عناصر الموضوع
الاجتماع
أولًا: المعنى اللغوي:
(جمع) الجيم والميم والعين أصل واحد، يدل على تضام الشيء، يقال: جمعت الشيء جمعًا، وجمع الشيء عن تفرقة يجمعه جمعًا، وجمعه وأجمعه فاجتمع.
واجتمع القوم واستجمعوا بمعنى: تجمعوا، وانضم بعضهم إلى بعض، واتحدوا واتفقوا.
و(الجماعة) العدد الكثير من الناس، والشجر والنبات، وطائفة من الناس يجمعها غرض واحد.
و(الاجتماع) علم الاجتماع، علم يبحث في نشوء الجماعات الإنسانية ونموها وطبيعتها وقوانينها ونظمها، ويقال: رجل اجتماعي مزاول للحياة الاجتماعية، كثير المخالطة للناس.
و(المجتمع) موضع الاجتماع.
و(المجمع) موضع الاجتماع والملتقى، ومنه: مجمع البحرين، ومؤسسة للنهوض باللغة أو العلوم أو الفنون ونحوها (محدثة)1.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
عرف الجرجاني الاجتماع بأنه: تقارب أجسام بعضها من بعض2.
وعرفه السيوطي بقوله: الاجتماع: وجود أشياء كثيرة يعمها معنىً واحد3.
وقال المناوي: الاجتماع: مجاورة جوهرين في حيزين، ليس بينهما ثالث، وضده الافتراق، وهو وقوع جوهرين بينهما حيز4. وكذا قال الكفوي5.
ولا يختلف معنى الاجتماع في الاصطلاح عن المعنى الذي يفيده في أصل اللغة، وإن كان مقصود الشرع من الاجتماع هو ما يحمد شرعًا، وهو أن يلتقي المسلمون، وينضم بعضهم إلى بعض، ولا يتفرقوا.
لم يرد لفظ (الاجتماع) في القرآن، ولكن ورد جذره، وهو: (جمع)، والذي يعني: تأليف المتفرق وانضمامه6.
ولكن القرآن الكريم تحدث عن الاجتماع والتوحد وجمع الكلمة، من خلال الحديث عن الائتلاف، ونبذ الفرقة، والاعتصام بحبل الله.
اللقاء:
اللقاء لغةً:
الملاقاة، وتوافي الاثنين متقابلين، ولقيته لقوةً، أي: مرةً واحدةً، ولقاءةً، ولقيته لقيًا ولقيانًا، واللقية فعلةٌ من اللقاء، والجمع لقى7.
اللقاء اصطلاحًا:
قال الرازي: وصول أحد الجسمين إلى الآخر؛ بحيث يماسه بشخصه8.
وقال الراغب: مقابلة الشيء ومصادفته معًا، وقد يعبر به عن كل منهما9.
الصلة بين الاجتماع واللقاء:
اللقاء حسي، أما الاجتماع فقد يكون حسيًا، وقد يكون معنويًا.
وأيضًا فاللقاء: هو الاجتماع على وجه المقاربة والاتصال، والاجتماع قد يكون على غير المقاربة والاتصال10.
الاعتصام:
الاعتصام لغةً:
العصم: الإمساك، والاعتصام: الاستمساك، قال تعالى: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) [آل عمران:١٠٣]. أي: تمسكوا بعهد الله11.
والاعتصام بحبل الله: هو ترك الفرقة، واتباع القرآن12.
الاعتصام اصطلاحًا:
ولا يختلف معنى الاعتصام في الاصطلاح عن معناه في اللغة.
الصلة بين الاجتماع والاعتصام:
الاعتصام: الاستمساك بالشيء، والمقصود: الاستمساك بحبل الله، وهو بهذا الاعتبار وسيلة للاجتماع، وطريق إليه؛ ولهذا يقال: الاستمساك بحبل الله سبب للاجتماع.
الاختلاف:
الاختلاف لغةً:
ضد الاتفاق13، وهو منازعة تجري بين المتعارضين؛ لتحقيق حقٍ أو لإبطال باطل14.
الاختلاف اصطلاحًا:
عرفه الراغب بقوله: «والاختلاف والمخالفة: أن يأخذ كل واحد طريقًا غير طريق الآخر في حاله أو قوله»15.
الصلة بين الاجتماع والاختلاف:
الخلاف والاختلاف هو المضادة والمعارضة، وعدم المماثلة، وهو بهذا المعنى ضد الاجتماع، الذي جاء الحث عليه في نصوص القرآن الكريم.
التفرق:
التفرق لغةً:
خلاف التجمع، تفرق القوم وتفارقوا، والاسم الفرقة16.
والتفريق: خلاف التجميع، يقال: فرق الشيء تفريقًا وتفرقة: بدَده، وهو متعدٍ، أما التفرق فلازم. والتفريق أبلغ من الفرق؛ لما فيه من معنى التكثير17.
التفرق اصطلاحًا:
لا يخرج معناه عن المعنى اللغوي.
الصلة بين الاجتماع والتفرق:
التفرق خلاف التجمع، وهو ضد الاجتماع، الذي جاء الحث عليه في القرآن الكريم.
أسباب الاجتماع التي يجتمع الناس عليها كثيرة، منها:
أولًا: الاجتماع لهدف واحد:
من أسباب الاجتماع أن يجتمع الناس على هدف واحد، ومن هذه الأهداف:
١. الاجتماع للعبادة.
حث الله تعالى على صلاة الجماعة لما فيها من تظاهر النفوس عند مناجاة الله، وإيجاد الألفة بين المؤمنين؛ ولأنه عند اجتماعهم يتشاورون في دفع ما ينزل بهم من البأساء، أو يجلب لهم السراء18.
قال تعالى: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ) [البقرة:٤٣].
ومما يدل على فضل الاجتماع على هذه العبادة، وهي الصلاة.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) [النساء:١٠٢].
قال ابن كثير: «فقوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ) أي: إذا صليت بهم إمامًا في صلاة الخوف، وهذه حالة غير الأولى، فإن تلك قصرها إلى ركعة، كما دل عليه الحديث، فرادى ورجالًا وركبانًا، مستقبلي القبلة، وغير مستقبليها، ثم ذكر حال الاجتماع والائتمام بإمام واحد، وما أحسن ما استدل به من ذهب إلى وجوب الجماعة من هذه الآية الكريمة، حيث اغتفرت أفعال كثيرة لأجل الجماعة، فلولا أنها واجبة لما ساغ ذلك»19.
والحاصل أن الله تعالى جعل للمسلمين مناسبات دينية يومية وأسبوعية وسنوية يجتمعون فيها، ومن هذه الاجتماعات الأسبوعية يوم الجمعة، قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [الجمعة:٩].
فأمر تعالى عباده المؤمنين بالحضور لصلاة الجمعة، من حين ينادى لها، والسعي إليها، والمراد بالسعي هنا: المبادرة إليها، والاهتمام لها، وجعلها أهم الأشغال، وقوله: (ﭞ ﭟ) أي: اتركوا البيع إذا نودي للصلاة، وامضوا إليها، فإن (ﭡ ﭢ ﭣ) من اشتغالكم بالبيع، وتفويتكم الصلاة الفريضة، التي هي من آكد الفروض (ﭤ ﭥ ﭦ) أن ما عند الله خير وأبقى، وأن من آثر الدنيا على الدين فقد خسر الخسارة الحقيقية من حيث ظن أنه يربح، وهذا الأمر بترك البيع مؤقت مدة الصلاة20.
وإنما سميت الجمعة جمعة لأنها مشتقة من الجمع، فإن أهل الإسلام يجتمعون فيه في كل أسبوع مرة بالمعابد الكبار، وفيه كمل جميع الخلائق21. أو لأنه جمع في هذا اليوم خلق آدم22. وقيل: لأن الله تعالى فرغ فيه من خلق الأشياء، فاجتمعت فيه المخلوقات، وقيل: لاجتماع الجماعات فيها23. وهذه الأقوال كلها صحيحة.
فالحاصل: أن يوم الجمعة يوم يجتمع المسلمون، وما سميت جمعة إلا لما فيها من الاجتماع، وقد اشترط العلماء العدد في صلاة الجمعة، واختلفوا في أقل عدد تنعقد به الجمعة، على أقوال كثيرة، بلغت ثلاثة عشر قولًا، ومحل بسطها كتب الفقه.
فصلاة الجمعة هي الصلاة الجامعة التي لا تصح إلا جماعة، وهي صلاة أسبوعية يتحتم أن يتجمع فيها المسلمون، ويلتقوا، ويستمعوا إلى خطبة تذكرهم بالله، وهي عبادة تنظيمية على طريقة الإسلام في الإعداد للدنيا والآخرة في التنظيم الواحد، وفي العبادة الواحدة، وكلاهما عبادة، وهي ذات دلالة خاصة على طبيعة العقيدة الإسلامية الجماعية...، وقد وردت الأحاديث الكثيرة في فضل هذه الصلاة، والحث عليها، والاستعداد لها بالغسل والثياب والطيب24.
وأمر الله المسلمين بالسعي إلى ذكر الله؛ لأن الغالب في الجُمع أن يكون فيها ذكر الله سبحانه وتعالى، وذكر جنته وناره، وفي قوله: (ﭞ ﭟ) أي: من أجل الاجتماع والصلاة وذكر الله.
وفيه: تذكرة بأمر أعظم، وهو أنه سيأتي يوم عظيم يجتمع الناس فيه، وهو يوم المعاد، وهذا اليوم نعته الله جل وعلا بقوله: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ) [البقرة:٢٥٤] فيترك الإنسان البيع في الدنيا، ويلجأ إلى الله في مثل هذا اليوم العظيم تذكرة لنفسه باليوم الذي يغدو الناس فيه بين يدي رب العالمين، والإنسان لا بد أن يكون له باعث من نفسه.
ومن صور الاجتماع: الاجتماع في الحج، ففي الحج يجتمع المسلمون من جميع أقطار العالم، في مكان واحد، وزمان واحد، وقد أمر الله قريشًا أن يفيضوا من حيث تفيض جماعة الناس حرصًا على الاجتماع، واقتداء بأبيهم إبراهيم عليه السلام، قال تعالى: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [البقرة:١٩٩].
فالحج هو مؤتمر المسلمين الجامع الذي يتلاقون فيه مجردين من كل آصرة سوى آصرة الإسلام، متجردين من كل سمة إلا سمة الإسلام، عرايا من كل شيء إلا من ثوب غير مخيط يستر العورة، ولا يميز فردًا عن فرد، ولا قبيلة عن قبيلة، ولا جنسًا عن جنس، إن عقدة الإسلام هي وحدها العقدة، ونسب الإسلام هو وحده النسب، وصبغة الإسلام هي وحدها الصبغة25.
والمقصود: أن الاجتماع مقصد عظيم، يظهر فيه وحدة المسلمين، وجمع كلمتهم، ووحدة صفهم، وهذا المقصد العظيم يظهر جليًا في صلاة الجماعة التي تتكرر في اليوم خمس مرات في المساجد، فهي اجتماع مصغر، يلتقي فيه أصحاب الحي في اليوم خمس مرات في بيت من بيوت الله عز وجل، يؤدون فريضةً من فرائض الله، ثم يأتي اجتماع أكبر وهو يوم الجمعة، وهو اجتماع أسبوعي، ثم يأتي اجتماع في السنة مرتين وهو الاجتماع لصلاة العيدين (عيد الفطر وعيد الأضحى) ثم يأتي الحج، وهو الاجتماع السنوي للمسلمين، وهو واجب في العمر مرة، وفي هذا الاجتماع منافع كثيرة.
وقد ذكر العلماء رحمهم الله تعالى كثيرًا من المنافع التي تترتب على الاجتماع في الحج، فمنها: تعرف المسلمين على بلاد بعضهم، وعلى أحوالهم، ويتعرف التاجر على مواطن التجارة في البلدان المختلفة، ويتعرف على ما يحتاج إليه المسلمون في كل مكان من بقاع الأرض، بالإضافة إلى أن هذا الاجتماع مظهرٌ من مظاهر وحدة المسلمين؛ لأنهم يظهرون بلباس واحد، ويجتمعون في مكان واحد، يدعون ربًا واحدًا، ويقومون بأعمال واحدة، ولا فرق بين غنيهم وفقيرهم، فهذا مظهر أيضًا من مظاهر اجتماعهم، ووحدة كلمتهم.
ومن الاجتماعات الموسمية، والمناسبات العبادية العظيمة: صوم رمضان، فهو عبادة موسمية من مواسم الخير، تكون في شهر رمضان، تقترب فيه القلوب إلى بارئها، وتفتح فيه أبواب الجنة، وانظر كيف جاء الأمر به بشكل جماعي، حيث قال تعالى: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [البقرة:١٨٣] أي: فُرِضَ (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ) من الأنبياء والأمم، وأولهم آدم عليه السلام26.
وفي هذه الآية: إشعار بوحدة الدين أصوله ومقصده، وتأكيد لأمر هذه الفرضية، وترغيب فيها.
والمقصود: أن الله سبحانه يعلم أن التكليف أمر تحتاج النفس البشرية فيه إلى عون، ودفع واستجاشة لتنهض به، وتستجيب له، مهما يكن فيه من حكمة ونفع، حتى تقتنع به، وتتعود عليه؛ ولهذا فإن كثيرًا من العبادات اتخذت طابع الجماعية.
ففي هذه الفريضة -الصوم- نجد أن التكليف بدأ بذلك النداء الحبيب إلى المؤمنين (ﭣ ﭤ ﭥ) المذكر لهم بحقيقتهم الأصيلة، ثم يقرر لهم بعد ندائهم ذلك النداء أن الصوم فريضة قديمة على المؤمنين بالله في كل دين، وأن الغاية الأولى هي إعداد قلوبهم للتقوى، والشفافية والحساسية، والخشية من الله27.
٢. الاجتماع لقتال الكفار.
أمر الله تعالى بالاجتماع عند قتال الكفار.
قال تعالى: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ) [النساء:٧١] أي: مجتمعين جيشًا واحدًا.
ومعنى الآية: الأمر لهم بأن ينفروا على أحد الوصفين؛ ليكون ذلك أشد على عدوهم، وليأمنوا من أن يتخطفهم الأعداء إذا نفر كل واحد منهم وحده، أو نحو ذلك.
وثُباتٍ: جماعات متفرقة، سرية بعد سرية، وفرقة بعد فرقة، إظهارًا للجرأة (ﮝ ﮞ ﮟ) مجتمعين، كركبة واحدة...، والغرض النهي عن التخاذل، وإلقاء النفس إلى التهلكة28.
قال القاسمي: «(ﮝ ﮞ ﮟ) إيقاعًا للمهابة بتكثير السواد، ومبالغة في التحرز عن الخطر، قال الحاكم: اتفق العلماء على أن ذلك موكول إلى اجتهاد الإمام»29.
وقال الآلوسي: «قوله: (ﮝ ﮞ ﮟ) أي: مجتمعين جماعة واحدة»30.
ومما جاء في الاجتماع في القتال قوله تعالى: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ) [الصف:٤] أي: صافين أنفسهم31.
والصف: عدد من أشياء متجانبة منتظمة الأماكن، فيطلق على صف المصلين، وصف الملائكة، وصف الجيش في ميدان القتال، فالجيش إذا حضر القتال كان صفًا، من رجالة أو فرسان، ثم يقع تقدم بعضهم إلى بعض فرادى أو زرافات، فالصف هنا: كناية عن الانتظام والمقاتلة عن تدبر، وأما حركات القتال فتعرض بحسب مصالح الحرب في اجتماع وتفرق، وكر وفر، وانتصب (صفًا) على الحال، بتأويل: صافين، أو مصفوفين32.
ثم قال: (ﯗ ﯘ ﯙ) لاصق بعضه ببعض، وقيل: أريد به استواء نياتهم في حرب عدوهم، حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان الذي رص بعضه إلى بعض، وهو حال أيضًا33.
وقد اختلف علماء التفسير في المراد بالبنيان المرصوص، فنقل بعضهم عن الفراء: أنه المتلاحم بالرصاص لشدة قوته، والجمهور: أنه المتلاصق المتراص المتساوي.
والواقع أن المراد بالتشبيه هنا هو وجه الشبه، ولا يصح أن يكون هنا هو شكل البناء، لا في تلاحمه بالرصاص، وعدم انفكاكه، ولا تساويه وتراصه؛ لأن ذلك يتنافى وطبيعة الكر والفر في أرض المعركة، ولكل وقعة نظامها حسب موقعها.
قال الشنقيطي: «والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن وجه الشبه المراد هنا: هو عموم القوة والوحدة»34.
والحاصل: أن في الآية الحث على الجهاد في سبيل الله صفًا متراصًا متساويًا، من غير خلل يقع في الصفوف، وتكون صفوفهم على نظام وترتيب، به تحصل المساواة بين المجاهدين، والتعاضد وإرهاب العدو، وتنشيط بعضهم بعضًا، والمرصوص: المتلاصق بعضه ببعض، والتشبيه في الثبات، وعدم الانفلات.
فليس هو مجرد القتال؛ ولكنه هو القتال في سبيله، والقتال في تضامن مع الجماعة المسلمة داخل الصف، والقتال في ثبات وصمود (ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ).
٣. الاجتماع على إبطال الحق.
لما جاء موسى عليه السلام إلى فرعون بالمعجزة، وكانت قلب العصا ثعبانًا، وإظهار اليد البيضاء، جمع فرعون السحرة، وحشروهم من المدائن، يعني من القرى، واختار الطاغية الكافر وجماعته تكذيب هذه المعجزة الخارقة، وادعى كون موسى ساحرًا، فتشاور مع كبار رجال دولته، فأشاروا بالمبارزة بين سحرة مصر المهرة وبين موسى.
قال تعالى: (ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ) [الشعراء:٣٦-٣٩].
وتم جمع السحرة من أنحاء المملكة، قيل: كانوا سبعين رجلًا أو ثلاثة وسبعين، ودل قوله: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ) على أن السحرة كانوا كثيرين في ذلك الزمان.
فقرر أن يكون مكان الاجتماع -للمناظرة والمغالبة في زعمه- مكانًا سوى، وأصح الأقوال في قوله: (ﮣ) على قراءة الكسر والضم: أنه مكان وسط، تستوي أطراف البلد فيه لتوسطها بينها، فلم يكن أقرب للشرق من الغرب، ولا للجنوب من الشمال، وهذا هو معنى قول المفسرين مكانًا سوى، أي: نصفًا وعدلًا؛ ليتمكن جميع الناس أن يحضروا35.
(ﰁ ﰂ) أي: بأيسر أمر؛ لما له عندهم من العظمة (ﰃ ﰄ ﰅ) واليوم المعلوم: يوم الزينة، وميقاته: وقت الضحى؛ لأنه الوقت الذي وقته لهم موسى -صلوات الله عليه- من يوم الزينة في قوله: (ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ) [طه:٥٩]36.
(ﰇ ﰈ) أي: كافة؛ حثًا لهم على الإسراع إلى الاجتماع بأمر فرعون، وامتحانًا لهم هل رجعوا عن دينه (ﰉ ﰊ ﰋ) أي: اجتمعوا، وعبر بالاستفهام حثًا على الاجتماع.
كما يقول الرجل لغلامه: هل أنت منطلق؟ إذا أراد أن يحركه، ويحثه على الانطلاق، كأنما يخيل له أن الناس قد انطلقوا (ﭑ ﭒ ﭓ) أي: في دينهم، إن غلبوا موسى37.
وهدف هذا الاجتماع ليشاهدوا ما يكون من موسى والسحرة، ولمن تكون الغلبة، وكان ذلك ثقة من فرعون بالظهور، وطلبًا أن يكون بمجمع من الناس، حتى لا يؤمن بموسى أحد منهم، فوقع ذلك من موسى الموقع الذي يريده؛ لأنه يعلم أن حجة الله هي الغالبة، وحجة الكافرين هي الداحضة، وفي ظهور حجة الله بمجمع من الناس زيادة في الاستظهار للمحقين، والانقهار للمبطلين38.
ولعل معنى: (ﰉ ﰊ ﰋ) أي: اجتماعًا أنتم راسخون فيه؛ لكونه بالقلوب كما هو بالأبدان، كلكم ليكون أهيب لكم39.
والحاشرون: هم الذين يتولون جمع السحرة وحشدهم وحشرهم إلى ساحة فرعون، والتعبير بالحشر هنا يشير إلى أن الأمر عظيم، وأنه لا بد له من حشر الناس إليه، وبعثهم سراعًا من كل أفق، ليلقوا موسى، ويقفوا في وجه هذا الخطر الذي دهمهم به.
وحُشر السحرة على عجل، وأقبلوا من كل أفق، وغصت بهم ساحة فرعون، وما كانوا قد رأوا رأى العين ما كان من فعل موسى بعصاه ويده مع فرعون، وإن كانوا قد سمعوا به، وتصوروه على ما روي لهم، ومن هنا وقع في أنفسهم أنه ساحر مثلهم، وأنه إذا كان على شيء من القوة بالنسبة لهم، فإن في جمعهم هذا ما يتغلب على كل قوة.
ومن هنا أيضًا وقع في أنفسهم أنهم أصحاب الموقف المنتظر بينهم وبين موسى، فكانت لهم بذلك دالة على فرعون، وقد أطمعهم فيه ما وجدوه عليه من ذلة وانكسار، فجاءوا إليه يسألونه الأجر مقدمًا، ويسألونه الجزاء الذي لهم عنده، بعد أن يكون لهم الغلب! ولا يملك فرعون في هذا الموقف إلا أن يستجيب لهم، ويترضى مشاعرهم، حتى يبذلوا كل ما يملكون من حول وحيلة، إنهم الآن لا يعملون إلا بأجر، وقد كانوا من قبل هذا الموقف عبيدًا مسخرين! فليس الأجر وحده، ولا المال وحده هو الذي سيبذله لهم، إن هم انتصروا على موسى، وأبطلوا كيده، وأفسدوا تدبيره، ولكن لهم إلى هذا المال الوفير الذي سيغدقه عليهم أن يقربهم إليه، ويدنيهم منه، ويجعلهم أعوانه، وأصحاب الكلمة والرأي عنده، ولا يذكر القرآن هنا اجتماع السحرة بموسى، والاتفاق معه على موقع المعركة وزمانها؛ فذلك متروك لتقدير من يتلو هذه القصة، وتصوره لملء هذا الفراغ الذي لا يغيب عن فطنته40.
والحاصل: أن هذا من لطف الله أن يري العباد بطلان ما موَه به فرعون الجاهل الضال المضل أن ما جاء به موسى سحر، قيضهم أن جمعوا أهل المهارة بالسحر لينعقد المجلس عن حضرة الخلق العظيم، فيظهر الحق على الباطل، ويقر أهل العلم وأهل الصناعة بصحة ما جاء به موسى، وأنه ليس بسحر، فعمل فرعون برأيهم، فأرسل في المدائن، من يجمع السحرة، واجتهد في ذلك وجد.
وانقمع الباطل في ذلك المجمع، وأقر رؤساؤه ببطلانه، ووضح الحق وظهر، حتى رأى ذلك الناظرون بأبصارهم، ولكن أبى فرعون إلا عتوًا وضلالًا وتماديًا في غيه وعنادًا، فقال للسحرة: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [الشعراء:٤٩] يتعجب ويعجب قومه من جراءتهم عليه، وإقدامهم على الإيمان من غير إذنه ومؤامرته (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) [الشعراء:٤٩] هذا وهو الذي جمع السحرة، وملأه الذين أشاروا عليه بجمعهم من مدائنهم، وقد علموا أنهم ما اجتمعوا بموسى، ولا رأوه قبل ذلك، وأنهم جاءوا من السحر بما يحير الناظرين ويهيلهم، ومع ذلك فراج عليهم هذا القول، الذي هم بأنفسهم وقفوا على بطلانه، فلا يستنكر على أهل هذه العقول أن لا يؤمنوا بالحق الواضح، والآيات الباهرة؛ لأنهم لو قال لهم فرعون عن أي شيء كان إنه على خلاف حقيقته صدقوه41.
ثانيًا: الاجتماع على قاسم مشترك:
ومن أسباب الاجتماع بين الناس وجود قاسم مشترك يجمع بينهم، ويؤلف بين قلوبهم، ومن هذه القواسم المشتركة:
١. الدين.
الدين من أعظم الأسباب الموحدة بين الناس، بل هو السبب الأول، وقد أمر الله عباده أن يتمسكوا به، ويجتمعوا عليه، وعلى هذا بعث الله الأنبياء كلهم بإقامة الدين، والألفة والجماعة، وترك الفرقة.
قال تعالى: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [الشورى:١٣].
أي: وصى الله سبحانه وتعالى جميع الأنبياء عليهم السلام بالائتلاف والجماعة، ونهاهم عن الافتراق والاختلاف.
فذكر في هذه الآية الطرفين والوسط، الفاتح والخاتم، ومن بينهما على هذا الترتيب، فهذه هي الوصية التي أخذ عليهم الميثاق بها، وهي إقامة الدين، وعدم التفرق فيه.
وقوله: (ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) مشعر بأن حصول الموافقة أمر مطلوب في الشرع والعقل، وبيان منفعته من وجوه:
الأول: أن للنفوس تأثيرات، وإذا تطابقت النفوس، وتوافقت على واحد قوي التأثير.
الثاني: أنها إذا توافقت صار كل واحد منها معينًا للآخر في ذلك المقصود المعين، وكثرة الأعوان توجب حصول المقصود، أما إذا تخالفت تنازعت، وتجادلت فضعفت، فلا يحصل المقصود.
الثالث: أن حصول التنازع ضد مصلحة العالم؛ لأن ذلك يفضي إلى الهرج والمرج، والقتل والنهب؛ فلهذا السبب أمر الله تعالى في هذه الآية بإقامة الدين على وجه لا يفضي إلى التفرق، وقال في آية أخرى: (ﭔ ﭕ ﭖ) [الأنفال:٤٦]42.
فالعقيدة أقوى الروابط التي تربط بين الناس، وبخاصة إذا سلمت وصحت وقويت في نفس صاحبها، ومنشأ ذلك أن صاحب العقيدة القوية يرى نفسه مفردًا بسبب هذه العقيدة عن الناس، وحيدًا بينهم، غريبًا فيهم، فهو في مسيس الحاجة إلى من تسكن إليه نفسه، ويأنس به قلبه، ويشتد به أزره، وليس في ذلك إلا رجل اعتقد مثل عقيدته، وآمن بمثل ما آمن به، هنالك تلتئم الروحان، ويتحد القلبان، وتسكن ثائرة النفس، ويستشعر كل منهما بالآخر روح الأنس، ويود أحدهما لو يفتدي الآخر بالدنيا وما فيها، وما قيمة الدنيا وما فيها إذا خلت من أنيس يرتاح إليه القلب، وتسكن معه النفس؟! هذا هو منشأ الوحدة والارتباط في نفوس أهل العقيدة الواحدة، والمبدأ المتفق.
وإنك لترى بين الناس روابط كثيرة من نسبية وعصبية؛ وصداقة ومعرفة، واشتراك في تجارة؛ أو مصلحة؛ أو غاية مما يرتبط بهذه الأغراض الزائلة، فترى كل الروابط سريعة الزوال، وشيكة الانحلال، على حين ترى أهل العقيدة الواحدة على قلب واحد، وشعور واحد43.
والحاصل: أن من الأسباب التي تربط بين الناس الدين والعقيدة المشتركة؛ ولهذا عظم الله أمر الاجتماع عليه، وأتبع ذلك التعظيم بالنهي عن الافتراق فيه، فقال: (ﮏ ﮐ ﮑ) أي: في الدين، تفرقًا عظيمًا؛ بما أشار إليه إثبات التاء، وكأن ذلك إشارة إلى التحذير من التفرق في الأصل.
فإن التفرق سبب الهلاك، والاجتماع سبب النجاة44.
قال ابن كثير رحمه الله: «فأهل الأديان قبلنا اختلفوا فيما بينهم على آراء وملل باطلة، وكل فرقة منهم تزعم أنها على شيء، وهذه الأمة اختلفوا فيما بينهم على نحل كلها ضلالة إلا واحدة، وهم أهل السنة والجماعة، المتمسكون بكتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما كان عليه الصدر الأول من الصحابة والتابعين، وأئمة المسلمين، في قديم الدهر وحديثه»45.
وقال الطاهر بن عاشور رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية: «وهذه حالة ذميمة من أحوال أهل الشرك، يراد تحذير المسلمين من الوقوع في مثلها؛ فإذا اختلفوا في أمور الدين الاختلاف الذي يقتضيه الاجتهاد، واختلفوا في الآراء والسياسات لاختلاف العوائد؛ فليحذروا أن يجرهم ذلك الاختلاف إلى أن يكونوا شيعًا متعادين متفرقين، يلعن بعضهم بعضًا، ويذيق بعضهم بأس بعض»46.
والمقصود: أن الله تعالى أوجب علينا إقامة الدين، بالتمسك بكتابه وسنة نبيه، والرجوع إليهما عند الاختلاف، وأمرنا بالاجتماع على الاعتصام بالكتاب والسنة اعتقادًا وعملًا؛ وذلك سبب اتفاق الكلمة، وانتظام الشتات الذي يتم به مصالح الدنيا والدين، والسلامة من الاختلاف.
ومع أهمية الاجتماع يبقى أن الاجتماع المأمور به إنما هو بالقلوب الجاعلة لهم كالجسد الواحد، ولا يضر فيه صرف بعض الأوقات إلى المعاش، وتنعيم البدن ببعض المباحات.
ويبين الشافعي رحمه الله أن اجتماع الأبدان ليس بمعتبر ولا مقصود، بل المقصود والمعتبر الاجتماع على طاعة الله ورسوله، والاجتماع على الحق، فيقول بعد أن بين أن الأمر بلزوم جماعة المسلمين ليس له إلا معنى واحد؛ ذلك أنه: إذا كانت جماعتهم متفرقة في البلدان فلا يقدر أحد أن يلزم جماعة أبدان قوم متفرقين، وقد وجدت الأبدان تكون مجتمعة من المسلمين والكافرين؛ ولأن اجتماع الأبدان لا يصنع شيئًا، فلم يكن للزوم جماعتهم معنى إلا ما عليهم جماعتهم من التحليل والتحريم، والطاعة فيهما، ومن قال بما تقول به جماعة المسلمين فقد لزم جماعتهم، ومن خالف ما تقول به جماعة المسلمين فقد خالف جماعتهم التي أمر بلزومها47.
ومن الآيات الدالة على هذا المعنى قوله تعالى: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ) [البقرة:٢١٣].
فأخبر الله عز وجل في هذه الآية أن الناس كانوا أمة واحدة، أمة مجتمعة على ملة واحدة، ودين واحد، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين48.
وقيل: إن وقت كون الناس أمة واحدة على دين التوحيد يوم استخرج ذرية آدم من صلبه، فعرضهم على آدم، يقول أبي بن كعب رضي الله عنه: «كانوا أمة واحدة حيث عرضوا على آدم، ففطرهم يومئذٍ على الإسلام، وأقروا له بالعبودية، وكانوا أمة واحدة مسلمين كلهم، ثم اختلفوا من بعد آدم49.
فالله سبحانه إنما بعث الرسل، وأنزل الكتب عند الاختلاف، فالأصل في البشرية هو الاجتماع على التوحيد الخالص لله عز وجل، والأصل أن الناس كانوا مجتمعين على الدين الواحد، دين التوحيد، وأنه ما إن دب الشرك في الأمة إلا وقارنته الفرقة، فاستلزم بعثة الأنبياء والرسل رحمة من الله تعالى بالناس، وإعذارًا لهم، فهو سبحانه كما في الحديث: (لا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين)50.
٢. الإيمان.
ومن القواسم المشتركة التي تجمع بين الناس: الإيمان.
قال تعالى: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ) [الحجرات:١٠].
يعني: كالإخوة في التعاون؛ لأنهم على دين واحد51.
وفي الآية بيان أن الإيمان قد عقد بين أهله من السبب القريب، والنسب اللاصق ما إن لم يفضل الأخوة ولم يبرز عليها لم ينقص عنها، ولم يتقاصر عن غايتها، ثم قد جرت عادة الناس على أنه إذا نشب مثل ذلك بين اثنين من إخوة الولاد لزم السائر أن يتناهضوا في رفعه وإزاحته، ويركبوا الصعب والذلول مشيًا بالصلح، وبثًا للسفراء بينهما، إلى أن يصادف ما وهى من الوفاق من يرقعه، وما استشن52 من الوصال من يبله، فالأخوة في الدين أحق بذلك، وبأشد منه53.
و(إنما) للحصر، أي: لا أخوة إلا بين المؤمنين، وأما بين المؤمن والكافر فلا؛ لأن الإسلام هو الجامع؛ ولهذا إذا مات المسلم وله أخ كافر يكون ماله للمسلمين، ولا يكون لأخيه الكافر54.
قال الزجاج: «أَعْلَمَ الله عز وجل أن الذين يجمعهم وأنهم إخوة إذا كانوا متفقين في دينهم، فرجعوا في الاتفاق في الدين إلى أصل النسب، لأنهم لآدم وحواء، ولو اختلفت أديانهم لافترقوا في النسب، وإن كان في الأصل أنهم لأب وأم»55.
فالصلة التي ينبغي أن تقوم بين المؤمنين هي صلة أخوة ومودة، دون نظر إلى لون أو جنس أو وطن، فقد جمعهم الإسلام في نسب يعلو على نسب الدم والجنس والوطن، (ﯜ ﯝ ﯞ) وإنه لمن قلْب الأوضاع أن ينعزل المؤمن بشعوره هذا من المودة والأخوة عن إخوانه المؤمنين، وينحاز إلى الكفار، يعطيهم ولاءه ومودته وأخوته، والإسلام الذي يدعو إلى الحب والسلام إذ يدعو أتباعه إلى التراحم والتواد والتآخي فيما بينهم، لا يجعل ذلك على حساب الصلات الأخوية التي ينبغي أن تكون بين المسلم وبين سائر الناس56.
يقول القاسمي: «وتسمية المشاركة في الإيمان أخوة تشبيه بليغ، أو استعارة شبه المشاركة فيه بالمشاركة في أصل التوالد؛ لأن كلًا منهما أصل للبقاء؛ إذ التوالد منشأ الحياة، والإيمان منشأ البقاء الأبدي في الجنان»57.
والحاصل: أن المؤمنين بسبب إيمانهم إخوة، أي: في التوالي والتعاضد والتراحم؛ ولهذا فالمؤمنون قلوبهم على قلب رجل واحد فيما يعتقدونه من الإيمان، وأما المنافقون فقلوبهم مختلفة، كما قال: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) [الحشر:١٤] فإذا كان المؤمنون إخوة أمروا فيما بينهم بما يوجب تآلف القلوب واجتماعها، ونهوا عما يوجب تنافر القلوب واختلافها، وهو إصلاح ذات البين.
حتى الملائكة يجمعهم بالمؤمنين الإيمان؛ ولهذا يستغفرون للذين آمنوا، كما قال تعالى: (ﯛ ﯜ ﯝ) [غافر:٧] وفي هذا تنبيهٌ على أن المشاركة في الإيمان يوجب النصح والشفقة وأن تخالف الأجناس؛ لأنها أقوى المناسبات، كما قال الله تعالى: (ﯜ ﯝ ﯞ).
وهذه الأخوة الدينية مما يحسدنا عليها جميع أهل الملل، فهي لا تزال أقوى فينا منها فيهم ترافدًا وتعاونًا، وعاصمة لنا من فوضى الشيوعية، وأثرة المادية وغيرها، على ما منيت به شعوبنا من الضعف، واختلال النظام، واختلاف الجنسيات والأحكام58.
ومما يترتب على هذه الأخوة: أن يكون الحب والسلام والتعاون والوحدة هي الأصل في الجماعة المسلمة، وأن يكون الخلاف أو القتال هو الاستثناء الذي يجب أن يرد إلى الأصل فور وقوعه، وأن يستباح في سبيل تقريره قتال المؤمنين الآخرين للبغاة من إخوانهم ليردوهم إلى الصف؛ وليزيلوا هذا الخروج على الأصل والقاعدة، وهو إجراء صارم وحازم كذلك59.
ومما يبين هذه الصلة الإيمانية: قوله تعالى: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [التوبة:٧١].
إن طبيعة المؤمن هي طبيعة الأمة المؤمنة، طبيعة الوحدة، وطبيعة التكافل، وطبيعة التضامن، ولكنه التضامن في تحقيق الخير، ودفع الشر.
(ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) وتحقيق الخير، ودفع الشر يحتاج إلى الولاية والتضامن والتعاون، ومن هنا تقف الأمة المؤمنة صفًا واحدًا، لا تدخل بينها عوامل الفرقة، وحيثما وجدت الفرقة في الجماعة المؤمنة فثمة ولا بد عنصر غريب عن طبيعتها وعن عقيدتها، هو الذي يدخل بالفرقة، ثمة غرض أو مرض يمنع السمة الأولى ويدفعها، السمة التي يقررها العليم الخبير (ﮓ ﮔ ﮕ) يتجهون بهذه الولاية إلى الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإعلاء كلمة الله، وتحقيق الوصاية لهذه الأمة في الأرض60.
وهذا هو المعلم الواضح البارز على مفرق الطريق بين نظرة هذا الدين إلى الوشائج والروابط، وبين نظرات الجاهلية المتفرقة، إن الجاهليات تجعل الرابطة آنًا هي الدم والنسب، وآنًا هي الأرض والوطن، وآنًا هي القوم والعشيرة، وآنًا هي اللون واللغة، وآنًا هي الجنس والعنصر، وآنًا هي الحرفة والطبقة! تجعلها آنًا هي المصالح المشتركة، أو التاريخ المشترك، أو المصير المشترك، وكلها تصورات جاهلية -على تفرقها أو تجمعها- تخالف مخالفة أصيلة عميقة عن أصل التصور الإسلامي! والمنهج الرباني القويم -ممثلًا في هذا القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم، وفي توجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي من هذا القرآن وعلى نسقه واتجاهه، قد أخذ الأمة المسلمة بالتربية على ذلك الأصل الكبير، والمعلم الواضح البارز في مفرق الطريق61.
٣. الهدى.
ومن القواسم المشتركة التي يجتمع الناس عليها: الهدى.
قال تعالى: (ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ) [الأعراف:٣٠].
وقال: ( ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [النحل:٣٦].
فهؤلاء صنفان وجمعان، فالأولون اجتمعوا على الهدى، والآخرون اجتمعوا على الضلالة، وشتان بين الجمعين والفريقين.
والفريق يصدق بالجماعة الكثيرة62.
وهذا كله إنذار من الوقوع في الضلالة، وتحذير من اتباع الشيطان، وتحريض على توخي الاهتداء الذي هو من الله تعالى، كما دل عليه إسناده إلى ضمير الجلالة في قوله: (ﮂ ﮃ).
فيعلم السامعون أنهم إذا رجعوا إليه فريقين، كان الفريق المفلح هو الفريق الذين هداهم الله تعالى، كما قال: (ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [المجادلة:٢٢].
وأن الفريق الخاسر هم الذين حقت عليه الضلالة، واتخذوا الشياطين أولياء من دون الله، كما قال: (ﯿ ﰀ ﰁﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ) [المجادلة:١٩]63.
إنها لقطة واحدة عجيبة، تجمع نقطة البدء في الرحلة الكبرى، ونقطة النهاية، نقطة الانطلاق في البدء، ونقطة المآب في الانتهاء...، وقد بدأوا الرحلة فريقين: آدم وزوجه، والشيطان وقبيله، وكذلك سيعودون، الطائعون سيعودون فريقًا مع أبيهم آدم، وأمهم حواء، المسلمين المؤمنين بالله، المتبعين لأمر الله، والعصاة سيعودون مع إبليس وقبيله، يملأ الله منهم جهنم، بولائهم لإبليس، وولايته لهم، وهم يحسبون أنهم مهتدون.
لقد هدى الله من جعل ولايته لله، وأضل من جعل ولايته للشيطان، وها هم أولاء عائدين فريقين: (ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ)64.
وقال تعالى: (ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ) [الأنعام:٣٥].
وهذا فيه إشارة إلى أن الهدى من الأمور التي تجمع بين الناس.
فقوله: (ﰎ ﰏ ﰐ) جل وعلا (ﰑ) جميعًا (ﰒ ﰓ) وَالْهُدَى هنا بمعناه الخاصِ؛ لأن الْهُدَى يُطْلَقُ في القرآنِ إطلاقين: يطلق إطلاقًا عامًا، ويطلقُ إطلاقًا خاصًا، أما الهدى بمعناه العام: فهو إبانةُ الطريقِ وإيضاحُها وتوضيحُ الخيرِ من الشَرِ، ومنه بهذا المعنى في القرآنِ: (ﯝ ﯞ ﯟ) [فصلت:١٧] أي: أَوْضَحْنَا لهم طريقَ الخيرِ وَالشَرِ بَيِنَةً على لسانِ نَبِيِنَا صالحٍ، وليس هذا الْهُدَى (هُدَى تَوْفِيقٍ) وإنما هو (هُدَى بَيَانٍ) فَقَطْ، بدليلِ قولِه: (ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ) [فصلت:١٧]وأما الْهُدَى بمعناه الخاصِ فهو: التوفيقُ إلى ما يُرْضِي اللَهَ.
والحاصل: أن من العوامل المشتركة بين الخلق الاجتماع على الهدى، كاجتماع الملائكة، والأنبياء وأتباعهم.
وسلب الاجتماع على الهدى لا ينافي اتباع البعض لهذا الهدى، فالاجتماع على الهدى مطلوب شرعًا، وحاصل واقعًا، إلا أن تحقق ذلك بيد الله الهادي سبحانه (ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ) [الأنعام:٣٥] أي: ولو شاء الله تعالى جمعهم على ما جئت به من الهدى لجمعهم عليه، إما بأن يجعل الإيمان ضروريًا لهم كالملائكة، وإما بأن يخلقهم على استعداد واحد للحق والخير، لا متفاوتي الاستعداد، مختلفي الاختيار باختلاف العلوم والأفكار والأخلاق والعادات؛ ولكنه شاء أن يجعلهم على ما هم عليه من الاختلاف والتفاوت، وما يترتب على ذلك من أسباب الاختيار65. وقيل: لو شاء الله لجمعهم عليه بأن يأتيَهم بآيةٍ ملجئةٍ إليه، ولكن لم يفعلْه لخروجه عن الحِكْمة66.
٤. الكفر.
ومن القواسم المشتركة: الكفر، وقد أخبر الله تعالى أن الكفار بعضهم من بعض، فقال: ( ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝ) [المائدة:٥١].
وقال تعالى: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) [الأنفال:٧٣].
(ﮭ ﮮ ﮯ) أي: في النصرة والتعاون على قتال المسلمين، فهم في جملتهم فريق واحد تجاه المسلمين، وإن كانوا مللًا كثيرة، يعادي بعضها بعضًا؛ إلا أن بعضهم أعوان بعض وأنصاره، وأحق به من المؤمنين بالله ورسوله، وإنما جعل بعضهم من بعض؛ لأن دينهم واحدٌ، وطريقتهم واحدة.
قال ابن جرير: «قوله: (ﮭ ﮮ ﮯ) عنى بذلك: أن بعض اليهود أنصار بعضهم على المؤمنين، ويد واحدة على جميعهم، وأن النصارى كذلك بعضهم أنصار بعض على من خالف دينهم وملتهم، معرِفًا بذلك عباده المؤمنين أن من كان لهم أو لبعضهم وليًا فإنما هو وليُهُم على من خالف ملتهم ودينهم من المؤمنين، كما اليهود والنصارى لهم حَرْب، فقال تعالى ذكره للمؤمنين: فكونوا أنتم أيضًا بعضكم أولياء بعض، ولليهودي والنصراني حربًا؛ كما هم لكم حرب، وبعضهم لبعض أولياء؛ لأن من والاهم فقد أظهر لأهل الإيمان الحربَ، ومنهم البراءة، وأبان قطع وَلايتهم»67.
ففي قوله تعالى: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ) هو تقرير لحكم واقع بين الكافرين، وهو أنهم على ولاء فيما بينهم، وأنهم حزب واحد، مجتمع على عداوة المؤمنين، ناصب لحربهم، راصد للفرصة الممكنة له منهم، وليس في هذا الذي يقرره القرآن الكريم دعوة لجماعات الكافرين أن يكونوا على هذا الولاء الذي بينهم، وإنما هو تقرير لأمر واقع، يرى منه المؤمنون كيف يجتمع أهل الضلال على الضلال؟! وكيف يقوم بينهم الولاء والتناصر؟! فأولى للمؤمنين ثم أولى لهم أن يجتمعوا على الإيمان، وأن يتناصروا على الحق والخير68.
فالكفار -كما نعلم- وكما تحدثنا الآية الكريمة بعضهم أولياء بعض، فإن لم يتجمع المؤمنون ليترابطوا، ويكونوا على قلب رجل واحد، فالكفار يتجمعون بطبيعة كفرهم ومعاداتهم للإسلام، وإن لم يتجمع المسلمون بالترابط، نجد قول الحق تحذيرًا لهم من هذا (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ) [الأنفال:٧٣].
وقال تعالى في شأن المنافقين: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ) [التوبة:٦٧].
فالمنافقون والمنافقات من طينة واحدة، وطبيعة واحدة، المنافقون في كل زمان، وفي كل مكان، تختلف أفعالهم وأقوالهم؛ ولكنها ترجع إلى طبع واحد، وتنبع من معين واحد، سوء الطوية، ولؤم السريرة، والغمز والدس، والضعف عن المواجهة، والجبن عن المصارحة، تلك سماتهم الأصيلة، أما سلوكهم فهو الأمر بالمنكر، والنهي عن المعروف، والبخل بالمال إلا أن يبذلوه رئاء الناس، وهم حين يأمرون بالمنكر، وينهون عن المعروف، يستخفون بهما، ويفعلون ذلك دسًا وهمسًا وغمزًا ولمزًا69.
فقوله: (ﮦ ﮧ ﮨ) يعني: في الاجتماع على الضلال، كما قال: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [التوبة:٧١] أي: في الاجتماع على الهدى70.
قال البغوي: «قوله تعالى: (ﮦ ﮧ ﮨ) أي: هم على دين واحد، وقيل: أمرهم واحد بالاجتماع على النفاق»71.
فالمنافقون والمنافقات وصفهم الله بقوله: (ﮦ ﮧ ﮨ) أي: أنهم كلهم متشابهون وسلوكهم مبني على التقليد والاتباع، فهم يقلدون بعضهم بعضًا، وبما أنهم قد أقاموا عقيدتهم على الشر فكلهم شر، ولا يوجد بينهم من ينصحهم بالخير، أو يحاول رَدَهم عن النفاق، بل هم يمضون في تيار الشر إلى آخر مدى.
ولما كان مرضهم واحدًا، وهو الكفر الباطني كان سلوكهم متشابهًا، قال الإيجي في تفسير هذه الآية: أي: هم على دين وطريق واحد، وبعضهم مشابه ومقارب من بعض، كأبعاض الشيء الواحد72.
والحاصل: أن المنافقين يربط بينهم عامل مشترك، وهو أن بعضهم يشبه بعضًا في الشك والنفاق والارتياب، ولكن لا صلة بينهم ولا تآلف؛ إذ الولاية والصلة والأخوة هي من صفات المؤمنين أصحاب العقائد الراسخة.
فإن قيل: لمَ قال تعالى في وصف المنافقين: (ﮦ ﮧ ﮨ) وقال في وصف المؤمنين: (ﮓ ﮔ ﮕ) ما الحكمة في ذلك؟
أجيب: بأنه لما كان نفاق الأتباع حصل بسبب التقليد لأولئك الأكابر لسبب مقتضى الهوى والطبيعة والعادة، قال فيهم: (ﮦ ﮧ ﮨ) ولما كانت الموافقة الخالصة بين المؤمنين بتوفيق الله تعالى وهدايته لا بمقتضى الطبيعة، وهوى النفس، وصفهم بأن بعضهم أولياء بعض، فظهر الفرق بين الفريقين، وظهرت الحكمة73.
والمقصود: أن الكفر صفة مشتركة قد جمعت بين الكافرين، كما أن الشك والنفاق والارتياب صفة مشتركة قد جمعت بين المنافقين، كما أن المؤمنين بعضهم من بعض، أي: بعضهم أولياء بعض في الاجتماع على الهدى.
٥. العاقبة.
ومما يجمع الناس العاقبة المشتركة، سواء كانت خيرًا أو شرًا، وقد أخبر الله تعالى أن المجرمين تجمعهم عاقبة واحدة، وهي أنهم جميعًا في العذاب، التابع والمتبوع.
قال تعالى: (ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ) [الزخرف:٣٩].
وقال تعالى: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ) [الصافات:٣٣].
فذكر العذاب الذي سيحل بهم جميعًا رؤساء ومرؤوسين، فقال: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ) أي: إن الفريقين المتسائلين حينئذٍ مشتركون في العذاب لا محالة، كما اشتركوا في الضلال والغواية.
فَحُقَ لهؤلاء أن يجتمعوا ويشتركوا هم وقرناؤهم في العذاب، كما كانوا مشتركين ومجتمعين في سببه، وهو الكفر والمعاصي، فقد اجتمعوا واشتركوا؛ ولكنه بئس الاجتماع والاشتراك.
ولا يخفف هذا الاجتماع والاشتراك عنهم شيئًا من العذاب؛ لأن لكل واحد من الكفار والشياطين الحظ الأوفر من العذاب74.
فكأن الله تعالى منعهم التأسي بما يُسَهِل على الإنسان المصيبة والعقوبة، فإنه إذا كان في مصيبة فرأى غيره في مثلها سهل عليه، كما قالت الخنساء في أخيها صخر75:
وَلَوْلا كَثْرة البَاكِين حَوْلي
على إِخْوانِهم لَقَتَلْتُ نَفْسِي
وَمَا يَبْكُون مثلَ أخِي ولكِنْ
أُسلِي النَفْس عَنهُ بالتَأسِي
ففي هذا حرمان التأسي، وهي نعمة يسلبها الله أهل النار؛ ليكون أشد لعذابهم، فإن التأسي قد يخفف كثيرًا عن المتأسي من حزنه76.
وقد بين الله تعالى أن حصول الشركة في هذا العذاب لا يفيد التخفيف، كما كان يفيده في الدنيا، والسبب فيه وجوه:
الأول: أن ذلك العذاب شديد، فاشتغال كل واحد بنفسه يذهله عن حال الآخر، فلا جرم أن الشركة لا تفيد الخفة.
الثاني: أن قومًا إذا اشتركوا في العذاب أعان كل واحد منهم صاحبه بما قدر عليه، فيحصل بسببه بعض التخفيف، وهذا المعنى متعذر في القيامة.
الثالث: أن جلوس الإنسان مع قرينه يفيده أنواعًا كثيرة من السلوة، فبين تعالى أن الشيطان وإن كان قرينًا إلا أن مجالسته في القيامة لا توجب السلوة، وخفة العقوبة77.
بل إن الإنسان إذا قرن في العذاب بمن كان سبب عذابه كان أشد في ألمه وحسرته؛ ولهذا المعنى يقرن الكفار بشياطينهم التي أضلتهم.
قال معمر عن سعيد الجريري: بلغنا أن الكافر إذا بعث يوم القيامة من قبر شفع بشيطانه فلم يفارقه حتى يصيرهما الله إلى النار، فذاك حين يقول: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [الزخرف:٣٨].
وقد أخبر الله تعالى عن حنق الكفار على من أضلهم بقوله: (ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ) [فصلت:٢٩].
فإذا قرن أحدهم بمن أضله في العذاب كان أشد لعذابه، فإن المكان المتسع يضيق على المتباغضين باقترانهما في المكان الضيق، وأخبر الله تعالى عن اختصام الكفار مع من كان معهم من الشياطين، ومن عبدوه من دون الله تعالى78.
ومع اشتراكهم في العذاب إلا أن للمتبوعين عذابًا زائدًا للإغواء، ولكن الزيادة لا تنافي الاشتراك في أصل الشيء كما دلت عليه أدلة أخرى؛ لأن المقصود هنا بيان عدم إجداء معذرة كلا الفريقين وتنصله.
قال السعدي: «ولكنه من المعلوم أن عذاب الرؤساء وأئمة الضلال أبلغ وأشنع من عذاب الأتباع، كما أن نعيم أئمة الهدى ورؤسائه أعظم من ثواب الأتباع، قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ) [النحل:٨٨].
فهذه الآيات ونحوها دلت على أن سائر أنواع المكذبين بآيات الله مخلدون في العذاب، مشتركون فيه، وفي أصله، وإن كانوا متفاوتين في مقداره بحسب أعمالهم وعنادهم وظلمهم وافترائهم، وأن مودتهم التي كانت بينهم في الدنيا تنقلب يوم القيامة عداوة وملاعنة»79.
والمقصود: أن المجرمين اجتمعوا على هذه العاقبة السيئة، وهي الاشتراك في العذاب، كما اشتركوا في سببه في الدنيا، ولكن لن ينفعهم اشتراكهم في العذاب كما ينفع الواقعين في شدائد الدنيا اشتراكُهم فيها؛ لتعاونِهم في تحملِ أعبائِها، وتقسمِهم لعنائِها؛ لأنَ لكل منهم ما لا تبلغُه طاقتُه كما قيلَ؛ لأنَ الانتفاعَ بذلكَ الوجهِ ليسَ مما يخطرُ ببالِهم.
بل إن في هذا الاجتماع تعذيب وحسرة، فمن قذفه عصيانه لله ولرسوله في النار، فإن له من العذاب ما يمنعه عن الأنس بغيره، فهو وحيد لا يجد لذة في الاجتماع بغيره ولا أنسًا، فلما كان لا يتمتع بمنفعة من منافع الاجتماع كان كأنه وحيد.
فالعذاب إذن كامل، لا تخففه الشركة، ولا يتقاسمه الشركاء فيهون! ولهذا تقع الملاحاة بين الأتباع والمتبوعين، ويتبرأ المتبوعون من الأتباع، وتتقطع بينهم أسباب التقارب والتواصل، ويترامون بالعداوة والبغضاء! والأتباع والمتبوعون هنا: هم جميعًا من أهل الضلال، أما الأتباع فهم العامة، وأما المتبوعون فهم العلماء وأصحاب القيادة الدينية فيهم؛ إذ هم الذين زينوا للعامة هذا الضلال، وهم الذين حرفوا لهم الكلم عن مواضعه، فأهلكوهم وهلكوا معهم جميعًا.
فالمشهد هنا بين الأتباع والمتبوعين قائم على شفير جهنم التي يساق إليها الأتباع والمتبوعون معًا؛ ولما كان هؤلاء المتبوعون هم الذين زينوا لأتباعهم هذا الضلال الذي أوردهم موارد الهلاك، فقد وقع في أنفسهم حين رأوا العذاب الذي ينتظرهم أن أتباعهم سوف يتعلقون بهم، ويسوقونهم للقصاص منهم، بتهمة التحريض والغواية لهم، عندئذٍ بادر هؤلاء المتبرعون، وتبرؤوا من أتباعهم، ونفضوا أيديهم من كل صلة بهم!
وحين يجد الأتباع أنهم وقادتهم حصب جهنم، كما يقول الله تعالى: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ) يتضاعف حزنهم، وتشتد حسرتهم، ويقطع اليأس نياط قلوبهم، حين لم ينالوا منالًا من هؤلاء الذين غرروا بهم، وأوردوهم هذا المورد الوبيل!
وإذ ذاك تنطلق ألسنتهم بكلمات تتميز غيظًا ويأسًا: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ) [البقرة:١٦٧].
فهم إنما يتمتمون -في يأس مغلق- أن يردوا هم ورؤساؤهم إلى هذه الدنيا ليراجعوا حسابهم معهم، على ضوء ما تكشف لهم في هذا الموقف؛ وليصموا آذانهم عن كل دعوة باطلة يدعونهم إليها، أما تبرؤهم منهم في الآخرة فإنه لا يجدى نفعًا، فقد دعوا إلى الضلال وأجابوا.
(ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ) الخطاب هنا للفريقين، التابعين والمتبوعين، إنه لن ينفعهم اشتراكهم جميعًا في العذاب، ولن يشفى ما بصدور الضالين من نقمة وحنق على من كانوا سببًا في إغوائهم وإضلالهم، أن يلقى هؤلاء المغوون ما يلقون من عذاب وبلاء80.
٦. التناسب.
ومن العوامل المشتركة التي تجمع بين الناس: الاشتراك في صفة واحدة أو أكثر، سواء أكانت حسنة أم سيئة.
قال تعالى: (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [النور:٣].
يعني: الغالب أن المائل إلى الزنا والتقحب لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء، وإنما يرغب في نكاح فاسقة من شكله، أو مشركة، والمسافحة لا يرغب في نكاحها الصلحاء، وينفرون عنها، وإنما يرغب فيها فاسق مثلها، أو مشرك، فإن المشاكلة سبب الائتلاف والاجتماع، كما أن المخالفة سبب الوحشة والافتراق.
وقدم الزاني في هذه الآية لأن الرجل أصل في النكاح من حيث أنه هو الطالب، ومنه تبدأ الخطبة؛ ولأن الآية نزلت في فقراء المهاجرين الذين رغبوا في نكاح موسرات كانت بالمدينة من بقايا المشركين لينفقن عليهم من أكسابهن على عادة الجاهلية، فاستأذنوا رسول الله في ذلك فنفر عنه ببيان أنه من أفعال الزناة، وخصائص المشركين، كأنه قيل: الزاني لا يرغب إلا في نكاح إحداهما، والزانية لا يرغب في نكاحها إلا أحدهما، فلا تحوموا حوله، كيلا تنتظموا في سلكهما، أو تتسموا بسمتهما81.
فالآية تفيد نفور طبع المؤمن من نكاح الزانية، ونفور طبع المؤمنة من نكاح الزاني، واستبعاد وقوع هذا الرباط بلفظ التحريم الدال على شدة الاستبعاد: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) وبذلك تقطع الوشائج التي تربط هذا الصنف المدنس من الناس بالجماعة المسلمة الطاهرة النظيفة82.
والحاصل: أن الزاني لا يطأ إلا زانية، أي: لا يتهيأ له الحصول على من يشاركه هذا الإثم إلا امرأة فاسدة فاسقة مثله، فهو فاسد فاسق، لا يستجيب له إلا فاسدة فاسقة، أو مشركة لا تؤمن بالله، ولا تخشى حسابًا أو جزاء، فهي لهذا مستخفة بكل معنى من معاني الخلق والفضيلة؛ إذ لا ترجو بعثًا، ولا تطمع في ثواب، ولا تخشى من عقاب، وكذلك الشأن في الزانية، إنها لا تدعو إليها إلا فاسدًا فاسقًا، يستجيب لها، ويواقع المنكر معها، أو مشركًا لا يؤمن بالله، ولا باليوم الآخر، وفي هذا تغليظ لهذا الجرم، واستخفاف بأهله، وأنهم أهل سوء، يجتمع بعضهم إلى بعض، فليس فيهما صالح وفاسد، وإنما هما كائنان فاسدان، ينجذب بعضهما إلى بعض، كما ينجذب الذباب إلى القذر والعفن.
فالآية الكريمة تحكي بأسلوب بديع ما تقتضيه طبيعة الناس في التآلف والتزاوج، وتبين أن المشاكلة في الطباع علة للتلاقي، وأن التنافر في الطباع علة للاختلاف.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف)83 84.
ومن الأدلة على أن من أسباب الاجتماع التناسب والتجانس في بعض الصفات: قوله تعالى: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ) [النور:٢٦].
(ﯛ ﯜ) أي: إن الخبيثات لا يرغب فيهن إلا الخبيثون، والآية مبنية على الآية السابقة: (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ) لأن الخبيثات والخبيثين هم الزواني (ﯠ ﯡ) وهم العفائف؛ فلا يجوز أن يتزوج عفيف إلا عفيفة مثله، ولا أن تتزوج عفيفة إلا عفيفًا مثلها، وهذه هي سنة النفوس الفاضلة، والخلق الكامل، هذا ولم تخرج أوامره تعالى وإرشاداته لخلقه عن أسمى الأخلاق التي تصبو إليها الإنسانية، وتنتظم بها الأسر، فلا يختلط الخبيث بالطيب، ولا يدنس العفيف نفسه بمخالطة البغي، ولا تنزل العفيفة إلى درك الزاني الفاجر (ﯥ) الطيبون والطيبات (ﯦ ﯧ ﯨ) أي: مما يقوله فيهم الخبيثون والخبيثات، الوالغون في الأعراض، الطاعنون في الكرامات85.
وقال تعالى: (ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ) [الأنفال:٣٧] أي: ويجعل الله الخبيث بعضه منضمًا متراكبًا على بعض، بحسب سنته تعالى في اجتماع المتشاكلات، واختلاف المتناكرات86.
فقوله: (ﮏ ﮐ ﮑ) أي: الفريق الكافر (ﮒ ﮓ) أي: من الفريق المؤمن (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) أي: يجمعه متراكمًا بعضه على بعض87.
فيجمع الله الخبيث على الخبيث فيلقي به في جهنم، وتلك غاية الخسران، والتعبير القرآني يجسم الخبيث حتى لكأنه جِرم ذو حجم، وكأنما هو كومة من الأقذار، يقذف بها في النار، دون اهتمام ولا اعتبار (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ) وهذا التجسيم يمنح المدلول وقعًا أعمق في الحس، وتلك طريقة القرآن الكريم في التعبير والتأثير88.
فيجمع الله بين من كانوا يجتمعون في هذه الدنيا على الباطل، ويستحبون الاجتماع معهم أن يجمعوا في عذاب الآخرة، على ما كانوا يستحبون الاجتماع في الملاهي والطرب في هذه الدنيا ويجتمعون على ذلك؛ فيجمع بين أولئك وبين قرنائهم في جهنم، ويقرن بعضهم إلى بعض في العذاب، كما قال تعالى (ﮉ ﮊ) أي: من مات منهم على الكفر (ﮋ ﮌ ﮍ) [الأنفال:٣٦] أي: يجمعون، وعلة هذا الجمع أن يميز الله تعالى الخبيث من الطيب، فالطيبون وهم المؤمنون الصالحون يعبرون الصراط إلى الجنة دار النعيم، وأما الخبيث وهم فريق المشركين فيجعل بعضه إلى بعض فيركمه جميعًا كومًا واحدًا، فيجعله في جهنم.
ليس كل اجتماع محمودًا شرعًا، ولا كل فُرقة منهي عنها شرعًا، فهناك اجتماع محمود، واجتماع مذموم، وهناك فُرقة محمودة، وفرقة مذمومة.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: «الاجتماع بالإخوان قسمان، أحدهما: على مؤانسة الطبع، وشغل الوقت، فهذا مضرته أرجح من منفعته، وأقل ما فيه أنه يفسد القلب، ويضيع الوقت، الثاني: الاجتماع بهم على التعاون على أسباب النجاة، والتواصي بالحق والصبر؛ فهذا من أعظم الغنيمة وأنفعها»89.
وقد ذكر العلماء أن الاجتماع على ضربين: اجتماع أجسام، واجتماع معانٍ، وهي الأخلاق والأهواء، وجعل افتراق الأهواء كافتراق الأجسام90، وهذه تنقسم إلى ما هو محمود، وما هو مذموم.
وقد سميت سورة من القرآن باسم سورة (الزُمر)، أي: الجماعات، وفيها ذُكر الاجتماع بنوعيه المحمود والمذموم، وفيها عرض لحال من اجتمعوا في الدنيا على الخير زُمرًا، وحال من اجتمعوا في الدنيا على الشر زُمرًا، وحال الفريقين حين يردون الآخرة.
قال تعالى: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [الزمر:٧١].
وقال في الفريق الآخر: (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ) [الزمر:٧٣].
و(ﮈ) أي: جماعات، والواحد: زمرة، ويقال: تزمر القوم إذا اجتمعوا، وزمرتهم، أي: جمعتهم، وأصله: أن يساق كل فريق على ما أحبوا، وكانوا في الدنيا جماعة جماعة، وأمة أمة، وعلى ما يجتمعون في هذه الدنيا، أهل الخير على أهل الخير، وأهل الشر على أهل الشر، وسروا بالاجتماع في ذلك، لكن أهل الخير يساقون إلى الجنة على ما كانوا يجتمعون في هذه الدنيا مسرورين، وأهل الكفر يساقون إلى النار على ما كانوا يجتمعون في هذه الدنيا على الشر حزنين مغتمين91.
قال ابن القيم رحمه الله: وتأمل ما في سَوْقِ الفريقين إلى الدارين (ﮈ) من فرحة هؤلاء بإخوانهم، وسيرهم معهم كل (زمرة) على حدة، كلُ مشتركين في عمل، متصاحبين فيه على زمرتهم وجماعتهم، مستبشرين، أقوياء القلوب، كما كانوا في الدنيا وقت اجتماعهم على الخير، كذلك يؤنس بعضهم بعضًا، ويفرح بعضهم ببعض، وكذلك أصحاب الدار الأخرى يساقون إليها (ﮈ) يلعن بعضهم بعضًا، ويتأذى بعضهم ببعض، وذلك أبلغ في الخزي والفضيحة والهتيكة من أن يساقوا واحدًا واحدًا، فلا تهمل تدبر قوله: (ﮈ)92.
أولًا: الاجتماع المحمود:
الاجتماع المحمود هو الذي يكون على الحق، والتعاون عليه ونصرته، والاجتماع على الأعمال الصالحة، ويمكن القول: إن الاجتماع المحمود هو كل ما تتحقق به المصالح والواجبات الشرعية، وتندفع به المضار والمفاسد، وقد أمر الله تعالى في القرآن بالاجتماع والائتلاف والاتفاق، قال تعالى: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ) [آل عمران:١٠٣] يريد بذلك: تمسكوا بدين الله الذي أمركم به، وعهده الذي عهده إليكم في كتابه، من الألفة والاجتماع على كلمة الحق، والتسليم لأمر الله.
والحبل لفظ مشترك، وأصله في اللغة السبب الذي يتوصل به إلى البغية، وهو إما تمثيل أو استعارة، أمرهم سبحانه بأن يجتمعوا على التمسك بدين الإسلام، أو بالقرآن، والمعاني كلها متقاربة متداخلة، وذكر ابن جرير عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن حبل الله هو: الجماعة، وذكر بأسانيده أقوالًا أخرى عن السلف في تفسير معنى (حبل الله) منها: القرآن، والإخلاص لله وحده، والإسلام93، وهذه الأقوال مؤداها واحد، ونتيجتها واحدة، فإن الاعتصام بالقرآن، والإخلاص لله وحده، والتمسك بالإسلام الصحيح الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها مما ينتج عنه تآلف المسلمين، واجتماعهم، وترابطهم، وتماسك مجتمعهم.
قال القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية: «فإن الله تعالى يأمر بالألفة، وينهى عن الفرقة، فإن الفرقة هلكة، والجماعة نجاة»94.
وزاد الله الأمر تأكيدًا حيث قال: (ﭵ ﭶ) أي: بعد الاجتماع، فالافتراق نقيض الاجتماع، قال الراغب الأصفهاني: قوله: (ﭵ ﭶ) حث على الألفة والاجتماع الذي هو نظام الإيمان، واستقامة أمور العالم95.
ثم أمرهم بتذكر نعمته عليهم، فقال: (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ) [آل عمران:١٠٣].
قال الزمخشري: «كانوا في الجاهلية بينهم الإحن والعداوات والحروب المتواصلة، فألف الله بين قلوبهم بالإسلام، وقذف فيها المحبة، فتحابوا، وتوافقوا، وصاروا إخوانًا متراحمين متناصحين مجتمعين على أمر واحد، قد نظم بينهم، وأزال الاختلاف، وهو الأخوة في الله»96.
وقال السيوطي: «إذ كنتم تذابحون فيها، يأكل شديدكم ضعيفكم، حتى جاء الله بالإسلام، فآخى به بينكم، وألف به بينكم، أما والله الذي لا إله إلا هو إن الألفة لرحمة، وإن الفرقة لعذاب»97.
وهذا يدل على أن الاعتصام والاجتماع أصل عظيم في الإسلام.
يقول شيخ الإسلام: «وهذا الأصل العظيم وهو الاعتصام بحبل الله جميعًا، وأن لا يتفرق هو من أعظم أصول الإسلام، ومما عظمت وصية الله تعالى به في كتابه، ومما عظم ذمه لمن تركه من أهل الكتاب وغيرهم، ومما عظمت به وصية النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن عامة وخاصة»98.
وفي قوله: (ﭲ ﭳ) دليل على أن الاجتماع المطلوب والمرغوب، والثابت والدائم، هو الاجتماع على الدين، فدين الله دين الاجتماع والخير، فإذا خرج الناس عن هذا الدين إلى الآراء الهدامة، والأفكار المنحرفة تفرقوا شيعًا وأحزابًا، وصار بعضهم عدوًا لبعض، يكفر بعضهم بعضًا، ويفسق بعضهم بعضًا، ويبدع بعضهم بعضًا.
فالمذاهب الهدامة، والآراء الضالة، والأفكار المنحرفة كلها تدعو إلى الفرقة والاختلاف، فتحول الأمة إلى كيانات متناحرة، يعادي بعضهم بعضًا، كما وصف الله اليهود، حيث قال: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) [الحشر:١٤].
لكن المؤمنين خلاف ذلك تمامًا، فهم أهل مودة وتناصح ومحبة في الظاهر والباطن، يحب بعضهم بعضًا، ويوالي بعضهم بعضًا.
ونهى الله تعالى عن ضد الاجتماع، وهو الاختلاف والتفرق شيعًا وأحزابًا، المؤدي إلى العداوة والبغضاء والفشل والإتلاف، فقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) [الأنفال:٤٦].
وهذه الآية تحض على الاجتماع، وقد بينَ القرآن في سورة الحشر أن اختلاف القلوب، ومعاداة البعض للبعض منشؤه إنما يكون من ضعف العقول، كما قال في اليهود: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) [الحشر:١٤].
ثم كأن قائلًا قال: ما الموجب الذي صير قلوبهم شتى، أي: مختلفة متنافرة؟! وهم أمة واحدة متفقة في الأهداف والأغراض؟ فبين العِلة، فقال: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ).
وليس المراد هنا نفي العقل من أصله، وإنما نفي كمال العقل، يعني: أن عقولهم ليست ناضجة كما ينبغي، أما هم في الحقيقة فمن جملة العقلاء، وهذا يدل على أن هذه الفِرَق -التي تدعي الإسلام- المختلفة، التي يبغض بعضها بعضًا، وإن تجاملت في ظاهر الأمر أن سبب ذلك إنما هو ضعف العقول في بعضها، وقد يكون المختلفان أحدهما عنده عقل كامل يدعو إلى الطريق المستقيم بعقله المستقيم، والآخر ضعيف العقل يَفِر من تلك الطريق ويخالف، فهذا من ضعف العقل99.
فواضحٌ جدًا أن التنازع هو أحد أسباب الهزيمة الرئيسة، كما أن تجنبه من أسباب النصر الرئيسة، ومن ينظر إلى الواقع، ويعتبر بمسيرة التاريخ يدرك أن الفشل والخذلان الذي لحق بالأمة كان سببه الفرقة والخلاف، فهذه الآية تأتي ضمن عوامل النصر الحقيقية: من الثبات، وذكر الله، وطاعة الله ورسوله، وتجنب الشقاق والنزاع والصبر، والحذر من البطر والرياء.
ولا يتنازع الناس إلا بسبب تعدد القيادات، وبسبب الهوى، حينما يجعل كل واحد من نفسه قائدًا وموجهًا، ولا يقبل من غيره ذلك، ثم يركبه الهوى في تحسين ذاته ونفسه، فيرى من نفسه الحق المطلق، أما مجرد اختلاف أوجه النظر في المسألة الواحدة فليس من أسباب التنازع، لو تجرد صاحب النظر عن الهوى والإعجاب بالنفس.
فإذا وقع التنازع بسبب الهوى والعُجب تغيرت النفوس، وخُدش صفاء الأخوة، فكان الانتصار للنفس لا للحق والصواب، وللذات لا للجماعة والأمة، فتذهب القوى بتشتيتها، وتضعف بتمزيقها، فلو وقعت الهزيمة لم يكن أمرًا عجبًا.
ومن الآيات الواردة في النهي عن التفرق، والأمر بالاجتماع قوله تعالى: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ) [الأنعام:١٥٩].
فقوله: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) أي: أنت منهم برئ، وهم منك براء، أي: لم تتلبس بشيء من مذاهبهم، والعرب تقول: إن فعلت كذا فلست مني ولست منك، أي: كل واحد منا برئ من صاحبه100.
وفي هذا غاية الحث على الاجتماع، ونهاية التوعد على الافتراق101.
قال ابن كثير رحمه الله: «والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله، وكان مخالفًا له؛ فإن الله بعث رسوله بالهدى، ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله، وشرعه واحد لا اختلاف فيه، ولا افتراق؛ فمن اختلفوا فيه (ﭽ ﭾ) أي: فرقًا، كأهل الملل والنحل والأهواء والضلالات، فإن الله قد برأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مما هم فيه»102.
وقال السعدي: «دلت الآية الكريمة أن الدين يأمر بالاجتماع والائتلاف، وينهى عن التفرق والاختلاف في أصل الدين، وفي سائر مسائله الأصولية والفروعية»103.
وكذلك نهانا الله أن نكون ممن فرقوا دينهم، فقال: (ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ) [الروم:٣٢].
وقال: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ) [المؤمنون:٥٣].
وهذا نهي عن التفرق، وهو في نفس الوقت أمر بالاجتماع والتوحد على الحق والدين.
وقال تعالى: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) [آل عمران:١٠٥].
وانظر كيف جمع بين (ﮩ ﮪ) قال بعضهم: تفرقوا واختلفوا معناهما واحد، وذكرهما للتأكيد، وقيل: بل معناهما مختلف، ثم اختلفوا فقيل: تفرقوا بالعداوة، واختلفوا في الدين، وقيل: تفرقوا بسبب استخراج التأويلات الفاسدة من تلك النصوص، ثم اختلفوا بأن حاول كل واحد منهم نصرة قوله ومذهبه، والثالث: تفرقوا بأبدانهم؛ بأن صار كل واحد من أولئك الأحبار رئيسًا في بلد، ثم اختلفوا بأن صار كل واحد منهم يدعي أنه على الحق، وأن صاحبه على الباطل104.
وأريد بالذين تفرقوا واختلفوا: الذين اختلفوا في أصول الدين من اليهود والنصارى من بعد ما جاءهم من الدلائل المانعة من الاختلاف والافتراق، وقدم الافتراق على الاختلاف للإيذان بأن الاختلاف علة التفرق، وهذا من المفادات الحاصلة من ترتيب الكلام، وذكر الأشياء مع مقارناتها...، وفيه: إشارة إلى أن الاختلاف المذموم والذي يؤدي إلى الافتراق هو الاختلاف في أصول الديانة الذي يفضي إلى تكفير بعض الأمة بعضًا، أو تفسيقه، دون الاختلاف في الفروع المبنية على اختلاف مصالح الأمة في الأقطار والأعصار، وهو المعبر عنه بالاجتهاد، وإذا تقصينا تاريخ المذاهب الإسلامية لا نجد افتراقًا نشأ بين المسلمين إلا عن اختلاف في العقائد والأصول، دون الاختلاف في الاجتهاد في فروع الشريعة105.
ومن الآيات الواردة في النهي عن التفرق قوله تعالى: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [الشورى:١٣].
والضمير في قوله: (ﮑ) راجع إلى الدين في قوله: (ﮌ ﮍ ﮎ)106.
قال السعدي: «ولهذا قال: (ﮌ ﮍ ﮎ) أي: أمركم أن تقيموا جميع شرائع الدين أصوله وفروعه، تقيمونه بأنفسكم، وتجتهدون في إقامته على غيركم، وتعاونون على البر والتقوى، ولا تعاونون على الإثم والعدوان (ﮏ ﮐ ﮑ) أي: ليحصل منكم الاتفاق على أصول الدين وفروعه، واحرصوا على أن لا تفرقكم المسائل، وتحزبكم أحزابًا، وتكونون شيعًا، يعادي بعضكم بعضًا مع اتفاقكم على أصل دينكم، ومن أنواع الاجتماع على الدين، وعدم التفرق فيه ما أمر به الشارع من الاجتماعات العامة، كاجتماع الحج والأعياد، والجمع والصلوات الخمس والجهاد، وغير ذلك من العبادات التي لا تتم ولا تكمل إلا بالاجتماع لها، وعدم التفرق»107.
ومن الآيات التي تحث المؤمنين على الاجتماع قوله تعالى: (ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) [الأنفال:١].
وقوله تعالى: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ) [الحجرات:١٠].
وهذه الأخوَة لا يمكن أن تتحقق إلا بالاجتماع، ونبذ الفرقة.
فالمسلمون مأمورون بالاجتماع، وبمحبة بعضهم بعضًا، والسعي إلى ما تأتلف به القلوب، يقول الله عز وجل: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [التوبة:٧١].
فالمؤمن ولي للمؤمن، ولاية تقتضي المحبة والمودة والنصيحة والتوجيه والدعوة للخير.
والحاصل: أن هذه الآيات تدل على وجوب الاجتماع والائتلاف وفضله، والحث عليه، وتحريم التفرق والاختلاف، وسوء عاقبته، فقد أوجب الله على المسلمين أن يكونوا إخوة مجتمعين على الحق، متحابين متعاونين على البر والتقوى، متناهين عن الإثم والعدوان، وشرع لهم ما يقوي هذه الأخوة والمحبة من الاجتماع على الصلوات والخمس والجمع والأعياد والحج، كما شرع لهم تبادل التحية والسلام والمصافحة، وتشميت العاطس، وإجابة الدعوة والنصيحة، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتبادل الهدايا، وكل هذا من أسباب المحبة والألفة، وإزالة العداوة والبغضاء.
وقد ذكر القرآن أنواعًا من الاجتماعات المحمودة، منها:
١. الاجتماع على طاعة الله تعالى.
فقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والأمر لأمته أيضًا: أن يجلس مع الذين يذكرون الله ويهللونه ويحمدونه ويسبحونه ويكبرونه ويسألونه بكرة وعشيًا، من عباد الله، سواء كانوا فقراء أو أغنياء، أو أقوياء أو ضعفاء، كما قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [الكهف:٢٨].
يقال: إنها نزلت في أشراف قريش حين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلس معهم وحده، ولا يجالسهم بضعفاء أصحابه كبلال وعمار وصهيب وخباب وابن مسعود -رضي الله عنهم-؛ وليفرد أولئك بمجلس على حدة، فنهاه الله عن ذلك108، فقال: (ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ) [الأنعام:٥٢] وأمره أن يصبر نفسه في الجلوس مع هؤلاء109.
والحكمة من الحث على الاجتماع على الطاعة: أن الاجتماع على الهدى تثبيتٌ وقوة، وأن كثرة السائرين على الطريق تورث الأُنس، وتهوِن مشقة السير، بخلاف الانفراد في السير فإنه يورث الوحشة، ويستجلب الملل، فالإنسان إذا كان معه سالكون لم يستوحش، وكلما كثر السالكون شاع الأمن، ورسخت الطمأنينة، أما السالك وحده فإنه قد يستوحش، وقد يضعف، وقد يسقط، وقد تأكله الذئاب، ويد الله مع الجماعة، وإنما يأكل الذئبُ من الغنم القاصية، وهذا الأمر حاصل لمن سلك سبل الدنيا، ولمن سلك سبل المبادئ والقيم سواء بسواء، وهو في الثانية أظهر وأخطر110.
فالاجتماع على الهدى، وسير المجموعة على الصراط دليل قوة، فإذا كثر السالكون يزيد الأنس، ويقوى الثبات، وكلما كثر السالكون كان ادعى للاطمئنان والاستئناس، والاجتماع رحمة، والفرقة عذاب، ومما يشير إلى الأنس بالاجتماع، وطبيعة حب النفس للاجتماع، ما ورد في قوله تعالى: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [النساء:١٣].
فـ(ﯤ) جاءت بصيغة الجمع؛ لأن المؤمنين في الجنة يستمتعون بالأنس ببعضهم.
وقوله: (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) [النساء:١٤].
فـ(ﯳ) جاءت بصيغة المفرد، فيزيد على عذاب الكافر عذاب الوحدة، فكأنما عذبه الله تعالى بشيئين: النار، والوحدة111.
والمقصود: أن الاجتماع لا يحمد إلا إذا كان على الحق.
ولهذا لما شرع الله تعالى لعباده أحسن شرع وأكمله وأعظمه أمرهم بالاجتماع عليه، فقال: ( ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [الشورى:١٣].
قال ابن كثير: «أي: وصى الله سبحانه وتعالى جميع الأنبياء عليهم السلام بالائتلاف والجماعة، ونهاهم عن الافتراق والاختلاف»112.
فالأنبياء كلهم والأمم -أمم الأنبياء- مأمورة بذلك، كلهم مأمورون بالاجتماع، لكن المراد هنا: الاجتماع على الحق والخير، فإذا اجتمعت الأمة على الحق الذي هو لا إله إلا الله، ومنافاة البدع جملة وتفصيلًا، ومنافاة الشر والفجور، حينئذٍ هذا هو الاجتماع المطلوب، وليس الاجتماع على أيِ بدعة أو على أيِ باطل وشر.
٢. الاجتماع على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله.
ومن الاجتماعات المحمودة: الاجتماع على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير.
قال تعالى: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ) [آل عمران: ١٠٤].
فقوله: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) أي: جردوا من أنفسكم أمة مجتمعة، تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر.
وسواء أكان الأمر موجهًا إلى الأمة الإسلامية كلها، أو إلى جماعة منها، فإن معطيات هذا الأمر واحدة، حيث تكون الأمة كلها منقادة للقيادة الرشيدة فيها، وهي جماعة العلماء العاملين بعلمهم، الداعين إلى الخير، الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، وبهذا تصبح الأمة كلها على هذا الطريق المستقيم.
فالأمة في هذه الآية بمعنى الجماعة، والمعنى: ولتكن منكم أيها المسلمون أمة لها كيان ونظام، أمة مؤتلفة الأعضاء، موحدة الجهات، لا ترهب أحدًا، ولا تخاف شيئًا، دينها قول الحق، ورفع الظلم، ولو كان عند سلطان جائر، لا تخشى في الله لومة لائم، لها رئاسة وقانون، كل ذلك قد أشارت إليه كلمة واحدة وهي (أمة) إذ هناك فرق بين قولك: جماعة وأمة، فعلى المسلمين جميعًا واجب تكوين تلك الأمة؛ لتكون بهذا الوضع، وعلى الأمة المكونة واجب أن تقوم بمهمة الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والذب عن حياض الدين، ورفع منارة الحق والعدل.
فالمسلمون جميعًا مكلفون بتكوين جماعة خاصة للدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، فهذه الجماعة المكونة بهذا الوضع السابق لها حق الإشراف والتكوين والتوجيه والحساب والعمل على خدمة المسلمين، وهذا أشبه بمجلس الأمة! وعلى الأمة جميعًا اختيار طائفة خاصة تقوم بتلك المهمة على سبيل الوجوب، وفي سبيل قيامها بواجبها يجب أن تتوافر فيها شروط العلم الديني، والعلوم التي يحتاج إليها من يخاطب الناس، ويؤثر فيهم مع التقوى والتخلق بأخلاق الأنبياء، وأن يكون الداعية مثلًا أعلى في الخلق الكامل، ولنا في رسول الله أسوة حسنة.
ثم قال: (ﮦ ﮧ) أيها المسلمون (ﮨ ﮩ ﮪ) اختلافًا كثيرًا، كما حصل لليهود والنصارى (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) الواضحات التي تهديهم إلى السبيل لو اتبعوها، وما ذلك إلا لأنهم تركوا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولم تكن فيهم أمة تهديهم إلى الخير، وترشدهم إلى الطريق113.
والمقصود: أن من الاجتماعات المأمور بها الاجتماع على الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهذا مستفاد من قوله: (ﮖ ﮗ ﮘ). والأمة مأخوذة من أمَ بمعنى قصد؛ والجماعة من الناس التي تربطها رابطة، وتجمعها جامعة تسمى أمة؛ لأن كل واحد منها يؤم المجموع ويقصده، ويعتمد عليه في مدلهم الأمور.
ولقد جاء في مفردات الراغب الأصفهاني في معنى الأمة ما نصه: «والأمة: كل جماعة يجمعهم أمر؛ إما دين واحد، أو زمان واحد، أو مكان واحد، سواء أكان الأمر الجامع تسخيرًا أو اختيارًا، وجمعها أمم، وقوله تعالى: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ) [الأنعام:٣٨] أي: كل نوع منها على طريقة قد سخرها الله عليها بالطبع، فهي من بين ناسجة كالعنكبوت، وبانية كالسُرْفة114، ومدخرة كالنمل، ومعتمدة على قوت وقتها كالعصفور والحمام، إلى غير ذلك من الطبائع التي تخصص بها كل نوع»115.
وفي الآية إرشاد من الله للمؤمنين أن يكون منهم جماعة متصدية للدعوة إلى سبيله، وإرشاد الخلق إلى دينه، كما تدل عليه الآية الكريمة في قوله:( ﮖ ﮗ ﮘ) الخ، أي: لتكن منكم جماعة يحصل المقصود بهم في هذه الأشياء المذكورة.
ومن المعلوم المتقرر أن الأمر بالشيء أمر به وبما لا يتم إلا به، فكل ما تتوقف هذه الأشياء عليه فهو مأمور به، كالاستعداد للجهاد بأنواع العدد التي يحصل بها نكاية الأعداء، وعز الإسلام، وتعلم العلم الذي يحصل به الدعوة إلى الخير وسائلها ومقاصدها، وبناء المدارس للإرشاد والعلم، ومساعدة النواب ومعاونتهم على تنفيذ الشرع في الناس بالقول والفعل والمال، وغير ذلك مما تتوقف هذه الأمور عليه، وهذه الطائفة المستعدة للدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر هم خواص المؤمنين116.
فلا بد إذن من جماعة مجتمعة تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، لا بد من سلطة في الأرض تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، والذي يقرر أنه لا بد من سلطة هو مدلول النص القرآني ذاته، فهناك (دعوة) إلى الخير، ولكن هناك كذلك (أمر) بالمعروف، وهناك (نهي) عن المنكر، وإذا أمكن أن يقوم بالدعوة غير ذي سلطان، فإن الأمر والنهي لا يقوم بهما إلا ذو سلطان، هذا هو تصور الإسلام للمسألة، إنه لا بد من سلطة تأمر وتنهى، سلطة تقوم على الدعوة إلى الخير، والنهي عن الشر، سلطة تتجمع وحداتها، وترتبط بحبل الله، وحبل الأخوة في الله، سلطة تقوم على هاتين الركيزتين مجتمعتين لتحقيق منهج الله في حياة البشر، وتحقيق هذا المنهج يقتضي (دعوة) إلى الخير، يعرف منها الناس حقيقة هذا المنهج، ويقتضي سلطة تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر فتطاع117.
ثانيًا: الاجتماع المذموم:
الاجتماع وإن كان مطلوبًا شرعًا، ومحمودًا عقلًا، إلا أنه لا يختلف عاقلان في أن التفرق والتبدد أولى من الاجتماع على الشرور، والاتفاق على الفجور؛ وعلى الباطل والبدع والضلال، وقد حكى لنا القرآن أمثلة كثيرة على الاجتماع على الباطل والشر، ومن هذه الأمثلة:
١. الاجتماع على المكر والخداع.
كاجتماع بني يعقوب، حين أجمعوا أمرهم على المكر بيوسف عليه السلام، وجعله في غيابة الجب.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ) [يوسف:١٥] وقال: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ) [يوسف:١٠٢].
والاجتماع والإجماع هو الإعداد والعزيمة على الأمر، فهؤلاء اجتمعوا على رأي واحد، واتفقوا على فكرة واحدة، ولكنها في خانة الباطل، وفي المكر والخداع، وبمن؟! بأقرب الناس إليهم! اجتمعوا صفًا واحد ضد أخ لهم؛ حسدًا وبغيًا، فما أقبحه من اجتماع! ويا ويله من تلاقٍ!
ومعنى الآية: وما كنت لدى إخوة يوسف في الوقت الذي أجمعوا فيه أمرهم على التخلص من يوسف بأي ثمن، وهم يحتالون على إخراجه من بين يدي أبويه؛ ليلقوه في غيابة الجب؛ تخلصًا منه، حيث رأوا أنه حجب عنهم وجه أبيهم، وذهب بعطفه وحنانه دونهم.
قال ابن جرير: أي: وما كنت حاضرًا عند إخوة يوسف إذ أجمعوا واتفقت آراؤهم، وصحت عزائمهم، على أن يلقوا يوسف في غيابة الجب؛ وذلك كان مكرهم الذي قال الله عز وجل: (ﰄ ﰅ)118.
فهم قد تشاوروا كثيرًا، وتعاقدوا على التفريق بينه وبين أبيه، واستقر رأيهم بعد تكرر المشاورة على ما فعلوا به، واتفقوا عليه، في حالة لا يطلع عليها إلا الله تعالى، ولا يمكن أن يصل أحد إلى علمها إلا بتعليم الله له إياها.
٢. الاجتماع على الإفساد في الأرض.
من الاجتماع المذموم الاجتماع على الفساد.
قال تعالى: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ) [النمل:٤٨-٤٩].
«يقول تعالى ذكره: وكان في مدينة صالح، وهي حِجر ثمود، تسعة أنفس، يفسدون في الأرض، ولا يصلحون، وكان إفسادهم في الأرض كفرهم بالله، ومعصيتهم إياه، وإنما خص الله -جل ثناؤه- هؤلاء التسعة الرهط بالخبر عنهم أنهم كانوا يفسدون في الأرض، ولا يصلحون، وإن كان أهل الكفر كلهم في الأرض مفسدين؛ لأن هؤلاء التسعة هم الذين سعوا في عقر الناقة، وتعاونوا عليه، وتحالفوا على قتل صالح من بين قوم ثمود»119.
فهؤلاء اجتمعوا على الإفساد في الأرض، وقتل الناقة، وتعاهدوا وتقاسموا على ذلك، قال ابن كثير: «يقال: إنهم اتفقوا كلهم على قتلها، قال قتادة: بلغني أن الذي قتل الناقة طاف عليهم كلهم، أنهم راضون بقتلها، حتى على النساء في خدورهن، وعلى الصبيان أيضًا -قال ابن كثير-: قلت: وهذا هو الظاهر؛ لأن الله تعالى يقول: (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [الشمس:١٤].
وقال: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) [الإسراء:٥٩].
وقال: (ﮎ ﮏ) [الأعراف:٧٧].
فأسند ذلك إلى مجموع القبيلة، فدل على رضا جميعهم بذلك، والله أعلم»120.
وإنما جاز تمييز التسعة بالرهط لأنه في معنى الجماعة، فكأنه قيل: تسعة أنفس، والفرق بين الرهط والنفر: أن الرهط من الثلاثة إلى العشرة، أو من السبعة إلى العشرة، والنفر من الثلاثة إلى التسعة...، وكانوا عتاة قوم صالح عليه السلام، وكانوا من أبناء أشرافهم، وقوله: (ﮅ ﮆ) يعني: أن شأنهم الإفساد البحت الذي لا يخلط بشيء من الصلاح؛ مع أنك قد تجد بعض المفسدين قد يندر منه بعض الصلاح121.
هؤلاء الرهط التسعة الذين تمحضت قلوبهم وأعمالهم للفساد وللإفساد، بحيث لم يعد بها متسع للصلاح والإصلاح، فضاقت نفوسهم بدعوة صالح وحجته، وبيتوا فيما بينهم أمرًا، وهو قتله عليه السلام.
ومن العجب أن يتداعوا إلى القسم بالله مع هذا لشر المنكر الذي يبيتونه! وهو قتل صالح وأهله بياتًا، وهو لا يدعوهم إلا لعبادة الله! وإنه لمن العجب كذلك أن يقولوا: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) [النمل:٤٩] ولا حضرنا مقتله (ﮔ ﮕ) فقد قتلوهم في الظلام، فلم يشهدوا هلاكهم، أي: لم يروه بسبب الظلام! وهو احتيال سطحي، وحيلة ساذجة، ولكنهم يطمئنون أنفسهم بها، ويبررون كذبهم، الذي اعتزموه للتخلص من أولياء دم صالح وأهله، نعم من العجب أن يحرص مثل هؤلاء على أن يكونوا صادقين! ولكن النفس الإنسانية مليئة بالانحرافات والالتواءات، وبخاصة حين لا تهتدي بنور الإيمان، الذي يرسم لها الطريق المستقيم، كذلك دبروا، وكذلك مكروا، ولكن الله كان بالمرصاد يراهم ولا يرونه، ويعلم تدبيرهم، ويطلع على مكرهم، وهم لا يشعرون (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) [النمل:٥٠]122.
وكما في كل جماعة رأس أو رؤوس تقودها، وتتولى تدبير أمرها، فكذلك كان في هذه الجماعة أكثر من رأس، لقد كان فيها تسعة رؤوس، كلهم فاسد، لا يدعون إلا إلى الشر، ولا يعملون إلا فيما هو شر.
والحاصل: أن هؤلاء النفر قد اجتمعوا وائتمروا فيما بينهم، على أن يهلكوا صالحًا وأهله، فأقسموا على ذلك، وجعلوا لتنفيذ هذه المؤامرة وقتًا هو الليل، ثم اتفقوا كذلك على الموقف الذي يلقون به ولي الدم لصالح وأهله؛ وذلك بأن ينكروا أنهم شهدوا مصرع صالح ومن معه.
٣. الاجتماع على الكفر والاستهزاء بدين الله.
ومن الاجتماعات المذمومة التي ذمها الله في القرآن: اجتماع الكفار والمنافقين على السخرية والاستهزاء بدين الله.
قال تعالى: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ) [النساء:١٤٠].
ونظيره: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ) [الأنعام:٦٨].
فهؤلاء اجتمعوا على الكفر، وهو الاستهزاء بالدين، والخوض في آيات الله بالباطل، فنهى الله عز وجل عن مجالستهم، وحضور اجتماعهم المشوؤم.
ثم زاد الأمر تخويفًا بقوله: إن جالستموهم ورضيتم باستهزائهم (ﯽ ﯾ ﯿ) أي: في الكفر123.
قال أبو جعفر: وفي هذه الآية الدلالة الواضحة على النهي عن مجالسة أهل الباطل من كل نوع، من المبتدعة والفسَقة، عند خوضهم في باطلهم124.
وفي الآية وجوب الإعراض عن مجالس المستهزئين بآيات الله، أو بحججه، أو برسله، وأن لا يقعد معهم؛ لأن في القعود إظهار عدم الكراهة؛ وذلك لأن التكليف عام لنا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يجب الإعراض، وترك الجلوس معهم إذا لم يطمع في قبولهم، فإذا انقطع طمعه إذًا فلا فائدة في دعائهم، ويجب القيام عن مجالسهم إذا عرف أن قيامه يكون سببًا في ترك الخوض، وأنهم إنما يفعلونه مغايظة للواقف إذا كان وقوفه يوهم عدم الكراهة125.
ففي قوله تعالى: (ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ) نهي للمسلمين عن الجلوس في هذا المجلس القائم على تلك الصفة، وليس نهيًا عامًا مطلقًا على تجنب الجلوس مع المنافقين والكافرين، ففي ذلك إعنات للمؤمنين، فقد تستدعي أحوالهم أن يكونوا بحيث لا منصرف لهم عن الحياة مع هذه الجماعة، وتبادل المنافع معها!
على أن من السلامة لدين المؤمن أن يتجنب مجالس هؤلاء القوم ما استطاع، فإذا مست هذه المجالس دينه بما يسوء كان أمرًا لازمًا عليه أن يتحول عن هذه المجالس في الحال، ولا يخلط نفسه بها، وإلا حمل وزره من الإثم الذي يتعاطاه فيها أهل النفاق والكفر، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: (ﯽ ﯾ ﯿ) أي: لا فرق بينكم أيها المؤمنون وبين هؤلاء الأثمة الذين يهزءون بآيات الله، ويسخرون منها، إذا أنتم استمتعتم إلى هذا المنكر ولم تنكروه.
وفى قوله تعالى: (ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ) تهديد ووعيد بهذا المصير المشئوم الذي ينتظر الكافرين والمنافقين، ومن يلوذ بالكافرين والمنافقين، ويركن إليهم، ويستمع للزور الذي يدور بينهم126. يريد: كما أنهم اجتمعوا على الاستهزاء بآيات الله في الدنيا؛ فكذلك يجتمعون في عذاب جهنم يوم القيامة127.
وهذا هو حضور الزور المنهي عنه، والزور كلُ مَا خالف الحق، فمعنى: (ﮏ ﮐ ﮑ) [الفرقان:٧٢] أي: لا يحضرون الباطل، في أي لون من ألوانه، قولًا أو فعلًا أو إقرارًا.
لذلك يقول الحق سبحانه في موضع آخر: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ) [القصص:٥٥].
وفي قوله تعالى: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) إشارة إلى ما نزل قبل هذا من قرآن في مثل هذا الموقف، وهو قوله تعالى: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ).
فهذه الآية هي توكيد لهذا التنبيه الذي سبق نزول القرآن به من قبل، وتحذير جديد لأولئك الذين لم ينتهوا عما نهوا عنه، والخطاب في الآية موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أمر ملزم لأتباع النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان النبي إمامهم وقدوتهم128.
٤. الاجتماع على الخمر والميسر.
ومن الاجتماع المذموم الاجتماع على الخمر والميسر، قال تعالى: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) [المائدة:٩١].
فلما كان الظاهر فيمن يشرب الخمر أنه يشربها مع جماعة، ويكون غرضه من ذلك الشرب أن يستأنس برفقائه، ويفرح بمحادثتهم ومكالمتهم، فكان غرضه من ذلك الاجتماع تأكيد الألفة والمحبة إلا أن ذلك في الأغلب ينقلب إلى الضد؛ لأن الخمر يزيل العقل، وإذا زال العقل استولت الشهوة والغضب من غير مدافعة العقل، وعند استيلائهما تحصل المنازعة بين أولئك الأصحاب، وتلك المنازعة ربما أدت إلى الضرب والقتل والمشافهة بالفحش؛ وذلك يورث أشد العداوة والبغضاء، فالشيطان يسول أن الاجتماع على الشرب يوجب تأكيد الألفة والمحبة، وبالآخرة انقلب الأمر، وحصلت نهاية العداوة والبغضاء.
وأما الميسر ففيه بإزاء التوسعة على المحتاجين الإجحاف بأرباب الأموال؛ لأن من صار مغلوبًا في القمار مرة دعاه ذلك إلى اللجاج فيه عن رجاء أنه ربما صار غالبًا فيه، وقد يتفق أن لا يحصل له ذلك إلى أن لا يبقى له شيء من المال...، ولا شك أنه بعد ذلك يبقى فقيرًا مسكينًا، ويصير من أعدى الأعداء لأولئك الذين كانوا غالبين له، فظهر من هذا الوجه أن الخمر والميسر سببان عظيمان في إثارة العداوة والبغضاء بين الناس، ولا شك أن شدة العداوة والبغضاء تفضي إلى أحوال مذمومة من الهرج والمرج والفتن، وكل ذلك مضاد لمصالح العالم129.
والمقصود: أن كل اجتماع لم يؤسس على طاعة الله، ولم يكن على نور من الله، فهو اجتماع مذموم، واجتماع يؤول إلى الحسرة والندامة، وتنقلب الألفة إلى نفرة، والمحبة إلى عداوة، والكثرة إلى قلة.
وقد أخبر الله تعالى عن بعض أهل الأعراف أنهم ينادون رجالًا من المشركين يعرفونهم بعلاماتهم، فيقولون لهم: (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ) [الأعراف:٤٨] يعني: ما أغنى عنكم جمعكم واجتماعكم وكثرتكم، ولا استكباركم عن الإيمان.
قال الرازي: والمراد بالجمع: إما جمع المال، وإما الاجتماع والكثرة (ﮫ ﮬ ﮭ) والمراد: استكبارهم عن قبول الحق، واستكبارهم على الناس المحقين، وهذا كالدلالة على شماتة أصحاب الأعراف بوقوع أولئك المخاطبين في العقاب، وعلى تبكيت عظيم يحصل لأولئك المخاطبين بسبب هذا الكلام، ثم زادوا على هذا التبكيت وهو قولهم: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ) [الأعراف:٤٩] فأشاروا إلى فريق من أهل الجنة، كانوا يستضعفونهم، ويستقلون أحوالهم، وربما هزأوا بهم، وأنفوا من مشاركتهم في دينهم، فإذا رأى من كان يدعي التقدم حصول المنزلة العالية لمن كان مستضعفًا عنده قلق لذلك، وعظمت حسرته وندامته على ما كان منه في نفسه130.
١. اتباع الهوى.
من أسباب عدم الاجتماع ومعوقاته: اتباع الهوى.
قال تعالى: (ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ) [الشورى:١٥].
فقوله:( ﯭ ﯮ ﯯ) فيه إشارة إلى أن الأهواء والبدع تفرق؛ ولقد جاء الأمر صريحًا لمحمد صلى الله عليه وسلم باتباع الشرع الحنيف، والنهي عن اتباع الهوى كما في الآية السابقة، وكما في قوله سبحانه: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [الجاثية:١٨].
ولهذا كان السلف يعدون كل من خرج عن الشريعة في شيء من الدين من أهل الأهواء، ويجعلون أهل البدع هم أهل الأهواء، ويذمونهم بذلك.
قال أبو العالية: «تعلموا الإسلام، فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم، فإنه الإسلام، ولا تحرفوا الإسلام يمينًا وشمالًا، وعليكم بسنة نبيكم، والذي كان عليه أصحابه، وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء»131.
وصدق أبو العالية رحمه الله، فهذه الأهواء المذمومة قد فرقت الأمة، وفككت كيان الجماعة المسلمة، والمتأمل لأسباب الفرقة يجد أنها تدور في رحاها بين الجهل وبين اتباع الهوى، والظلم؛ لذلك لا اجتماع للأمة إلا بوحدتها على كتاب الله تعالى، وسنة نبيه الكريم، والتزام صراطه المستقيم علمًا وعملًا، حقًا وعدلًا، وترك الأهواء.
٢. اتباع السُبُل:
ومن معوقات الاجتماع: اتباع السبل المتفرقة، قال تعالى: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ) [الأنعام:١٥٣].
فقوله: ( ﭺ ﭻ ﭼ) الإشارة إلى معهود لدى المخاطبين، أو إلى ما جاء في السورة، وهو الإسلام والقرآن، وما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام.
ونلحظ إضافة الصراط إلى الله في كثير من الآيات، كما في هذه الآية (ﭺ ﭻ ﭼ) [الأنعام:١٥٣].
وقوله: (ﭰ ﭱ ﭲ) [الأنعام:١٢٦].
وقوله: (ﮀ ﮁ ﮂ) [الأعراف: ١٦].
وقوله: (ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) [إبراهيم:١].
وقوله: (ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ) [الحج:٢٤].
وقوله: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ) [سبأ:٦].
وقوله: (ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ) [الشورى:٥٣]. وكأنه يقول: ولأن هذا صراطي فهو علة للاتباع132.
و(ﭽ) حال من (ﭼ) مؤكدة لمعنى إضافته إلى الله133.
(ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) والسُبُلَ الأديان المختلفة، أو الطرق التابعة للهوى، فإن مقتضى الحجة واحد، ومقتضى الهوى متعدد؛ لاختلاف الطبائع والعادات134.
فذكر تعالى أن له سبيلًا واحدة سماها: صراطًا مستقيمًا؛ لأنها أقرب طريق إلى الحق والخير والسلام، وأن هناك سبلًا متعددة، يتفرق متبعوها عن ذلك الصراط، وهي طرق الشيطان، فطريق الحق هو الوحدة والإسلام، وطرق الشيطان هي مثارات التفرق والخصام، وهي معروفة في كل الأمم، ولكن الشيطان يزين طرقه، ويسول للناس المنافع والمصالح في التفرق.
قال القاسمي: «فجمع سبل الباطل، ووحد سبيل الحق، ولا يناقض هذا قوله: (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ) [المائدة:١٦].
فإن تلك هي طرق مرضاته التي يجمعها سبيله الواحد وصراطه المستقيم، فإن طرق مرضاته كلها ترجع إلى صراط واحد، وسبيل واحد، وهي سبيله التي لا سبيل إليه إلا منها»135.
وقد بين العلة في ذلك ابن القيم في أحسن بيان، حيث قال: وذكر الصراط المستقيم منفردًا، معرفًا تعريفين:
وذلك يفيد تعينه واختصاصه، وأنه صراط واحد، وأما طرق أهل الغضب والضلال فإنه سبحانه يجمعها ويفردها، كقوله: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ) فوحد لفظ الصراط وسبيله، وجمع السبل المخالفة له...، وهذا لأن الطريق الموصل إلى الله واحد، وهو ما بعث به رسله، وأنزل به كتبه، لا يصل إليه أحد إلا من هذه الطريق، ولو أتى الناس من كل طريق، واستفتحوا من كل باب، فالطرق عليهم مسدودة، والأبواب عليهم مغلقة، إلا من هذا الطريق الواحد، فإنه متصل بالله، موصل إلى الله136.
وكذلك وحد تعالى لفظ النور وجمع الظلمات؛ لأن الحق واحد والكفر أجناس كثيرة، وكلها باطلة، كما قال: (ﭗ ﭘ ﭙ) [الأنعام:١].
وقال تعالى: (ﮜ ﮝ ﮞ) [النحل:٤٨].
إلى غير ذلك من الآيات التي في لفظها إشعار بتفرد الحق، وانتشار الباطل وتفرده وتشعبه137.
والحاصل: أنه تعالى وحَد لفظ (صراطه) و(سبيله) وجمع (السبل) المخالفة؛ ووجه المناسبة في ذلك أنه لما كان الهدي شيئًا واحدًا غير متشعِب السبل ناسبه التوحيد؛ ولما كان الضلال له طرقٌ متشعبةٌ ناسب الجمع.
والمقصود: أن من الأسباب المانعة من الاجتماع اتباع السبل، وهي الطرق المختلفة في الدين، وأن السبيل الوحيد للنجاة من ذلك هو اتباع صراط الله الذي وصفه بالاستقامة، فلا يضل سالكه، ولا يهتدي تاركه، فاتبعوه وحده، ولا تتبعوا السبل الأخرى التي تخالفه، وهي كثيرة، فتتفرق بكم عن سبيله، بحيث يذهب كل منكم في سبيل ضلالة منها ينتهي بها إلى الهلكة؛ إذ ليس بعد الحق إلا الضلال، وليس أمام تارك النور إلا الظلمات.
٣. التحزَب.
ومن معوقات الاجتماع: التحزب والتعصب.
قال تعالى: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ) [المؤمنون:٥٣]وقال: (ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ) [الروم:٣٢].
يعني: كان الناس أمة واحدة على دين واحد، وهو دين الإسلام، كما قال: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [المؤمنون:٥٢].
والمعنى: وإنَ دينكم -يا معشر الأنبياء- دين واحد، وهو الإسلام، وأنا ربكم، فاتقوني بامتثال أوامري، واجتناب زواجري، فتفرَق الأتباع في الدين إلى أحزاب وشيع، جعلوا دينهم أديانًا، بعدما أُمروا بالاجتماع، كل حزب معجب برأيه، زاعم أنه على الحق، وغيره على الباطل، وفي هذا تحذير من التحزب والتفرق في الدين.
ولهذا قال هنا: (ﯘ ﯙ ﯚ) والتقطع يقتضي التحزب، وقديمًا كان التحزب مسببًا لسقوط الأديان والأمم، وهو من دعوة الشيطان التي يلبس فيها الباطل في صورة الحق، والحزب: الجماعة المجتمعون على أمر من اعتقاد أو عمل، أو المتفقون عليه138.
وجيء بفاء التعقيب في قوله: (ﯘ) لإفادة أن الأمم لم يتريثوا عقب تبليغ الرسل إياهم بقولهم: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [المؤمنون:٥٢].
بل تقطعوا أمرهم بينهم سريعًا، فاتخذوا آلهة كثيرة، فصار دينهم متقطعًا قطعًا، لكل فريق صنم، وعبادة خاصة به.
والكلام مسوق مساق الذم؛ ولذلك قد تفيد الفاء مع التعقيب معنى التفريع، أي: فتفرع على ما أمرناهم به من التوحيد أنهم أتوا بعكس المطلوب منهم، فيفيد الكلام زيادة على الذم تعجبًا من حالهم، ومما يزيد معنى الذم تذييله بقوله: (ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ) أي: وهم ليسوا بحال من يفرح139.
والتفرق والتباين يُعد من العذاب الذي تصاب به الأمم، وهو الداء العضال الذي أصاب أهل الإسلام-، كما قال تعالى: (ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [الأنعام:٦٥] هذا عذاب للأمم يحل وحدتها، وينثر جمعها، وهو أشد أنواع العذاب عندما يتفاقم، ويكون الهوى المتبع، والشح المطاع، وإعجاب كل امرئٍ وكل جماعة بنفسها وطريقتها (ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) [المؤمنون:٥٣] فعندئذٍ تنفك العرى، وتنحل الأواصر، ويقوم المنكر، ويذهب المعروف، ولا سماع لصوت الحق140.
والحاصل: أن التحزب يؤدي إلى التعصب، وهو من أسباب عدم اجتماع الأمة، وتفرقها إلى جماعات وأحزاب، وكل طائفة وفرقة من هؤلاء تحدث بدعًا وأفكارًا، تفرح بها، وتظن أنها على الحق، وأن الصواب معها دون غيرها.
حتى يصير أمرهم بينهم كما قال الله: (ﯛ) والزبر: جمع زبرة، والزبرة قطعة من الحديد، وقد شبهت الجماعات المختلفة في نزاعها بزبر الحديد، من حيث إن كل واحدة شديدة في التمسك بما عندها؛ كأنها صلب الحديد، لا تترك رأيها، كما لا تتفرق زبر الحديد.
أي: اختلفوا متقطعين متنابزين غير مجتمعين في أمرهم، بحيث لا متسع للالتقاء فيما بينهم، يتحزبون في تفكيرهم: (ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) أي: كل جماعة متحزبة متعصبة لما عندها، فرحة به، وتحسب أنه الحق الذي لا ريب فيه، وهو الضلال المبين، وإن التحزب لفكرة يدفع إلى التعصب لها، والتعصب يعمي ويصم، وتقديم الجار والمجرور (ﯟ ﯠ) لبيان أهميته عندهم141.
٤. البغي.
ومن معوقات الاجتماع: البغي، وقد اختلف أهل الكتاب بعد ما جاءتهم كتبهم تحثهم على الاجتماع على دين الله، بغيًا بينهم، وظلمًا وعدوانًا من أنفسهم.
قال تعالى: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) [البقرة:٢١٣].
وقال: (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) [آل عمران:١٩].
وقال تعالى: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ) [الشورى:١٤].
وقال تعالى: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) [الجاثية:١٧].
فقوله: (ﮉ ﮊ) بغيًا: مفعول لأجله، أي: لأجل البغي، أو بسبب أنهم بغى بعضهم على بعض حدثت الفرقة بينهم.
فهم ما تفرقوا إلا من بعد أن علموا أن الفرقة ضلالة؛ ولكنهم فعلوا ذلك للبغي، وطلب الرياسة، فحملتهم الحمية النفسانية، والأنفة الطبعية على أن ذهب كل طائفة إلى مذهب، ودعا الناس إليه، وقبح ما سواه؛ طلبًا للذكر والرياسة، فصار ذلك سببًا لوقوع الاختلاف، ثم أخبر تعالى أنهم استحقوا العذاب بسبب هذا الفعل142.
ورحم الله الإمام الرازي فقد قال عند تفسيره لهذه الآية (ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ): «والمقصود من هذه الجملة التعجب من أحوالهم؛ لأن حصول العلم يوجب ارتفاع الخلاف، وها هنا صار مجيء العلم سببًا لحصول الاختلاف؛ وذلك لأنهم لم يكن مقصودهم من العلم نفس العلم، وإنما المقصود منه طلب الرياسة والبغي»143.
ومعنى الآيات: أي: لم يكن اختلاف هؤلاء المختلفين من اليهود من بني إسرائيل في كتاب الله الذي أنزله عن جهل منهم به، بل كان اختلافهم فيه، وخلافُ حكمه من بعد ما ثبتت حجته عليهم بغيًا بينهم، وطلبَ الرياسة من بعضهم على بعض، واستذلالًا من بعضهم لبعض144.
وقال بعض العلماء: خص أهل الكتاب بالتفريق دون غيرهم وإن كانوا مجموعين مع الكافرين؛ لأنهم مظنون بهم العلم، فالمفترض أن يكونوا على علم، فإن تفرقوا كان غيرهم ممن لا كتاب له أدخل في هذا الوصف، وأولى بوصف الكفر، والإعراض عن دين الله تبارك وتعالى.
والحاصل: إن من أسباب التفرق وعدم الاجتماع البغي، والبغي: تجاوز الحق إلى الباطل في كل شيء، يقال: بغى فلان على فلان إذا اعتدى عليه؛ ولهذا قال ها هنا في هذه الآيات: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) بالتوحيد، فهم ما اختلفوا بسبب عدم الحجة أو البيان، وإنما (ﮉ ﮊ) حسدًا وظلمًا وعدوانًا.
فقد بغى بعضهم على بعض، وظلم بعضهم بعضًا، وعلا بعضهم على بعض، وغار بعضهم من بعض، وحسد بعضهم بعضًا على ما أعطاهم الله سبحانه.
قال تعالى: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) [النساء:٥٤].
فطلبوا الدنيا بالدين، فضاع منهم دينهم، وضاعت منهم دنياهم وأخراهم.
ولولا بغيهم ونصرهم مذهبًا على مذهب، وتضليلهم من خالفهم؛ بتفسيرهم نصوص الدين بالرأي والهوى، وتأويل بعضه أو تحريفه؛ لما حدث هذا الاختلاف145.
والعبرة من هذا القصص: أن نبتعد عن الخلاف في الدين، والتفرق فيه إلى شيع ومذاهب، كما فعل من قبلنا، ولكن وا أسفاه! وقعنا فيما وقع فيه السالفون، وتفرقنا طرائق قددًا، وأصابنا من الخذلان والذل بسبب هذا التفرق ما لا نزال نئن منه، ونرجو أن يشملنا الله بعفوه ورحمته، ويمدنا بروح من عنده، فيسعى أهل الإيمان الصادق في نبذ الاختلاف والشقاق، والعودة إلى الوحدة والاتفاق، حتى يعود المسلمون إلى سيرتهم الأولى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، ومن تبعهم بإحسان.
٥. كيد الأعداء.
ومن الأسباب الصارفة عن الاجتماع: كيد الأعداء وتربصهم، قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [التوبة:١٠٧].
فقوله: (ﭖ ﭗ ﭘ) أي: يفرقون به جماعتهم؛ لأنهم كانوا يصلون جميعًا في مسجد قباء، وجاءوا يخدعون النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، ربما جاء السيلُ، فيقطع بيننا وبين الوادي، ويحول بيننا وبين القوم، ونصلي في مسجدنا، فإذا ذهب السيل صلينا معكم! وبنوه على النفاق146.
والمنصوبات المتعاطفة هنا (ﭔ ﭕ ﭖ) هي مفعول لأجله، تكشف عن السبب الذي لأجله بني هذا المسجد، وهو للمضارة، لا للنفع، وللكفر لا للإيمان، ولإيواء من حارب الله ورسوله، لا لدعوة من آمن بالله ورسوله.
وليكون مأوى يأوي إليه المنافقون، ويدارون نفاقهم بالاجتماع فيه، والاستظلال بظله، ثم ليفرقوا بين المؤمنين، حيث لا تجتمع جماعتهم في مكان واحد، بل يتوزعهم المسجدان المتجاوران، فيقل بذلك جمعهم، وتصغر في الأعين جماعتهم، الأمر الذي يخالف ما يدعو إليه الإسلام من جمع المسلمين في صلاة الجماعة والجمعة والعيدين، لتتوحد مشاعرهم، وتمتلئ العيون مهابة، وإجلالًا لهم147.
والحاصل: أن هؤلاء المنافقين عملوا على التفريق بين المؤمنين المقيمين هنالك، فإنهم كانوا يصلون جميعًا في مسجد قباء، وفي ذلك حصول التعارف والتآلف والتعاون، وجمع الكلمة، وهي أهم مقاصد الإسلام الاجتماعية، ومن ثم كان تكثير المساجد، وتفريق الجماعة منافيًا لأغراض الدين ومراميه، ومن الواجب أن يصلي المسلمون الجمعة في مسجد واحد ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، فإن تفرقوا عمدًا كانوا آثمين.
ومن هذا يعلم أن بناء المساجد لا يكون قربة يتقبلها الله إلا إذا دعت الحاجة.
فهؤلاء الأعداء سعوا جاهدين بمكر وكيد ليشقوا صف المؤمنين، ويفرقوا جماعتهم بهذه الخطة، وهذا الكيد العظيم، وهو بناء هذا المسجد، الذي من أعظم البواعث من بنائه هو تفريق المؤمنين.
ولذا قال تعالى في الباعث: (ﭖ ﭗ ﭘ) وإن ذلك التفريق هو إبعاد فريق من المؤمنين عن الجماعة التي يؤمها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، يغرونهم بالتأثير فيهم، رجاء أن يقتطعوا من المؤمنين من يضمونهم إليهم؛ إذ بعدوا عن النور الكاشف لخداعهم، وإفسادهم، فيخلو لهم الجو ليخادعوهم، وينجح خدعهم.
والمقصود: أن من معوقات الاجتماع بين المؤمنين سعي الأعداء في التفريق بينهم، كما أراد هؤلاء المنافقين من بناء المسجد، وهو أن يفرقوا بين المؤمنين وبين رسول الله، حتى إذا جاءهم العدو وجدهم متفرقين، فيكون أيسر وأهون عليهم في الكسر عليهم، والظفر بهم من أن كانوا مجموعين.
وهكذا أعداء اليوم يعدون العدة، ويرسمون الخطط، ويعقدون اللقاءات والمؤتمرات والدراسات للتفريق بين المسلمين، وضرب بعضهم ببعض، ويمكرون ليل نهار في تقطيع أوصال هذه الأمة.
سمي يوم القيامة يوم الجمع لاجتماع الخلائق فيه في مكان واحد للحساب؛ فإن الله تعالى يجمع فيه الأولين والآخرين إلى عرصات القيامة.
قال تعالى: (ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [التغابن:٩].
يعني: اذكروا يوم الجمع الذي يجمع الله به الأولين والآخرين، ويقفهم موقفًا هائلًا عظيمًا، وينبئهم بما عملوا، فحينئذٍ يظهر الفرق والتفاوت بين الخلائق، ويرفع أقوام إلى أعلى عليين، في الغرف العاليات، والمنازل المرتفعات، المشتملة على جميع اللذات والشهوات، ويخفض أقوام إلى أسفل سافلين، محل الهم والغم والحزن والعذاب الشديد؛ وذلك نتيجة ما قدموه لأنفسهم، وأسلفوه أيام حياتهم؛ ولهذا قال: (ﯵ ﯶ ﯷ) أي: يظهر فيه التغابن والتفاوت بين الخلائق، ويغبن المؤمنون الفاسقين، ويعرف المجرمون أنهم على غير شيء، وأنهم هم الخاسرون148.
والآيات الموضحة لهذا المعنى كثيرة، كقوله تعالى: (ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ) [الواقعة:٤٩-٥٠].
قوله تعالى: (ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ) [المرسلات:٣٨].
وقوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ) [النساء:٨٧].
وقوله تعالى: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [هود:١٠٣].
وقوله تعالى: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ) [آل عمران:٢٥].
وقوله تعالى: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) [الكهف:٤٧].
وقوله: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) [الشورى:٧].
وقال: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ) [آل عمران:٩].
وقد بَيَنَ تعالى شمول ذلك الجمع لجميع الدواب والطير في قوله تعالى: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ) [الأنعام:٣٨].
والآيات الدالة على الجمع المذكور كثيرة149.
فيوم القيامة يوم الجمع، والعجيب أنه أيضًا يوم الافتراق.
قال تعالى: (ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ) [الروم:١٤].
فهو يوم الجمع في أول ما يبعثون ويحشرون، ثم يفرق بينهم تفريقًا لا اجتماع بينهم أبدًا؛ قال تعالى: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ) [الشورى:٧].
فهو يوم الجمع في حال ووقت، ويوم الافتراق في حال ووقت آخر، وبعض أهل التأويل يقولون: قوله: (ﯰ ﯱ) العابد والمعبود، والتابع والمتبوع، بعدما كانوا مجتمعين في الدنيا، وهو ما ذكر في آية أخرى: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) [العنكبوت:٢٥].
فهذا تفرقهم على قول بعضهم، والوجه فيه ما ذُكر بدءًا150.
والمقصود: أن أعظم الاجتماعات على الإطلاق اجتماع هذا اليوم، وهو المعاد الأعظم؛ ولهذا سمي يوم الجمع الذي لا أكبر منه جمعًا.
وسمي بذلك؛ لأنه يجمع فيه الأولون والآخرون في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر151.
وقيل: يجمع بين الأرواح والأجساد.
وقيل: يجمع بين كل عامل وعمله152.
وقيل: يجتمع فيه أهل السماوات وأهل الأرض، أو يجمع بين الظالم والمظلوم153. وقيل: لأنه يجمع فيه بين كل نبي وأمته. وقيل: لأنه يجمع فيه بين ثواب أهل الطاعات، وعقاب أهل المعاصي154. وكلها أقوال صحيحة، تحتملها الآية.
١. يوم الجمع: جمع المخلوقات في أرض المحشر.
قال تعالى: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [هود:١٠٣].
ومعنى الجمع لهذا اليوم: الجمع لما فيه من المحاسبة والمجازاة؛ مثل قوله: (ﮩ ﮪ ﮫ) [هود:١٠٣].
أي: مشهود فيه أهل السماوات والأرضين، فاتسع فيه بإجراء الظرف مجرى المفعول به، كقوله: في محفل من نواصي الناس مشهود، أي: كثير شاهدوه، ولو جعل اليوم مشهودًا في نفسه لبطل الغرض من تعظيم اليوم وتمييزه، فإن سائر الأيام كذلك155.
ومجيء الخبر جملة اسمية في الإخبار عن اليوم يدل على معنى الثبات، أي: ثابت، جمع الله الناس لأجل ذلك اليوم، فيدل على تمكن تعلق الجمع بالناس، وتمكن كون ذلك الجمع لأجل اليوم حتى لقب ذلك اليوم يوم الجمع في الآية السابقة...، وعطف جملة: (ﮩ ﮪ ﮫ) على جملة ذلك يوم مجموع له الناس لزيادة التهويل لليوم بأنه يشهد، وطوي ذكر الفاعل إذ المراد يشهده الشاهدون؛ إذ ليس القصد إلى شاهدين معينين، والإخبار عنه بهذا يؤذن بأنهم يشهدونه شهودًا خاصًا، وهو شهود الشيء المهول؛ إذ من المعلوم أن لا يقصد الإخبار عنه بمجرد كونه مرئيًا؛ لكن المراد: كونه مرئيًا رؤية خاصة، ويجوز أن يكون المشهود بمعنى المحقق، أي: مشهود بوقوعه، كما يقال: حق مشهود، أي: عليه شهود، لا يستطاع إنكاره، واضح للعيان، ويجوز أن يكون المشهود بمعنى كثير الشاهدين إياه لشهرته، كقولهم: لفلان مجلس مشهود156.
فما أعظمه إذن من جمع! وما أكبره من حشر! حتى الملائكة التي تملأ السماء، والتي ليس فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك، والسماء التي بهذا الاتساع الهائل الذي لا يعرف له البشر حدودًا، والذي تبدو فيه شمس كشمسنا ذرة كالهباءة الطائرة في الفضاء! فهل هذا يقرب شيئًا للتصور البشري عن عدد الملائكة؟ إنهم من بين الجمع في يوم الجمع! وفي مشهد من هذا الجمع يكون التغابن!
٢. الجمع بين المتخاصمين.
وأخبر الله تعالى أنه يجمع بين عباده المتخاصمين يوم القيامة، ويفصل بينهم بقضائه العدل، الذي لا يجور فيه، ولا يظلم مثقال ذرة.
قال تعالى: (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [سبأ:٢٦].
أي: قل لهم: إن ربنا يوم القيامة يجمع بيننا حين الحشر والحساب، ثم يقضي بيننا بالعدل بعد ظهور حال كل منا ومنكم، وهو الحاكم العادل العالم بحقائق الأمور، وهنالك يُجزى كل عامل بما عمل، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، وستعلمون يومئذٍ لمن العزة والنصرة والسعادة الأبدية157.
فهذا الجمع يوم القيامة في صعيد واحد من أجل إقامة العدل الإلهي، ووضع الموازين القسط، كما قال: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ) [الأنبياء:٤٧].
ولهذا قال سبحانه ها هنا: (ﮒ ﮓ ﮔ) أي: الحاكم العادل العليم بالقضاء بين خلقه؛ لأنه لا تخفى عليه خافية، ولا يحتاج إلى شهود تعرفه المحق من المبطل.
ففي أول الأمر يجمع الله بين أهل الحق وأهل الباطل؛ ليلتقي الحق بالباطل وجهًا لوجه؛ وليدعو أهل الحق إلى حقهم، ويعالج الدعاة دعوتهم، وفي أول الأمر تختلط الأمور وتتشابك، ويصطرع الحق والباطل، وقد تقوم الشبهات أمام البراهين، وقد يغشى الباطل على الحق؛ ولكن ذلك كله إلى حين، ثم يفصل الله بين الفريقين بالحق، ويحكم بينهم حكمه الفاصل المميز الحاسم الأخير (ﮒ ﮓ ﮔ) الذي يفصل ويحكم عن علم وعن معرفة بين المحقين والمبطلين.
وهذا هو الاطمئنان إلى حكم الله وفصله، فالله لا بد حاكم وفاصل ومبين عن وجه الحق، وهو لا يترك الأمور مختلطة إلا إلى حين، ولا يجمع بين المحقين والمبطلين إلا ريثما يقوم الحق بدعوته، ويبذل طاقته، ويجرب تجربته، ثم يمضي الله أمره، ويفصل بفصله.
والله سبحانه هو الذي يعلم ويقدر متى يقول كلمة الفصل، فليس لأحد أن يحدد موعدها، ولا أن يستعجلها، فالله هو الذي يجمع، وهو الذي يفتح (ﮒ ﮓ ﮔ)158.
فإذا عجز الخلق عن أن يتبينوا من المحق ومن المبطل، ومن هم أهل الهدى؟ ومن هم أصحاب الضلال في هذه الخصومة في الله القائمة بين الخلق؟ إذ عجزوا عن أن يحكموا في هذه القضية في الدنيا فإن القضية ستحال إلى الآخرة، وسيفصل فيها أحكم الحاكمين، يوم يجمع الله الناس جميعًا، فهو الحكم العدل، الذي يحكم عن علم محيط بكل شيء؛ ولهذا جيء بصيغة المبالغة (فتاح).
فجملة (ﮒ ﮓ ﮔ) تذييل بوصفه تعالى بكثرة الحكم وقوته، وإحاطة العلم؛ وبذلك كان تذييلًا لجملة (ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) المتضمنة حكمًا جزئيًا، فذيل بوصف كلي، وإنما أتبع (ﮓ) بـ(ﮔ) للدلالة على أن حكمه عدل محض؛ لأنه عليم لا تحف بحكمه أسباب الخطأ والجور الناشئة عن الجهل والعجز، واتباع الضعف النفساني الناشئ عن الجهل بالأحوال والعواقب159.
وقد كثرت الآيات في هذا المعنى، ومنها:
قوله تعالى: (ﰁ ﰂ ﰃ ﰄﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉﰊ ﰋ ﰌ ﰍ) [الشورى:١٥].
وقوله: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) [النساء:١٤١].
وقوله: (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) [الأعراف:٨٧].
وقوله: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [النحل:١٢٤].
وقوله: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [الزمر:٣].
وقوله: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ) [الحج:٦٩].
٣. الجمع في المصير بين المتشابهين في الأعمال.
يأمر الله عز وجل يوم القيامة بجمع الكفار والظالمين وأزواجهم، ومن كان على شاكلتهم وأمثالهم وأشباههم من رجال ونساء، وآلهتهم التي كانوا يعبدونها، كما تعالى: (ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆﰇ ﰈ ﰉ ﰊ) [الصافات:٢٢-٢٤].
والحشر: الجمع من كل جانب إلى موقف واحد160. فيأمر الله بجمع هؤلاء الأصناف الثلاثة في موقف الحساب، وهم:
والعلة ظاهرة في حشر الصنفين الأوليين (ﯷ ﯸ ﯹ) لكن لماذا تُحشر المعبودات من الملائكة، ومن آدمي رضي بذلك، ومن صنم ووثن، وغيرها؟ والجواب: زيادة لهم في الحسرة والتخجيل على شركهم ومعصيتهم مع عدم نفعهم وعجزهم، وتوبيخًا لهم، وإظهارًا لسوء حالهم، ومن أجل أن يتبرأ من لم يرض منهم بذلك.
فالصنف الأول ممن يجمع ويحشر: الظالمون: ( ﯶ ﯷ ﯸ) ظلم الكفر والشرك (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ) [لقمان:١٣].
ولذلك كان الشرك أعظم أنواع الظلم، فظلموا الحق في النفس، وظلموا ما كان يجب ألا يظلموا أنفسهم فيه، فأنكروا خالقهم وقدرته وإرادته، وأنكروا كونه جل جلاله لا يحتاج إلى معين، ولا وزير ولا مساعد، ولا شريك له ولا ند، لا في ذات ولا في صفات ولا في أفعال.
قال الرازي: «ذكر من صفات الذين ظلموا كونهم عابدين لغير الله، وهذا يدل على أن الظالم المطلق هو الكافر؛ وذلك يدل على أن كل وعيد ورد في حق الظالم فهو مصروف إلى الكفار، ومما يؤكد هذا قوله تعالى: (ﮟ ﮠ ﮡ) [البقرة:٢٥٤]»161.
والصنف الثاني: أزواجهم:
ومعناه: ونظراءهم وضرباءهم، تقول: عندي من هذا أزواج، أي: أمثال، وكذلك زوجان من الخفاف، أي: كل واحد نظير صاحبه؛ وكذلك الزوج المرأة، والزوج الرجل، وقد تناسبا بعقد النكاح، وكذلك قوله: (ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [ص:٥٨]162.
فالزوج: هو اسم لشكله، واسم لضده، اسم لهما جميعًا، يحتمل قوله: ( ﯹ) أي: أشكالهم وقرناؤهم من الجن والإنس والشياطين، يأمر الملائكة أن تجمع بين من كانوا يجتمعون في هذه الدنيا، ويستحبون الاجتماع معهم أن يجمعوا في عذاب الآخرة، على ما كانوا يستحبون الاجتماع في الملاهي والطرب في هذه الدنيا، ويجتمعون على ذلك؛ فعلى ذلك يجمع بين أولئك وبين قرنائهم في جهنم، ويقرن بعضهم إلى بعض في العذاب؛ كقوله: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [الزخرف:٣٦]163.
قال الرازي: «اختلفوا في المراد بأزواجهم، وفيه ثلاثة أقوال:
الأول: المراد بأزواجهم: أشباههم، أي: أحزابهم ونظراؤهم من الكفر، فاليهودي مع اليهودي، والنصراني مع النصراني، والذي يدل على جواز أن يكون المراد من الأزواج الأشباه، وجوه:
الأول: قوله تعالى: (ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ) [الواقعة:٧] أي: أشكالًا وأشباهًا.
الثاني: أنك تقول: عندي من هذا أزواج، أي: أمثال، وتقول: زوجان من الخف؛ لكون كل واحد منهما نظير الآخر، وكذلك الرجل والمرأة سميا زوجين؛ لكونهما متشابهين في أكثر أحكام النكاح، وكذلك العدد الزوج سمي بهذا الاسم؛ لكون كل واحد من سميه مثالًا للقسم الثاني في العدد الصحيح.
القول الثاني: في تفسير الأزواج أن المراد: قرناؤهم من الشياطين؛ لقوله تعالى: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ) [الأعراف:٢٠٢].
والقول الثالث: أن المراد: نساؤهم اللواتي على دينهم»164.
إلا أن جمهور أهل العلم منهم: عمر وابن عباس رضي الله عنهم على أن المراد به: أشباههم ونظراؤهم، فعابد الوثن مع عابد الوثن، والسارق مع السارق، والزاني مع الزاني، واليهودي مع اليهودي، والنصراني مع النصراني وهكذا، وإطلاق الأزواج على الأصناف مشهور في القرآن، وفي كلام العرب؛ كقوله تعالى: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [الزخرف:١٢].
وقوله تعالى: (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [يس:٣٦].
وقوله تعالى: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ) [طه:٥٣].
وقوله تعالى: (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [طه:١٣١] إلى غير ذلك من الآيات165.
والصنف الثالث مما يجمع: المعبودات.
قال تعالى: (ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [الصافات:٢٢-٢٣].
وفيه قولان:
الأول: المراد: ما كانوا يعبدون من دون الله من الأوثان والطواغيت، ونظيره قوله: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ) [البقرة:٢٤].
قيل: المراد بالناس عباد الأوثان، والمراد بالحجارة: الأصنام التي هي أحجار منحوتة، فإن قيل: إن تلك الأحجار جمادات، فما الفائدة في حشرها إلى جهنم؟
أجيب: بأنه ورد الخبر بأنها تعاد وتحيا لتحصل المبالغة في توبيخ الكفار الذين كانوا يعبدونها؛ ولقائل أن يقول: هب أن الله تعالى يحيي تلك الأصنام إلا أنه لم يصدر عنها ذنب، فكيف يجوز من الله تعالى تعذيبها؟ والأقرب أن يقال: إن الله تعالى لا يحيي تلك الأصنام، بل يتركها على الجمادية، ثم يلقيها في جهنم؛ لأن ذلك مما يزيد في تخجيل الكفار.
القول الثاني: أن المراد من قوله: (ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [الصافات:٢٢-٢٣].
الشياطين الذين دعوهم إلى عبادة ما عبدوا، فلما قبلوا منهم ذلك الدين صاروا كالعابدين لأولئك الشياطين.
وتأكد هذا بقوله تعالى: ( ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) [يس:٦٠].
والقول الأول أولى؛ لأن الشياطين عقلاء، وكلمة (ما) لا تليق بالعقلاء166.
والمقصود: أن الله تبارك وتعالى يجمع الذين كفروا بالله في الدنيا، وعصوه وأزواجهم وأشياعهم على ما كانوا عليه من الكفر بالله، وما كانوا يعبدون من دون الله من الآلهة.
يحشر المشركون وأشباههم في الشرك، ومتابعوهم في الكفر، ومشايعوهم في تكذيب الرسل، وقرناؤهم من الشياطين، يحشر كل كافر مع شيطانه، كذلك يحشر أصحاب المعاصي مع بعضهم، فيجمع أهل الزنا معًا، وأهل الربا معًا، وأصحاب الخمر معًا، وهكذا.
قال صاحب الظلال: احشروا الذين ظلموا ومن هم على شاكلتهم من المذنبين، فهم أزواج متشاكلون، وفي الأمر على ما فيه من لهجة جازمة تهكم واضح في قوله: (ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ) [الصافات:٢٣].
فما أعجبها من هداية خير منها الضلال! وإنها لهي الرد المكافئ لما كان منهم من ضلال عن الهدى القويم؛ وإذ لم يهتدوا في الدنيا إلى الصراط المستقيم فليهتدوا اليوم إلى صراط الجحيم! وها هم أولاء قد هُدوا، هُدوا إلى صراط الجحيم، ووقفوا على استعداد للسؤال، وها هو ذا الخطاب يوجه إليهم بالتقريع في صورة سؤال بريء!
(ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ) [الصافات:٢٥]؟! ما لكم لا ينصر بعضكم بعضًا، وأنتم هنا جميعًا؟! وكلكم في حاجة إلى الناصر المعين؟! ومعكم آلهتكم التي كنتم تعبدون! ولا جواب بطبيعة الحال ولا كلام! إنما يرد التعليق والتعقيب167.
ويدخل في (أزواجهم) قرناءهم وأشكالهم، ومن عمل مثل أعمالهم، ومن أعانهم على ظلمهم بقليل أو كثير، وكذلك في هذه الطريقة من أعان صاحب معصية في معصيته، أو صاحب زلة على زلته كان مشاركًا له في عقوبته، واستحقاق طرده وإهانته.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الأزواج: الأمثال والأشباه والنظائر، أي: مأخوذ من المزاوجة والمشاكلة، تقول: وزاوج الرجل المرأة فأصبحت ندًا وشريكًا له في حياته، وكذلك هؤلاء في ظلمهم وفي كفرهم وفي شركهم، وانفرد الحسن البصري، فقال: أزواجهم نساؤهم، وزوجاتهم المشركات اللاتي متن على الشرك؛ ليزداد عذاب البعض بالبعض، وعلى كل فلا حاجة لهذا التفسير، سواء كانت زوجة أو غير زوجة، فإن كانت مشركة فهي من أمثاله، وهي من أشكاله، اجتمعت به أو لم تجتمع، فهم سيحشرون في مكان واحد، ويفصلون عن المسلمين.
ويدخل في (ﯺ ﯻ ﯼ) [الصافات:٢٢] إبليس وشيطان وحيوان، وجمادات؛ لتكون حجة الله البالغة عليهم، فهؤلاء الذين كنتم تعبدون سيتبرؤون منكم ومن عبادتكم، فإن كانوا يعبدون الملائكة أو رسلًا أو صالحين، فإنهم أيضًا يقفون معهم.
وكما قال الله لعيسى: (ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) [المائدة:١١٦].
فيحشرون معهم للبراءة منهم، فالصالحون لا يحشرون معهم إلى النار، ولكن يقفون معهم، ليتبرؤوا منهم؛ وليدركوا إذ ذاك -ولات حين إيمان- أنهم عاشوا على ضلال، عاشوا على باطل، ولكن اعترافهم فاته الزمن، وفاته الوقت، وكما يقولون: الوقت سيف إن لم تقطعه قطعك، لقد قطعوا بالوفاة وبالموت، وبعد أن يحشروا ويكبلوا في السلاسل يقول الله لملائكته: (ﰁ) أي: دلوهم (ﰂ ﰃ ﰄ) [الصافات:٢٣] إلى الطريق البين الواضح الذي يوصل إلى جهنم، وقد تكون جهنم بعيدة عليهم، فتأتي الملائكة تحشرهم وتسحبهم زحفًا على وجوههم إلى أن يدخلوا النار، وبئس المصير.
فإن قيل: قوله تعالى: (ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ) [الصافات:٢٢].
يقتضي حضورهم معهم في المحشر، وآية الأنعام فيها سؤالهم عن شركائهم (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ) [الأنعام:٢٢]؟
والجواب: هم حاضرون بالفعل، محشورون معهم مصداقًا للآية التي في سورة الصافات.
لكن المقصود هنا بتقدير مضاف، فقوله: (ﮣ ﮤ) يعني: أين نفع شركائكم؟ وأين شفاعة شركائكم؟!
فهم بمنزلة الغُيَب؛ لأن الحاضر الذي لا نفع ولا فائدة من حضوره هو مثل الغائب، ومثل الميت، ومثل المعدوم؛ لأنهم عدموا ما رجوا منهم من الشفاعة.
فالمقصود هو التوبيخ والتقريع، وأن يقرر في نفوسهم أن ما كانوا يرجونه ميؤوس منه، وثمرة هذا أنهم يعلمون في الدنيا أنه تقوم عليهم الحجة، فيعملون عقولهم ليستحضروا ما هم عليه من الضلال، وأن هؤلاء الذين يرجون شفاعتهم سوف ييئسونهم ويخذلونهم؛ وذلك تنبيه لهم في دار الدنيا على فساد هذه الطريقة168.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: (ﰁ) من الهدى العام، أي: دلوهم وأرشدوهم إلى صراط الجحيم، أي :طريق النار ليسلكوها إليها، والضمير في قوله تعالى: ( ﰁ) راجع إلى الثلاثة: الذين ظلموا، وأزواجهم، وما كانوا يعبدون من دون الله.
وقد دلت هذه الآية أن الهدى يستعمل في الإرشاد والدلالة على الشر، ونظير ذلك في القرآن قوله: (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ) [الحج:٤].
ولذلك كان للشر أئمة يؤتم بهم فيه؛ كقوله تعالى: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) [القصص:٤١]169.
موضوعات ذات صلة: |
الاختلاف، الأخوة، الأمة، العلاقات الاجتماعية، الوحدة |
1 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس، ١/٤٧٩ لسان العرب، ابن منظور، ٨/٥٣، تاج العروس، الزبيدي، ٢٠/٤٥١، المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، ١/١٣٦.
2 التعريفات، ص١٠.
3 معجم مقاليد العلوم، ص١٣٧.
4 التوقيف على مهمات التعاريف، ص٣٨.
5 الكليات، ص٤٦.
6 ١ انظر: القاموس المحيط، الفيروزآبادي، ص٩١٦.
7 مقاييس اللغة، ابن فارس، ٥/٢٦٠، مختار الصحاح، الرازي، ص ٢٨٤، تاج العروس ، الزبيدي، ٣٩/٤٧٣.
8 مفاتيح الغيب، الرازي ٣/٤٩٢.
9 المفردات، ص٧٤٥.
10 الفروق اللغوية، العسكري، ص٤٦٧.
11 انظر: لسان العرب، ابن منظور، ٣/٤١٨، تاج العروس، الزبيدي، ٩/٢٠٥.
12 المفردات، الراغب، ص ٥٦٩ ، لسان العرب، ابن منظور، ١١/١٣٥، تاج العروس، الزبيدي، ٣٣/١٠١.
13 القاموس المحيط، الفيروزآبادي، ص ٨٠٨.
14 التعريفات، الجرجاني، ص ١٠١.
15 المفردات، ص ٢٩٤.
16 انظر: المخصص، ابن سيده، ٣/ ٣٦٠.
17 انظر: القاموس المحيط، الفيروزآبادي، ص ٩١٨.
18 انظر: تفسير المراغي ١/١٠٣.
19 تفسير القرآن العظيم، ٢/٤٠٠.
20 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٨٦٣.
21 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٨/١١٩.
22 انظر: تفسير القرآن، السمعاني ٥/٤٣٤.
23 انظر: معالم التنزيل، البغوي ٥/٨٤.
24 انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب، ٦/٣٥٦٩.
25 انظر: المصدر السابق، ١/٢٠٠.
26 الكشف والبيان، الثعلبي ٢/٦٢.
27 انظر: في ظلال القرآن ١/١٦٨ بتصرف.
28 غرائب القرآن، النيسابوري ٢/٤٤٦.
29 محاسن التأويل ٣/٢٢١.
30 روح المعاني ٣/٧٨.
31 مدارك التنزيل، النسفي ٣/٤٧٥.
32 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٨/١٧٦.
33 انظر: مدارك التنزيل، النسفي ٣/٤٧٥.
34 أضواء البيان، ٨/١٠٦.
35 انظر: أضواء البيان، الشنقيطي ٤/٢٨.
36 انظر: الكشاف، الزمخشري ٣/٣١١.
37 المصدر السابق.
38 انظر: فتح القدير، الشوكاني ٤/١١٥.
39 انظر: نظم الدرر، البقاعي١٤/٣١.
40 انظر: التفسير القرآني للقرآن، الخطيب ٥/٤٥٣.
41 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٥٩١.
42 انظر: مفاتح الغيب، الرازي ٢٧/٥٨٨.
43 انظر: نظرات في كتاب الله ص ٤٥٠ بتصرف.
44 انظر: نظم الدرر، البقاعي ١٧/٢٦٦.
45 تفسير القرآن العظيم، ٦/٣١٧.
46 التحرير والتنوير ٢١/ ٩٦.
47 الرسالة، ١/ ٤٧٦.
48 أخرجه الحاكم في المستدرك ٢/٥٩٦.
انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ١/ ٥٦٩.
49 جامع البيان، الطبري ٤/٢٧٨.
50 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا شخص أغير من الله، ٩/١٢٣، رقم ٧٤١٦.
51 تفسير السمرقندي ٣/٣٢٧.
52 قوله: «استشن» في الصحاح: تشنن الجلد يبس، واستشن الرجل: هزل.
53 انظر: الكشاف، الزمخشري ٤/٣٦٦.
54 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٢٨/ ١٠٧.
55 معاني القرآن وإعرابه ٥/٣٦.
56 انظر: التفسير القرآني للقرآن، الخطيب ٢/٤٢٩.
57 محاسن التأويل، ٨/٥٢٩.
58 انظر: تفسير المنار، محمد رشيد رضا ١٠/١٧٢ بتصرف.
59 انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب ٦/٣٣٤٣.
60 انظر: في ظلال القرآن ٣/١٦٧٥ بتصرف.
61 انظر: في ظلال القرآن ٤/ ١٨٨٦.
62 انظر: التحرير والتنوير ٢٢/١٨٣.
63 انظر: التحرير والتنوير ٨/٩٠.
64 انظر: في ظلال القرآن ٣/١٢٨١.
65 تفسير المراغي ٧/ ١١٤.
66 إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٣/ ١٢٩.
67 جامع البيان، ١٠/٣٩٩.
68 التفسير القرآني للقرآن ٥/ ٦٨٦.
69 في ظلال القرآن ٣/ ١٦٧٣.
70 أحكام القرآن للجصاص ٢/ ١٣.
71 معالم التنزيل، ٤/ ٧١.
72 جامع البيان، الإيجي ٢/ ٨٠.
73 السراج المنير، الشربيني ١/٦٣١.
74 انظر: التفسير الوسيط، الواحدي ٤/٧٣ بتصرف.
75 البيتان في ديوانها ص ٧٢.
76 غرائب التفسير، النيسابوري ٢/ ١٠٦٤.
77 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٧/٦٣٣.
78 تفسير ابن رجب الحنبلي ١/٩٩.
79 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٢٨٨.
80 التفسير القرآني للقرآن، الخطيب ١٣/ ١٣٣ بتصرف..
81 روح البيان، إسماعيل حقي ٦/ ١١٦.
82 في ظلال القرآن، سيد قطب ٤/ ٢٤٨٨.
83 أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب الأرواح جنود مجندة ٤/١٣٣، رقم ٣٣٣٦، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب الأرواح جنود مجندة ٤/٢٠٣١، رقم ٢٦٣٨.
84 التفسير الوسيط، طنطاوي ١٠/ ٨٠.
85 انظر: أوضح التفاسير ١/ ٤٢٦ بتصرف.
86 تفسير المراغي ٩/ ٢٠٦.
87 السراج المنير، الشربيني ١/ ٥٦٩.
88 في ظلال القرآن ٣/ ١٥٠٧.
89 الفوائد، ص ٥٢.
90 أحكام القرآن، ابن العربي ٢/٢٣٧.
91 تأويلات أهل السنة، الماتريدي ٨/ ٧١٠.
92 حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح ص ٥٢.
93 انظر: جامع البيان، الطبري ٧/٧٣.
94 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٤/١٥٩.
95 تفسير الراغب الأصفهاني ٢/٧٦٨.
96 الكشاف، الزمخشري ١/٣٩٥.
97 الدر المنثور، ٢/٢٨٧.
98 مجموع الفتاوى ٢٢/٣٥٩.
99 انظر: العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير ٢/٥٣٤ بتصرف.
100 التفسير الوسيط للواحدي ٢/ ٣٤٢.
101 نظم الدرر، البقاعي ٧/٣٣٥.
102 تفسير القرآن العظيم، ٣/٣٧٧.
103 تيسير الكريم الرحمن، ص٢٨٢.
104 مفاتيح الغيب، الرازي ٨/٣١٦.
105 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٤/٤٣.
106 انظر: أضواء البيان، الشنقيطي ٧/٦١.
107 تيسير الكريم الرحمن، ص٧٥٤.
108 أخرج هذه الرواية الطبري في تفسيره ١١/٣٧٦، والبيهقي في شعب الإيمان ١٣/٩٦، رقم ١٠٠٠٩، والواحدي في أسباب النزول ص ٢٩٧.
109 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٥/ ١٥٢.
110 انظر: لمسات بيانية، فاضل السامرائي ص ٥٧.
111 المصدر السابق ص ٢٥.
112 تفسير القرآن العظيم، ٧/١٩٥.
113 التفسير الواضح، حجازي ١/ ٢٦٢.
114 السُرْفة: بضم السين، وسكون الراء: دويبة تتخذ بيتًا من دقاق العيدان، فتدخله وتموت، ومنه المثل: أصنع من سُرْفة.
انظر: القاموس المحيط ص ٨١٩.
115 المفردات، ص ٨٦.
116 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ١٤٢.
117 انظر: في ظلال القرآن ١/٤٤٤ بتصرف.
118 جامع البيان، الطبري ١٦/٢٨٣.
119 جامع البيان، الطبري ١٩/٤٧٧.
120 تفسير القرآن العظيم، ٣/٤٤١.
121 الكشاف، الزمخشري ٣/٣٧٢.
122 في ظلال القرآن ٥/٢٦٤٥.
123 تفسير مقاتل بن سليمان ١/٤١٥.
124 جامع البيان، الطبري ٩/٣٢١.
125 محاسن التأويل، القاسمي ٤/٣٩٣.
126 التفسير القرآني للقرآن ٣/٩٣٨.
127 مفاتيح الغيب، الرازي ١١/٢٤٧.
128 التفسير القرآني للقرآن ٣/ ٩٣٧.
129 مفاتيح الغيب، الرازي ١٢/٤٢٤.
130 مفاتيح الغيب، الرازي ١٤/٢٥١.
131 انظر: ذم الكلام وأهله، الهروي ٥/١٧.
132 مدارك التنزيل، النسفي ١/٥٤٨.
133 التحرير والتنوير ٨/ ٦٢.
134 أنوار التنزيل، البيضاوي ٢/ ١٨٩.
135 محاسن التأويل، ١/ ٢٦٢.
136 التفسير القيم ص ١٨.
137 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ١/٦٨٥ بتصرف.
138 انظر: التحرير والتنوير ١٨/٧٣ بتصرف.
139 التحرير والتنوير ١٨/ ٧٣.
140 زهرة التفاسير ٥/ ٢٥٣٧.
141 انظر: زهرة التفاسير ١٠/ ٥٠٨٤ بتصرف.
142 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٧/ ٥٨٨.
143 انظر: المصدر السابق ٧/٤٦٧ بتصرف.
144 انظر: جامع البيان، الطبري ٤/٢٨١ بتصرف.
145 تفسير المراغي ٣/١٢٠.
146 جامع البيان، الطبري ١٤/٤٧٤.
147 التفسير القرآني للقرآن ٦/ ٨٩٥.
148 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٨٦٧.
149 أضواء البيان ٧/٤٦.
150 انظر: تأويلات أهل السنة، الماتريدي ٨/٢٥٧ بتصرف.
151 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٨/١٣٧.
152 الكشاف، الزمخشري ٤/٢١٠.
153 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٧/٥٨٠.
154 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٨/١٣٦.
155 أنوار التنزيل، البيضاوي ٣/١٤٨.
156 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٢/١٦١.
157 تفسير المراغي ٢٢/ ٨١.
158 في ظلال القرآن ٥/٢٩٠٥.
159 التحرير والتنوير ٢٢/١٩٥.
160 مفاتيح الغيب، الرازي ١٧/٢٤٤.
161 مفاتيح الغيب، ٢٦/٣٢٨.
162 معاني القرآن وإعرابه، الزجاج ٤/٣٠١.
163 تأويلات أهل السنة، الماتريدي ٨/٥٥٥.
164 مفاتيح الغيب، ٢٦/٣٢٨.
165 أضواء البيان ٦/٣٠٩.
166 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٢٦/٣٢٨ بتصرف.
167 في ظلال القرآن ٥/ ٢٩٨٦.
168 تفسير القرآن الكريم - المقدم ٥٠/١٥.
169 أضواء البيان ٦/٣١٠.