عناصر الموضوع
الإنفاق
أولًا: المعنى اللغوي:
الإنفاق مصدر للفعل الرباعي أنفق، فيقال: أنفق ينفق إنفاقًا، فهو منفق، والمفعول منفق (للمتعدي)، أنفق مالًا: صرفه وأنفده، وهو بذل المال ونحوه في وجه من وجوه الخير، ويأتي بمعنى الفقر والإملاق؛ لأن الإنفاق سبب للافتقار من الشيء المنفق1.
ومنه (النفقة): وهي اسم لما ينفق من الدراهم والزاد ونحوهما، وما يفرض للزوجة على زوجها من مال للطعام والكساء والسكنى والحضانة ونحوها، والجمع: نفقات، ونفاق2.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
لا يوجد كبير فرق بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي للإنفاق، وقد عرفه الجرجاني بقوله: «هو صرف المال في الحاجة»3. واختار الراغب: أنه يكون في المال وغيره4.
فهو على هذا بذل المال ونحوه في وجوه الخير، ويطلق أيضًا على ما ينفقه الرجل على نفسه وعلى عياله.
ويشمل كل ما أمر الله به في دينه من الإنفاق، سواء كان إنفاقًا في حج أو عمرة، أو كان جهادًا بالنفس، أو تجهيزًا للغير، أو كان إنفاقًا في صلة الرحم، أو في الصدقات، أو على العيال، أو في الزكوات والكفارات، أو عمارة السبيل وغير ذلك.
والتعريف المختار للإنفاق أنه: إخراج المال من ملكية صاحبه، في سبيل تحصيل منفعة صحيحة، عينية أو معنوية، له أو لغيره.
وردت مادة (نفق) في القرآن (٧٣) مرة5.
والصيغ التي وردت هي:
الصيغة |
عدد المرات |
المثال |
الفعل الماضي |
١٨ |
(ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [الكهف: ٤٢] |
الفعل المضارع |
٤١ |
(ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [البقرة: ٢٧٢] |
فعل الأمر |
٩ |
(ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮢ) [البقرة: ٢٥٤] |
المصدر |
١ |
(ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮨ) [الإسراء: ١٠٠] |
اسم |
٣ |
(ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭡ) [البقرة: ٢٧٠] |
اسم فاعل |
١ |
(ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [آل عمران: ١٧] |
وجاء الإنفاق في القرآن على أربعة أوجه6:
الأول: الصدقة والزكاة: ومنه قوله تعالى: (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) [البقرة: ٣]. يعني: يتصدقون ويؤدون الزكاة.
الثاني: النفقة الواجبة: ومنه قوله تعالى: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ) [الطلاق: ٦]. يعني: على الزوجات.
الثالث: الإعمار: ومنه قوله تعالى: (ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [الكهف: ٤٢].يعني: ما عمر فيها.
الرابع: الرزق: ومنه قوله تعالى: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) [المائدة: ٦٤]. يعني: يرزق.
الزكاة:
الزكاة لغة:
النماء، يقال: زكى الزرع يزكو، أي: نما، وهي الطهارة والبركة والمدح7.
الزكاة اصطلاحًا:
إيجاب طائفة من المال في مال مخصوص لمالكٍ مخصوص، معتبرًا فيه الحول والنصاب8.
الصلة بين الإنفاق والزكاة:
الإنفاق أعم من الزكاة من حيث أحكام الشرع وأصناف المال، فالإنفاق يكون في عموم أنواع المال، ويكون على سبيل الوجوب والاستحباب والإباحة، بينما الزكاة فهي مقدرة في مال مخصوص، ولها حكم الوجوب فقط.
التصدق:
التصدق لغة:
إعطاء الصدقة، تصدق: أي أعطى الصدقة9.
التصدق اصطلاحًا:
ما يخرجه الإنسان من ماله على وجه القربة10.
الصلة بين الإنفاق والتصدق:
الإنفاق أعم من التصدق من حيث أحكام الشرع، فالإنفاق يكون على سبيل الوجوب والاستحباب والإباحة، أما التصدق فلها حكم الاستحباب فقط.
الإقراض:
الإقراض لغة:
مصدر من أقرضته المال إقراضًا، ومنه القرض، والجمع قروضٌ11.
الإقراض اصطلاحًا:
هو إعطاء غيرك من مالك لتقضاه12.
الصلة بين الإنفاق و الإقراض:
أن الإنفاق فيه إخراج للمال من الملكية، بينما الإقراض يبقى فيه المال ملك لمخرجه في ذمة غيره؛ ليرده له.
الإيتاء:
الإيتاء لغة:
الإعطاء، آتى يؤاتي إيتاءً، وآتاه إيتاءً، أي: أعطاه، ويقال: آتاه الشيء، أي: أعطاه إياه13.
الإيتاء اصطلاحًا:
إعطاء المال للغير على سبيل التمليك وحرية التصرف.
الصلة بين الإيتاء والإنفاق:
الإنفاق أعم من الإيتاء، فالإنفاق قد يكون على سبيل التمليك المفضي إلى حرية التصرف، وقد يكون التصرف في المال مشروطًا، أو يكون له مقابل، بينما الإيتاء لا يكون إلا على سبيل التمليك، ولا يكون مشروطًا، أو له مقابل، وإن لم يكن كذلك فليس بإيتاء14.
الإعطاء:
الإعطاء لغة:
المناولة، أعطاه الشيء أي: ناوله إياه.
الإعطاء اصطلاحًا:
هو مناولة الشيء للآخر على سبيل تصرف مأذون فيه من المناول15.
الصلة بين الإنفاق والإعطاء:
الإنفاق هو إخراج المال من الملك، والإعطاء لا يقتضي إخراج المعطى المال من الملك16.
البخل:
البخل لغة:
منع الفضل والإمساك عن البذل، منع الرجل القادر العطاء بالمعروف من ماله17.
البخل اصطلاحًا:
هو إمساك المال وعدم صرفه في الوجوه المعتبرة حرصًا على بقائه وزيادته وخوفًا من نفاده18.
الصلة بين الإنفاق والبخل:
بينهما نوع تضاد، فالإنفاق هو البذل تلبية لسد الحاجة، والبخل الإمساك عن البذل وإن دعت إليه الحاجة.
الأساليب القرآنية في عرض الإنفاق
تنوعت أساليب القرآن في الحديث عن الإنفاق، وهذا ما سنتناوله بالبيان فيما يأتي:
أولًا: الأمر بالإنفاق:
جاء الأمر بالإنفاق، وبذل المال في سبيل الله صريحًا في القرآن الكريم، فقال تعالى: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ)[البقرة: ١٩٥].
وقال تعالى: (ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ)[البقرة: ٢٥٤].
وقال تعالى: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ)[الحديد: ٧].
وقال تعالى: (ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ)[المنافقون: ١٠].
وقال تعالى: (ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ)[التغابن: ١٦].
وقال تعالى: (ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ)[الطلاق: ٧].
فهذه الأوامر المتكررة في الآيات السابقة بالإنفاق من الأموال جاءت بصيغة الأمر (أنفقوا) و(لينفق)، فإن كان المراد بالإنفاق هو الزكاة فلا إشكال؛ لأن الزكاة واجبة، بل ركن من أركان الإسلام، فتحمل هذه الأوامر على الوجوب.
وحجة هذا القول أن قوله: (ﮠ) أمر، وظاهر الأمر للوجوب، والإنفاق الواجب ليس إلا الزكاة، وسائر النفقات الواجبة، والقرآن كثيرًا ما يعبر عن الزكاة بالإنفاق، ويقرن الإنفاق بالصلاة، كما قال تعالى: (ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ)[البقرة: ٣].
وقوله: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ)[الأنفال: ٣].
وقوله: (ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ)[الحـج: ٣٥].
وقوله: (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ)[الشورى: ٣٨].
وإن كان المراد بالإنفاق هو الإنفاق المستحب فتكون الأوامر الواردة بالإنفاق للندب. وقيل: إنه يتناول الفرض والنفل معًا.
وحجة من قال: الفرض والنفل داخلان في هذا: أن المفهوم من الأمر ترجيح جانب الفعل على جانب الترك، من غير أن يكون فيه بيان أنه يجوز الترك أو لا يجوز، وهذا المفهوم قدر مشترك بين الفرض والنفل، فوجب أن يكونا داخلين تحت الأمر19.
فيكون المراد بهذه الأوامر: التحريض على الإنفاق بمرتبتيه، واجب الإنفاق ومندوبه، والاهتمام بالنزاهة من فتنة المال التي ذكرت في قوله: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ)[التغابن: ١٥].
فيكون قوله: (ﮠ) أي: ما أمرتم به من واجب أو مندوب.
وقد اختار الجصاص في قوله تعالى: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ)[البقرة: ٢٦٧].
أن المراد بالإنفاق هاهنا: النفقة الواجبة من الزكاة ونحوها، حيث قال: «وأيضًا فإن قوله تعالى: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ)[البقرة: ٢٦٧].
أمر، وهو يقتضي الوجوب، وليس ها هنا نفقة واجبة غير الزكاة والعشر؛ إذ النفقة على عياله واجبة، وأيضًا فإن النفقة على نفسه وأولاده معقولة غير مفتقرة إلى الأمر، فلا معنى لحمل الآية عليه، فإن قيل: المراد صدقة التطوع، قيل له: هذا غلط من وجهين:
أحدهما: أن الأمر على الوجوب فلا يصرف إلى الندب إلا بدليل، والثاني: قوله تعالى: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) قد دل على الوجوب؛ لأن الإغماض إنما يكون في اقتضاء الدين الواجب، فأما ما ليس بواجب فكل ما أخذه منه فهو فضل وربح، فلا إغماض فيه»20.
والمقصود أنه تعالى أمر الإنسان بالإنفاق مما رزقه الله، فقال: (ﮐ ﮑ) أي: بعض ما أعطيناكم، تفضلًا من غير أن يكون حصوله من جهتكم وبسببكم، وفي آية أخرى أمره بالإنفاق مما جعله الله مستخلفًا فيه، فقال: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ) [الحديد: ٧].
فقوله: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ) فيه ملاحظة وصول المال إليهم من جهته تعالى مع كونه هو المالك الحقيقي له، وهذا من أقوى الدواعي إلى صرفه إلى الجهة المأمور بها، وقيل: هو أمر بإعطاء سهمهم من الصدقات، فالأمر للوجوب حتمًا، والإضافة والوصف لتعيين المأخذ21.
وفي هذا التعبير تجريد للإنسان من المال الذي بين يديه، فليس له الحق في المال الذي بين يديه يعبث فيه كما يشاء، ويتصرف فيه كما يريد؛ ولهذا نهاه الله سبحانه وتعالى عن الإسراف، فقال تعالى: (ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ)[الأنعام: ١٤١].
ونهاه عن التبذير، فقال تعالى: (ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ)[الإسراء: ٢٧].
وقال سبحانه: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ)[الإسراء: ٢٦].
فالمال في الحقيقة مال الله، والعبد مستخلف فيه؛ ولهذا قال: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ)[النور: ٣٣].
فيكون مضمون الآيات السابقة: الأمر بالإنفاق في سبيل الله في سائر وجوه القربات، ووجوه الطاعات، وخاصة صرف الأموال في قتال الأعداء، وبذلها فيما يقوى به المسلمون على عدوهم.
ثانيًا: الثناء على المنفقين، وخاصة عند الحاجة:
ومن أساليب القرآن الكريم في الحث على الإنفاق والترغيب في البذل والعطاء في سبيل الله أنه امتدح المنفقين، ورفع من مكانة المحسنين، وجعلهم مهتدين مفلحين، قال تعالى: (ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ)[البقرة: ٣-٥].
فالإشارة بـ(أولئك) في قوله: (ﭹ ﭺ ﭻ) إلى من سبقت أوصافهم، وهم المتقون، أصحاب الصفات الخمس، التي منها الإنفاق مما رزقهم الله، ويشير اسم الإشارة (أولئك) إلى علو مرتبتهم، والعناية التامة بهم، كأنهم حضروا بين يدي المتكلم، وفيه الفصل بين الغاية والوسيلة، فالغاية: الفلاح، ووسيلته: ما سبق، والفلاح: هو الفوز بالمطلوب، والنجاة من المرهوب، فهي كلمة جامعة لانتفاء جميع الشرور، وحصول جميع الخير22.
وفي آية أخرى جعلهم من المؤمنين، فقال: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ)[الأنفال: ٢-٣].
فقوله: (ﭧ ﭨ) حصر للإيمان فيمن اتصف بالصفات المذكورة التي منها الإنفاق في سبيل الله، والمعنى: إنما المؤمنون الكاملون في الإيمان هم هؤلاء، فالتعريف في (ﭧ ﭨ) تعريف الجنس، المفيد قصرًا ادعائيًا على أصحاب هذه الصفات مبالغة، وحرف (أل) فيه هو ما يسمى بالدالة على معنى الكمال23.
وقد جاء التعبير عن صفاتهم بصيغة من صيغ القصر وهي (إنما) للإشعار بأن من هذه صفاتهم هم المؤمنون الصادقون في إيمانهم وإخلاصهم، أما غيرهم ممن لم تتوفر به هذه الصفات فأمره غير أمرهم، وجزاؤه غير جزائهم، وكفى بهذا شرفًا لهم وفخرًا.
ونظيره قوله تعالى: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ) [الأنفال: ٣-٤].
فقوله: (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) أي: يقينًا؛ لأنهم حققوا إيمانهم، بأن ضموا إليه مكارم أعمال القلب من الخشية والإخلاص والتوكل، ومحاسن أعمال الجوارح كالصلاة والصدقة24.
وفي هذه الجملة: (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) قصر آخر يشبه القصر الذي قبله: (ﭧ ﭨ) حيث قصر الإيمان مرة أخرى على أصحاب تلك الصفات ومنها الإنفاق، ولكنه قرن هنا بما فيه بيان المقصور، وهو أنهم المؤمنون الأحقاء بوصف الإيمان، والحق: أصله مصدر (حق) بمعنى ثبت، واستعمل استعمال الأسماء للشيء الثابت الذي لا شك فيه، كما قال تعالى: (ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ)[النساء: ١٢٢].
ويطلق كثيرًا على الكامل في نوعه، الذي لا سترة في تحقق ماهية نوعه فيه، كما يقول أحد لابنه البار به: أنت ابني حقًا، وليس يريد أن غيره من أبنائه ليسوا لرشده، ولكنه يريد أنت بنوتك واضحة، وآثارها واضحة، ويطلق الحق على الصواب والحكمة، فاسم الحق يجمع معنى كمال النوع، ولكل صيغة قصر منطوق ومفهوم، فمنطوقها هنا: أن الذين جمعوا ما دلت عليه تلك الصلات هم مؤمنون حقًا، ومفهومها: أن من انتفى عنه أحد مدلولات تلك الصلات لم يكن مؤمنًا حقًا، أي: لم يكن مؤمنًا كاملًا، وليس المقصود أن من ثبتت له إحداها كان مؤمنًا كاملًا إذا لم يتصف ببقية خصال المؤمنين الكاملين، فمعنى (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) أن من كان على خلاف ذلك ليس بمؤمن حقًا، أي: كاملًا25.
ثم زادهم مدحًا وفضلًا فقال: (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) أي: كرامات، وعلو منزلة، أو درجات في الجنة يرتقونها بأعمالهم (ﮉ) لما فرط من ذنوبهم (ﮊ ﮋ) أعده لهم في الجنة، لا ينقطع مدده، ولا ينتهي أمده، بمحض الفضل والكرم.
وفي آية ثالثة يقرن المنفقين بمقيمي الصلاة، والمواظبين عليها، وهو تعبير يحمل بين جنباته بأن هؤلاء من المطيعين لله، والمواظبين على امتثال أوامره، قال تعالى: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ)[الشورى: ٣٨].
وسياق الآية ولحاقها جاء في مدح من اتصفوا بالإيمان، والتوكل على الله، واجتناب كبائر الإثم والفواحش، والتجاوز عمن أساء إليهم، والاستجابة لربهم في كل ما دعاهم إليه فعلًا أو تركًا، وفي هذه الآية مدحٌ للذين استجابوا لربهم حين دعاهم إلى توحيده وطاعته، والمقيمي الصلاة المفروضة بحدودها في أوقاتها، والذين إذا أرادوا أمرًا تشاوروا فيه، والمنفقين مما أعطاهم الله من الأموال في سبيل الله، والمؤدون ما فرض الله عليهم من الحقوق لأهلها من زكاة ونفقة وغير ذلك من وجوه الإنفاق، فهذه عشرة صفات، بين الله تعالى أن ما أعده لأصحابها يوم يلقونه خير من متاع الدنيا بكامله.
وفي آية أخرى تبرز أهمية الإنفاق بتقديم المنفقين على غيرهم من الأصناف الذين ذكرتهم الآية، والذين أعدت لهم الجنة من الكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس، فيقول: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ)[آل عمران: ١٣٣-١٣٤].
فقد دلت هذه الآية على أن الإنفاق في سبيل الله، وكظم الغيط، والعفو عن الناس، من صفات المتقين أهل الجنة، ونلحظ هنا أن الله تعالى قدم المنفقين على غيرهم، وكفى بذلك حثًا على الإنفاق، أما في قوله: (ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ)[آل عمران: ١٧].
فالترتيب ها هنا من الأدنى إلى الأشرف، فلا جرم وقع الختم بذكر المنفقين والمستغفرين بالأسحار.
وفي الآية أيضًا دلالة على أن إنفاقهم ليس في حال دون حال، بل في جميع الأحوال (ﭠ ﭡ ﭢ) والسراء: فعلاء، اسم لمصدر سره سرًا وسرورًا، والضراء من ضره، أي: في حالي الاتصاف بالفرح والحزن، وكأن الجمع بينهما هنا؛ لأن السراء فيها ملهاة عن الفكرة في شأن غيرهم، والضراء فيها ملهاة وقلة موجدة، فملازمة الإنفاق في هذين الحالين تدل على أن محبة نفع الغير بالمال الذي هو عزيز على النفس، فقد صار لهم خلقًا، لا يحجبهم عنه حاجب، ولا ينشأ ذلك إلا عن نفس طاهرة26.
وكذلك امتدح الله تعالى المنفقين في سبيله، وابتغاء مرضاته في جميع الأوقات، من ليل أو نهار، وفي جميع الأحوال من سر وجهار، فقال: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ)[البقرة: ٢٧٤]. فقد بين الله تعالى في هذه الآية حسن عاقبة المنفقين، وعظيم ثوابهم في ثلاث جمل، فقال في الجملة الأولى: (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ) أي: فلهم أجرهم الجزيل عند خالقهم، ومربيهم ورازقهم، وقال في الجملة الثانية: (ﯧ ﯨ ﯩ) أي: لا خوف عليهم من أي عذاب؛ لأنهم في مأمن من عذاب الله، بسبب ما قدموا من عمل صالح، وقال في الجملة الثالثة: (ﯪ ﯫ ﯬ) أي: لا يصيبهم ما يؤدي بهم إلى الحزن والهم والغم؛ لأنهم دائمًا في اطمئنان يدفع عنهم الهموم والأحزان.
ومدح الله تعالى من يطعم الفقير في يوم عصيب ذي مجاعة، فقال: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ)[البلد: ١٤].
أي: ذي مجاعة شديدة؛ لأن الناس قد يصابون بالمجاعة الشديدة، إما لقلة الحاصل من الثمار والزروع، وإما لأمراض في أجسامهم يأكل الإنسان ولا يشبع، وإما بسبب الحروب أو غير ذلك.
ووجه تخصيص اليوم ذي مسغبة بالإطعام فيه؛ لأن إخراج المال فيه أشد على النفس، والناس في زمن المجاعة يشتد شحهم بالمال؛ خشية امتداد زمن المجاعة، والاحتياج إلى الأقوات، فالإطعام في ذلك الزمن أفضل، وهو العقبة، ودون العقبة مصاعد متفاوتة، فهذه العقبة هي التي تقف بين الإنسان وبين الجنة، فلو تخطاها لوصل! وهذه العقبة العظيمة في الآخرة لا يقتحمها الإنسان إلا بهذه الأعمال العظيمة.
وتصويرها كذلك حافز قوي، واستجاشة للقلب البشري، وتحريك له ليقتحم العقبة، وقد وضحت، ووضح معها أنها الحائل بينه وبين هذا المكسب الضخم (ﮣ ﮤ ﮥ) [البلد: ١١].
ففيه تحضيض ودفع وترغيب! ثم تفخيم لهذا الشأن وتعظيم (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ)[البلد: ١٢].
إنه ليس تضخيم العقبة، ولكنه تعظيم شأنها عند الله ليحفز به الإنسان إلى اقتحامها وتخطيها، مهما تتطلب من جهد ومن كبد، فالكبد واقع واقع، وحين يبذل لاقتحام العقبة يؤتي ثمره، ويعوض المقتحم عما يكابده، ولا يذهب ضياعًا، وهو واقع على كل حال!
ويبدأ كشف العقبة، وبيان طبيعتها بالأمر الذي كانت البيئة الخاصة التي تواجهها الدعوة في أمس الحاجة إليه، فك الرقاب العانية، وإطعام الطعام، والحاجة إليه ماسة للضعاف الذين تقسو عليهم البيئة الجاحدة المتكالبة، وينتهي بالأمر الذي لا يتعلق ببيئة خاصة، ولا بزمان خاص، والذي تواجهه النفوس جميعًا، وهي تتخطى العقبة إلى النجاة (ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ)[البلد: ١٧]27.
ولهذا كانت النفقة قبل الفتح أعظم؛ لأن حاجة الناس كانت أكثر؛ لضعف الإسلام، وفعل ذلك كان على المنفقين حينئذٍ أشق، والأجر على قدر النصب إذا وافق هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأخلص فاعله.
ومما جاء في مدح المنفقين في سبيل الله قوله تعالى: (ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ)[الحديد: ١٨].
فذكر هاهنا صنفين: المتصدقين والمقرضين، والمعنى: إن الذين تصدقوا وأقرضوا، والظاهر أن الأول هو الواجب، والثاني: هو التطوع؛ لأن تشبيهه بالقرض كالدلالة على ذلك، وأيضًا ذكر الأول بلفظ اسم الفاعل، الدال على الاستمرار ينبئ عن الالتزام والوجوب، ومن قرأ بتشديد الدال فقط فمعناه: إن الذين صدقوا الله ورسوله وأقرضوا، ويندرج تحت التصديق الإيمان وجميع الأعمال الصالحات، إلا أنه أفرد الإنفاق بالذكر تحريضًا عليه، كما أنه أفرد الإيمان لتفضيله والترغيب فيه28.
ونلحظ أنه سبحانه وتعالى لما رغب في الإنفاق، وختم آياته بما يقتضي الوعد من أصدق القائلين بالغنى، والإثابة في الدارين، أتبعه بما للعدو الكاذب من ضد ذلك، فقال محذرًا من البخل: (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ)[البقرة: ٢٦٨].
إذن هو الشيطان الرجيم المانع من الإنفاق، أي: الذي اسمه أسوأ الأسماء، فإنه يقتضي الهلاك والبعد، وأحد الوصفين كافٍ في مجانبته، فكيف إذا اجتمعا؟!
فهذه الآية تتضمن الحض على الإنفاق بأبلغ الألفاظ، وأحسن المعاني؛ فإنها اشتملت على بيان الداعي إلى البخل، والداعي إلى البذل والإنفاق، وبيان ما يدعو إليه داعي البخل، وما يدعو إليه داعي الإنفاق، وبيان ما يدعو به داعي الأمرين، فأخبر سبحانه أن الذي يدعوهم إلى البخل والشح هو الشيطان، وأخبر أن دعوته هي بما يعدهم به ويخوفهم من الفقر إن أنفقوا أموالهم، وهذا هو الداعي الغالب على الخلق، فإنه يهم بالصدقة والبذل، فيجد في قلبه داعيًا يقول له: متى أخرجت هذا دعتك الحاجة إليه، وافتقرت إليه بعد إخراجه، وإمساكه خير لك؛ حتى لا تبقى مثل الفقير، فغناك خير لك من غناه، فإذا صور له هذه الصورة أمره بالفحشاء وهي البخل29 الذي هو من أقبح الفواحش…، فهذا وعده وهذا أمره، وهو الكاذب في وعده، الغار الفاجر في أمره، فالمستجيب لدعوته مغرور مخدوع مغبون، فإنه يدلي من يدعوه بغروره، ثم يورده شر الموارد30.
ثالثًا: الوعد بالإخلاف على المنفقين والأجر الكبير في الآخرة:
أمر الله تعالى عباده بالإنفاق في أوجه الطاعات من المال الذي أعطاهم إياه، وجعله بين أيديهم على سبيل الأمانة، أو الإعارة، ووعدهم بالخلف، أي: العوض المضاعف، فقال: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁﰂ ﰃ ﰄ ﰅ)[سبأ: ٣٩].
أي: مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم به الله، وأباحه لكم، فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبدل، وفي الآخرة بالجزاء والثواب.
وقوله: (ﯼ ﯽ) (ما) هنا تفيد العموم، يعني: سواء كان المنفق صغيرًا أو كبيرًا. ومعنى: (ﰀ ﰁ) أي: يخلفه عليكم، يقال: أخلف له، وأخلف عليه، إذا أعطاه عوضه وبدله، وذلك البدل إما في الدنيا وإما في الآخرة، والمقصود: لا تتوهموا أن الإنفاق مما ينقص الرزق، بل وعد بالخلف للمنفق، الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر.
وقد جاء في الحديث: (يقول الله تعالى: يا بن آدم أنفق، أنفق عليك)31.
قال ابن العربي: «وهذه إشارة إلى أن الخلف في الدنيا بمثل المنفق بها إذا كانت النفقة في طاعة الله، وهو كالدعاء كما تقدم سواء، إما أن تقضى حاجته -أو يدفع الله عنه من السوء مثلها، أو يدخر إلى الآخرة-، وكذلك في النفقة يعوض مثلها، وإما أن يعوض أزيد منها، والتعويض ها هنا بالثواب، وإما أن يدخر له، والادخار ها هنا مثله في الآخرة»32.
وأكد هذا الوعد بصيغة الشرط، وبجعل جملة الجواب اسمية، وبتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي، بقوله: (ﰀ ﰁ) ففي هذا الوعد ثلاثة مؤكدات، دالة على مزيد العناية بتحقيقه33.
والمراد بالإنفاق الموعود عليه بالخلف هو الإنفاق المرغب فيه في الدين، وهو المأذون فيه شرعًا، كالإنفاق على الفقراء، والإنفاق في سبيل الله عمومًا.
وروي عن الضحاك أنه سئل عن قوله: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ) أهو النفقة في سبيل الله؟ قال: لا، ولكن نفقة الرجل على نفسه وأهله، فالله يخلفه34.
ونجده هنا في هذه الآية لم يذكر وجهة الإنفاق (وهو سبيل الله) بل أطلق فقال: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ)؛ لأن ذلك -والله أعلم- أصبح من المسائل المتقررة في أذهان السامعين-، وأن كل من أنفق ماله في لهو الدنيا وفرجتها من غير قصدٍ حسن، بل لمجرد الحظ والهوى ليس له أجر، بل يكون عليه حسرة وندامة، تنقضي لذاته، وتبقى تبعاته، وهو من كفران نعمة المال، فهو معرض للزوال، وإن بقي فهو استدراج، وعلامة إنفاقه في الهوى: أنه إذا أتاه فقير يسأله درهمًا منعه، وينفق في النزهة والفرجة الآلاف، فهذا يكون إنفاقه حسرة عليه، والعياذ بالله.
وأيضًا فإن هذا الوعد بالخلف ليس مدعاة للإنسان أن ينفق كل ما معه بحجة أن الله سيخلفه له، فقد روي عن مجاهد قال: «من كان عنده من هذا المال ما يقيمه فليقتصد، فإن الرزق مقسوم، ولعل ما قسم له قليل، وهو ينفق نفقة الموسع عليه، فينفق جميع ما في يده، ثم يبقى طول عمره في فقره، ولا يتأولن: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ) فإن هذا في الآخرة، ومعنى الآية: ما كان من خلف فهو منه»35.
والصواب ما تقدم من أن الخلف قد يكون إما عاجلًا بالمال في الدنيا، وإما آجلًا بالثواب في الآخرة.
والحاصل أن في هذا دعوة إلى الإنفاق في سبيل الله، وتشجيعًا عليه بإعلام الناس أن الإنفاق لا ينقص المال، والبخل به لا يزيده، فإن التوسعة كالتضييق لحكمة، فلا البخل يزيد في المال، ولا الإنفاق في سبيل الله ينقص منه.
وختم الله هذا بوعده الصادق، وهو أن من أنفق في سبيل الله شيئًا أخلفه الله عليه، وهو تعالى خير الرازقين، فجملة: (ﰃ ﰄ ﰅ) تذييل للترغيب والوعد بالزيادة؛ لبيان أن ما يخلفه أفضل مما أنفقه المنفق و (ﰄ) بمعنى أخير؛ لأن الرزق الواصل من غيره تعالى إنما هو من فضله أجراه على يد بعض مخلوقاته، فإذا كان تيسيره برضا من الله على المرزوق، ووعد به كان ذلك أخلق بالبركة والدوام36.
ومما جاء في الوعد بالخلف للمنفق قوله تعالى: (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [البقرة: ٢٤٥].
ففي هذه الآية حث الله تعالى عباده على الإنفاق في سبيله، وقد كرر الله تعالى هذه الآية بهذا السياق في كتابه العزيز في غير موضع، وفي حديث النزول أن الله تعالى قال: (من يقرض غير عديم ولا ظلوم)37.
فطلب الله تعالى من عباده القرض، مع أن المال مال الله، إلا أنه من رحمته تعالى وكرمه يستقرضهم إياه؛ لأنه متول على جميع الخلق، غني بذاته عنهم، ومع هذا يجعل طاعتهم له سلفًا منهم له.
والاستفهام في قوله: (ﯣ ﯤ ﯥ) للحض على البذل والعطاء، والتحريض على التحلي بمكارم الأخلاق، والمعنى: من هذا المؤمن القوي الإيمان الذي يقدم ماله في الجهاد من أجل إعلاء كلمة الله، وفي غير ذلك من وجوه الخير، كمعاونة المحتاجين، وسد حاجة البائسين؟!
والتعبير بالقرض في هذه الآية إنما هو تأنيس وتقريب للناس بما يفهمونه، والله هو الغنى الحميد، لكنه تعالى شبه عطاء المؤمن في الدنيا بما يرجو به ثوابه في الآخرة بالقرض، كما شبه إعطاء النفوس والأموال في أخذ الجنة بالبيع والشراء.
ولم يكتف بالحث على القرض، بل حيث جاء القرض في القرآن قيده بكونه حسنًا، وذلك يجمع أمورًا ثلاثة، أحدها: أن يكون من طيب ماله، لا من رديئه وخبيثه، الثاني: أن يخرجه طيبة به نفسه، ثابتة عند بذله، ابتغاء مرضاة الله، الثالث: أن لا يمن به، ولا يؤذي، فالأول يتعلق بالمال، والثاني يتعلق بالمنفق بينه وبين الله، والثالث بينه وبين الآخذ38.
فيكون القرض الحسن: هو القرض المستكمل محاسن نوعه من كونه عن طيب نفس، وبشاشة في وجه المستقرض، وخلو عن كل ما يعرض بالمنة، أو بتضييق أجل القضاء، وتحري أكرم المال، وأفضل الجهات، وذكر بعضهم أن القرض الحسن: ما يجمع عشر صفات: أن يكون من الحلال، فإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبًا، وأن يكون من أكرم ما يملكه المرء، وأن يكون المرء صحيحًا شحيحًا، يأمل العيش، ويخشي الفقر، وأن يضعه في الأحوج الأولى، وأن يكتم ذلك، وأن لا يتبعه بالمن والأذى، وأن يقصد به وجه الله تعالى، وأن يستحقر ما يعطي وإن كثر، وأن يكون من أحب أمواله إليه، وأن يتوخى في إيصاله للفقير، ما هو أسر لديه من الوجوه، كحمله إلى بيته، ولا يخفى أنه يمكن الزيادة والنقص فيما ذكر39.
وقوله: (ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) أي: فيعطيه سبحانه أجره على إنفاقه أضعافًا مضاعفة، ولم يبين هنا قدر هذه الأضعاف الكثيرة، ولكنه بين في موضع آخر أنها تبلغ سبعمائة ضعف، وتزيد عن ذلك؛ وذلك في قوله تعالى: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ)[البقرة: ٢٦١].
والمقصود أن الآية قد اشتملت على ألوان من الحض على الإنفاق في وجوه الخير، ومن ذلك التعبير بالاستفهام في ذاته؛ لأنه للتنبيه، وبعث النفوس إلى التدبر والاستجابة، ومن ذلك أيضًا التعبير بقوله: (ﯣ ﯤ ﯥ) إذ لا يستفهم بتلك الطريقة إلا إذا كان المقام ذا شأن وخطر، وكأن المخاطب لعظم شأنه من شأنه أن يشار إليه، وأن يجمع له بين اسم الإشارة وبين الاسم الموصول، ومن ذلك تسميته ما يبذله الباذل قرضًا، ولمن هذا القرض؟ إنه لله الذي له خزائن السموات والأرض، فكأنه تعالى يقول: أقرضوني مما أعطيتكم، وسأضاعف لكم هذا القرض أضعافًا مضاعفة يوم القيامة (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ)[آل عمران: ٣٠].
ومن ذلك إخفاء مرات المضاعفة، وضم الأجر الكريم إليها، ومن ذلك التعبير عن الإنفاق بالقرض؛ إذ القرض معناه: إخراج المال، وانتظار ما يقابله من بدل40.
ونظير الآية السابقة، قوله تعالى: (ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ)[الحديد: ١١].
فصدر سبحانه الآية بألطف أنواع الخطاب، وهو الاستفهام المتضمن لمعنى الطلب، وهو أبلغ في الطلب من صيغة الأمر، والمعنى: هل أحد يبذل هذا القرض الحسن، فيجازى عليه أضعافًا مضاعفة؟ وسمي ذلك الإنفاق قرضًا حسنًا حثًا للنفوس، وبعثًا لها على البذل؛ لأن الباذل متى علم أن عين ماله يعود إليه ولابد، طوعت له نفسه بذله، وسهل عليه إخراجه، فإن علم أن المستقرض ملئ، وفيٌ محسن، كان أبلغ في طيب قلبه، وسماحة نفسه.
فإن علم أن المستقرض يتجر له بما اقترضه، وينميه له ويثمره حتى يصير أضعاف ما بذله كان بالقرض أسمح وأسمح، فإن علم أنه مع ذلك كله يزيده من فضله وعطائه أجرًا آخر من غير جنس القرض، وأن ذلك الأجر حظ عظيم، وعطاء كريم، فإنه لا يتخلف عن قرضه إلا لآفة في نفسه من البخل والشح، أو عدم الثقة بالضمان؛ وذلك من ضعف إيمانه؛ ولهذا كانت الصدقة برهانًا لصاحبها، وهذه الأمور كلها تحت هذه الألفاظ التي تضمنتها الآية، فإنه سماه قرضًا، وأخبر أنه هو المقترض لا قرض حاجة، ولكن قرض إحسان إلى المقرض، واستدعاء لمعاملته، وليعرف مقدار الربح، فهو الذي أعطاه ماله، واستدعى منه معاملته به، ثم أخبر عما يرجع إليه بالقرض وهو الأضعاف المضاعفة، ثم أخبر عما يعطيه فوق ذلك من الزيادة وهو الأجر الكريم.
وأشار الله في هذا إلى شيئين: إلى الإخلاص في قوله: (ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ) يعني: لا يرى سوى الله عز وجل، والمتابعة في قوله: (ﰗ) لأن العمل الحسن ما كان موافقًا للشريعة الإسلامية، والإخلاص والمتابعة هما شرطان في كل عمل، ووصف الله تعالى الإنفاق في سبيله بالقرض تشبيهًا بالقرض الذي يقرضه الإنسان غيره؛ لأنك إذا أقرضت غيرك فإنك واثق من أنه سيرده عليك، هكذا أيضًا العمل الصالح سيرد على الإنسان بلا شك.
وقوله: (ﰚ ﰛ ﰜ) أي: ولهذا المنفق فضلًا عن كل ذلك أجر كريم عند خالقه، لا يعلم مقداره إلا هو تعالى، والظاهر أن هذا الأجر هو المغفرة، كما في قوله تعالى: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢﯣ ﯤ ﯥ ﯦ)[التغابن: ١٧].
وقد جعل الإنفاق سبب للغفران كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (الصدقة تطفئ الخطايا كما يطفئ الماء النار)41.
وقد جاء أنه لما نزلت: (ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ) قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله وإن الله ليريد منا القرض؟! قال: (نعم يا أبا الدحداح)، قال: أرني يدك يا رسول الله، قال: فناوله يده، قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي، قال: وحائط له فيه ستمائة نخلة، وأم الدحداح فيه وعيالها، قال: فجاء أبو الدحداح، فناداها: يا أم الدحداح، قالت: لبيك، قال: اخرجي، فقد أقرضته ربي عز وجل. هكذا كان امتثال الصحابة لهذه الآية، أما اليهود فإنهم لما سمعوا قوله تعالى: (ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ) قالوا: (ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ)[آل عمران: ١٨١].
فقد روي أنه عليه الصلاة السلام لما كتب مع أبي بكر رضي الله عنه إلى يهود بني قينقاع، يدعوهم إلى الإسلام، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن يقرضوا الله قرضًا حسنًا، قال فنحاص: إن الله فقير حتى سألنا القرض، فلطمه أبو بكر رضي الله عنه في وجهه، وقال: لولا الذي بيننا وبينكم من العهد لضربت عنقك، فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجحد ما قاله، فنزلت الآية، ونسب القول إلى الجمع مع كون القائل واحدًا لرضا الباقين بذلك42.
رابعًا: الوعيد الشديد لمن يكنز الذهب والفضة ولا ينفقها في سبيل الله:
توعد الله تعالى كل من يكنز الذهب والفضة ولا ينفقها في سبيل الله بعذاب أليم، فقال: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ)[التوبة: ٣٤-٣٥].
وهذا إخبار من الله تعالى عن الكنوز وأصحابها يوم القيامة، وما يتعلق باليوم الآخر نقبله كما هو، ويصح أن نقول: إنه تصوير لحالهم، تسببه عاقبة أمرهم بمن يكوون بذهبهم وفضتهم.
فقوله: (ﮂ ﮃ) يحتمل أن يراد بهم: أولئك الأحبار والرهبان السابق ذكرهم في نفس الآية، فيكون قد وصفهم بالحرص الشديد على أخذ أموال الناس، بقوله تعالى: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) ووصفهم أيضًا بالبخل الشديد والامتناع من إخراج الواجبات عن أموال أنفسهم، بقوله تعالى: (ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) ويحتمل أن يراد بهم: المسلمون الذين يجمعون المال ولا يؤدون حقه، ويكون اقترانهم بالمرتشين من اليهود والنصارى تغليظًا، ودلالة على أن من يأخذ من أهل الكتاب السحت، ومن لا يعطي من المسلمين زكاة ماله سواء في استحقاق البشارة بالعذاب الأليم، واحتمال أن يراد بذلك الجميع، وهو كل من كنز المال ولم يخرج منه الحقوق الواجبة، سواء كان من الأحبار والرهبان أو كان من المسلمين.
والكنز بفتح الكاف مصدر (كنز) إذا ادخر مالًا. وكل شيء غمزته في وعاء أو أرض فقد كنزته، واكتنز: اجتمع وامتلأ43. يقال: هذا جسم مكتنز الأجزاء إذا كان مجتمع الأجزاء، ويطلق على المال من الذهب والفضة الذي يخزن، وعلى كل شيء ثمين، سواء دفن في باطن الأرض أو لم يدفن، ولكن شاع استعماله فيما يدفن في باطن الأرض، ولكن شيوعه لا يمنع أصل إطلاقه، ولا يمنع الشيوع من أن يطلق على الأصل اللغوي، ولقد قال شيخ المفسرين الطبري: «الكنز: كل شيء مجموع بعضه إلى بعض في بطن الأرض كان أو على ظهرها»44.
والمعنى: أنهم يجمعونهما ويحفظونهما سواء كان ذلك بالدفن، أو بوجه آخر، وسمي الذهب ذهبًا لأنه يذهب ولا يبقى، وسميت فضة لأنها تنفض، أي: تتفرق ولا تبقى، وحسبك بالاسمين دلالة على فنائهما، وأنه لا بقاء لهما45.
وخص الذهب والفضة بالذكر لأنهما الأصل الغالب في الأموال، ولأنهما مقياس التقدير لكل الأموال، ولأنهما اللذان يقصدان بالكنز أكثر من غيرهما، وقد قال في ذلك الزمخشري: «إنهما قانون التمول، وأثمان الأشياء، ولا يكنزهما إلا من فضلا عن حاجته، ومن كثرا عنده حتى يكنزهما لم يعدم سائر أجناس المال، فكان ذكر كنزهما دليلًا على ما سواهما»46.
واختلف أهل العلم في معنى الكنز ها هنا، فقال بعضهم: هو كل مال وجبت فيه الزكاة ولم تؤد زكاته وإن لم يكن مدفونًا، قالوا: وعنى بقوله: (ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) أي: ولا يؤدون زكاتها.
وقال آخرون: كل مال زاد على أربعة آلاف درهم فهو كنز أديت منه الزكاة أو لم تؤد، وقال آخرون: الكنز كل ما فضل من المال عن حاجة صاحبه إليه. ولعل الأقرب هو القول الأول، وهو أن الكنز هو: كل مال وجبت فيه الزكاة ولم تؤد زكاته وإن لم يكن مدفونًا.
قال الطبري بعد أن ذكر هذه الأقوال: «وأولى الأقوال في ذلك بالصحة القول الذي ذكر عن ابن عمر: من أن كل مالٍ أديت زكاته فليس بكنز يحرم على صاحبه اكتنازه وإن كثر، وأن كل مالٍ لم تؤد زكاته فصاحبه معاقب مستحقٌ وعيد الله، إلا أن يتفضل الله عليه بعفوه وإن قل، إذا كان مما يجب فيه الزكاة»47.
والوعيد منوط بالكنز وعدم الإنفاق، فليس الكنز وحده بمتوعد عليه، بل الوعيد على الأمرين مجتمعين، لا على أمر واحد منهما، فليس الوعيد على الكنز لذات الكنز، وإنما الوعيد على الأمرين معًا، على الكنز وعدم الإنفاق في سبيل الله، فإذا وجدا معًا كان التبشير بالعذاب الأليم، وكان الوعيد الشديد لمن يمنع الإنفاق مع أنه يكنز المال؛ ولذا تضاربت الروايات على أن من يعطي الزكاة لا يكون عليه إثم الكانزين، بل إنه لا يعد كانزًا من يخرج حقه في سبيل الله، وإنما الكانز هو الجامع للمال الذي يمنع حقه.
وقد ورد أن الإنفاق يمنع إثم الكانز الذي يجمع المال، بل قد ورد في الأثر الصحيح: (نعم المال الصالح للمرء الصالح)48.
كما أن في الآية إشارة إلى أن المال من الذهب والفضة ينبغي ألا يكنز، بل يجب أن يخرج للاستغلال الحلال، بالاتجار والصناعة والزراعة، ولا يبقى في الخزائن، كالماء العطن الذي لا ينتفع به.
وقوله: (ﮋ ﮌ ﮍ) وضع الوعيد لهم بالعذاب موضع البشارة بالتنعم لغيرهم، وهذا على سبيل التهكم عليهم49؛ لأن العذاب الأليم لا يبشر به، بل يهدد به، فلأنهم كانوا يرتقبون خيرًا في الآخرة من تكاثرهم في المال واكتنازه، فجاءت العقبى غير ما يرتقبون.
وقوله: (ﮏ ﮐ ﮑ) أي: أنها تحول إلى صفائح ويحمى عليها، ثم تكوى بها جباههم، والحمي: شدة الحرارة، يقال: حمي الشيء إذا اشتد حره.
والضمير المجرور بـ(على) عائد إلى (الذهب والفضة) باعتبار أنها دنانير أو دراهم وهي متعددة، وبني الفعل للمفعول لعدم تعلق الغرض بالفاعل، فكأنه قيل: يوم يحمي الحامون عليها، وأسند الفعل المبني للمفعول إلى المجرور لعدم تعلق الغرض بذكر المفعول المحمي لظهوره؛ إذ هو النار التي تحمى، وعدي بـ(على) الدالة على الاستعلاء المجازي لإفادة أن الحمي تمكن من الأموال بحيث تكتسب حرارة المحمي كلها، ثم أكد معنى التمكن بمعنى الظرفية التي في قوله: (ﮒ ﮓ ﮔ) فصارت الأموال محمية عليها النار، وموضوعة في النار، وبإضافة النار إلى جهنم علم أن المحمي هو نار جهنم التي هي أشد نار في الحرارة، فجاء تركيبًا بديعًا من البلاغة والمبالغة في إيجاز50.
وقوله: (ﮕ ﮖ) الكي: أن يوضع على الجلد جمر أو شيء مشتعل.
وقوله: (ﮗ ﮘ ﮙﮚ) والمعنى: تعميم جهات الأجساد بالكي، فإن تلك الجهات متفاوتة ومختلفة في الإحساس بألم الكي، فيحصل مع تعميم الكي إذاقة لأصناف من الآلام، وسلك في التعبير عن التعميم مسلك الإطناب بالتعداد لاستحضار حالة ذلك العقاب الأليم تهويلًا لشأنه، فلذلك لم يقل: فتكوى بها أجسادهم فقط، وإنما أطنب51.
وقيل: إنما تكوى هذه الأعضاء دون غيرها؛ لأن الغني إذا رأى الفقير الطالب للزكاة كان يعبس جبهته، وإذا بالغ في السؤال يعرض عنه بجنبه، وإذا بالغ يقوم من موضعه ويولي ظهره، ولم يعطه شيئًا غالبًا، أو لأن مقصود الكانز من جمع المال لما كان طلب الوجاهة بالغنى فتعلق الكي بأعلى وجهه وهو الجبهة، ولما قصد به أيضًا التنعم بالمطاعم الشهية التي ينتفخ بسببها جنباه، وبالملابس البهية التي يلقيها على ظهره تعلق الكي بالجنوب والظهور أيضًا 52.
والمقصود أن الآيتين فيهما تحذير من الله تعالى لعباده المؤمنين من التشبه بالأحبار والرهبان في أكل أموال الناس بالباطل وكنز المال، وذكر الله في هاتين الآيتين انحراف الإنسان في ماله، وذلك بأحد أمرين: إما أن ينفقه في الباطل الذي لا يجدي عليه نفعًا، بل لا يناله منه إلا الضرر المحض، وذلك كإخراج الأموال في المعاصي والشهوات التي لا تعين على طاعة الله، وإخراجها للصد عن سبيل الله، وإما أن يمسك ماله عن إخراجه في الواجبات، والنهي عن الشيء أمر بضده، وكلا الأمرين مذموم.
ومن الآيات التي تدل على الوعيد لمن يبخل عن الإنفاق في سبيل الله قوله تعالى: (ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ)[آل عمران: ١٨٠].
أي: لا يظنن الذين يبخلون بما أنعم الله به عليهم تفضلًا منه من المال والجاه والعلم، وغير ذلك مما منحهم الله، وأحسن إليهم به، وأمرهم ببذل ما لا يضرهم منه لعباده: أن هذا البخل خير لهم، بل هو شرٌ لهم؛ لأن هذا المال الذي جمعوه سيكون طوقًا من نار يوضع في أعناقهم يوم القيامة، والله سبحانه وتعالى هو مالك الملك، وهو الباقي بعد فناء جميع خلقه، وهو خبير بأعمالكم جميعها، وسيجازي كلًا على قدر استحقاقه.
ومدلول هذه الآية عام، فهو يشمل اليهود الذين بخلوا بالوفاء بتعهداتهم، كما يشمل غيرهم ممن يبخلون بما آتاهم الله من فضله، ويحسبون أن هذا البخل خير لهم، يحفظ لهم أموالهم، فلا تذهب بالإنفاق.
أما شمولها لمنع الزكاة فإن لم يكن بعموم صلة الموصول إن كان الموصول للعهد لا للجنس فبدلالة فحوى الخطاب، وقوله: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ) تأكيد لنفي كونه خيرًا، وجملة: (ﰄ) واقعة موقع العلة لقوله: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ) و(يطوقون) يحتمل أنه مشتق من الطاقة، وهي تحمل ما فوق القدرة، أي: سيحملون ما بخلوا به، أي: يكون عليهم وزرًا يوم القيامة، والأظهر أنه مشتق من الطوق، وهو ما يلبس تحت الرقبة، فوق الصدر، أي: تجعل أموالهم أطواقًا يوم القيامة، فيعذبون بحملها، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين)53.
والعرب يقولون في أمثالهم: تقلدها -أي: الفعلة الذميمة- طوق الحمامة، وعلى كلا الاحتمالين، فالمعنى أنهم يشهرون بهذه المذمة بين أهل المحشر، ويلزمون عقاب ذلك.
وقوله: (ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ) تذييل لموعظة الباخلين وغيرهم بأن المال مال الله، وما من بخيل إلا سيذهب ويترك ماله، والمتصرف في ذلك كله هو الله، فهو يرث السماوات والأرض، أي: يستمر ملكه عليهما بعد زوال البشر كلهم، المنتفعين ببعض ذلك، وهو يملك ما في ضمنها تبعًا لهما، وهو عليم بما يعمل الناس من بخل وصدقة، فالآية موعظة ووعيد ووعد؛ لأن المقصود لازم قوله: (ﰓ) 54.
ومن الوعيد ما جاء في قوله تعالى: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ)[النساء: ٣٧].
ونظيرها: (ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ)[الحديد: ٢٤].
وفي هذا بيان لمن لا يحبهم الله وهم أهل الكبر والفخر، بذكر صفتين قبيحتين لهم، وهما البخل الذي هو منع الواجب، والأمر بالبخل والدعوة إليه، فهم لم يكتفوا ببخلهم، فأمروا غيرهم بالبخل الذي هو منع الواجب، وعدم بذله، والعياذ بالله من هذه القبائح55.
فيكون قوله: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ) أي: الذين يمتنعون عن الإنفاق والعطاء مما رزقهم الله، ويأمرون غيرهم بالبخل، أي: يجمعون بين الأمرين الذميمين، اللذين كل منهما كافٍ في الشر، البخل وهو منع الحقوق الواجبة، ويأمرون الناس بذلك، فلم يكفهم بخلهم، حتى أمروا الناس بذلك، وحثوهم على هذا الخلق الذميم بقولهم وفعلهم، وهذا من إعراضهم عن طاعة ربهم، وتوليهم عنها.
واختلف العلماء في نزول الآية ومعناها، فقال أكثرهم: نزلت في اليهود، كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يبينوها للناس، وهم يجدونها مكتوبة عندهم في التوراة.
وقال السدي: هي في المنافقين، الذين قد قالوا: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) [المنافقون: ٧].
وقيل: في مشركي مكة، المتفقين على عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم 56. والصواب أن المراد بالذين يبخلون: كل من يبخل بماله أو بعمله، فكأنه تعالى يقول: والله لا يحب الذين يبخلون بما أعطاهم من فضله، بخلًا يجعلهم لا ينفقون شيئًا منه في وجوه الخير؛ لأن حبهم لأموالهم جعلهم يمسكونها، ويشحون بها شحًا شديدًا، ولا يكتفون بذلك، بل يأمرون غيرهم بالبخل والشح.
وعلى رأس هؤلاء الذين لا يحبهم الله تعالى المنافقون، فقد كانوا يبخلون بأموالهم عن إنفاق شيء منها في سبيل الله، وكانوا يتواصون بذلك فيما بينهم، فقد قال سبحانه في شأنهم: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) [المنافقون: ٧].
تعددت أنواع الإنفاق ومجالاته التي تحدث عنها القرآن، وهذا ما سنتحدث عنه فيما يأتي:
أولًا: الإنفاق الواجب:
ذكر القرآن الكريم أنواعًا من الإنفاق الواجب، وبينت السنة شيئًا منه، وينحصر الإنفاق الواجب في الأنواع الآتية:
١. الزكاة المفروضة.
والزكاة في اللغة: النماء والزيادة، وفي الشرع: هي دفع مال مخصوص، لطائفة مخصوصة، تعبدًا لله عز وجل، وسميت زكاة لأنها تزكي الإنسان وماله57.
وهي ركن من أركان الإسلام، ومبانيه العظام، وقد قرنت بالصلاة، وأمر الله بأدائها في آيات كثيرة، ومن تلك الآيات قوله تعالى: (ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ)[التوبة: ١٠٣].
والخطاب في قوله: (ﮚ) للرسول صلى الله عليه وسلم، ولمن جاء بعده من خلفاء الإسلام، وفي الآية إشارة إلى أن الأئمة بعده صلى الله عليه وسلم هم نوابه، وقائمين بما كان يقوم به، فيتناولهم حكم الخطاب الوارد له عليه الصلاة والسلام، وظاهر الآية للوجوب، فدل هذا النص على أن أخذها واجب.
وفي الآية دلالة على أن هذه الزكاة يتولى أخذها وتفرقتها الإمام، ومن يلي من قبله، والدليل عليه: أن الله تعالى جعل للعاملين سهمًا فيها؛ وذلك يدل على أنه لابد في أداء هذه الزكوات من عامل، والعامل هو الذي نصبه الإمام لأخذ الزكوات، فدل هذا النص على أن الإمام هو الذي يأخذ هذه الزكوات، وتأكد هذا النص بقوله تعالى: (ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ)58.
وقال: (ﮛ ﮜ) ولم يقل: خذ أموالهم؛ لأن المراد بعض المال لا كله، فـ(من) للتبعيض، مما يدل على أن القدر المأخوذ بعض تلك الأموال لا كلها.
ومقدار ذلك البعض غير مذكور هاهنا بصريح اللفظ، بل المذكور هاهنا قوله: (ﮝ) ومعلوم أنه ليس المراد منه التنكير حتى يكفي أخذ أي جزء كان وإن كان في غاية القلة، مثل الحبة الواحدة من الحنطة، أو الجزء الحقير من الذهب، بل المراد صدقة معلومة الصفة والكيفية والكمية عندهم، حتى يكون قوله: (ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ) أمرًا بأخذ تلك الصدقة المعلومة، فحينئذٍ يزول الإجمال، ومعلوم أن تلك الصدقة ليست إلا الصدقات التي وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين كيفيتها59.
فيكون المراد بالصدقة هنا: الزكاة المفروضة، فالصدقة تطلق على الفرض والنفل، كما هاهنا، وكما في قوله: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ)[التوبة: ٦٠]... الآية.
بينما الزكاة لا تطلق إلا على الفرض فقط، ومن امتنع عن أداء الزكاة أخذها الإمام كرهًا، ووضعها موضعها.
والظاهر في قوله: (ﮜ) العموم، فتجب الزكاة في جميع المال حتى في الديون، وفي مال الركاز، وفي مال الضمان.
وقوله: (ﮞ ﮟ) معنى التطهير: إذهاب ما يتعلق بهم من أثر الذنوب، ومعنى التزكية: المبالغة في التطهير، والمقصود أن الزكاة تزكي الإنسان في أخلاقه وعقيدته، وتطهره من الرذائل؛ لأنها تخرجه من حظيرة البخلاء إلى حظيرة الأجواد والكرماء، وتكفر سيئاته، فهي تطهر ظاهره وباطنه، يتزكى أولًا من الشرك بالنسبة لمعاملة الله، فيعبد الله مخلصًا له الدين، لا يرائي ولا يسمع ولا يطلب جاهًا ولا رئاسة، فيما يتعبد به الله عز وجل، وإنما يريد بهذا وجه الله والدار الآخرة، ويتزكي في اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، بحيث لا يبتدع في شريعته، لا بقليل ولا كثير، لا في الاعتقاد ولا في الأقوال ولا في الأفعال60. وكون إخراج الزكاة فيها تطهيرًا لهم وتزكية لأن المال مادة الشهوات، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالأخذ من ذلك ليكون أول حالهم التجرد لتنكسر قوى النفس، وتضعف أهواؤها وصفاتها، فتتزكى من الهيئات المظلمة، وتتطهر من خبث الذنوب، ورجس دواعي الشيطان61.
فتكون الحكمة في إيجاب الزكاة هو أن المال محبوب بالطبع وهو سبب لحصول القدرة على المشتهيات والمآرب، لكن الاستغراق في حبه يذهل النفس عن حب الله، وعن التأهب للآخرة، فاقتضت الحكمة الإلهية تكليف مالك المال إخراج طائفة منه كسرًا للنفس، ومنعًا من انصبابها بالكلية إليه، فإيجاب الزكاة علاج صالح لإزالة مرض حب الدنيا عن القلب، وهو المراد من قوله: (ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) أي: عن دنس الاستغراق في حب المال، وأيضًا إن كثرة الأموال توجب القوة والقدرة والشدة، وتزايد تلك اللذات يدعو الإنسان إلى تحصيل الأموال المتزايدة، فتصير المسألة دورية لا مقطع لها، ولا آخر، فأثبت الشرع لها مقطعًا وآخرًا، وهو صرف طائفة من المال في طلب مرضاة الله؛ ليصرف النفس عن ذلك الطريق الظلماني الذي لا آخر له، ويفضي في الأغلب إلى الطغيان، وقساوة القلب62.
فإن قيل: إن الزكاة إنما وجبت لكونها طهرة من الآثام، وصدور الآثام لا يمكن حصولها إلا من البالغ دون الصبي، فوجب أن تجب الزكاة في مال البالغ دون الصبي، فالجواب: أنه لا يلزم من انتفاء سبب معين انتفاء الحكم مطلقًا.
ومن أدلة فرض الزكاة في القرآن: قوله تعالى: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ)[التوبة: ٦٠].
فقوله: (ﮡ ﮢ) قيل: المراد بالصدقات هنا: الزكاة الواجبة؛ بدليل أن الصدقة المستحبة لكل أحد لا يخص بها أحد دون أحد، فيجوز صرفها في غير الأصناف الثمانية، كبناء المساجد والمدارس وغير ذلك.
ولأن (أل) في الصدقات للعهد الذكري، والمعهود هو الصدقات الواجبة، التي أشار إليها القرآن بقوله قبيل هذه الآية: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) [التوبة: ٥٨].
التي جاءت في المنافقين الذين عابوا النبي صلى الله عليه وسلم في قسمة الصدقات، فإن نالهم نصيب منها رضوا وسكتوا، وإن لم يصبهم حظ منها سخطوا عليه وعابوه؛ ولهذا جاء خص مصرف الزكاة في تلك الأصناف ليقطع طمع المنافقين فيها.
ويبدو أن لفظ الصدقات في الآية عام، بحيث يتناول كل صدقة، إلا أن الزكاة المفروضة تدخل فيه دخولًا أوليًا.
والمراد: إنما الصدقات لهؤلاء المذكورين دون من عداهم؛ لأنه حصرها فيهم، وهم ثمانية أصناف...، وهذه الأصناف الثمانية ترجع إلى أمرين:
أحدهما: من يعطى لحاجته ونفعه، كالفقير والمسكين، ونحوهما.
والثاني: من يعطى للحاجة إليه، وانتفاع الإسلام به، فأوجب الله هذه الحصة في أموال الأغنياء؛ لسد الحاجات الخاصة والعامة للإسلام والمسلمين، فلو أعطى الأغنياء زكاة أموالهم على الوجه الشرعي لم يبق فقير من المسلمين، ولحصل من الأموال ما يسد الثغور، ويجاهد به الكفار، وتحصل به جميع المصالح الدينية63.
فهؤلاء الثمانية هم أهلها، فإذا دفعت إلى جهة من هذه الجهات أجزأت، ووقعت موقعها، وإن دفعت في غير هذه الجهات لم تجز؛ لأن هذه القسمة فريضة، فرضها الله وقدرها، والله عليم بمصالح عباده، حكيم في تدبيره وشرعه؛ ولهذا ذيل الآية بقوله: (ﯗ ﯘ ﯙ)[التوبة: ٦٠].
وكأنه لما ذكر تعالى من يعيب الرسول صلى الله عليه وسلم في تقسيم الصدقات بأنه يعطي من يشاء ويحرم من يشاء، وكانوا يسألون فوق ما يستحقون، بين تعالى مصرف الصدقات، وأنه صلى الله عليه وسلم إنما قسم على ما فرضه الله تعالى، قال ابن كثير: «لما ذكر الله تعالى اعتراض المنافقين الجهلة على النبي صلى الله عليه وسلم، ولمزهم إياه في قسم الصدقات، بين تعالى أنه هو الذي قسمها، وبين حكمها، وتولى أمرها بنفسه، ولم يكل قسمها إلى أحد غيره، فجزأها لهؤلاء المذكورين»64.
ولفظه: (إنما) إن كانت وضعت للحصر، فالحصر مستفاد من لفظها، وإن كانت لم توضع للحصر فالحصر مستفاد من الأوصاف؛ إذ مناط الحكم بالوصف يقتضي التعليل به، والتعليل بالشيء يقتضي الاقتصار عليه.
ويستفاد الحصر بالثمانية الأصناف أيضًا من الاقتصار عليها في مقام البيان؛ إذ لا تكون صيغة القصر مستعملة للحقيقي والإضافي معًا إلا على طريقة استعمال المشترك في معنييه65.
وعموم قوله: (ﮣ ﮤ) يتناول الكافر والمسلم، إلا أن الأخبار دلت على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلى الفقراء والمساكين وغيرهم إلا إذا كانوا مسلمين، ولعل مرجع الضمير في قوله: (تؤخذ من أغنيائهم، وترد على فقرائهم)66 يشهد لذلك، بخلاف صدقة التطوع.
ومن أدلة فرض الزكاة في القرآن: قوله تعالى: (ﮝ ﮞ) أي: المفروضة، والأمر للوجوب، وقد تكرر هذا الأمر في عدة آيات من القرآن المكي والمدني، والمخاطب فيها قد تعدد أيضًا، فجاء للمسلمين، ولبني إسرائيل، وهذا دليل على جوب الزكاة على من كان قبلنا، ولكن لا يلزم أن يكونوا مساوين لنا في الأموال التي تجب فيها الزكاة، ولا في مقدار الزكاة، ولا في أهلها الذين تدفع إليهم.
ومن يتتبع آيات القرآن الكريم يجد أن الزكاة قد قرنت بالصلاة في أكثر من موضع، وهذا دليل على كمال الاتصال بينهما؛ لأن الصلاة متضمنة للإخلاص للمعبود، والزكاة والنفقة متضمنة للإحسان على عبيده، فعنوان سعادة العبد إخلاصه للمعبود، وسعيه في نفع الخلق، كما أن عنوان شقاوة العبد عدم هذين الأمرين منه، فلا إخلاص ولا إحسان.
حتى استنبط أبو بكر رضي الله عنه من ذلك أن مانع الزكاة يقاتل عليها، فقال لعمر رضي الله عنه: لأقاتلن بين من فرق بين الصلاة والزكاة67.
ومن أدلة فرض الزكاة في القرآن: قوله تعالى: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ)[المعارج: ٢٤].
وهذا وإن كان خبرًا في سياق المدح كقوله تعالى: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ)[المؤمنون: ٤].
إلا أنه يفهم منه الوجوب؛ لأنه سماه حقًا، فيكون المقصود به الزكاة، ولا يمنع ذلك من أن تكون السورة مكية، فقد يكون أصل مشروعية الزكاة بمكة، ثم أتى تفصيل أحكامها بالمدينة، عن طريق السنة النبوية المطهرة.
وقد قيل في المراد بالحق المعلوم هاهنا: ما أوجبوه على أنفسهم من دفع جزء من أموالهم للمحتاجين على سبيل التقرب إلى الله تعالى، وشكره على نعمه، وتسمية ما يعطونه من أموالهم من الصدقات باسم (الحق) للإشارة إلى أنهم جعلوا السائل والمحروم كالشركاء لهم في أموالهم، من فرط رغبتهم من مواساة إخوانهم، ومعنى كون الحق معلومًا: أنه يعلمه كل واحد منهم ويحسبونه، ويعلمه السائل والمحروم بما اعتاد منهم.
إلا أن القول الأول: وهو أن المراد بالحق الزكاة- أصح؛ لأنه وصف الحق بأنه معلوم، والمعلوم هو المقدر، وسوى الزكاة ليس بمعلوم، إنما هو قدر الحاجة، وذلك يقل ويكثر68.
وسماه الله هنا في هذه الآية (حق) وسماه في آيات كثيرة (زكاة) ولكنه أجمل مقداره، وأجمل الأنواع التي فيها الحق، ووكلهم في ذلك إلى حرصهم على الخير، وكان هذا قبل شرع نصابها ومقاديرها، ثم شرعت الزكاة، وبينت السنة نصابها ومقاديرها.
ومجيء الصلة جملة اسمية (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) لإفادة ثبات هذه الخصلة فيهم، وتمكنها منهم؛ دفعًا لتوهم الشح في بعض الأحيان؛ لما هو معروف بين غالب الناس من معاودة الشح للنفوس.
والمراد بالسائل: هو الذي يسأل، والمحروم: الذي لا يسأل الناس، تعففًا مع احتياجه، فلا يتفطن له كثير من الناس، فيبقى كالمحروم، وأصل المحروم: الممنوع من مرغوبه...، وهذه الصفة للمؤمنين مضادة صفة الكافرين المتقدمة، في قوله: (ﭷ ﭸ)[المعارج: ١٨]69.
٢. النفقة في الجهاد.
ومن النفقات الواجبة النفقة في الجهاد، حيث أمر الله بالإنفاق في الجهاد في جميع الأوقات، وبأنواع الصدقات المتعددة، سواء كان من الزكاة المفروضة أو من غيرها، ووعد على ذلك الأجر العظيم، قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ)[التوبة: ٤١].
فقوله: (ﭔ) أمر بالجهاد، وحقيقته: بذل الجهد والطاقة، وهو قسمان، جهاد بالنفس وجهاد بالمال، أما الجهاد بالنفس فمعلوم، وهو من فروض الكفايات، إلا عند هجوم العدو فيصير متعينًا.
وأما بالمال فبزاده وراحلته إذا قدر على الجهاد بنفسه، فإن عجز عنه بنفسه فببذل المال بدلًا عنه، فمن استطاع الجهاد بالمال والنفس وجب عليه الجهاد بهما، ومن قدر على أحدهما دون الآخر وجب عليه ما كان في قدرته منهما، إلى هذا ذهب كثير من العلماء، وقيل: هو إيجاب للقسم الأول فقط70.
وقوله: (ﭗ ﭘ ﭙ) أي: في سبيل إعلاء كلمة الله ونصرة دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال الشوكاني: «فيه الأمر بالجهاد بالأنفس والأموال، وإيجابه على العباد، فالفقراء يجاهدون بأنفسهم، والأغنياء بأموالهم وأنفسهم، والجهاد من آكد الفرائض وأعظمها، وهو فرض كفاية مهما كان البعض يقوم بجهاد العدو وبدفعه، فإن كان لا يقوم بالعدو إلا جميع المسلمين في قطر من الأرض، أو أقطار وجب عليهم ذلك وجوب عين»71.
٣. الإنفاق على الزوجة.
النفقة على الزوجة بالمعروف واجبة بنص القرآن، قال تعالى: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [البقرة: ٢٣٣].
أي: وعلى والد الطفل نفقة الوالدات، وكسوتهن بالمعروف، أي: بما جرت به عادة أمثالهن في بلدهن من غير إسراف ولا إقتار، بحسب قدرته في يساره وتوسطه وإقتاره72.
قال ابن رشد رحمه الله: «واتفقوا على أن من حقوق الزوجة على الزوج: النفقة والكسوة؛ لقوله تعالى: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) ولما ثبت من قوله عليه الصلاة والسلام: (ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف)73، ولقوله لهند: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)»7475.
فقوله: (ﯗ ﯘ ﯙ) أي: الأب، وظاهر الآية أنه لا فرق بين أن تكون الزوجة في حباله أو بائنًا منه، فإن كانت في حباله فلوجوب الإنفاق عليها سببان: الزوجية والإرضاع، وإن لم تكن في حباله فلها سبب واحد وهو الإرضاع، ولا يمتنع أن يكون للحكم الواحد سببان، كما في الزوج يكون ابن عم فيرث بالزوجية والقرابة76.
وقوله: (ﯜ) أي: أنه يرجع إلى العرف في نوع الرزق وكميته وكيفيته وكذلك الكسوة.
ومن المعلوم أن الكفاية بالمعروف تتنوع بحال الزوجة في حاجتها، وبتنوع الزمان والمكان، وبتنوع حال الزوج في يساره وإعساره، فليست كسوة القصيرة الضئيلة ككسوة الطويلة الجسيمة، ولا كسوة الشتاء ككسوة الصيف، ولا كفاية طعام الشتاء مثل طعام الصيف، ولا طعام البلاد الحارة كالباردة، ولا المعروف في بلاد التمر والشعير كالمعروف في بلاد الفاكهة والخبز، فيطعمها في كل بلد مما هو عادة أهل البلد والعرف عندهم.
وقال بعضهم: هي مقدرة بالشرع نوعًا وقدرًا، مدًا من حنطة، أو مدًا ونصفًا، أو مدين قياسًا على الإطعام الواجب في الكفارة.
والصواب المقطوع به ما عليه الأمة علمًا وعملًا قديمًا وحديثًا أن تقديرها بالعرف لا بالشرع؛ لقوله في هذه الآية: (ﯜ) ولقوله عليه الصلاة والسلام لهند: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)77 ولم يقدر لها نوعًا ولا قدرًا، ولو كان ذلك مقدرًا بشرع لبينه لها قدرًا ونوعًا، كما بين فرائض الزكوات والديات78.
والنفقة التي تجب للمرأة على زوجها هذه الأربعة: الطعام والشراب والكسوة والمسكن، فإذا أعطاها هذه الأربعة فقد خرج إليها من نفقتها، فإن تفضل بعد ذلك فهو مأجور، فأما هذه الأربعة فلابد لها منها؛ لأن بها إقامة المهجة79.
وهذه النفقة تسقط إذا كانت الزوجة ناشزًا، أي: عاصية لزوجها، كخروجها بدون إذنه، وامتناعها عن إعطائه حقه، وتلزم نفقة المطلقة طلاقًا رجعيًا خلال العدة، فإن طلقها وهي حامل فعدتها إلى وضع الحمل، فيلزمه النفقة عليها والسكنى خلال حملها، ولو طلقها بائنًا، وذلك باتفاق الفقهاء؛ لقوله تعالى: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ)[الطلاق: ٦].
وأما المطلقة قبل الدخول فلأنه لا عدة عليها فالنفقة ساقطة بلا ريب، وكذلك السكنى، والمتعة المذكورة لها في القرآن هي عوض عن المهر، والملاعنة لا نفقة لها ولا سكنى؛ لأنها إن كانت المطلقة بائنًا كانت مثلها في ذلك، وإن كانت المتوفى عنها زوجها فكذلك، ولا ريب أن فرقتها أشد من فرقة المطلقة بائنًا؛ لأن هذه يجوز نكاحها في حال من الأحوال بخلاف تلك.
والمقصود أن الآية تدل على فرضية الإنفاق للزوجة، والمقصود بالنفقة هو تأمين الحاجات الضرورية التي لابد منها للإنسان؛ كي لا يحتاج إلى الغير، والحاجات الأساسية التي لا يستغني عنها الإنسان في حياته هي: الغذاء والكساء والمسكن، فأما الغذاء ففيه قوام حياة الإنسان وبقاء بنيته الأساسية، فالغذاء يقيم بناءه، ويديم وجوده في الداخل، وأما اللباس أو الكساء ففيه حمايته من الخارج، وأما المسكن فيأوي إليه، ويرتاح فيه، ويحتمي به من عوادي الدهر، فالنفقة الواجبة على الزوج لزوجته لا تتعدى هذه الثلاثة، وما يتبعها من الخدمة، وما تتضرر بتركه.
ومن أدلة القرآن على وجوب نفقة الزوجة أيضًا: قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ) [النساء: ٣٤].
أي: قائمون على شؤنهن بسبب تفضيله الرجال على النساء بالحزم والعزم والقوة والفتوة وغيرها من الشمائل الشاملة، وبسبب إنفاقهم من أموالهم في نكاحهن كالمهر والنفقة، وهذا أدل على وجوب نفقات الزوجات على الأزواج.
قال ابن كثير: «أي: من المهور والنفقات والكلف التي أوجبها الله عليهم لهن في كتابه، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فالرجل أفضل من المرأة في نفسه، وله الفضل عليها والإفضال، فناسب أن يكون قيمًا عليها، كما قال الله تعالى: (ﮞ ﮟ ﮠ)[البقرة: ٢٢٨]... الآية»80.
وقال القرطبي: «قد جعل الإنفاق عليهن من شرط القوامة، فمتى ما عجز عن نفقتها لم يكن قوامًا عليها، وإذا لم يكن قوامًا عليها كان لها فسخ العقد؛ لزوال المقصود الذي شرع لأجله النكاح»81.
وأخذ بعض العلماء وجوب نفقة الزوجة على زوجها من قوله تعالى: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ)[طـه: ١١٧].
حيث جاء الخطاب شاملًا لآدم وحواء، ثم خص آدم بالشقاء دونها في قوله: (ﮆ) فدل ذلك على أنه هو المكلف بالكد عليها، وتحصيل لوازم الحياة الضرورية لها، من مطعم ومشرب وملبس ومسكن.
قال القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه: «وإنما خصه بذكر الشقاء ولم يقل: فتشقيا، يعلمنا أن نفقة الزوجة على الزوج، فمن يومئذٍ جرت نفقة النساء على الأزواج، فلما كانت نفقة حواء على آدم كذلك نفقات بناتها على بني آدم بحق الزوجية»82.
٤. النفقة على الوالدين.
ومن النفقات الواجبة نفقة الوالد (أب أو أم) الفقير الذي لا مال له ولا كسب على ولده الغني، ذكرًا كان أو أنثى، وتقدر النفقة بالكفاية وسد الحاجة، فإذا كانا غنيين أو لهما مال خاص انتفى سبب وجوب النفقة لهم.
قال ابن المنذر: «أجمع أهل العلم على وجوب نفقة الوالدين اللذين لا كسب لهما ولا مال، سواء أكان الوالدان مسلمين أو كافرين، وسواء كان الفرع ذكرًا أو أنثى»83؛ لقوله تعالى: (ﯠ ﯡ) [البقرة: ٨٣].
وقوله سبحانه: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ)[لقمان: ١٥].
فإن من إكرام الوالدين والإحسان إليهما أن يقدم لهما ما يحتاجان إليه من مال وغيره، وخاصةً حين يصبحان غير قادرين على العمل، وليس من الإحسان ولا من المصاحبة بالمعروف أن يموت الوالدان جوعًا والولد في سعة من العيش، ولا ينفق عليهما!
ولقوله: (ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ)[البقرة: ٢١٥].
أي: يسألونك عن النفقة، وهذا يعم السؤال عن المنفق والمنفق عليه، فأجابهم عنهما، فقال: (ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ) أي: مال قليل أو كثير، فأولى الناس به وأحقهم بالتقديم أعظمهم حقًا عليك، وهم الوالدان الواجب برهما، والمحرم عقوقهما، ومن أعظم برهما النفقة عليهما، ومن أعظم العقوق ترك الإنفاق عليهما؛ ولهذا كانت النفقة عليهما واجبة على الولد الموسر، ومن بعد الوالدين الأقربون على اختلاف طبقاتهم، الأقرب فالأقرب، على حسب القرب والحاجة، فالإنفاق عليهم صدقة وصلة، ولقوله صلى الله عليه وسلم لمن جاء يشكو أباه الذي يريد أن يجتاح ماله: (أنت ومالك لأبيك)84.
٥. النفقة على الأبناء.
وتجب نفقة الطفل الحر الفقير على أبيه85 للإجماع على ذلك86، ويؤيده قوله تعالى: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ)[الطلاق: ٦].
وهو أمر للأزواج يقضي بوجوب إعطاء المرأة أجرة الرضاع المستلزمة وجوب المؤنة عمومًا من رضاع وغيره87.
ولقوله تعالى: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [البقرة: ٢٣٣].
فلفظ المولود له يعم الوالد وسيد العبد، ويبين أن الولد لأبيه لا لأمه، والآية توجب رزق الرضيع على أبيه دون غيره88.
وقد دلت السنة على ذلك في كثير من الأحاديث، منها: ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لهند: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)89 .
وهذا يقتضي لزوم نفقة الولد على أبيه وإلا لما كان لها الأخذ بالمعروف.
ولما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: عندي دينار؟ فقال: (أنفقه على نفسك). قال: عندي آخر؟ فقال: (أنفقه على ولدك...) الحديث90.
ففي هذا الحديث أمر صلى الله عليه وسلم بالإنفاق على الولد بما فضل عن كفاية النفس، والأمر للوجوب، مما يدل على وجوب إنفاق الأب على أولاده.
وسبب وجوب هذه النفقة هو الولادة؛ لأن به تثبت الجزئية والبعضية، والإنفاق على المحتاج إحياء له، ويجب على الإنسان إحياء كله وجزئه، ولأنها قرابة يحرم قطعها، وإذا حرم القطع حرم كل سبب مفضٍ إليه، وترك الإنفاق من ذي الرحم المحرم مع قدرته وحاجة المنفق عليه تفضي إلى قطع الرحم فيحرم الترك.
وإذا حرم الترك وجب الفعل91، مما يدل على وجوب الإنفاق على الأولاد، ولأن للأب ولاية على ابنه، مما يدل على استحقاقه النفقة من أبيه92، ولأن ولد الإنسان بعضه، فكما يجب على الإنسان أن ينفق على نفسه، فيجب عليه أن ينفق على ولده93.
٦.النفقة على القريب غير الأبوين والأبناء.
أما نفقة الأقارب غير الأبوين والأبناء فلا تجب النفقة على القريب لقريبه إلا من باب صلة الرحم؛ لعدم ورود دليل يخص ذلك، بل جاءت أحاديث صلة الرحم وهي عامة، والرحم المحتاج إلى نفقة أحق الأرحام بالصلة.
وقيل: بل تجب؛ لأن سبب وجوب هذه النفقة هي القرابة94 المحرمة للقطع؛ لأنه إذا حرم قطعها حرم كل سبب مفضٍ إليه، وترك الإنفاق من ذي الرحم المحرم95، مع قدرته وحاجته تفضي إلى قطع الرحم، فيحرم الترك، وإذا حرم الترك وجب الفعل ضرورة96.
وهذا هو الصواب؛ لقوله تعالى: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ)[الإسراء: ٢٦].
فقد أمر الله سبحانه بالإحسان إلى القرابة، وإيتائه حقها، ولا ريب أن من كان يتقلب في النعم وقريبه قد أضر به الجوع أو العري فهو غير محسن إليه ولا قائم بحقه، ولما جاء عند أبي داود أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: من أبر؟ قال: (أمك وأباك، وأختك وأخاك، ومولاك الذي يلي ذلك، حق واجب، ورحم موصولة)97.
٧. النفقة على الرقيق.
ومن النفقات الواجبة أن ينفق السيد على مملوكه ذكورًا أو إناثًا بالمعروف، سواء أكان المملوك صحيحًا أم سقيمًا، أو أعمى، أو زمنًا، أو مدبرًا، أو مستولدًا، أو مستأجرًا، أو معارًا، أو قنًا، أو مشتركًا، أو مبعضًا، أو صغيرًا أو كبيرًا، بخلاف المكاتب فنفقته لا تجب على سيده؛ لاستقلاله بالكسب98.
وسبب وجوب هذه النفقة: الملك99 الموجب للاختصاص بالمملوك انتفاعًا وتصرفًا؛ ليكون به صلاحه ودوامه، ومن ملك منفعة شيء لزمته مؤنته؛ إذ الخراج بالضمان؛ ولأن الرقيق لا مال له وما في يده لمولاه، فلا يجوز للرقيق أن ينفق على نفسه من مال غيره، مما يجعل الإنفاق واجبًا على سيده100.
وقد دل الكتاب على ذلك، قال تعالى: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ)[النساء: ٣٦].
ففي هذه الآية أمر بالإحسان على المماليك، ومطلق الأمر يحمل على الوجوب؛ لأن الإنفاق عليهم من الإحسان بهم، فكان واجبًا، غير أنه قد يرد أن الأمر ليس للوجوب حيث يكون للندب.
ويجاب على ذلك بأنه لو سلم بذلك لكان الأمر بالإحسان إليهم على وجه الندب؛ لغرض توسيع النفقة بعد وجوب أصلها؛ لأن المرء لا يترك أصل النفقة على مملوكه إشفاقًا، ومحافظة على بقاء ملكه، وقد أمر بالإنفاق عليه حتى لا يقتر النفقة عليه؛ لكونه مملوكًا في يده، فأمر الله عز وجل السادات بتوسيع النفقة على مماليكهم شكرًا لما أنعم عليهم من جعل من هو في جوهرهم وأمثالهم في الخلقة يقومون بخدمتهم101.
أما من السنة فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم)102.
ففي هذا الحديث أمر بالإنفاق على الرقيق، والأمر للوجوب، مما يدل على وجوب نفقة الرقيق على مالكه.
ثانيًا: الإنفاق المندوب:
ومن أنواع الإنفاق المذكورة في القرآن الكريم الإنفاق المندوب، فقد دعا الإسلام إلى البذل وحث عليه، في أسلوب يبعث في النفوس بواعث الخير، ويثير فيها معاني البر والإحسان، وجاء ما يدل على عظم الأجر والثواب لمن يعود نفسه الإنفاق في سبيل الله بشتى أنواعه وأحواله وزمانه ومكانه، بل لم تقتصر الصدقة في نظر الشرع على نوع معين من أعمال البر، وإنما القاعدة العامة: أن كل معروف صدقة.
ومن الأدلة على ذلك في القرآن: قوله تعالى: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ)[البقرة: ١٧٧].
فهذه الآية قد اشتملت على خمسة عشر نوعًا من أنواع البر الذي يهدي إلى الحياة السعيدة في الدنيا، وإلى رضا الله تعالى في الآخرة، وقد أرشدت إلى أن البر أنواع ثلاثة، جامعة لكل خير، بر في العقيدة، وبر في العمل، وبر في الخلق، فأما بر العقيدة فقد بينته أكمل بيان في قوله تعالى: (ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) وأما بر العمل فقد بينته في قوله: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ) وأما بر الخلق فقد بينته في قوله تعالى: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) ولا شك أن إنفاق المال في تلك الوجوه من شأنه أن يسعد الأفراد والجماعات والأمم، ويكون مظهرًا من أفضل مظاهر العمل الصالح الذي يرضي الله تعالى .
ومعنى الآية: ليس الخير عند الله تعالى في التوجه في الصلاة إلى جهة المشرق والمغرب إن لم يكن عن أمر الله وشرعه، وإنما الخير كل الخير هو إيمان من آمن بالله وصدق به معبوده وحده لا شريك له، وآمن بيوم البعث والجزاء وبالملائكة جميعًا، وبالكتب المنزلة كافة، وبجميع النبيين من غير تفريق، وأعطى المال تطوعًا ذوي القربى واليتامى المحتاجين الذين مات آباؤهم وهم دون سن البلوغ، والمساكين الذين أرهقهم الفقر، والمسافرين المحتاجين الذين بعدوا عن أهلهم ومالهم، والسائلين الذين اضطروا إلى السؤال لشدة حاجتهم، وأنفق في تحرير الرقيق والأسرى، وأقام الصلاة، وأدى الزكاة المفروضة.
والضمير في قوله: (ﭣ ﭤ) يعود إلى المال، أي: أعطى المال وبذله عن طيب خاطره حال كونه محبًا له راغبًا فيه؛ لأن الإعطاء والبذل في هذه الحالة يدل على قوة الإيمان، وصفاء الوجدان، ويسمو بصاحبه إلى أعلى الدرجات، كما قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ)[آل عمران: ٩٢].
وكقوله تعالى: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ)[الإنسان: ٨].
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن أفضل الصدقة ما كان في حال الصحة؛ لأن الإنسان في هذه الحالة يكون مظنة الحاجة إلى المال، فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجرًا؟ قال: (أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا وكذا، وقد كان لفلان)103.
وحث سبحانه وتعالى على إطعام الأيتام والمساكين، ويزداد ذلك فضلًا بكونه في يوم ذي مجاعة؛ لأن إخراج المال في وقت القحط أثقل على النفس، وأوجب لجزيل الأجر، قال تعالى: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ)[البلد: ١٤-١٦].
ففي هذه الآيات بيان لفضيلة من الفضائل التي تؤدي إلى اقتحام العقبة، تتمثل في فك الرقاب، وإطعام المحتاجين، في يوم يشتد فيه جوعهم، والمسغبة: المجاعة، وهو مصدر ميمي، بمعنى السغب، يقال: سغب الرجل كفرح ونصر إذا أصابه الجوع، ووصف اليوم بذلك على سبيل المبالغة، كما في قولهم: نهاره صائم. وقيد سبحانه اليتيم بكونه ذا مقربة؛ لأنه في هذه الحالة يكون له حقان: حق القرابة وحق اليتم، ومن كان كذلك فهو أولى بالمساعدة من غيره.
تنوع الإنفاق في وجوه الخير:
الإنفاق في وجوه الخير باب واسع، وصدقات التطوع أنواع متعددة، فمنها ما يسمى بالصدقة الجارية، أو الوقف الخيري الدائم الإنتاج لصالح من وقف عليهم، ومن ذلك الواجب الاجتماعي كمد يد المساعدة لكل محتاج، وكإنشاء دور المعوقين، وإغاثة الملهوفين، وإشباع الجائعين، وكسوة العارين، وبناء المساجد لفقراء المسلمين، وتشييد المستشفيات لمرضاهم، وحفر الآبار لهم في أي مكان يوجد فيه من يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وقد جاء أن على المسلم في ماله حقوقًا عظيمة غير الزكاة المفروضة.
وكما أن الإنفاق في الخير متنوع، فكذلك المستفيدين من صدقة التطوع أيضًا شرائح متنوعة، بينهم قاسم مشترك ألا وهو الحاجة والعوز والفقر، والمرض والعجز، واليتم والترمل، وكبر السن، حتى بهيمة الأنعام يمكن أن تستفيد من صدقة التطوع.
المفهوم الشامل للصدقة:
ويجدر التنبيه هنا إلى أن الإنفاق التطوعي أيضًا ليس محصورًا في المال فقط، بل قد جاء أن قضاء الحوائج صدقة وأنه عبادة، فجهد الإنسان وعمله في الخير يعد من الصدقات التطوعية، ولا شك أن المال هو الأساس في صدقة التطوع، لكن المسلم أحيانًا لا يستطيع دفع المال بسبب حاجته له أو فقره أو نحو ذلك، أو بأن يكون أخوه المسلم محتاجًا إلى شيء آخر غير المال، ففضل الله واسع، وأجره عظيم، فتقديمك الجهد والعمل والسعي بالجاه لفعل الخير يعد في أحيان كثيرة مثل دفع المال أو أفضل، وفي الحديث: (كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين الاثنين صدقة، ويعين الرجل على دابته فيحمل عليها، أو يرفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة يخطوها إلى الصلاة صدقة، ويميط الأذى عن الطريق صدقة)104.
ومن هذا الحديث يتبين أن العبرة ومحط النظر هي الغاية لا الوسيلة التي تتخذ لتحصيلها ما دامت مشروعة، ولا غبار عليها؛ إذ الغاية هي نفع المسلم لأخيه المسلم بأي نوع من أنواع النفع المالي أو الجسدي أو المعنوي، فالشأن هو التعاون، وإسداء المعروف، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق)105.
فنفع المسلم أخاه المسلم صدقة عظيمة خاصة في ظل هذه الحياة التي يبتلى ويمتحن فيها المسلم في كل أمر من أموره؛ ولهذا فمطلوب من كل مسلم أن ينتبه لنفسه ما دام في دار المهلة، فيجتهد في كسب رضا ربه ليحوز على جنته، وينجو من عذابه، وذلك عن طريق المساهمة في وجوه الخير والبر، ومجالات الخير والبر واسعة وكثيرة، ومنها نفع المسلم أخاه المسلم، وقضاء حاجته خاصة إن كانت تتعلق بأكله أو شربه أو لباسه أو سكنه أو علاجه أو أي ضرورة من ضروراته.
وهكذا نجد أن الإسلام قد وسع مجال الصدقة وفتح دائرتها بحيث تشمل أعمالًا كثيرة يستطيع المسلم بالنية الصالحة أن يكسب أجورًا عظيمة، فكل عمل يمسح به الإنسان دمعة محزون، أو يخفف به كربة مكروب، أو يضمد به جراح مجروح، أو يشد به أزر مظلوم، أو يقيل به عثرة مغلوب، أو يقضي دين غارم، أو يأخذ بيد فقير متعفف ذي عيال، أو يهدي حائرًا، أو يعلم جاهلًا، أو يؤوي غريبًا، أو يدفع شرًا عن مخلوق، أو أذى عن طريق، أو يسوق نفعًا إلى ذي شيبة، فكل ذلك وغيره كثير وكثير يعد عبادة وقربة يؤجر الإنسان عليه.
كذلك نجد أن الإسلام لم يقصر الصدقات على بني الإنسان، بل يتعداه إلى غيره من المخلوقات كالطيور والحيوانات، فقد ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش، فنزل بئرًا فشرب منها ثم خرج، فإذا هو بكلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه، ثم رقي فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له) قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرًا؟ قال: (في كل كبد رطبة أجر)106.
ومن مجالات صدقة التطوع:
١. الصدقة في باب الجهاد في سبيل الله.
الإنفاق في الجهاد في سبيل الله ونصرة الدين ونشر الخير باب واسع، وقد يكون واجبًا، وقد يكون مندوبًا، وقد قال تعالى: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ)[الصف: ١١].
فقوله: (ﮫ) و (ﮮ) خبر، وقيل: هو خبر بمعنى الأمر، أي: آمنوا وجاهدوا، والتعبير به للإيذان بوجوب الامتثال، كأن الإيمان والجهاد قد وقعا، فأخبر بوقوعهما، والخطاب إذا كان للمؤمنين الخلص، فالمراد تثبتون وتدومون على الإيمان، أو تجمعون بين الإيمان والجهاد، أي: بين تكميل النفس وتكميل الغير وإن كان للمؤمنين ظاهرًا، فالمراد تخلصون الإيمان107.
وجاء التعبير بقوله: (ﮢ ﮣ) لإفادة أن ما يذكر بعد ذلك من الأشياء التي تحتاج إلى من يهدي إليها؛ لأنها أمور مرد تحديدها إلى الله تعالى، وتنكير لفظ التجارة للتهويل والتعظيم، أي: هل أدلكم على تجارة عظيمة الشأن، وأطلقت التجارة هنا على الإيمان والعمل الصالح؛ لأنهما يتلاقيان ويتشابهان في أن كليهما المقصود من ورائه الربح العظيم، والسعي من أجل الحصول على المنافع.
وقدم الأموال على الأنفس لأنها هي التي يبدأ بها في الإنفاق والتجهز إلى الجهاد108. أو لأن المقام مقام تفسير وتوضيح لمعنى التجارة الرابحة عن طريق الجهاد في سبيل الله، ومن المعلوم أن التجارة تقوم على تبادل الأموال، وهذه الأموال هي عصب الجهاد، فعن طريقها تشترى الأسلحة والمعدات التي لا غنى للمجاهدين عنها، وفى الحديث الشريف (من جهز غازيًا فقد غزا)109.
بينما نجد في قوله سبحانه: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ)[التوبة١١١].
قدم الأنفس على الأموال لأن الحديث هنا في معرض الاستبدال والعرض والطلب والأخذ والعطاء، فقدم سبحانه الأنفس؛ لأنها أعز ما يملكه الإنسان، وجعل في مقابلها الجنة؛ لأنها أعز ما يوهب، وأسمى ما تتطلع إلى نيله النفوس110.
واسم الإشارة في قوله: (ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) يعود إلى ما سبق ذكره من الإيمان والجهاد، أي: ذلكم الذي أرشدناكم إلى التمسك به من الإيمان والجهاد في سبيل الله هو خير لكم من كل شيء إن كنتم من أهل العلم والفهم.
وفي هذه الآية بيان أن مفهوم الجهاد لا يتمثل فقط في الجهاد بالسيف، وهذه من المسائل التي أخطأ فيها المترجمون الذين ترجموا معاني مفردات القرآن وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، فمن الترجمة الخاطئة أن يترجم الجهاد بمعنى (القتال) فقط، ويحصر مفهوم الجهاد في القتال، وهذا مفهوم قاصر، فالجهاد أعم من القتال؛ ولذلك قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن)111.
وهناك صور من صور الجهاد غير القتال كالجهاد بالمال والجهاد بالكلمة.
ومنها: حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)112.
ومن هذا الباب: قوله: (ففيهما فجاهد)113.
فالمجاهدة لها صور متعددة؛ فترجمة الجهاد إلى (القتال) تفسير قاصر، وترجمة قاصرة من المترجم الذي قام بها؛ ولذلك قال كثير من العلماء المعاصرين: إن التفاسير التي ترجمت وإن كان مترجموها على درجة من الخلق الحسن والصلاح، لكن لقلة علمهم بالمدلولات الشرعية أخطؤوا في كثير من الألفاظ حين ترجموها.
ولكن استدركوا على مثل هذه الترجمة القاصرة بعموم سيرة النبي وعموم سنته صلى الله عليه وسلم ؛ فقد بين أن الجهاد أنواع متعددة، فقضى هذا البيان على حصر الجهاد بالسيف فقط، فلا يظن أن الجهاد انتهى بعدم وجود المعارك.
بل مراد النبي صلى الله عليه وسلم به كل أنواع الجهاد، فإن الجهاد بالمال ماضٍ أيضًا إلى يوم القيامة، وهو أحد أقسام الجهاد، فالباب مفتوح لمن أراد أن يجاهد؛ وذلك بتخصيص جزء من ماله للتفقه في سبيل الله، فيكون مجاهدًا حينئذٍ، وهو بذلك على ثغر من الثغور، وإن كان لا يشعر به أحد من الناس.
٢. الصدقة على المدين المعسر.
ومن أبواب صدقة التطوع الصدقة على المدين المعسر، وهو من ثبت إعساره وعدم قدرته على الوفاء بشهادة من يعلم بحاله كجار أو صاحب ونحو ذلك، وتكون بإنظاره، أو مسامحته بالمال، فقد ورد في فضل إنظاره قوله تعالى: (ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ)[البقرة: ٢٨٠].
والمعنى: وإن وجد مدين معسر ممن لكم عليهم دين فأنظروه وأمهلوه إلى حين اليسار، حتى يتمكن من أداء دينه، وقوله: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ) أي: وتصدقكم على المعسرين من المدينين بإبرائهم من الدين كلَا أو بعضًا خير لكم من إنظارهم وأكثر ثوابًا، وفي ذلك حث على الصدقة، والسماح للمدين المعسر؛ لما فيه من التعاطف والتراحم، وبر الناس بعضهم ببعض، وفي الآية وجوب إنظار المعسر إلى اليسار، وأفضل منه الإبراء.
وعن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن رجلًا كان فيمن كان قبلكم أتاه الملك ليقبض روحه، فقيل له: هل عملت من خير؟ قال: ما أعلم، قيل له: انظر، قال: ما أعلم شيئًا غير أني كنت أبايع الناس في الدنيا وأجازيهم فأنظر الموسر، وأتجاوز عن المعسر، فأدخله الله الجنة)114.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أنظر معسرًا أو وضع عنه أظله الله في ظله)115.
٣. القرض الحسن.
ومن أبواب صدقة التطوع القرض الحسن، بأن يقرض المسلم أخاه المسلم إذا علم حاجته، والقرض يعد من أبواب الخير والمعروف الذي يساهم في تفريج الكربات، وتخفيف الهموم، ويعد من أبواب صدقة التطوع؛ لأن المسلم استفاد من المال في تلك المدة التي اقترض فيها.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أقرض ورقًا مرتين كان كعدل صدقة مرة)116.
بل قد يكون القرض أفضل من الصدقة؛ لأن صاحب القرض لا يأتي إلا وهو محتاج، وأما الصدقة فربما وضعت في يد غني.
وقد قال الله تعالى: (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ)[البقرة: ٢٤٥].
وقد ذكر الله هذه الآية في كتابه مرارًا مبينًا فضل القرض وثوابه، وأنه سبحانه متكفلٌ بالأجر العظيم، والثواب الكبير لمن أقرض الله قرضًا حسنًا، وإن كان معنى القرض هاهنا عموم الصدقة لوجه الله إلا أنه يدخل فيه: ما يعطيه الإنسان من ماله لغيره على أن يقوم برده إليه.
ثالثًا: الإنفاق المذموم:
ومن أنواع الإنفاق المذكورة في القرآن الكريم الإنفاق المذموم، ومنه إنفاق الأموال في الصد عن سبيل الله، كما وقع من كفار قريش يوم بدر ويوم أحد ويوم الأحزاب، فإن الرؤساء كانوا ينفقون أموالهم على الجيش لقتال الرسول صلى الله عليه وسلم، والصد عن سبيل الله.
قال تعالى: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ)[الأنفال: ٣٦].
أي: إن الذين جحدوا وحدانية الله، وعصوا رسوله، ينفقون أموالهم فيعطونها أمثالهم من المشركين وأهل الضلال؛ ليصدوا عن سبيل الله، ويمنعوا المؤمنين عن الإيمان بالله ورسوله، فينفقون أموالهم في ذلك، ثم تكون عاقبة نفقتهم تلك ندامة وحسرة عليهم؛ لأن أموالهم تذهب ولا يظفرون بما يأملون من إطفاء نور الله، والصد عن سبيله، ثم يهزمهم المؤمنون آخر الأمر، والذين كفروا إلى جهنم يحشرون فيعذبون فيها.
والآية وإن نزلت في أهل بدر إلا أنها -كما قال ابن كثير- عامة، وإن كان سبب نزولها خاصًا، فقد أخبر تعالى أن الكفار ينفقون أموالهم ليصدوا عن اتباع طريق الحق، فسيفعلون ذلك، ثم تذهب أموالهم (ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) أي: ندامة؛ حيث لم تجد شيئًا؛ لأنهم أرادوا إطفاء نور الله، وظهور كلمتهم على كلمة الحق، والله متم نوره ولو كره الكافرون، وناصر دينه ومعلن كلمته، ومظهر دينه على كل دين، فهذا الخزي لهم في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب النار، فمن عاش منهم رأى بعينه وسمع بأذنه ما يسوءه، ومن قتل منهم أو مات فإلى الخزي الأبدي والعذاب السرمدي117.
والآية واردة في مقام الإنذار لمن هذا حاله من الذين ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، فأخبر الله تعالى أنها ستعود عليهم بالحسرة، وأنهم سينفقونها لتضيع في النهاية وليغلبوا هم، وينتصر الحق في هذه الدنيا، وسيحشرون في الآخرة إلى جهنم فتتم الحسرة الكبرى، حيث يجمع الله الخبيث على الخبيث فيلقي به في جهنم، وتلك غاية الخسران.
والتعبير القرآني يجسم الخبيث حتى لكأنه جرم ذو حجم، وكأنما هو كومة من الأقذار، يقذف بها في النار دون اهتمام ولا اعتبار!
فما أعظمها من حسرة! فإنفاق الأموال هدرًا، وانقلابها حسرة وغلبة من دواعي الهم والغم أن ينفق الإنسان ماله لهدف من الأهداف، ثم يكون الفشل بضياع المال دون تحقيق الغاية، ومما يزيد الأمر مرارة أن ينقلب هذا الإنفاق حسرة عليهم، ليس ذلك فحسب، بل تكون الهزيمة والغلبة عليهم أيضًا، بالإضافة إلى العذاب الأخروي، وهو الحشر إلى جهنم ليذوقوا العذاب.
فهو وعيدٌ يتلوه وعيد، أربعة تهديدات متتالية لأولئك الذين ينفقون الأموال لأجل الصد عن سبيل الله، إنها قضية قديمة حديثة، فالكفار في زماننا ومن والاهم ينفقون الأموال والثروات لأجل محاربة الإسلام والمسلمين، فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون، ثم إلى جهنم يحشرون، هكذا أخبر الله تعالى .
والإنفاق في الصد عن سبيل الله مستمر في كل زمان، ومنه الإنفاق على الفتنة والفساد والكبائر كلها، وإغواء عباد الله بأنواع من الفتن، كمن يطلق قنوات فضائية غنائية وغير غنائية، فيها الفحش والتعري، أو فيها الدعوة إلى تقليد الأعداء، والسير في ركابهم، وفيها تخدير العقول، وتعطيل الطاقات، والإعجاب بالأعداء وبعاداتهم وتقاليدهم، ونزع حاجز العداوة الذي بيننا وبينهم، أو في نشر البدع والضلالات والسحر والشعوذة، فكل من أنفق هذه الأموال في هذه المنابر هو من الصادين عن سبيل الله، وكذلك من يقومون بالدعاية لها، أو الترويج لها، ببيع أو تسويق ونحوها، نسأل الله أن يكف أذاهم عن المسلمين.
ونلحظ في هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى أخبر عن الغيب على وجه الإعجاز، فقال: (ﮁ) أي: سيقع منهم هذا الإنفاق (ﮂ ﮃ) كما وعد الله به، في مثل قوله: (ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ)[المجادلة: ٢١].
كما أن ظاهر قوله: (ﮋ ﮌ ﮍ) يفيد أنه لا يكون حشرهم إلا إلى جهنم؛ لأن تقديم الخبر يفيد الحصر، ومعنى: (ﮂ) في الموضعين إما التراخي في الزمان لما بين الإنفاق المذكور وبين ظهور دولة الإسلام من الامتداد، وإما التراخي في الرتبة لما بين بذل المال وعدم حصول المقصود من المباينة.
وأتى بصيغة المضارع في (ﭺ) للإشارة إلى أن ذلك دأبهم، وأن الإنفاق مستمر لإعداد العدد لغزو المسلمين وصرفهم عن دينهم، فإنفاقهم حصل في الماضي ويحصل في الحال والاستقبال، وأشعرت لام التعليل بأن الإنفاق مستمر؛ لأنه منوط بعلة ملازمة لنفوسهم وهي بغض الإسلام، وصدهم الناس عنه.
و (ﭻ) جمع مضاف، يجعله من صيغ العموم، فكأنه قيل: ينفقون أموالهم كلها مبالغة، وإلا فإنهم ينفقون بعض أموالهم، والفاء في (ﮁ) تفريع على العلة؛ لأنهم لما كان الإنفاق دأبهم لتلك العلة المذكورة كان مما يتفرع على ذلك تكرر هذا الإنفاق في المستقبل، أي: ستكون لهم شدائد من بأس المسلمين تضطرهم إلى تكرير الإنفاق على الجيوش لدفاع قوة المسلمين.
وضمير (ينفقونها) راجع إلى الأموال لا بقيد كونها المنفقة، بل الأموال الباقية، أو بما يكتسبونه...، وأسندت الحسرة إلى الأموال؛ لأنها سبب الحسرة بإنفاقها، ثم إن الإخبار عنها بنفس الحسرة مبالغة، مثل الإخبار بالمصادر؛ لأن الأموال سبب التحسر لا سبب الحسرة نفسها، وهذا إنذار بأنهم لا يحصلون من إنفاقهم على طائل فيما أنفقوا لأجله؛ لأن المنفق إنما يتحسر ويندم إذا لم يحصل له المقصود من إنفاقه، ومعنى ذلك أنهم ينفقون ليغلبوا فلا يغلبون، فقد أنفقوا بعد ذلك على الجيش يوم أحد...، ثم أنفقوا على الأحزاب حين هاجموا المدينة، ثم انصرفوا بلا طائل، فكان إنفاقهم حسرة عليهم، وقوله: (ﮆ ﮇ) ارتقاء في الإنذار بخيبتهم وخذلانهم؛ فإنهم بعد أن لم يحصلوا من إنفاقهم على طائل، توعدوا بأنهم سيغلبهم المسلمون بعد أن غلبوهم أيضًا يوم بدر، وهو إنذار لهم بغلب فتح مكة، وانقطاع دابر أمرهم، وإسناد الفعل إلى المفعول لكون فاعل الفعل معلومًا بالسياق، فإن أهل مكة ما كانوا يقاتلون غير المسلمين118.
ثم قال الله: (ﮏ ﮐ) أي: الفريق الخبيث من الكفار من الفريق الطيب من المؤمنين، فيجعل الفريق الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعًا، وهو عبارة عن الجمع والضم، حتى يتراكموا، يعني: لفرط ازدحامهم، وقوله: (أولئك) إشارة إلى الفريق الخبيث، والمراد بالخبيث: نفقة الكافر على عداوة محمد، وبالطيب نفقة المؤمن في جهاد الكفار، كإنفاق أبي بكر وعثمان في نصرة الرسول عليه الصلاة والسلام، فيضم تعالى تلك الأمور الخبيثة بعضها إلى بعض، فيلقيها في جهنم، ويعذبهم بها.
والمقصود أن من الإنفاق المذموم ما أنفقه الكفار يوم بدر في الصد عن دين الله، وليس هذا الذي حدث قبل بدر وبعدها إلا نموذجًا من الأسلوب التقليدي لأعداء هذا الدين، إنهم ينفقون أموالهم، ويبذلون جهودهم، ويستنفدون كيدهم في الصد عن سبيل الله، وفي إقامة العقبات في وجه هذا الدين، وفي حرب العصبة المسلمة في كل أرض وفي كل حين، فالمعركة لن تكف، وأعداء هذا الدين لن يدعوه في راحة، ولن يتركوا أولياء هذا الدين في أمن، فالصد عن سبيل الله معركة متجددة، وعداوة باقية، وأسلوبٌ متواصًى به، عودي به الأنبياء أزمانًا، واشتكى الصالحون منه دهورًا (ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ)[الذاريات: ٥٣].
والصد عن سبيل الله أيضًا قد يكون عامًا، وذلك بالصد عن الدين كليةً، وقد يكون الصد جزئيًا، وذلك بالصد عن بعض تشريعات الإسلام، ومحاربتها ومنعها، والتضييق على أهلها، كالحجاب والنقاب والأذان وحلقات القرآن، فمن الناس من يستغل كل إمكاناته العقلية وقدراته المالية في تزيين الباطل وتلميعه بشتى ألوان الزينة والإغراء، يريد إضلال الناس، وتجهيلهم وإبعادهم عن الهدى، ومن ثم فإن وجهه يتمعر غضبًا حينما يرى كلمة الحق قد أينعت وآتت أكلها، فلا يهدأ له بال، أو يطمئن له حال، حتى يفسد تلك الثمار بكل تشنج واضطراب.
وهؤلاء القوم مساكين يظنون أنهم بكلمة عوراء أو عصًا غليظة أو جحور مظلمة سوف يقضون على شجرة التوحيد، ويقطعون أغصان الفضيلة، وما دروا أن الله متم نوره، ومظهر دينه، وناصر أولياءه.
وقد أخبر الله أن هؤلاء لا يستفيدون من بذلهم أموالهم في تلك الإنفاقات إلا الحسرة والخيبة في الدنيا، والعذاب الشديد في الآخرة؛ وذلك يوجب الزجر العظيم عن ذلك الإنفاق الخبيث.
تحدث القرآن الكريم عن آداب الإنفاق، وسوف نتناول ذلك بالبيان فيما يأتي:
أولًا: أن يكون الإنفاق في سبيل الله:
حث الإسلام على الإنفاق، وأن يكون في سبيل الله، في كثير من الآيات والأحاديث؛ لأن الإنفاق في سبيل الله هو نتيجة مباشرة للإيمان بالله، وعلامة على عمق اليقين بالله، وبأنه واهب الحياة والغنى والملك والهدى، وشخصية المسلم تتميز بأنها معطاءة، وعطاؤها ليس من أجل شهرة أو رياء، بل في سبيل الله، ووفق المنهاج الذي رسمه لها الله.
قال تعالى: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ)[البقرة: ١٩٥].
وقال: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ) [التوبة: ٤١].
وقال تعالى: (ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) [التوبة: ٣٤].
والمراد بـ(سبيل الله) المعنى الأعم، كما قال الحافظ ابن حجر، لا خصوص القتال، وإلا لكان الذي ينفق ماله على الفقراء والمساكين واليتامى وابن السبيل ونحوها دون خصوص القتال داخلًا في دائرة الكانزين والمبشرين بالعذاب119.
وعلى هذا فيدخل (ﮈ ﮉ ﮊ) كل نفقة ينفقها المسلم في أوجه الخير المختلفة، بل حتى الزكاة فتدخل في ذلك، قال ابن عثيمين: «الأمر بالإنفاق في سبيل الله؛ والزكاة تدخل في هذا الإنفاق، بل هي أول ما يدخل؛ لأنها أوجب ما يجب من الإنفاق في سبيل الله، وهي أوجب من الإنفاق في الجهاد، وفي صلة الرحم، وفي بر الوالدين؛ لأنها أحد أركان الإسلام»120.
وزعم بعض المعاصرين أن عبارة (ﮈ ﮉ ﮊ) إذا قرنت بالإنفاق كان معناها الجهاد جزمًا، ولا تحتمل غيره مطلقًا121. ويدل على ذلك أن هذه العبارة (أنفقوا في سبيل الله) تذكر كثيرًا بعد الأمر بالجهاد، فكأن المراد منه الإنفاق في الجهاد. وهو زعم غير مبني على الاستقراء التام لموارد الكلمة في الكتاب العزيز، وآيتا البقرة والتوبة المذكورتان تردان عليه.
ففي قوله تعالى: (ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ)[التوبة: ٣٤].
أي: في وجوه الخيرات الشاملة للجهاد وغيره؛ ولأنه قد أطلق في قوله تعالى: (ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ)[البقرة: ٢٥٤].
ولم يقل: في سبيل الله، كما في سائر الآيات الأخرى.
فالظاهر: هو حمل قوله: (ﮈ ﮉ ﮊ) على ما ينفق على الفقراء والمساكين واليتامى وابن السبيل وصلة الرحم، وسائر وجوه الخير والبر، ولكن إذا كان سياق الآيات أو الآية في ذكر القتال وجهاد الكافرين ترجح أن يكون المراد (في سبيل الله) ما دل عليه السياق، فيحمل على إنفاق الأموال في القتال في سبيل الله.
وفي قوله: (ﮈ ﮉ ﮊ) فيه إشارة إلى الإخلاص في العمل، ويدخل في هذا القصد والتنفيذ، أن يكون القصد لله، وأن يكون التنفيذ على حسب شريعة الله؛ لأن (في) للظرفية، والسبيل بمعنى الطريق، وطريق الله: شرعه، والمعنى: أن هذا الإنفاق لا يخرج عن شريعة الله، والإنفاق الذي يكون موافقًا للشرع هو ما ذكره بقوله تعالى: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ)[الفرقان: ٦٧].
ومعنى إنفاقهم في شرع الله: أن يكون ذلك إخلاصًا لله واتباعًا لشرعه، فمن نوى بإنفاقه غير الله فليس في سبيل الله، كرجل أنفق في الجهاد، أو أنفق في الصدقة على المساكين، لكنه أنفق ليقال: إن فلانًا جواد، أو إنه كريم، هذا ليس في سبيل الله؛ لأنه مراءٍ، لم يقصد وجه الله عز وجل، ولم يرد السبيل الذي يوصل إلى الله، ولا يهمه أن يقبل الله منه أو لا يقبل، المهم عنده أنه يقال عند الناس: إنه رجل كريم أو جواد.
وأما أن يكون على حسب شريعة الله، فإن أنفق في وجهٍ لا يرضى به الله، فليس في سبيل الله -وإن أخلص لله-، كرجل ينفق على البدع يريد بذلك وجه الله، وهذا كثير، كبناء الربط للصوفية المنحرفة، وبناء البيوت للأعياد الميلادية، وبناء القصور للمآتم، وطبع الكتب المشتملة على بدع، هذا الإنسان قد يريد بذلك وجه الله، لكنه خلاف شريعة الله، فلا يكون في سبيل الله122.
والمقصود أن (ﮈ ﮉ ﮊ) له معنيان: معنى عام، يدخل ضمنه الصدقات، وإعطاء المحتاجين، وصلة الأرحام، وتقوية الضعفاء من الفقراء والمساكين، ورعاية حقوق الأهل والأولاد وغير ذلك مما يتقرب به إلى الله تعالى، ويدخل ضمنه الحقوق الواجبة كالزكوات والأخماس، والإنفاق على الحج والعمرة وأمثالها، ويدخل ضمنه تشغيل الأموال بفتح مشاريع ليستفيد الناس من هذه المشاريع وغير ذلك.
والمعنى الثاني: معنى خاص، والمقصود به الجهاد في سبيل الله، ويدخل فيه نصرة دين الله، ومحاربة أعدائه، وإعلاء كلمته في الأرض؛ حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله.
والسياق هو الذي يميز هذا المعنى الخاص من المعنى العام السابق، وهذا المعنى هو الذي يجيء بعد ذكر القتال والجهاد، مثل: (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ)و (ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ) ومن ذلك قوله تعالى بعد آيات القتال في سورة البقرة: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ)[البقرة: ١٩٥].
فالإنفاق هنا: إنفاق في نصرة الإسلام، وإعلاء كلمته على أعدائه المحاربين له الصادين عنه.
قال الطاهر بن عاشور رحمه الله: «الإنفاق في سبيل الله بمعناه المشهور وهو الإنفاق في عتاد الجهاد لم يكن إلا بعد الهجرة، فإن سبيل الله غلب في القرآن إطلاقه على الجهاد»123.
وقال البغوي رحمه الله تعالى: «قوله تعالى: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ) أراد به الجهاد، وكل خير هو في سبيل الله، ولكن إطلاقه ينصرف إلى الجهاد»124.
ومثل ذلك قوله تعالى في سورة الحديد: (ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ)[الحديد: ١٠].
فالسياق يدل على أن الإنفاق هنا كالإنفاق في الآية السابقة.
وفي سورة الأنفال قال: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ)[الأنفال: ٦٠].
فالمقام يدل بوضوح على أن سبيل الله في الآية هو محاربة أعداء الله، ونصرة دين الله، كما صرح بذلك الحديث الصحيح: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)125.
وهذا المعنى الخاص هو الذي يعبر عنه أحيانًا بالجهاد والغزو، وتفسيره بنصرة الإسلام أولى، وإلا لكان مضمون معنى: (ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ) جاهدوا في الجهاد، ولا ينبغي قصر المراد من (ﮈ ﮉ ﮊ) على الإنفاق لأجل الجهاد فقط، وذلك لأن المراد منه مطلق سبيل الله، سواء كان في الجهاد العسكري، أو الجهاد الثقافي، أو الجهاد العمراني، أو إعانة المحتاجين، أو بناء المستشفيات والمستوصفات، أو تأسيس صندوق للقروض، أو غير ذلك؛ لأن سبيل الله طريقه، والطريق إذا أضيف إلى شيء فإنما يضاف إلى ما يوصل إليه، ولما علم أن الله لا يصل إليه الناس إلا عبر الطريق الذي رسمه وحدده، تعين أن يكون المراد من الطريق العمل الموصل إلى مرضاة الله وثوابه، فهو مجاز في اللفظ ومجاز في الإسناد.
وقد عبر القرآن عن هذا المعنى في آية أخرى بلفظ: ﭕ ﭖ ﭗ، كما قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ)[البقرة: ٢٦٥].
فيقصد به طلبًا لمرضاة الله تعالى، كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى: «فإن ابتغاء مرضاته سبحانه هو الإخلاص»126.
قال ابن جرير في تفسير هذه الآية الكريمة: «يعني بذلك جل ثناؤه: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ) فيصدقون بها، ويحملون عليها في سبيل الله، ويقوون بها أهل الحاجة من الغزاة والمجاهدين في سبيل الله، وفي غير ذلك من طاعات الله، وطلب مرضاته»127.
وجاء التعبير عن هذا المعنى في آية أخرى بلفظ: (وجه الله) كما قال تعالى: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) [الإنسان: ٩].
فقوله: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) بيان لشدة إخلاصهم، ولطهارة نفوسهم، وهو مقول لقول محذوف، أي: يقدمون الطعام لهؤلاء المحتاجين، مع حبهم لهذا الطعام، ومع حاجتهم إليه، ثم يقولون لهم بلسان الحال أو المقال: إنما نطعمكم ابتغاء وجه الله تعالى، وطلبًا لثوابه ورحمته.
فيحتمل أنهم قالوا هذا الكلام بألسنتهم، أو قالوه في نفوسهم، فهو عبارة عن النية والقصد. أو هو بيان من الله تعالى عما في ضمائرهم من الإخلاص؛ لأن الله تعالى علمه منهم، فأثنى عليهم، وإن لم يقولوا شيئًا، أي: قائلين بلسان الحال أو المقال؛ لإزاحة توهم المن المبطل للصدقة، وتوقع المكافآت المنقصة للأجر، أو إنهم يقولون ذلك لهم تأنيسًا لهم، ودفعًا لانكسار النفس الحاصل عند الإطعام، أي: ما نطعمكم إلا استجابة لما أمر الله، فالمطعم لهم هو الله.
وقوله: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) أي: لا نطلب على طعامنا مكافأة ولا ثناءً128. ثم أضافوا إلى ذلك قولهم: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) فهذه هي العلة والغاية وهي خوفهم من هذا اليوم الموصوف بهذه الصفات.
والقصر المستفاد من (إنما) قصر قلب، مبني على تنزيل المطعمين منزلة من يضن أن من أطعمهم يمن عليهم، ويريد منهم الجزاء والشكر، بناء على المتعارف عندهم في الجاهلية، والمراد بالجزاء: ما هو عوض عن العطية من خدمة وإعانة، وبالشكور: ذكرهم بالمزية129.
ثانيًا: ألا يتبع الإنفاق بالمن والأذى:
ومن آداب الإنفاق في سبيل الله ألا يتبع المنفق نفقته بالمن والأذى، قال الله تعالى: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ)[البقرة: ٢٦٢].
ونظيره قوله تعالى: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ)[البقرة: ٢٦٤].
فقوله: (ﮞ ﮟ ﮠ) أي: لا يتبع نفقته التي أنفقها منَا أو أذى. وعطف بـ (ﮞ) إما لبعد ما بين المنزلتين، أو للمهلة حقيقة، ويكون فيه إشارة إلى أنهم يمنون بنفقة طال أمدها، وداموا عليها، فأحرى أن لا يمنوا بنفس الإنفاق130، ولأن ذكر المن والأذى وإن كان متأخرًا عن الإنفاق إلا أن هذا الذكر المتأخر يدل ظاهرًا على أنه حين أنفق ما كان إنفاقه لوجه الله، بل لأجل الترفع على الناس، وطلب الرياء والسمعة، ومتى كان الأمر كذلك كان إنفاقه غير موجب للثواب.
وفيه إشارة على أن المن والأذى ولو تراخى عن الصدقة وطال زمنه ضر بصاحبه، ولم يحصل له مقصود الإنفاق، ولو أتى بالواو، وقال: (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ) لأوهمت تقييد ذلك بالحال، وإذا كان المن والأذى المتراخي مبطلًا لأثر الإنفاق، مانعًا من الثواب، فالمقارن أولى وأحرى131.
وقوله: (ﮣ ﮤ ﮥ) المن: أن يعتد بإحسانه على من أحسن إليه، بحيث يقول: أنا فعلت معه كذا وكذا، إظهارًا لميزته عليه، والأذى: أن يتطاول عليه بذلك، ويقول: لولا أنا لم يكن منك شيء مثلًا. ويقعان بالقول والفعل.
ولكثرة وقوع المن من المتصدقين وعسر تحفظهم منه أفرده بالذكر، وقدم على الأذى، وإلا فالأذى يشمل المن وغيره، وإنما نص عليه لكثرته.
وقد جعل ابن القيم المن نوعين، فقال: «فالمن نوعان: أحدهما: منٌ بقلبه، من غير أن يصرح به بلسانه، وهذا إن لم يبطل الصدقة فهو من نقصان شهود منة الله عليه في إعطائه المال، وحرمان غيره، وتوفيقه للبذل، ومنع غيره منه، فلله المنة عليه من كل وجه، فكيف يشهد قلبه منة لغيره.
والنوع الثاني: أن يمن عليه بلسانه، فيعتدي على من أحسن إليه بإحسانه، ويريه أنه اصطنعه، وأنه أوجب عليه حقًا وطوقه منة في عنقه، فيقول: أما أعطيتك كذا وكذا، ويعدد أياديه عنده، قال سفيان: يقول: أعطيتك فما شكرت، وقال عبد الرحمن بن زيد: كان أبي يقول: إذا أعطيت رجلًا شيئًا، ورأيت أن سلامك يثقل عليه، فكف سلامك عنه، وكانوا يقولون: إذا اصطنعتم صنيعة فانسوها، وإذا أسديت إليكم صنيعة فلا تنسوها...، وحظر الله على عباده المن بالصنيعة، واختص به صفة لنفسه؛ لأنه من العباد تكدير وتعيير، ومن الله سبحانه وتعالى إفضال وتذكير، وأيضًا فإنه هو المنعم في نفس الأمر والعباد وسائط، فهو المنعم على عبده في الحقيقة، وأيضًا فالامتنان استعباد، وكسر وإذلال لمن يمن عليه، ولا تصلح العبودية والذل إلا لله...، ومن هنا -والله أعلم- بطلت صدقته بالمن، فإنه لما كانت معاوضته ومعاملته مع الله، وعوض تلك الصدقة عنده فلم يرض به، ولاحظ العوض من الأخذ، والمعاملة عنه، فمن عليه بما أعطاه أبطل معاوضته مع الله، ومعاملته له»132.
ويفهم من هذه الآية أن من أتبع إنفاقه المن والأذى لم يحصل له هذا الثواب المذكور هنا، في قوله: (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ)[البقرة: ٢٦٢].
وقد صرح تعالى بهذا المفهوم في قوله: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ)[البقرة: ٢٦٤].
والحكمة من أن المن والأذى مبطلان للصدقة لما فيه من جرح شعور المسكين، والشرع حريص على الحفاظ على شعور وإحساس المسكين، بحيث لا يشعر بجرح المسكنة، ولا ذلة الفاقة.
فالشرع يريد الإنفاق الطيب المحمود الذي يرفع المشاعر الإنسانية ولا يشوبها، الإنفاق الذي لا يؤذي كرامة ولا يخدش شعورًا، الإنفاق الذي ينبعث عن أريحية ونقاء، ويتجه إلى الله وحده ابتغاء رضاه...، والمن عنصر كريه لئيم، وشعور خسيس واطٍ، فالنفس البشرية لا تمن بما أعطت إلا رغبة في الاستعلاء الكاذب، أو رغبة في إذلال الآخذ، أو رغبة في لفت أنظار الناس، فالتوجه إذن للناس لا لله بالعطاء، وكلها مشاعر لا تجيش في قلب طيب، ولا تخطر كذلك في قلب مؤمن، فالمن من ثم يحيل الصدقة أذى للواهب، وللآخذ سواء، أذى للواهب بما يثير في نفسه من كبر وخيلاء، ورغبة في رؤية أخيه ذليلًا له كسيرًا لديه، وبما يملأ قلبه بالنفاق والرياء والبعد من الله، وأذى للآخذ بما يثير في نفسه من انكسار وانهزام، ومن رد فعل بالحقد والانتقام133.
وفي قوله: (ﯤ ﯥ ﯦ) دلالة على أن حصول المن والأذى يخرجان الإنفاق عن أن يكون فيه أجر وثواب أصلًا من حيث يدلان على أنه إنما أنفق لكي يمن، ولم ينفق لطلب رضوان الله ولا على وجه القربة والعبادة، فلا جرم أن يبطل الأجر.
وفي الآية تحذير للمتصدق من هاتين الصفتين الذميمتين؛ لأنهما مبطلتان لثواب الصدقة، فإن قيل: ظاهر هذا اللفظ أن مجموع المن والأذى يبطلان الأجر، فيلزم أنه لو وجد أحدهما دون الآخر لا يبطل الأجر، أجيب: بأن الشرط يقتضي أن لا يقع هذا ولا هذا، أي: فتبطل بكل واحد منهما134.
وقد أفرد المن بالذكر في كلام النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم) قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرار: قال أبو ذر: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟ قال: (المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)135.
وقوله: (ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) شبه المنان بنفقته كمثل المنافق الذي ينفق ماله من أجل الرياء لا من أجل رضا الله، وإن مثل هذا المنافق في انكشاف أمره وعدم انتفاعه بما ينفقه رياء وحبًا للظهور مثل حجر أملس لا ينبت شيئًا، ولكن عليه قليل من التراب الموهم للناظر إليه أنه منتج، فنزل المطر الشديد، فأزال ما عليه من تراب، فانكشف حقيقته، وتبين للناظر إليه أنه حجر أملس صلد، لا يصلح لإنبات أي شيء عليه.
فالتشبيه في الجملة الكريمة بين الذي ينفق ماله رياء وبين الحجر الكبير الأملس الذي عليه قدر رقيق من التراب ستر حاله، ثم ينزل المطر، فيزيل التراب، وتنكشف حقيقته، ويراه الرائي عاريًا من أي شيء يستره، وكذلك المنافق المرائي في إنفاقه يتظاهر بمظهر السخاء أمام الناس، ثم لا يلبث أن ينكشف أمره؛ لأن ثوب الرياء يكشف دائمًا عما تحته، وإن لم يكشفه فإن الله كاشفه.
ومن المفسرين من يرى أن التشبيه في الجملة الكريمة بين المنفق الذي يبطل صدقته بالمن والأذى، وبين الحجر الأملس، وأن الضمير في قوله: (ﯴ ﯵ ﯶ) يعود إلى هذا المبطل لصدقته بالمن والأذى، فيكون المعنى: لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى، فيكون مثلكم كمثل الحجر الأملس الذي عليه تراب، كان يرجى أن يكون منبتًا للزرع، فنزل المطر فأزال التراب فبطل إنتاجه، فالمن والأذى يبطلان الصدقات، ويزيلان أثرها النافع، كما يزيل المطر التراب الذي يؤمل منه الإنبات من فوق الحجر الأملس.
والأظهر في عود الضمير في قوله: (ﯴ) على الذي ينفق ماله رئاء الناس؛ لأنه أقرب مذكور، ولأن التشبيه في قوله: (ﯴ ﯵ ﯶ) قد جاء بلفظ المفرد، وهو المناسب للذي ينفق ماله رئاء الناس؛ لأنه مفرد مثله، بخلاف قوله: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ) فإن الضمير فيه بلفظ الجمع، فمن الأولى أن يعود الضمير في قوله: (ﯴ) إلى المرائي لتوافقهما في الإفراد136.
ثم فاضل سبحانه وتعالى بين الكلمة الطيبة والصدقة المؤذية، فأخبر أن كلمة طيبة وقولًا حسنًا يواجه به الفقير والمسكين خير من صدقة يتبعها أذى، فقال تعالى: (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ)[البقرة: ٢٦٣].
فالقول المعروف وهو الذي تعرفه القلوب ولا تنكره، والمغفرة وهي العفو عمن أساء إليك خير من الصدقة بالأذى، فالقول المعروف إحسان وصدقة بالقول، والمغفرة إحسان بترك المؤاخذة والمقابلة، فهما نوعان من أنواع الإحسان والصدقة المقرونة بالأذى حسنة مقرونة بما يبطلها، ولا ريب أن حسنتين خير من حسنة باطلة، ويدخل في المغفرة مغفرته للسائل إذا وجد منه بعض الجفوة، والأذى له بسبب رده فيكون عفوه عنه خيرًا من أن يتصدق عليه ويؤذيه، هذا على المشهور من القولين في الآية.
والقول الثاني: أن المغفرة من الله أي: مغفرة لكم من الله؛ بسبب القول المعروف والرد الجميل خير من صدقة يتبعها أذى، وفيها قول ثالث- أي: مغفرة وعفو من السائل إذا رد وتعذر المسئول خير من أن ينال بنفسه صدقة يتبعها أذى، وأوضح الأقوال هو الأول، ويليه الثاني، والثالث ضعيف جدًا؛ لأن الخطاب إنما هو للمنفق المسئول لا للسائل الآخذ، والمعنى: أن قول المعروف له، والتجاوز والعفو خير لك من أن تتصدق عليه وتؤذيه137.
والحكمة من ذلك: أن الكلمة الطيبة للسائل، والعفو عنه فيما صدر منه كل ذلك يؤدي إلى رفع الدرجات عند الله، وإلى تهذيب النفوس، وتأليف القلوب، وحفظ كرامة أولئك الذين مدوا أيديهم بالسؤال، أما الصدقة التي يتبعها الأذى فإن إيتاءها بتلك الطريقة يؤدي إلى ذهاب ثوابها، وإلى زيادة الآلام عند السائلين، ولا سيما الذين يحرصون على حفظ كرامتهم، وعلى صيانة ماء وجوههم، فإن ألم الحرمان عند بعض الناس أقل أثرًا في نفوسهم من آلام الصدقة المصحوبة بالأذى؛ لأن ألم الحرمان يخففه الصبر الذي وراءه الفرج، أما آلام الصدقة المصحوبة بالأذى لهم فإنها تصيب النفوس الكريمة بالجراح التي من العسير التئامها وشفاؤها.
وفي الآية دليل على أن الأعمال السيئة تبطل الأعمال الحسنة، كما قال تعالى: (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ)[الحجرات: ٢].
فكما أن الحسنات يذهبن السيئات، فالسيئات تبطل ما قابلها من الحسنات، وفي هذه الآية مع قوله تعالى: (ﮇ ﮈ ﮉ)[محمد: ٣٣].
حث على تكميل الأعمال وحفظها من كل ما يفسدها؛ لئلا يضيع العمل سدى138.
والمقصود أن لقبول الصدقة شروطًا سابقة، ومبطلات لاحقة؛ أما الشروط السابقة فالإخلاص لله والمتابعة، وأما المبطلات اللاحقة فالمن والأذى، وقد امتدح الله في الآيات السابقة الذين ينفقون في سبيله، ولا يتبعون ما أنفقوا منًا على من أعطوه لا بقول ولا بفعل، ولا يفعلون مع من أحسنوا إليه مكروهًا، يحبط به إحسانهم، ووعدهم تعالى جزيل الثواب على ذلك، ثم بين أن ترك المن والأذى بنفسه خير من الإنفاق، وأن الواجب رد السائل ردًا جميلًا، وهو المعروف، وعفوه أن صدر منه ما يثقل عليه، وينال مغفرة الله بسبب ذلك.
ثالثًا: الإنفاق في السر أولى، إلا أن يكون قدوة لغيره:
ذكر الله تعالى في القرآن الكريم إنفاق السر وإنفاق العلانية، وجعل كليهما سلوكًا عامًا للمؤمنين، ومدح كلا النوعين في سياق واحد، فقال تعالى: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ)[البقرة: ٢٧٤].
وقال: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ)[الرعد: ٢٢].
وقال تعالى: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ)[إبراهيم: ٣١].
وقال: (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ)[النحل: ٧].
وقال تعالى: (ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ)[فاطر: ٢٩].
وقال تعالى: (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ)[البقرة: ٢٧١].
فهذه الآيات الكريمة تفيد أن الإنفاق في كلا الحالين في السر وفي العلانية مشروع ومحمود، وأن الصدقات في كل أحوالها خيرٌ محضٌ، ما دام المنفق قد خلص من الرياء، وجانب المن والأذى، وإذا كان ثمة تفاوت فهو في حال النفس، والاحتياط للرياء، وسد مداخله.
إلا أن هناك تفصيلًا من ناحية أفضلية أيِ منهما في أحوالٍ وظروفٍ معينة، ومنطلق العلماء في مسألة تفضيل الإنفاق سرًا على الإنفاق علانية أو العكس هو قوله تعالى: (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ)[البقرة: ٢٧١].
فذهب جمهور المفسرين إلى أن هذه الآية في صدقة التطوع، فالإخفاء فيها أفضل من الإظهار، وكذلك سائر العبادات الإخفاء أفضل في تطوعها؛ لانتفاء الرياء عنها، وليس كذلك الواجبات، قال الحسن: «إظهار الزكاة أحسن، وإخفاء التطوع أفضل؛ لأنه أدل على أنه يراد الله عز وجل به وحده»139. ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل على علانيتها سبعين ضعفًا، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفًا»140.
قال ابن العربي: «أما صدقة الفرض فلا خلاف أن إظهارها أفضل، كصلاة الفرض، وسائر فرائض الشريعة؛ لأن المرء يحرز بها إسلامه، ويعصم ماله» ثم قال في مسألة صدقة النفل: «والتحقيق فيها: أن الحال في الصدقة تختلف بحال المعطي لها، والمعطى إياها، والناس الشاهدين لها، أما المعطي فله فائدة إظهار السنة وثواب القدوة، وآفتها الرياء والمن والأذى، وأما المعطى إياها فإن السر أسلم له من احتقار الناس له، أو نسبته إلى أنه أخذها مع الغنى عنها، وترك التعفف، وأما حال الناس فالسر عنهم أفضل من العلانية لهم، من جهة أنهم ربما طعنوا على المعطي لها بالرياء، وعلى الآخذ لها بالاستثناء؛ ولهم فيها تحريك القلوب إلى الصدقة، لكن هذا اليوم قليل»141.
وبعض العلماء يرى أن أفضلية إخفاء الصدقة مقيدة بإيتاء الفقراء خاصةً لا في كل الصدقات؛ تماشيًا مع منطوق الآية، يقول ابن القيم: «تأمل تقييده تعالى الإخفاء بإيتاء الفقراء خاصة، ولم يقل: وإن تخفوها فهو خيرٌ لكم، فإن من الصدقة ما لا يمكن إخفاؤه كتجهيز جيش، وبناء قنطرة، وإجراء نهر، أو غير ذلك»142.
والمقصود أن أكثر العلماء يرون أن الأفضل في الصدقات الواجبة الإظهار، وأما في سائر الصدقات المندوبة والمستحبة فالأفضل فيها الإخفاء والإسرار، وهذا في الأحوال العادية، أما في أحوالٍ أخرى استثنائيةٍ، فيمكن النظر في المصلحة المتحققة بين إخفاء أو إسرار الصدقة الواجبة أو النافلة.
رابعًا: أن يكون المال المنفق منه من الطيب:
ومن آداب الإنفاق في سبيل الله أن يكون الإنفاق من الطيب، وقد حث القرآن الكريم على الإنفاق مما يحبه الإنسان، فقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ)[آل عمران: ٩٢].
فقوله: (ﭑ ﭒ) أي: تدركوا، وتبلغوا البر الذي هو كل خير من أنواع الطاعات، وأنواع المثوبات الموصل لصاحبه إلى الجنة (ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ) أي: من أموالكم النفيسة التي تحبها نفوسكم، فإنكم إذا قدمتم محبة الله على محبة الأموال فبذلتموها في مرضاته، دل ذلك على إيمانكم الصادق، وبر قلوبكم، ويقين تقواكم، فيدخل في ذلك إنفاق نفائس الأموال، والإنفاق في حال حاجة المنفق إلى ما أنفقه، والإنفاق في حال الصحة، ودلت الآية أن العبد بحسب إنفاقه للمحبوبات يكون بره، وأنه ينقص من بره بحسب ما نقص من ذلك143.
ولم يبين في الآية المنفق وإنما أبهمه، فقال: (ﭖ ﭗ) وسوغ هذا الإبهام هنا وجود (ﭕ) إذ الإنفاق لا يطلق على غير بذل المال...، والمال المحبوب يختلف باختلاف أحوال المتصدقين، ورغباتهم، وسعة ثرواتهم، والإنفاق منه، فيكون التصدق من النفيس والذي يحب دليل على سخاء لوجه الله تعالى، وفي ذلك تزكية للنفس، وتنقية لها مما فيها من الشح، قال تعالى: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ)[الحشر: ٩].
وفي ذلك أيضًا صلاح عظيم للأمة؛ إذ يجود أغنياؤها على فقرائها بما تطمح إليه نفوسهم من نفائس الأموال، فتشتد بذلك أواصر الأخوة، ويهنأ عيش الجميع.
و(ما) في قوله: (ﭖ ﭗ) للتبعيض...، والظاهر: أن المحبة هنا هو ميل النفس، وتعلقها التعلق التام بالمنفق، فيكون إخراجه على النفس أشق وأصعب من إخراج ما لا تتعلق به النفس ذلك التعلق؛ ولذلك فسره الحسن والضحاك: بأنه محبوب المال، كقوله: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ)[الإنسان: ٨].
وقد روي عن جماعة أنهم لهذه الآية تصدقوا بأحب شيء إليهم، فتصدق أبو طلحة ببيرحاء، وتصدق زيد بن حارثة بفرس له كان يحبها، وابن عمر بالسكر واللوز؛ لأنه كان يحبه، وأبو ذر بفحل خير إبله، وببرنس144 على مقرور145، وتلا الآية، والربيع بن خيثم بالسكر لحبه له، وأعتق عمر جارية أعجبته، وابنه عبد الله جارية كانت أعجب شيء إليه.
وقيل: معنى (ﭖ ﭗ) ما يكون محتاجًا إليه. وقيل: كل شيء ينفقه المسلم من ماله يطلب به وجه الله146.
والإنفاق من المحبوب يدخل فيه المال وغيره، كبذل الجاه في معاونة الناس، إن صحبه الإخلاص، وكبذل البدن في طاعة الله، وبذلك المهج في سبيل الله.
وإذا تأملت جميع الطاعات وجدتها إنفاقًا مما يحب الإنسان، إما من ماله، وإما من صحته، وإما من دعته وترفهه، وهذه كلها محبوبات147.
ولما كان الإنفاق على أي وجه كان مثابًا عليه العبد، سواء كان قليلًا أو كثيرًا، محبوبًا للنفس أم لا، وكان قوله: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ) مما يوهم أن إنفاق غير هذا المقيد غير نافع، احترز تعالى عن هذا الوهم بقوله: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) فلا يضيق عليكم، بل يثيبكم عليه على حسب نياتكم ونفعه.
الإنفاق من الطيب:
وأمر الله تعالى بالإنفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه، ونهاهم عن التصدق برذالة المال ودنيئه وخبيثه، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، قال تعالى: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ)[البقرة: ٢٦٧].
وهو المعبر عنه بـ(الحسن) في قوله: (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ)[البقرة: ٢٤٥].
فقوله: (ﮖ) يشمل النفقة الواجبة والمستحبة، أما الواجبة وهي الزكاة، فيحمل الأمر على الوجوب؛ إذ لا يصح دفع الرديء فيها، وأما التطوع فعلى سبيل الكمال.
وقوله: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) أي: من جيد ما كسبتم ومختاره، كذا قال الجمهور، وقال جماعة: إن معنى الطيبات هنا الحلال، ولا مانع من اعتبار الأمرين جميعًا؛ لأن جيد الكسب ومختاره إنما يطلق على الحلال عند أهل الشرع، وإن أطلقه أهل اللغة على ما هو جيد في نفسه حلالًا كان أو حرامًا، فالحقيقة الشرعية مقدمة على اللغوية148.
وأضاف سبحانه الكسب إليهم فقال: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) وإن كان هو الخالق لأفعالهم؛ لأنه فعلهم القائم بهم، وأسند الإخراج إليه فقال: (ﮛ ﮜ ﮝ) لأنه ليس فعلًا لهم ولا هو مقدور لهم، فأضاف مقدورهم إليهم، وأضاف مفعوله الذي لا قدرة لهم عليه إليه، ففي ضمنه الرد على من سوى بين النوعين، وسلب قدرة العبد وفعله، وتأثيره عنها بالكلية149.
وقوله: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) معطوف على ما قبله، أي: أنفقوا من طيبات أموالكم التي اكتسبتموها، ومن طيبات ما أخرجنا لكم من الأرض من الحبوب والثمار والزروع وغيرها، وترك سبحانه ذكر كلمة الطيبات في هذه الجملة لسبق ذكرها في الجملة التي قبلها.
وخص سبحانه هذين النوعين، وهما الخارج من الأرض، والحاصل بكسب التجارة دون غيرهما من المواشي وغيرها، إما بحسب الواقع، فإنهما كانا أغلب أموال القوم إذ ذاك، فإن المهاجرين كانوا أصحاب تجارة وكسب، والأنصار كانوا أصحاب حرث وزرع، فخص هذين النوعين بالذكر لحاجتهم إلى بيان حكمهما، وعموم وجودهما، وإما لأنهما أصول الأموال، وما عداهما فعنهما يكون، ومنهما ينشأ، فإن الكسب تدخل فيه التجارات كلها على اختلاف أصنافها وأنواعها من الملابس والمطاعم والرقيق والحيوانات والآلات والأمتعة، وسائر ما تتعلق به التجارة، والخارج من الأرض يتناول حبها وثمارها وركازها ومعدنها، وهذان هما أصول الأموال وأغلبها على أهل الأرض، فكان ذكرهما أهم150.
وقد أكد الله تعالى هذا الأمر بجملتين كريمتين، فقال: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) فقوله: (ﮡ ﮢ) أي: ولا تقصدوا وتتعمدوا، يقال: تيممت الشيء ويممته إذا قصدته، ويقال: يممت جهة كذا إذا قصدته، ومنه الإمام؛ لأنه المقصود المعتمد، وأصل تيمموا، فحذفت إحداهما تخفيفًا.
والخبيث: هو الرديء من كل شيء، وخبث الفضة والحديد ما نفاه الكير؛ لأنه ينفى الرديء، ويطلق الخبيث على الشيء الحرام والمستقذر.
والمراد: لا تنفقوا من الأشياء التي لا فائدة فيها، أو مضرة، مثل الملابس الخلقة، أو الفواكه والمأكولات الفاسدة، وما شابه ذلك، بل مما يحبه الإنسان، والذي هو أهل لأن يعطى بيد الله، فإن غير ذلك ليس أهلًا لوضعه بيد الله، فالإنفاق بالأكل ينبغي أن يكون من النوع الذي يحبه المنفق له ولعياله، وفي الملابس من النوع الذي يحب لبسه المنفق وأهل بيته، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب -ولا يقبل الله إلا الطيب- فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبه، كما يربى أحدكم فلوه -أي: المهر الصغير- حتى تكون مثل الجبل)151.
والإغماض في اللغة -كما يقول الرازي-: غض النظر، وإطباق جفن على جفن، وأصله من الغموض، وهو الخفاء152، والمراد بالإغماض ها هنا: المساهلة؛ وذلك لأن الإنسان إذا رأى ما يكره أغمض عنه لئلا يرى ذلك، ثم كثر ذلك حتى جعل كل تجاوز ومساهلة في البيع وغيره إغماضًا.
والمعنى: أنفقوا أيها المؤمنون من أطيب أموالكم وأنفسها وأجودها، ولا تتحروا وتقصدوا أن يكون انفاقكم من الخبيث الرديء، والحال أنكم لا تأخذونه إن أعطي لكم هبة أو شراء أو غير ذلك، إلا أن تتساهلوا في قبوله، وتغضوا الطرف عن رداءته، إذا كان هذا شأنكم في قبول ما هو رديء، فكيف تقدمونها لغيركم؟ فإن الله ينهاكم عن ذلك؛ لأن من شأن المؤمن الصادق في إيمانه ألا يفعل لغيره إلا ما يجب أن يفعله لنفسه، ولا يعطي من شيء إلا ما بجب أن يعطى إليه153.
والله غني عن الخبيث الذي تقصدون إليه، فتخرجون منه صدقاتكم! بينما هو سبحانه يحمد لكم الطيب حين تخرجونه، ويجزيكم عليه جزاء الراضي الشاكر، وهو الله الرازق الوهاب، يجزيكم عليه جزاء الحمد، وهو الذي أعطاكم إياه من قبل! فأي إيحاء! وأي إغراء! وأي تربية للقلوب بهذا الأسلوب العجيب!
والحكمة من النهي عن التصدق بالرديء والخبيث إضافة إلى ما سبق: أن الإنفاق لما كان تضميدًا لجراح الفقير، ومواساة له في محنته، فإن الخلق الرفيع يقتضي أن تكون هذه المواساة على النحو الأحسن؛ لتثمر وتؤثر أثرها الطيب في نفوس الضعفاء والمحرومين؛ ليشعر كل فرد منهم بالعطف، والمشاركة لهم في الطيب من العيش، لا للتخلص من هذا الذي قدم لهم. فشعور الفقير بأن ما دفعه إليه المحسن من النوع الرديء إنما كان للتخلص من رداءته يترك في نفسه الأثر السيئ إزاء المنفق الذي أخرج الرديء من المال.
ولما كان الكف عن الإنفاق أو التقدم بالرديء الخبيث إنما ينشأ عن دوافع السوء، وعن تزعزع اليقين فيما عند الله، وعن الخوف من الإملاق الذي لا يساور نفسًا تتصل بالله، وتعتمد عليه، وتدرك أن مرد ما عندها إليه، كشف الله للذين آمنوا عن هذه الدوافع لتبدو لهم عارية، وليعرفوا من أين تنبت النفوس؟ وما الذي يثيرها في القلوب؟ إنه الشيطان154.
وتقوم الآيات بإجراء مقارنة بين وعدين، أحدهما صادر من الشيطان، والآخر من الله سبحانه، وكم بين الوعدين من الفرق (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ)[البقرة: ٢٦٨].
فهذا البخل، واختيار الرديء للصدقة من الشيطان الذي يخوفكم الفقر، ويغريكم بالبخل، ويأمركم بالمعاصي، ومخالفة الله تعالى، والله سبحانه وتعالى يعدكم على إنفاقكم غفرانًا لذنوبكم، ورزقًا واسعًا، والله واسع الفضل، عليم بالأعمال والنيات.
ثم ختم الآيتين بصفتين يقتضيهما سياقهما، فقال: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) فغناه وحمده يأبى قبول الرديء، فإن قبل الرديء الخبيث إما أن يقبله لحاجته إليه، وإما أن نفسه لا تأباه؛ لعدم كمالها وشرفها، وأما الغني عنه الشريف القدر الكامل الأوصاف فإنه لا يقبله155.
والمقصود أن الآية الكريمة تأمر المؤمنين بأن يلتزموا في نفقتهم المال الطيب في كل وجه من وجوهه، بأن يكون جيدًا نفيسًا في صنفه، وحلالًا مشروعًا في أصله.
خامسًا: أن تطيب نفس المنفق بالنفقة:
ومن آداب الإنفاق أن تطيب نفس المنفق بالنفقة، قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ)[البقرة: ٢٦٥].
فمعنى: (ﭘ ﭙ ﭚ) أي: صدر الإنفاق على وجه منشرحة له النفس، سخية به، لا على وجه التردد، وضعف النفس في إخراجها؛ وذلك أن النفقة يعرض لها آفتان: إما أن يقصد الإنسان بها محمدة الناس ومدحهم، وهو الرياء، أو يخرجها على خور وضعف عزيمة وتردد، فهؤلاء سلموا من هاتين الآفتين، فأنفقوا ابتغاء مرضات الله لا لغير ذلك من المقاصد، وتثبيتًا من أنفسهم156.
فقوله تعالى: (ﭘ) معطوفة على (ﭕ)، وقوله تعالى: (ﭙ ﭚ) (ﭙ) ابتدائية؛ يعني: تثبيتًا كائنًا في أنفسهم لم يحملهم عليه أحد، ومعنى يثبتونها: يجعلونها تثبت، وتطمئن، أي: لا تتردد في الإنفاق، ولا تشك في الثواب؛ وهذا يدل على أنهم ينفقون طيبة نفوسهم بالنفقة157.
فالإنفاق على وجه التثبيت من النفس له فضل عند الله؛ لأنه يندفع بدافع نفسي، لا بتوصية من أحد أو نصيحة، بل هم على يقين بالثواب، وتصديق بوعد الله، ويعلمون أن ما أخرجوا خير لهم مما تركوا، والإنسان الذي لا يعمل إلا كارهًا فيه خصلة من خصال المنافقين، كما قال تعالى: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ)[التوبة: ٥٤].
وجاء في تفسير ابن عبد السلام في قوله: (ﯨ ﯩ)[البقرة: ٢٤٥].
«أي: طيبةً بها نفسه، أو محتسبًا لها عند الله، وسمي حسنًا لصرفه في وجوه حسنة، أو لأنه لا من فيه ولا أذى، فيضاعف القرض الحسنة بعشر، أو الثواب تفضلًا بما لا نهاية له»158.
وقال البقاعي في (ﯨ ﯩ): «أي: طيبًا خالصًا فيه، متحريًا به أفضل الوجوه، طيبة به النفس، من غير من، ولا كدر بتسويف ونحوه»159.
وقال ابن القيم: «وحيث جاء هذا القرض في القرآن قيده بكونه حسنًا؛ وذلك يجمع أمورًا ثلاثة، أحدها: أن يكون من طيب ماله، لا من رديئه وخبيثه، الثاني: أن يخرجه طيبة به نفسه، ثابتة عند بذله، ابتغاء مرضاة الله، الثالث: أن لا يمن به ولا يؤذي، فالأول يتعلق بالمال، والثاني يتعلق بالمنفق بينه وبين الله، والثالث بينه وبين الآخذ»160.
وقال بعض العلماء: القرض لا يكون حسنًا حتى تجمع فيه أوصاف عشرة، وهي: أن يكون المال من الحلال، وأن يكون من أجود المال، وأن تتصدق به وأنت محتاج إليه، وأن تصرف صدقتك إلى الأحوج إليها، وأن تكتم الصدقة ما أمكنك، وأن لا تتبعها بالمن والأذى، وأن تقصد بها وجه الله، ولا ترائي بها الناس، وأن تستحقر ما تعطي، وتتصدق به، وإن كان كثيرًا، وأن يكون من أحب أموالك إليك، وأن لا ترى عز نفسك وذل الفقير، فهذه عشرة أوصاف، إذا اجتمعت في الصدقة كانت قرضًا حسنًا161.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الخازن المسلم الأمين الذي ينفذ، وربما قال: يعطي ما أمر به، فيعطيه كاملًا موفرًا، طيبة به نفسه، فيدفعه إلى الذي أمر له به أحد المتصدقين)162.
فهذه الأوصاف شروط لحصول هذا الثواب، فينبغي أن يعتنى بها، ويحافظ عليها، وقوله: (طيبة به نفسه) بأن لا يحسد المعطى، ولا يظهر له من العبوس وتقطيب الوجه ما يكدر خاطره، ونبه على ذلك لأن أكثر الخزان غلب عليهم البخل بمال غيرهم، فهم أبخل البخلاء.
فإذا أعطى هذا الخازن وهو طيب النفس فهو أحد المتصدقين، مع أن المال الذي تصدق منه ليس ملكًا له، وإنما هو خازن فقط، فلما كان واليًا لخزانته، وأدى حقوق الناس في ولايته، طيبة نفسه بما أدى استحق ذلك التكريم لأمانته، فإذا كان هذا شأن الخازن فصاحب المال أولى، بأن يعطي العطاء من طيب نفس.
والمقصود أن من آداب الإنفاق في سبيل الله أن تكون نفس المنفق طيبة به، لا مكرهًا، ولا معتقدًا أنه غرم وضريبة، كما يظن بعض الناس أن الزكاة ضريبة، حتى إن بعض الكتاب يعبرون بقولهم: ضريبة الزكاة، والعياذ بالله.
سادسًا: أن يكون الإنفاق وسطًا، لا إسراف فيه ولا تقتير:
ومن آداب الإنفاق التوسط فيه، وقد نهى الله تعالى عن الإسراف في الإنفاق، فقال تعالى: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ)[الأعراف: ٣١].
فقوله تعالى: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ) أي: كلوا من المآكل الطيبة، واشربوا المشارب الحلال، ولا تسرفوا، لا في زينتكم، ولا في مأكلكم، أو مشربكم؛ لأنه سبحانه يكره المسرفين.
قال ابن كثير رحمه الله: «قال بعض السلف: جمع الله الطب كله في نصف آية، في قوله: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ)»163، وقال البخاري: «قال ابن عباس: كُلْ ما شئت، والبس واشرب ما شئت، ما أخطأتك اثنتان: سرف، أو مخيلة»164.
والإسراف والسرف: تجاوز الحد الذي يقتضيه الإنفاق، بحسب حال المنفق، وحال المنفق عليه، وهذا النهي عن الإسراف نهي إرشاد وإصلاح. والإسراف إما أن يكون بالزيادة على القدر الكافي، والشره في المأكولات، الذي يضر بالجسم، وإما أن يكون بزيادة الترفه، والتنوع في المآكل والمشارب واللباس، وإما بتجاوز الحلال إلى الحرام165.
ثم قال تعالى: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) فإن السرف يبغضه الله، ويضر بدن الإنسان ومعيشته، حتى إنه ربما أدت به الحال إلى أن يعجز عما يجب عليه من النفقات، ففي هذه الآية الكريمة الأمر بتناول الأكل والشرب، والنهي عن تركهما، وعن الإسراف فيهما166. ولهذا كان من الأعمال التي لا يحبها الله، ومن الأخلاق التي يلزم الانتهاء عنها، ونفي المحبة مختلف المراتب، فيعلم أن نفي المحبة يشتد بمقدار قوة الإسراف، وهذا حكم مجمل، وهو ظاهر في التحريم.
ووجه عدم محبة الله للمسرف أن الإفراط في تناول اللذات والطيبات والإكثار من بذل المال في تحصيلها يفضي غالبًا إلى استنزاف الأموال، والشره إلى الاستكثار منها، فإذا ضاقت على المسرف أمواله تطلب تحصيل المال من وجوه فاسدة؛ ليخمد بذلك نهمته إلى اللذات، فيكون ذلك دأبه، فربما ضاق عليه ماله فشق عليه الإقلاع عن معتاده، فعاش في كرب وضيق، وربما تطلب المال من وجوه غير مشروعة، فوقع فيما يؤاخذ عليه في الدنيا أو في الآخرة، ثم إن ذلك قد يعقب عياله خصاصة وضنك معيشة، وينشأ عن ذلك ملام وتوبيخ وخصومات، تفضي إلى ما لا يحمد في اختلال نظام العائلة167.
فأما كثرة الإنفاق في وجوه البر فإنها لا توقع في مثل هذا؛ ولذلك قيل في الكلام الذي يصح طردًا وعكسًا: لا خير في السرف ولا سرف في الخير. وفي معنى هذه الآية قوله صلى الله عليه وسلم: (ويكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)168.
وفي آية أخرى يقول تعالى: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ)[الإسراء: ٢٦-٢٧].
فقوله: (ﯼ) يعني: أنهم في حكمهم؛ إذ المبذر ساعٍ في إفساد كالشياطين، أو أنهم يفعلون ما تسول لهم أنفسهم، أو أنهم يقرنون بهم غدًا في النار، ثلاثة أقوال، والإخوان هنا جمع: أخ من غير النسب.
وندب الله تعالى إلى التوسط في الإنفاق في المباح في قوله: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ)[الفرقان: ٦٧].
فمدح الله هنا الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا، وهذه هي الوسطية المرتبطة بالإنفاق الخاص والعام، فالتبذير مذموم، بل إن صاحبه يعد من إخوان الشياطين، والتقتير على النفس والأهل ومن له حق أيضًا مذموم.
هكذا وضع القرآن الكريم هذه القاعدة الذهبية للوسطية الإنفاقية، حتى لا تزل الأقدام، ولا تضيع الأموال، فقال: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ)[الفرقان: ٦٧].
فهي قمة الوسطية، في قمة السلوك، فلماذا بعد ذلك تنفق الأموال في البهرجة الكاذبة، والمظاهر الزائفة، والحفلات الماجنة، من قبل الحكومات أو الأفراد، لو دبر الناس الإنفاق بعقلية وسطية لكان الوضع الاجتماعي والوضع الاقتصادي للأمة على أحسن حال، ولتوفر للأمة من الثروات الشيء الكثير، ولكن المشاهد من حال المسلمين اليوم هو الإنفاق الفاحش والبذخ الزائد، الذي يدل على غياب هذه الوسطية، فكانت النتيجة أن كثر الفقر والجوع والجهل.
للإنفاق آثار جليلة في الدنيا والآخرة، نتناولها فيما يأتي:
أولًا: آثار دنيوية:
للإنفاق في سبيل الله فوائد عديدة، وآثار حميدة، يجنيها المتصدق إذا أحسن القصد، وأخلص العمل لوجه الله، ومن هذه الآثار الدنيوية:
١. تهذيب النفس وتطهيرها من الشح.
تعد عملية الإنفاق في سبيل الله درسًا تهذيبيًا أكثر من كونها مساعدة مالية؛ وذلك لما للإنفاق من دور عظيم في تهذيب النفوس، وإصلاح حال الفرد، واستقامة المجتمع، وتليين وتذليل ومعالجة لتلكم القلوب الصلدة القاسية، كما أن الجود والسخاء بإذن الله تعالى يقلب البغضاء محبة، والعداوة ودًا، وفيه مواساة للفقراء والمسكين والمعوزين عمومًا. فعندما تطهر النفس من آفاتها، وتتخلص من شهواتها، وتتحلى بالفضائل، وتتزين بالمكارم، تثمر أعظم الثمار، وتخرج لنا كل إحسان.
فالصدقة وسيلة من وسائل تطهير النفس، وتهذيب الأخلاق، فهي تزيل الخطايا، وتغسل صحيفة صاحبها من الأدناس، وتطهرها من الذنوب، وقد دل الكتاب العزيز والسنة المطهرة على أن الصدقة تطهر الإنسان وتزكي نفسه؛ ولهذا سميت الصدقة الواجبة زكاة، وهي: النماء والطهارة، وزكا الشيء: نما وتكاثر، وزكت النفس: طهرت، وقد قال الله تعالى: (ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ)[التوبة: ١٠٣].
تطهرهم من البخل والشح، وحب المال، وتزكيهم بنماء أموالهم وحسناتهم، وتهذيب نفوسهم؛ وبذلك يرتفعون إلى منازل المخلصين الطيبين.
كما أن الإسلام يريد تربية النفوس على البذل والعطاء حتى تتخلق بأخلاق الله، فكلما اعتاد الإنسان البذل والعطاء ارتقى من حضيض الشح الإنساني إلى أفق الكمال الرباني، فإن من صفات الحق سبحانه إفاضة الخير والرحمة على عباده دون نفع يعود عليه، والسعي في تحصيل هذه الصفات بقدر الطاقة البشرية تخلق بأخلاق الله، قال الرازي: «أن النفس الناطقة لها قوتان نظرية وعملية، فالقوة النظرية كمالها في التعظيم لأمر الله، والقوة العملية كمالها في الشفقة على خلق الله، فأوجب الله الزكاة ليحصل لجوهر الروح هذا الكمال، وهو اتصافه بكونه محسنًا إلى الخلق، ساعيًا في إيصال الخيرات إليهم، دافعًا للآفات عنهم»169.
ولما كان البذل في سبيل الله برهان الصدق وعلامة الإيمان، كما قال عليه الصلاة والسلام: (والصدقة برهان)170 كان صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وقد عرف بذلك من قبل رسالته؛ لأن الله هيأه لمكارم الأخلاق، فقد قالت له خديجة في حديث بدء الوحي: (إنك تحمل الكل، وتكسب المعدوم)171.
كما أن في البذل وإيتاء الزكاة شكرًا لنعمة الله عز وجل، وفي ذلك تهذيب للنفس، يقول الكاساني: «لأن إخراج العشر إلى الفقير من باب شكر النعمة، وإقدار العاجز، وتقويته على القيام بالفرائض، ومن باب تطهير النفس عن الذنوب وتزكيتها، وكل ذلك لازم عقلًا وشرعًا»172. ويقول الغزالي: «إن لله عز وجل على عبده نعمة في نفسه وفي ماله، فالعبادات البدنية شكر لنعمة البدن، والمالية شكر لنعمة المال، وما أخس من ينظر إلى الفقير وقد ضيق عليه الرزق، وأحوج إليه ثم لا تسمح نفسه بأن يؤدي شكر الله تعالى على إغنائه عن السؤال، وإحواج غيره إليه»173.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: (الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر)174.
والزكاة بكونها شكرًا لنعمة الله كانت نصف الإيمان.
والإنفاق يقي صاحبه من الشح المنهي عنه، فإذا يسر على المرء الإنفاق فيما أمر الله به فقد وقي شح نفسه؛ وذلك من الفلاح، كما قال الله تعالى: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ)[الحشر: ٩].
وإضافة (الشح) إلى النفس للإشارة إلى أن الشح من طباع النفوس، فإن النفوس شحيحة بالأشياء المحببة إليها، كما قال تعالى: (ﭤ ﭥ ﭦ)[النساء: ١٢٨].
وفي الحديث لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الصدقة، قال: (أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى، وأن لا تدع حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان)175.
والمقصود أن الإنفاق في سبيل الله وسيلة لتهذيب النفس وتزكيتها وتطهيرها من خلق الشح والبخل، إلا أن الإنفاق لا يهذب النفس ويطهرها إلا إذا أخرجت الصدقة على وجهها الصحيح، بأن يخرجها بانشراح صدر، ومن أحل ماله وأصفاه وأطيبه، ويخرجها في أول وجوبها خوف الحوادث وشح النفس، وألا يعذب قلوب الفقراء بالانتظار، وينظر في ذلك إلى نعمة الله عليه بتوفيقه؛ لئلا يتكبر ويعجب فيورثه المن والأذى، فيحبط أجره، وأن يرى فضل المستحق عليه؛ لأنه سبب طهرته، ورفع درجته في الآخرة، وأن تكون صدقته سرًا، اكتفاء بنظر الله وعلمه، وصيانة الفقير عن اشتهار أمره، وأن يكون عند الإخراج مستصغرًا لما يعطي، متواضعًا لمن يعطي، إلى غير ذلك من الآداب التي قد سبق تفصيلها.
٢. حسن التكافل الاجتماعي.
ومن آثار الإنفاق في سبيل الله تعالى تحقيق التكافل الاجتماعي بأبهى صوره؛ حيث يتم تحقيق كفاية الفقير دون المساس بكفاية الغني.
وقد عرف أن من أعظم وسائل تقوية التكافل الاجتماعي في الإسلام البذل والإنفاق؛ لذلك حبب الإسلام إلى بنيه أن تكون نفوسهم سخيةً، وأكفهم نديةً، وأن يجعلوا تقديم الخير إلى الناس شغلهم الدائم، لا ينفكون عنه في صباح أو مساءً، يقول الله تعالى: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ)[البقرة: ٢٧٤].
فهي عملية مستمرة إنفاق بالليل والنهار، في السر والعلن، في الشدة واليسر، حتى صارت نظرية الإنفاق في الإسلام من أبرز السياسات لعلاج مشكلة الفقر، ولو فكر العالم المعاصر اليوم قليلًا في حيثيات وضوابط نظرية الإنفاق لوجدها من أبرز وأنجع الحلول لمشكلة الفقر، الذي يعاني منه الملايين في أنحاء العالم، وإنه بحساب يسير لحصيلة زكاة أموال المسلمين في أرجاء المعمورة نجد أنها كافية لإغناء كل فقراء المسلمين، بل فقراء العالم أجمعين، وتحقيق كفايتهم من مأكل وملبس وتعليم ومسكن.
والإسلام وهو يدعو إلى الإنفاق في سبيل الله على الفقراء والمحتاجين يحرص أن يجعل المسلمين كتلة واحدة، يشد بعضها بعضًا، يربط بينهم رباط الإيمان والعقيدة، يعطف كبيرهم على صغيرهم، وغنيهم على فقيرهم، كل منهم يتحسس حاجة أخيه المسلم، ويفعل الأسباب لإزالة هذه الحاجة بصدر رحب، وقلب منشرح، ينطلقون من توجهات كتابهم، بقوله: (ﯜ ﯝ ﯞ)[الحجرات: ١٠].
وقوله تعالى: (ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ)[المائدة: ٢].
ومن سنة رسولهم محمد صلى الله عليه وسلم، بقوله: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)176.
وبقوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا)177.
فصدقة التطوع إذن تساعد على إذابة التفاوت الطبقي بين المسلمين، وتعينهم على حل مشكلة الفقر، وما ينتج عنه من مآسٍ ومشاكل، وهي أيضًا سبب من أسباب الألفة والمحبة بين المسلمين، ولها دور في إشاعة روح التسامح والتعاون والتآخي بينهم.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)178. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه السائل، أو طلبت إليه حاجة، قال: (اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء)179 يقول ابن حجر: «في الحديث حض على الخير وفعله، والتسبب إليه بكل وسيلة، والشفاعة إلى الكبير في كشف كربة، ومعونة ضعيف»180.
والمقصود أن من آثار الإنفاق ما يحققه من التكافل بين أفراد المجتمع المسلم؛ وذلك عن طريق ما شرعه الله من الإنفاق، ومد يد العون إلى الضعفاء والمعوزين؛ ليجد هؤلاء من يحنو عليهم، ومن ينتشلهم من براثن الفقر، ويبعد عنهم صوره المرعبة، وبذلك تتوازن القوى، ويتجه كلهم نحو بناء مجتمع مثالي في كل عصر، ومع كل جيل، ويلتحم الأفراد فيما بينهم في إطار من الود والرحمة، يشد بعضهم بعضًا.
ومن صور التكافل الاجتماعي في الإسلام في باب الإنفاق: ما شرعه الله من وجوب نفقة الأقارب الفقراء على القريب الغني، فنفقة الزوجة على الزوج، والأبناء على الأب، ونفقة الوالدين الفقيرين على الولد القادر، ونفقة الأخ الفقير أو المحتاج على أخيه الذي يرثه، وقد وسع بعض علماء المسلمين في شأن نفقة الأقارب حتى تصل إلى ذوي الأرحام.
وهكذا من صور التكافل الاجتماعي أحكام الديات في القتل الخطأ، فإن الدية تجب لورثة القتيل، وقد يكونون صغارًا فتعينهم على مواجهة الحياة بعد فقد مورثهم، ويتشارك أقرب العصبة إلى القاتل خطأ في دفع الدية إلى ورثة المقتول، والدية هنا تمثل ضمانًا من المجتمع لورثة المقتول، فلا يضيع دم إنسان هدرًا في مجتمع مسلم.
٣. سعة الرزق.
ومن آثار الإنفاق في سبيل الله أن الصدقة تجلب الرزق، وتحفظ المال من الآفات والهلكات والمفاسد، وتحل فيه البركة، وتكون سببًا في إخلاف الله على صاحبها بما هو أنفع له، وأكثر وأطيب، دلت على ذلك النصوص الثابتة، والتجربة المحسوسة، فمن النصوص الدالة على ذلك قوله تعالى: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁﰂ ﰃ ﰄ ﰅ)[سبأ: ٣٩].
قال ابن عاشور في تفسيره: «وأكد ذلك الوعد بصيغة الشرط، وبجعل جملة الجواب اسمية، وبتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي بقوله: (ﰀ ﰁ) ففي هذا الوعد ثلاث مؤكدات دالة على مزيد العناية بتحقيقه...، وجملة: (ﰃ ﰄ ﰅ) تذييل للترغيب والوعد بزيادة أن ما يخلفه أفضل مما أنفقه المنفق»181.
وقال السعدي: «قوله: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ) نفقة واجبة أو مستحبة، على قريب أو جار أو مسكين أو يتيم أو غير ذلك فهو تعالى يخلفه، فلا تتوهموا أن الإنفاق مما ينقص الرزق، بل وعد بالخلف للمنفق الذي يبسط الرزق ويقدر»182.
ومن النصوص الدالة أيضًا على أن الصدقة بوابة للرزق، ومن أسباب سعته واستمراره، وتهيؤ أسبابه، وأنها لا تزيد العبد إلا كثرة: قوله تعالى: (ﭰ ﭱ ﭲ)[إبراهيم: ٧].
إذ الصدقة غاية في الشكر، وقوله عز وجل في الحديث القدسي: (يا ابن آدم أنفق أنفق عليك)183.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (ما فتح رجل باب عطية بصدقة أو صلة إلا زاده الله بها كثرة)184.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا)185.
كما يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (بينا رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتًا في سحابة: اسق حديقة فلان، فتنحى ذلك السحاب، فأفرغ ماءه في حرة، فإذا شرجة قد استوعبت ذلك الماء كله، فتتبع الماء، فإذا رجل قائم في حديقته، يحول الماء بمسحاته، فقال له: يا عبد الله! ما اسمك؟ قال: فلان -للاسم الذي سمع في السحابة-، فقال له: يا عبد الله لم تسألني عن اسمي؟ فقال: إني سمعت صوتًا في السحاب الذي هذا ماؤه، يقول: اسق حديقة فلان -لاسمك-، فماذا تصنع فيها؟ قال: أما إذ قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثه، وأرد فيها ثلثه)186.
وفي رواية: (وأجعل ثلثه في المساكين والسائلين وابن السبيل)187.
وفي المقابل جاءت نصوص عديدة ترد على فئام من الخلق -ممن رق دينهم وساءت أفهامهم- ظنوا أن الصدقة منقصة للمال، جالبة للفقر، مسببة للضيعة، بل أبانت هذه النصوص أن الصدقة لا تنقص مال العبد، وأن شحه به هو سبب حرمان البركة، وتضييق الرزق، وإهلاك المال، وعدم نمائه، ومن هذه النصوص قوله صلى الله عليه وسلم: (ما نقصت صدقة من مال)188 .
وفي حديث أسماء رضي الله عنها قالت: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (لا توكي فيوكى عليك... لا تحصي فيحصى الله عليك)189.
وأيضًا فأن التجربة المحسوسة تثبت أن المعونة تأتي من الله للعبد على قدر المؤونة، وأن رزق العبد يأتيه بقدر عطيته ونفقته، فمن أكثر أكثر له، ومن أقل أقل له، ومن أمسك أمسك عليه، وقد نص غير واحد أن ذلك مجرب محسوس، ومن شواهد ذلك قصة عائشة رضي الله عنها: «أن مسكينًا سألها وهي صائمة وليس في بيتها إلا رغيف، فقالت لمولاتها: أعطيه إياه، فقالت: ليس لك ما تفطرين عليه! فقالت: أعطيه إياه! قالت: ففعلت، قالت: فلما أمسينا أهدى لنا أهل بيت أو إنسان -ما كان يهدي لنا- شاة وكفنها، فدعتني، فقالت: كلي من هذا، هذا خير من قرصك»190.
فالقضية إذن مرتبطة بالإيمان، ومتعلقة باليقين، والأمر كما قيل: «من أيقن بالخلف جاد بالعطية»191.
ومما يدل على أن الصدقة سبب لزيادة المال، وسعة الرزق: قول الله تعالى: (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ)[البقرة: ٢٤٥].
وقوله تعالى: (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ)[البقرة: ٢٦٨].
يقول ابن القيم رحمه الله: «وأما الله سبحانه فإنه يعد عبده مغفرة منه لذنوبه، وفضلًا بأن يخلف عليه أكثر مما أنفق وأضعافه، إما في الدنيا أو في الآخرة»192.
ويقول الله تعالى: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁﰂ ﰃ ﰄ ﰅ)[سبأ: ٣٩].
يقول ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: «أي: مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم به، وأباحه لكم، فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبدل، وفي الآخرة بالجزاء والثواب»193.
ومما يدل على ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا)194.
ومعلومٌ أن سعة الرزق والبركة فيه لها ارتباط وثيق بالأعمال الصالحة التي يقدمها العبد، فكلما ازداد العبد صلةً بالله عز وجل بارك الله له في رزقه، وأغناه من فضله، ومن الأعمال الصالحة الإنفاق في سبيل الله، وهو من الأعمال التي ترتبط بالرزق، فجزاؤه في الدنيا الإخلاف والبركة، وسعة الرزق، وفي الآخرة الجنة، ورضوان الله.
ومن الأعمال الصالحة التي تزيد في الرزق أيضًا صلة الرحم، وهذا من أجل الأعمال وأفضلها عند الله.
فقد روى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه)195 .
فصلة الرحم لها علاقة بالرزق، والله عز وجل قد تكفل بأن يصل من وصلها، ويقطع من قطعها، والجميع يقصر في هذا الجانب إلا من رحم الله، خاصة مع تعقيدات الحياة المعاصرة، وكثرة الارتباطات والأعمال، ولكن لا أقل من أن يرفع المرء سماعة الهاتف، ويطمئن على ذوي رحمه.
والمقصود أن الصدقة من أهم موجبات توسيع الرزق، كما أنها تصون المال الباقي وتحفظه وتبعد عنه الكوارث وتزيده نماءً، والصدقة من الأمور المجربة في استنزال الرزق! وكأن الله عز وجل يقول: أنت دفعت لأخيك مالًا أكرمته، أنا أولى منك بالإكرام؛ لذا أوسع عليك في الرزق! وبما أن الصدقة هي عبارة عن تطهير للنفس؛ لذا فهي من مواطن استجابة الدعاء، وبإمكان الإنسان أن يطلب من الفقير الذي تصدق عليه أن يدعو له بسعة الرزق!
ولابد من التنبيه إلى أمر مهم وهو أن سعة الرزق أو ضيقه قد تعني بالدرجة الأولى ما يجعله الله تعالى من البركة فيما آتاه لعبده، وما يمتعه به من السعادة والطمأنينة به، وشواهد ذلك كثيرة من واقع الناس، فعلى المسلم أن يعلق قلبه بالله، وأن يحذر من الركون إلى الأسباب المادية، وينسى مسبب الأسباب سبحانه وتعالى، الذي بيده ملكوت كل شيء، والذي تكفل برزق جميع المخلوقات.
ثانيًا: آثار أخروية:
كما أن للإنفاق في سبيل الله آثار دنيوية، فله أيضًا آثار أخروية، ومن هذه الآثار:
١. الحصول على محبة الله ورحمته ورضاه.
فمن فوائد الصدقة وآثارها الحميدة أنها طريق للظفر بمحبة الله ورحمته ورضاه، ففي الصدقة إحسان ورحمة، وتفضل وشفقة؛ ولذا كانت من وسائل نيل محبة رب العالمين، والحصول على رحمته، والظفر برضوانه؛ لأنه سبحانه يحب المحسنين، ويرحم الرحماء، وقد دلت نصوص القرآن والسنة على ذلك، فمما يدل على أن التصدق والإنفاق في مرضاة الله من دواعي حبه عز وجل للعبد: قوله تعالى: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ)[البقرة: ١٩٥].
فقوله: (ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) تذييل للترغيب في الإحسان؛ لأن محبة الله عبده غاية ما يطلبه الناس؛ إذ محبة الله العبد سبب الصلاح والخير دنيا وآخرة، واللام للاستغراق العرفي، والمراد: المحسنون من المؤمنين196.
والمحسن مشتق من فعل الحسن، وكثر استعماله فيمن ينفع غيره بنفع حسن، من حيث إن الإحسان حسن في نفسه، أو مشتق من الإحسان، ففاعل الحسن لا يوصف بكونه محسنًا إلا إذا كان فعله حسنًا وإحسانًا معًا، فالاشتقاق إنما يحصل من مجموع الأمرين. ومعنى: (ﮪ) أي: في الإنفاق على من تلزمكم مؤنته ونفقته، والمقصود منه أن يكون ذلك الإنفاق وسطًا لا إسراف فيه ولا تقتير، وهذا هو الأقرب لاتصاله بما قبله، ويمكن حمل الآية على جميع وجوه الإحسان.
قال السعدي: «وهذا يشمل جميع أنواع الإحسان؛ لأنه لم يقيده بشيء دون شيء، فيدخل فيه الإحسان بالمال كما تقدم، ويدخل فيه الإحسان بالجاه بالشفاعات ونحو ذلك، ويدخل في ذلك الإحسان بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم العلم النافع، ويدخل في ذلك قضاء حوائج الناس من تفريج كرباتهم وإزالة شداتهم، وعيادة مرضاهم، وتشييع جنائزهم، وإرشاد ضالهم، وإعانة من يعمل عملًا، والعمل لمن لا يحسن العمل، ونحو ذلك مما هو من الإحسان الذي أمر الله به، ويدخل في الإحسان أيضًا الإحسان في عبادة الله تعالى»197.
وفي الآية إثبات المحبة لله عز وجل، وهي محبة حقيقية على ظاهرها، وليس المراد بها الثواب ولا إرادة الثواب، خلافًا للأشاعرة وغيرهم من أهل التحريف الذين يحرفون هذا المعنى العظيم إلى معنًى لا يكون بمثابته، فإن مجرد الإرادة ليست بشيء بالنسبة للمحبة، وشبهتهم أن المحبة إنما تكون بين شيئين متناسبين، وهذا التعليل باطل، ومخالف للنص، ولإجماع السلف، ومنقوض بما ثبت بالسمع والحس من أن المحبة قد تكون بين شيئين غير متناسبين.
فقد أثبت النبي صلى الله عليه وسلم أن أحدًا -وهو جبل- يحب ويحب، فقال: (هذا جبل يحبنا ونحبه)198 .
والإنسان يجد أن دابته تحبه وهو يحبها؛ فالبعير إذا سمعت صوت صاحبها حنت إليه، وأتت إليه، وكذلك غيره من المواشي، والإنسان يجد أنه يحب نوعًا من ماله أكثر من النوع الآخر.
والصدقة أيضًا تورث جنات النعيم، كما قال تعالى: (ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ)[آل عمران: ١٥-١٧].
ففي هذه الآية ذكر الله تعالى جزاء المتقين، وهو جنات فيها من أصناف الخيرات، والنعيم المقيم، ولهم الأزواج المطهرة من كل آفة ونقص، جميلات الأخلاق، كاملات الخلائق؛ لأن النفي يستلزم ضده، فتطهيرها عن الآفات مستلزم لوصفها بالكمالات، ولهم رضوان من الله الذي هو أكبر من كل شيء.
وذكر من صفاتهم أنهم (منفقون) أموالهم في طاعة الله، ويدخل فيه إنفاق المرء على نفسه وأهله وأقاربه وصلة رحمه، وفي الزكاة والجهاد، وسائر وجوه البر.
فهؤلاء المتقون المنفقون أموالهم في سبيل الله لهم هذا الأجر العظيم، الذي جاء في الآيتين، ومنه (رضوان من الله) الذي حرمه من لم يتصف بهذه الصفات، وعطف (رضوان من الله) على ما أعد للذين اتقوا عند الله؛ لأن رضوانه أعظم من ذلك النعيم المادي؛ لأن رضوان الله تقريب روحاني.
قال تعالى: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ)[التوبة: ٧٢].
وأظهر اسم الجلالة في قوله: (ﯟ ﯠ ﯡ) دون أن يقول: ورضوان منه، أي: من ربهم؛ لما في اسم الجلالة من الإيماء إلى عظمة ذلك الرضوان.
والتنوين في (رضوانٌ) للتفخيم، أي رضوان وأي رضوان لا يقادر قدره كائن من الله عز وجل، فهو أكبر من كل متاع، فهو رضوان من الله، رضوان يعدل الحياة الدنيا والحياة الأخرى كليهما، ويرجح رضوان بكل ما في لفظه من نداوة، وبكل ما في ظله من حنان.
فرضوان الله ومحبته والتفاته وعطفه كل هذه غاية يتوخاها الإنسان، بل يبذل للحصول عليها كل غالٍ ونفيس، وما أسعد الإنسان وهو يرى نفسه محبوبًا لله سبحانه، راضيًا عنه، على أن في الإخبار بالرضا والمحبة في الآيتين السابقتين فرقًا ظاهرًا وواضحًا، فإن المحبة أمر أعمق من مجرد الرضا، فمحبة الله لها معنى عظيم له تأثيره الخاص في النفس.
ومن النصوص الدالة على أن الصدقة دافعة لغضب الله وسخطه، جالبة لرضوانه ورحمته: ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الصدقة لتطفئ غضب الرب، وتدفع ميتة السوء)199. وحديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي تضمن قصة الأبرص والأقرع والأعمى، وفيه قول الملك للأعمى لما بذل المال محتسبًا الثواب من الله، وأمسكه صاحباه شحًا به وبخلًا: (أمسك مالك، فإنما ابتليتم؛ فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك)200.
كما أتت أحاديث عديدة تبين أن الله يحب المتصدقين، وذوي البر والإحسان، وصانعي المعروف، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس)201.
كما جاءت أحاديث تبين أن الله لا يرحم من عباده إلا الرحماء بخلقه، المشفقين على عباده -وهي صفة المتصدق- ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء)202، وقوله صلى الله عليه وسلم: (من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل)203.
فيا طامعًا في محبة الله ورضوانه، ويا راجيًا رحمته وإحسانه: عليك بالصدقة، فإنها نعم الوسيلة لتحقيق غايتك، والوصول إلى بغيتك.
فهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه عندما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يحض على الإنفاق في تجهيز جيش العسرة، فجاء بتسعمائة بعير برواحلها ومراكبها ونفقاتها وسلاحها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم)204.
فقد حل عليه رضوان الله الأكبر الذي لا سخط بعده.
٢. مغفرة الذنوب.
وجعل الله الصدقة سببًا لغفران المعاصي، وإذهاب السيئات، والتجاوز عن الهفوات، دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة، ومنها: قوله تعالى: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ)[هود: ١١٤].
وهذا نص عام يشمل كل حسنة، وفعل خير، والصدقة من أعظم الحسنات والخيرات، فهي داخلة فيه بالأولوية.
وقوله سبحانه: (ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ)[الأحزاب: ٣٥].
وقوله عز وجل: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ)[آل عمران: ١٣٣-١٣٤].
فهاتان الآيتان أفادتا أن من أولى وأجل ما تنال به مغفرة الله للخطايا، وتجاوزه عن الذنوب الإنفاق في مرضاته سبحانه .
ومما يدل على أن الصدقة تمحو الذنوب وترفع الدرجات: قول الله تعالى: (ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ)[التوبة: ١٠٣].
يقول السعدي رحمه الله: «أي: تطهرهم من الذنوب والأخلاق الرذيلة، وتزكيهم أي: تنميهم وتزيد في أخلاقهم الحسنة وأعمالهم الصالحة، وتزيد في ثوابهم الدنيوي والأخروي، وتنمي أموالهم»205.
وقوله تعالى: (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ)[البقرة: ٢٦٨].
قال ابن كثير رحمه الله: «أي: يخوفكم الفقر؛ لتمسكوا ما بأيديكم فلا تنفقوه في مرضاة الله...، (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ) أي: في مقابلة ما أمركم الشيطان بالفحشاء و (ﯞ) أي: في مقابلة ما خوفكم الشيطان من الفقر»206.
ومن النصوص الدالة على ذلك: ما أخرجه البخاري في باب: الصدقة تكفر الخطيئة من حديث حذيفة رضي الله عنه، وفيه: (فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره تكفرها الصلاة والصدقة والمعروف)207.
٣. الحشر تحت ظل الصدقة.
ومن فوائد الإنفاق الأخروية: أن الناس إذا حشروا يوم القيامة واشتد الكرب فإن المتصدقين يتفيئون في ظل صدقاتهم، وقد ثبت ذلك في أحاديث كثيرة، ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: (كل امرئ في ظل صدقته يوم القيامة حتى يفصل بين الناس) أو قال: (حتى يحكم بين الناس) قال يزيد -راوي الحديث-: وكان أبو الخير لا يخطئه يومٌ إلا تصدق فيه بشيء، ولو كعكة أو بصلة أو كذا208.
وقال في الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)209. وقوله: (في ظل صدقته) ظاهره العموم، فيشمل صدقته الواجبة والنافلة، والمراد: يوم القيامة، حين تدنو الشمس من الرؤوس، ويبلغ الكرب في الناس مبلغه.
والمقصود أن أعمالهم تظلهم أو تضحيهم، فإضافة الظل إلى الأعمال إضافة سبب؛ فالأعمال الصالحة أصحابها في ظلها، وكل ذلك في ظل العرش.
وليس المراد بها ظله من حر الشمس فقط، بل تمنعه من جميع المكاره، وتستره من النار إذا واجهته، وتوصله إلى جميع المحاب، من قولهم: فلان في ظل فلان، وتمسك به من فضل الغني الشاكر على الفقير الصابر، ولو لم يكن في فضل الصدقة إلا أنها لما تفاخرت الأعمال كان لها الفضل عليهن لكفى210.
والمقصود أنه مما جاء في الترغيب بالصدقة أن صاحبها يكون في ظلها يوم القيامة، ويمكن أن نقول: الصدقة تجسمت، أو تجسم ثوابها، وتحول إلى مظلة تظل صاحبها، حتى يقضى بين الخلائق، ولا يناله ما ينال عامة الناس، من حرارة الشمس التي تدنو منهم فيعرقون، والأولى ترك التعمق في البحث في مدلول قوله: (في ظل صدقته) وتفويض ذلك إلى ما يعلمه المولى سبحانه، ويكفينا أن نقول: إن هذا أعظم موعظة، وأعظم مرغب في أن يكون الإنسان من المنفقين في سيبل الله.
٤. دخول جنات النعيم.
ومن فوائد الصدقة، وآثارها الحميدة أنها سبب في دخول الجنة، وأصل ذلك بيان الرب سبحانه أن الجنة هي دار المحسنين والمحسنات من عباده وإمائه، فقال تعالى: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ)[المرسلات: ٤٣-٤٤].
وقوله تعالى: (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ)[الأحزاب: ٢٩].
وقوله تعالى: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ)[الزمر: ٣٤].
وقوله تعالى: (ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ)[المائدة: ٨٥].
إلى غير ذلك من الآيات والإحسان هنا بمعناه العام، يدخل فيه الإحسان بالمال والجاه وغيره.
وقال تعالى: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ)[الرعد: ٢٢-٢٣].
فذكر الله تعالى هاهنا الذين صبروا على مشاق الطاعة وترك المخالفة، أو على ما تكرهه النفوس ويخالفه الهوى، فعلوا ذلك ابتغاء وجه ربهم، وطلبًا لرضاه، لا فخرًا ورياء، وأقاموا الصلاة المفروضة، بحيث حافظوا على شروطها وأركانها، وأنفقوا مما رزقناهم من الأموال فرضًا ونفلًا، سرًا وعلانيةً، ويدرءون بالحسنة السيئة، أي: يدفعون الخصلة السيئة بالخصلة الحسنة، فيجازون الإساءة بالإحسان.
ثم ذكر جزاءهم، فقال: (ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ) أي: عاقبة دار الدنيا، وما يؤل إليه أهلها، وهي: الجنة التي فسرها بقوله: (ﮍ ﮎ) أي: إقامة، (ﮏ) مخلدين فيها، والعدن: الإقامة، وقيل: هي بطنان الجنة: أي: مداخلها211.
ومما يدل على أن من آثار الصدقة دخول الجنة قوله تعالى: (ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ)[الحديد: ١٨].
فالأجر الكريم هنا: هو الجنة.
قال السعدي في تفسير: (ﯽ ﯾ ﯿ) «أي: الذين أكثروا من الصدقات الشرعية والنفقات المرضية (ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ) بأن قدموا من أموالهم في طرق الخيرات ما يكون مدخرًا لهم عند ربهم (ﰄ ﰅ) الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة (ﰆ ﰇ ﰈ) وهو ما أعده الله لهم في الجنة مما لا تعلمه النفوس»212.
ومن ذلك: قوله تعالى: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ)[الأنفال: ٣-٤].
فقوله: (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) أي: كرامات وعلو منزلة، أو درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم (ﮉ) لما فرط من ذنوبهم (ﮊ ﮋ) أعده لهم في الجنة لا ينقطع مدده، ولا ينتهي أمده، بمحض الفضل والكرم.
ومما يدل على أن الإنفاق في سبيل الله من أسباب دخول الجنة: قوله تعالى: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ)[آل عمران: ١٣٣-١٣٤].
فقد دلت هذه الآية على أن الأنفاق في سبيل الله وكظم الغيط والعفو عن الناس من صفات أهل الجنة، وكفى بذلك حثًا على ذلك.
ومن ذلك قوله: تعالى: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ)[التوبة: ٩٩].
ففي قوله: (ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ) يحتمل أن يكون المعنى: في جملة عباده الصالحين213، أو: في جنته214. ويحتمل الأمران معًا، كما عبر الطبري بقوله: «سيدخلهم الله فيمن رحمه، فأدخله برحمته الجنة»215. والمقصود أنه وعدٌ من الله لهم بإحاطة الرحمة بهم، أو سيدخلهم في جنته التي هي محل رحمته وكرامته، والسين لتحقيق وقوعه.
ومنه قوله تعالى: (ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ)[الصف: ١٠-١٢].
ففي هذه الآيات وصية ودلالة وإرشاد من أرحم الراحمين لعباده المؤمنين لأعظم تجارة، وأجل مطلوب، وأعلى مرغوب، يحصل بها النجاة من العذاب الأليم، والفوز بالنعيم المقيم، ومن هذه الأعمال الجليلة التي يكون بها المتاجرة مع الله تعالى: الإنفاق في سبيل الله، في الجهاد وغيره.
وبين الثمن بقوله: (ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ) والعدن في لغة العرب: الإقامة، فمعنى جنات عدن: جنات إقامة في النعيم، لا يرحلون عنها ولا يتحولون، وبين في آيات كثيرة أنهم مقيمون في الجنة على الدوام.
(ﯬ ﯭ ﯮ) أي: ما ذكر من المغفرة وإدخال الجنة الموصوفة بما ذكر من الأوصاف الجليلة هو الفوز الذي لا فوز بعده.
ومنه قوله تعالى: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ)[التوبة: ١١١].
ففي هذه الآية أخبر الله أنه اشترى من المؤمنين أنفسهم، والثمن الجنة، والمقابل بذل أنفسهم وأموالهم في سبيل الله.
ولا يتوقف أثر الصدقة على هذا فحسب، بل الأمر أعظم جدًا من ذلك؛ إذ يبادر خزنة كل باب من أبواب الجنة لدعوة المتصدق كل يريده أن يدخل من قبله، وللجنة باب يقال له: باب الصدقة، يدخل منه المتصدقون؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير -إلى أن قال- ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة)216، وقد أبان العيني أن المراد بالصدقة هنا النافلة؛ لأن الزكاة الواجبة لابد منها لجميع من وجبت عليه من المسلمين، ومن ترك شيئًا منها فيخاف عليه أن ينادى من أبواب جهنم217.
موضوعات ذات صلة: |
الإسراف، الاقتصاد، الزكاة، المال، المن |
1 عمدة الحفاظ، السمين الحلبي ٢٠٨، المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية ٢/ ٩٤٢، معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار عمر ٣/ ٢٢٦٠.
2 المعجم الوسيط ٢/٨٠٦.
3 التعريفات ١/٥٧.
4 المفردات ص ٨١٩.
5 انظر: المعجم المفهرس، محمد فؤاد عبد الباقي، ص ٧١٥، ٧١٦.
6 انظر: الوجوه والنظائر، الدامغاني ص ٤٣٥، ٤٣٦، بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي ٥/١٦٠.
7 النهاية في غريب الحديث والأثر ٢/ ٣٠٧، طلبة الطلبة، نجم الدين النسفي ص ١٦.
8 التعريفات ص ١١٤.
9 شمس العلوم، نشوان الحميري ٦/ ٣٧٠٧.
10 تاج العروس ٢٦/ ١٢، معجم لغة الفقهاء ص ٢٧٢.
11 المطلع على ألفاظ المقنع، شمس الدين البعلي ص ٢٩٥، المصباح المنير، الحموي ٢/ ٤٩٨.
12 مقاييس اللغة، ابن فارس ٥/ ٧١، المصباح المنير، الحموي ٢/ ٤٩٨.
13 مقاييس اللغة، ابن فارس ١/ ٥١، لسان العرب، ابن منظور ١٤/ ١٧.
14 دستور العلماء، الأحمد نكري ١/ ١٨.
15 الفروق اللغوية، أبو هلال العسكري ص ١٦٧.
16 المصدر السابق.
17 معجم لغة الفقهاء، قلعجي، قنيبي ص ١٠٤.
18 مشارق الأنوار على صحاح الآثار، أبو الفضل البستي ٢/ ٢٤٥.
19 انظر: مفاتيح الغيب ٧/ ٥٣، ٥٤.
20 أحكام القرآن للجصاص ٤/١٧٩.
21 إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٦/ ١٧٣.
22 انظر: تفسير العثيمين الفاتحة والبقرة ١/ ٣٢.
23 انظر: التحرير والتنوير ١/١٧١٢.
24 تفسير اللباب، ابن عادل ٨/١٠٨.
25 انظر: التحرير والتنوير ١/١٧١٥.
26 التحرير والتنوير ١/٨٢٣.
27 في ظلال القرآن ٨/٤٣.
28 تفسير النيسابوري ٧/١٢٦.
29 تفسير الفحشاء في هذه الآية بالبخل هو القول الأول الذي ذكره جمع من المفسرين، منهم: البغوي في المسمى بمعالم التنزيل ١/٣٦٣، والشوكاني في فتح القدير ١/٤٣٧، وابن الجوزي في زاد المسير ١/٣٢٣، والألوسي في روح المعاني ٣/٤٠، وغيرهم.
30 انظر: جامع لطائف التفسير ٩/١٢٥ بتصرف.
31 أخرجه أحمد ٢/٢٤٢، ٧٢٩٦، وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: «إسناده صحيح على شرط الشيخين».
32 أحكام القرآن ابن العربي ٦/٤٦٣.
33 التحرير والتنوير ١/٣٤٤٧.
34 الدر المنثور ٦/٧٠٦.
35 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٦/٥٢٣، ولباب التأويل، الخازن ٥/٢٢٧.
36 التحرير والتنوير ١/ ٣٤٤٨.
37 أخرجه مسلم في صلاة المسافرين، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه ٢/١٧٦، ١٨١١.
38 التفسير القيم، ابن القيم ١/٢٥٨.
39 تفسير الألوسي ج٢٠/ص٣١٧.
40 الوسيط لسيد طنطاوي ١/٤٠٨٨.
41 تفسير القرآن للعثيمين ١٥/ ٢١.
42 أخرجه الترمذي في أبواب السفر، باب ما ذكر في فضل الصلاة ٢/٥١٢، ٦١٤، وأحمد ٢٣/٤٢٥، ١٥٢٨٤، وصححه الألباني في التعليق الرغيب ٣ /١٥ و١٥٠.
43 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ١/٦٦٣.
44 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/١٤٦.
45 القاموس المحيط ١/٦٧٣.
46 جامع البيان، الطبري ١٤/٢٢٥.
47 تفسير روح البيان ٣/٣١٨.
48 الكشاف ٢/٤١٨.
49 جامع البيان، الطبري ١٤/٢١٧.
50 أخرجه أحمد ٢٩/٢٩٨، ١٧٧٦٣، وصححه الألباني في تخريج مشكلة الفقر ١/٢٢، ١٩.
51 انظر: تفسير روح البيان ٨/٣٢٩، وروح المعاني ٣/٩١، وغرائب القرآن ورغائب الفرقان ١/١٩٨، وفتح القدير ٥/٥٧٨، ومفردات ألفاظ القرآن ٢/٤٦٧، وزهرة التفاسير، محمد أبو زهرة ١/٣٢٩٤.
52 التحرير والتنوير ١/١٨٤٢.
53 التحرير والتنوير ١/١٨٤٢.
54 تفسير روح البيان ٣/٣١٨.
55 أخرجه البخاري في المظالم، باب إثم من ظلم شيئًا من الأرض ٢٣٢١، ومسلم في المساقاة، باب تحريم الظلم ٤٢٢٢.
56 التحرير والتنوير ١/٨٦٦.
57 أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير ٥/٢٧٦.
58 الكشف والبيان للثعلبي ٣/٤١٢.
59 انظر: التعريفات للجرجاني ١/١٥٢، والتوقيف على مهمات التعاريف للمناوي ١/٣٨٧.
60 مفاتيح الغيب، الرازي ٨/ ٧٧.
61 مفاتيح الغيب، الرازي ٨/١٣٦.
62 فتح القدير ٢/٥٨٠.
63 تفسير الألوسي ٧/٣٦٨.
64 تفسير النيسابوري ٤/١٧٠.
65 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ١/ ٣٤١.
66 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٤/ ١٦٥.
67 التحرير والتنوير ١/ ١٨٦٩.
68 اللباب في علوم الكتاب ١٥/ ٤٧١.
69 التحرير والتنوير ١/ ٤٥٦٢.
70 إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٤/ ٦٧.
71 فتح القدير ٢/ ٥٢٧.
72 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ١/ ٦٣٤.
73 أخرجه مسلم في الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم ٤/٣٩، ٣٠٠٩.
74 أخرجه البخاري في كتاب النفقات، باب إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه ما يكفيها وولدها بالمعروف ٩/٥٠٧، ومسلم في كتاب الأقضية، باب قضية هند ١٢/٧.
75 بداية المجتهد ونهاية المقتصد ٢/٤٤.
76 تفسير القرآن للعثيمين ٥/١١٧، تيسير الكريم الرحمن، السعدي ١/١٠٤.
77 أخرجه البخاري في كتاب النفقات، باب إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه ما يكفيها وولدها بالمعروف ٩/٥٠٧، ومسلم في كتاب الأقضية، باب قضية هند ١٢/٧.
78 انظر: اللباب في علوم الكتاب ١٥/٣٣٧.
79 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١١/٢٥٣.
80 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٢/٢٩٢.
81 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٥/ ١٦٩.
82 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١١/٢٥٣.
83 المغني، ابن قدامة ٨/ ٢١٢.
84 أخرجه ابن ماجه في التجارات، باب ما للرجل من مال ولده ٢/٧٦٩، ٢٢٩٢، وصححه الألباني في الإرواء ٨٣٨.
85 انظر: مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ١/٤٩٦، وحاشية ابن عابدين ٣/٦١٢، ٦/٧٥١، وتبيين الحقائق للزيلعي ٣/٦٢، ٦٤، والمبسوط للسرخسي ٥/٢٢٢، وفتح القدير، ابن الهمام ٤/٢١٧، ٢٢٠، والقوانين الفقهية، ابن جزي ص١٤٨، ومغني المحتاج ٣/٤٤٨، ٤٥١، والمجموع شرح المهذب ١٧/١٧٢، ١٧٨، ١٨٠، والمغني، ابن قدامة ٧/٥٨٢، ٥٨٤، ٦٢٧، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد ٩/٣٩٢، ٣٩٦.
86 انظر: مجمع الأنهار في شرح ملتقى الأبحر ١/٤٩٦، وبدائع الصنائع ٤/٣٢، والمغني، ابن قدامة ٧/٥٨٣.
87 انظر: مغني المحتاج ٣/٤٤٧.
88 انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ٣٤/١٠٥.
89 أخرجه البخاري في النفقات، باب إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه ما يكفيها وولدها بالمعروف ٩/٥٠٧، ومسلم في الأقضية، باب قضية هند ١٢/٧.
90 أخرجه أبو داود في الزكاة، باب في صلة الرحم ٥/١١٠، والنسائي في الزكاة، باب أي الصدقة أفضل ٥/٧٠، وأحمد ٢/٢٥١، والحاكم في الزكاة، باب الإعطاء للأقرباء أعظم الأجر ١/٤١٥، وصححه الألباني في المشكاة ١٩٤٠.
91 انظر: بدائع الصنائع ٤/٣١.
92 انظر: المجموع شرح المهذب ١٧/١٧٢.
93 انظر: المغني، ابن قدامة ٧/٥٨٣.
94 انظر: مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ١/٤٨٤، وحاشية ابن عابدين ٣/٥٧٢، وتبيين الحقائق للزيلعي ٣/٥٠، والمبسوط للسرخسي ٥/١٨٠، وفتح القدير، ابن الهمام ٤/١٩٣، ومغني المحتاج ٣/٤٢٥، وحاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب ٢/٣٤٥، والمغني، ابن قدامة ٧/٥٨٤، وكشاف القناع عن متن الإقناع ٥/٤٦٠، وبلغة السالك لأقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك ١/٥٢٥.
95 الرحم المحرم: هو من لا يحل مناكحته على التأييد، مثل الأخوة والأخوات وأولادهما. مجمع الأنهر ١/٥٠٠.
96 انظر: بدائع الصنائع ٤/١٦، ٣١.
97 أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب في بر الوالدين ٤/٣٣٦، ٤٥، وحسنه الألباني في تخريج مشكلة الفقر ص ٣٢.
98 انظر: المبسوط ٥/١٩٩، وبلغة السالك ١/٥٢٥، وحاشية الدسوقي ٢/٥٢٢، وحاشية العدوي ٢/١٢٤، ومغني المحتاج ٣/٤٦٠، ونهاية المحتاج ٧/٢٣٦، وقليوبي وعميرة ٤/٩٢.
99 انظر: مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ١/٤٨٤، وحاشية ابن عابدين ٣/٥٧٢، وتبيين الحقائق للزيلعي ٣/٥٠، والمبسوط للسرخسي ٥/١٨٠، وفتح القدير لابن الهمام ٤/١٩٣، ومغني المحتاج ٣/٤٢٥، والمغني لابن قدامة ٧/٥٨٤، وبلغة السالك لأقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك ١/٥٢٥.
100 انظر: بدائع الصنائع ٤/٣٩، والمغني لابن قدامة ٧/٥٨٥.
101 انظر: بدائع الصنائع ٤/٣٩.
102 أخرجه البخاري في الإيمان، باب المعاصي من أمر الجاهلية ١/٨٤، ومسلم في الإيمان، باب صحبة المماليك ١١/١٣٣، ١٣٤.
103 أخرجه البخاري في الزكاة، باب فضل صدقة الشحيح الصحيح ٢/١١٠، ١٤١٩، ومسلم في الزكاة، باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح رقم ١٠٣٢.
104 أخرجه البخاري في الجهاد والسير، باب من أخذ بالركاب ونحوه ٣/١٠٩٠، ٢٨٢٧، ومسلم في الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، رقم ١٠٠٩.
105 أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب، باب استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء ٨/ ٣٧، ٦٨٥٧.
106 أخرجه البخاري في المساقاة، باب فضل سقي الماء ٢/٨٣٣، ٢٢٣٤، ومسلم في السلام، باب فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها، رقم ٢٢٤٤.
107 انظر: تفسير الألوسي ٢٠/ ٤٨٩.
108 فتح القدير ٥/٣١١.
109 أخرجه مسلم في الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب وغيره، وخلافته في أهله بخير ٣/ ١٥٠٧، ١٨٩٥.
110 الوسيط لسيد طنطاوي ١/ ٤١٩١.
111 أخرجه مسلم في الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان ١/ ٦٩، ٥٠.
112 أخرجه أحمد ١٧/ ٢٢٧، ١١١٤٣، وصححه الألباني في الصحيحة: ٤٩١.
113 أخرجه البخاري في الجهاد، باب الجهاد بإذن الأبوين ٤/ ٥٩، ٣٠٠٤، ومسلم في البر والصلة، باب بر الوالدين ٢٥٤٩.
114 أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل ٣/١٢٧٢، ٣٢٦٦.
115 أخرجه مسلم في الزهد والرقائق، باب حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر ٨/٢٣١، ٧٧٠٤.
116 أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ٥/٣٥٣، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم ٦٠٨٠.
117 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٤/٥٣.
118 انظر: التحرير والتنوير ١/١٧٥٧.
119 فتح الباري ٣/١٧٢.
120 تفسير القرآن للعثيمين ٥/ ٢٤٦.
121 انظر: النظام الاقتصادي في الإسلام لتقي الدين النبهاني ص ٢٠٨.
122 انظر: تفسير القرآن للعثيمين ٤/ ٣١٣.
123 التحرير والتنوير ١/ ٥٤٥.
124 معالم التفسير، البغوي ١/ ٢١٥.
125 أخرجه البخاري في الجهاد والسير، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ٣/١٠٣٤، ٢٦٥٥، ومسلم في الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا رقم ١٩٠٤.
126 طريق الهجرتين ١/٥٤٦.
127 جامع البيان، الطبري ٥/٥٣٠.
128 البحر المديد ٦/ ٤٦٩.
129 التحرير والتنوير ١/ ٤٦٥٦.
130 تفسير ابن عرفة ١/ ٣٤٢.
131 التفسير القيم، ابن القيم ١/٢٦١.
132 التفسير القيم، ابن القيم ١/٢٦٠.
133 انظر: في ظلال القرآن ١/٢٨٦ بتصرف يسير.
134 تفسير السراج المنير ١/٣٩١.
135 أخرجه مسلم في الإيمان، باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار والمن بالعطية وتنفيق السلعة بالحلف ١/٧١، ٣٠٦.
136 الوسيط لسيد طنطاوي ١/٤٩١.
137 التفسير القيم، ابن القيم ١/٢٦٠.
138 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ١/١١٣.
139 الجامع لأحكام القرآن ٣/٣٣٢.
140 انظر: الدر المنثور في التفسير بالمأثور ٢/٧٧.
141 أحكام القرآن ١/٣١٥.
142 التفسير القيم للإمام ابن القيم ص١٧٠.
143 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي ١/١٣٨.
144 البرنس: كل ثوب رأسه منه ملْتزق به، دراعةً كان أو ممطرًا أو جبة. انظر: العين ٧/ ٣٤٣.
145 القر: البرد، يقال: يوم مقرور بارد، ورجل مقرور أصابه البرد. انظر: المعجم الوسيط ٢/ ٧٢٥.
146 تفسير البحر المحيط ٣/٣١٩.
147 المحرر الوجيز ١/٤٦١.
148 فتح القدير ١/٤٣٦.
149 التفسير القيم، ابن القيم ١/٢٧١.
150 التفسير القيم، ابن القيم ١/٢٧١.
151 أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب لا يقبل الله صدقة من غلول ولا يقبل إلا من كسب طيب ٢/٥١١، ١٣٤٤، ومسلم في الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها ٣/٨٥، ٢٣٩٠، واللفظ للبخاري.
152 مفاتيح الغيب، الرازي ٤/٢.
153 الوسيط لسيد طنطاوي ١/٤٩٧.
154 في ظلال القرآن ١/٢٩٢.
155 التفسير القيم، ابن القيم ١/٢٧١.
156 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ١/١١٤.
157 تفسير القرآن للعثيمين ٥/٢٥٨.
158 تفسير ابن عبد السلام ٦/٣٩٩.
159 نظم الدرر للبقاعي ٨/٣٦٢.
160 التفسير القيم، ابن القيم ١/٢٥٨.
161 لباب التأويل، الخازن ٦/٥١.
162 أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب أجر الخادم إذا تصدق بأمر صاحبه غير مفسد ٢/٥٢١، ١٣٧١، ومسلم في الزكاة، باب أجر الخازن الأمين والمرأة إذا تصدقت من بيت زوجها غير مفسدة بإذنه الصريح أو العرفي ٣/٩٠، ٢٤١٠.
163 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/٤٠٦.
164 أخرجه البخاري في كتاب اللباس ٥/٢١٨٠.
165 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ١/٢٨٧.
166 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ١/٢٨٧.
167 التحرير والتنوير ١/١٤٤٣.
168 أخرجه مسلم في الأقضية، باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة ٥/١٣٠، ٤٥٧٨.
169 مفاتيح الغيب، الرازي ٨/٦٥.
170 أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء ١/١٤٠، ٥٥٦.
171 أخرجه البخاري في بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ١/٤، ٣، ومسلم في الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ١/٩٧، ٤٢٢.
172 بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ٤/٥٨.
173 إحياء علوم الدين ١/٤١٦.
174 مفاتيح الغيب، الرازي ٨/٦٥.
175 أخرجه البخاري في الزكاة، باب فضل صدقة الشحيح الصحيح ٢/١١٠، ١٤١٩، ومسلم في الزكاة، باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح رقم ١٠٣٢.
176 أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم ٨/٢٠، ٦٧٥١.
177 أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب تعاون المؤمنين بعضهم بعضًا ٥/٢٢٤٢، ٥٦٨٠، ومسلم في البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم ٨/٢٠، ٦٧٥٠.
178 أخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر ٨/٧١، ٧٠٢٨.
179 أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب التحريض على الصدقة والشفاعة فيها ٢/٥٢٠، ١٣٦٥.
180 فتح الباري ١٠/٤٥١.
181 التحرير والتنوير ١/٣٤٤٧.
182 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ١/٦٨١.
183 أخرجه أحمد ٢/٢٤٢، ٧٢٩٦، وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: «إسناده صحيح على شرط الشيخين».
184 أخرجه البيهقي في شعب الإيمان ٣/٢٣٣، ٣٤١٣، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم ٥٦٤٦.
185 أخرجه البخاري في الزكاة، باب قول الله تعالى: (فأما من أعطى واتقى)، ٢/١١٥، ١٤٤٢، ومسلم في كتاب الكسوف، باب في المنفق والممسك ٢/٧٠٠، ١٠١٠.
186 أخرجه مسلم في الزهد والرقائق، باب الصدقة في المساكين ٨/٢٢٢، ٧٦٦٤.
187 أخرجه مسلم في الزهد والرقائق، باب الصدقة في المساكين ٨/٢٢٣، ٧٦٦٥.
188 أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب، باب استحباب العفو والتواضع ٨/٢١، ٦٧٥٧.
189 أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب التحريض على الصدقة والشفاعة فيها ٢/ ٥٢٠، ١٣٦٦.
190 أخرجه مالك في الموطأ ٥/ ١٤٥١، ٣٦٥٥، والبيهقي في شعب الإيمان ٥/ ١٤٢، ٣٢٠٧.
191 مسند الشهاب القضاعي ١/ ٢٣٣.
192 طريق الهجرتين وباب السعادتين ص ٣٧٥.
193 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٦/٤٦٢.
194 أخرجه البخاري في الزكاة، باب قوله تعالى: (فأما من أعطى واتقى)، ٢/١١٥، ١٤٤٢، ومسلم في الكسوف، باب في المنفق والممسك ٢/٧٠٠، ١٠١٠.
195 أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب من بسط له في الرزق بصلة الرحم ٨/ ٥، ٢٥٥٧، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها ٤/ ١٩٨٢، ٥٩٨٦.
196 التحرير والتنوير ١/٥٤٦.
197 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ١/٩٠.
198 أخرجه البخاري في المغازي، باب أحد يحبنا ونحبه ٥/١٠٣، ٤٠٨٣، ومسلم في الحج، باب فضل المدينة ٢/٩٩٣، ١٣٦٥.
199 أخرجه الترمذي في أبواب الزكاة، باب ما جاء في فضل الصدقة ٣/ ٤٣، ٦٦٤.
200 أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل ٤/ ١٧١، ٣٤٦٤.
201 أخرجه الطبراني في الأوسط ٦/١٣٩، ٦٠٢٦، وحسنه الألباني في صحيح الجامع رقم ١٧٦.
202 أخرجه أبو داود في الأدب، باب في الرحمة ٤/٤٤٠، ٤٩٤٣، والترمذي في كتاب البر والصلة، باب ما جاء في رحمة المسلمين ٤/٣٢٣، ١٩٢٤، وأحمد ١١/٣٣، ٦٤٩٤، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم ٣٥٢٢.
203 أخرجه مسلم في الفضائل، باب رحمته صلى الله عليه وسلم الصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك ٤/ ١٨٠٩، ٢٣١٩.
204 أخرجه أحمد ٣٤/ ٢٣١، ٢٠٦٣٠، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح ٣/ ١٧١٣، ٦٠٧٣.
205 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ١/٣٥٠.
206 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ١/٧٠٠
207 أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب الصدقة تكفر الخطيئة ٢/٥٢٠، ١٣٦٨.
208 أخرجه أحمد ٤/١٤٧، وابن حبان ٣٣١٠، والحاكم ١/٤١٦، وصححه الألباني في التعليق الرغيب ٢/ ٢٥.
209 أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب الصدقة باليمين ١٤٢٣، ومسلم في الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة ١٠٣١.
210 فيض القدير ٢/ ٤٥٩.
211 البحر المديد ٣/١٦٣.
212 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ١/٨٤٠.
213 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ١/٣٤٩.
214 معالم التفسير، البغوي ٤/٨٧.
215 جامع البيان، الطبري ج١٤/ص٤٣٤.
216 أخرجه البخاري في الصوم، باب الريان للصائمين ٢/٦٧١، ١٧٩٨، ومسلم في الزكاة، باب من جمع الصدقة وأعمال البر ٣/٩١، ٢٤١٨.
217 عمدة القاري شرح صحيح البخاري ج١٦/ص٢٥٠.