عناصر الموضوع

مفهوم الإصلاح

الإصلاح في الاستعمال القرآني

الألفاظ ذات الصلة

مجالات الإصلاح ومظاهره

مواقف الناس من الإصلاح

الأسلوب القرآن في الدعوة إلى الإصلاح

أثر الإصلاح في الفرد والمجتمع

الإصلاح

مفهوم الإصلاح

أولًا: المعنى اللغوي:

الإصلاح لغة مأخوذ من الفعل (صلحفالصاد واللام والحاء أصل واحد يدل على خلاف الفساد، وصلح كصلح لغتان؛ فالصلاح والصُلُوح بمعنى واحد، يقال: صَلَحَ يَصْلَحُ ويَصْلُحُ صلاحًا وصُلُوحًا فهو صالحٌ وصليحٌ، والجمع صُلَحاءُ وصُلُوحٌ1.

والصلاح: الحصول على الحالة المستقيمة النافعة، والإصلاح جعل الشئ على تلك الحالة، فالإصلاح نقيض الإفساد، وهو يدل على إزالة الفساد، والاستصلاح ضد الاستفساد، وأصلحه ضد أفسده، وقد أصلح الشيء بعد فساده: أقامه، ومصلح اسم فاعل من أصلح، يقال: رجل صالح في نفسه، ومصلح في أعماله2.

ويغلب استخدام (الإصلاح) في إصلاح ذات البين؛ يقال: أصلح بينهما أو ذات بينهما: أي: أزال ما بينهما من عداوة وشقاء، وإصلاح ذات البين يكون برأب ما تصدع منها، وإزالة الفساد الذي دب إليها بسبب الخصام والتنازع على أمر من أمور الدنيا3.

ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:

يخضع تعريف الإصلاح اصطلاحًا لنوع الإصلاح المراد؛ فتعريف الإصلاح بأنه ضد الإفساد يختلف عن تعريف الإصلاح بين المتخاصمين، وعن تعريف الإصلاح بمعنى البناء والتقويم، وكذلك يختلف عن تعريف إصلاح دين الناس ومعاشهم، ولذلك ذكر لمصطلح (الإصلاح) تعريفات عديدة، ولا يعنينا هنا جمع تلك التعريفات؛ ويكفي الإشارة إلى بعضها:

فالإصلاح هو: «هو إزالة الخلل والفساد الطارئ على الشيء»4.

والإصلاح هو: «إرجاع الشيء إلى حالة اعتداله بإزالة ما طرأ عليه من الفساد»5.

وكل هذه التعريفات تدور حول معنى إزالة الفساد الذي يطرأ على الشيء، وإعادته إلى ما كان عليه من الصلاح والاعتدال والنفع.

الإصلاح في الاستعمال القرآني

وردت مادة (ص ل ح) في القرآن (١٨٠) مرة، يخص موضوع البحث منها (٤٢) مرة6.

والصيغ التي وردت هي:

الصيغة

عدد المرات

المثال

الفعل الماضي

١٤

( ) [البقرة:١٨٢]

الفعل المضارع

٨

( ﯶ ﯭ ﯿ) [البقرة:٢٢٤]

فعل الأمر

٦

( ) [الأعراف:١٤٢]

المصدر

٩

( ) [البقرة:٢٢٠]

اسم الفاعل

٥

( ) [البقرة:٢٢٠]

وجاء الإصلاح في الاستعمال القرآني بمعنى: إقامة الشيء وتغيير ما به من اعوجاج، والإحسان فيه7.

الألفاظ ذات الصلة

الصلح:

الصلح لغة:

الصلح بالضم هو السلم -بكسر السين وفتحها- من تصالح القوم بينهما، والصلح أيضًا: اسم جماعةٍ متصالحين، يقال: هم لنا صلحٌ، أي: مصالحون8.

الصلح اصطلاحًا:

عبارة عن عقد وضع لرفع المنازعة بالتراضي9.

الصلة بين الصلح والإصلاح:

الصلح يختص بإزالة النفار بين الناس، يقال منه: اصطلحوا وتصالحوا؛ وعلى هذا فإن الصلح إحدى ثمرات الإصلاح بين الناس، وكذلك فإن الإصلاح أعم وأشمل من الصلح.

الصلاح:

الصلاح لغة:

مأخوذ من الفعل (صلحوالصلاح ضد الفساد10.

الصلاح اصطلاحًا:

الصلاح: استقامة الحال وانعدالها، وهو مما يفعله العبد لنفسه11. وهو معنى عام يشمل استواء الخلق والاستقامة على ما توجبه الشريعة، وحصول على الحالة المستقيمة النافعة.

الصلة بين الصلاح والإصلاح:

الصلاح يخص الفرد في ذاته، أما الإصلاح فمتعدِ، يصلح العبد نفسه، ثم يسعى في إصلاح غيره، فقد يكون الرجل صالحًا في نفسه فقط، وقد يكون صالحًا في نفسه ومصلحًا لغيره، ولا شك أن الأخير أعظم.

الفساد:

الإفساد لغة:

هو ضد الإصلاح12.

الإفساد اصطلاحًا:

هو جعل الشيء فاسدًا خارجًا عما ينبغي أن يكون عليه وعن كونه منتفعًا به. وفي الحقيقة هو إخراج الشيء عن حالة محمودة لا لغرض صحيح13.

الصلة بين الإفساد والإصلاح:

إن الإفساد ضد الإصلاح، وإن الفساد هو موضع الإصلاح، ومحوره الذي يتوجه إليه المصلحون؛ لإصلاح الأرض ومن عليها؛ حتى ينعم الإنسان بخيراتها، ويحقق وظيفته في الاستخلاف في الأرض، والوصول إلى الكمال الإنساني المقدر له؛ فالمصلح هو الذي يسعى لإزالة الفساد، ويحارب الإفساد وأهله.

مجالات الإصلاح ومظاهره

تتعدد مجالات الإصلاح كما عرضها القرآن، وسوف نتناولها بالبيان فيما يأتي:

أولًا: الإصلاح في العقيدة:

معالم الإصلاح في العقيدة تظهر من خلال عدد من الأمور:

أولًا: إن العقيدة هي ما يجزم به الإنسان، ويعتقده ويتيقنه في قرارة نفسه يسمى عقيدة، فإن كان هذا الاعتقاد موافقًا للحق، مطابقًا للواقع فهي عقيدة صحيحة، وإن كان مخالفًا للواقع فهي عقيدة فاسدة، والعقيدة هي أساس بناء المجتمعات، فإن كانت عقيدة أفراد المجتمع سليمةً صار مجتمعًا قويًا متماسكًا، وإن كانت عقيدة أفراده منحرفةً صار مجتمعًا متفككًا منهارًا.

ثانيًا: العقيدة السليمة الصحيحة تعصم الدم والمال، والعقيدة الفاسدة تهدر الدم والمال.

قال الله تعالى: ( ) [الزمر: ٦٥].

وقال سبحانه : ( ﯖ ﯗ) [الأنعام: ٨٨].

وقال عليه الصلاة والسلام: (من بدل دينه فاقتلوه)14 .

وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه، المفارق للجماعة)15.

فلا يحل دمه ولا ماله ما دام اعتقاده صحيحًا إلا إذا ارتكب واحدة من ثلاث: الزاني بعد الإحصان، والقاتل عمدًا، والمرتد الذي فارق دينه.

ثالثًا: إذا كانت العقيدة صحيحة صحت الأعمال كلها بشروطها، وجميع العبادات صحيحة؛ صحت الصلاة، والزكاة، وصح الصوم، والحج، وإذا فسدت العقيدة فسدت جميع الأعمال، وجميع العبادات؛ إذا دعا الإنسان غير الله، أو ذبح لغير الله، أو نذر لغير الله، أو طاف بغير بيت الله؛ تقربًا لذلك الغير، أو فعل ناقضًا من نواقض الإسلام، أو اعتقد عدم وجوب الصلاة، أو عدم وجوب الزكاة، أو عدم وجوب الحج، أو اعتقد حل الزنا، أو حل الخمر، أو حل الربا، أو حل عقوق الوالدين فسدت العقيدة، وبطلت الأعمال كلها، فلا تصح الصلاة ولا الزكاة ولا الصوم ولا الحج، فكلها تكون باطلة، كما قال سبحانه : ( ) [الفرقان: ٢٣].

رابعًا: الشعائر التي يفرضها الله على الخلق إنما يريد بها إصلاح قلوبهم ومشاعرهم؛ لإصلاح حياتهم وواقعهم، فالله الواحد القهار في غنى عن العالمين؛ فهو سبحانه لا يريد منهم إلا التقوى والصلاح والعمل والعمارة -وفق منهجه- فيعد لهم هذا كله عبادة.

قال تعالى: ( ﮪﮫ ) [فاطر: ١٥].

خامسًا: العقيدة الصحيحة هي الأساس الذي يقوم عليه الدين، كما قال تعالى: ( ) [الكهف: ١١٠].

وقال تعالى: ( ﭿ ) [الزمر: ٢-٣].

وقال بعدها بآيات: ( ) [الزمر: ٦٥].

فأرسل رسله دعاة إلى التوحيد وإخلاص الدين ( ) [الأنبياء: ٢٥].

سادسًا: بين الله سبحانه مقومات الأمن، وأسبابه التي يتحقق بتوفرها، ويزول بزوالها، وأولها: إصلاح العقيدة؛ بإخلاص العبادة لله، وترك عبادة ما سواه، والبراءة منها، ومن أهلها، وملازمة العمل الصالح.

قال تعالى: ( ﭿ ﮅﮆ ﮋﮌ ) [النور: ٥٥].

فربط سبحانه حصول هذه المطالب العالية: الاستخلاف في الأرض، والتمكين من الدين، وإبدال الخوف بالأمن بتحقق شيئين، وهما: عبادة الله سبحانه، وترك الإشراك به.

سابعًا: اتجهت جهود الأنبياء والمصلحين إلى إصلاح عقائد المجتمعات قبل كل شيء، كل نبي أرسله الله يدعو قومه إلى إصلاح العقيدة، فأول ما يخاطب قومه: ( ) [الأعراف: ٥٩، ٦٥، ٧٣، ٨٥، هود: ٥٠، ٦١، ٨٤، المؤمنون: ٢٣، ٣٢].

وكما أخبر الله عن نوح، وهود، وصالح، وشعيب، وغيرهم، ( ) [النحل: ٣٦].

ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم مكث في مكة ثلاثة عشر عامًا يدعو الناس إلى إصلاح العقيدة، ويقول لقومه: (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا)16.

ثم لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وثبتت العقيدة نزلت بقية التشريعات.

جاء ذلك صريحًا في حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: «إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل؛ فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا، لقد نزل بمكة على محمد، وإني لجارية ألعب: ( ) [القمر: ٤٦].

وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده»17.

وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا)18.

ثانيًا: الإصلاح في الأخلاق:

إن الإسلام يدعو إلى إصلاح النفس، والتخلص من أمراضها، وهذا يحتاج إلى جهد يبذل، كما يحتاج إلى صبر على مشقات الطريق، أما اتباع الهوى، وما تميله النفس الأمارة بالسوء فإنه سهل ميسور، فالأول مثله مثل: من يصعد بصخرة إلى أعلى الجبل، ومثل الثاني: كمن يهوي من أعلى الجبل إلى أسفله؛ ولذلك كانت الاستجابة للشيطان كثيرة، ووجد دعاة الحق صعوبة في الدعوة إلى الله تعالى .

وأهل الإسلام في باب إصلاح النفس مخالفون للأمم الذين لم يعتنوا بإصلاح الأخلاق؛ وللذين غلوا فابتدعوا طرقًا في إصلاح النفس والأخلاق.

وكلمة (الأخلاق) هذه كلمة عامة، والمقصود منها الصورة الباطنة؛ لأن الخلق هو الإيجاد، من خلق يخلق خلقًا، وهذا المخلوق له صورتان، صورةٌ ظاهرة وهي الخلق، خلقه خلقته، وصورة باطنة وهي خلقه.

المسألة الأولى: تعظيم الشارع الحكيم حسن الخلق في صورٍ وأساليب كثيرة.

أولًا: قال الله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( ) [القلم: ٤].

وصح حديث عائشة رضي الله عنها عن خلق المصطفى عليه الصلاة والسلام قالت: (كان خلقه القرآن)19.

وقال سعد بن هشام رحمه الله قلت: «يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى. قالت: فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن. قال: فهممت أن أقوم ولا أسأل أحدًا عن شيء حتى أموت»20.

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق)21.

ثانيًا: قال الله عز وجل في حقه صلى الله عليه وسلم: ( ﭞﭟ ﭧﭨ ﭯﭰ ﭵﭶ ) [آل عمران: ١٥٩].

ثالثًا: وإن تصدير الآية الكريمة بالنداء ( ) [البقرة: ٢٨٢].

يشير إلى أمرين:

أحدهما: أنه ليس من مقتضى الإيمان أن تلزموا المساجد والصوامع، بل إن الإيمان أن تهذبوا نفوسكم، وترهفوا وجدانكم وتشعروا بمراقبة ربكم؛ لتكون دنياكم فاضلة، ويكون تعاملكم، وإدارة المال بينكم على نهج ديني فاضل، فالمال ليس طلبه ممنوعًا، بل إنه من طريقه الحلال مشروع ومطلوب.

الأمر الثاني: أن الإسلام ليست أوامره مقصورة على العبادات، بل جاء لتنظيم المعاملات، بل إن العبادات فيه طريق لإصلاح التعامل الإنساني وكذلك كل الأديان السماوية، فإنه من الجهل الادعاء بأن الأديان جاءت لتنظيم العلاقة بين العبد والرب فقط، ولا تتدخل في العلاقة بين الإنسان والإنسان22.

رابعًا: وقال تعالى: ( ) [يونس: ٥٧].

جمعت هذه الآية «بين خطاب جميع العالم، وبين توبيخ عرب الجاهلية على التحليل والتحريم بسبب الأهواء والمزاعم، أما الخطاب العام لجميع البشر فمضمونه: يا أيها الناس، قد جاءكم كتاب جامع لكل المواعظ التي يراد بها إصلاح الأخلاق والأعمال، والزجر عن الفواحش، وشفاء الصدور من الشكوك وسوء الاعتقاد، والهداية إلى الحق واليقين والطريق القويم المؤدي إلى سعادة الدنيا والآخرة.

وسمي القرآن الكريم موعظة لأن الوعظ إنما هو بقول يأمر بالمعروف، ويزجر، ويرقق النفوس، ويوعد ويعد، وهذه صفة الكتاب العزيز، وهي موعظة من ربكم لم يختلقها محمد صلى الله عليه وسلم ولا غيره، بل هي من عند الله عز وجل»23.

«وإن من الأعمال العريقة في الخير إنشاء المعاهد لتحفيظ القرآن وتعليم العلم، فإذا اتجه الخيرون إلى إنشاء هذه المعاهد فإن ذلك يكون دليلًا على الأخذ بأسباب الإصلاح المثمرة.

وأحب أن أقول للعاملين على الإصلاح: إن من وسائل الإصلاح الأخلاقي الحاسمة أن ينتشر الوعي الديني في استفاضة، ولن يتأتى ذلك إلا إذا أكثرنا من المعاهد الدينية»24.

المسألة الثانية: الواجب تجاه إصلاح الأخلاق.

«وقد اتفق الحكماء الذين أكرمهم الله تعالى بوظيفة الأخذ بيد الأمم في بحثهم عن المهلكات والمنجيات على أن فساد الأخلاق يخرج الأمم عن أن تكون قابلة للخطاب، وأن معاناة إصلاح الأخلاق من أصعب الأمور وأحوجها إلى الحكمة البالغة، والعزم القوي، وذكروا أن فساد الأخلاق يعم المستبد وأعوانه وعماله، ثم يدخل بالعدوى إلى كل البيوت، ولاسيما بيوت الطبقات العليا التي تتمثل بها السفلى، وهكذا يغشو الفساد، وتمسي الأمة يبكيها المحب، ويشمت بها العدو، وتبيت وداؤها عياء يتعاصى على الدواء.

وقد سلك الأنبياء عليه السلام في إنقاذ الأمم من فساد الأخلاق مسلك الابتداء أولًا بفك العقول من تعظيم غير الله، والإذعان لسواه؛ وذلك بتقوية حسن الإيمان المفطور عليه وجدان كل إنسان، ثم جهدوا في تنوير العقول بمبادئ الحكمة، وتعريف الإنسان كيف يملك إرادته؛ أي حريته في أفكاره، واختياره في أعماله، وبذلك هدموا حصون الاستبداد، وسدوا منابع الفساد.

ثم بعد إطلاق زمام العقول صاروا ينظرون إلى الإنسان بأنه مكلف بقانون الإنسانية، ومطالب بحسن الأخلاق، فيعلمونه ذلك بأساليب التعليم المقنع وبث التربية التهذيبية.

والحكماء السياسيون الأقدمون اتبعوا الأنبياء عليه السلام في سلوك هذا الطريق وهذا الترتيب؛ أي بالابتداء من نقطة دينية فطرية تؤدي إلى تحرير الضمائر، ثم باتباع طريق التربية والتهذيب بدون فتورٍ ولا انقطاع»25.

ثانيًا: الإصلاح بين الناس:

قال ابن حجر رحمه الله : «والصلح أقسام: صلح المسلم مع الكافر، والصلح بين الفئة الباغية والعادلة، والصلح بين المتغاضبين كالزوجين، والصلح في الجراح كالعفو على مال، والصلح لقطع الخصومة إذا وقعت المزاحمة في الأملاك»26.

وقال ابن قدامة: «والصلح يتنوع أنواعًا: صلح بين المسلمين وأهل الحرب، وصلح بين أهل العدل وأهل البغي، وصلح بين الزوجين إذا خيف الشقاق بينهما»27.

وهذا الإصلاح قد يكون فرديًا وجماعيًا:

فالفردي مثلًا: كالإصلاح بين اثنين (صديقين أو زوجين أو أخوين أو أختين) ونحو ذلك.

ومن الإصلاح الجماعي مثلًا: الإصلاح بين قبيلتين أو حزبين أو جماعتين، وقد يكون بين شعبين أو دولتين.

وقد يجمع بينهما مثل: الإصلاح بين الإمام والمأمومين، والإصلاح بين الراعي والرعية، فيكون أحد الطرفين فرديًا والآخر جماعيًا.

وسيتم هنا تناول مجموعة من أنواع الإصلاح:

النوع الأول: الإصلاح بين الزوجين.

قال تعالى: ( ﭡﭢ ﭨﭩ ) [النساء: ١].

وقال تعالى: ( ﮖﮗ ) [الروم: ٢١].

إن السعادة الأسرية والاستقرار العائلي مطلب ضروري من ضروريات هذه الحياة، وهو سنة الله سبحانه وتعالى في الأرض، فالهدف من الأسرة هو السكن والمودة والرحمة بكل ما تحمله هذه الكلمات من معاني.

ولقد كثر وقوع المنازعات والخلافات الأسرية والعائلية التي تؤدي إلى الفرقة والشقاق خصوصًا في هذا الوقت الذي بعد فيه الناس عن شرع الله وأوامره، وليس هذا في المجتمعات الإسلامية فحسب، بل لا يكاد يسلم مجتمع من هذه الخلافات التي تؤدي في أسوأ الأحوال إلى حل رابطة الرحم، فيتفرق أفراد الأسرة والعائلة، فيترتب على ذلك كراهية وخصام بين العوائل والأسر المختلفة، وتشيع القطيعة بين أفراد الأسرة جميعًا.

وهنا نعرض منهج القرآن في الإصلاح بين أفراد الأسرة والعائلة، محاولة للدعوة للإصلاح وفق منهج رباني متكامل مستنبط من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك من خلال المحاور التالية:

المحور الأول: طرق القرآن في الإصلاح بين الزوجين.

لقد أمر الله سبحانه بالإصلاح، وحث عليه، وشرع الله سبحانه وتعالى بعض التنظيمات التي تكفل الحفاظ على الحياة الزوجية قبل حدوث الخلاف، وفي أثناء الخلاف، وحتى بعد فراق الزوجين لبعضهما؛ فقد شرع الله بعض التوجيهات والأوامر التي هي محاولة لرد الزوجين إلى حياتهما الطبيعية في المجتمع.

ويمكن عرض المنهج القرآني في الإصلاح بين الزوجين في النقاط التالية:

  1. الإصلاح بين الزوجين عند نشوز المرأة.

    إن أشهر آيتين في كتاب الله في الإصلاح بين الزوجين آيتا سورة النساء:

    قال تعالى: ( ﭞﭟ ﭦﭧ ﭯﭰ ﭶﭷ ﭿ ﮎﮏ ) [النساء: ٣٤- ٣٥].

    النشوز هو: «استعلاء النساء على أزواجهن، وارتفاعهن عن فرشهم بالمعصية منهن، فالنشوز هو: البغض ومعصية الزوج، وإرادة فراق الزوج»28.

    تبدأ عملية الإصلاح بين ركني الأسرة في قضية النشوز باتخاذ إجراءات إصلاحية، وفق ترتيب إلهي حكيم، وبوصف نبوي كريم، فمن تعدى تلك الترتيبات، أو جاوز تلك الأوصاف المقننة لتلك الإجراءات فقد ظلم وتعدى؛ ولذا جاء التحذير واضحًا في ختام الآية الأولى: ( ) بأي نوع من البغي، سواء كان بالقول أو الفعل فضلًا عن اليد أو السوط، وتتمثل تلك الإجراءات في النقاط التالية:

    • الموعظة والنصيحة.

      قال تعالى: ( ) [النساء: ٣٤].

      عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «عظوهن بكتاب الله. قال: أمره الله إذا نشزت أن يعظها ويذكرها الله، ويعظم حقه عليها»29.

      وقال مجاهد: «إذا نشزت المرأة عن فراش زوجها يقول لها: اتقي الله وارجعي إلى فراشك، فإن أطاعته فلا سبيل له عليها»30. وقال الحسن: «يأمرها بتقوى الله وبطاعته»31.

    • الهجران في المضاجع.

      قال تعالى: ( ) [النساء: ٣٤].

      أي: «فإن أبين مراجعة الحق في ذلك والواجب عليهن لكم بعد الموعظة، فاهجروهن بترك جماعهن في مضاجعتكم إياهن»32.

      على أن هناك أدبًا في الهجر في المضاجع، وهو ألا يكون هجرًا ظاهرًا في غير مكان خلوة الزوجين، فلا يكون أمام الأطفال، فيورث في نفوسهم شرًا وفسادًا، ولا أمام الأهل أو الغرباء يذل الزوجة، أو يستثير كرامتها، فتزداد نشوزًا، فالمقصود علاج النشوز، لا إذلال الزوجة33.

      فعن معاوية ابن حيدة القشيري رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله ما حق امرأة أحدنا عليه؟ قال: (أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت)34.

      ثم قال ابن حجر: «والحق أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال، فربما كان الهجران في البيوت أشد من الهجران في غيرها، وبالعكس، بل الغالب أن الهجران في غير البيوت آلم للنفوس، وخصوصًا النساء لضعف نفوسهن»35.

    • الضرب.

      قال تعالى: () [النساء: ٣٤].

      وهذا إجراء ثالث أكبر من سابقيه، ولكنه أهون وأصغر من تحطيم العلاقة الزوجية بالنشوز، وهذا الإجراء مع أنه أشد، لكنه بحدود، فقد ورد في تفسير الضرب أن يكون الضرب غير مبرحٍ ولا مؤثرٍ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوادع: (ولكم عليهن أن ألا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك، فاضربوهن ضربًا غير مبرح)36.

      وقال صلى الله عليه وسلم: (فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضربًا غير مبرح)37.

      هذه الإجراءات جاءت لمعالجة أعراض النشوز، وأحيطت بالتحذيرات من سوء استعمالها فور تقريرها وإباحتها، وتولى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنته العملية في بيته مع أهله وبتوجيهاته علاج الغلو وتصحيح المفهومات38 .

      وفي السنة: (ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت)39.

      «فإن حصل المقصود بواحدة من هذه الأمور وأطعنكم، فاتركوا معاتبتها على الأمور الماضية، والتنقيب على العيوب التي يضر ذكرها، ويحدث بسببها الشر»40.

      ولكن إذا استشرى النشوز جيء بالمصلحين.

      كما قال تعالى: ( ﭿ ﮎﮏ ) [النساء: ٣٥].

      قال سعيد بن جبير: «الحكم أن يعظها أولًا، فإن قبلت وإلا هجرها، فإن هي قبلت وإلا ضربها، فإن هي قبلت وإلا بعث الحاكم حكمًا من أهله، وحكمًا من أهلها»41.

      ومعنى الآية: «وإن خفتم الشقاق بين الزوجين والمباعدة والمجانبة حتى يكون كل واحد منهما في شق، فابعثوا حكمين: واحد من أهل الزوجة، وواحد من أهل الزوج، مكلفين مسلمين عاقلين، يعرفان ما بين الزوجين، ويعرفان الجمع والتفريق»42.

  2. الإصلاح عند نشوز الزوج.

    قال تعالى: ( ﭟﭠ ﭢﭣ ﭦﭧ ﭭ ﭮ ) [النساء: ١٢٨].

    عن عائشة رضي الله عنها قالت: «هو الرجل يرى من امرأته ما لا يعجبه كبرًا أو غيره، فيريد فراقها، فتقول: أمسكني، واقسم لي ما شئت. قالت: ولا بأس إذا تراضيا»43.

    وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، لا تطلقني وامسكني، واجعل يومي لعائشة، ففعل، ونزلت هذه الآية: ( ))44.

    فإذا خشيت المرأة أن تصبح مجفوة؛ أو أن تؤدي هذه الجفوة إلى الطلاق، أو إلى الإعراض، فليس هنالك حرج عليها ولا على زوجها أن تتنازل له عن شيء من فرائضها المالية، أو فرائضها الحيوية، كأن تترك له جزءًا، أو كلًا من نفقتها الواجبة عليه، أو أن تترك له قسمتها وليلتها، إن كانت له زوجة أخرى، وكانت هي قد فقدت حيويتها للعشرة الزوجية أو جاذبيتها.. هذا كله إذا رأت هي -بكامل اختيارها وتقديرها لجميع ظروفها- أن ذلك خير لها، وأكرم من طلاقها45. أي: «أن صلحهما على ترك بعض حقها للزوج، وقبول الزوج ذلك، خير من المفارقة بالكلية»46.

    ثم يعقب سبحانه بأن الصلح إطلاقًا خير من الشقاق والجفوة والنشوز والطلاق، فيقول تعالى: ( ) ثم يذكر المانع من الصلح وهو الشح، فيقول تعالى: ( ).

    ثم ينبه سبحانه في ختام هذه الآية على ما يعين ويساعد في حل المشكلة بقوله: ( ) [النساء: ١٢٨].

    أي: «وإن تتجشموا مشقة الصبر على ما تكرهون منهن، تقسموا لهن أسوة أمثالهن، فإن الله عالم بذلك وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء»47.

  3. الإصلاح عند عدم رغبة الزوجة في زوجها.

    قال تعالى: ( ﮧﮨ ﮭﮮ ﯞﯟ ﯫﯬ ﯱﯲ ) [البقرة: ٢٢٩].

    ولقد سلك الشارع الحكيم عددًا من الأمور لإبقاء العصمة الزوجية ومنها:

    • نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوعد المرأة التي تطلب الطلاق من زوجها بغير سبب، وهذه هي الطريقة الأولى لعلاج عدم رغبة الزوجة في زوجها.
    • عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة سألت زوجها طلاقًا في غير ما بأس، فحرامٌ عليها رائحة الجنة)48، وهذا من باب المحافظة على رابطة الزوجية والرابطة الأسرية في المجتمع.
    • إذا استفحل الأمر، وأحست الزوجة بسوء عشرة زوجها جاز لها أن تطلب الطلاق منه، وأن تعوضه عن ذلك برد الصداق الذي أمهرها إياه أو بعضه؛ لتعصم نفسها من معصية الله، وتعدي حدوده، وهذا ما يسمى الخلع أو الفداء.

      فالخلع هو: فراق الزوجة على عوض، فالآية تدل بإطلاقها على جواز الافتداء مطلقًا، ولو بكل المال، أما قوله تعالى: ( ﭝﭞ ) [النساء: ٢٠].

      فهذه الآية محمولة على الأخذ جبرًا بغير رضاها، أو التحايل على ذلك.

      والخلع مكروه إلا في حالة مخافة ألا يقيما -أو واحد منهما- ما أمر الله به، وقد ينشأ ذلك عن كراهة العشرة، إما لسوء خلق أو خلق49، وقد يكون لغير ذلك كما في قصة الصحابية الجليلة امرأة ثابت ابن قيس.

      فعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن امرأة ثابت بن قيس رضي الله عنه أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتردين عليه حديقته؟)، قالت: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقبل الحديقة، وطلقها طلقة)50.

  4. الإصلاح عند ظلم الرجل لزوجاته.

    قال تعالى: ( ﭹﭺ ﭿ ﮀﮁ ) [النساء: ١٢٩].

    يخبر تعالى أنه ليس في قدرة الأزواج العدل التام بين زوجاتهم، فإن العدل التام يقتضي أن يكون الداعي والحب على السواء، والميل القلبي على السواء؛ ويقتضي مع ذلك الإيمان الصادق والرغبة في مكارم الأخلاق للعمل بمقتضى ذلك، وهذا متعذر غير ممكن؛ فلذلك عذر الله الأزواج، وعفا عنهم عما لا يقدرون عليه، ولكنه أمرهم بالعدل الممكن فقال: ( ﭿ ) أي: لا تميلوا إلى إحداهن عن الأخرى ميلًا كثيرًا، بحيث لا تؤدون حقوقهن الواجبة، بل افعلوا مستطاعكم من العدل في النفقة والكسوة والقسم في المبيت والفراش، ونحو ذلك مقدور، فعليكم العدل فيها بينهن، بخلاف الحب والوطء وتوابع ذلك، فإن العبد لا يملك نفسه فعذرهم الله، وقوله: (ﭿ ) يعني: أن الزوج إذا مال عن زوجته، وزهد فيها، ولم يقم بحقوقها الواجبة، فهي كالمعلقة التي لا زوج لها فتستريح، ولا ذات زوج يقوم بحقوقها، ( ) فيما بينكم وبين زوجاتكم بوجه من وجوه الصلح، وبمجاهدة أنفسكم على فعل ما لا تهواه النفس احتسابًا وقيامًا بحق الزوجة () الله بامتثال أمره، واجتناب نهيه، ( )51.

    وقد أمر الله تعالى بالعدل بين الزوجات، وأمر من لم يستطع العدل أن لا يتزوج أكثر من واحدة، ويمكنه أن يجمع معها ملك اليمين؛ لأنه ليس لها من الحقوق كما للحرة.

    قال تعالى: ( ﮒﮓ ﮜﮝ ) [النساء: ٣].

    وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل)52. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعدل بين نسائه في القسم، ويقول: (اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما لا أملك)53، واستمر على ذلك حتى في مرضه صلى الله عليه وسلم ، ثم استأذنهن أن يمرض عند عائشة، فأذن له -رضي الله عنهن-54.

  5. الإصلاح عند وقوع الظهار.

    قال تعالى: ( ﭬﭭ ﭲﭳ ﭹﭺ ) [المجادلة: ٢]: «يعني أن الله تعالى يحرم قول الرجل لزوجته: أنت علي كظهر أمي»55. فهو يحرمها على نفسه كحرمة أمه عليه56. «فمتى شبه زوجته بمن تحرم عليه أو ببعضها إذا أراد الامتناع عن الاستمتاع بها فقد ظاهر من زوجته»57، وإذا ظاهر الرجل امرأته ترتب على ظهاره حرمة إتيان الزوجة حتى يكفر كفارة الظهار ( ) [المجادلة: ٣].

    ولكن أهل الجاهلية كانوا يعتبرون هذه الكلمة طلاقًا أبديًا، والإسلام اعتبره ظهارًا له كفارة.

    فهذه القضية الاجتماعية فيها قسوة على المرأة، وقسوة على الأسرة، بل وقسوة على المجتمع، فبكلمة واحدة كانت المرأة تحرم في الجاهلية، ولكن الإسلام أراد أن يرتقي بالأسرة بالحفاظ عليها من الضياع في ظل منهج ينظم ويقوم حياتها، ويحفظ لها حقها، ويضمن لها سعادتها في دنياها وأخراها من ناحيتين:

    • حرم الله سبحانه الظهار؛ لما تضمنه من تحريم ما أحل الله، وأذية للمرأة، وزور من القول والفعل لم يكلفهم الله إياه، بل مضرته غلبت مصلحته؛ ولذا لم يجعل الله فيه خيرًا وبركةً.
    • شرع الله سبحانه لمن وقع فيه مخرجًا منه وهو كفارة الظهار؛ فكفارة الظهار على الترتيب الوارد في الآية والحديث.

      قال تعالى: ( ) [المجادلة: ٣].

      فإن لم يجد فيصوم شهرين متتابعين، لا يفرق بين الأيام إلا لعذر شرعي؛ لقوله: ( ) [المجادلة: ٤].

      فإن لم يكن يقدر على الصيام فيطعم ستين مسكينًا؛ لقوله: ( ) [المجادلة: ٤].

  6. طريقة القرآن في الإصلاح عند وقوع الإيلاء.

    قال تعالى: ( ﭧﭨ ) [البقرة: ٢٢٦ - ٢٢٧].

    والإيلاء لغة: الحلف، وفي الشرع: الحلف على ترك وطء المرأة58.

    فالله سبحانه وتعالى هو الذي يعلم حقيقة النفس البشرية، وأهمية بقاء الزوجين مع بعضهما، فنفس عن الزوج والزوجة للمحاولة في الإصلاح بينهما، وعدم بقاء الزوجين في خصام حتى لا تتسع الفجوة، ويطول النزاع، فجعل للزوج الذي يريد أن يصالح زوجته، وأن يراجعها قبل انتهاء مدة التحريم، جعل له كفارة يستطيع إذا فعلها أن يراجع ويصالح زوجته، وهي كفارة اليمين.

    وقد جعل الله تعالى للزوجة المطالبة بحقها إذا زاد الإيلاء والبعد عن المدة التي قدرها رب العالمين، وهي أربعة أشهر، فضمن لكل من الطرفين حقه، وأعطاه الفسحة الكافية ليراجع نفسه، ورغبه الشارع في العودة والكفارة، وسهلها عليه تمكينًا وترغيبًا في كسر حاجز القطيعة والبعاد.

    «ولكن إذا استمر الرجل في الإيلاء، وجاء وقت انتهاء الفترة التي لا يجوز تجاوزها، فإما أن يراجع الرجل زوجته، أو يفارقها، فإن أبى فالقاضي له حق أن يطلقها منه»59، وذلك ليحاول كل واحد منهما أن يبدأ حياة أخرى قد تكون أهدأ وأقل خلافًا من التي قبلها؛ ولذا ختم الله تعالى الحكم بقوله: ( ﮑﮒ ) [النساء: ١٣٠].

  7. الإصلاح عندما لا ترضى المرأة بواقع زوجها المعيشي.

    قد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بتخيير زوجاته بقوله: ( ) [الأحزاب: ٢٨ - ٢٩].

    فعن جابر رضي الله عنه قال: «قال عمر رضي الله عنه : يا رسول الله لو رأيت ابنة زيد -زوجة عمر- سألتني النفقة آنفًا، فوجأت عنقها، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: (هن حولي يسألنني النفقة). فقام أبو بكر رضي الله عنه إلى عائشة ليضربها، وقام عمر رضي الله عنه إلى حفصة، كلاهما يقولان: تسألان النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده! فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلن -أي: نساءه-: والله لا نسأل رسول الله بعد هذا المجلس ما ليس عنده.

    قال: وأنزل الله عز وجل الخيار، فبدأ بعائشة، فقال: (إني أذكر لك أمرًا ما أحب أن تتعجلي فيه حتى تستأمري أبويك). قالت: وما هو؟ قالت: فتلا عليها: ( ). قالت عائشة رضي الله عنها : أفيك أستأمر أبواي! بل أختار الله ورسوله، وأسألك ألا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت، فقال: (إن الله تعالى لم يبعثني معنفًا، ولكن بعثني معلمًا ميسرًا، لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها)60.

    فسبب تخيير النبي صلى الله عليه وسلم لزوجاته هو أن زوجاته -رضي الله عنهن جميعًا- سألنه التوسيع عليهن في النفقة، والنبي صلى الله عليه وسلم قد اختار الله له عيشة الكفاف؛ ولذا قال عمر لهما: تسألان النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده؟

    وهنا يجب التنبيه على أمور:

    قال ابن حجر: «قول عائشة وجمهور الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار هو أن من خير زوجته فاختارته لا يقع عليه بذلك طلاق»61.

    إجراء التخيير من الوسائل التي يتم من خلالها الإصلاح، وذلك بأن ينبه الزوج زوجته على أن هذا واقعه، وهذا مستواه، وهذه حياته، فإن قبلته على هذه الحياة فبها ونعمت، وإن لم تقبله فلا يوجد مجال إلا أن تختار بين البقاء معه والصبر على ما هي فيه، أو يطلقها ويسرحها سراحًا جميلًا ترتاح فيه من الوضع التي هي فيه، ومن ثم يرتاح الرجل من كثرة انتقاد الزوجة من الناحية الاجتماعية، أو من ناحية الطبائع وغيرها، ويرتاحان من الخلافات اليومية بسبب هذا الأمر.

    عندما تعلم الزوجة أن الأمر جدٌ، وأنه لا يوجد حل لها إلا أن تصبر أو تطلق، قد يتغير رأيها للحفاظ على زوجها وبيتها، وتتنازل عن رأيها فتقبل الصبر، وتقبل زوجها، فيحصل الوفاق والصلح بين الزوجين، وهذا هو الذي يرنو إليه الشارع الحكيم.

    المحور الثاني: الطرق الإصلاحية لبقاء الحياة الزوجية عند إرادة الطلاق.

    قال تعالى: ( ﮑﮒ ) [النساء: ١٣٠].

    فالإسلام لا يمسك الأزواج بالسلاسل والحبال، ولا بالقيود والأغلال، ولكن يجمعهم بالسكن النفسي وبالمودة والرحمة، أو بالواجب والتحمل الممكن.

    قال تعالى: ( ﮖﮗ ) [الروم: ٢١]62.

    ومظاهر الإصلاح في حال اختيار طريق الطلاق:

  1. الأمر بالمعاشرة بالمعروف والصبر على ذلك.

    قال تعالى: ( ﯔﯕ ﯠﯡ ﯣﯤ ) [النساء: ١٩].

    ففي الآية توجيهات ربانية لكفالة حق الزوجين:

    من المعاشرة بالمعروف بالإجمال بالقول، والمبيت والنفقة63، وأن يتصنع لها كما تتصنع له64، وفتح الله به باب الأمل: ( ) ومهما كانت الأسباب والمبررات فإنه يحرم على الزوج إكراه زوجته على ما لا تطيق، ولا أخذ مالها وإرغامها على ذلك من دون طيبة نفس، بل ونهى عن عضلها بمنعها من حقوقها، ولا إلجائها لتفتدي نفسها بمالها، فإن ذلك كله محرم، وقد استثنى منه ما ورد به الشرع في ذلك على الأوصاف والشروط التي نص عليها أهل العلم في الفقه.

  2. شرع الطلاق السنة، والعدة بعده.

    إذا تعذر الوئام بين الزوجين بعد الأخذ بالتوجيهات الإلهية السابقة، أو رأى المصلحون بينهم أن التفريق لهما خير، فقد شرع الله للزوج أن يطلق زوجته طلاق السنة، وهو: أن يطلقها في طهر لم يقع فيه وطء. ( ) [الطلاق: ١].

    وفي هذه الفترة قد تتغير النفوس، وتقر القلوب، وفرصة للنفس ومحاسبتها، والنظر في عواقب الأمر قبل الطلاق وبعده، وليكون وقوع الطلاق في وقت تشتهى فيه الزوجة غالبًا، فيكون دليلًا واقعيًا على عدم الوئام بينهما، وليس مجرد عارضٍ، فقد يقدر الله تعالى الصلح، فلا يقع طلاق.

    قال تعالى: ( ﭙﭚ ) [الطلاق: ١].

  3. شرع الطلقة الأولى ثم الثانية، وفي الثالثة تحرم عليه.

    قال الله تعالى: ( ﮧﮨ ) [البقرة: ٢٢٩].

    ففي الطلقة الأولى تجربة يعلم منها الزوجان حقيقة مشاعرهما، ثم تأتي الطلقة الثانية: محاولة أخرى لعدم انقطاع الحياة الزوجة، أما الطلقة الثالثة: فهي دليل على فسادٍ في تلك الحياة الزوجية ( ﯿ ) [البقرة: ٢٣٠].

    فهذه الإجراءات كلها للحفاظ على الرابطة الزوجية، فالرجل عندما يعلم ذلك الحد، فإنه يفكر ويمسك نفسه.

  4. لا يجوز أن تخرج المرأة من بيتها، أو تخرج في حال الطلقة الرجعية.

    قال تعالى: ( ) [الطلاق: ١].

    «وذلك لإتاحة الفرصة للرجعة، واستثارة عواطف المودة، وذكريات الحياة المشتركة، حيث تكون الزوجة بعيدة بحكم الطلاق قريبة من العين، ويرى زوجته وما يصيبها من تعب وشدة، فيفعل هذا في المشاعر فعله بين الاثنين؛ ليبقى عقد الزوجية، وتبقى الأسرة المسلمة قائمة يشد بعضها بعضًا»65.

  5. جواز مراجعة الزوجة إذا انقضت العدة في الأولى والثانية بعقد جديد.

    قال تعالى: ( ) [البقرة: ٢٣٢].

    فإن الله سبحانه وتعالى يريد الإصلاح ويحبه، ولو بعد الانفصال وانقضاء الأجل والمهلة، ما لم يبلغ الحد الذي حده الله لعباده من الطلقة الثالثة.

  6. إذا أراد الرجل أن يطلق زوجته لا يأخذ منها ما أعطاها إياه من مهر وغيره.

    قال تعالى: ( ﭝﭞ ) [النساء: ٢٠ - ٢١].

    وقال تعالى: ( ﮧﮨ ﮭﮮ ) [البقرة: ٢٢٩].

    «نهوا أن يأخذوا من أزواجهم شيئًا على وجه المضارة، وخص بالذكر ما آتى الأزواج نسائهم؛ لأن العرف بين الناس أن يطلب الرجل عند الشقاق والفساد ما خرج من يده لها من صداق وجهاز»66.

    فمن الأمور التي تحافظ على بقاء عقد الزوجية أنه إذا أراد الزوج أن يطلق فلا يحل له أن يأخذ شيئًا مما أعطاها إياه، وهذا يجعل الزوج يفكر أكثر من مرة في هذا الأمر؛ لأنه قد يكون أعطاها مالًا كثيرًا، فلا يستطيع أن يتركها من أجل ذلك المال، ثم قد يوفق الله بينهما فيما بعد.

    قال تعالى: ( ) [الطلاق: ١].

    المحور الثالث: ضوابط الإصلاح الاجتماعي بين الزوجين.

    شرع الله سبحانه وتعالى أمورًا في الحياة الزوجية تمنع من حصول أي خلافات بينهما، فإذا حصل خلاف بسبب التفريط في هذه الأمور فإنه بالرجوع إليها يكون الإصلاح، وتنضبط الحياة الأسرية مرة أخرى، ومن هذه الأمور:

  1. معرفة كل من الزوجين ما له وما عليه من الحقوق والواجبات.

    والأصل في ذلك قوله تعالى: ( ﭞﭟ ) [النساء: ٣٤].

    فجمع الله تعالى في هذه الآية ما يجب على الرجال، وجمع ما يجب على الزوجة في قوله تعالى: ( ) [النساء: ٣٤].

    فهما نصٌ «في سبيل تنظيم الحياة الزوجية، وتوضيح الاختصاصات التنظيمية فيها؛ لمنع الاحتكاك فيه بين أفرادها، فيحدد أن القوامة في هذه المؤسسة للرجل؛ وذلك لتفضيل الرجل بمقومات القوامة، وما تتطلبه من خصائص ودربة، وتكليفٍ بالإنفاق»67.

  2. المعاشرة الحسنة بالمعروف.

    قال تعالى: ( ) [النساء: ١٩].

    فعلى الزوجين أن يقوما بمعاشرة بعضهما بالمعروف، وخصوصًا الرجل؛ لأنه القيم، فالقول والمعاملة والإنفاق بالمعروف، وكذلك العلاقة العاطفية بينهما تكون بالمعروف، كما وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنساء خيرًا68، وقوله: (وملاعبة أهله، فإنهن من الحق)69.

    ومن العشرة الحسنة من المرأة أن تكون: مطيعة لزوجها في غير معصية الله، والاقتصاد والتوسط في النفقة، ورعايتها أسرتها، وتزكية نفسها وتشريفها، ومما يقربها إلى قلب زوجها: إكرام والديه وأقاربه واحترامهم70.

  3. صبر الزوج على الزوجة، وغض الطرف عن زلاتها.

    فإن المرأة من طبيعتها الغيرة من كل أحد؛ وغالبًا ما تكون الغيرة سببًا يدفعها إلى فعل ما لا يرضاه الزوج، وإذا انضاف إلى الغيرة ما جبلت عليه من اعوجاج اللسان، كان أدعى للزوج أن يصبر على الأذى، وأن يغض الطرف ما استطاع ويتجاوز عن الهنات والزلات؛ لقوله تعالى عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عندما حصلت الغيرة بين بعض زوجاته: ( ﭿ ) [التحريم: ٣].

  4. محافظة الزوجين على أسرارهما ومشكلاتهما الداخلية.

    إن الزوجين هما الأقدر على حل مشاكلهما؛ لأنهما أعلم بطبيعة بعضهما، وبنقاط الخير فيهما، ويجب أن تهدأ النفوس حتى يأتي الصلح؛ ولذا قال الله تعالى: ( ﭯﭰ ) [النساء: ٣٤].

    فنص الله تعالى أن يكون الصلح بين الزوجين أولًا.

    فإن احتيج لأن يتدخل غيرهما: فينحصر ما يعرفه الأبوان أو الأقارب على المشكلة فقط، ولا يتجاوز ذلك إلى غيره؛ حتى لا تتفرع المشكلة، وتصبح ظلمات بعضها فوق بعض.

    فهذه بعض الضوابط الإصلاحية التي تضبط الحياة الاجتماعية بين الزوجين قبل حدوث الخلاف، فإذا وقع الخلاف كان الرجوع لها هو الإصلاح بعينه.

    النوع الثاني: الإصلاح مع الوالدين المشركين:

    أفردنا الحديث عن الإصلاح مع الوالدين المشركين؛ لأن الله تعالى نص عليه في القرآن، وبينت السنة سبب ذلك النص:

    قال تعالى: ( ﮞﮟ ) [الإسراء: ٢٣- ٢٤].

    وقال تعالى: ( ﭡﭢ ﭭﭮ ) [العنكبوت: ٨].

    وقال تعالى: ( ﭪﭫ ﭿ ﮒﮓ ﮫﮬ ﮰﮱ ﯘﯙ ﯜﯝ ) [مريم: ٤١- ٤٧].

    عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: «أنزلت في هذه الآية: ( ) [العنكبوت: ٨].

    قال: كنت رجلًا بارًا بأمي، فلما أسلمت قالت: يا سعد، ما هذا الذي أراك قد أحدثت؟ لتدعن دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت! فتعير بي، فيقال: «يا قاتل أمه». فقلت: لا تفعلي يا أمه، فإني لا أدع ديني هذا لشيء، فمكثت يومًا وليلةً لم تأكل، فأصبحت قد جهدت، فمكثت يومًا وليلةً أخرى لا تأكل، فأصبحت قد اشتد جهدها، فلما رأيت ذلك قلت: تعلمين يا أمه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسًا نفسًا ما تركت ديني هذا لشيء، فإن شئت فكلي، وإن شئت لا تأكلي، فأكلت»71.

    أما قصة إبراهيم عليه السلام فهي واضحة في تطبيق الأمر الإلهي في الآية، فجعل الله قصته مع أبيه مثلًا للمسلمين في الولاء والبراء مع صدق البر والإحسان، كما قال تعالى: ( ) [الممتحنة: ٤].

    فهذا إبراهيم عليه السلام يدعو أباه إلى الإسلام بأسلوب لا يختلف عن حديث مسلم مع مسلم، ولكن إبراهيم عليه السلام لا يلقى من والده إلا الخصومة والتعنيف.

    فمن خلال هذه الآيات يمكن عرض المنهج القرآني في الإصلاح مع الوالدين المشركين:

    أولًا: لا تقديم لحق العباد على حق الله:

    لأن الله سبحانه وتعالى لم يخلقنا إلا لعبادته، وما العباد إلا وسيلة للتعايش والخلافة في الأرض، فإذا ضيع السبب الذي خلق الإنسان من أجله، فلن تصطلح حياة البشر مع بعضهم، فإن من ضيع أمانته بينه وبين الله لا يمكن أن يحفظ الأمانة التي بينه وبين الخلق.

    ثانيًا: لاستقرار العلاقة بين الآباء والأبناء يأمر الله تعالى عباده بأمور:

    • الأمر بإصلاح العلاقة بين البشر وربهم، ثم بين البشر وآبائهم، فالله سبحانه هو الخالق للإنسان؛ ولذا يأتي دائمًا الأمر بعدم الإشراك به قبل الوصية بالوالدين، أما الوالدان فهما السبب الذي جعله الله تعالى في الأرض للتكاثر والوجود، فالله تعالى أولًا يأمر الله العباد بأن يصلحوا فيما بينهم وبين الله، ثم بعد ذلك يصلحوا ما بينهم وبين آبائهم.
    • النهي عن أي كلام أو تصرف بذيء ولو كان كلمة (أفلما في ذلك من إفساد العلاقة بين الآباء والأبناء حتى ولو كان الآباء مشركين؛ لأن الخطاب هنا عام».
    • النهي عن زجرهما، والتكلم معهما بكلامٍ خشنٍ.
    • الأمر بالكلام الطيب الكريم اللين الذي تطمئن به نفوسهما.
    • التواضع لهما ذلًا لهما ورحمةً واحتسابًا للأجر، لا لأجل الخوف منهما، أو الرجاء لما لهما، ونحو ذلك من المقاصد التي لا يؤجر عليها العبد.
    • الدعاء لهما بالرحمة أحياءً وأمواتًا، جزاءً على تربيتهما إياك صغيرًا72، ما لم يكونا مشركين، فإن كانا مشركين فالدعاء لهما بالهداية في حياتهما.

      ثالثًا: دعوتهم إذا كانا مشركين، فيجب أن تكون بالحكمة والأدب:

      وذلك باستخدام الألفاظ اللينة الحسنة والأسلوب الهادئ المؤدب؛ وإذا قوبلت الدعوة للآباء بالرفض والأذية فلا تقابل بالمثل، كما في قصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه.

      رابعًا: الاختلاف في العقيدة والأمر بعدم الطاعة في خلافها لا يسقط حق الوالدين في المعاملة الطيبة والصحبة الكريمة: قال تعالى: ( ) [لقمان: ١٥].

      ثالثًا: الإصلاح في المال:

      المسألة الأولى: الإصلاح في وصية الميت:

      الله سبحانه وتعالى جعل الوصية لمن أراد الإصلاح، وعدم وقوع الخلاف بعد موت الموصي، فإذا وقع وظهر في الوصية ظلم وجور على الحقوق وجب الإصلاح فيها.

      والإصلاح في الوصية بإبقاء هدفها ومحتواها هو الخير للموصي له من يتيم ونحوه، وخير لأهل الميت من الورثة، وخير للميت بأن لا يعذب بما أوقع في الوصية من الإجحاف أو الظلم، بل وخير للمجتمع من أن تسود فيه البغضاء والتفرق؛ إذ أن السيئة تأتي بالسيئة، والشر يعم.

      وإذا فعل ذلك وأصلح في الوصية فهذا عين الخير وعين الإصلاح، أما المحافظة على حروفها وحدودها وتضييع الهدف المقصود منها فهو عين الإفساد.

      وعلى هذا فالإصلاح في الوصية سبب من أسباب الإصلاح بين المسلمين ودفع الفرقة عنهم، روي عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة، فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله، فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة، فيعدل في وصيته، فيختم له بخير عمله، فيدخل الجنة) قال أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم: ( ) [البقرة: ٢٢٩]73.

      ( ) [البقرة: ٢٢ أي: «يعلم من قصده ونيته الإفساد أو الإصلاح»74.

      والخطاب بقوله: ( ) [البقرة: ١٨٢] لجميع المسلمين، قيل لهم: إن خفتم من موصٍ ميلًا في الوصية، وعدولًا عن الحق، ووقوعًا في إثم، ولم يخرجها بالمعروف، وذلك بأن يوصي بالمال إلى زوج ابنته أو لولد ابنته لينصرف المال إلى ابنته، أو إلى ابن ابنه، والغرض أن ينصرف المال إلى ابنه، أو أوصى لبعيد وترك القريب، فبادروا إلى السعي في الإصلاح بينهم، فإذا وقع الصلح سقط الإثم عن المصلح، والإصلاح فرض على الكفاية، فإذا قام أحدهم به سقط عن الباقين، وإن لم يفعلوا أثم الكل75.

      «فالمصلح إذا شاهد الموصي يوصي وظهر منه أمارة الحيف عن طريق الحق، مع ضربٍ من الجهالة، أو مع التأويل، أو شاهد من التعمد في الميل، فعند ظهور أمارة الإفساد في الوصية يأخذ في الإصلاح؛ لأن إصلاح الأمر عند ظهور أمارات فساده، وقبل تقرير فساده يكون أسهل؛ فلذلك علقه تعالى بالخوف دون العلم»76.

      وقال الحسن: «هو أن يوصي للأجانب ويترك الأقارب، فيرد إلى الأقارب. قال: وهذا هو الإصلاح»77.

      «والإصلاح يحتاج إلى الإكثار من القول، وقد يتخلله بعض ما لا ينبغي من قول أو فعل، فبين أن ذلك لا إثم فيه إذا كان لقصد الإصلاح، ودلت الآية على جواز الصلح بين المتنازعين إذا خاف من يريد الصلح إفضاء تلك المنازعة إلى أمر محذور في الشرع»78.

      ( ) قيل: غفور لما كان من الحائف، وقيل: للمصلح () حيث رخص، وقيل: () للموصي فيما حدث به نفسه من الجنف والخطأ والإثم؛ إذ رجع إلى الحق، () للمصلح79.

      قال تعالى في اليتامى: ( ) [البقرة: ٢٢٠].

      «الإصلاح لليتيم يتناول إصلاحه بالتعليم والتأديب، وإصلاح ماله بالتنمية والحفظ»80.

      وهذا «يعني: الإصلاح لأموالهم من غير أجرةٍ خيرٌ وأعظم أجرًا ( ) تشاركوهم في أموالهم وتخلطوها بأموالكم، فتصيبوا من أموالهم عوضًا عن قيامكم بأمورهم () أي: فهم إخوانكم، والإخوان يعين بعضهم بعضًا، ويصيب بعضهم من مال بعضٍ ( ) لأموالهم ( ) لها، فاتقوا الله في مال اليتيم، ولا تجعلوا مخالطتكم إياهم ذريعةً إلى إفساد أموالهم وأكلها بغير حقٍ ( ) لضيق عليكم وآثمكم في مخالطتكم، ومعناه: التذكير بالنعمة في التوسعة ( ) في ملكه () فيما أمر به»81.

      وقال تعالى: ( ﭜﭝ ) [البقرة: ١٨٢].

      قال الطبري رحمه الله : «وأولى الأقوال في تأويل الآية أن يكون تأويلها: ( ) وهو أن يميل إلى غير الحق خطأ منه، أو يتعمد إثمًا في وصيته، بأن يوصي لوالديه وأقربيه الذين لا يرثونه بأكثر مما يجوز له أن يوصي لهم به من ماله، وغير ما أذن الله له به مما جاوز الثلث أو بالثلث كله، وفي المال قلة، وفي الورثة كثرةٌ، فلا بأس على من حضره أن يصلح بين الذين يوصى لهم، وبين ورثة الميت وبين الميت، بأن يأمر الميت في ذلك بالمعروف ويعرفه ما أباح الله له في ذلك، وأذن له فيه من الوصية في ماله، وينهاه أن يجاوز في وصيته المعروف الذي قال الله تعالى: ( ) [البقرة: ١٨٠].

      وذلك هو «الإصلاح» الذي قال الله: ( ) وكذلك لمن كان في المال فضل وكثرةٌ وفي الورثة قلة، فأراد أن يقتصر في وصيته لوالديه وأقاربه عن ثلثه، فأصلح من حضره بينه وبين ورثته وبين والديه وأقاربه الذين يريد أن يوصى لهم، بأن يأمر المريض أن يزيد في وصيته لهم، ويبلغ بها ما رخص الله فيه من الثلث؛ فذلك أيضًا هو من الإصلاح بينهم بالمعروف».

      فما وجه الإصلاح حينئذٍ، والإصلاح إنما يكون بين المختلفين في الشيء؟

      قيل: إن ذلك وإن كان من معاني الإصلاح فمن الإصلاح الإصلاح بين الفريقين، فيما كان مخوفًا حدوث الاختلاف بينهم فيه، بما يؤمن معه حدوث الاختلاف؛ لأن الإصلاح إنما هو الفعل الذي يكون معه إصلاح ذات البين، فسواء كان ذلك الفعل الذي يكون معه إصلاح ذات البين قبل وقوع الاختلاف أو بعد وقوعه.

      فإن قال قائل: فكيف قال: ( ) ولم يجر للورثة ولا للمختلفين، أو المخوف اختلافهم، ذكرٌ؟

      قيل: بل قد جرى ذكر الذين أمر تعالى ذكره بالوصية لهم، وهم والدا الموصي وأقربوه، والذين أمروا بالوصية في قوله: ( ) [البقرة: ١٨٠].

      ثم قال تعالى ذكره: ( ) لمن أمرته بالوصية له ( )، وبين من أمرته بالوصية له ( )، والإصلاح بينه وبينهم هو إصلاح بينهم وبين ورثة الموصي.

      وأما الجنف: فهو الجور والعدول عن الحق في كلام العرب، يقال منه: جنف الرجل على صاحبه يجنف، إذا مال عليه وجار جنفًا82.

      المسألة الثانية: الإصلاح في مال اليتامى:

      قال تعالى: ( ﭗﭘ ﭜﭝ ﭠﭡ ﭦﭧ ﭫﭬ ) [البقرة: ٢٢٠].

      «إن التكافل الاجتماعي هو قاعدة المجتمع الإسلامي والأمة المسلمة مكلفة أن ترعى مصالح الضعفاء فيها واليتامى بفقدهم آباءهم وهم صغار ضعاف أولى برعاية الأمة وحمايتها، رعايتها لنفوسهم وحمايتها لأموالهم، فاليتامى إخوان للأوصياء، كلهم أخوة في الإسلام، أعضاء في الأسرة المسلمة الكبيرة»83.

      ( ﭦﭧ) عن مجاهدٍ قال: «يعني: أن الله لا يخفى عليه الذين يريدون منكم الإصلاح لهم، والإفساد عليهم» قال أبو محمدٍ: وروي عن مقاتل بن حيان والسدي نحو ذلك84. «فليس المعول عليه هو ظاهر العمل وشكله، ولكن نيته وثمرته»85.

      وقيل: «المراد فعل ما فيه الصلاح بين الموصي والموصى له بأن يأمر بالعدل والرجوع عن الزيادة، وكونها للأغنياء، وعليه لا يراد الصلح المرتب على الشقاق، فإن الموصي والموصى له لم يقع بينهما شقاق.

      ( ) [البقرة: ١٨٢].

      في ذلك التبديل؛ لأنه تبديل باطل إلى حق، بخلاف السابق، واستدل بالآية على أنه إذا أوصى بأكثر من الثلث لا تبطل الوصية كلها، خلافًا لزاعمه، وإنما يبطل منها ما زاد عليه؛ لأن الله تعالى لم يبطل الوصية جملة بالجور فيها، بل جعل فيها الوجه الأصلح.

      ( ) [البقرة: ١٨٢].

      تذييل أتى به للوعد بالثواب للمصلح على إصلاحه، وذكر المغفرة مع أن الإصلاح من الطاعات، وهي إنما تليق من فعل ما لا يجوز لتقدم ذكر الإثم الذي تتعلق به المغفرة؛ ولذلك حسن ذكرها، وفائدتها التنبيه على الأعلى بما دونه، يعني أنه تعالى غفور للآثام، فلأن يكون رحيمًا من أطاعه من باب الأولى، ويحتمل أن يكون ذكرها وعدًا للمصلح بمغفرة ما يفرط منه في الإصلاح؛ إذ ربما يحتاج فيه إلى أقوال كاذبة، وأفعال تركها أولى، وقيل: المراد غفورٌ للجنف والإثم الذي وقع من الموصي بواسطة إصلاح الوصي وصيته، أو غفور للموصي بما حدث به نفسه من الخطأ والعمل؛ إذ رجع إلى الحق، أو غفور للمصلح بواسطة إصلاحه بأن يكون الإصلاح مكفرًا لسيئاته، والكل بعيد»86.

      «وهكذا يربط الأمر كله بالله؛ ويشده إلى المحور الأصيل الذي تدور عليه العقيدة، وتدور عليه الحياة، وهذه هي ميزة التشريع الذي يقوم على العقيدة، فضمانة التنفيذ للتشريع لا تجيء أبدًا من الخارج، إن لم تنبثق وتتعمق في أغوار الضمير»87.

      ( ) [البقرة: ٢٢٠].

      «والله لا يريد إحراج المسلمين وإعناتهم والمشقة عليهم فيما يكلفهم، ولو شاء الله لكلفهم هذا العنت، ولكنه لا يريد، وهو العزيز الحكيم، فهو قادر على ما يريد، ولكنه حكيم لا يريد إلا الخير واليسر والصلاح»88.

      رابعًا: الإصلاح في الأرض:

      يمكن إجمال منهج القرآن في الإصلاح في الأرض من خلال النقاط التالية:

      أولًا: تحريم الفساد في الأرض.

      ففي القرآن الكريم تشنيع على الفساد والإفساد، ولعل الآية الكريمة ( ﯿﰀ ) [القصص: ٧٧].

      آية جامعة مانعة للنهي عن كل ما يؤدي إلى إفساد الحياة على الأرض، من إفساد مادي أو معنوي، ومثلها ( ﮓﮔ ) [الأعراف: ٨٥].

      أما الآية الكريمة: ( ﮊﮋ ) [البقرة: ٢٠٥].

      فتؤكد على النهي عن كل أنواع الفساد والإفساد، ففي مجال البيئة المائية اهتم الإسلام بأمرين مهمين، ألا وهما حماية الماء من التلوث، فنهى عن البول في الماء، والحفاظ على مصادر الماء من الاستنزاف والهدر، فحرم الإسراف.

      ثانيًا: تحريم الاعتداء على الأعراض.

      حرم الزنا، وجعله من الكبائر العظام. وهذا يعتبر من عوامل الوقاية من الوقوع في المشكلة.

      قال تعالى: ( ﭢﭣ ﭰﭱ ﭿ ﮅﮆ ) [النور: ٢ - ٣].

      وقال تعالى في وصف عباد الرحمن: ( ﭡﭢ ) [الفرقان: ٦٨ - ٦٩].

      وقال تعالى: ( ﮌﮍ ) [الإسراء: ٣٢].

      وجعله تعالى شرطًا للبيعة: ( ﭮﭯ ) [الممتحنة: ١٢].

      وتجلت الوقاية بالوصية بالحجاب، والنهي عن التبرج.

      قال تعالى: ( ﮧﮨ ﮮﮯ ) [الأحزاب: ٥٩].

      وغض البصر، وحفظ الفرج؛ قال تعالى: ( ﭿ ﮄﮅ ) [النور: ٣٠،]( ) [النور: ٣١].

      والبعد عن إظهار الزينة للنساء، والبعد عن العمل على إظهارها.

      قال تعالى: ( ﮝﮞ ﮢﮣ ) [النور: ٣١].

      والأمر بالقرار في البيت: ( ) [الأحزاب: ٣٣].

      وتيسير الزواج، فقال تعالى: ( ) [النور: ٣٢].

      وحرم القذف، قال تعالى: ( ﮛﮜ ﯛﯜ ) [النور: ٤ - ٧].

      ومن الاصلاح فيه: الحث على العفو فيما دون الحد.

      قال تعالى: ( ﭿ ﮆﮇ ﮉﮊ ﮐﮑ ) [النور: ٢٢].

      وأن يقدم حسن الظن بالأخ المسلم.

      قال تعالى: ( ) [النور: ١٢].

      والتثبت بالبينة والدليل، ولا يتحدث بكل ما سمعه أو ينشره.

      قال تعالى: (ﭿ ﮃﮄ ) [النور: ١٣].

      وقال تعالى: ( ) [النور: ١٦].

      وقطع الطريق على الفساق الذين يحبون أن تشيع الفاحشة والشر، يقول الله تعالى في ختام قصة الإفك: ( ) [النور: ١٧].

      وذلك بعدم سماع ما يقوله الكذابون والمنافقون والمغتابون، وأصحاب القلوب المريضة، وعدم الرضا بذلك، كما هو منهج السلف رضوان الله عليهم.

      ثالثًا: ومن الإصلاح في الأرض الإصلاح العام عند الاختلاف في الآراء:

      قال تعالى: ( ﭘﭙ ﭚﭛ ) [الأنفال: ٤٦].

      وقال تعالى: ( ﭱﭲ ﭴﭵ ) [سبأ: ٢٤].

      شرع الله سبحانه وتعالى حدودًا، لا يجوز أن يتعداها المسلم في خلافه عندما يخالفه أحد في آرائه، وفي الآيتين السابقتين الحديث والخلاف دائر مع المسلمين وغيرهم، ويمكن من هاتين الآيتين وغيرهما معرفة المنهج القرآني للإصلاح وعدم تطور الخلاف عندما يحدث.

      «وإن علاقة المسلمين بغيرهم علاقة تعارف، وتعاون، وبر، وعدل، فالله سبحانه يقول في التعارف المفضي إلى التعاون: ( ﭿﮀ ﮅﮆ ) [الحجرات: ١٣].

      ويقول في البر والعدل: ( ﭿ ﮉﮊ ) [الممتحنة: ٨].

      والنهي عن موالاة الكافرين يقصد به النهي عن محالفتهم، ومناصرتهم ضد المسلمين، والرضا بما هم فيه من كفر؛ إذ فيه ضرر بالغ بالمسلمين، وإضعاف لقوة الجماعة المؤمنة، وأما الموالاة بمعنى المسالمة، والمعاملة بالحسنى، وتبادل المصالح، والتعاون على أمور البر، فهذا مما دعا إليه الإسلام».

    مواقف الناس من الإصلاح

    • عرض القرآن مواقف الناس من الإصلاح، وسوف نتناولها بالبيان فيما يأتي:

      أولًا: المجرمون وادعاؤهم الإصلاح:

      إن منهج الإسلام الأساس في الإصلاح هو: إحقاق الحق، وتثبيت معالمه وصرحه، وإبطال الشر، وهدم معاقله وحصونه، وليس هناك أخطر على الأمة من تشويه عقيدتها، وتحريف كتاب الله، وتأويل الكلام تأويلًا باطلًا، وليس هناك أيضًا أضر على الإنسان من الشرك والوثنية، واتخاذ الأرباب مع الله ظلمًا وزورًا، وافتراءً وبهتانًا.

      وقد ضل جماعة من علماء أهل الكتاب وأحبارهم، فلووا ألسنتهم في كتاب الله؛ ليميلوها عن الآيات المنزلة الصحيحة إلى العبارات المبدلة المحرفة، فزادوا في كلام الله، أو نقصوا، أو حرفوا الكلم عن مواضعه، أو قرأوا كلامهم بأنغام وتراتيل؛ ليوهموا الناس بأنه من التوراة، وأن الكتاب جاء بذلك ليحسبه المسلمون حقًا وصدقًا، والواقع أنه ليس من كلام الله، ويقولون على الله الكذب، وهم يعلمون أنه مخترع مبدل محرف، ليس من عند الله، وإنما هو من عند الشيطان والهوى، وهذا ليس تلميحًا أو إيماءً، وإنما يصرحون بذلك لقسوة قلوبهم، وجرأتهم على الله.

      قال الله تعالى مبينًا هذا الموقف: ( ) [آل عمران: ٧٨]89.

      وهذا شأن كل متألهٍ منحرف عن الصراط المستقيم، ( ﮟﮠ ) [الزمر: ٣].

      فما يزعمه المتألهون من الهداية دعوى تحتاج إلى بينة وبرهان: ( ) [البقرة: ١١١، والنمل: ٦٤].

      فكم من كافر عتيد، جبار عنيد، يدعي الإيمان والهداية وهو رأس في الكفر والضلالة، كما أخبر الله عن اليهود والنصارى في قوله: ( ﭖﭗ ﭜﭝ ) [البقرة: ١٣٥].

      وقوله في وصف أهل الضلال: ( ) [الزخرف: ٣٧،].

      وقوله: ( ﯽﯾ ﯿ ) [الأعراف: ٣٠،].

      وعن فرعون في قوله: ( ) [غافر: ٢٩].

      وغرض فرعون بهذا القول: التدليس والتمويه على قومه، وأنه ما يريد إلا منفعتهم، مع أن الدافع الحقيقي لقوله هذا هو: التخلص من موسى عليه السلام ؛ حتى يخلو له الجو في تأليه نفسه على جهلة قومه، فإنهم كانوا كما قال تعالى في شأنهم: ( ﮡﮢ ) [الزخرف: ٥٤].

      وقد حذرنا ربنا هذا المسلك.

      قال تعالى: ( ) [الأنفال: ٢٧].

      فالخيانة تعني في مفهوم الإسلام والمسلمين: موالاة العدو وتوليه، وخيانة كل الفضائل والمبادئ التي جاء بها الإسلام، وطبيعي أن يعدل الناس الذين ابتعدوا عن مفهوم الإسلام عن استعمال التعبير القرآني في أقوالهم وأفعالهم؛ لأنهم يعلمون أن التعبير القرآني يشتمل على ما لا يريدون من مفاهيم تتنافى وسلوكهم العملي في واقع الحياة، ولذلك فهم يصفون موالاتهم للأعداء وتوليهم لهم، وخيانتهم لله ورسوله والمؤمنين، بأوصاف الصلاح والإصلاح، وهم في الحقيقة إنما يلبسون باطلهم ثوب الحق، وينفذون مؤامراتهم وخياناتهم مع أعداء الإسلام تحت هذه الأغطية الجوفاء، فقد قتلوا المسلمين الغيورين على دينهم باسم حفظ مصالح الأمة وأمنها، وهم أول البائعين لمصالح الأمة باسم التعاون المشترك والمصالح المشتركة، وباعوا بلاد المسلمين بمن فيها من المسلمين تحت شعار المصالح القومية للأمة العربية، إلى آخر ما حواه قاموس أولئك الخونة الأنذال من ألفاظ الدجل والتضليل، وهم بهذا النهج لم يأتوا بجديد، إنما هم يسيرون على طريق أسلافهم، من طواغيت الأرض ومجرميها، فهذا فرعون كما يذكر عنه القرآن الكريم قد سبق هؤلاء على هذا الأسلوب من التحريف والتزييف.

      قال تعالى: ( ﭗﭘ ) [غافر: ٢٦].

      فهل هناك أطرف من أن يقول فرعون الضال الوثني عن موسى رسول الله عليه السلام: ( ) [غافر: ٢٦]؟

      أليست هي بعينها كلمة كل طاغية مفسد عن كل داعية مصلح؟ أليست هي بعينها كلمة الباطل الكالح في وجه الحق الجميل؟ أليست هي بعينها كلمة الخداع والتضليل الماكر الخبيث؛ لإثارة دهماء الناس في وجه الحق وأهله، وعبر الزمان والمكان تتكرر كلما تقابل الحق مع الباطل، والإيمان مع الكفر90.

      ثم يقول الله عز وجل عن فرعون هذا في موضع آخر: ( ) [غافر: ٢٩] انظر كيف يتحدث فرعون عن نفسه حديث المخلص لقومه، الساعي لمصلحتهم، فيقول: إنني لا أقول لكم إلا ما أراه صوابًا، وأعتقده نافعًا، وهل يرى الطغاة أفعالهم إلا أنها الخير والرشاد؟ فالخير والرشاد في مفهوم أولئك المجرمين أن ينالوا شهواتهم وملذاتهم كاملة دون نقص، ولو فنيت الأمة كلها، أما لو كانوا يسعون في مصلحة الأمة كما يدعون لسمحوا للأمة أن تقول لهم: أنتم مخطئون، وأنتم غير صالحين للقيادة فتنحوا عنها، وأعطوا القوس باريها، ولكن الحاصل من الطغاة من فرعون الغابر إلى فراعنة العصر الحاضر أنهم لا يسمحون لأحد أن يرى رأيًا يخالف رأيهم، أو أن يقول كلامًا يخالف قصدهم، ولو لم يكونوا بهذا الوصف لما كانوا طغاة مستبدين، وفراعنة مجرمين91.

      ثانيًا: المنافقون وادعاؤهم الإصلاح:

      المنافقون يدعون الإصلاح، لكن الله تعالى حكم عليهم بالإفساد: ( ) [البقرة: ١١ - ١٢].

      فليس مصلحًا كل من ادعى الإصلاح، وليس مفسدًا كل من رمي بالفساد، بل يعرض ذلك على الكتاب والسنة حتى ينجلي الأمر، ويبين الحق للمؤمنين، وأما المستكبرون من الكفار والمنافقين، فإنهم لا يرضون عن الحق مهما بسط لهم من الأدلة والبراهين ( ) [يونس: ١٠١].

      وفي الآية الأخرى: ( ﯦﯧ ﯰﯱ ) [الأنعام: ٢٥].

      ومن قبل قال فرعون وملؤه لموسى عليه السلام : ( ) [الأعراف: ١٣٢]وانقلاب الموازين لا يضفي الشرعية على الباطل، ولا يقلبه إلى حق، ولا يجعل الفساد إصلاحًا، فالمنافقون يوالون الكافرين، ويكشفون عوارات المسلمين لهم يقولون: «إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب»92 ويقسمون أنهم مصلحون «فجمعوا بين العمل بالفساد في الأرض، وإظهار أنه ليس بإفساد، بل هو إصلاح، قلبًا للحقائق»93.

      وتركوا التحاكم إلى الله ورسوله، وراحوا يقسمون بالله أنهم ما فعلوا ذلك إلا إحسانًا وتوفيقًا ( ﭿ ) [النساء: ٦١ - ٦٢].

      والغريب أن كل الدعوات التي خرجت في واقعنا المعاصر ترتدي ثوب الإصلاح، وترفع كلمة المنافقين الأول، فالعبرة بالأفعال لا بالأقوال ( ) [آل عمران: ٣١].

      ونطقت نفوس مريضة بالإيمان فكذبت.

      قال تعالى: ( ) [البقرة:٨].

      صوروا إفسادهم بصورة الإصلاح لما في قلوبهم من المرض، كما في قوله تعالى: ( ) [فاطر: ٨].

      وقوله: ( ) [الأنعام: ٤٣].

      وقوله: ( ) [الكهف: ١٠٣ - ١٠٤]94.

      وبين الله أن الناصحين قد أمروهم بالمعروف بعد أن نهوهم عن المنكر، فقال: ( ) [البقرة: ١٣].

      ويذكرنا ذلك بقول فرعون لموسى عليه الصلاة والسلام: ( ﭗﭘ ) [غافر: ٢٦].

      أما عن نفسه فيقول: ( ) [غافر: ٢٩]. ففرعون يظن نفسه مصلحًا، وموسى عليه السلام مفسدًا. والله المستعان.

      ولقد علم المسلمون الحقائق الشرعية للإصلاح فعظمت قلوبهم منزلة القرآن والسنة، فما حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد حرمه الله، وما أحله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أحله الله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ عن ربه، ومظهر لأحكامه، وظل المسلمون على هذا الفهم قرونًا طويلة، وأزمانًا مديدة، فإذا ظهر من يخالفه ويعارضه لم يلبث إلا قليلًا حتى يعلم الحق، وينقاد له، أو يطويه الزمن، وتنقرض شبهته.

      وجاء العصر الحديث وقد ضعف المسلمون، وذهبت ريحهم، وضاعت هيبتهم، فبدأ أعداء الإسلام يثيرون الشبه، ويحيون ما قضى عليه علماء المسلمين من ضلالات؛ رغبةً منهم في تشكيك المسلمين بدينهم أولًا، ولينشغلوا بالرد على مخالفيهم ثانيًا، فلا يجدون فرصةً لنشر دينهم، وإيصال تعاليمه إلى العالم أجمع، كما أمرهم ربهم.

      وساعدهم على ذلك ضعف المسلمين المادي، وإحساسهم بالنقص تجاه أعدائهم، مع جهل كثيرٍ من المسلمين بدينهم، وتقاعس بعض العلماء والحكام عن القيام بدورهم في حماية الدين وحياطته، ودفع الشبهات عنه.

      وأخذ بعض المسلمين يردد شبهات المستشرقين بجهل حينًا، وبعلم حينًا، إما رغبة في المخالفة، وحرصًا على الشهرة التي تنشأ من مخالفة معتقدات الناس وثوابتهم، أو ادعاءً للحرية، ونبذًا لما تعارف عليه الناس، فأصبحوا أبواقًا للمستشرقين يلوكون ما مضغه غيرهم، وينشرون أفكارهم.

      فأصبح الإسلام يحارب في معسكرين، وأصبحت السنة في مواجهة خصمين:

      خصم خارجي قوي، يلبس لبوس العلماء، ويدعي الحياد، وهو لا يرقب في المسلمين إلًا ولا ذمة، يحرفون الكلم عن مواضعه، ويؤولون النصوص لتناسب ادعاءاتهم.

      وخصم داخلي يلبس لبوس الحرص على الإسلام وتنقيته، والدفاع عنه، ويحمل معاول الهدم، وأسلحة الطعن، ويوهم الآخرين أنها آلات بناء وتنوير وإصلاح.

      ولذلك عظم الخطب، وادلهم الأمر، واحتاج العلماء المحققون والأئمة المجتهدون أن يوضحوا من الحقائق ما كان ينبغي أن يكون أوضح من الشمس في رابعة النهار.

      فأظهروا أهمية تعظيم الشريعة وحجيتها، ومكانتها من الإسلام، وأنه لا يمكن الاستغناء عنها، وأن لها قواعد حاكمة، وضوابط مقررة لا ينبغي الغفلة عنها.

      والشبهات إنما تدخل على البعض بسببين:

      الأول: التأويل الفاسد لكلام الله تعالى ، والأحاديث الموضوعة التي شاعت وذاعت في أوساط المسلمين، فأفسدت أذواقهم، وهدمت ثوابت الإسلام في نفوسهم، واتخذها أعداء الإسلام مرتكزًا لشبهاتهم.

      الثاني: سوء فهم النصوص الصحيحة، وتفسيرها على غير ما يحتمله نصها.

      والتحديات والشبهات التي تواجه الشريعة بعضها قديم أحياه أعداؤها، وآخر حديث أفرزه ضعف المسلمين، وجهل كثير من أتباعه بحقائقه، وانسياقهم وراء أعداء الإسلام، وانخداعهم بهم، ومن الملاحظ أن هؤلاء -الذين ينخدعون من المسلمين ويرددون شبهات المستشرقين من أعداء الشريعة- إنما أوقعهم في الفخ الذي نصبه لهم هؤلاء أحد هذه الأمور غالبًا:

    1. إما جهلهم بحقائق التراث الإسلامي، وعدم اطلاعهم عليه من ينابيعه الصافية.
    2. وإما انخداعهم بالأسلوب العلمي المزعوم الذي يدعيه أعداء الإسلام.
    3. وإما رغبتهم في الشهرة والتظاهر بالتحرر الفكري من ربقة التقليد كما يدعونه.
    4. وإما وقوعهم تحت تأثير أهواء أو انحرافات فكرية، لا يجدون مجالًا للتعبير عنها إلا بالتستر وراء أولئك المستشرقين95.
    5. وإما إنه نتيجة طبيعية للانهزام النفسي، والإحساس بالنقص أمام الحضارة الغربية مع الخواء الروحي، والجهل الشرعي، فيجتمع من ذلك رغبة في تجديد الدين بحيث تتوافق تشريعاته وأحكامه مع الحضارة الغربية، والأفكار المعاصرة.

      والخلاصة: أنه إذا كان للإصلاح أهله ودعاته فإن له مدعين وأدعياء، ليسوا منه في العير ولا في النفير، ولا هو منهم في قليل ولا كثير، لكنهم مع ذلك ينتسبون إليه بالبنوة زورًا.

      والإصلاح عند هؤلاء الأدعياء له معانٍ أخرى لا علاقة لها به، فإذا كان الإصلاح بمعناه الشرعي الصحيح يعني: تطبيق مراد الله تعالى في الأرض، فإن الإصلاح عند الأدعياء: موافقة أهواء الأنفس، ومراد الطواغيت والكفار.

      فمن الأول؛ موافقة أهواء الأنفس: ما دل عليه قوله تعالى: ( ) [الفرقان: ٤٣].

      فإن من الناس من لا يرى الإصلاح إلا فيما يوافق هوى نفسه، فينصبها معبودًا له، ويجعل هواها هو الميزان الذي يتحاكم إليه في تمييز القبيح من الحسن، فما وافق هوى نفسه هو الصلاح والإصلاح، وما خالف هوى نفسه هو الفساد والإفساد، وصدق الله في وصفهم: ( ﭦﭧ ) [الجاثية: ٢٣].

      ومن الثاني؛ موافقة مراد الطواغيت: ما دل عليه قوله تعالى: ( ﮝﮞ ) [الأعراف: ١٢٧].

      فمفهوم الإصلاح عند قوم فرعون: موافقة مراد فرعون؛ ولذلك اعتبروا ما يدعو إليه نبي الله موسى عليه الصلاة السلام إفسادًا؛ لما رأوا في دعوته من المخالفة لدعوة فرعون ودينه، ومعلوم أن الطاغوت هو كل من نصب نفسه معبودًا من دون الله، ومعلوم أن فرعون قال لقومه: ( ) [النازعات: ٢٤].

      وقال لموسى: ( ) [الشعراء: ٢٩].

      فاستحق بذلك وصف (الطاغوت).

      ومن الثالث؛ موافقة مراد الكفار: ما حكاه الله تعالى عن المنافقين في قوله تعالى: ( ) [البقرة: ١٤].

      فتظاهروا بموافقة أهل الإيمان، وهم في واقع أمرهم يوافقون الكفار، ويرون أن موافقة الكفار على مرادهم هو عين الإصلاح؛ ولهذا ( ) [البقرة: ١١ - ١٢].

      وبناء على هذا يتضح جليًا أن مفهوم الإصلاح الذي تروج له وسائل الإعلام العلمانية يراد به الإصلاح بالمفهوم والمنظور الغربي، وبعبارة أخرى: «موافقة مراد الغرب»، وليس «موافقة مراد الرب».

      فتبرج المرأة عندهم إصلاح، والاختلاط بين الجنسين في المدارس ومقرات العمل إصلاح، والسماح للشواذ بممارسة شذوذهم إصلاح، وفي المقابل تطبيق شرع الله تعالى عندهم فساد ووحشية، وحجاب المرأة المسلمة فساد ورجعية، ومنع الخمور والزنى فساد وقمع للحرية، وأي حرية؟! إنها الحرية الغربية كما يراها الغرب.

      فأدعياء الإصلاح من المفسدين استعاروا أعين غيرهم، وعقول غيرهم، معطلين حواسهم وعقولهم، غافلين أو متغافلين عن كونهم ينتمون في الأصل إلى أمة ذات حضارة تليدة، ومرجعية أصيلة، فما أكثر أدعياء الإصلاح، وما أقل دعاته، فحسبنا أن نقول كما أمر الله نبينا أن يقول: ( ﭵﭶ ) [الملك: ٢٩].

      ولاينحصر الأدعياء بهؤلاء أو بغيرهم، بل مناوأة الحق سنة كونية مستمرة للابتلاء والاختبار، وفيهم يظهر الجهاد، كما قال تعالى: ( ) [الفرقان: ٥٠ - ٥٢].

      وقال سبحانه : (ﭿ ﮊﮋ ﮐﮑ ﮘﮙ ﮞﮟ ﮪﮫ ﮭﮮ ) [المائدة: ٤٨].

    الأسلوب القرآن في الدعوة إلى الإصلاح

    1. تنوعت أساليب القرآن في الدعوة إلى الإصلاح، وسوف نتناولها بالبيان فيما يأتي:

      أولًا: أسلوب الأمر:

      ١. أمر الله سبحانه وتعالى بالإصلاح بين المسلمين، ورتب الرحمة في الدنيا والآخرة على ذلك.

      قال تعالى: ( ﯡﯢ ) [الحجرات: ١٠].

      «خافوا الله أيها الناس بأداء فرائضه عليكم في الإصلاح بين المقتتلين من أهل الإيمان بالعدل، وفي غير ذلك من فرائضه، واجتناب معاصيه؛ ليرحمكم ربكم، فيصفح لكم عن سالف إجرامكم إذا أنتم أطعتموه، واتبعتم أمره ونهيه، واتقيتموه بطاعته»96.

      «وإذا حصلت الرحمة حصل خير الدنيا والآخرة، ودل ذلك على أن عدم القيام بحقوق المؤمنين من أعظم حواجب الرحمة»97.

      ومن الرحمة: «أن لا يتصدع بنيانكم، ولا تتشتت أمتكم، وتصبح جماعات وطوائف متعادية، يقتل بعضها بعضًا؛ ولما لم يتق المؤمنون الله في الإصلاح الفوري بين الطوائف الإسلامية المتنازعة حصل من الفساد والشر ما الله به عليم في الغرب الإسلامي والشرق»98.

      وأيضًا من معاني الرحمة في الدنيا والآخرة «أن تجري أحوالكم على استقامة وصلاح، وإنما اختيرت الرحمة لأن الأمر بالتقوى واقع إثر تقرير حقيقة الأخوة بين المؤمنين، وشأن تعامل الإخوة الرحمة، فيكون الجزاء عليها من جنسها»99.

      ٢. أمر الله بالإصلاح بين المسلمين وجعله شرط الإيمان.

      قال تعالى: ( ﭓﭔ ﭘﭙ ﭞﭟ ) [الأنفال: ١].

      «أي: أحوال بينكم، يعني: ما بينكم من الأحوال، ألفة ومحبة واتفاق»100. «وتوسيط الأمر بإصلاح ذات البين بين الأمر بالتقوى والأمر بالطاعة لإظهار كمال العناية بالإصلاح، بحسب المقام؛ وليندرج الأمر به بعينه تحت الأمر بالطاعة»101.

      ٣. أمر الله تعالى بالقول الحسن المعروف السديد.

      قال تعالى: ( ﯛﯜ ) [البقرة: ٢٦٣].

      فالإصلاح بين الناس من القول المعروف.

      قال الضحاك: «نزلت في إصلاح ذات البين»102.

      وقال تعالى: ( ) [الأحزاب: ٧٠].

      ومن معاني القول السديد: «الإصلاح بين المتشاجرين»103.

      ٤. أمر الله تعالى بالعفو والصفح، وحث عليه.

      والعفو والمسامحة من أوسع أبواب الإصلاح.

      قال تعالى آمرًا بالعفو الصفح: ( ) [البقرة: ١٠٩].

      وقال: ( ﮉﮊ ﮐﮑ ) [النور: ٢٢].

      وقال: ( ﭧﭨ ) [آل عمران: ١٣٤].

      قال تعالى: ( ﮯﮰ ﯗﯘ ) [الشورى: ٣٩ - ٤٠].

      وقال: ( ) [التغابن: ١٤].

      والآيات التي تحث على ذلك كثيرة ومشهورة.

      ٥. أمر الله تعالى بالإصلاح من خلال الدخول في السلم وعدم المخاصمة.

      قال تعالى: ( ﯘﯙ ) [البقرة: ٢٠٨].

      ( ) أي: الإيمان الذي هو ملزم لسهولة الانقياد إلى كل خير، وهو في الأصل بالفتح، والكسر: الموادعة في الظاهر بالقول والفعل، أي: يا من آمن بلسانه -كهذا الألد- ليكن الإيمان أو الاستسلام بكلية الباطن والظاهر؛ ظرفًا محيطٌ بكم من جميع الجوانب، فيحيط بالقلب والقالب -كما أحاط باللسان- ولا يكون لغرامة الجهل وجلافة الكفر إليكم سبيل ()، أي: وليكن جميعكم في ذلك شرعًا واحدًا سواءً، كهذا الذي يشري نفسه، ولا تنقسموا فيكون بعضكم هكذا وبعضكم كذلك الألد؛ فإن ذلك دليل الكذب في دعوى الإيمان.

      ولما كان الإباء والعناد الذي يحمل عليه الأنفة والكبر فعل الشيطان، وثمرة كونه من نار.

      قال: ( ) أي: تكلفوا أنفسكم من أمر الضلال ضد ما فطرها الله تعالى عليه، وسهله لها من الهدى ( ) أي: طرق المبعد المحترق في الكبر عن الحق.

      قال الحرالي: فيه إشعار وإنذار بما وقع في هذه الأمة، وهو واقع، وسيقع من خروجهم من السلم إلى الاحتراب بوقوع الفتنة في الألسنة والأسنة على أمر الدنيا، وعودهم إلى أمور جاهليتهم؛ لأن الدنيا أقطاع الشيطان، كما أن الآخرة خلاصة الرحمن، فكان ابتداء الفتنة منذ كسر الباب الموصد على السلم، وهو عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، «فلم يزل الهرج ولا يزال إلى أن تضع الحرب أوزارها»104.

      ثانيًا: الثناء على المصلحين:

      ١. أن الله سبحانه وتعالى رتب الأجر العظيم على الإصلاح بين الناس.

      قال تعالى: ( ﭡﭢ ) [النساء: ١١٤].

      أي: لا خير في كثير من المتناجين من الناس إلا فيمن أمر بصدقة، أو معروف أو إصلاح بين الناس، فإن أولئك فيهم الخير105.

      «وخص الله سبحانه الصدقة والإصلاح بين الناس بالذكر من بين ما شمله هذا العام إيذانًا بالاعتناء بهما لما في الأول: من بذل المال الذي هو شقيق الروح، وما في الثاني: من إزالة فساد ذات البين، وهي الحالقة للدين كما في الخبر»106.

      وعن أبي ثابت قال: «كنت جالسًا عند محمد بن كعب القرظي فأتاه رجل، فقال له القوم: أين كنت؟ فقال: أصلحت بين قوم، فقال محمد بن كعب: أصبت، لك من أجر المجاهدين، ثم قرأ: ( ﭡﭢ ) [النساء: ١١٤]»107.

      قال الأوزاعي: «ما خطوة أحب إلى الله عز وجل من خطوة في إصلاح ذات البين، ومن أصلح بين اثنين كتب الله له براءة من النار»108.

      ٢. حث الله تعالى على الشفاعة الحسنة، وأنها من الإصلاح الذي يؤدي للخير.

      قال تعالى: ( ﯭﯮ ﯶﯷ ) [النساء: ٨٥].

      قال ابن عباس رضي الله عنهما: «الشفاعة الحسنة هي الإصلاح بين الناس، والشفاعة السيئة هي المشي بالنميمة بين الناس»109.

      قال القرطبي رحمه الله: «فمن شفع شفاعة حسنة ليصلح بين اثنين استوجب الأجر، ومن سعى بالنميمة والغيبة أثم»110.

      ثالثًا: العرض القصصي:

      نماذج قرآنية موجزة في الإصلاح:

      ١. درس من القرآن في قصة ابني آدم.

      قال الله تعالى: ( ﮖﮗ ﮩﮪ ﯛﯜ ﯵﯶ ﯿ ﰁﰂ ) [المائدة: ٢٧ - ٣١].

      يمكننا استخلاص بعض الفوائد من مشهد الخصومة بين فردين أخوين، ومنها:

    1. المسلم رباني حتى في خصومته، يحرص على مرضاة الله، ورضوان الله لا يتحقق بمخالفة أمره، أو بالتمادي في الخصومة أو بتطويرها إلى حالة فجور، وظلم وبغي على الآخرين.
    2. عدم مقابلة السيئة بالسيئة: ( ﮩﮪ ﮭ ﮮ ).
    3. تذكير المخطئ بالله، وعدم الإفساد، والبعد عن الخصومة: ( ﯛﯜ ).
    4. عند إظهار الخصومة، قال تعالى: ( ﮎﮏ ) [فصلت: ٣٤].
    5. إذا كانت خصومة ابني آدم قد انتهت بمقتل الطرف الطيب التقـي، فالتشريع ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم أوجد فقهًا وطريقـةً، وأسلوبًا للتصدي لفجار الخصومات، ومنه قوله تعالى: ( ﮟﮠ ﮭﮮ ﯕﯖ ) [الحجرات: ٩].

      ٢. قصة موسى والقبطي الذي أراد موسى أن يقتله.

      قال تعالى: ( ﭗﭘ ﭭﭮ ﭺﭻ ﭿ ﮀﮁ ﮏﮐ ﮩﮪ ﯤﯥ ) [القصص: ١٤ - ١٩].

      فوائد للإصلاح في القصة:

    1. أغاث موسى عليه السلام الذي من شيعته؛ لأن نصرة المظلوم دين في الملل كلها، وفرض في جميع الشرائع111، فهو الإصلاح بنصرة المظلوم على الظالم، وإرجاع حقه له، وإن لم يفعل ذلك لانتشر الظلم والفساد الذي يؤدي إلى فساد علاقة الناس ببعضهم.
    2. وكز موسى عليه السلام للمعتدي كان للزجر؛ ولذلك قال: ( ﭿ ﮀﮁ ).
    3. «أن من قتل النفوس بغير حق، وزعم أنه يريد الإصلاح في الأرض، فإنه كاذب في ذلك، وهو مفسد كما حكى الله قول القبطي: ( )»112. فعلى المصلح أن يدفع الخلاف والقتال بالتي هي أحسن: ( ) [القصص ١٩]. أي: «فتدفع التخاصم بالتي هي أحسن»113.
    4. وأن يكون متصفًا بكظم الغيظ، كما قال: ( ) [القصص: ١٩]. «وما تريد أن تكون من المصلحين في كظم الغيظ»114، ولقد كظم موسى عليه السلام غيظه ولم يقتله.
    5. ويجب على المصلح أن يسعى بالصلح بين الخصمين بالتراضي بينهما. قال ابن عاشور: ( ) [القصص: ١٩]. أي: «إنك تحاول أن تكون متصرفًا بالانتقام وبالشدة، ولا تحاول أن تكون من المصلحين بين الخصمين بأن تسعى في التراضي بينهما»115.
    6. أن إخبار الرجل غيره بما قيل فيه، على وجه التحذير له من شر يقع فيه، لا يكون ذلك نميمة -بل قد يكون واجبًا- كما أخبر ذلك الرجل لموسى عليه السلام ناصحًا له ومحذرًا.
    7. أنه إذا خاف القتل والتلف في الإقامة، فإنه لا يلقي بيده إلى التهلكة، ولا يستسلم لذلك، كما فعل موسى عليه السلام.
    8. وفعله عليه السلام ودعاؤه يفيد أن النعم تقتضي فعل الخير، وترك الشر والإفساد116.
    9. على المصلح أن يكون حياديًا في الإصلاح، وفي الحديث مع المختصمين، فلما استغاثه الذي من شيعته مرة أخرى علم أنه رجل كثير المخاصمة، فقال له: ( ) [القصص: ١٨].
    10. أن يتقبل المصلح الوعظ والتذكير من أي أحد إذا كان فيهما خير للناس والمجتمع. قال تعالى عن القبطي: ( ) [القصص: ١٩].
    11. يجب حفظ المصلح من أن يمسه أذى. قال تعالى: ( ﯿ ) [القصص: ٢٠].

      ٣. موقف موسى مع أخيه هارون عليهما السلام.

      قال تعالى: ( ) [الأعراف: ١٤٢].

      ولكن القوم غيروا: ( ﯖﯗ ﯟﯠ ﭜﭝ ﭠﭡ ﭨﭩ ﭿ ﮃﮄ ) [الأعراف: ١٤٨ - ١٥١].

      الفوائد الإصلاحية عند اختلاف الآراء من القصة:

    1. أن يعلم خلفيات الموضوع: ( ﮐﮑ ) [طه: ٩٢ - ٩٣]. ألم أقل لك بقولي: ( ) [الأعراف: ١٤٢].
    2. أن ينبه خصمه على كف أذاه، وعدم الاستعجال عليه؛ ليبين حجته: ( ) [طه: ٩٤].
    3. ترقيق الكلام والتأدب مع المخالف: ( )، «فهذا ترقيق لأخيه، بذكر الأم وحدها، وإلا فهو شقيقه لأمه وأبيه»117.
    4. بيان وجهة النظر بوضوح: ( ) [الأعراف: ١٥٠]. و: ( ) [طه: ٩٤].
    5. تذكير الأخوة بما يفرح الأعداء: ( ) [الأعراف: ١٥٠]. «بنهرك لي، ومسك إياي»118.
    6. التنبيه على الفرق في المعاملة: ( ) [الأعراف: ١٥٠]. «فتعاملني معاملتهم»119.
    7. دعاء الأخوة المختلفين لبعضهم: ( ﭿ ) [الأعراف: ١٥١].

      ٤. قصة داود مع الخصمين.

      قال تعالى: ( ﭿ ﮂﮃ ﮆﮇ ﮭﮮ ﯟﯠ ﯮﯯ ﯿ ﰇﰈ ) [ص: ٢١ - ٢٦].

      أرسل الله سبحانه وتعالى لنبيه داود عليه السلام ملكين للامتحان، فدخلا عليه من غير باب المحراب، ففزع منهم نبي الله داود عليه السلام؛ لدخولهما عليه من غير الباب120 والوقت121.

      وقد ذكر المفسرون فوائد في قضية الإصلاح عند تفسيرهم الآية، منها:

    1. أن المنصوح وإن كان كبير القدر جليل العلم لا يغضب ولا يشمئز، بل يبادر بالقبول والشكر والعدل.
    2. استعمال الأدب في الدخول على الحكام وغيرهم، وأن لا يمنع الحاكم من الحكم بالحق سوء أدب الخصم، فعليه أن يلتزم ضبط النفس، ويتغاضى، ويلتزم الحلم والعفو، ويحكم بالعدل.
    3. نص الله تعالى على الأخوة، فإن المخالطة بين الأقارب والأصحاب، وكثرة المتعلقات الدنيوية والمالية موجبة للتعدي بينهم، وبغي بعضهم على بعض، وأنه لا يرد عن ذلك إلا استعمال تقوى الله، والصبر على الأمور بالإيمان والعمل الصالح122.
    4. على المصلح أن يتروى في الحكم قبل إصداره، ولا ينفعل فيه تحت تأثير قوة كلام خصمٍ ما، وألا يأخذ بظاهر قول واحد، قبل أن يمنح الآخر فرصة للإدلاء بقوله وحجته123.
    5. «وصية من الله عز وجل لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق، ولا يعدلوا عنه فيضلوا»124، «ولا يتم العدل إلا بعلمٍ بالواجب، وعلمٍ بالواقع، وقدرةٍ على تنفيذ الحق»125.
    6. «يحدد التوجيه المقصود من الله لعبده الذي ولاه القضاء والحكم بين الناس، فهي الخلافة في الأرض، والحكم بين الناس بالحق، وعدم اتباع الهوى، والتزام التريث والتثبت والتبين»126.

      ٥. نموذج قصة المجادلة.

      هذا النموذج يقص علينا الحق سبحانه وتعالى أحداث خلاف حياتي أسري بين زوجين مسلمين، فأنزل الله سبحانه وتعالى الحكم قرآنًا يتلى إلى يوم القيامة؛ ليبقى الحل الشامل الكامل خالدًا.

      قال تعالى: ( ﭞﭟ ﭬﭭ ﭲﭳ ﭹﭺ ﭿ ﮍﮎ ﮑﮒ ﮡﮢ ﮨﮩ ﮭﮮ ﮱﯓ ) [المجادلة: ١ - ٤].

      وقد جاءت بتفصيلاتها في السنة127.

      فمن الفوائد الإصلاحية في قصة المجادلة 128:

    1. الاهتمام بالحياة الزوجية: فالتربية القرآنية الربانية والمتحصلة من قراءة وتدبر القرآن تقوم بدور عظيم يحافظ على كيان الأسرة والعلاقات الزوجية بالإصلاح والتربية والصبر والاستقرار.
    2. بيان المشكلة وسببها بوضوح: ذكرت رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم سبب هذه المشكلة، وهي أنها راجعت زوجها أوس بن الصامت في شيء مما أثار غضبه.
    3. القدرة على استيعاب المشكلة الزوجية وإدارتها: فخولة رضي الله عنها لم تتفوه بكلمة تغضب الله ورسوله، بل سألت عن أفضل الحلول التي تتفق مع ظروفها، وظروف بيتها وزوجها، وهذا يؤكد على المسؤولية في استيعاب الخلاف العائلي بحكمة خاصة.
    4. الورع والخوف من الله تعالى: كان موقف خولة رضي الله عنها عظيمًا وفريدًا، فأحداث تلك الواقعة، والملابسات الداخلية التي حدثت بين زوجين داخل بيتهما، ميزت سلوكها الراقي الورع الذي استوعب أخطاء الزوج من أجل عدم الوقوع فيما يغضب الله عز وجل، وفهمت الهدف العظيم الذي يرنو إليه أي زوجين، وهو: حماية كيان الأسرة، من غير إضاعة عبادة الله.
    5. الفقه للمرجعية في الإصلاح: جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلمه، ومن في ناحية البيت لا يسمع ما تقول، فأنزل الله عز وجل: ( ) [المجادلة: ١].
    6. صفات المصلح: إن تصرفه صلى الله عليه وسلم مع خولة ومشكلتها يضع أمامنا الضوابط المطلوب توفرها في كل مصلح، فمن تلك الصفات: اهتمام المصلح بالموضوع وصاحبه، التواضع، الحيادية، والتروي، والعدل، والرفق بالرعية.
    7. إرادتها الصلح، وهذا يتضح من خلال سعيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تريد منه الحل في المشكلة.

    أثر الإصلاح في الفرد والمجتمع

    1. بين الوحي الإلهي أثر الإصلاح على الفرد والمجتمع، ومن تلك الآثار ما يأتي:

    1. مدافعة الشر عن الناس ببعضهم.

      قال تعالى: ( ) [البقرة: ٢٥١].

      فبين الله تعالى أن من فضله ورحمته أنه يدفع الشر عن الناس ببعضهم، ولا شك أن الفرقة والخلاف شر بين المسلمين، فإذا لم تدفع ببعض جهود بعضهم ظهر الفساد في الأرض.

    2. الالتئام وعدم التفرق والتمزق.

      قال تعالى: ( ﭶﭷ ﭿ ) [آل عمران: ١٠٣].

      وجه الشاهد: «لما عاب سبحانه وتعالى الكفار بالضلال ثم بالإضلال، أمر المؤمنين بالهدى في أنفسهم، وأتبعه الأمر بالاجتماع، وكان الأمر بالاجتماع المؤكد بالنهي عن التفرق، ربما أفهم الوجوب لتفرد الجميع في كل جزئية من جزئيات العبادة في كل وقت على سبيل الاجتماع، مع الإعراض عن كل عائق عن ذلك سواء كان وسيلة أو لا، بالنسبة إلى كل فرد فرد؛ أتبعه بقوله: ( ) [آل عمران: ١٠٤].

      أي: جماعة تصلح لأن يقصدها غيرها، ويكون بعضها قاصدًا بعضًا، حتى تكون أشد شيء ائتلافًا واجتماعًا في كل وقت من الأوقات»129.

    3. قوة هيبتهم وعدم فشلهم وذهاب هيبتهم.

      فقال تعالى: ( ﭘﭙ ﭚﭛ ) [الأنفال: ٤٦].

      وهل أخر المسلمين اليوم في هذه الأوقات إلا تفرقهم والتعادي بينهم وخورهم، وتقاعدهم عن مصالحهم والقيام بشؤونهم، حتى صاروا عالةً على غيرهم.

    4. أن الإصلاح يغيظ الكفار والمنافقين.

      إن أهل الشر يحاولون أن يوقعوا المسلمين في التهلكة بإيجاد الفتنة والإفساد بينهم.

      قال تعالى: ( ﯧﯨ ) [التوبة: ٤٧].

      أي: «بخروجهم معكم لن يزيدوكم ( ) إلا فسادًا وشرًا ( ) ولسعوا بينكم بالتضريب والنمائم، وإفساد ذات البين»130.

      وقال تعالى في آية أخرى: ( ﮊﮋ ) [البقرة: ٢٠٥].

      «فنبه تعالى على كثرة فساده بقوله: ( )، أي: كلها بفعله وقوله: ()، أي: ليوقع الفساد، وهو: اسم لجميع المعاصي () أي: في الأرض، في ذات البين لأجل الإهلاك، والناس أسرع شيء إليه، فيصير له مشاركون في أفعال الفساد»131.

      وقال تعالى حكاية عن أهل النار: ( ) [ص: ٦٢].

      الأشرار أي: «الأراذل الذين لا خير فيهم؛ بأنهم قد قطعوا الرحم، وفرقوا بين العشيرة، وأفسدوا ذات البين»132.

      ولما يحصل في الخصومات والمشادات من الأضرار العظيمة من سفك الدماء، وذهاب الحقوق، وتجشم العداوات، والإساءة والإيذاء.

      فكل ما سبق من الأدلة دافع إلى الحرص على الصلح بين الناس، وحل المشاكل المتأزمة بينهم، فعلى كل مسلم أن يكون رجلًا مجاهدًا حريصًا على أمته من التشتت والضياع، فيسعى بالصلح بين كل من تحصل بينه وبين أخيه شحناء إذا وجد نار الغضب تتأجج بالخلافات والمنازعات فيما بينهما، فليحاول التدخل بالصلح؛ ليكون حكمًا عدلًا مصلحًا بأقواله، وباذلًا في ذلك ما يستطيعه من جاهٍ، أو فعلٍ أو مالٍ إذا تطلب الأمر ذلك؛ حتى يطفئ تلك النار الملتهبة، أو المشاكل المعقدة، ويحل بدلها الصلح والسلام والوئام، ولا يقول هذا لا يعنيني! فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أخبر بأن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة.

      قال: (اذهبوا بنا نصلح بينهم)133.

      وعلى كل مسلم أن يكون مشاركًا فاعلًا في هذه الحياة بنفع إخوانه، مسابقًا في ميادين الإصلاح والعمل المثمر، مسارعًا إلى ما يؤلف القلوب، ويرفع مستوى أمته، فيسمو بين الورى بحسن الثناء، ويسعد في آخرته عند الله.

      قال تعالى: ( ) [التوبة: ١٢٠].

      فكم علاقة بين إخوة في الله كادت أن تتمزق، وكاد أن يقع القتال بسبب خلاف سهل، فإذا بهذا المصلح بكلمة طيبة، ونصيحة غالية، ومال مبذول، يعيد المياه إلى مجاريها، والحياة إلى طبيعتها.

    5. دفع حركة الدعوة إلى الله تعالى وقوتها.

      فالدعوة إلى الله تحتاج إلى جهد كل مسلم آمن بالله ربًا لكي يتم الله هذا الأمر، وإذا حصل خلافٌ أو خصومة بين أفراد المجتمع -وهم جزءٌ من المجتمع- يتأثر المجتمع بما يحصل بينهم من خير أو شر، وصرفت طاقات وأفكار وأموال وأوقات في هذا الخلاف، ثم مثلها وأكثر منها لكي يعوض هذا الخلل، ويرأب الصدع، وأقل ضرره تعطيل سير الدعوة إلى الله والإنتاجية النافعة إلى أن يصطلحا.

      ولذا فالإصلاح بين الناس واجب إذا تنازعوا، وواجب لابد منه لتستقيم الحياة، فقد قال الله تعالى آمرًا بالإصلاح: ( ﯡﯢ ) [الحجرات: ١٠].

      موضوعات ذات صلة:

      التغيير، الصلاح، الفساد


1 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٣/٣٠٣، المحكم، ابن سيده ٣/١٥٢.

2 انظر: العين، الفراهيدي ٣/١١٧، لسان العرب، ابن منظور ٢/٥١٧، تاج العروس، الزبيدي ٦/٥٤٨.

3 انظر: الأضداد، الأنباري ص٧٥، الأخلاق الإسلامية، الميداني ٢/٢٣٠.

4 الفقه على المذاهب الأربعة، الجزيري ٥/٢٣٩.

5 القاموس الفقهي، سعدي أبو جيب ص٢١٥.

6 انظر: المعجم المفهرس الشامل، عبد الله جلغوم، ص٦٩٩-٧٠٣.

7 انظر: الوجوه والنظائر في القرآن العظيم، مقاتل بن سليمان، ص٩٥-٩٦، الوجوه والنظائر، الدامغاني، ص٢٩٩-٣٠٠، نزهة الأعين النواظر، ابن الجوزي، ص٣٩٧-٣٩٨، لسان العرب، ابن منظور ٦/٥.

8 انظر: تاج العروس، الزبيدي ٦/٥٤٨.

9 انظر: أنيس الفقهاء، القونوي ص٩١.

10 انظر: لسان العرب، ابن منظور ٤/٢٤٧٩.

11 انظر: الفرق اللغوية، العسكري ص٣١٧.

12 انظر: تهذيب اللغة، الأزهري ٢/١٣.

13 انظر: الكليات، الكفوي ١/١٥٤.

14 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب لا يعذب بعذاب الله ٢/٢٥١، رقم٢٨٥٤.

15 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الديات، باب قول الله تعالى: (أن النفس بالنفس)، رقم ٦٨٧٨، ومسلم في كتاب القسامة، باب ما يباح به دم المسلم، رقم ١٦٧٦.

16 أخرجه أحمد في المسند ٢٥/٤٠٥، رقم ١٦٠٢٣، وابن خزيمة في صحيحه، ١/٨٢، رقم ١٥٩.

وصححه الألباني في الإرواء رقم ٨٣٤.

17 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب تأليف القرآن رقم ٤٧٠٧.

18 أخرجه البخاري كتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله،تبارك وتعالى، رقم ٧٣٧٣، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا، رقم ٣٠.

19 أخرجه أحمد في المسند، ٤١/١٤٨، رقم ٢٤٦٠١.

وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم ٤٨١١.

20 أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض، رقم ٧٤٦.

21 أخرجه أحمد في المسند، ١٤/٥١٢، رقم ٨٦٥٢.

وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم ٤٥.

22 زهرة التفاسير، أبو زهرة، ٢/١٠٦٧.

23 الوسيط، الزحيلي ٢/٩٨٣.

24 فتاوى عبد الحليم محمود ص١٣٢٩.

25 طبائع الاستبداد، الكواكبي ص١٠٦.

26 فتح الباري ٥/٣٥١.

27 الشرح الكبير ١٣/١٢٣.

28 جامع البيان، الطبري ٦/٦٩٨.

29 انظر: تفسير ابن أبي حاتم ٣/٩٤٢٥.

30 انظر: المصدر السابق.

31 جامع البيان، الطبري ٦/٦٩٨.

32 المصدر السابق ٦/٧٠٠.

33 انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب ٢/٦٥٤.

34 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب النكاح، باب حق المرأة على زوجها، رقم ٢١٤٢، وابن ماجه في سننه، كتاب النكاح، باب حق المرأة على الزوج، رقم ١٨٥٠.

وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، رقم ١٨٧٦، والسلسلة الصحيحة، رقم ٦٨٧.

35 فتح الباري ٩/١١٢.

36 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب حج النبي صلى الله عليه وسلم، رقم ١٢١٨.

37 أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الرضاع، باب ما جاء في حق المرأة على زوجها، رقم ١١٦٣.

وصححه الألباني في الإرواء ٧/٩٦.

38 انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب ٢/٦٥٤-٦٥٥.

39 سبق تخريجه.

40 تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص ١٧٧.

41 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٥/١٧٥.

42 تيسر الكريم الرحمن، السعدي، ص ١٧٧.

43 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلح، باب قول الله تعالى: ( ) ، رقم ٢٦٩٤.

44 أخرجه الترمذي في سننه، كتاب تفسير القرآن، باب سورة النساء، رقم ٣٠٤٠.

وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، رقم ٢٤٣٤.

45 انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب ٢/٧٦٩-٧٧٠.

46 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٢/٤٣٠.

47 المصدر السابق.

48 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الطلاق، باب الخلع، رقم ٢٢٢٦.

وصححه الألباني في صحيح أبي داود، رقم ١٩٤٧.

49 انظر: فتح الباري، ابن حجر ٩/٣٠٧.

50 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الطلاق، باب الخلع وكيف الطلاق فيه، رقم ٥٢٧٣.

51 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص ٢٠٧.

52 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء، رقم ٢١٣٣، والترمذي في سننه، كتاب النكاح، باب في التسوية بين الضرائر، رقم ١١٤١، وابن ماجه في كتاب النكاح، باب القسمة بين النساء، رقم ١٩٦٩ .

وصححه الألباني في تعليقه على مشكاة المصابيح، رقم ٣٦٢٦.

53 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء، رقم ٢١٣٤، والترمذي في كتاب النكاح، باب في التسوية بين الضرائر رقم ١١٤٠، وابن ماجه في كتاب النكاح، باب القسمة بين النساء، رقم ١٩٦٩.

وصححه الألباني في تعليقه على مشكاة المصابيح، رقم ٣٢٣٥.

54 أخرجه النسائي في الكبرى، كتاب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، باب ذكر ما كان يعالج به النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه، ٦/٣٨٣، رقم ٧٠٤٦، وابن ماجه في سننه، كتاب الجنائر، باب جاء في ذكر مرض رسول الله، رقم ١٦١٨.

وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، رقم ١٣١١.

55 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٤/ ١١٨.

56 انظر تفاصيل مسائل الظهار في: المغني، ابن قدامة، ١١/٥٤-١١٩، بدائع الصنائع، الكاساني، ٨/٢٤-٣٩، فقه السنة، سيد سابق، ٢/٤٥٢-٤٥٦.

57 الملخص الفقهي، الفوزان، ٢/٣٢٢.

58 انظر: التعريفات، الجرجاني ص٤١.

59 فقه السنة، سيد سابق ٢/ ١٣٣.

60 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطلاق، باب بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاق إلا بالنية، رقم ١٤٧٨.

61 فتح الباري ٩/٢٨١ .

62 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٥/٢١٩.

63 معالم التنزيل، البغوي ٢/١٨٦، لباب التأويل، الخازن ١/٤٩٩.

64 معالم التنزيل، البغوي ٢/١٨٦، الجامع لأحكام القرآن ٥/٩٧.

65 انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب ٦/٣٥٩٩.

66 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٣/١٣٧.

67 انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب ٢/٦٤٩ .

68 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم وذريته، رقم ٣٣٣١، ومسلم في صحيحه، كتاب الرضاع، باب الوصية بالنساء، رقم ١٤٦٨.

69 أخرجه الترمذي في سننه، كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل الرمي في سبيل الله، رقم ١٦٣٧.

قال الترمذي: «حديث حسن صحيح» .

وضعفه الألباني في ضعيف الترمذي، رقم ٢٧٧، وضعيف ابن ماجه، رقم ٢٢٦٧.

70 انظر: دليل المرأة المسلمة، علي الغامدي ص١٤٤-١٤٥.

71 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٦/ ٣٣٧.

72 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٤٥٦.

73 أخرجه أحمد في مسنده، ١٣/١٦٨، رقم ٧٧٤٢، وابن ماجه في سننه، كتاب الوصايا، باب الحيف في الوصية، رقم ٢٧٠٤.

وضعفه الألباني في ضعيف ابن ماجه، رقم ٥٩١.

74 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ١/٥٨٢.

75 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٢/٢٧٠.

76 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٢/٣٢٦.

77 البحر المحيط، أبو حيان ٢/٢٣.

78 المصدر السابق ٢/٢٤.

79 المصدر السابق ٢/٢٥.

80 المصدر السابق ٢/١٦١.

81 الوجيز، الواحدي ص١٦٦.

82 انظر: جامع البيان، الطبري ٣/٤٠٣-٤٠٤.

83 انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب ١/٢٣٢.

84 أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره ٢/١٠٨، رقم ٢١٣٠.

85 في ظلال القرآن، سيد قطب ١/٢٣٢.

86 روح المعاني، الألوسي ٢/٥٦.

87 في ظلال القرآن، سيد قطب ١/٢٣٢.

88 المصدر السابق.

89 الوسيط، الزحيلي ١/٢٠٦.

90 انظر: في ظلال القرآن سيد قطب ٢٤/ ١٧٨.

91 انظر: المصدر السابق ٢٤/١٨٠.

92 انظر: جامع البيان، الطبري ١/٢٩٩.

93 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٤٣.

94 انظر: تفسير الراغب الأصفهاني ١/ ١٠٠.

95 انظر: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، مصطفى السباعي ص٤- ٥.

96 جامع البيان، الطبري ٢٢/٢٩٧.

97 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٨٠١.

98 أيسر التفاسير، الجزائري ٤/٢٩٤.

99 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٦/٢٤٥.

100 تحفة الأحوذي، المباركفوري ٧/١٧٩.

101 إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٤/٣.

102 معالم التنزيل، البغوي ١/٣٢٦.

103 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٤/٢٥٣.

104 انظر: نظم الدرر، البقاعي ١/٣١٠ .

105 انظر: جامع البيان، الطبري ٧/٤٨١-٤٨٢.

106 روح المعاني، الألوسي ٥/١٤٤-١٤٥.

107 أخرجه ابن أبي الدنيا في مداراة الناس، باب الإصلاح بين الناس رقم ١٥١، ص١٢٠.

108 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٥/٣٨٥.

109 انظر: معالم التنزيل، البغوي ٢/٢٥٦.

110 الجامع لأحكام القرآن ٥/٢٩٥.

111 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٣/٣٦٠.

112 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٦١٨.

113 أنوار التنزيل، البيضاوي ١/٢٨٧.

114 انظر: مدارك التنزيل، النسفي ٣/٢٣١.

115 التحرير والتنوير ٢٠/٩٤.

116 تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص ٦١٨.

117 المصدر السابق، ص ٣٠٣.

118 المصدر السابق، ص ٣٠٣.

119 المصدر السابق، ص ٣٠٤.

120 انظر: جامع البيان، الطبري ٢٠/٥٣-٥٤.

121 قال الشيخ السعدي: «وهذا الذنب الذي صدر من داود عليه السلام لم يذكره الله تعالى، لعدم الحاجة إلى ذكره، فالتعرض له من باب التكلف، وإنما الفائدة ما قصه الله علينا من لطفه به وتوبته وإنابته، فكان بعد التوبة أحسن منه قبلها».

انظر: تيسير الكريم الرحمن، ص ٧١٢.

122 انظر: تيسير الكريم الرحمن، ص ٧١١- ٧١٣.

123 انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب، ٥/٣٠١٨.

124 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٧/٦٣.

125 تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص ٧١٢.

126 انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب ٥/٣٠١٨.

127 أخرجها أحمد في المسند، ٦/٤١٠، رقم ٢٧٣٦، وأبو داود في سننه، كتاب الطلاق، باب الظهار، رقم ٢٢١٤، ٢٢١٥.

وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، رقم ٢٢١٤.

128 انظر: بحث قيم حول قصة المجادلة، كتبه الدكتور حمدي شعيب، مجلة البيان، عدد ٢٠٦، شوال سنة ١٤٢٥هـ.

129 نظم الدرر، البقاعي ٢/٩٤.

130 مدارك التنزيل، النسفي ١/٤٤٧.

131 نظم الدر، البقاعي ١/٣٠٨.

132 المصدر السابق ٧/٢٠٨.

133 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلح، باب قول الإمام لأصحابه: اذهبوا بنا نصلح بينهم، رقم ٢٦٩٣.