عناصر الموضوع
التدرج
أولًا: المعنى اللغوي:
قال ابن فارس: «الدّال والرّاء والجيم أصلٌ واحدٌ، يدلّ على مضيّ الشّيء، والمضيّ في الشّيء»1، وعليه فلفظ (درج) دال على المشي والمضي.
وأما (درّج) بالتشديد فتشير هذه المادة في معاجم اللغة إلى الترقي شيئًا فشيئًا، وصولًا إلى غاية محددة، ومنه يقال -كما في لسان العرب-: «درّجت العليل تدريجًا إذا أطعمته شيئًا قليلًا؛ وذلك إذا نقه حتى يتدرج إلى غاية أكله، كما كان قبل العلة درجة درجة»2.
فعلى هذا يكون لفظ (درّج) دالًّا على التأني في تناول الشيء أو بلوغه.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
لا يختلف معنى التدرج في الاصطلاح عن معناه في اللغة، فجماع دلالات التدرج: أنه أخذ الأمر شيئًا فشيئًا، لا دفعة واحدة.
أو: هو الانتقال من مرحلة إلى مرحلة أخرى أعلى منها، وأرفع في الحس، أو في المعنى، أو في كليهما، وفى ضوء هذا المعنى قيل لمنازل الجنة: درجات من جهة أن بعضها يرتفع فوق بعض أخذًا من الدرجة التي تعني الرفعة والمنزلة.
والتدرج في الدين يعني: الدخول فيه شيئًا فشيئًا، رويدًا رويدًا، واستدراج الناس إليه درجة درجة.
وقد عرّف الدكتور الزحيلي التدرج بقوله: «التدرج في التشريع: هو نزول الأحكام الشرعية على المسلمين شيئًا فشيئًا، طوال فترة البعثة النبوية، حتى انتهى بتمام الشريعة، وكمال الإسلام»3.
والتدرج لا يقتصر على مجال التشريع ونزول الأحكام فقط، بل يشمل تطبيق الأحكام بعد اكتمال التشريع، فعندما نطلق كلمة التدرج التشريعي إنما نقصد بها المعنيين:
لم يرد لفظ (التدرج) في القرآن الكريم، وإنما ورد لفظ قريبٌ منه، وهو لفظ (الاستدراج).
وقد ورد في القرآن الكريم في موضعين، وهي:
قال تعالى: (ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) [الأعراف:١٨٢].
وقال تعالى: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ) [القلم:٤٤].
ومعناه: نأخذهم درجة فدرجة؛ وذلك إدناؤهم من الشيء شيئًا فشيئًا، كالمراقي والمنازل في ارتقائها ونزولها 4.
وهو قريب من معنى التدرج، الذي هو اقترابٌ من الهدف شيئًا فشيئًا5.
الترقي:
الترقي لغة:
ترقّى في العلم وغيره، أي: رقّي درجة درجة6.
الترقي اصطلاحًا:
التنقل في الأحوال والمقامات والمعارف7.
الصلة بين التدرج والترقي:
أن بينهما تشابهًا كبيرًا؛ إذ إن في كليهما تنقل من حال إلى حال، ومن منزلة إلى أخرى.
الاستعجال:
الاستعجال لغة:
فهو طلب الأمر قبل مجيئه، وتحريه قبل أوانه8.
واستعجله، أي: حثّه وطلب عجلته، قال الله تعالى: ﮋﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍﮊ [النحل: ١].
الاستعجال اصطلاحًا:
لا يخرج عن معناه اللغوي.
الصلة الاستعجال والتدرج:
أن الاستعجال نقيض التدرج؛ إذ التدرج الأخذ بالتدريج منزلة بعد منزلة، والاستعجال عكسه، وهو طلب الأمر قبل أوانه.
التدرج في الأمور من سنن الله تعالى، ومن سنن رسله -عليهم الصلاة والسلام-، واستعماله دليل على عمق فقه الرجل لكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، والقرآن الكريم واضح الدلالة على شرعية التدرج، سواء في طريقة نزوله، أو في تشريعه للأحكام، أو في دعوته، وسيأتي -إن شاء الله- بيان هذه الأنواع.
وفي المقابل فإن الاستعجال آفة عظيمة، توقع المرء في الزلل، وتورده في الخطل، وقد ورد النهي عنها في غير موضع في القرآن، فقد وردت هذه اللفظة (الاستعجال) ومشتقاتها (عجل، وتعجل، وعجّل، وعجّل، وعجّلنا، وأعجل، وأعجلك، وعجلت، واستعجل، ويستعجل، ويستعجلون، وتستعجلون، ويستعجلونك، واستعجالهم، وتستعجلوه، واستعجلتم) في القرآن الكريم في زهاء أربع وثلاثين مرة (٣٤) وكانت بمعنى الذم في الغالب، أو صفة للكافرين والمنافقين، كما في قوله تعالى: ﮋﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﮊ [العنكبوت: ٥٤].
وقوله: ﮋﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﮊ [الرعد: ٦].
وقوله تعالى: ﮋﯽ ﯾﮊ [الشعراء: ٢٠٤].
وقوله جل شأنه: ﮋﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍﮊ [النحل: ١].
وقوله تعالى: ﮋﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﮊ [الأنبياء: ٣٧].
وغيرها من الآيات التي جاءت كلها في النهي عن الاستعجال، والأمر بترك العجلة؛ والتي غالبًا ما توقع في العثرة والزلل، والمقصود أن سياق اللوم والتوبيخ، والأمر بترك العجلة كان ينتظم الاستعمال القرآني لهذه اللفظة.
بل قد جاء النهي للنبي صلى الله عليه وسلم عن استعجال أمر محبوب في الظاهر، وهو الاستعجال في القرآن، في قوله تعالى: ﮋﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟﮊ [طـه: ١١٤].
وقوله: ﮋﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﮊ [القيامة: ١٦].
والمقصود أن العجلة تنافي التدرج الذي هو سنة من سنن الله سبحانه وتعالى، وقانون من القوانين الكونية التي لا تبديل لها ولا تحويل، وهو سنة من سنن الخلق الإلهي للكون والعالم بسماواته وأراضيه، وهذه السنة الربانية يجب مراعاتها والأخذ بها في التربية والتعليم والدعوة وغيرها من الأمور.
التدرج سنة إلهية في الخلق والتشريع
تحدث القرآن الكريم عن سنة الله في التدرج وعرضها في صور منها: الخلق والتشريع، وسوف نبين ذلك فيما يأتي:
أولًا: التدرج في الخلق:
خلق الله تعالى السماوات والأرض في ستة أيام -وهو قادر على خلقهن بكن فتكون- لحكم عالية أرادها الله تعالى منها: تعليم عباده الأناة والتدرج في إيجاد الأشياء شيئًا فشيئًا.
قال تعالى: ﮋﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﮊ [ق: ٣٨].
وقال: ﮋﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﮊ [فصلت: ٩-١٢].
قال ابن عاشور: «وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يكون خلق السماوات والأرض مدرجًا، وأن لا يكون دفعة؛ لأنه جعل العوالم متولدًا بعضها من بعض؛ لتكون أتقن صنعًا مما لو خلقت دفعة؛ وليكون هذا الخلق مظهرًا لصفتي علم الله تعالى وقدرته، فالقدرة صالحة لخلقها دفعة، لكن العلم والحكمة اقتضيا هذا التدرج، وكانت تلك المدة أقل زمن يحصل فيه المراد من التولد بعظيم القدرة؛ ولعل تكرر ذكر هذه الأيام في آيات كثيرة لقصد التنبيه إلى هذه النكتة البديعة من كونها مظهر سعة العلم، وسعة القدرة»9.
وكذلك خلق الله تعالى الإنسان في أطوار مختلفة، وهو قادر سبحانه أن يخلقه دفعة واحدة، فخلقه نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، فخلق المضغة عظامًا، فكسا العظام لحمًا.
قال تعالى: ﮋﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﮊ [المؤمنون: ١٤].
ثم إن هذا الخلق الذي يبتديء بخلق النطفة إلى أن يصير بشرًا سويًّا، يتم في ظلمات ثلاث، كما أشارت إليه الآية في قوله تعالى: ﮋﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸﮊ [الزمر: ٦].
والمراد بالظلمات الثلاث هي: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة10، ففي تلك الظلمات الثلاث يتم ذلك الخلق العجيب، فعلى الإنسان أن يتصور نفسه وهو في تلك الظلمات الثلاث: لا عين تراه، ولا يد تلمسه، ولا حيلة له في التماس الغذاء.
وقال تعالى: ﮋﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮊ [الروم: ٥٤].
أي: إن الله تعالى هو الذي جعل الإنسان يمر في أطوار متفاوتة من الخلق حالًا بعد حال، فجعل أصله من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، ثم كوّن عظامه، ثم كسا العظام لحمًا، ونفخ فيه الروح، ثم أخرجه من بطن أمه ضعيفًا نحيفًا، واهن القوى، فقوله: ﮋﭻ ﭼﮊ أي: ابتدأه ضعيفًا، ثم يشبّ قليلًا قليلًا، فيكون صغيرًا، ثم شابًّا بالغًا، وهذا دور القوة بعد الضعف، ثم يأتي دور الضعف من ابتداء الكهولة، إلى الهرم والشيخوخة، وهو الضعف بعد القوة، فتضعف الهمة والحركة، وتتغير الصفات الظاهرة والباطنة.
هذا الانتقال والتدرج والتحول من حال إلى حال دليل على القدرة الإلهية الخالقة، وبرهان على البعث الذي ينكره المشركون، فإن القادر على هذا التغيير والتبديل قادر على الإعادة مرة أخرى إلى الحياة الأولى كما كانت؛ لأن من كانت قدرته تامة شاملة لا يصح مقارنتها بقدرة الإنسان النسبية، ولا يعجزه شيء، سواء في بدء الخلق أم حال إعادته11.
قال ابن القيم: «فأعد الآن النظر فيك وفي نفسك مرة ثانية من الذي دبّرك بألطف تدبير، وأنت جنين في بطن أمك في موضع لا يد تنالك، ولا بصر يدركك، ولا حيلة لك في التماس الغذاء، ولا في دفع الضرر، فمن الذي أجرى إليك من دم الأم ما يغذوك، كما يغذو الماء النبات، وقلب ذلك الدم لبنًا، ولم يزل يغذّيك به في أضيق المواضع وأبعدها من حيلة التكسب والطلب حتى إذا كمل خلقك واستحكم، وقوي أديمك على مباشرة الهواء، وبصرك على ملاقاة الضياء، وصلبت عظامك على مباشرة الأيدي، والتغلب على الغبراء، هاج الطلق من أمك، فأزعجك إلى الخروج أيما إزعاج إلى عالم الابتلاء»12.
فابن القيم رحمة الله عليه وضّح لنا وجه الدلالة من التدرج في خلق الإنسان على أن هناك مدبرًا حكيمًا قادرًا عليمًا وراء هذا الكون، وما فيه من المخلوقات، دبّره فأحسن تدبيره، فسبحانه من إله حكيم أحكم خلقه، وقدره تقديرًا.
وهذه المراحل إنما سيقت؛ لتبيّن لنا كيف خلق الإنسان؟ وكيف نما؟ وكيف تحوّل بحكم المراحل المتعاقبة إلى كائن حيواني؟ ثم كيف انتقل إلى ذلك الإنسان العاقل المدرك الواعي؟ عنده من المؤهلات والاستعدادات ما يجعله يتبوأ عمارة هذه الأرض، ومسئولية بنائها.
ولتبيّن أن ذاك التعريف بخلق الإنسان إنما جاء دليلًا على قدرة الله وعلمه وحكمته، وعندئذٍ يكون التعريف بتلك المراحل إنما هو تعريف بالله وبصفاته اعتمادًا على التعريف بأحد مخلوقاته المعتبرة اعتبارًا أوليًّا13.
وكذا قال في الظل: ﮋﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﮊ [الفرقان ٤٥-٤٦].
فقد جعل مدّ الظل وقبضه تمثيلًا لحكمة التدريج في التكوينات الإلهية، والعدول بها عن الطفرة في الإيجاد؛ ليكون هذا التمثيل بمنزلة كبرى القياس للتدليل على أن تنزيل القرآن منجّمًا جارٍ على حكمة التدرج؛ لأنه أمكن في حصول المقصود؛ وذلك ما دل عليه قوله سابقًا: ﮋﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽﮊ [الفرقان: ٣٢].
فكان في قوله: ﮋﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﮊ [الفرقان: ٤٥]، زيادة في التعليل على ما في قوله: ﮋﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽﮊ [الفرقان: ٣٢]14.
وانظر كذلك للقمر وهو يبدو صغيرًا، ثم يكبر رويدًا حتى يكمل، ثم يعود إلى النقص، وهو يشبه الإنسان؛ حيث إنه يخلق من ضعف، ثم لا يزال يترقى من قوة إلى قوة، حتى يعود إلى الضعف مرة أخرى، فتبارك الله أحسن الخالقين، قال -تعالى: ﮋﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﮊ [يس: ٣٩].
ومع هذه السنة في الخلق -وهي سنة التدرج- إلا أن الإنسان يتجاهل هذا التدرج، فيبذر البذرة اليوم ويريد النتيجة غدًا، ويعمل العمل اليوم ويريد النتيجة غدًا، وسنة الله عز وجل في الخلق والحياة على الترتيب والتدرج.
فالليل لا يفجؤك بسواده، والنهار لا يفجؤك بضوئه؛ وذلك لأن الله: ﮋﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋﮊ [الحديد: ٦] تدريجيًّا.
والإنسان لا يولد من بطن أمه فتنبت لحيته، ويكتمل عقله، ويتكلم على المنبر، بل يولد رضيعًا، ثم طفلًا، ثم شابًّا، ثم كهلًا، ثم شيخًا هرمًا، حتى يصل إلى الله، هذه سنة الله.
فهذا التدرج في الخلق لحكمة أرادها الله سبحانه، وإلا فهو قادر على خلق الخلق كلهم في أسرع من لمح البصر؛ لأنه أخبر أنه إذا أراد شيئًا قال له: كن فيكون.
ثانيًا: التدرج في التشريع:
من خصائص التشريع الإسلامي ومزاياه أنه لم يوجب على المسلمين الشرائع دفعة واحدة، ولكن تدرّج بهم، وأوجبها عليهم مرة بعد مرة، وتدرّج بهم من الأخف إلى الأثقل؛ تكريمًا لهذه الأمة، ورحمة بها، وقد جاء فرض الصلاة والصيام وتحريم الخمر والربا وغيرها على هذا النحو.
ويمكن القول: أن التدرج في التشريع سار وفق طريقين:
الطريق الأولى: التدرج بين الفرائض فيما بينها:
فتدرّج الشارع في فرض العبادات عمومًا، يشرع للناس عبادة، ثم يوجب عليهم أخرى، ثم يفرض عليهم ثالثة، ثم يختم لهم برابعة، وهكذا، ولم تفرض كلها في وقت واحد.
فالصلاة فرضت في السنة العاشرة من البعثة، أي: قبل الهجرة، والصوم شرع بعد ذلك بخمس سنوات، في العام الثاني من الهجرة، والزكاة في السنة الثانية من الهجرة عقب الصوم، والحج بعدهما، في السنة الخامسة أو السادسة أو الثامنة أو التاسعة، على خلاف في ذلك15.
فسنة الله في التشريع كسنته في التكوين، يرى المتأمل فيها من الحكم البالغة ما يبهر النظر؛ فإنه سبحانه بدأ في إنزال أوضاع الشريعة بالضروري الذي لا تصلح الأمة بدونه، ولا تخرج من ظلمة الجاهلية بغيره؛ فشرع لها بمكة ما يكفل ذلك، ثم لما صلب عودها، وبلغت أشدّها، واستعدت العقول لما يكمل ذلك من الأوضاع الشرعية شرع لها بالمدينة ما أكمل به الدين، وأتم به النعمة، ولولا ذلك التدرج لنأت الأمة بالتكاليف، وشرد عن قبولها كثير؛ فلله الحمد والمنة.
الطريق الثاني: التدرج في فرض كل عبادة:
وكذلك تدرج الشارع في فرض كل عبادة على حدة؛ حتى تكتمل كل عبادة بأركانها، وشروطها، وهيئاتها، وأعدادها، فيقيم في كل مرحلة ركنًا، أو يحدّد عدد الفريضة، أو يوضّح شرطًا من شروط صحتها، وهكذا.
والحكمة من ذلك أن الشارع الحكيم يراعي مصالح عباده، فلو أنزل الأحكام باتّةً على الوجه الذي تستقر عليه، دون تدرج ومرور بتلك المراحل، لكان ذلك أدعى لعدم الاستجابة، فكان من لطفه وحكمته أن ينزل الأحكام متدرجة على ما ذكرنا، وهذا النوع من التدرج -في التشريع- يتناول:
١. التدرج في تحريم ما كان مألوفًا عندهم على مراحل.
فحينما يكون الحكم متعلقًا بتحريم عادة متأصلة في النفوس فإن الشريعة حينئذٍ لا تفاجيء الناس بتحريم هذا الأمر مرة واحدة، بل تتدرج بهم على مراحل، في رفق وأناة، وفي تدرج، ففي الخمر بيّن الله أن في الخمر والميسر منافع ومضار، وإثمهما أكبر من نفعهما، فقال: ﮋﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲﮊ[البقرة: ٢١٩].
ثم حرّم السّكر عند الصلاة في هذه الآية: ﮋﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮊ [النساء: ٤٣].
ثم لما صارت حالة الإسلام والمسلمين تتحمل ذلك حرم الخمر تحريمًا قطعيًّا في المائدة: ﮋﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﮊ [المائدة: ٩٠].
وفي تحريم الخمر بهذا الترتيب حكمة بليغة؛ وذلك أن القوم ألفوا شرب الخمر، وأصبحت جزءًا من حياتهم، فلو حرّمت عليهم دفعة واحدة لشق ذلك على نفوسهم، فإنه من الصعب جدًّا أن يتركوا شرابًا طالما عاقروه، وشبوا عليه وشابوا.
يقول صاحب المنار: «والحكمة في تحريم الخمر بالتدريج: أن الناس كانوا مفتونين بها حتى إنها لو حرّمت في أول الإسلام لكان تحريمها صارفًا لكثير من المدمنين لها عن الإسلام، بل عن النظر الصحيح المؤدي إلى الاهتداء به؛ لأنهم حينئذٍ ينظرون إليه بعين السخط، فيرونه بغير صورته الجميلة، فكان من لطف الله، وبالغ حكمته أن ذكرها في سورة البقرة بما يدل على تحريمها دلالة ظنية فيها مجال للاجتهاد؛ ليتركها من لم تتمكن فتنتها من نفسه»16.
ومما يدل على أن القوم كانوا متعلقين بها، ما روي عن الأعشى أنه لما توجه إلى المدينة؛ ليسلم لقيه بعض المشركين في الطريق، فقالوا له: أين تذهب؟ فأخبرهم بأنه يريد محمدًا صلى الله عليه وسلم، فقالوا: لا تصل إليه، فإنه يأمرك بالصلاة، فقال: إن خدمة الرب واجبة، فقالوا: إنه يأمرك بإعطاء المال إلى الفقراء، فقال: اصطناع المعروف واجب، فقيل له: إنه ينهى عن الزنا، فقال: هو فحش وقبيح في العقل، وقد صرت شيخًا فلا أحتاج إليه، فقيل له: إنه ينهى عن شرب الخمر، فقال: أما هذا فإني لا أصبر عليه، فرجع وقال: أشرب الخمر سنة، ثم أرجع إليه، فلم يصل إلى منزله حتى سقط عن البعير، فانكسرت عنقه، فمات17.
٢. التدرج من الخفيف من الأحكام إلى الثقيل، إلى ما هو أثقل منه.
ومن أمثلة ذلك: الصيام، فالشارع لما أراد أن يفرض على المسلمين صيام شهر رمضان لم يفرضه عليهم دفعة واحدة، بل تدرج في إيجابه والإلزام به على مرحلتين:
المرحلة الأولى: وهي المرحلة التي فرض الله فيها الصوم على الأمة مع التخيير بين الصيام أو الإفطار مع الفدية، بدليل قوله تعالى: ﮋﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎﮊ [البقرة: ١٨٤].
فكان من أطعم كل يوم مسكينًا ترك الصوم، وهو يطيقه على قول الجمهور18.
وروي عن قتادة وعطاء ومعاذ بن جبل رضي الله عنه أن فرض الصيام كان أول الأمر ثلاثة أيام من كل شهر مع التخيير بين الصوم والفدية19.
المرحلة الثانية: وهي مرحلة الإلزام والتحتيم، وإكمال الفرض والإيجاب بصوم شهر رمضان؛ وذلك بنزول قوله تعالى: ﮋﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪﮊ [البقرة: ١٨٥].
أخرج النسائي عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: «لما نزلت هذه الآية: ﮋﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇﮊ [البقرة: ١٨٤].
كان من أراد منا أن يفطر ويفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها، فنسختها»20.
للتدرج مجالات تحدث عنها القرآن نبيّنها فيما يأتي:
أولًا: التدرج في العبادات:
كان التدرج سنة مرعية ومطردة في الشعائر والعبادات -بما فيها الكثير من أركان الإسلام- وليس فقط في أحكام الواقع والمعاملات، وقد سلك القرآن في ذلك منهجًا فريدًا، ومسلكًا بديعًا، فبدأ الشارع في فرض العبادات عمومًا، يشرع للناس عبادة، ثم يوجب عليهم أخرى، وهكذا التدرج في كل عبادة حتى تمامها وكمالها.
والتدرج في تقرير الشارع للعبادات وفرضها لا يخفى على من قرأ القرآن بتدبر؛ وفي ذلك تنبيه للدعاة، وفتح لعيونهم، وطرق لآذانهم، وإيحاء للمصلحين أن يرتكزوا على التدرج في التغيير والإصلاح، وأن ينتهجوا التدريج في التكليف والتبليغ.
فالصلاة بصورتها التامة والحالية اكتملت فريضتها ليلة الإسراء والمعراج، في السنة الثانية قبل الهجرة، الحادية عشرة من البعثة، والصوم فرض بالمدينة، وكذلك الزكاة والحج إلى بيت الله الحرام، وفيما يلي تفصيل ذلك.
١. التدرج في تشريع الصلاة.
فلم يكتمل تشريعها إلا بمراحل ثلاث:
المرحلة الأولى: وكانت الصلاة فيها ركعتين في الغداة، وركعتين في العشي. أخرج ذلك البيهقي، وذكره بعض المفسرين21.
وبهما أمر نبيه صلى الله عليه وسلم ومن معه في قوله تعالى: ﮋﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮊ [غافر: ٥٥].
قال البيضاوي في تفسير هذه الآية: «وقيل: صلّ لهذين الوقتين؛ إذ كان الواجب بمكة ركعتين بكرة، وركعتين عشيًّا»22.
وقال ابن أبي زمنين: «وهي صلاة مكة قبل أن تفترض الصلوات الخمس، حين كانت الصلاة ركعتين غدوة، وركعتين عشية»23.
وذكر ابن رجب هذا القول بصيغة التمريض، حيث قال: «لكن قد قيل: إنه كان قد فرض عليه ركعتان في أول النهار، وركعتان في آخره فقط، ثم افترضت عليه الصلوات الخمس ليلة الإسراء، قاله مقاتل وغيره، وقال قتادة: كان بدء الصلاة ركعتين بالغداة، وركعتين بالعشي، وإنما أراد هؤلاء: أن ذلك كان فرضًا قبل افتراض الصلوات الخمس ليلة الإسراء»24.
بينما يقول ابن عاشور: «إن الجمهور على أن الصلوات الخمس فرضت بمكة في أوقاتها، على أنه لا يتعين أن يكون المراد بالتسبيح في تلك الآية الصلوات، بل يحمل على ظاهر لفظه من كل قول ينزّه به الله تعالى»25.
المرحلة الثانية: وهي مرحلة فرض الصلاة ثلاث مرات في اليوم، الفجر والعصر، وقيام الليل، بإضافة العصر إلى ما كان قد فرض في المرحلة الأولى؛ وذلك بأمر الله تعالى للأمة من خلال نبيهم صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: ﮋﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﮊ [هود: ١١٤].
قال ابن كثير: «إنما كان يجب من الصلاة صلاتان، صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروبها، وفي أثناء الليل قيام عليه وعلى الأمة»26.
المرحلة الثالثة: وهي المرحلة التي اكتمل فيها التشريع، وتم إيجاب الصلوات الخمس؛ وذلك بقوله تعالى: ﮋﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﮊ[الإسراء: ٧٨].
قال الرازي: «أراد بالدلوك زوالها، فدخل فيه صلاة الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، ثم قال: ﮋﭴ ﭵﭶﮊ أراد صلاة الصبح»27.
وقالت عائشة رضي الله عنها: (فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين، ثم أتمها في الحضر، فأقرّت صلاة السفر على الفريضة الأولى)28.
٢. التدرج في تشريع الصيام.
وكذلك صيام شهر رمضان لما أراد الشارع أن يفرضه على المسلمين لم يفرضه عليهم دفعة واحدة، بل تدرج في إيجابه والإلزام به على مرحلتين، كما سبق.
وعن حكمة التدرج في فرض هذه العبادة، واستكمال تشريعها، يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: «ولما كان فطم النفوس عن مألوفاتها وشهواتها من أشق الأمور وأصعبها، تأخر فرضه -أي: الصوم- إلى وسط الإسلام بعد الهجرة؛ لما توطنت النفوس على التوحيد والصلاة، وألفت أوامر القرآن، فنقلت إليه بالتدريج»29.
٣. التدرج في فرض الزكاة.
أما فرض الزكاة فقد استمر تشريعه سنين عددًا، حتى اكتمل في السنة الثامنة بعد الهجرة، أخريات سنين الوحي.
فقد جاء ذكر الزكاة والأمر بها في السور المكية الأولى، مما يؤكد أن بدء تشريعها كان في مكة، ومن ذلك قوله تعالى في سورة الليل، وهي مكية: ﮋﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﮊ [الليل: ١٧-١٨].
وقوله تعالى في سورة لقمان، وهي مكية: ﮋﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﮊ [لقمان: ٤].
وفي سورة الروم: ﮋﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﮊ [الروم: ٣٩].
ثم يأتي ذكرها في أوائل السور التي نزلت في المدينة بالتشريع والتوجيه، مثل البقرة، فجاء فيها: ﮋﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮊ [البقرة: ٤٣].
وهكذا يستمر تشريع الزكاة وفرضها هذه السنين؛ لتكتمل صورتها في السنة الثامنة من الهجرة بقوله تعالى: ﮋﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙﮊ [التوبة: ٦٠].
فتشريع الزكاة لم يكتمل إلا بعد عشر سنين، أو يزيد، وهذا يدل على التأكيد على ضرورة الارتكاز على التدرج كمنهج دعوي حكيم.
التدرج في الدعوة إلى الله:
مراعاة سنّة التدرج في الدعوة والبيان والتعليم والأمر والنهي من الأمور المهمة، وندرك هذه الحقيقة في القرآن الذي هو كتاب الدعوة، فنجد التدرج فيه من ثلاثة جوانب:
١. التدرج في نزوله.
عند الحديث عن نزول القرآن جاء التعبير بالفعل ﮋﭛ ﮊ كما في قوله تعالى: ﮋﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﮊ [آل عمران: ٣].
وقوله تعالى: ﮋﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﮊ[الأعراف: ١٩٦].
وقوله: ﮋﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮊ [الحجر: ٩].
وقوله: ﮋﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮊ [البقرة: ٩٧].
وقوله: ﮋﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺﯻﮊ [البقرة: ١٧٦].
وعند النظر في الفعل (نزّل) في هذه الآيات وغيرها نجده جاء على وزن (فعّل) الذي يفيد التكثير والمبالغة غالبًا، نحو: (قطّع وكسّر وفتّح وحرّق وسعّر) ومن مقتضيات التكثير والمبالغة في الحدث استغراق وقت أطول، وأنه يفيد تلبثًا ومكثًا، فـ (نزّل) يفيد استغراق وقت أطول من (أنزل).
فـ(نزّل): يفيد التدرج والتكرار، و(أنزل) عام؛ وذلك هو الأكثر؛ ولذلك يوصف نزول القرآن بالتنزل؛ لأنه لم ينزل جملة واحدة، بل سورة سورة، وآية آية، فلفظ (نزّل): يفيد التفصيل والتنجيم والتفرق في النزول، أما لفظ (أنزل) فلا يقطع بذلك بل يحتمله.
ويؤيد هذا التفريق ما قاله العسكري في معجم الفروق اللغوية، حيث قال: «الفرق بين الإنزال والتنزيل، قال بعض المفسرين: الإنزال: دفعي، والتنزيل: للتدريج...، ويدلك عليه قوله تعالى: ﮋﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﮊ [آل عمران: ٣].
حيث خص القرآن بالتنزيل لنزوله منجمًا، والكتابين بالإنزال لنزولهما دفعة، وأما قوله تعالى: ﮋﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﮊ [الكهف: ١].
فالمراد هناك مطلقًا من غير اعتبار التنجيم، وكذا قوله تعالى: ﮋﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﮊ [القدر: ١].
فإن المراد إنزاله إلى سماء الدنيا، تم تنزيله منجمًا على النبي صلى الله عليه وآله في ثلاث وعشرين، كما وردت به الروايات»30.
وقد صرح القرآن بهذا التدرج في النزول في قوله: ﮋﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﮊ [الإسراء: ١٠٦].
وقال: ﮋﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿﮊ [الفرقان: ٣٢].
يقول مناع القطان: «فهذه الآيات ناطقة بأن القرآن الكريم كلام الله بألفاظه العربية، وأن جبريل نزل به على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن هذا النزول غير النزول الأول إلى سماء الدنيا، فالمراد به نزوله منجّمًا، ويدل التعبير بلفظ (التنزيل) دون الإنزال على أن المقصود النزول على سبيل التدرج والتنجيم، فإن علماء اللغة يفرّقون بين الإنزال والتنزيل، فالتنزيل لما نزل مفرقًا، والإنزال أعم.
ومن المعلوم أن القرآن قد نزل منجّمًا في ثلاث وعشرين سنة، منها ثلاث عشرة بمكة على الرأي الراجح، وعشر بالمدينة، وجاء التصريح بنزوله مفرّقًا في قوله تعالى: ﮋﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﮊ [الإسراء: ١٠٦].
أي: جعلنا نزوله مفرقًا؛ كي تقرأه على الناس على مهل وتثبت ﮋﭣ ﭤﮊ بحسب الوقائع والأحداث.
أما الكتب السماوية الأخرى -كالتوراة والإنجيل والزبور- فكان نزولها جملة، ولم تنزل مفرّقة، يدل على هذا قوله تعالى: ﮋﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿﮊ [الفرقان: ٣٢].
فهذه الآية دليل على أن الكتب السماوية السابقة نزلت جملة، وهو ما عليه جمهور العلماء، ولو كان نزولها مفرقًا لما كان هناك ما يدعو الكفار إلى التعجب من نزول القرآن منجّمًا، فمعنى قولهم: ﮋﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﮊ هلّا أنزل عليه القرآن دفعة واحدة كسائر الكتب؟ وما له أنزل على التّنجيم؟ ولم أنزل مفرقًا؟ ولم يرد الله عليهم بأن هذه سنته في إنزال الكتب السماوية كلها، كما رد عليهم في قولهم: ﮋﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛﮊ [الفرقان: ٧].
بقوله: ﮋﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷﮊ [الفرقان: ٢٠]»31.
الحكمة من نزوله منجمًا:
ذكر العلماء بعض الحكم من نزول القرآن منجمًا، فقال القرطبي: «ولو أنزل جملة بما فيه من الفرائض؛ لثقل عليهم...، وأيضًا: في تفريقه تنبيه لهم مرة بعد مرة، وهو أنفع لهم، وأيضًا فيه ناسخ ومنسوخ ولو نزل ذلك جملة؛ لنزل فيه الأمر بالشيء وبتركه وهو لا يصح»32.
وقال النسفي في معنى ﮋﯺﮊ: «لنقوي بتفريقه فؤادك حتى تعيه وتحفظه؛ لأن المتلقي إنما يقوى قلبه على حفظ العلم شيئًا بعد شيء، وجزءًا عقب جزء، ولو ألقي عليه جملة واحدة؛ لعجز عن حفظه، أو لنثبّت به فؤادك عن الضجر؛ وذلك بتواتر الوصول، وتتابع الرسول؛ لأن قلب المحب يسكن بتواصل كتب المحبوب»33.
قال صاحب الغرائب في بيان الحكمة من ذلك: «وتقريره من وجوه:
أحدها: أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يكن قارئًا كاتبًا، بخلاف موسى وداود وعيسى عليهم السلام فلم يكن له بد من التلقن والتحفظ، فأنزله الله عليه منجّمًا -في عشرين سنة، وعن ابن جريج: في ثلاث وعشرين-؛ ليكون أقرب إلى الضبط، وأبعد عن النسيان والسهو.
وثاني هذه الحكم: أن الاعتماد على الحفظ أقرب إلى التحصيل من الاعتماد على الكتابة، والحفظ لابد فيه من التدرج.
وثالثها: إن نزول الشرائع متدرجة أسهل على المكلف منها دفعة.
ورابعها: أن نزول جبريل ساعة فساعة مما يقوي قلبه، ويعينه على تحمل أعباء النبوّة والرسالة.
وخامسها: أن نزوله مفرّقًا يوجب وقوع التحدي على أبعاض القرآن وأجزائه، ونزوله جملة يقتضي وقوع التحدي على مجموعه، ولا ريب في أن الأول أدخل في الإعجاز.
وسادسها: أن نزوله بحسب الوقائع والحوادث أوفق في باب التكاليف والاستبصار، وأدل على الأخبار عن الحوادث في أوقاتها.
وسابعها: أن في تجديد منصب السفارة في كل حين مزيد شرف لجبريل»34.
والمقصود أن القرآن نزل منجّمًا مفرقًا على وفق المناسبات والحوادث والوقائع، أخذًا بمبدأ تربوي ناجح ألا وهو التدرج في التشريع لإصلاح المجتمع العربي الجاهلي تدريجيًّا، ومراعاة للمصالح، وتمكينًا من التخلص من العادات والتقاليد الموروثة شيئًا فشيئًا، وإعدادًا للحكم الشرعي المستقر بتقبل النفوس له، وتربيتها على وفق الغاية الشرعية بنحو بطيء، واقتناع عقلي ذاتي بأفق التشريع ومراميه البعيدة، فإذا توافرت المصلحة العامة للأمة بقي الحكم، وإن لم تتوافر عدّل أو بدل ونسخ.
والنسخ الذي هو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر يكون إما بنسخ لفظ الآية ومعناها أو أحدهما، أو بانتهاء الحكم المستفاد منها مع بقاء نصها، كل ذلك بحسب المصلحة أو الحاجة، كالطبيب الذي ينوّع الأدوية والأغذية باختلاف الأزمنة والأمزجة والأحوال الصحية، والأنبياء صلوات الله عليهم هم أطباء الأمة، ومصلحو النفوس، يوحى إليهم بتبديل الحكم الشرعي لمراعاة الأحوال الحاضرة أو المستقبلية، فما قد يصلح علاجًا في الماضي قد لا يصلح في المستقبل؛ وذلك كله يدل على مرونة الإسلام35.
٢. التدرج في تشريعاته.
وقد سبق بيان ذلك في نقاط مستقلة.
٣. التدرج في أسلوب في دعوته الناس.
لقد تدرج القرآن الكريم في أسلوبه في الدعوة، حيث اتخذ القرآن في علاج العادات السيئة التي تأصّلت في المجتمع أسلوبين:
الأسلوب الأول: هو تأجيل العلاج حتى يستقر الإيمان في قلوب المسلمين، بحيث يمكن الاستعانة بقوة الإيمان كدافع قوي يسهّل عملية التخلص من العادات السيئة المستحكمة، وتعلم عادات جديدة بدلًا منها.
أما الأسلوب الثاني: فهو عبارة عن التهيئة المتدرجة لنفوس المسلمين للتخلص من هذه العادات، ومثاله الخمر، وقد مر معنا مثاله.
ولنأخذ مثالًا آخر يبيّن لنا طريقة القرآن في التدرج في أسلوبه الدعوي في علاج العادات السيئة التي تأصّلت في المجتمع وهو تحريم الربا، فقد مر تحريم الربا بأربعة أدوار، كما حدث في تحريم الخمر؛ وذلك تمشيًا مع قاعدة التدرج:
الدور الأول: نزل قوله تعالى: ﮋﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﮊ [الروم: ٣٩].
فالله تعالى يقول في هذه الآية: إن الربا لا ثواب فيه عند الله.
فهذه الآية الكريمة نزلت في مكة وهي-كما يظهر- ليس فيها ما يشير إلى تحريم الربا، وإنما إشارة إلى بغض الله للربا، وإنما الربا ليس له ثواب عند الله.
الدور الثاني: ألقى الله تعالى على المسلمين درسًا وعبرة من سيرة اليهود الذين حرّم الله عليهم أكل الربا فأكلوه، فعاقبهم الله بمعصيتهم، فقد جاء في سورة النساء قوله تعالى: ﮋﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮﮊ [النساء ١٦٠-١٦١].
وهذه الآية مدنية، وهي درس قصّه الله سبحانه علينا من سيرة اليهود الذين حرّم عليهم الربا، فأكلوه، واستحقوا عليه اللعنة والغضب، وهو تحريم (بالتلويح) لا (بالتصريح)؛ لأنه حكاية عن جرائم اليهود، وليس فيه ما يدل دلالة قطعية على أن الربا محرّم على المسلمين، وهذا نظير (الدور الثاني) في تحريم الخمر ﮋﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﮊ [البقرة: ٢١٩].
حيث كان التحريم فيه بالتلويح لا بالتصريح.
الدور الثالث: جاء فيه النهي الصريح إلا أنه كان نهيًا جزئيًا عن الربا الفاحش الذي يتزايد حتى يصير أضعافًا مضاعفة، حيث نزل قوله تعالى: ﮋﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰﮊ [آل عمران: ١٣٠].
وهذه الآية مدنية، وفيها تحريم للربا صريح، ولكنه تحريم (جزئي) لا (كلي)؛ لأنه تحريم لنوع من الربا الذي يسمى (الربا الفاحش) وهو الربا الذي بلغ في الشناعة والقبح الذروة العليا، وبلغ في الإجرام النهاية العظمى، حيث كان الدين فيه يتزايد حتى يصبح أضعافًا مضاعفة، يضعف عن سداده كاهل المستدين، الذي استدان لحاجته وضرورته، وهو يشبه تحريم الخمر في المرحلة الثالثة حيث كان التحريم جزئيًّا لا كليًّا في أوقات الصلاة: ﮋﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮊ [النساء: ٤٣].
الدور الرابع: وفي هذا الدور الأخير نزل التحريم الكلي القاطع الذي لا يفرّق بين قليل أو كثير، والذي تدل النصوص الكريمة على أنه قد ختم فيه التشريع السماوي بالنسبة إلى حكم الربا، فقد نزل قوله تعالى: ﮋﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﮊ [البقرة ٢٧٨-٢٧٩].
وهذه الآيات الكريمة التي كانت المرحلة النهائية في تحريم الربا، تشبه المرحلة النهائية في تحريم الخمر في المرحلة الرابعة منه، حيث حرّمت الخمر تحريمًا قاطعًا جازمًا في قوله تعالى: ﮋﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﮊ [المائدة: ٩٠].
وبهذا البيان يتضح لنا سر التشريع الإسلامي في معالجة الأمراض الاجتماعية التي كان عليها العرب في الجاهلية بالسير بهم في طريق التدرج36.
ومن الأمثلة أيضًا على التدرج، التدرج في عقوبة الزنا.
فقد كان شائعًا ومنتشرًا في الجاهلية، وسعى الإسلام إلى اقتلاع هذه الرذيلة بالتربية والتوجيه على طريق التدرج، شأن الطبيب الذي يعالج المريض، ويرعى أحواله شيئًا فشيئًا، ثم نزل تحريم الزنا في عدة آيات بعد أن استقر الإيمان في القلوب، وتهيأت النفوس للقبول، وفرضت العقوبة على سبيل التدرج، فجعل الله تعالى عقوبة الزنا أولًا: الحبس في البيوت في سورة النساء: ﮋﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﮊ [النساء: ١٥].
ولما تأهلت النفوس لتقبّل العقوبة أنزل الله تعالى جلد الزاني غير المحصن (أي: غير المتزوج) في سورة النور ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮊ [النــور: ٤].
ثم نزل حكم الزاني المحصن (المتزوج) بالرجم في آية: (الشيخ والشيخة)37 المنسوخة لفظًا لا حكمًا، حتى كانت التربية الإيمانية تدفع الزاني للاعتراف، وطلب التطهر من دنس الزنا، مثل ماعز38 والغامدية39 اللذين أقرا بالزنا، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما، فكان للتدرج أثر بالغ في التكليف، وتقرير العقوبة، واجتثاث الفاحشة.
وجاء في السنة ما يؤيد أسلوب القرآن في التدرج، فقد ثبت أنه لما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه واليًا على اليمن، وأرشده إلى ما يجب أن يعمله، وابتداء ذلك بالدعوة إلى توحيد الله، وإفراده بالعبادة فقال: (فإذا عرفوا الله، فأخبرهم...)40.
فإن عليه أن يخبرهم بأوجب الواجبات بعد التوحيد، وهما الصلاة والزكاة، فإن امتثلوا أمره، فإن عليه أن يراعي فيهم جانب العدل، فلا يضارهم بأخذ خيار أموالهم؛ لأن ذلك ظلم لهم؛ وذلك مما يستثيرهم، فيدعون عليه، ودعوة المظلوم لا تردّ.
وهذا الحديث صريح في التدرج، وأن الشرائع يبنى بعضها على بعض (فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله)41، وقوله: (فليكن أول) فيه التدرّج في الدعوة، وأنه يبدأ بالأهم فالأهم، وهذه طريقة الرسل أنهم أول ما يبدءون بالدعوة إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله؛ لأنها الأصل والأساس الذي يبنى عليه الدين، فإذا تحققت شهادة أن لا إله إلا الله فإنه يمكن البناء عليها بالأمور الأخرى، أما إذا لم تحقّق شهادة أن لا إله إلا الله فلا فائدة من بقية الأمور، فلا تأمر الناس بالصلاة وعندهم شرك، ولا تأمرهم بالصيام والصدقة والزكاة وصلة الأرحام وغيرها، وهم يشركون بالله؛ لأنك لم تضع الأساس أولًا، وهذا بخلاف كثير من دعاة اليوم الذين لا يهتمون بشهادة أن لا إله إلا الله، وإنما يدعون الناس إلى ترك الربا، وإلى المعاملات الحسنة...، لكن التوحيد لا يذكرونه، ولا يلتفتون له، وكأنه ليس مفروضًا -ولا حول ولا قوة إلا بالله-، فهؤلاء مهما أتعبوا أنفسهم فإن عملهم لا ينفع؛ حتى يحقّقوا الأصل في الأساس الذي تبنى عليه أمور الدين، من حاكمية، ومن صلاة، ومن زكاة، ومن حج، إلى آخره، هذا منهج الأنبياء: ﮋﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮊ [النحل: ٣٦]42.
فمن الحكمة والاتّباع أن يراعي الداعية مبدأ التدرج في الدعوة؛ فلقد استقر في المنهج الشرعي النظر إلى المقاصد والغايات ورعايتها، ومما يوصل إلى تحقيق الغايات والمقاصد الأخذ بسنّة التدرج؛ لئلا تثمر الخطوة نتائج عكسيّة غير مرغوبٍ فيها؛ وتطبيقًا لهذا المعنى ينبغي أن يكون معلومًا لدى الداعية أنّ تحصيل الكليات من الدين مقدّمٌ على تحصيل الأمور الفرعية، ولا مانع من تحصيل شيءٍ من الفروع قبل الأصول إذا كانت في الطريق، ولم يكن ذلك على حساب تحصيل الأصول، أما إذا كان تحصيل الفروع على حساب الأصول فإن الحكمة وإن مراعاة سنة التدرج تقتضي تأجيل هذا المقصد إلى وقته المناسب43.
ثالثًا: التدرج في التربية والتعليم:
سلك القرآن الكريم في تغيير أحوال النفس وتربيتها وتزكيتها وتعليمها منهج التدرج.
ومن الأدلة التي تدل على التدرج في التربية قوله تعالى: ﮋﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮊ [التغابن: ١٦].
وقوله تعالى: ﮋﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝﮊ [البقرة: ٢٨٦].
وقوله تعالى: ﮋﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﮊ [البقرة: ١٨٥].
وقوله تعالى: ﮋﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱﮊ [الحج: ٧٨].
وأكد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه)44.
وقال: (إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق)45.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (والقصد القصد تبلغوا)46.
وكل هذه الأدلة تدل على أن الإسلام لم يكلّف النفس إلا وسعها واستطاعتها، وأن الله لم يرد بها إلا اليسر، ولم يرد بها العسر، وأن من اليسر بها: أنه تدرج بها نحو التزكية والكمال درجة درجة.
وامتدح الله تعالى الذين يسلكون هذا المسلك -التدرج- في تربية الناس، فقال: ﮋﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮊ [آل عمران: ٧٩].
ففي البخاري: (الرّبّانيّ: الّذي يربّي النّاس بصغار العلم قبل كباره)47.
وقال ابن الأثير رحمه الله: «الربانيّ: قيل: هو من الربّ بمعنى التربية، كانوا يربّون المتعلمين بصغار العلوم قبل كبارها»48.
ويقول الراغب الأصفهاني: «الرب في الأصل التربية، وهو إنشاء الشيء حالًا فحالًا إلى حد التمام»49. وهذا هو التدرج.
وهذا يعني أن تربية الأمم والمجتمعات لا تتم إلا بهذه السنة الربانية، والطريقة النبوية، وسبب ذلك أن التربية على منهج الإسلام تحتاج إلى جهد كبير ووقت طويل، ولا تتم بين يوم وليلة، يقول سيد قطب: «ولقد جاء هذا القرآن ليربي أمة، ولينشيء مجتمعًا، ويقيم نظامًا، والتربية تحتاج إلى زمن وتأثّر وانفعال بالكلمة، وإلى حركة تترجم التأثّر والانفعال إلى واقع، والنفس البشرية لا تتحوّل تحوّلًا كاملًا شاملًا بين يوم وليلة بقراءة كتاب شامل للمنهج الجديد، إنّما تتأثر يومًا بعد يوم بطرف من هذا المنهج، وتتدرج في مراقيه رويدًا رويدًا، وتعتاد على حمل تكاليفه شيئًا فشيئًا، فلا تجفل منه كما تجفل لو قدّم لها ضخمًا ثقيلًا عسيرًا»50.
فالداعية الذي يريد تأثيرًا لكلماته، وثمارًا لدعوته فعليه أن يسلك هذا الطريق القرآني النبوي في الدعوة إلى الإسلام؛ لأنّ بهذه الطريقة بنى النبي صلى الله عليه وسلم دولة الإسلام، يقول ابن تيمية: «فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما كان بيانه كما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم شيئًا فشيئًا، بمنزلة بيان الرسول لما بعث شيئًا فشيئًا، ومعلوم أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم لا يبلّغ إلا ما أمكن عمله والعمل به، ولم تأت الشريعة جملة، كما يقال: إذا أردت أن تطاع فامر بما يستطاع»51.
وقد أشار الإمام النووي لهذا المسلك التربوي، فقال: «وينبغي أن يؤدّب المتعلم على التدريج بالآداب السنية، والشيم المرضية»52.
والتدرج في التعليم والتربية هو ما نراه ملموسًا وعمليًّا في تعليم النشء على مراحل، وصفوف، وحصص، وساعات مدرسية وسنوات، وهذا المنهج في التدرج أحد خصائص التشريع الإسلامي الذي أنزله الله تعالى الحكيم في شرعه، الخبير بنفوس عباده، وأشرف على تطبيقه عمليًّا المعلم الأول، والمربي الرحيم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي اصطفاه الله واجتباه، وكلّفه حمل الأمانة، وتبليغ الرسالة، وتربية الأمة، والأخذ بها إلى جادة الصلاح والرشاد، فهو مبدأ تربوي مقبول عقليًّا وواقعيًّا.
والمتأمل في التربية القرآنية للصحابة رضي الله عنهم يجد أنها كانت تربية متدرّجة، فبدأت بتصحيح العقيدة، ونبذ الشرك والأوثان، وإفراد الله تعالى بالعبودية، ثم بعد بضع سنين من تصحيح العقيدة وتثبيتها في قلوب المؤمنين فرضت الصلاة، ثم الصوم، وباقي الأركان، وكذلك التدرج في تحريم المنكرات مثل الخمر كان على مراحل، بدأ بتذكير المؤمنين بما له من مضار ومفاسد، ثم بعد ذلك كان التحريم النهائي على وجه القطع.
بل إن مراعاة التدرج كانت سمة لازمة للتربية النبوية للصحابة في مكة والمدينة؛ لأن تربية النفس الأمارة بالسوء، وغسلها وتزكيتها وتطهيرها حتى يزول ما علق بها من شرك وجبروت وآفات ليس بالخطب الهين، كما أن ما تجذّرت عليه من مألوفاتها لا يمكن إزالتها في وقت وجيز، بل الأمر يحتاج إلى تدرج، ومراحل عديدة.
والذي يمكن التأكيد عليه أن التدرج لازم لتربية النفوس؛ إذ هو سنة من سنن الله في خلقه التي يجب مراعاتها والأخذ بها، فكما بدأت الدعوة النبوية بالتدرج عبر مراحل، فكذلك التربية والدعوة جزء منها، وهذا في غاية الأهمية؛ إذ لا يمكن أن نتصور تغييرًا بين عشية وضحاها، فلو كان الأمر كذلك لكان سيد الوجود أولى به، وقد أخذ بسنة التدرج في كل أنواع الجهاد، من تربية ودعوة وقتال في سبيل الله، وبناء المجتمع الإسلامي؛ لأن التربية عليها مدار كل شيء؛ إذ لا يمكن أن نتصور جهادًا بدون تربية، هذا فضلًا على أن التربية تقوم بمعالجة أشخاص لهم ماضٍ وبيئة اجتماعية مفتونة، واستعدادات، هذه المعالجة تريد من المربي أن يتدرج في التربية، وتريد منه حلمًا كثيرًا وتؤدة، وصبرًا طويلًا، وتنويعًا في الوسائل والأساليب، حتى تنضج الثمرة، ويشتد عود الغرس.
وقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عامًا في مكة، وعشر سنوات في المدينة يربي أصحابه على الإيمان والمحبة والبذل والتؤدة والجهاد، مراعيًا سنة التدرج، وسنة الله في تغيير الأنفس، فتدرجت التربية من صحبة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان بكل أركانه، وذكر الله وعبادته، إلى اختبار الصدق والإخلاص بالابتلاء، إلى البذل والسخاء، إلى ربط العلم بالعمل، إلى التميز عن المشركين ومفارقتهم، إلى الصبر وتحمل الأذى في سبيل الله، إلى تجديد قصدٍ ومضاءٍ في الطريق، إلى اكتمال الرجولة والجهاد والموت في سبيل الله.
وجدير بالذكر أن إعداد هذا الجيل قد تم تأسيسه على مدى ثلاثة وعشرين عامًا؛ أي: إنه لم يتم ذلك في دفعة واحدة، ولا بجرة قلم، ولا بأوامر واجبة التنفيذ في الحال، ولكنه تم بتدرج؛ مراعاة لأحوال النفس البشرية، فإنها لا تتخلى عن مألوفاتها ومعتقداتها في يوم وليلة، ولكن الله الحكيم العليم الخبير الرحيم، سلك بهم طريق التدرج حتى صار الإيمان في قلب الواحد منهم كالجبل، وصار الدين عند أحدهم أغلى وأعزّ عليه وأحب إليه من ماله وولده ونفسه والناس أجمعين53.
رابعًا: التدرج في الإصلاح والتغيير:
لقد تدرّج القرآن في عملية الإصلاح والتغيير، سواء كان هذا الإصلاح للمجتمع أو للفرد، أيًّا كان هذا الفرد، ابنًا أو زوجة أو عبدًا.
ولنأخذ مثالًا على هذا التدرج في عملية الإصلاح والتغيير، وهي من الحالات التي ينبغي التدرج فيها، وهي حالة نشوز وعصيان الزوجة.
قال تعالى: ﮋﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﮊ [النساء: ٣٤].
فهذه الآية تتحدث عن وسائل ناجعة لعلاج المرأة عند ظهور بدايات النشوز والتمرد عندها، وقبل أن يستفحل النشوز عندها، وتعلن تمرّدها، وهذا لا يصيب كل الزوجات إنما يصيب بعضهن، ومعظم الزوجات المسلمات ملتزمات بأحكام الشرع، تعرف الواحدة منهن واجبها فتؤدّيه، وتعرف حقّها على زوجها فتأخذه، فالآية لا تضع تشريعًا لكل الزوجات وإنما للنسبة القليلة الناشزة منهن!.
وترشد الآية زوج الناشز إلى اتخاذ ثلاث خطواتٍ متدرجة، فإن تم العلاج في الأولى فبها ونعمت، وإلا انتقل للثانية، والثالثة آخر الخيارات.
وهذا الترتيب بين هذه الأفعال المعطوفة غير متلقّى من صيغة لفظية؛ إذ العطف بالواو وهي مسلوبة الدلالة على الترتيب متمحضة الإشعار بالجمعية فقط، وإنما يتلقّى الترتيب المذكور من قرائن خارجة عن اللفظ، مفهومة من مقصود الكلام وسياقه.
قال القاسمي: «وجمهور العلماء على أن من الواجب على الزوج أن يسلك في معالجته لزوجته تلك الأنواع الثلاثة على الترتيب، بأن يبدأ بالوعظ، ثم بالهجر، ثم بالضرب؛ لأن الله تعالى قد أمر بذلك؛ ولأنه قد رتّب هذه العقوبات بتلك الطريقة الحكيمة التي تبدأ بالعقوبة الخفيفة، ثم تتدرج إلى العقوبة الشديدة، ثم إلى الأكثر شدة»54.
فالأمور الثلاثة مرتبة؛ لأنها لدفع الضرر كدفع الصائل، فاعتبر فيها الأخف فالأخف، وقيل: إنه لا يهجرها إلا بعد عدم تأثير الوعظ، فإن أثّر الوعظ لم ينتقل إلى الهجر، وإن كفاه الهجر لم ينتقل إلى الضرب.
حتى الطريقة الثالثة وهي: ﮋﭯﭰﮊ فلابد أن يكون ضرب تأديب غير مبرّح ولا مشين.
قال الرازي: «وبالجملة، فالتخفيف مراعى في هذا الباب على أبلغ الوجوه، والذي يدل عليه أنه تعالى ابتدأ بالوعظ، ثم ترقى منه إلى الهجران في المضاجع، ثم ترقى منه إلى الضرب؛ وذلك تنبيه يجري مجرى التصريح في أنه مهما حصل الغرض بالطريق الأخف، وجب الاكتفاء به، ولم يجز الإقدام على الطريق الأشق»55.
وهذه طريقة من قال: حكم هذه الآية مشروع على الترتيب والتدرج، فإن ظاهر اللفظ وإن دل على الجمع إلا أن فحوى الآية يدل على الترتيب.
والتعبير بالخوف في قوله تعالى: ﮋﭨ ﭩ ﭪﮊ ظاهره أنّ ترتب العقوبات المذكورة يكون بمجرد خوف النشوز وإن لم يقع النشوز بالفعل، إلا أن هذا الظاهر بعيد؛ لذلك أوّل العلماء هذه الآية عدة تأويلات، فمنهم من فسّر الخوف بالعلم، ومنهم من قدّر مضافًا: تخافون دوام نشوزهن، أو أقصى مراتب نشوزهن، ومنهم من قدّر معطوفًا محذوفًا: تخافون نشوزهن ونشزن56.
ومنهم من أبقى الخوف على أصله، وجعل جزاءه الوعظ فقط، تخافون نشوزهن بظهور أماراته، كخشونة بعد لين، وتعبيس بعد طلاقة، وإدبار بعد إقبال، ومتى ظهرت هذه الأمارات كان للزوج أن يعظها فقط، ويخوّفها عقوبة الدنيا وعقوبة الآخرة، فإن لم تمتثل كان ذلك نشوزًا محققًا، وله فيه الوعظ والهجران والضرب.
والمراد بالوعظ: أن يقول لها مثلًا: اتقي الله! فإنّ لي عليك حقًّا، وارجعي عما أنت عليه، واعلمي أن طاعتي فرض عليك، ونحو ذلك.
واختلفوا في معنى الهجران في المضاجع، فقيل: إنه كناية عن ترك جماعهن، وقيل: المراد: تركهنّ منفردات في حجرهنّ ومحل مبيتهن، فيكون في ذلك ترك جماعهن، وترك مكالمتهن، ولا يزيد في هجر الكلام عن ثلاثة أيام، وفسّر العلماء الضرب المباح بأنه الضرب غير المبرّح57.
وسنة التدرج في الإصلاح والتغيير تقتضي النظر إلى العواقب، والسير برفق وتأنٍّ، فليس كل منكر تجب إزالته أو تغييره على الفور، وإنما ذلك مشروط بألا يؤدي إلى منكر أكبر منه، فإن أدى إلى منكر أكبر منه وجب التوقف بشأنه، مع الكراهة القلبية له، ومقاطعته، ومع البحث عن أنجح الوسائل لإزالته، والأخذ بها، ومع العزم الصادق على الوقوف في أول الصف حين تتاح فرصة التغيير58.
وفي السنة والسيرة شواهد على ذلك:
فهاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث والأصنام تملأ جوف الكعبة، وتحيط بها وتعلوها من كل جانب، ثم لا يقبل على إزالتها بالفعل إلا يوم فتح مكة في العام الثامن من الهجرة، أي: أنها بقيت منذ بعث إلى يوم تحطيمها إحدى وعشرين سنة؛ ليقينه صلى الله عليه وسلم بأنه لو قام بتحطيمها من أول يوم قبل أن يحطمها من داخل النفوس لأقبلوا على تشييدها وزخرفتها بصورة أبشع وأشنع فيعظم الإثم، ويتفاقم الضرر؛ لذلك تركها، وأقبل يعد الرجال، ويزكي النفوس، ويطهّر القلوب، حتى إذا تم له ذلك أقبل بهم يفتح مكة، ويزيل الأصنام مرددًا: ﮋﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮊ [الإسراء: ٨١].
وتوقف النبي صلى الله عليه وسلم في شأن تجديد الكعبة، وإعادتها إلى قواعد إبراهيم خوفًا من أن يؤدي ذلك إلى منكر أكبر، وهو الفرقة والشقاق؛ بدليل قوله في رواية أخرى: (ولولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم)59.
بل إن المسلم حين يسكت عن منكر خوفًا من أن يؤدي إلى منكر أكبر مع الرفض القلبي والمقاطعة، ومع البحث عن أفضل السبل للتغيير، ومع العزم الصادق على أنه حين تتاح الفرصة لن يكون هناك توانٍ ولا تباطؤ لا يكون آثمًا بذلك، وصدق الله الذي يقول: ﮋﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝﮊ [البقرة: ٢٨٦].
ﮋﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮊ [التغابن: ١٦].
والمقصود أن سنن الله في التغيير وإصلاح المجتمعات جرت على اعتبار سنة التدرج، وسنة الأجل المسمى؛ لأن ما تراكم من الخطأ والانحراف في سنين لا يمكن تغييره بين عشية وضحاها؛ ولذلك وجب التأني والتدرج في علاج الأمور.
وقد قال سبحانه: ﮋﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓﮊ [النحل: ١٢٥].
وقوله تعالى: ﮋﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮊ [فصلت: ٣٤].
وقد جعل الله لكل حال وواقع أجلًا مسمى يمضي فيه؛ ولذلك قال ابن عطاء الله السكندري: «ما ترك من الجهل شيئًا من أراد أن يحدث في الوقت ما لم يظهره الله فيه»60.
ومن أشهر أمثلة التدرج في الإصلاح ما وقع من الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز؛ فإنه جاء إلى الحكم بعد مظالم اقترفها بعض الذين سبقوه، فتدرّج في الإصلاح، ولـم يتعجل في التغيير، فدخل عليه ولده عبد الملك، فقال له: يا أبت: ما منعك أن تمضي لما تريده من العدل؟ فو الله! ما كنت أبالي لو غلت بي وبك القدور في ذلك، قال: يا بنيّ! إني إنّما أروّض النّاس رياضة الصّعب، وإنّي أريد أن أحيي الأمر من العدل، فأؤخّر ذلك حتّى أخرج معه طمعًا من طمع الدّنيا، فينفروا من هذه، ويسكنوا لهذه61.
ومما يبيّن أهمية التدرج في التغيير والإصلاح ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: «فأمّا إذا كان المأمور والمنهيّ لا يتقيّد بالممكن: إمّا لجهله، وإمّا لظلمه، ولا يمكن إزالة جهله وظلمه، فربّما كان الأصلح الكفّ والإمساك عن أمره ونهيه...، فالعالـم في البيان والبلاغ كذلك؛ قد يؤخّر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التّمكّن، فإذا حصل من يقوم بالدّين من العلماء، أو الأمراء أو مجموعهما؛ كان بيانه لـما جاء به الرّسول شيئًا فشيئًا بمنزلة بيان الرّسول لما بعث به شيئًا فشيئًا، ومعلومٌ أنّ الرّسول لا يبلّغ إلّا ما أمكن علمه والعمل به، ولـم تأت الشّريعة جملةً...، فكذلك الـمجدّد لدينه، والـمحيي لسنّته لا يبلّغ إلّا ما أمكن علمه والعمل به...، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرّمات، وترك الأمر بالواجبات؛ لأنّ الوجوب والتّحريم مشروطٌ بإمكان العلم والعمل، وقد فرضنا انتفاء هذا الشّرط، فتدبّر هذا الأصل فإنّه نافعٌ»62.
إنّ هذه المنهجيّة، منهجيّة التدرّج والمرحليّة في التغيير تضع أسسًا علميّة وشرعيّة بين أيدي الدّعاة والعاملين على تغيير المجتمع، من أوضاعه غير الإسلامية إلى أوضاع تقوم على أساس الإسلام، في الفكر والثّقافة والتّشريع والقيم والأعراف والعادات.
فإنّ مجتمعات المسلمين الحاضرة تحمل في أبعادها المختلفة أوضاعًا غير إسلامية؛ ولكي يتمّ استئصال تلك الظواهر وتغييرها واستبدالها بأوضاع إسلاميّة، فهم في حاجة إلى أن يتبعوا منهج القرآن في سنّة التدرّج، رغم إنّ المسلمين جميعًا يؤمنون بالإسلام غير أنّ الغالبية منهم يعوزها فهم الإسلام ووعي مناهجه.
والمشكلة الأخرى هي عدم العمل بالإسلام وتطبيقه شريعةً ونظامًا ومنهج حياة للفرد والمجتمع والدولة؛ لذا فإنّ عمل الدعاة إلى الإسلام يتركّز في التوعية والتثقيف وتعميق الوعي الإسلامي، وتبصير المسلمين بدينهم، متّخذين من الرسول الكريم محمّد صلى الله عليه وسلم أسوة وقدوة، ومن القرآن دليلًا وهاديًا.
إنّ التّغيير كما في ثقافة القرآن ومنهجه يبدأ من أعماق الذات الإنسانية، فما لم تتغيّر الأفكار والثقافة والعواطف والأخلاق لا يتغيّر الوضع الاجتماعي: ﮋﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗﮊ [الرعد: ١١].
جدير ذكره أنّ الأوضاع الاجتماعية الخارجية لها آثارها وبصماتها في سلوك الأفراد وثقافتهم؛ لذا فإنّ إصلاح البيئة الاجتماعية، وحلّ مشاكل الإنسان الماديّة والمعاشيّة هي إحدى أهم الوسائل في إصلاح المجتمع إذا قام الإصلاح المادي على أساس قويم من الإصلاح الفكري والسّلوكي.
للتدرج ضوابط، نتناولها بالبيان فيما يأتي:
أولًا: البدء بالأهم والأيسر:
لما كانت الشريعة منها ما هو أركان، ومنها ما هو واجبات، ومنها مستحبات، كان لابد عند الأخذ بمبدأ التدرج الانتباه إلى البدء بالأهم والأيسر.
ولهذا نجد أن الشارع قد بدأ في الدعوة بالأهم، ثم المهم، فافترض عليهم أول شيء بعد التوحيد الصلاة؛ وذلك لعظيم أهميتها، فكان فرض الصلاة متقدمًا قبل بقية أركان الشريعة، يدل على ذلك حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حيث قالت: (فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم ففرضت أربعًا، وتركت صلاة السفر على الأولى)63.
ففي قولها: «ثم هاجر» دليل على تقدّم فرض الصلاة، وأنها فرضت قبل هجرته صلى الله عليه وسلم ؛ مما يدل على مزيتها على سائر الفرائض والعبادات، يؤكد هذه الأهمية أنه صلى الله عليه وسلم كان يبايع عليها بعد التوحيد، يدل على ذلك ما رواه البخاري عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم)64.
يقول ابن حجر مبيّنًا البدء بالصلاة بعد التوحيد: «وكان النبي صلى الله عليه وسلم أول ما يشترط بعد التوحيد إقامة الصلاة؛ لأنها رأس العبادات البدنية، ثم أداء الزكاة؛ لأنها رأس العبادات المالية، ثم يعلم كل قوم ما حاجتهم إليه أمس»65.
وكما كان صلى الله عليه وسلم يشترط بعد التوحيد الصلاة قبل غيرها، فقد كان صلى الله عليه وسلم يقدّمها على غيرها في فعله، يدل على ذلك حديث عتبان رضي الله عنه قال: (أصابني في بصري بعض الشيء، فبعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أحب أن تأتيني فتصلي في منزلي فأتخذه مصلى، قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ومن شاء الله من أصحابه...)66.
وقد استنبط الإمام النووي فائدة عظيمة من هذا الحديث الكريم، حيث قال: «وفيه البداءة بالأهم فالأهم، فإنه صلى الله عليه وسلم في حديث عتبان هذا بدأ أول قدومه بالصلاة، ثم أكل»67.
فدل هذا العمل النبوي الكريم على أهمية التدرج، ومراعاة البدء بالأهم فالأهم في الدعوة إلى الشريعة، وقد نبّه الإمام القرطبي إلى هذا التدرج الحكيم، فقال: «قال ابن عباس رضي الله عنهما: بعث النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدقوه فيها زادهم الصلاة، فلما صدقوه زادهم الزكاة، فلما صدقوه زادهم الصيام، فلما صدقوه زادهم الحج، ثم أكمل لهم دينهم)68.
ويدل على ذلك أيضًا حديث ابن عباس رضي الله عنهما حيث يقول: (لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى نحو أهل اليمن، قال له: (إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحّدوا الله تعالى، فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا صلوا فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة في أموالهم، تؤخذ من غنيهم فتردّ على فقيرهم، فإذا أقروا بذلك فخذ منهم، وتوقّ كرائم أموال الناس)69، فقرر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث التدرج في الدعوة إلى هذه الأركان، والبدء بالأهم فالمهم، وإلى هذا يشير النووي بقوله: «ولأنه صلى الله عليه وسلم رتّب ذلك في الدعاء إلى الإسلام وبدأ بالأهم؛ ألا تراه بدأ بالصلاة قبل الزكاة»70، فدل على أهمية مراعاة التدرج في الدعوة والتعليم، والبدء بالأهم فالأهم71.
وكما تدرج الشارع في الدعوة إلى أركان الإسلام مراعيًا بالبدء بالأهم ثم المهم؛ فقد راعى هذا الجانب في الدعوة إلى أخلاق الإسلام؛ حيث ابتدأ بالدعوة إلى أصول الأخلاق من الصدق والعدل وأداء الأمانة والعفة 72مراعيًا في ذلك جانب التدرج في الوجوب والعلو 73حيث حاجة الفرد إليها أمس، وأداؤها عليه أوجب، وقد جاءت الأدلة تؤكد اهتمامه صلى الله عليه وسلم في هذا الجانب في عهد مبكّر من دعوته، من ذلك ما رواه البخاري عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، أن عبد الله بن عباس أخبره أن أبا سفيان أخبره: «أن هرقل أرسل إليه، فقال: فما يأمركم؟ يعني: النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف والصلة»74، فدل هذا على أن هذه حاله صلى الله عليه وسلم مع الناس في ابتداء دعوته»75.
يؤيد هذا حديث جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه مع النجاشي، وفيه قوله: (فأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء...)76، فلما هاجر صلى الله عليه وسلم وطبّق المسلمون الإسلام، وامتد ميدان الدعوة، واتسعت البيئة أصّل الرسول صلى الله عليه وسلم الدعوة إلى ركائز أخرى في أخلاق المسلم من التآخي والتراحم والتعاون وترك التباغض والتحاسد، حيث حاجة الأمة المسلمة إلى هذه الأخلاق أشد، ممتثلًا قول الله تعالى: ﮋﯜ ﯝ ﯞﮊ [الحجرات: ١٠].
وقوله سبحانه: ﮋﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﮊ [الحجرات: ١٢].
وكما كان صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على التخلّق بكماليات الأخلاق، فقد كان يحذّرهم من الأخلاق السيئة التي تفضي بهم إلى التشبه بالمنافقين، والتخلّق بأخلاقهم77، ويستفاد من هذا أنه صلى الله عليه وسلم كان يركّز في هذا العهد على الدعوة إلى كماليات الأخلاق التي فيها خير وصلاح للأمة الإسلامية78.
وكذلك من التدرج البدء بالأيسر قبل الأثقل والأصعب، فالحانث مثلًا في اليمين مخيّر في الإطعام أو الكسوة أو العتق، وبدأ الله تعالى عباده بالأيسر فالأيسر.
قال تعالى: ﮋﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺﮊ [المائدة: ٨٩].
قال الفخر: «وبدأ سبحانه بالإطعام لأنه أعمّ وجودًا، والمقصود منه التنبيه على أنه سبحانه يراعي التخفيف والتسهيل في التكاليف»79.
وكذلك في حالة الدفاع عن النفس، فقد قال أهل العلم: «الدافع عن نفسه يجب عليه أن يدفع بالأيسر فالأيسر، وليس له أن يقصد القتل، بل يجب عليه أن يقصد الدفع، ثم إن لم يندفع إلا بالقتل جاز له ذلك».
وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها: (ما خيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه)80.
قال النووي: «فيه استحباب الأخذ بالأيسر والأرفق، ما لم يكن حرامًا، أو مكروهًا، قال القاضي: ويحتمل أن يكون تخييره صلى الله عليه وسلم هنا من الله تعالى فيخيّره فيما فيه عقوبتان، أو فيما بينه وبين الكفار من القتال، وأخذ الجزية، أو في حق أمته في المجاهدة في العبادة أو الاقتصار، وكان يختار الأيسر في كل هذا»81.
ثانيًا: مراعاة حال المخاطبين:
من ضوابط التدرج ودواعيه مراعاة حال المخاطب، ومستوى فهمه، واستيعابه للأمور، فإن من الناس من يكون حي القلب، تام الفطرة، ومنهم من يكون عكس ذلك.
وقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (ما أنت بمحدّث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة)82.
وفي صحيح البخاري عن علي رضي الله عنه قال: (حدّثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذّب الله ورسوله؟)83، وقوله: «بما يعرفون» أي: بما يفهمون، قال الحافظ: «وزاد آدم بن أبي إياس في كتاب العلم له، عن عبد الله بن داود عن معروف في آخره: ودعوا ما ينكرون، أي: ما يشتبه عليهم فهمه، قال: وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة»84.
وممن رأى التحديث ببعض دون بعض: أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان، ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف في الغرائب، ومن قبلهم أبو هريرة في الجرابين، وأن المراد ما يقع من الفتن، ونحوه عن حذيفة.
قال الشيخ ابن عثيمين: «ولهذا كان من الحكمة في الدعوة ألا تباغت الناس بما لا يمكنهم إدراكه، بل تدعوهم رويدًا رويدًا حتى تستقر عقولهم، وليس معنى: «بما يعرفون» أي: بما يعرفونه من قبل؛ لأن الذي يعرفونه من قبل يكون التحديث به من تحصيل الحاصل... فإن قيل: هل ندع الحديث بما لا تبلغه عقول الناس وإن كانوا محتاجين لذلك؟
أجيب: لا ندعه، ولكن نحدّثهم بطريقة تبلغه عقولهم؛ وذلك بأن ننقلهم رويدًا رويدًا حتى يتقبّلوا هذا الحديث، ويطمئنوا إليه، ولا ندع ما لا تبلغه عقولهم، ويقال: هذا شيء مستنكر لا نتكلم به.
ومثل ذلك: العمل بالسنّة التي لا يعتادها الناس ويستنكرونها، فإننا نعمل بها، ولكن بعد أن نخبرهم بها، حتى تقبلها نفوسهم، ويطمئنوا إليها، ويستفاد من هذا الأثر: أهمية الحكمة في الدعوة إلى الله عز وجل، وأنه يجب على الداعية أن ينظر في عقول المدعوين، وينزّل كلّ إنسانٍ منزلته»85.
فالحاصل أن طالب العلم والواعظ والمعلم يجب عليه أن يراعي أحوال الحاضرين وأحوال الناس، ويعطيهم ما يحتاجون إليه من المسائل، ولا يلقي عليهم المسائل الغريبة التي لم يتوصلوا إليها، فلو أتيت عند طلبة علم مبتدئين، فلا تلق عليهم غرائب المسائل التي لا يعرفها إلا الراسخون في العلم، بل تعلّمهم مبادئ ميسّرة سهلة يتدرّجون بها شيئًا فشيئًا.
ولهذا لما سئل صلى الله عليه وسلم عن الهلال: لم يبدو دقيقًا، ثم يزيد حتى يمتلئ نورًا -أي: يصير بدرًا- ثم يعود دقيقًا كما كان؟! نزل القرآن منبهًا إلى فائدة، دون الإجابة عن الحقيقة العلمية مع أنها محطّ السؤال، قال عز وجل: ﮋﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘﮊ [البقرة: ١٨٩].
والله سبحانه وتعالى وهو خالق الكون علويّه وسفليّه ومدبّره، والعليم بكل أسراره، كان يعلم الحقيقة العلمية ولا ريب، وكان من الممكن اليسير أن يعلّمها لنبيه صلى الله عليه وسلم ؛ ليجيب بها، أو لعله أعلمه بها، ولكن جاء القرآن على هذا الأسلوب الحكيم، بالتنبيه إلى الفائدة والغاية من هذا؛ رحمة بالناس، ورفقًا بعقولهم، فليست كل العقول كانت متهيئة في هذا الزمن البعيد لتقبّل الحقيقة العلمية، وقد يكون لبعضهم فتنة، فمن ثمّ ترك ذلك إلى العقول؛ لتصل إلى الحقيقة بعلمها وجدّها وبحثها، والعالم في تقدّمه مدين لهذا المنهج القرآني، فهو الذي فتح للبشرية آفاق العلم، والمعرفة، وقد كان صلى الله عليه وسلم يخاطب الناس على قدر عقولهم، واستعداداتهم، وله في ذلك السياسة الحكيمة، والتوجيهات الرشيدة86.
ومن هنا نستطيع أن نفهم السر في هذه الإجابة التي جاء بها القرآن الكريم للسائلين عن أوجه القمر بصرفهم عن السؤال ولفت أنظارهم إلى فوائد ذلك ومزاياه... (ومنها): أن القرآن الكريم لو عرض لبيان هذه الشئون كلها، واستوعب حقائقها وتفصيلاتها لصعب على الناس حفظه، ولمضت الأزمان الطويلة دون استيعابه نزولًا أو معرفة، ولنسي الناس هديه وإرشاده، فإن كثير الكلام ينسي بعضه بعضًا، ولقد يسّره الله تعالى وسهّله؛ ليكون ذلك أدعى إلى تذكّره، وأقرب للوصول إلى مقاصده، والعمل بما فيه: ﮋﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮊ [القمر: ١٧].
وهذه من بعض الحكم التي من أجلها لم يتناول القرآن الكريم حقائق العلوم الكونية بالتفصيل والتوضيح، وترك ذلك للعقل البشري يرقى إليه ببحثه المتواصل، ويتذوق لذة معرفته بكفاحه وجهاده، وهناك حكم أخرى لا نطيل القول فيها، وحسبك من القلادة ما أحاط بالجيد، والكلام في أسرار كتاب الله ذو سعة.
ومن ذلك: أن القرآن الكريم جاء بهذه الظواهر واستعرضها وعرضها على الناس في كثير من المواضع لغرض واحد؛ هو العبرة والعظة، ولفت العقل والقلب إلى ما فيها من جمال وروعة ورقة، وإعجاز وإبداع لا يكون إلا عن صانع حكيم87.
والمقصود أن التدرج ومراعاة أحوال المخاطبين ونفسياتهم وأفهامهم، وبخاصة أن الناس مختلفون، فيراعى في أهل الريف محدودية ثقافتهم، وضعف مستواهم التعليمي، مما يجعل الداعية يستخدم من العبارات ما يتناسب مع قدراتهم الذهنية، وأيضًا فالمتعلمون أنفسهم تتفاوت درجاتهم، فالمتعلم في رحاب جامعة أكاديمية يختلف عن المتعلم في رحاب وسيلة من وسائل الإعلام الأخرى، فالأول لا يخشى عليه عند عرض المادة العلمية من اختلاف المختلفين؛ إذ إنه يعلم عند التعارض والاختلاف كيف يكون الجمع أو الترجيح؟
ولهذا لا ينبغي أن يطرح على العوام بعض أحاديث الصفات-كحديث الصورة- التي لا تصل إليها أفهامهم، أو بعض شبهات المبتدعة والكافرين، أو بعض النصوص التي قد تبدو للجاهل وبادي الرأي متعارضة، أو بعض مسائل الاختلاف، أو الحديث عن مسائل القضاء والقدر، وأطفال المشركين، ووالدي الرسول، ونحو ذلك من المسائل التي قد تكون فتنة للجاهل والعامي؛ ولأجل هذا جاء النهي عن كثير من السلف عن الأغلوطات والمسائل المشكلة، وقد ترجم لهذا المعنى البخاري في صحيحه، فقال: «باب من خص بالعلم قومًا دون قوم كراهية أن لا يفهموا»88 89.
فليعلم الداعية إلى الله أن مفاجأة الناس بالسنّة التي يجهلونها، والإنكار عليهم بما يفعلونه؛ قد يسبّب بغضًا للسنّة وأهلها من قبلهم، وهو ما يصنع الحواجز بين الدعاة وبعض الناس في تعليمهم وتبيين السنّة لهم، ولا يعني هذا ترك نصحهم، وإنما المراد التدرج في دعوتهم.
ثالثًا: القدرة:
التدرج في تطبيق الشريعة المحكمة هو التدرج المبني أو المرتبط بالقدرة والعجز، فما قدرنا عليه وجب فعله، وما عجزنا عنه فلا يكلّف الله نفسًا إلا وسعها، ومن المعلوم وجوب امتثال المكلف لأمر الله عز وجل قدر استطاعته، وأن من قدر على فعل المأمور، وترك المحظور لم يسعه المخالفة.
فالتدرج يكون حسب قدرة المكلّف، والله تعالى قد قيّد التكليف بالقدرة والاستطاعة، والوسع والطاقة، فلا تكلّف نفس إلا وسعها، وقد قرّر الله سبحانه وتعالى ذلك المبدأ في كثير من الآيات، فقال: ﮋﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮊ [التغابن: ١٦].
وقال: ﮋﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝﮊ [البقرة: ٢٨٦].
والحجة تقوم على الإنسان، ويجب عليه العمل إذا كان مستطيعًا له، عالمًا به، يقول الإمام ابن تيمية: «والحجة على العباد إنما تقوم بشيئين: بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله، والقدرة على العمل به»90.
فإذا عجز المكلّف عن فعل الأثقل، تدرّج به إلى ما هو دونه، وأسهل منه، مع الأخذ في الاعتبار أن العجز نوعان:
فمن صور العجز الحسي: المرض والكبر وغيرهما.
ومن صور العجز المعنوي: ترتب مفاسد أكبر من المصلحة التي تم تحصيلها بإقامة الشرع، وقد قال تعالى: ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮊ [البقرة: ٢٠٥].
ولا يجوز تغيير المنكر بمنكر أعظم منه، فإذا ترتب على فعل المعروف أو النهي عن المنكر ما هو أشد منه فسادًا في عرف الشرع كان المكلف في حكم العاجز في هذه الحالة.
ومن هذا الباب امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن هدم الكعبة وبنائها بناءً صحيحًا خشية الفتنة، وأن يرتد الناس عن الإسلام، فهذا من أدلة العجز المعنوي، رغم كونه كان فاتحًا لمكة، ومع ذلك امتنع عن تطبيق بعض المعروف لما ذكرنا.
ومن هذا امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل بعض المنافقين خشية من الضجيج الإعلامي الذي قد يشوّه صورة الإسلام عند من لا يعرف حقيقته، فيصد عن الدخول فيه؛ إذ سينتشر الخبر في الشام والعراق وغيرها أن محمدًا يقتل أصحابه91.
وليس من التدرج في شيء: الامتناع عن تطبيق ما قدرت عليه، أو ما ترتب عليه مفسدة أقل من المصلحة المترتبة على الفعل، فقد دل الشرع على إهدار بعض المفاسد، وعدم اعتبارها، قال تعالى: ﮋﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﮊ [التوبة: ٢٨].
ونقل القرطبي الإجماع على أن اللوم والتوبيخ من الفاسق لا يعدّ من الإكراه الذي يسقط وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر92.
وليس من التدرج في شيء: الوقوع في الحرام، أو التوسع فيه وتكثيره أو إقراره! قال ابن رجب: «والتحقيق في هذا أن الله لا يكلّف العباد من الأعمال ما لا طاقة لهم به، وقد أسقط عنهم كثيرًا من الأعمال بمجرد المشقة رخصة عليهم، ورحمة لهم، وأما المناهي فلم يعذر أحد بارتكابها بقوة الداعي والشهوات، بل كلّفهم تركها على كل حال، وأن ما أباح أن يتناول من المطاعم المحرمة عند الضرورة ما تبقى معه الحياة، لا لأجل التلذذ والشهوة، ومن هنا يعلم صحة ما قاله الإمام أحمد: «إن النهي أشد من الأمر»، وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- من حديث ثوبان وغيره أنه قال: (استقيموا ولن تحصوا)93 يعني: لن تقدروا على الاستقامة كلها»94.
والحاصل: أنه ينبغي الالتزام بهذه الضوابط عند الأخذ بالتدرج، وإلا تحوّل التدرج في تطبيق الشريعة إلى شعار يؤدي لتفريغ الشريعة من مضمونها.
رابعًا: ما لا يجوز التدرج فيه:
التدرج بصفته منهجًا ربانيًّا تشريعيًّا لا يمكن أن يؤخذ على إطلاقه، بدون ضوابط ولا قيود، بل لابد من معرفة ضوابطه، وما يجوز فيه التدرج وما لا يجوز، ومما لا يدخل فيه التدرج ما يلي:
١.أصول العقيدة.
إن عقيدة المسلم تقوم على الإيمان بالله، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وهي تتعلق بالفكر والقلب، وهي أمور نظرية، فلا تخضع للتدرج؛ لأنها جازمة باتة، ولا تقبل المساومة، ولا التجزؤ، ولا المهادنة في إعلانها رسميًّا، والنطق بها أمام العالم في الداخل والخارج، وهي في الغالب أمور فردية وشخصية، ولا علاقة لها بالتنظيم والتقنين والتشريع.
وهذا منهج الرسول صلى الله عليه وسلم منذ أول البعثة، وعند تبليغ الدعوة، وهو ما سار عليه الصحابة والتابعون ومن بعدهم95.
٢. التدرج في الشريع بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
إن الأحكام الشرعية الأساسية تثبت بالنصوص القاطعة، وتواتر النقل فيها تواترًا حقيقيًّا أو معنويًّا، واستقر العمل عليها بالقبول، وأصبحت مسلمات في الدين، فلا تحتاج إلى دليل كأركان الإسلام، وأصول المباحثات والعقود، وكبائر المنهيات والمحرمات، فهذه الأحكام لا تقبل التدرج أيضًا كأمور العقيدة؛ لأنها ثوابت الشرع التي يقوم عليها، وتحدد الإطار العام للشريعة، ومقاصد التشريع، وإن المساس بها يخل بالموازين والأسس التي يقوم عليها المجتمع96.
فالأمور المحرمة قطعًا والثابتة في النصوص كالزنا والربا والخمر لا يمكن التدرج بها بإقرارها وإباحتها مبدئيًّا، ثم التدرج في إبطالها؛ لأنها تدخل ضمن المعلوم من الدين بالضرورة؛ لذلك يجب الإعلان عنها، والتصريح بتحريمها؛ ولكن يمكن التدرج في تعليم الناس، فيسكت عن بعضها إلى حين تمكن الإيمان من القلب وتعلم الأهم فالمهم.
شرع الله سبحانه وتعالى التدرج لحكم عظيمة، ومقاصد جليلة، منها:
أولًا: تهيئة النفوس لتقبل التكاليف:
سلك الشرع أسلوب التدرج؛ لترويض النفوس على تقبّل أحكام الله، فلم تفرض التكاليف كلها مرة واحدة، ولم تفرض بشكلها النهائي دفعة واحدة، بل تدرج بهم شيئًا فشيئًا.
فمثلًا: نجد أن الصلاة شرعت في أول الأمر صلاتين فقط، صلاة في الغداة، وصلاة في العشي، واستمر المسلمون على ذلك في مكة حتى نهاية العام العاشر للبعثة، ووقع الإسراء والمعراج وفرض الله خمس صلوات على المسلمين، وكانت صلاة الظهر والعصر والعشاء ركعتين ركعتين، فأقرّت في السفر، وزيدت في الحضر إلى أربع، كما سبق بيان ذلك.
قال ابن القيم: «كان فرض الصلاة أولًا ركعتين ركعتين؛ لما كانوا حديثي عهد بالإسلام، ولم يكونوا معتادين لها، ولا ألفتها طباعهم وعقولهم فرضت عليهم بوصف التخفيف، فلما ذالت بها جوارحهم، وطوّعت بها أنفسهم، واطمأنت إليها قلوبهم، وباشرت نعيمها لذتها وطيبها، وذاقت حلاوة عبودية الله فيها، ولذة مناجاته، زيدت ضعفها، وأقرّت في السفر على الفرض الأول؛ لحاجة المسافر إلى التخفيف، ولمشقة السفر عليه، فتأمل كيف جاء كل حكم في وقته مطابقًا للمصلحة والحكمة! شاهدًا لله بأنه أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، الذي بهرت حكمته العقول والألباب، وبدا على صفحاتها بأن ما خالفها هو الباطل، وأنها هي عين المصلحة والصواب»97.
وكانت الزكاة في أول الأمر اختيارية، وكان المسلم يخرج ما شاء صدقة لله تعالى؛ لقوله عز وجل: ﮋﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﮊ [البقرة: ٢١٩].
ثم فرضت الزكاة في قوله تعالى: ﮋﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨﮊ [التوبة: ١٠٣].
وكذلك الصيام لم يفرض جملة واحدة، وإنما شرع على التدرج، كان مفروضًا في يوم عاشوراء، وفي بعض الأيام المعدودات، حتى فرض الصيام شهرًا كاملًا في رمضان.
قال ابن القيم في بيان الحكمة من ذلك: «لما كان -أي: الصوم- غير مألوف لهم ولا معتاد، والطباع تأباه إذ هو هجر مألوفها ومحبوبها ولم تذق بعد حلاوته وعواقبه المحمودة، وما في طيّه من المصالح والمنافع فخيّرت بينه وبين الإطعام، وندبت إليه، فلما عرفت علته -يعني: حكمته- وألفته، وعرفت ما ضمنه من المصالح والفوائد حتّم عليها عينًا، ولم يقبل منها سواه، فكان التخيير في وقته مصلحة، وتعيين الصوم في وقته مصلحة، فاقتضت الحكمة البالغة شرع كل حكم في وقته؛ لأن المصلحة فيه في ذلك الوقت»98.
وقال ابن حجر الهيتمي: «وحكمته -أي: التدرج في الصوم- الرفق بالأمة؛ لأنهم لما لم يألفوا الصوم كان تعيينه عليهم ابتداء فيه مشقة، فخيّروا بينه وبين الفدية أولًا، ثم لما قوي يقينهم، واطمأنت نفوسهم حتّم عليهم الصوم وحده، ونظير ذلك أنه صلى الله عليه وسلم أول ما بعث لم يكلّف الناس إلا بالتوحيد فقط، ثم استمر على ذلك مدة مديدة، ثم فرض عليهم من الصلاة ما ذكر في سورة المزمل، ثم نسخ ذلك كله بالصلوات الخمس، وكان كلما ازداد ظهورًا وتمكنًا ازدادت الفرائض وتتابعت، كل ذلك لما قررته من الرفق والتدرج في المراتب حتى تؤخذ بحقها»99.
ثانيًا: التمهل في استئصال العادات القبيحة المتأصلة في النفوس:
كان التدرّج في تحريم المحرّمات والعادات القبيحة لاسيما العادات المتوارثة على مرّ قرون طويلة مراعاةً لأحوال الناس، ورحمةً بهم، وتيسيرًا عليهم؛ إذ جاء الإسلام والعرب قد تأصّلت في نفوسهم غرائز ألفوها، ولا يسهل اقتلاعها مرة وحدة؛ فتدرج بهم التشريع في تحريمها على مراحل.
وقد جاء الإسلام إلى مكة وكان أهلها قد استحكم فيهم عادات وأعراف، ولم يكن من السهل نهيهم عنها جملة؛ لذلك تدرج بهم حتى تخلّصوا منها.
فمثلًا الخمور كانت منتشرة في المجتمع قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى صار شرب الخمر في البيئة العربية جزءًا من السلوك الاجتماعي الذي يفاخر به، ويتغنى به الشعراء.
قال النعمان بن نضلة العدوي100:
فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني
ولا تسقني بالأصغر المتثلّم
فلم يكن من الحكمة تحريم الخمر مرة واحدة، إنما الأنفع والأصلح هو التدرج في التحريم، ومن ثمّ حرّمت الخمر على أربع مراحل كما سبق ذكره.
قال القفال: «والحكمة في وقوع التحريم على هذا الترتيب أنّ الله تعالى علم أنّ القوم كانوا ألفوا شرب الخمر، وكان انتفاعهم بها كثيرًا، فعلم الله أنه لو منعهم دفعة واحدة لشق عليهم، فلا جرم استعمل في التحريم هذا التدرج وهذا الرفق»101.
والمقصود أن بعض العادات السيئة التي إذا ألفها الإنسان، واعتاد عليها، واستحكمت في نفسه، لا يمكن تغيّرها إلا بنوع مخصوص من أنواع العلاج، وهو جعل الإنسان يتخلى عنها رويدًا رويدًا.
فكان التدرج هو العلاج الناجع لهذه الأمراض، يقول الشيخ عبد القادر بن ملا العاني: «وذلك أنه صلى الله عليه وسلم بعث والعرب على عادات مستحكمة فيهم، منها ما هو صالح للبقاء، لا ضرر فيه على تكوينها، ومنها ما هو ضار، يجب إبعادهم عنها، فاقتضت حكمته أن يتدرج في نهيهم عنها شيئًا فشيئًا»102.
ثالثًا: تسهيل الانقياد للحق:
لقد جاء القرآن في بيئة لا تعرف للحق نصرة، وتتخبط في ظلمات الضلال والفساد، ولم يكن إخراجهم من هذه الحياة وهذا الواقع إلى نور الإسلام بالأمر السهل، فراعى التشريع الإسلامي ذلك، فنزلت التشريعات متدرجة حتى يسهل انقيادهم للحق، ويمتثلون الإسلام دينًا ودولة.
يقول الأستاذ مصطفى شلبي: «والحكمة في ذلك التدرج أن هذا النوع من التشريع يكون أقرب إلى القبول والامتثال، خصوصًا مع أولئك العرب الذين كانوا في إباحية مطلقة، تجعلهم ينفرون من التكليف بالجملة»103.
فإذا كان نزول التشريعات مدرّجة يسهل الانقياد والامتثال، فإن نزولها جملة ينفّر المجتمع، ولا ينقاد إلى هذه التشريعات الجديدة، يقول الإمام القرطبي: «ﮋﭣ ﭤﮊ [الإسراء: ١٠٦].
مبالغة وتأكيدًا بالمصدر للمعنى المتقدم، أي: أنزلناه نجمًا بعد نجم، ولو أخذوا بجميع الفرائض في وقت واحد لنفروا» 104.
لأنها تكلّفهم ما لا يستطيعون تحمله، وفي امتثالهم لها عنت ومشقة؛ لأن الإنسان إذا كان في حياة منحلّة عن التدين واعتادت نفسه عليها لا يستطيع أن يكلّف نفسه الخروج من هذه الحياة إلى حياة أخرى مختلفة تمامًا، ويمتثل تشاريع أخرى جديدة بين يوم وليلة، وعدم استطاعته لها سببان:
الأول: أنه لا يستطيع أن يخرج بغتة عن حياة ألفها وانقاد إليها ردحًا من الزمان؛ لأن فطرته تأبى عليه ذلك.
والثاني: أن امتثال تكاليف جديدة جملة واحدة تتكاثر عليه، ولا يستطيع أن يؤديها على وجهها المراد، بخلاف إذا ما كلّف بحكم واحد أو اثنين، ثم لما اعتاد عليهما وأتقنهما كلّف بحكم آخر، يقول الإمام الشاطبي: «فلو نزلت دفعة واحدة لتكاثرت التكاليف على المكلف، فلم يكن لينقاد إليها انقياده إلى الحكم الواحد أو الاثنين»105.
ومن أول من أشار إلى الحكمة من التدرج في التشريع أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حيث قالت: (... إنما نزل أوّل ما نزل منه -أي: القرآن- سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا...)106.
وقد بيّن ابن حجر رحمه الله في شرحه لهذا الحديث الحكمة من هذا التدرّج، فقال: «أشارت إلى الحكمة الإلهية في ترتيب النزول، وأن أول ما نزل من القرآن الدعاء إلى التوحيد، والتبشير للمؤمن والمطيع بالجنة، وللكافر والعاصي بالنار، فلما اطمأنت النفوس على ذلك أنزلت الأحكام؛ ولهذا قالت: «ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندعها»، وذلك لما طبعت عليه النفوس من النفرة عن ترك المألوف»107.
فسهل عليهم قبول الأحكام والالتزام بالتكاليف بعد أن تجهّزوا وتهيّأت نفوسهم لقبولها؛ لأن الإيمان قد خالط قلوبهم، وصاروا طائعين لله، مستجيبين لأوامره.
والخلاصة: أن من دواعي التدرج: أنه جاء تخفيفًا على الناس، وتماشيًا مع فطرة الإنسان التي يتطلب التعامل معها التزام التدرج لتغييرها، وحسن الارتقاء بها، كما أن التدرج يتلاءم مع منهج التغيير بشكل عام؛ إذ لا يمكن تغيير أوضاع المجتمعات لتتفق مع الشريعة إلا بأسلوب التدرج.
موضوعات ذات صلة: |
التربية، الدعوة، العلم |
1 مقاييس اللغة ٢/٢٧٥.
2 لسان العرب، ابن منظور ٢/٢٦٧.
3 التدرج في التشريع والتطبيق في الشريعة الإسلامية، محمد مصطفى الزحيلي ص ٢٧.
4 انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني ص ٣١١.
5 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٢/٢٧٥، المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، ١/٢٧٧.
6 شمس العلوم، نشوان الحميري ٤/٢٦٠٣.
7 التوقيف، المناوي ص ٩٦.
8 انظر: التوقيف، المناوي ص ٤٨، دستور العلماء، القاضي نكري ١/٧٧.
9 التحرير والتنوير ٨/١٦١.
10 جامع البيان، الطبري ٢١/٢٥٩.
11 انظر: التفسير المنير، الزحيلي ٢١/ ١١٤ بتصرف.
12 مفتاح دار السعادة ١/٢٥٥- ٢٥٦.
13 انظر: مباحث العقيدة في سورة الزمر، ناصر الشيخ ص ٣٣٦.
14 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٩/٣٨.
15 انظر: السراج المنير، الشربيني ٤/٤١٣، تاريخ التشريع الإسلامي، مناع القطان ص ١٥١.
16 المنار ٧/٤٢.
17 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٣/٥٦.
18 فتح القدير، الشوكاني ١/٢٠٨.
19 جامع البيان، الطبري ٣/٤١٤.
20 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الصوم، باب نسخ قوله تعالى: ﮋﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮊ، ٢/٢٩٦، رقم ٢٣١٥، والترمذي في سننه، أبواب الصوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء ﮋﮁ ﮂ ﮃﮊ، ٢/١٥٤، رقم ٧٩٨، والنسائي في سننه، كتاب الصيام، باب تأويل قول الله عز وجل: ﮋﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇﮊ، ٤/١٩٠، رقم ٢٣١٦.
وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي ٣/١٥٤.
21 أخرجه البيهقي السنن الكبرى في كتاب الصلاة، باب أول فرض الصلاة ١/٥٢٩-١٦٨٨.
وانظر: تفسير مقاتل بن سليمان ١/١٤٣، زاد المسير، ابن الجوزي ٢/٣٣، الدر المنثور ١/٤٢٩.
22 أنوار التنزيل، ٥/٦١.
23 تفسير القرآن العزيز، ٤/١٣٨.
24 فتح الباري، ابن رجب ٢/٣٠٤.
25 التحرير والتنوير ٢٤/٧٥.
26 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٤/٣٥٥.
27 مفاتيح الغيب، الرازي ٦/٤٨٢.
28 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء؟، ١/٧٩، رقم٣٥٠، ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، ١/٤٧٨، رقم ٦٨٥ واللفظ له.
29 زاد المعاد ٢/ ٢٩.
30 الفروق اللغوية ص ٧٩.
31 مباحث في علوم القرآن، مناع القطان ص ١٠٦.
32 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٣/٢٩.
33 مدارك التنزيل، ٢/٥٣٦.
34 غرائب القرآن ٥/٢٣٦.
35 انظر: التفسير المنير، الزحيلي ١/٢٦١.
36 انظر: روائع البيان، الصابوني ١/٣٩٠.
37 جامع البيان، الطبري ٨/ ٤٣٩، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ١/٣٧٥.
38 أخرج حديثه البخاري في صحيحه، كتاب الحدود، باب هل يقول الإمام للمقر: لعلك لمست أو غمزت، ٨/١٦٧، رقم ٦٨٢٤، ومسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنا، ٣/١٣١٩، رقم ١٦٩٢.
39 أخرج قصتها مسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنا، ٣/١٣٢١، رقم ١٦٩٥.
40 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة، ٢/١١٩، رقم ١٤٥٨، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، ١/٥١، رقم ١٩.
41 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة، ٢/١١٩، رقم ١٤٥٨، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، ١/٥١، رقم ١٩.
42 انظر: إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد، صالح الفوزان ١/١٠٧.
43 انظر: دعوة إلى السنة في تطبيق السنة منهجًا وأسلوبًا، عبد الله الرحيلي ص ٥٢.
44 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدين يسر، ١/١٦، رقم ٣٩.
45 أخرجه أحمد في مسنده، ٢٠/٣٤٦، رقم ١٣٠٥٢.
وحسنه الألباني في صحيح الجامع ١/٤٤٧، رقم ٢٢٤٦.
46 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل، ٨/ ٩٨، رقم ٦٤٦٣.
47 صحيح البخاري، كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل، ١/٢٤.
48 النهاية في غريب الحديث والأثر ٢/١٨١.
49 المفردات ص ٣٣٦.
50 في ظلال القرآن ٥/٢٥٦٢.
51 مجموع الفتاوى ٣٠/٦٠.
52 التبيان في آداب حملة القرآن ص ٤١.
53 انظر: القرآن ونقض مطاعن الرهبان، صلاح الخالدي ص٣٨٥.
54 محاسن التأويل، القاسمي ٣/٩٩.
55 انظر: روح المعاني، الألوسي ٣/٢٥.
56 مفاتيح الغيب، الرازي ١٠/٧٢.
57 تفسير آيات الأحكام، السايس ص ٢٨٤.
58 انظر: آفات على الطريق، السيد محمد نوح ١/٣٥.
59 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحج، باب فضل مكة وبنيانها، ٢/١٤٦، رقم ١٥٨٤، ومسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب جدر الكعبة وبابها، ٢/٩٧٣، رقم ١٣٣٣.
60 حكم ابن عطاء الله السكندري، الحكمة ١٧ ص٧.
61 انظر: الزهد، أحمد بن حنبل، ص ٢٤٣، رقم ١٧٢٩.
62 مجموع الفتاوى ٢٠/٦٠.
63 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار، باب التاريخ، من أين أرخوا التاريخ؟، ٥/٦٨، رقم ٣٩٣٥، ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، ١/ ٤٧٨، رقم ٦٨٥، واللفظ للبخاري.
64 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مواقيت الصلاة، باب البيعة على إقام الصلاة، ١٣/٥٠١، رقم ١٩٦.
65 فتح الباري ٢/١٨٨.
66 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا، ١/٣٣، رقم ٦١.
67 شرح صحيح مسلم ٢/٢٤٥.
68 الجامع لأحكام القرآن ١٦/٢٦٤.
وهذا الأثر أخرجه الطبري في تفسيره ٢٦/٧٢.
69 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى، رقم ٦٩٣٧.
70 شرح صحيح مسلم ١/١٩٨.
71 انظر: التدرج في دعوة النبي، إبراهيم المطلق ص ٥١ .
72 انظر: الأخلاق في القرآن، محمد عبد الله دراز ص٨٨، الفضائل الخلقية في الإسلام، أحمد إبراهيم ص١١٩.
73 انظر: الفضائل الخلقية في الإسلام، أحمد إبراهيم ص١٣٨.
74 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب صلة المرأة أمها ولها زوج، ٨/٤، رقم ٥٦٣٥.
75 انظر: فتح الباري، ابن حجر ١/٦٤.
76 أخرجه أحمد ١/٢٥٠، رقم ١٧٣٩.
77 شرح صحيح مسلم، النووي ٢/٤٧.
78 انظر: التدرج في دعوة النبي، إبراهيم المطلق ص ٥١.
79 مفاتيح الغيب ١٢/٦٤-٦٥.
80 أخرجه مسلم في صحيح، كتاب الفضائل، باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام، واختياره من المباح أسهله، وانتقامه لله عند انتهاك حرماته، ٤/١٨١٣، رقم ٢٣٢٧.
81 شرح صحيح مسلم ١٥/ ٨٣.
82 أخرجه مسلم في المقدمة، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع، ١/١١.
83 أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب من خص بالعلم قومًا دون قوم، كراهية أن لا يفهموا، ١/٣٧، رقم ١٢٧.
84 فتح الباري، ابن حجر ١/ ٢٢٥.
85 مجموع فتاوى ابن عثيمين ١٠/٧٧٤- ٧٧٥ بتصرف.
86 انظر: الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير، محمد أبو شهبة ص ٤٩.
87 انظر: نظرات في كتاب الله، حسن البنا ص ٣٦٠.
88 صحيح البخاري، ١/٣٧.
89 انظر: حقيقة البدعة وأحكامها، سعيد الغامدي ٢/٣٣.
90 مجموع الفتاوى ٢٠/٥٩.
91 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: (ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ)، ٦/١٥٤، رقم ٤٩٠٥، ومسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب، باب نصر الأخ ظالمًا أو مظلومًا، ٤/١٩٩٨، رقم ٢٥٨٤.
92 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٤/٤٨.
93 أخرجه أحمد في مسنده، ٣٧/٦٠، رقم ٢٢٣٧٨، وابن ماجه في سننه، كتاب الطهارة وسننها، باب المحافظة على الوضوء، ١/١٠١، رقم ٢٧٧.
وصححه الألباني في صحيح الجامع ١/٢٢٥، رقم٩٥٢.
94 جامع العلوم والحكم، ابن رجب ١/٢٥٥.
95 انظر: التدرج في تطبيق الشريعة، الشريف ص٦٦، والتدرج في التشريع والتطبيق في الشريعة الإسلامية، الزحيلي ص ٩٨.
96 التدرج في تطبيق الشريعة، الشريف ص ٦٨.
97 مفتاح دار السعادة ٢/٢٩.
98 المصدر السابق ٢/٢٩.
99 إتحاف أهل الإسلام بخصوصيات الصيام ص ٧٨-٧٩.
100 البيت للنعمان بن نضلة العدوي، انظر: لسان العرب، ابن منظور ١٢/٥٧٢، نهاية الأرب ، النويري ٤/١٠٢.
101 مفاتيح الغيب، الرازي ٦/٣٩٦.
102 بيان المعاني، العاني ١/٢٠.
103 المدخل في التعريف بالفقه الإسلامي، مصطفى شلبي ص ٧٥.
104 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٠/٣٤٠.
105 الموافقات ٢/١٤٩.
106 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب تأليف القرآن، ٦/١٨٥، رقم ٤٩٩٣.
107 فتح الباري ٩/٤٠.