا لا بد من تعميق الفكر فيها، والتبصر بأحوالها والاعتبار بأحوال السابقين فيها؛ ليزيد الإيمان، ويتنور القلب ويزهد فيها؛ لذا خص أهل التفكر بالنظر فيها، لأنهم «أهل التمييز بين الأمور، والفحص عن حقائق ما يعرض من الشبه في الصدور»97.
وفي المقابل من بسط الأمثال للتزهيد في حال هذه الدنيا، جاء التفكر في موضوع عظيم فيه من الدلائل على قدرة الله وتفرده بالملك والحكمة، وهو الموت هذه الحقيقة الربانية التي وضعها الله سبحانه وتعالى فيصلًا بين الدنيا والآخرة؛ لتنتهي دار الفناء، وتبدأ دار البقاء، وتجازى كل نفس بما كسبت.
والموت هو أعظم المصائب في الدنيا، قال تعالى: (ﮙ ﮚ ﮛ) [المائدة: ١٠٦]؛ لأنه انقطاع عن الدنيا ونفاذ لأجل الإنسان المكتوب فيها، وأعظم منه الغفلة التي تنسي صاحبها فيه، كما أنه من أقوى الدلائل التي ضربها الله دعوة للناس للإيمان بيوم البعث، هذا اليوم الذي كفر به الناس منذ القدم، ما جعل الله يقيم عليهم الحجج والبراهين، كآية لهم لعلها تثير الإيمان فيهم، فجعله معجزة من معجزات الأنبياء؛ فقد ذكره إبراهيم عليه السلام دليلًا على وحدانية الخالق حين حاج به الملك الظالم (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ) [البقرة: ٢٥٨].
وموافقة الحاكم له، وعدم منازعته أو اعتراضه دليل على أن الإنسان حتى الكافر منه يؤمن بأن الحياة والموت من خصائص قدرة الإله؛ ولذلك طلب سيدنا إبراهيم عليه السلام من ربه أن يريه كيفية إحياء الموتى لا عن شك، بل لينتقل من مرحلة علم اليقين التي حاج بها الملك، إلى مرحلة عين اليقين التي يرى بها صورة البعث ماثلة أمام ناظريه من خلال إحياء الطير بعد موتها.
وجاءت معجزة إحياء الموتى بين يدي سيدنا عيسى عليه السلام: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [آل عمران: ٤٩].
ودلل الله على إحياء الموتى في عدة قصص قرآنية منها: قصة أهل الكهف، وقصة الذي أماته الله مائة عام ثم أحياه، والقوم الذي خرجوا من بيوتهم خائفين من الموت حتى أماتهم الله ثم أحياهم، ومع بني إسرائيل حين أرادوا رؤية الله فأخذتهم الصاعقة، ثم بعثهم الله من بعد موتهم، فيلاحظ أنه في كل عصر يجعل الله سبحانه وتعالى الموت والإحياء دليلًا يسوقه للمكذبين من بني البشر بيوم البعث والحساب لعلهم يستفيقون من غفلتهم.
كما أن تذكير الله للناس بهذه الحقيقة التي هم عنها غافلون جاء بطريق التمثيل بظاهرة متكررة في حياة الناس يمرون عليها كل يوم وهم عنها ساهون، ألا وهي النوم، قال تعالى: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [الزمر: ٤٢].
ففي هذه الظاهرة يقبض الله الأنفس كلها، فيتوفى التي انتهى أجلها، ويرسل الأخرى حتى يحين أجلها، وفي قبض الأرواح عند النوم منع للنفس عن التصرف أو الإدراك مع بقاء الجسد حيًا تسير عملياته البيولوجية بصفة عادية، ومن كان قادرًا على قبضها وإمساكها كل يوم ثم بعثها للحياة من جديد هو أقدر على قبضها إلى يوم القيامة، ومن ثم بعثها لتحاسب على أعمالها.
فقد جاء عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه قال: (باسمك اللهم أموت وأحيا)، وإذا قام قال: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور)98.
وفي هذا إشارة إلى ربط نعمة الاستيقاظ بوقت المعاد الأكبر، وحقيقة البعث، وفيه تأكيد على حقيقة القبض والإمساك، وتربية للمؤمن على تذكر الموت حال نومه.
فالنوم في أصله موت صغير، فيه تحضير الناس لموعد الموت الأكبر، فكما أنكم تنامون كل يوم ولا تفيقون إلا بإذن الله تعالى فكذلك الموت هو نوم بإذن الله لا عودة بعده إلى هذه الحياة إلا إلى يوم الحساب؛ لأنه نهاية الطريق في عالم الشهادة، ونقطة البداية في عوالم الآخرة؛ لذا وجب على كل نفس التزود له، فمن يدري في أي لحظة يحل أجله.
قال تعالى: (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ) [لقمان: ٣٤].
وفي استعمال لفظ (آيات) في قوله تعالى: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [الزمر: ٤٢].
دليل على ما تحويه آيتا النوم والموت من أسرار لا يفقهها إلا «من كان مكينًا في علمه ومعرفته، قديرًا على البحث والتمحيص، بصيرًا بخطى الفكر والأنحاء التي قد تفضي إليها نتائج البحث والتقصي»99، لهذا كانت الخاتمة بالتخصيص لقوم تتوفر فيهم هذه الصفات فيتفكرون فيها.
«فمن تعرف على أسرار النوم، وما يتخلله من أحلام مرعبة ورؤى طيبة مبشرة استطاع أن يتصور الموت وما يصاحبه من أحوال القبر والبرزخ»100.
وقد ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم الحث على زيارة القبور بعد النهي عنها مخافة دخول الشرك للقلوب؛ لأنهم كانوا حديثي عهد بالإسلام، فقد قال: (زوروا القبور، فإنها تذكر الموت)101.
«هذه الزيارة هدفها الأول التذكير بالموت، وترقيق القلب بتذكر الذنوب، ما يجعل الإنسان يعتبر بمن قبله، وما كانوا فيه من نعيم وصحة، ثم صاروا إلى قبور تأويهم، ولم يغن عنهم مالهم ولا جاههم ويسارع بالتوبة، فالموت حقيقة لا يمكن الهروب منها.
قال تعالى: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) [الجمعة: ٨].
ولا حتى العودة بعدها لتصحيح الخطأ، وتصليح العمل، قال تعالى: (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) [المؤمنون: ٩٩-١٠١].
ومع كل هذه المواعظ إلا أن كثيرًا من الناس على كفرهم بالبعث واللقاء».
ويلاحظ أن القرآن قد خاطب الناس في هذه القضية بأدلة عقلية وأمثله واقعية؛ لأنها من دلائل عالم الغيب الذي لا يستطيع الإنسان التكهن به، واستحضار التفكر كعملية عالية من عمليات العقل يشير إلى أهمية الموضوع وأثره في حياة الإنسان وآخرته؛ لتعلقه بدار الابتلاء ودار الجزاء.
سادسًا: التفكر في آيات القرآن الكريم:
إن القرآن العظيم هو معجزة الله الخالدة على الأرض، والمتحدى بها كل البشر، أنزله الله تعالى على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، نورًا وهداية للخلق، معجز بألفاظه ومعانيه، لا تنقضي عجائبه لمن يمعنون التفكر في رحاب آياته، ويجيلون العقول والقلوب في أسرار كلماته ونظمه، يقول الإمام السعدي: «ولعلهم يتفكرون فيه فيستخرجون من كنوزه وعلومه بحسب استعدادهم وإقبالهم عليه»102.
وارتبط التفكر في آيات الذكر بآيتين هما:
قوله تعالى: (ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ) [النحل: ٤٤].
وقوله: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [الحشر: ٢١].
فالآية الأولى وردت في معرض بيان وظيفة الرسل، وتأكيد على بشريتهم، ما فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بما كان يتهمه به المشركون، ورد واضح على افتراءاتهم وشبهاتهم التي كانوا يثيرونها حول الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكر لما تميزت به دعوات الرسل من الحجج الداحضة، والحقائق الدامغة؛ لتنتهي ببيان دور هذا القرآن في كونه ذكر للإنسان لما فطر عليه، وموعظة للغافلين، وأن الرسول الكريم موضح لما جاء فيه، مفصل لأحكامه.
وتحصيل هذه المعاني لا يكون إلا بالتفكر فيه والتدبر لمعانيه، فجاءت الغاية بالبيان وأسندت للرسول توضيحًا للمهمة الأساسية له كون الناس غير قادرين على فهم مقاصد الشرع وحكمه بأنفسهم؛ لقصور مداركهم عن ذلك، وتسهيلًا لهم بالأخذ به.
والآية الثانية جاءت تتحدث عن عظم تأثير القرآن في النفوس، وتمثيل أثره بصورة محسوسة لعل القلوب تئوب له فتخشع عند تلاوته، وتتدبر معانيه، وتعمل بأحكامه، وتتخذه دستور حياة، قال السعدي: «فإن التفكير فيها يفتح للعبد خزائن العلم، ويبين له طريق الخير والشر، ويحثه على مكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، ويزجره عن مساوئ الأخلاق، فلا أنفع للعبد من التفكر في القرآن، والتدبر لمعانيه» 103.
كما أن من التفكر في آيات القرآن التفكر في عاقبة من لا يتعظ بها أو يعمل بها، وفي هذا تنبيه لعظم الجرم المقترف، فالهدف من إنزال القرآن هو العمل به في ميادين الحياة، وإهمال هذا مخالفة للقرآن الكريم وللمقصد منه، وجاء الحث والترغيب على ذلك بتصوير حال المهمل لأحكام القرآن بحال خسيسة في آية سورة الأعراف؛ لينهض كل فرد ويغير حاله، والمطلوب التفكر العميق في هذه القصة؛ للاعتبار والاتعاظ بها.
ومن النظر في القرآن النظر في نظمه، وهذه خصيصة امتاز بها عن سائر المعجزات، فهو حسن التنسيق، محكم الترتيب، قوي الأثر، سهل الفهم، موسع التفسير، متلاحم النسيج، مترابط الأفكار، ودقيق المعاني، يجعل لقارئه ملكة تمكنه من «تقييم أقواله وأفعاله وحركاته وخطراته وأفكاره ونواياه وجل تصرفاته، ووزنها بذلك الفرقان...، فالقرآن يكون بمثابة النموذج المعرفي الكلي للإنسان»104.
والتفكر في آياته باعث على الخشية الإلهية لما فيه من أوامر ومواعظ وزواجر، كما أن هذه الخشية تجعل الإنسان يتلذذ بمعانيه وتكسبه الإحساس بالأمان والطمأنينة القلبية، والسكون النفسي.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)105.
وفي هذا تنبيه للإنسان الغافل المعرض عنه؛ كي يتفطن لقسوة قلبه وغلظة طبعه، كما أن فيه إشارة إلى ثبات النبي صلى الله عليه وسلم، وقوته التي امتن الله بها عليه، وجلده في تحمل تبعات التنزيل والبيان.
قال تعالى: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) [المزمل: ٥].
فهو مدح للنبي؛ لتحمله ما لا تطيقه الجبال الرواسي (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﮊ ﮋ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ) [الرعد: ٣١].
والتلاوة لها معنيان:
الأول: قراءة آياته بتحقيق حروفه وصفاتها والتمكن من أحكام تجويده.
والثاني: اتباع آياته بالاستجابة لأوامره، وتحليل حلاله، وتحريم حرامه، والعمل به في الحياة.
وذلك معنى أداء التلاوة بحقها، كما كان عمل الصحابة، وليس مجرد تحريك اللسان بالكلمات والقلب لاهٍ والعقل ساهٍ.
فقد ذكر أبو عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن كعثمان ابن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: «فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا».
لذا ينبه ابن تيمية قارئ القرآن على أن يظل «دائم التفكر والتدبر لألفاظه واستغنائه بمعاني القرآن وحكمه عن غيره من كلام الناس، وإذا سمع شيئًا من كلام الناس وعلومهم عرضه على القرآن، فإن شهد له بالتزكية قبله وإلا رده»106.
لأن قراءة القرآن بالتفكر أصل صلاح القلب، ففيه حياة القلوب والأبدان، «فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر، فإنه جامع لجميع منازل السائرين وأحوال العاملين، ومقامات العارفين، وهو الذي يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء والإنابة والتوكل والرضا، والتفويض والشكر والصبر وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله...، فإذا قرأه بتفكر ومر بآية وهو محتاج إليها في شفاء قلبه كررها ولو مائة مرة، ولو ليلة، فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم»107.
ويعد القرآن قائدًا للعقل، ودليلًا له في معترك الحياة، يأخذ بناصيته إلى النور المبين، والطريق المستقيم، فالعقل ذو رؤية محدودة لا تجاوز الواقع المرئي أمامه، والقرآن هو التفسير السليم الوحيد لحقائق الكون والكاشف للسنن الإلهية فيه، يخاطب العقل على حسب مستواه، ويوقظ الفطرة بأسلوبه السلس، فيحفز النفس على النهوض بتكاليف الأمانة الربانية.
«ولا يخرج كنوزه إلا المتفكرون الذين يكررون الفكرة فيه، ويعيدون النظر مرة بعد أخرى، ويتعاملون معه بالتدبر الطويل...؛ إذ إن المتفكر بما يتضمنه من عمق النظر وتكرار الفكر والتأمل هو الكفيل بإخراج شيء من كنوزه المخبوءة»108.
للتفكر ثمرات يجنيها العبد المتفكر منها:
أولًا: الاهتداء إلى وجود الخالق ووحدانيته:
لقد كانت دعوة القرآن الكريم للتفكر والتدبر في آفاق الكون ذات أهمية بالغة، كونها تهدف إلى ترسيخ معنى حقيقة خلق هذا الوجود ومعرفة خالقه، وإدراك عظمة جلاله، وبديع قدرته، والتمعن في عجيب خلقه، ولطيف حكمته؛ لذا فقد عني القرآن ببلورة العقيدة الإيمانية وزرعها في النفس بحيث تكون القاعدة التي ينطلق منها الإنسان في رحلته إلى الكون والحياة؛ قاعدة تحكم أهدافه وتصوراته وقراراته، وهي أول مبادئه في الحياة، فإذا حسنت علاقته بخالقه استطاع أن يحسن علاقاته بكل ما في الكون، وكلما عظم اكتشافه لما في الكون عظمت معرفته بخالق الكون؛ لذا يقول ابن رشد في حسن معرفة الكائنات: «وكلما كانت المعرفة بصنعتها أتم كانت المعرفة بالصانع أتم»109.
هذا ما جعل منهج بناء العقيدة في القرآن يقوم على أساسين متينين:
أولهما: إبطال عبادة غير الله، ونقض الأوهام والخرافات التي تدعو إلى اتباع معتقدات الآباء، وترفع هالة التقديس عن الأفكار والمعتقدات المتوارثة، ببيان الآيات الدالة على ضعف تلك الآلهة.
وثانيها: إثبات وحدانية الله عن طريق الدعوة إلى التفكر، والنظر الدقيق في آفاق الكون وعجائب النفس، والانطلاق من بديع صنعه، ودقة نظامه للوصول إلى وحدانية خالقه وفاطره.
وهذه الحقيقة تمثل أحد مقومات التصور الإسلامي عن هذا الكون والصلة الوثيقة بينه وبين فطرة الإنسان، فقد كان القرآن يستعمل السموات والأرض كدليل وبرهان؛ ذلك أنها أجل وأعظم من دليل النفس.
كما قال تعالى: (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ) [غافر: ٥٧].
لذا يقول الكندي: «إن في نظم هذا العالم وترتيبه وفعل بعضه في بعض، وانقياد بعضه لبعض، وتسخير بعضه لبعض، وإتقان هيئته على الوجه الأصلح في كون كل كائن، وفساد وثبات كل ثابت، وزوال كل زائل؛ لأعظم دلالة على أتقن تدبير، ومع كل تدبير مدبر، وعلى أحكم حكمة، ومع كل حكمة حكيم»110.
والقرآن لا ينفك يوجه الأنظار والعقول والقلوب إلى كتاب الدنيا المفتوح، ويأمره بتفعيل وسائل إدراكه؛ لتتبدى له آفاق الجمال والجلال، وتريه الكون محرابًا كبيرًا للعبادة، ويتيقن بأن الدليل على وجود الله هو نفسه الدليل على وحدانيته سبحانه وتعالى ؛ ذلك أن حقيقة وجود الرب الخالق المدبر لهذا الكون كامنة في نفوس البشر، ومرتكزة في أذهانهم، وتعود في أساسها إلى الميثاق الذي أخذه الله على البشر عند خلقه لهم.
قال تعالى: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﯠ ﯡ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [الأعراف: ١٧٢].
لكن الدعوة إلى التفكر في الكون والوحي ارتبطت بضابط مهم هو تجنب التفكر في ذات الله، هذا الضابط الذي جاء التحذير منه في السنة النبوية بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تفكروا في آلاء الله، ولا تفكروا في الله عز وجل)111.
وفي هذا يقول أبو حامد الغزالي في كتابه الإحياء: «فإن جاوزت النظر في الأفعال إلى النظر في الذات فقد حاولت أمرًا إمرًا، وخاطرت بنفسك مجاوزة حد طاقة البشر ظلمًا وجورًا، فقد انبهرت العقول دون مبادئ إشراقه، وانتكصت على أعقابها اضطرارًا وقهرًا»112.
ولقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن أناسًا سيتفكرون في الخلق حتى يؤدي بهم إلى الوقوع في ظلمات الكفر، فقد جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا خلق الله، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئًا فليقل: آمنت بالله)113.
وهنا يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم كيفية معالجة الشكوك والوساوس عندما تعرض لنا، ويأمرنا بوجوب التوقف عن التفكر، وتشهير الإيمان خوف تتبع زلات العقل، والوصول إلى الضلال، فهذا الحديث وسابقه يبين لنا الحد المسموح به من التفكر، بسبب نقص الإدراك وقصور تحقيق المعرفة وسوء التقدير.
فكيف تختار العقول مبدأ التعطيل، وتستحل الفهوم مبدأ التشبيه للخالق، واختلاف الكائنات وتنوعها سر إبداعه، فقدرته الغير محدودة، وعلمه ليس لهما نظير فهو الخالق العليم القدير، وقد حاولت بعض الفرق الإسلامية الولوج من هذا الباب لكن تاهت وخابت، ولم تبصر النور؛ لاحتجابه عن العقل.
والنظر العميق في الآيات التي تدعو إلى التفكر ترسم لنا صورة التوحيد الحقيقي، فسورة الرعد بآياتها الكونية تزرع في النفوس بذور التوحيد من خلال عرضها لبراهين الإيمان، بالنظر في الأرض، وما عليها من آيات، ثم خروج النبات والثمار وتنوعها واختلافها، وتأصيل الأشياء إلى زوجين اثنين، ثم الانتقال إلى ما به بقاء الحياة على هذه الأرض من تعاقب لليل والنهار، وختمها بالحث على التفكر.
كما جاءت الإشارة إلى عالم الحيوان، وما فيه من أدلة بسيطة تنبئ بوحدانيته تعالى، وإليه تمت الإشارة في القرآن بمملكة النحل، تلك المملكة التي تحويها خلية صغيرة، لكن فيها نظام يعجز البشر عن وضعه وعن اتباعه، نظام قائم على معرفة كل فرد لدوره في هذه الحياة، فيسارع للقيام به بجد وتفانٍ، نظام أساسه التعاون والعمل والإتقان، فمن علم النحل هذه القوانين ومن يسر لها طعامها وهي أضعف خلق الله، ومن يخرجها كل صباح تطوف في الحقول والبساتين، وتنتقل من زهرة لأخرى؛ لتعلم زميلاتها بوجود الرحيق، فتجمعه وتحفظه ثم تعود إلى خليتها من نفس طريق الذهاب ولو كان على بعد أميال، ثم تصنع منه شرابًا متنوعًا، شهد له القرآن بالشفائية، فهذا دليل على عناية الله بمخلوقاته وحسن تدبيره ودعوة للتمعن والتفكر فيها وفي عالم الحشرات أيضًا؛ ليزيد إيماننا بأن خالق النحلة، ومدبر شئونها هو نفسه خالق السموات والأرض وما بينهما.
ومن العوالم التي طالب الله سبحانه وتعالى الإنسان بالتفكر فيها هو النفس البشرية، فالتعمق في أسرارها يجعل الإنسان يؤمن إيمانًا جازمًا بالله؛ لعلمه أنه غير قادر على الإحاطة بكيفية عمل أجهزته الحيوية، ولا التحكم فيها أو تسيير عمليات الحياة فيها وفق هواه، بل هو عاجز حتى على شفاء نفسه في حال المرض، أو إمساك نفسه عن الموت، فيتأكد أنه كما لنفسه أجل محدد فلهذا الكون أجل آخر تنتهي به الحياة على هذه الأرض، ويجازى على أفعاله فيها، ما يقوده للإيمان بالبعث والجزاء، وبحسب هذه المعرفة الإلهية تعظم درجة المتفكر في الآخرة.
ومقدرة الإنسان على تطويع الطبيعة، والاستفادة من ثرواتها، والسيطرة على قوتها بقانون التسخير الإلهي، تؤكد استحالة أن تكون هي مسيرة نفسها، وما اهتداء الإنسان إلى هذا القانون إلا بما أكسبه الله له من وسائل تعينه على ذلك بما فيها العقل وملكاته، وضعف الإنسان أمام قوة المخلوقات الأخرى، ثم سيطرته عليها بفضل الله تعالى لدليل أكيد على صفاته العلية -جلا وعلا-، كما أن قانون الزوجية الذي يحكم هذا الكون يبين التفرد الإلهي، فكل شيء في هذا الكون أصله من ذكر وأنثى إلا خالق الكون، والتفكر في هذا القانون، والبحث عنه في أرجاء هذا العالم يجعل القلب يصدق بوحدانيته تعالى.
كما أن التفكر يعزز في النفس الإيمان بالأسماء والصفات التي وصف الله بها نفسه في القرآن الكريم، أو وصفه بها نبيه عليه الصلاة والسلام، فتجزم العقول حينما ترى المخلوقات أن لها موجدًا، وأنها لم يخلقها العدم، كما تدرك العقول السليمة صفة الحكمة عندما ترى أثر الإحكام في المخلوقات، وصفة الخبرة عندما ترى الإتقان، وصفه الرزق عندما ترى عمليات تدبير الأرزاق، وصفة الرحمة عندما ترى آثار رحمة الله في مخلوقاته، وصفة الوحدانية عندما ترى التكامل في بناء الكون والثبات الذي لا يهدده الفساد، فتكون المخلوقات التي تملأ الأرض والسموات بذلك آثارًا مشاهدة تدل على صفات الله سبحانه وتعالى.
وبهذه النظرة الإجمالية للآيات، وبهذه الدعوة للتفكر نتبين أنها كلها مجالات تدل على أن خالقها ومدبرها واحد، إلا لمن عاند واستكبر وأبى، فإذا كان الكون بما فيه من «آفاق السماء وفجاج الأرض، تسبح بحمد ربها، فلماذا نشذ نحن ولا نصطبغ بما اصطبغ به الكون كله»114.
ويمكن الاستفادة من التفكر في هذا العصر لمواجهة موجة الضلال المنتشرة في العالم اليوم، فبالرغم من كل التطور العلمي والتكنولوجي الحاصل، إلا أن الإنسان اليوم بات أكثر بعدًا عن الفطرة السليمة، وعن اكتشاف العلاقة بينه وبين خالقه وبين الكون، وقد يكون أقرب الناس إلى التوحيد هم العلماء، كونهم أكثر الناس إعمالًا للعقل، أو اكتشافًا للحقائق؛ لذا نسمع بين الفينة والأخرى عن دخول عالم من الغرب إلى الإسلام نتيجة ما أوصلته إليه بحوثه التي تلخص له مفهوم الخالق الواحد القادر المبدع.
وفي هذا يقول أحد العلماء: «إن جميع ما في الكون يشهد على وجود الله سبحانه، ويدل على قدرته وعظمته، وعندما نقوم نحن العلماء بتحليل ظواهر هذا الكون ودراستها، حتى باستخدام الطريقة الاستدلالية فإننا لا نفعل أكثر من ملاحظة آثار أيادي الله وعظمته؛ ذلك هو الله الذي لا نستطيع أن نصل إليه بالوسائل العلمية المادية وحدها، ولكن نرى آياته في أنفسنا، وفي كل ذرة من ذرات هذا الوجود، وليست العلوم إلا دراسة خلق الله وآثار قدرته»115.
كما يقول (لورد كيافي) وهو من علماء الطبيعة البارزين في العالم هذه العبارة القيمة: «إذا فكرت تفكيرًا عميقًا فإن العلوم سوف تضطرك إلى الاعتقاد في وجود الله»116.
بهذا يتبين أنه لا يوجد طريق يسير وآمن ومقنع مثل التفكر، للاهتداء إلى خالق الكون، والإيمان بوحدانيته، والعمل بمقتضى أوامره.
ثانيًا: تزكية النفس واستقامتها على هدى الوحي:
إن من أهداف التفكر السامية بعد وجوب الإيمان بالله خالقًا وربًا لهذا الكون هو ضرورة تعزيز القوة الإيمانية في القلب، وتحصينها من كل ما يمكن أن يؤثر فيها، بفضل التفكر فيما تحويه آيات الكون والوحي في طياتها، ترشد الضال إلى الإيمان بالله، وتزيد من قوة هذا الإيمان في القلب، فكما نعلم أن الإيمان أسس وأركان، دعامته الدليل والبرهان، فتفكر المؤمن في آلاء الله يوثق رابطته بالله تعالى، ويزيد من عزيمته وهمته لنشر هذا النور والطمأنينة وتعميمه على كل البشر.
وأثناء هذه العملية يدرك المؤمن وظيفته الدنيوية في إقامة شرع الله على هذه الأرض، عن طريق التفاعل الإيجابي مع مخلوقات الله، فيعمد إلى استغلالها، واستخراج منافعها، ومعرفة الحكمة منها ومن خلقها، ودلالتها على صانعها وخالقها، ومدى تحقق صفات الجمال فيها مما يعكس حكمة التقدير ودقة الإبداع، ويبرز كمال الصفات الإلهية، فالتفكر في خلق الله «هو العمود الفقري للإيمان الذي ينبثق عنه كل عمل خير»117.
وتتجلى لنا الصياغة القرآنية للروح الإنسانية عبر مداخل التفكر في تكوين الصفات والأخلاق والرقائق التي تحيا بها الأرواح، واستثارتها إذا أسدل عليها غطاء الغفلة، فالإحساس الذي يشعر به المتفكر وهو يجول في ملكوت الله سبحانه وتعالى، مستحضرًا المعية الربانية، والتسبيح الكوني لمخلوقات الله، يجعله يعيش حالة من الصفاء الذهني والإشراق القلبي، تفيض عليه من المعارف والمواهب الربانية ما كتبه الله له، وتكون محصلة هذه الرحلة اكتسابًا لمفاهيم جديدة، ومعارف غير مسبوقة، تهيمن على روحه، وتصبغها بصبغة الإيمان، وتثمر أعمالًا صالحة، تملأ الأرض عدلًا وصلاحًا.
وأول ما يناله المؤمن من التفكر هو ذلك الجلال الذي يملك على القلب ويهيمن على الروح، فيلهج اللسان بالشكر والذكر لما يشاهده ويحسه من آثار قدرة الله في الكون وفي حياته؛ ليمتلئ القلب حياءً من الله سبحانه وتعالى.
فكلما تمعن المتفكر في نعم الله عليه وأحس بفضل الله عليه، وتقصيره بجانب ما منحه الله، وتعاظمت ذنوبه أمامه، أحس بمدى غفلته، هو إحساس يعرفه الجنيد رحمه الله بقوله: «الحياء رؤية الآلاء، ورؤية التقصير فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء»118.
ويقول السعدي رحمه الله: «ويقايس بين منن الله عليه وإحسانه وبين تقصيره، فإن ذلك يوجب له الحياء لا محالة»119.
كما أن من الصفات التي تنتج عن التفكر الخشية والخوف من الله تعالى، فإدراك الإنسان لعظمة الملك، وبديع الصنع وجلال القدرة تجعل القلب يهتز خوفًا وخشية لله تعالى، فهي ثمرة الإيمان وعلامة على لين القلب ونقاء السريرة، وغالبًا ما تكون هذه المعرفة متعلقة بجلال الله تعالى.
لهذا يقول تعالى في وصف المؤمنين: (ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [المؤمنون: ٥٧ -٦١].
وفي هذه الآيات يربط الله تعالى بين الخشية وبين الإيمان بالآيات سواء الكونية أو القرآنية التي تجعل المؤمنين موحدين، يبيعون الدنيا في مقابل الآخرة والفوز في يوم المعاد، فتنقلب حياتهم سباقًا في ميدان الأعمال الصالحة، وهي الهبة التي منحها الله لقارئ القرآن وسامعه.
قال تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [الحشر: ٢١].
يقول الألوسي: «وفي هذا تمثيل وتخييل لعلو شأن القرآن وقوة تأثير ما فيه من المواعظ والزواجر، والغرض توبيخ الإنسان على قسوة قلبه، وقلة تخشعه عند تلاوة القرآن، وتدبر ما فيه من القوارع، وهو الذي لو أنزل على جبل وقد ركب فيه العقل لخشع وتصدع»120.
والخشية لا تنبع إلا إذا أدرك الإنسان مكانة هذا القرآن وعظمة الخالق، حينها يمتلئ القلب بالتقوى، فتراه يحرص على العمل بطاعة الله، ما يجعله مستقيم الفكر، حسن السلوك.
وكل هذا يشع في النفس يقينًا بالله، واطمئنانًا بسلامة الطريق، وإحساسًا عاليًا بالمعية الإلهية، ما يبعث في المؤمن زهدًا لملذات الدنيا، ويستنبت في قلبه بذور الذل والتواضع والرحمة والانكسار بين يدي مولاه، ويحس حقارة نفسه بجانب خضوع مخلوقات الله له، فيعظم حب الله تعالى في القلب، وينطلق اللسان بالشكر والثناء، فتكثر الطاعات؛ تقربًا إليه، حتى لا يكون شيء أحب إليه في الوجود منه تعالى.
«فالأثر النوراني لهذا التفكر يعرقل عمل الشهوات في القلب، ويدفع أهواءها على حسب قوة الوارد من أنوار التفكر؛ فتسلب الشهوة من عاجل لذتها، فما يتبقى منها سوء عاقبتها»121.
لذا قال بشر الحافي: «لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى ما عصوه»122.
هذا التغير السلوكي والأخلاقي للنفس البشرية بتأثير التفكر يؤكده علماء النفس في العصر الحديث، فالتفكير التأملي لدى الأفراد «يساهم في تنمية: الإحساس بالمسؤولية، العقل المتفتح، والإخلاص، والفرد المتأمل أكثر قدرة على توجيه حياته، وأقل انسياقًا للآخرين، واستخدام التفكير التأملي لا يعني أن يكون لدينا فكر واضح، ولكن أيضًا امتلاك السلوك الذكي»123.
وهذا ما جعل الدكتور البدري يعتبر التفكر «العمود الفقري لتصور المسلم عن نفسه، واستعداده بعد ذلك لتغيير سلوكه وعاداته، فبدون التغيير لا يمكن تعديل السلوك والعادات»124.
وهذا يؤكد أن هناك رابطًا عجيبًا بين أفكار الإنسان وأخلاقه، وهو ما سبقه إليه الإمام ابن القيم حين بين أثر التفكر؛ «فالتفكر يوقع صاحبه من الإيمان على مالا يوقعه عليه العمل المجرد، فإن التفكر يوجب له من انكشاف حقائق الأمور وظهورها له، وتميز مراتبها في الخير والشر، ومعرفة مفضولها من فاضلها...، فإذا ورد عليه وارد الذنب والشهوة، فتجاوز فكره لذته، وفرح النفس به إلى سوء عاقبته، وما يترتب عليه من الألم والحزن الذي لا يقاوم تلك اللذة والفرحة، ومن فكر في ذلك فإنه لا يكاد يقدم عليه»125.
ويزيدنا بيانًا الإمام الغزالي حين يوضح لنا بالمثال كيفية تغير أحوال القلوب والنفوس بمفاهيم الفكر: «فإن الفكر يعرفنا أن الآخرة أولى بالإيثار، فإذا رسخت هذه المعرفة يقينًا في قلوبنا تغيرت القلوب إلى الرغبة في الآخرة والزهد في الدنيا، وهذا ما عنيناه بالحال؛ إذ كان حال القلب قبل هذه المعرفة حب العاجلة والميل إليها، والنفرة عن الآخرة، وقلة الرغبة فيها»126.
هذه الصفات النبيلة وغيرها تثمر في القلب حكمة تزين المتفكر، فلا تجده ذو فكر سقيم، أو رأي عديم، بل له من نفاذة البصر، وسداد الرأي ما يوجه به حياته إلى بر الأمان، كونه يتعمق في أسرار الأمور، ويدرك بدايتها وغايتها، ويميز بين النافع والضار، كما أن التفكر يعتبر سبيلًا للعمل، فلا معنى لإنسان يقضي ساعات يومه ينظر في ملكوت السموات والأرض، ويقلب بصره بين عوالم الخلق، دون أن يجعله هذا الأمر يشمر على ساعد الجد والاجتهاد للتقرب إلى الله بالطاعات، وبالقيام بمسئوليته تجاه هذا الكون قيادة وتسييرًا على منهج الرسل الكرام بما يحقق له السعادة في الدنيا والآخرة.
فالتفكر عمومًا فيه تهذيب للأخلاق، وتليين لقسوة القلب، وترويح عن النفس، وزاد للعقل، وحفظ للجوارح عن الحرام، وفي الخلوة يستشعر الإنسان مراقبة الله، ويتذكر ذنوبه فيها، فتحلو المناجاة، وتعظم محاسبة النفس ومعاتبتها، فتنفلت من ربقة الحياة الدنيا، وبهذا يتمكن المتفكر من تقوية إيمانه، وتحصين نفسه، وسمو أخلاقه، فتشرق أنوار المعرفة الإلهية في قلبه ويسير في مدارج السالكين إلى الله تعالى، ويصبح قادرًا على الانسجام في توليفة التسبيح الكونية التي تتجلى في أسمى معانيها في اليقين القلبي برسالته، وإلمامه بزمام العلم والمعرفة، وحسن تسخيره وتسييره لهذا الكون.
ثالثًا: التعرف على سنن الله في الآفاق والأنفس:
من الأهداف الأساسية التي وضعها القرآن الكريم لموضوع التفكر هو معرفة السنن الإلهية الكونية والإنسانية التي تقوم عليها المنظومة الكونية بشقيها الخاص بمجال الآفاق، أو ما يخص النفس البشرية «ذلك أن حوادث الكون خاضعة لسنن وقوانين سنها الله تعالى وفق أقدار قدرها...؛ ليبحث الإنسان عن سنن الله في الأمم السابقة، مما يجعل تفكيره سليمًا مبنيًا على قانون ثابت»127.
وقد جاء في القرآن آيات كثيرة تبحث في السنن، وتدعو الإنسان للوقوف عندها، والتأمل فيها ودراستها لاستبيانها أكثر، وهي دعوة إلى إدراك حقيقة هذه الحياة وروابطها على مدار الزمان، ووحدتها من حيث المنشأ والمصير، واكتشاف العلائق الحاكمة لها منذ خلق البشرية؛ «كي لا ينعزل جيل من الناس بنفسه وحياته، وقيمه وتصوراته، ويغفل عن الصلة الوثيقة بين أجيال البشر جميعًا، وعن وحدة السنة التي تحكم هذه الأجيال جميعًا، ووحدة القيم الثابتة في حياة الأجيال جميعًا»128.
قال تعالى: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ) [فصلت: ٥٣].
ومعرفة هذه السنن يجعل الإنسان يفهم سر هذه الحياة، ويمسك بزمام الأمور فيها، ويفقه قوانينها، ويساعده على فهم ظواهرها، وتسخيرها لتلبية حاجاته، وتيسير حياته، كما يعرفه على نتاج أعماله إن خالف هذه السنن، وعمل على الاستبداد والظلم وإثارة الفساد، فستسري عليه سنة الله بالهلاك والعقاب في الدنيا والآخرة، وإن أحسن وعمل على الإصلاح والتعمير، كانت سنة النصر والتوفيق للتقدم مصيره، وكتب له النجاح في امتحاني الدنيا والآخرة.
وقد بين الله سبيل التعرف على هذه السنن بالاعتماد على التفكر العميق في عواقب الأمور، والتدبر في الآثار وما بقي من دلائل وآثار الأقوام السابقة، وهذا لا يتأتى إلا بالسير المعتمد على النظر العقلي.
قال تعالى: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ) [آل عمران: ١٣٧].
والاستقراء العلمي والتاريخي لأسبابها وحقائقها، وربطها بالعقيدة؛ لتقريبه من خالقه، وبيان أهميتها في دنياه وأخراه؛ لأن النظر في الكون دليل لمعرفة سنن الله في الكون، والتي هي في حد ذاتها دليل على معرفة الله الواحد، وفي هذا إقرار بوجود مثل هذه السنن، وحث على معرفتها والاعتبار بها وتوظيفها في البناء الحضاري.
والمؤمن مطالب بالتنقيب عن هذه السنن واكتشافها؛ ليتبين له النظام الدقيق الذي يحكم هذا الكون، ويستخلص الحكم والعبر من الوقائع والأحداث؛ لأن سنن الله مترابطة ومتماسكة برباط محكم تبرز فيه الحكمة والإبداع، كما أنها تتميز بالنظام والثبات، فهي المقوم لانحراف الإنسان في سيره إلى الدار الآخرة، وسنن الله في خلقه كثيرة، ربط الله منها عدة سنن بموضوع التفكر، وجعله أساسًا للوصول إلى معرفتها، وبيان حقيقتها، من هذه السنن ما يأتي:
١. السنن الطبيعية في الكون.
يعرض الله سبحانه وتعالى في آيات كثيرة من القرآن الظواهر الكونية، وكيفية عملها.
قال تعالى: (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ) [يونس: ٢٤].
ففي هذه الآية يشبه الله الحياة الدنيا بالنبات؛ وذلك في دورة حياته وسنة الله في حياته، وفي سورة الرعد ذكر الله سبحانه وتعالى دلائل إنعامه على الإنسان فقد خلق له الأرض ممدودة مبسوطة؛ ليسهل عليه السير فيها والزراعة فيها، فالمد والبسط سنة الله في الأرض، وإن كان هذا لا ينفي كرويتها في الشكل العام، هذه الكروية في حد ذاتها هي سبب في دورانها حول نفسها ما يحدث تعاقب الليل والنهار، وسبب في دورانها حول الشمس ما يحدث اختلاف الفصول، وفي كل هذا منافع للناس، ثم ثبتها بالجبال الرواسي، وجعلها كالأوتاد لها، وشق خلالها الأنهار، ومن الأرض والأنهار يكون النبات والثمار.
وهي سنة جارية في الكون ذكرت وتكررت في القرآن كثيرًا؛ للتنبيه عليها، ومعرفة التعامل معها والاستفادة منها في طلب الرزق، وجعل سبحانه وتعالى النباتات ثابتة في الأرض؛ لأن الإنسان لا يستطيع الاستغناء عنها فهي غذاء أساسي، ولو جعلها متحركة كالحيوان لشق عليه الحصول إليها، لكن جعل غذاءه جزءان أحدهما نبات ثابت سهل المنال، وجزء متحرك يتمثل في الحيوان، وسخر له الوسائل المساعدة للتمكن منه.
وفي آية النحل بين الله هدايته لعالم الحيوان وسنته فيه، وكيف تسعى هذه الحشرات الصغيرة في الأرض بهداية الله وتحصل على رزقها فتستفيد وتفيد معها البشر، وهي سنة الله في الأرض فكل مخلوق مقدر له في هذه الأرض أن يأخذ منها ويعيد لها، في دورة لحياة الكائنات سنها الله تعالى، وهي قوانين دقيقة تحكم النظام الكوني لا يمكن أن تنفصم أو أن تختلف حتى لو مرت عليها ملايين السنين.
٢. سنة الزوجية.
يبين الله سبحانه وتعالى هذه السنة في كثير من الآيات.
يقول جل جلاله: (ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ) [الذاريات: ٤٩].
فالتناسل والتوالد والنمو بين الكائنات لا يكون إلا بزوجين متكاملين، وعادة ما يكونان من نفس الجنس؛ ليحدث التآلف والانسجام بينهما، وتستقر الحياة، وهي سنة تحكم الكون بكل ما فيه من جمادات وكائنات.
ففي عالم النبات يقول تعالى: (ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [الرعد: ٣].
يقول الرازي: «المراد بزوجين اثنين: صنفين اثنين، والاختلاف إما من حيث الطعم كالحلو والحامض، أو الطبيعة كالحار والبارد، أو اللون كالأبيض والأسود»129.
والعلم الحديث اكتشف أن النباتات هي أيضًا تتزاوج، ففي كل نبتة أوجد الله سبحانه وتعالى أعضاء التكاثر الذكرية والأنثوية، وبفعل قوة الريح أو انتقال الحشرات على النبتة أو على النباتات التي تحمل بذور الطلع يحدث هذا التزاوج.
وفي عالم الحيوان يقول تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [الشورى: ١١].
ويختار ابن عاشور أن قوله تعالى: (ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋﮌ ﮍ) [الرعد: ٣].
يتوقف فيها عند الثمرات، وتستأنف معنى آخر يشير إلى سنة الزوجية في الحيوان حيث يقول: «والظاهر أن جملة (ﮎ ﮏ ﮐ) مستأنفة؛ للاهتمام بهذا الجنس من المخلوقات، وهو جنس الحيوان المخلوق صنفين ذكرًا وأنثى أحدهما زوج مع الآخر»130. وهو معلوم وظاهر في حياة هذه الكائنات.
وفي عالم البشر يجعلها الله سبحانه وتعالى من أعظم الآيات، بحيث ربطها بآية الخلق والوجود.
قال تعالى: (ﮉ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ) [الروم: ٢٠ - ٢١].
وفي هذا امتنان من الله على الإنسان بهذه النعمة، فهذه الزوجية تمنح الإنسان سواء الذكر أو الأنثى السكن والمودة والرحمة، وهي عناصر الاستقرار والاستمرار على الأرض.
كما أن هذه السنة هي أساس عالم الجماد، فالذرة أصغر ما في هذا الكون، وتتكون من زوجين بروتون ونيترون، حتى الكهرباء الغير مرئية تتكون من شحنتين موجبة وأخرى سالبة، ومن بديع حكمة المولى أنه جعل أزواج الأشياء من نفس جنسها، ومتقاربة الخصائص، وركب ذلك في المخلوقات، فترى كل نوع يميل ويسكن إلى بني جنسه ومثيله.
٣. سنة الحياة والموت.
وهي سنة تأسر النفس البشرية، وتجعلها تحاط بإطار زمني مغلق، يبدأ في لحظة معينة، وينتهي إلى أجل مسمى، تنحصر فيه أعمال الإنسان وأقواله وتصرفاته، وهي دليل على حكمة التدبير، وحسن التنظيم والقدرة العظيمة لخالقه، لا ترتبط بالحياة البشرية، فقط بل يخضع لها الكون بأسره بكل ما فيه، فكل يسير إلى أجله المقدر له، وارتبط التفكر بهذه السنة في آية يونس (٢٤) ليعبر عن حقيقة الوجود الإنساني على هذه الأرض بأبلغ تشبيه، وأوجز عبارة، فمدة الحياة على هذه الأرض مذ بدء الخليقة لا تتجاوز في حقيقتها مدة نمو النبات وحصاده، فما بالك بحياة الفرد الواحد عليها، وهو مثل يحفل بالتوجيه والتنبيه؛ لعدم الركون إلى هذه الدنيا، ويحذر من الانحدار إلى شهواتها حتى تأتي لحظة النهاية ولا ينفع حينها الندم.
فالتفكر في هذه المثل يقودنا إلى الإيمان بحقيقة فناء الكون، من خلال تحقق سنة الحياة والموت في مستويين يقودان إلى مستوى ثالث «فالمستوى الأول يتمثل في إحياء الأرض بعد موتها، أو موتها بعد حياتها، فتكون الأرض مخضرة في الربيع، ثم يأتي الخريف فتكون حصيدًا، والمستوى الثاني تحقق في أهل القرى، فكم من قرية كانت عامرة بأهلها، تزدهر فيها الحياة بكل مظاهر الزينة من أنهار وزروع وثمار...
ثم أصبحت بعد ذلك خرابًا بما كسبت أيديهم...
فالمستوى الأول يشير إلى نهاية الحياة الدنيا، والمستوى الثاني يشير إلى نهاية الأمم والمجتمعات، ويكون المستوى الثالث هلاك كل شيء، فعلم أن لا خلود في هذه الحياة، وهذا مدعاة إلى التفكير الجدي بمصير الإنسان، ومصير الحياة »131.
كما جاء الحث على التفكر في سنة الموت في سورة الزمر، حين ربطت بالموازاة مع ظاهرة النوم في قوله تعالى: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﮊ ﮘ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [الزمر: ٤٢]؛ ليتمكن المتفكر أن يوازن بين هاتين الظاهرتين من حيث كونهما دليلًا على توقف الحياة والانتقال إلى عالم آخر غير هذه الحياة، فالنوم يشبه الموت في انقطاع الإدراك والإحساس والتصرف، وإن كان حالة مؤقتة، لكنها تنبئ عن حالة النوم الأبدي هي الموت.
إذن سنة الحياة والموت هي سنة كتبت على كل من في الأرض فما من شيء حي إلا وله نهاية.
قال تعالى: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [الرحمن: ٢٦ - ٢٧].
٤. سنة التسخير.
وهي من السنن التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز، يعلم بها البشر طرق التعامل مع الكون والاستفادة منه، فكل هذه العوالم التي هي أكبر من الإنسان حجمًا هي مذللة لهذا المخلوق الضعيف، قصد تسهيل خلافته على الأرض، رحمة وفضلًا من عند الخالق.
وهذه السنة تحكم النظام الكوني بطريقة منظمة وثابتة لا انفلات فيها، ما يسمح بالتفاعل الإيجابي للإنسان مع الكون، وهذا التسخير لا يكون إلا بالتعرف على خواص الأشياء وحقائقها باستعمال وسائل الإدراك والحس، والاستعانة بهدي القرآن الذي «يضبط صيغ التعامل بين الطرفين بقيم ومبادئ وأعراف، تحقق أقصى درجات التكشف والإبداع...، وتنشئ أكثر الصيغ الحضارية ملائمة لطموح الإنسان وأخلاقيته ومكانته في الكون»132؛ لأن التسخير هو قهر للمخلوقات وإرغامها على القوانين الكونية التي ركبها فيها الله؛ لذا حث القرآن على البحث في دقائق المخلوقات وخصائصها، واستكشاف مكامن الخير والنفع فيها؛ وذلك بالتعمق الدقيق في تفاصيلها وحقائقها التي لا تتبدى إلا بعد التفكر فيها.
كما حاول القرآن أن يضع الإنسان على هذه الطريق من خلال فتح بصره على بعض طرق الانتفاع بهذه الكائنات، فهو يضرب لنا مثلًا للتفكر في كائن صغير لا يكاد الإنسان يولي له شأنًا، لكن فائدته كبيرة بالنسبة له، وهو آية النحل، فقد خصها الله بسورة كاملة في محكم تنزيله، مبينًا لنا طريقة عيشها وعملها وفائدتها.
وفي هذا يقول الإمام السعدي: «في خلق هذه النحلة الصغيرة التي هداها الله هذه الهداية العجيبة، ويسر لها المراعي، ثم الرجوع إلى بيوتها التي أصلحتها بتعليم الله لها، وهدايته لها ثم يخرج من بطونها هذا العسل اللذيذ مختلف الألوان بحسب اختلاف أرضها ومراعيها، فيه شفاء للناس من أمراض عديدة، فهذا دليل على كمال عناية الله تعالى، وتمام لطفه بعباده، وأنه الذي لا ينبغي أن يحب غيره ويدعي سواه»133.
فسنة التسخير قانون إلهي وضعه في يد الإنسان؛ ليسهل به مهمته على الأرض، فيجب على الإنسان أن يعرف كيف يستغله ويصل به إلى إرضاء مولاه.
٥. سنة الهداية والضلال.
هي سنة جارية على الإنسان منذ أن خلقه الله وقدر عليه الحياة والعمل، فأهل الجنة هم أهل الهداية العاملون المجدون المخلصون، وأهل النار هم أهل الضلال والغواية والكفر، والهداية سنة بيد الله تعالى، يقول -جل في علاه-: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭿ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ) [الزمر: ٢٣].
وقد ارتبطت سنة الهداية والضلال بموضوع التفكر في آية الأعراف التي جاءت في معرض الذم للذين كفروا وكذبوا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، بالرغم من الحجج الدامغة والدلائل الباهرة التي جاءهم بها، وضرب لهم مثل العارف بآيات الله الذي آتاه الله علمًا واسعًا كان سبيل النجاة لو أراد ذلك العارف، لكن نفسه أبت إلا الركون إلى دار الفناء، وكان عمله مخالفًا تمامًا لعلمه، فسلبه الله ذلك العلم، وكتب عليه الضلال في الدنيا والآخرة.
يقول الألوسي: «وما ألطف نسبة إتيان الآيات والرفع إليه تعالى، ونسبة الانسلاخ والإخلاد إلى العبد، مع أن الكل من الله تعالى؛ إذ فيه من تعليم العباد حسن الأدب ما فيه»134.
وفي هذه الآيات ترغيب في العمل بالعلم، وأن ذلك رفعة من الله لصاحبه، وعصمة من الشيطان، وفيه ترهيب من إلقاء الآيات وراء الظهر، ما يدعوه لاتباع الهوى، والإخلاد إلى الشهوات، ونزولًا إلى أسفل سافلين.
٦. سنة الابتلاء.
ومن سنن الله على البشر سنة الابتلاء، وهي سنة كتبها الله؛ ليتميز بها الصالح عن الطالح، ويتباين منهج الحق عن مناهج الباطل، فتكون الدنيا هي دار الابتلاء، بما تحمله من مغريات وشهوات وملذات تغري بها الطامعين؛ لتكون حجة لمن انحط وغفل عن الغاية الكبرى وتقوم الحجة على من اتبع النهج السوي، وأمسك نفسه عن الهوى.
والتفكر في سنة الابتلاء وارد في قصة المثل الذي ضربه الله تعالى للمنفق المرائي الذي ابتلاه الله في جنته التي كانت عامرة وذات زينة وبهجة، وله ذرية ضعيفة يعولها، لكنه اغتر واستكبر، ونسي حق الله، فما كان إلا أن جرت عليه سنة الله بالابتلاء؛ لينتبه من نوم الغفلة، ويعود إلى الصراط المستقيم.
كما أنه سنة الله على رسله عند تبليغ دعوتهم، فمن ابتلاء النبي صلى الله عليه وسلم وصمه بالجنون والكذب.
قال تعالى: (ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ) [الأعراف: ١٨٤].
وفي هذا تسلية للدعاة على طريق دعوتهم وحث لهم على الصبر والاحتساب، فالابتلاء في الدنيا هو محبة من الله لعباده قصد تنبيههم إلى غفلتهم وتقصيرهم، وكثرة أخطائهم، وزيادة في حسناتهم، ورفعًا لدرجاتهم في الجنة.
وهذه بعض من السنن التي تحكم الحياة والكون، وهناك نواميس أخرى، حري بالعقل أن يبحث عنها ويفهمها ويوظفها؛ لتسهيل الحياة وخدمة الرسالة الربانية، وأن يتفكر فيها وفي معانيها قصد إدراك حقيقة وجوده على الأرض.
٧. سنة الله في الظالمين.
ويكون معنى (ﯲ ﯳ) أنهم يرون آيات صدقه في أحوال تصيب أنفسهم، أي: ذواتهم مثل الجوع الذي دعا عليهم به النبيء صلى الله عليه وسلم، ونزل فيه قوله تعالى: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) [الدخان: ١٠].
ومثل ما شاهدوه من مصارع كبرائهم يوم بدر وقد توعدهم به القرآن بقوله: (ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [الدخان: ١٦].
وأية عبرة أعظم من مقتل أبي جهل يوم بدر، رماه غلامان من الأنصار وتولى عبد الله بن مسعود ذبحه وثلاثتهم من ضعفاء المسلمين وهو ذلك الجبار العنيد. وقد قال عند موته: لو غير أكار قتلني، ومن مقتل أبي بن خلف يومئذ بيد النبيء صلى الله عليه وسلم وقد كان قال له بمكة: (أنا أقتلك) وقد أيقن بذلك فقال لزوجه ليلة خروجه إلى بدر: والله لو بصق علي لقتلني.
رابعًا: إدراك مقاصد الحياة والوحي:
إن من أهداف التفكر العامة والتي جاءت في رحاب آياته بيان مقاصد الحياة لكثير من الناس الذين يجهلونها؛ وذلك عن طريق إنزال الوحي وهداية البشر، ودعوة القرآن لاستكشاف هذه المقاصد بغرض تسهيل فهم الحياة لهم وإدراك سر خلقهم ووجودهم، وبيان مهمتهم والطريق المستقيم الذي يجب أن يسيروا عليه.
وبما أن التفكر من العمليات الراقية في العقل البشري، كان لابد أن تتصل مواضيعه بإدراك حكمة الحياة، وكشف مقاصد الشرع؛ لذا جاءت آياته واضحة في هذا المعنى مؤيدة له، عن طريق عرض مشاهد الكون والاستدلال بها عن عدم عبثية الخلق، ومن ثم هي تنبيه للإنسان إلى أنه الراعي المستخلف لشئون الكون بهدف القيام بأمور الرسالة الموكلة إليه.
فبعد تحقق الأهداف السابقة لموضوع التفكر من معرفة الإنسان لخالق الكون والإيمان به، ثم طاعة أوامره واجتناب نواهيه، مرورًا بتزكية نفسه وتهذيبها، ثم إحاطته بالسنن والنواميس الكونية، يبدأ عمله على هذه الأرض من خلال القيام بالمهمة التي من أجلها أرسل إلى الأرض، وهي تحقيق العبودية لله تعالى عن طريق حسن الاستخلاف في الأرض، قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ) [البقرة: ٣٠].
هذه الأمانة الاستخلافية التي قبلها الإنسان بالرغم من الضعف الكائن فيه، بعد إباء من هو أعظم منه في ميزان الوجود من سموات وأرض وجبال على حملها، قال تعالى: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) [الأحزاب: ٧٢].
وللقيام بأعباء هذه الأمانة كرمه الله تعالى بأن جعل حواسه المختلفة نوافذه على عالمه الخارجي، وميزه بالعقل عن سائر المخلوقات، وجعل لعقله سلطانًا على قوى نفسه، وركب فيه المشاعر؛ ليطل بها على نفسه الداخلية، وهداه بنور الوحي الرباني، وبعث إليه الرسل، كل هذه الوسائل؛ لينهض بهذه المسئولية الثقيلة، ويقوم بها على أكمل وجه، فيتحقق معنى العبودية التامة لله تعالى، وإن كان جل وعلا غنيًا عن هذه العبادة.
قال تعالى: (ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [العنكبوت: ٦].
هي رسالة ألم بها أرباب العقول (ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [آل عمران: ١٩١].
فسمت أرواحهم بعبير الذكر، وتغذت عقولهم برحيق الفكر، فأدركوا حكمة الخلق ورسالة الوجود، واعترفوا بالحق، وفهموا أن هذه الحياة ما هي إلا دار اختبار لطاقة الإنسان على حمل الأمانة والقيام بتبعاتها، وأن كل ما في الكون شاهد على هذه الحقيقة، ثم يكون اللقاء يوم القيامة؛ ليحاسبوا على أداء الرسالة، ويجازوا إما إلى الجنة أو إلى النار.
ومن إدراك هذه الحقيقة ينطلق المسلم بهذه المعرفة اليقينية، ويقابل عوالم الكون ويتعامل معها مراعيًا مبادئ وسنن النظام الكوني؛ لتحقيق مصالحه العليا على الصعيد الإنساني والحضاري وفق سياسة التوافق والانسجام.
قال تعالى: (ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [الإسراء: ٧٠].
وهي علاقة تكريم تتجسد فيها سيادة الإنسان ومحوريته، وتظهر مسئوليته الواعية تجاه نفسه وتجاه ما يحيط به عن طريق التفاعل الإيجابي معه، هذه المكانة ناتجة عن امتلاكه مفاتيح معرفة الكون، والوسائل والأدوات التي تجعله يحسن التحكم به.
هذه النظرة للكون والحياة هي جوهر التصور الإسلامي المخالف للنظريات الغربية التي تدفع بالإنسان للدخول في صراع مع الطبيعة للسيطرة على قواها، ومن ثم تسخيرها لخدمة أهدافه وتحقيق مصالحه، أما قمة العلاقة في الإسلام فتنشأ عن طريق الرحمة بالمخلوقات، والإحساس بدورها ومكانتها في المنظومة الكونية، والاستثمار الإيجابي لها، ما يكسب الإنسان فيها وحدة مع هذا الوجود وتناغما مع تسبيحاته؛ لأنهما خلقا من أجل هدف واحد هو تحقيق العبودية الكاملة للخالق الواحد.
ومن فهم هذه الرسالة استطاع أن يجمع بين مرتكزات الحضارة الإنسانية التي تقوم على الإيمان بالله، والعلم النافع، والعمل الصالح، وهي منظومة لا يمكن الفصل بين ركائزها وإلا حدث اختلال في التوازن الحضاري، وانتشر الضلال والفساد وكثر الشر، حينها لا بد أن يحدث الركود الحضاري، وتتوقف عجلة الرقي والتطور، ما ينبئ عن سقوط الحضارة، ولنا في حضارات الأمم السابقة عبرة، أين تزعزعت ركيزة الإيمان بالله، ما عجل بسقوط أمم كانت قد عمرت الأرض وآثارها شاهدة عليها إلى يومنا هذا، لكننا نجد في المقابل أن الحضارة الإسلامية لم تسقط ذلك السقوط المريع لباقي الحضارات، كونها ما تزال تحمل بذور قيامها في جنباتها، وإن فصلنا أكثر نجد أن القاعدة الصلبة التي تقوم عليها الحضارة الإسلامية هي الإيمان بالله، وهي قاعدة ما زالت صلبة عند المسلمين إلى يومنا هذا، لكن تخاذلهم عن اكتساب العلم النافع، وتضييع أسباب العمل الصالح هو ما أدى إلى أفول نجمهم، وتأخر ركبهم.
ولأن حل الأزمة وزمام الأمر في إيقاظ العقل ودعوته للتفكر، لم يهمل القرآن دور الفكر في هذه التربية، فقد اعتنى بمواءمة فكر الإنسان مع دوره المنوط به، من خلال فتح باب التفكر والتأمل على الكون على مصرعيه، فكانت آياته دعوة لاستثمار طاقة العقل فيما يفيد بني البشر بضوابط محددة، تغاير في أهدافها ووسائلها السياحة العقلية التي يدعو اليها الفكر الغربي اليوم، أو ما يسمى التأمل الارتقائي الذي لا تجاوز نتائجه حدود النفس البشرية -هذا إذا تحقق ذلك- دون أن ينعكس على الواقع والمجتمع.
وما الوضع المتردي الذي تمر بها الأمة الإسلامية في هذا العصر إلا وجه من وجوه التأزم الفكري وعدم وجود منهجية لتقويم مفاهيم الحضارة وتصحيح النظر إلى دور الإنسان في هذه الحياة، كل هذا ناتج عن عدم فقه التكامل الوحيي الفكري لرسالة الإسلام، ما أدى إلى اختلال الموازنة بين جانب الروح وجانب الفكر؛ لذا تبدو حاجة الإنسان الملحة إلى توفر تربية شمولية منظومية «تربط بين الإيمان والأخلاق الفاضلة، والعلم الصحيح والعمل الصالح وإن هذه العناصر الأربعة للتربية ينبغي أن تصبح متلازمة متماسكة إذا شئنا سعادة البشر أفرادًا وجماعات، ونجاة الإنسانية مما يحيط بها من شرور وأخطار»135.
وهي التربية التي غرسها القرآن في نفوس الجيل الأول فأثمرت.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) [العصر: ١-٣].
وستثمر في أي وقت متى وجدت تربة النفوس مهيأة؛ لتنهل من معينه.
وركز القرآن على الارتباط الوثيق بين العقل والوحي وتكاملهما في البناء الحضاري، فأمر العقل بالبحث في أرجاء الكون مسترشدًا بهدي الوحي، كاشفًا عن سر الخلق والخالق، فالوحي يتبدى في كتاب الله وسنة رسوله، وهما باب النجاة، ومفتاح هذا الباب نور الفكر الصحيح، هذه الثنائية تجعل البناء الحضاري بناءً حصينًا ومتينًا، وهذا التكامل هو الذي كان الدعامة القوية لتحفيز المسلمين للبحث في أسرار هذا النظام الكوني، وتفعيل هذا البحث في إرساء سفينة الاستخلاف؛ لتبنى حضارة استمرت عدة قرون.
لذا وجب على المتفكر وهو يجول في رحاب الكون أن يستأنس بنور الوحي الذي يمده بحقيقة الأشياء، ويكشف الغطاء عنها، فيقوم عقله بسبر أغوارها والتأمل فيها، كما أن الوحي يبصر العقل بأمور الغيب التي لا طاقة له بها، وتوجيهه للسير في هذه الحياة وتوضيح مهمته فيها، ومن ثم تزويده بطاقة إيمانية ومعرفية يحتاجها في الطريق، فآيات الله المنصوصة في الكتاب هي المدخل الصحيح للعلم بطبيعة الكون وسنته ونظامه الخاص، وبالتالي اكتناه أسراره وخفاياه، فآيات الله في الكون وآياته في الكتاب تبدوان في الوحي القرآني متساوقتان، بل ومتناسبتان تمام التناسب»136.
كما أن من مقاصد الوحي بيان وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم فما هو إلا تابع لما يوحى له، فبالتفكر الصادق يتبين أن الرسول لا يملك صفات الإله، ولا خصائص الملائكة، فهو بشر يتبع ما يأتيه به أمين الوحي جبريل عليه السلام (ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ) [النحل: ٤٤].
وليس لديه أي قدرة في تغيير شيء أو آية إلا بإذن الله تعالى، كما أن مهمته إنذار الكفار لما ينتظرهم من عقاب شديد نتيجة عدم اتباعهم للحق، وعملهم به، وارتباط الإنذار بآيات التفكر؛ ليثير في القلب الخوف والرهبة ومحاسبة النفس على أعمالها والاستعداد ليوم الجزاء.
موضوعات ذات صلة: |
الآيات الكونية، التدبر، العبرة، العقل، الغفلة، القرآن |
1 مقاييس اللغة، ابن فارس ٤/ ٤٤٦.
2 لسان العرب، ابن منظور ٥/ ٤٣٥١.
3 القاموس المحيط، الفيروزآبادي ٢/ ١١٥.
4 المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية ٢/ ٦٩٨.
5 المفردات، الراغب الأصفهاني ٢/ ٢٠٢.
6 التعريفات، الجرجاني ص٨٨.
7 انظر: المعجم المفهرس الشامل لألفاظ القرآن، عبد الله جلغوم، ص٨٨٣-٨٨٤.
8 انظر: لسان العرب، ابن منظور ٥/ ٦٥.
9 انظر: المصدر السابق ٤/ ٣٠٦٤.
10 المفردات، الراغب الأصفهاني ٢/ ١١٠.
11 الكليات، الكفوي ص٩٧٨.
12 مقاييس اللغة، ابن فارس ٢/ ٣٢٤.
13 المصباح المنير، الفيومي ١/ ١٨٩.
14 التعريفات ص٥٤.
15 الفروق اللغوية، العسكري ص٧٥.
16 مقاييس اللغة، ابن فارس ٢/٣٥٨- ٣٥٩.
17 المفردات، الراغب الأصفهاني ١/٨١.
18 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ١١/ ٨٩.
19 العمليات العقلية في القرآن الكريم، عبدالرحمن صالح عبد الله، مجلة جامعة الملك سعود، العلوم التربوية والدراسات الإسلامية، السعودية ١٩٩٥م، عدد ٧، ص ١١٦.
20 لسان العرب، ابن منظور ٥/٣٤٥٠.
21 المفردات، الراغب الأصفهاني ٢/٢٠١.
22 نظم الدرر، البقاعي ٧/ ٥٣١.
23 مدخل إلى موقف القرآن من العلم، عماد الدين خليل ص٩٤.
24 لسان العرب، ابن منظور ٤/٢٧٨٣.
25 المفردات، الراغب الأصفهاني ص٥٠٥.
26 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٨/٧٢.
27 انظر: التصوير الفني في القرآن، سيد قطب ص١٢٥.
28 انظر: جامع البيان، الطبري، ١٣/٢٥٣.
29 انظر: المصدر السابق ١٣/٢٥٥-٢٥٧.
30 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن أبي حاتم ٥/١٦١٧-١٦١٨.
31 روح المعاني، الألوسي ٩/١١١.
32 التحرير والتنوير ٩/١٧٩.
33 روح المعاني، الألوسي ٧/١٩٨.
34 المصدر السابق ٧/٢٠٠.
35 أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قوله: (ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ)، ٤/١٤٧، رقم ٣٣٧٢.
36 المنار، محمد رشيد رضا ١/١٤٠.
37 البرهان في علوم القرآن، الزركشي ١/٤٨٧.
38 البحر المحيط، أبو حيان ٢/٣٢٦ .
وذكره الطبري عن السدي قال: هذا مثل آخر للمرائي، وهو المرجح عنده، وروى عن ابن زيد: هو مثل للمان في الصدقة، وقال مجاهد وقتادة والربيع: للمفرط في الطاعة.
39 الكشاف، الزمخشري ١/٣٤١.
40 التفسير القيم، ابن القيم ص١٦٥.
41 أخرجه البخاري في التفسير، باب قوله: (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ)، ٤/١٦٥٠، رقم ٤٢٦٤.
42 أسرار التنوع في تشبيهات القرآن الكريم، ملك حسن عبد الرزاق بخش ص١٤١، ١٤٢.
43 البحر المحيط، أبو حيان ٢/٢٣٧.
44 المنار، محمد رشيد رضا ٧/٣٥٢.
45 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٧/٢٤٣.
46 أسرار التنوع في تشبيهات القرآن الكريم، ملك بخش ص١٥.
47 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١١/١٤٢.
48 مفاتيح الغيب، الرازي ١٧/٢٣٨.
49 تفسير السمرقندي ٢/١١١.
50 المنار، محمد رشيد رضا ٩/٣٤٠.
51 مفاتيح الغيب، الرازي ١٥/٤٠٦.
52 خطمه: أنفه.
انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٢/١٩٨.
53 التفسير القيم، ابن القيم ص٢٨٠، ٢٨١.
54 المنار، محمد رشيد رضا ٩/٣٤٢.
55 الكشاف، الزمخشري ٤/٥٠٨.
56 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٨/١١٧.
57 اللباب في علل البناء والإعراب، العكبري ٢/١٢٩.
58 البرهان في علوم القرآن، الزركشي ٢/٣٢٧.
59 من أساليب التربية بالقرآن التربية بالآيات، عبد الرحمن النحلاوي ص٥٢.
60 نظم الدرر، البقاعي ٢/٦٤١.
61 جامع البيان، الطبري ١٣/٢٨٩.
62 التحرير والتنوير ٩/١٩٥-١٩٦.
63 المصدر السابق ٢١/٥١.
64 روح المعاني، الألوسي ٢١/٢٢.
65 منهج القرآن الكريم في تربية الإنسان، مصطفى حوامدة، مجلة جامعة الشارقة للعلوم الشرعية والإنسانية، أكتوبر ٢٠٠٦م، المجلد ٣، العدد ٣ ص ٣٢.
66 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٣/٦٤.
67 أخرجه ابن حبان في صحيحه، ٢/٣٨٦، رقم٦٢٠ .
وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم ٦٨.
68 روح المعاني، الألوسي ٤/١٥٨.
69 المصدر السابق ٤/١٥٤.
70 مفاتيح الغيب، الرازي ٩/٤٥٦.
71 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٢/١٨٤.
72 أخرجه ابن المنذر في تفسيره، ٢/٥٣٤.
73 زهرة التفاسير، أبو زهرة ٧/٣٨٩٥.
74 منهج القرآن في صياغة تفكير الإنسان، زياد خليل الدغامين، مجلة الفرقان، ص٢٠٥.
75 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص١٦١.
76 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٤/ ٥٠٢.
77 روح المعاني، الألوسي ١٤/١٨٧.
78 الإنسان والكون في الإسلام، التفتزاني ص٣٨.
79 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ١/ ٤٣٥.
80 التحرير والتنوير ٢/ ٣٥٣.
81 انظر: إحياء علوم الدين، الغزالي ٤/٤٣٥-٤٤٠، مفتاح دار السعادة، ابن القيم ١/١٩٦.
82 في ظلال القرآن، سيد قطب ٦/ ٣٨٤٨.
83 التفكر من الشهود إلى المشاهدة، مالك البدري ص٦٩.
84 الفوائد، ابن قيم ص٣١.
85 إحياء علوم الدين، الغزالي ٤/٤٣٠.
86 في ظلال القرآن، سيد قطب ٥/ ٢٧٦٣.
87 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٤/١٧.
88 البناء العقلي في ضوء القرآن الكريم، ميساء كمال قلجة ص٦٧.
89 أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب النكاح، باب ما جاء في فضل النكاح، ١/٥٩٣، رقم ١٨٤٧، والحاكم في المستدرك، كتاب النكاح، ٢/١٧٤، رقم ٢٦٧٧.
وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم ٦٢٤.
90 روضة المحبين، ابن القيم ص٤٦.
91 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٥/٩٣.
92 تفسير الشعراوي ١٨ /١١٣٦٠.
93 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢١/٧١.
94 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب أكثر أهل الجنة الفقراء، ٤/٢٠٩٨، رقم ٢٧٤٢.
95 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب الصدقة على اليتامى، ٢/ ٥٣٢، رقم ١٣٩٦.
96 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ١٠/٣٠٣.
97 جامع البيان، الطبري ١٥/٥٥.
98 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الدعوات، باب ما يقول إذا نام، ٥/ ٢٢٦، رقم ٥٩٥٣.
99 القرآن ومنهج التفكير، محمد حجازي ص١٢٩.
100 التفكر من الشهود إلى المشاهدة، مالك البدري ص٧٧.
101 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجنائز، باب استئذان النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه، ٢/٦٧١، رقم ٩٧٦.
102 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٤٤١.
103 المصدر السابق ص٧٩٢.
104 الجمع بين القراءتين قراءة الوحي وقراءة الكون، طه جابر العلواني ص٣٢.
105 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، ٤/٢٠٧٤، رقم ٢٦٩٩.
106 مجموع فتاوى ابن تيمية ١٦/٥٠.
107 مفتاح دار السعادة، ابن القيم ١/١٨٧.
108 مفهوم التفكر في القرآن الكريم، زيلعي هندي ص٧٧.
109 فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، ابن رشد ص٢، ص٢٥.
110 رسائل الكندي الفلسفية، الكندي ص٢١٥.
111 أخرجه الطبراني في الأوسط ٦/٢٥٠، وابن أبي حاتم في تفسيره ٣/٨٤٢، والبيهقي في شعب الإيمان ١/١٣٦.
والحديث حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، ٤/٣٩٥، رقم ١٧٨٨.
112 التفكر في خلق الله الإنسان، الأرض، السموات، الغزالي ص٢٢- ٢٣.
113 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها، ١/١١٩.
114 المحاور الخمسة للقرآن الكريم، محمد الغزالي ص٢٩.
115 الله يتجلى في عصر العلم، نخبة من العلماء الأمريكيين بمناسبة السنة الدولية لطبيعيات الأرض، حرره: جون كلوفر مونسيما، ترجمة: عبد المجيد سرحان الدمرداش ص٢١.
116 المصدر السابق ص٢٢.
117 التفكر من الشهود إلى المشاهدة، مالك البدري ص٣١.
118 المنهاج شرح صحيح مسلم ٢/٥.
119 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٨٥٣.
120 روح المعاني، الألوسي ٢٨/٦٨.
121 التفكر عبادة ربانية وضرورة دعوية، محمد عادل، مقال من مجلة البيان على الانترنيت، ١٤٣٠هـ.
122 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٢/١٨٥.
123 فعالية استخدام بعض استراتيجيات ما وراء المعرفة في تحصيل الفيزياء وتنمية التفكير التأملي والاتجاه نحو استخدامها لدى طلاب الصف الثاني الثانوي الأزهري، فاطمة عبدالوهاب، مجلة التربية العلمية القاهرة مصر ديسمبر ٢٠٠٥م، المجلد الثامن، عدد ٤، ص١٧٧.
124 التفكر من الشهود إلى المشاهدة، مالك البدري ص٣١.
125 مفتاح دار السعادة، ابن القيم ١/١٨٠.
126 التفكر في خلق الله، أبو حامد الغزالي ص٤٢.
127 التربية بالآيات، النحلاوي ص٥٣.
128 في ظلال القرآن، سيد قطب ٥/٢٧٦٠.
129 مفاتيح الغيب، الرازي ١٩/٥.
130 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٣/٨٣.
131 منهج القرآن في صياغة تفكير الإنسان، زياد الدغامين ص٢٠٦.
132 الرؤية الكونية الحضارية القرآنية، عبد الحميد أبو سليمان ص٢١.
133 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٤٤٤.
134 روح المعاني، الألوسي ٩/١١٤.
135 نحو تربية مؤمنة، محمد الحمالي ص٥.
136 أصول المنهج العلمي في القرآن، محمد مجذوب ص١٣١.